تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 4
[ 1 ]
مجمع البيان 4
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف أمين الاسلام أبى علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء الرابع منشورا ت مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب: 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1 415 ه - 1995 م مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت - شارع المطار - قرب كلية الهندسة. ملك الاعلمي - ص. ب:. 712 الهاتف 833 447 - 833 4 5 3
[ 5 ]
6 - سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة بسم الله الرحمن الرحيم هي مكية، عن ابن عباس، غير ست آيات (وما قدروا الله حق قدره) إلى آخر ثلاث آيات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) إلى آخر ثلاث آيات، فإنهن نزلن بالمدينة. وفي رواية أخرى عنه: غير ثلاث آيات: (قل تعالوا أتل) إلى آخر الثلاث. وباقي السورة كلها نزلت بمكة. وروي عن أبي بن كعب، وعكرمة، وقتادة أنها كلها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا، معها سبعون ألف ملك، قد ملأوا ما بين الخافقين، لهم زجل (ا) بالتسبيح والتحميد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " سبحان الله العظيم " وخر ساجدا، ثم دعا الكتاب فكتبوها من ليلتهم، وأكثرها حجاج على المشركين، وعلى من كذب بالبعث والنشور. عدد آيها ؟: هي مائة وخمس وستون آية كوفي، ست بصري، شامي، سبع حجازي. خلافها أربع آيات (وجعل الظلمات والنور) حجازي. (لست عليكم بوكيل) كوفي (كن فيكون) إلى (صراط مستقيم) غير الكوفي. فضلها:: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أنزلت علي الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك، بعدد كل آية من الأنعام، يوما وليلة ". جابر بن عبد الله الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ ثلاث آيات، من أول سورة الأنعام إلى قوله: (ويعلم ما تكسبون) وكل الله به أربعين ألف ملك، يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، وينزل ملك من السماء السابعة، ومعه مرزبة (2) من حديد، (1) الزجل: الصوت. (2) المرزبة: عصاة كبيرة من حديد تتخذ لتكسير المدر. (*)
[ 6 ]
فإذا أراد الشيطان أن يوسوس، أو يرمي في قلبه شيئا، ضربه بها) إلى آخر الخبر. وروى العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إن سورة ألأنعام نزلت جملة واحدة، وشيعها سبعون ألف ملك، فعظموها وبجلوها، فإن اسم الله فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم ألناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها). ثم قال عليه السلام: (من كانت له إلى الله حاجة يريد قضاءها، فليصل أربع ركعات بفاتحة الكتاب والأنعام، وليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة: (يا كريم، يا كريم، يا كريم، يا عظيم، يا عظيم، يا عظيم، يا أعظم من كل عظيم، يا سميع الدعاء، يا من لا تغيره الليالي والأيام، صل على محمد وآل محمد، وارحم ضعفي، وفقري، وفاقتي، ومسكنتي. يا من رحم الشيخ يعقوب حين رد عليه يوسف قرة عينه، يا من رحم أيوب بعد طول بلائه، يا من رحم محمدا، ومن اليتم، آواه ونصره على جبابرة قريش وطواغيتها، وأمكنه منهم، يا مغيث، يا مغيث، يا مغيث) تقول ذلك مرارا. (فوالذي نفسي بيده، لو دعوت الله بها، ثم سألت الله جميع حوائجك لأعطاك) وروى علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن حالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: (نزلت الأنعام جملة واحدة، شيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير، فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة). وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: (من قرأ سورة الأنعام في كل ليلة، كان من الآمنين يوم القيامة، ولم ير النار بعينه ابدا). تفسيرها: لما ختم الله سورة المائدة بآية (على كل شئ قدير) افتتح سورة الأنعام، بما يدل على كمال قدرته من خلق السماوات والأرض، وغيره، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون 1 هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون 2 وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم
[ 7 ]
وجهركم ويعلم ما تكسبون 3 اللغة: العدل: خلاف الجور. وعدلت به غيره. أي: سويته به. وعدلت عنه: أي أعرضت. وعدلت الشئ فاعتدل أي: قومته فاستقام. والأجل: الوقت المضروب لانقضاء الأمد. فأجل الإنسان: وقت انقضاء عمره. وأجل الدين محله: وهو وقت انقضاء التأخير. وأصله التأخير يقال أجله تأجيلا، وعجله تعجيلا. والآجل: نقيض العاجل. والإمتراء: الشك، وأصله من مرأت الناقة: إذا مسحت ضرعها لاستخراج اللبن. ومنه ماراه يماريه مراء ومماراة: إذا استخرج ما عنده بالمناظرة فالإمتراء: استخراج الشبهة المشكلة من غير حل. المعنى: بدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد، لأن أصول النعم وفروعها منه تعالى، ولأن له الصفات العلى، فقال: (الحمد لله الذي خلق السموات والارض) يعني: اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة، وبدائع الحكمة. وقيل: إنه في لفظ الخبر، ومعناه الأمر، أي: إحمدوا الله، وإنما جاء على صيغة الخبر، وإن كان فيه معنى الأمر، لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه يجمع الأمرين، وقد ذكرنا من معنى الحمد لله وتفسيره في الفاتحة، ما فيه كفاية (وجعل الظلمات والنور) يعني: الليل والنهار، عن السدي، وجماعة من المفسرين. وقيل: الجنة والنار، عن قتادة. وإنما قدم ذكر الظلمات، لأنه خلق الظلمة قبل النور، وكذلك خلق السماوات قبل الأرض. ثم عجب سبحانه، ممن (جعل) له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته، فقال: (ثم الذين كفروا) أي: جحدوا الحق. (بربهم يعدلون) أي: يسوون به غيره، بأن جعلوا له أندادا، مأخوذ من قولهم: ما أعدل بفلان احدا أي: لا نظير له عندي. وقيل: معنى يعدلون: يشركون به غيره، عن الحسن، ومجاهد. ودخول (ثم) في قوله: (ثم الذين كفروا) دليل على معنى لطيف، وهو أنه سبحانه أنكر على الكفار العدل به، وعجب المؤمنين من ذلك. ومثله في المعنى قوله فيما بعد (ثم أنتم تمترون) والوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار، مع اعترافهم بأن أصول النعم منه، وأنه هو الخالق والرازق، عبدوا غيره، ونقضوا ما اعترفوا به، وأيضا فإنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر
[ 8 ]
من الحجارة والموات (هو الذي خلقكم من طين) يعني به آدم. والمعنى أنشأ أباكم، واخترعه من طين، وأنتم من ذريته، فلما كان آدم أصلنا، ونحن من نسله، جاز أن يقول لنا (خلقكم من طين). (ثم قضى أجلا) أي: كتب وقدر أجلا، والقضاء يكون بمعنى الحكم، وبمعنى الأمر، وبمعنى الخلق، وبمعنى الإتمام والإكمال (وأجل مسمى عنده) قيل فيه أقوال أحدها: إنه يعني بالأجلين: أجل الحياة إلى الموت، وأجل الموت إلى البعث وقيام الساعة، عن الحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة والضحاك، واختاره الزجاج. وروى أيضا عطاء، عن ابن عباس قال: قضى أجلا من مولده إلى مماته، وأجل مسمى عنده من الممات الى البعث، لا يعلم ميقاته أحد سواه، فإذا كان الرجل صالحا، واصلا لرحمه، زاد الله له في أجل الحياة، ونقص من أجل الممات الى البعث، وإذا كان غير صالح، ولا واصل، نقصه الله من أجل الحياة، وزاد في أجل المبعث. قال: وذلك قوله: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب). وثانيها: إنه الأجل الذي يحيا به أهل الدنيا إلى أن يموتوا، وأجل مسمى عنده: يعني الآخرة، لأنه أجل دائم ممدود، لا آخر له، وإنما قال (مسمى عنده) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، في السماء، وهو الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه، عن الجبائي، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد. وثالثها: إن (أجلا) يعني به: أجل من مضى من الخلق، و (أجل مسمى عنده) يعني به: آجال الباقين، عن أبي مسلم. ورابعها: إن قوله: (قضى أجلا) عنى به النوم، يقبض الروح فيه، ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة. (وأجل مسمى عنده): هو أجل موت الإنسان، وهو المروي عن ابن عباس. ويؤيده قوله: (ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى): والأصل في الأجل هو الوقت. فأجل الحياة هو الوقت الذي يكون فيه الحياة. وأجل الموت، أو القتل هو الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل، وما يعلم الله تعالى أن المكلف يعيش إليه لو لم يقتل لا يسمى أجلا حقيقة، ويجوز أن يسمى ذلك مجازا، وما جاء في الأخبار من أن صلة الرحم تزيد في العمر، والصدقة تزيد في الأجل، وأن الله تعالى زاد في اجل قوم يونس، وما أشبه ذلك، فلا مانع من ذلك. وقوله: (ثم أنتم تمترون) خطاب للكفار الذين شكوا في البعث والنشور، واحتجاج عليهم، بأنه سبحانه خلقهم ونقلهم من حال إلى حال، وقضى عليهم
[ 9 ]
الموت، وهم يشاهدون ذلك، ويقرون بأنه لا محيص منه، ثم بعد هذا يشكون ويكذبون بالبعث، ومن قدر على ابتداء الخلق، فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه إ عا دتهم، وبعثهم الاعراب: " هو " الأشبه أن يكون ضمير القصة والحديث، وتقديره الأمر. (الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم) فالله: مبتدأ. ويعلم: خبره. و (في السماوات وفي الأرض): في موضع النصب بيعلم و (سركم): مفعوله أيضا. ولا يكون الظرف الذي هو الجار والمجرور منصوب الموضع بالمصدر، وإن جعلنا الظرف متعلقا باسم الله جاز في قياس قول من قال إن أصل الله الإلاه. فيكون المعنى: هو المعبود في السماوات وفي الأرض يعلم، وتقديره الأمر المعبود في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم. ومن جعل اسم الله بمنزلة أسماء الأعلام، فلا يجوز أن يتعلق الظرف به، إلا أن يقدر فيه ضربا من معنى الفعل ويجوز أن يكون (هو) مبتدأ. (والله): خبره، والعامل في قوله (في السماوات وفي الأرض) اسم الله، على ما قلناه. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) فيه وجوه على ما ذكرناه في الإعراب. فعلى التقدير الأول يكون معناه: الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، ويكون الخطاب لجميع الخلق، لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء، أو بشرا، أو جنا، فهم في الأرض. فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم، وأحوالهم، ومتصرفاتهم، لا يخفى عليه منها شئ. ويقويه قوله: (ويعلم ما تكسبون) أي: يعلم جميع ما تعملونه من الخير والشر، فيجازيكم على حسب أعمالكم وعلى التقدير الثاني: يكون معناه إن المعبود في السماوات وفي الأرض، أو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، فلا تخفى عليه منكم خافية، ويكون الخطاب لبني آدم، وإن جعلت إسم الله علما على هذا التقدير، ثم علقت به قوله (في السماوات وفي الأرض) لم يجز. وإن علقته بمحذوف، يكون خبر (الله)، أو حالا عنه، أوهم بأن يكون الباري سبحانه في محل تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
[ 10 ]
وقال أبو بكر السراج: ان (الله) وإن كان اسما علما، ففيه معنى الثناء والتعظيم الذي يقرب بهما من الفعل، فيجوز أن يوصل لذلك بالمحل، وتأويله: وهو المعظم، أو نحو ذا في السماوات وفي الأرض، ثم قال: (يعلم سركم وجهركم) ومثل ذلك قوله سبحانه: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) قال الزجاج: فلو قلت: هو زيد في البيت والدار، لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على ان زيدا يدبر أمر البيت والدار، فيكون المعنى: هو المدبر في البيت والدار. ولو قلت: هو المعتضد والخليفة في الشرق والغرب، أو قلت: هو المعتضد في الشرق والغرب جاز، وعلى مقتضى ما قاله أبو بكر والزجاج يكون في متعلقة بما دل عليه اسم الله، ويكون (هو الله) مبتدأ وخبرا، والمعنى: وهو المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض لا إله فيهما غيره، ولا مدبر لهما سواه. وإن جعلت (في السماوات) خبرا بعد خبر، فيكون التقدير: وهو الله، وهو في السماوات وفي الأرض، يعني أنه في كل مكان، فلا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، ثم أخبر سبحانه عن هذا المعنى مبينا لذلك، مؤكدا له، بقوله: (يعلم سركم وجهركم) أي الخفي المكتوم والظاهر المكشوف منكم. (ويعلم ما تكسبون): والمعنى يعلم نياتكم وأحوالكم وأعمالكم. وهذا الترتيب الذي ذكرته في معاني هذه الآية التي استنبطتها من وجوه الإعراب مما لم أسبق إليه، وهو في استقامة فصوله، ومطابقة اصول الدين كما تراه، لا غبار عليه، وفيه دلالة على فساد قول من يقول بأن الله تعالى في مكان دون مكان، تعالى عن ذلك وتقدس. وفي قوله: (يعلم سركم وجهركم) دلالة على أنه عالم لنفسه، لأن من كان عالما بعلم، لا يصح ذلك منه. وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانو عنها معرضين 4 فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون 5. الاعراب: (من) الأولى: مزيدة، وهي التي تقع في النفي لاستغراق الجنس، وموضعه رفع. والثانية: للتبعيض. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الكفار المذكورين في أول الآية، فقال: (وما
[ 11 ]
تأتيهم من آية) أي: لا تأتيهم حجة (من آيات ربهم) أي من حججه وبيناته كانشقاق القمر وآيات القرآن، وغير ذلك من المعجزات (إلا كانوا عنها معرضين): لا يقبلونها، ولا يستدلون بها على ما دلهم الله عليه من توحيده، وصدق رسوله (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) أي: بالحق الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه واله. وسلم من القرآن، وسائر أمور الدين (فسوف يأتيهم أنباء) أي أخبار (ما كانوا به يستهزئون) والمعنى: أخبار استهزائهم، وجزاؤه وهو عقاب الآخرة. وقيل: معناه سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم، عن ابن عباس، والحسن، وبه قال الزجاج. ومعنى الإستهزاء: إيهام التفخيم في معنى التحقير. ألم يرواكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين 6 اللغة: القرن: أهل كل عصر، مأخوذ من إقرانهم في العصر. قال ألزجاج: والقرن ثمانون سنة، وقيل: سبعون سنة، قال: والذي يقع عندي ان القرن أهل كل مدة كان فيها نبي، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت، والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) " والتمكين: إعطاء ما به يصح الفعل كائنا ما كان من آلة وغيرها والإقدار: إعطاء القدرة خاصة. ومفعال من أسماء المبالغة يقال: ديمة (1) مدرار إذا كان مطرها غزيرا دارا، وهذا كقولهم امرأة مذكار إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث في الإناث، وأصل ألمدرار: من در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شئ كثير، ودرت السماء إذا أمطرت. والدر: اللبن. ويقال: لله دره أي: عمله، وفي الذم: لا در دره أي: لا كثر خيره. الاعراب: (كم) نصب (بأهلكنا) لا بقوله (يروا) لأن الإستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله، وهو تعليق. ومعنى التعليق أن الإستفهام أبطل عمل (1) الديمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق. (*)
[ 12 ]
(يرى) في اللفظ، وقد عمل في معناه، وانتقل من الخبر إلى الخطاب في قوله: (ما لم نمكن لكم) اتساعا في الكلام. وقد قال: (مكناهم في الأرض)، وإنما لم يقل: ما لم نمكنكم، لأن العرب تقول: مكنته، ومكنت له، كما تقول نصحته، ونصحت له. المعنى: ثم حذرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم، فقال: (ألم يروا) أي: ألم يعلم هؤلاء الكفار (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) أي: من أمة، وكل طبقة، مقترنين في وقت قرن. (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) معناه: جعلناهم ملوكا وأغنياء، كأنه سبحانه أخبر النبي عنهم في صدر الكلام، ثم خاطبه معهم. وقال ابن عباس: يريد أعطيناهم ما لم نعطكم، والمعنى: وسعنا عليهم في كثرة العبيد، والأموال، والولاية، والبسطة، وطول العمر، ونفاذ الأمر، وأنتم تسمعون أخبارهم، وترون ديارهم، وآثأرهم. (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) قال ابن عباس: يريد به الغيث، والبركة، (والسماء) معناه: المطر هنا. (وجعلنا الأنهار) أي: ماء الأنهار (تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم) ولم يغن ذلك عنهم شيئا لما طغوا، واجترأوا علينا (وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) أي: خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى. وفي هذه الآية دلالة على وجوب التفكر والتدبر، واحتجاج على منكري البعث بأن من اهلك من قبلهم، وأنشأ قوما آخرين، قادر على أن يفني العالم، وينشئ عالما آخر، ويعيد الخلق بعد الإفناء. ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين 7 النزول: نزلت في نضر بن الحرث، وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد، قالوا: يا محمد ! لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه، أنه من عند الله، وأنك رسوله، عن الكلبي. المعنى: ثم اخبر سبحانه عن عنادهم فقال: (ولو نزلنا عليك) يا محمد (كتابا في قرطاس) أي: كتابة في صحيفة، ؟ وأراد بالكتاب المصدر، وبالقرطاس
[ 13 ]
الصحيفة وقيل: كتابا معلقأ من السماء الى الأرض، عن ابن عباس (فلمسوه بأيديهم) أي: فعاينوا ذلك معاينة، ومسوه بأيديهم، عن قتادة، وغيره، قالوا اللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة، ولذلك قال (فلمسوه بأيديهم) دون أن يقول، فعاينوه (لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس، لنسبوا ذلك الى السحر، لعظم عنادهم، وقساوة قلوبهم. وفي هذه الآية دلالة على ما يقوله أهل العدل في اللطف، لأنه تعالى بين أنه إنما لم يفعل ما سألوه، حيث علم أنهم لا يؤمنون عنده. وقالو لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون 8 ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون 9 ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون 10 اللغة: قال الزجاج: قضي في اللغة على ضروب كلها يرجع الى معنى انقطاع الشئ وتمامه، وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة عند قوله: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا: إذا شبهته عليهم، وجعلته مشكلا قال ابن السكيت: يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه، حتى لا يعرف جهته. ومعنى اللبس: منع النفس من إدراك الشئ بما هو كالستر له. وأصله من الستر بالثوب: وهو لبس الثوب، لأنه يستر النفس. يقال: لبست الثوب ألبسه لباسا ولبسا. والحيق: ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، يقال حاق بهم، يحيق، حيقا، وحيوقا، وحيقانا، بفتح الياء. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم (قالوا لولا) أي: هلا (أنزل عليه) أي: على محمد (ملك) نشاهده فنصدقه. ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال (ولو أنزلنا ملكا) على ما أقترحوه، لما آمنوا به، واقتضت الحكمة استئصالهم، وأن لا ينظرهم، ولا يمهلهم، وذلك معنى قوله (لقضي الأمر ثم لا
[ 14 ]
ينظرون) أي: لأهلكوا بعذاب الإستئصال، عن الحسن، وقتادة، والسدي. وقيل: معناه لو أنزلنا ملكا في صورته، لقامت الساعة، أو وجب استئصالهم، عن مجاهد. ثم قال تعالى (ولو جعلناه ملكا) أي: لو جعلنا الرسول ملكا، أو الذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة، كما يطلبون ذلك (لجعلناه رجلا) لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته، لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة الا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس، وكان جبرأئيل يأتي النبي صلى الله عليه وا له وسلم في صورة دحية الكلبي، وكذلك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، وإتيانهم إبراهيم ولوطا في صورة الضيفان من الآدميين. (وللبسنا عليهم ما يلبسون) قال الزجاج: كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فقال: لو أنزلنا ملكا فرأوا هم الملك رجلا، لكان يلحقهم فيه من اللبس، مثل ما لحق ضعفتهم منهم، أي: فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان، وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه، لا يزيدهم بيانا، بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة. وقيل: معناه ولو أنزلنا ملكا، لما عرفوه الا بالتفكر، وهم لا يتفكرون، فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه، فأضاف اللبس إلى نفسه، لأنه يقع عند إنزاله الملائكة. ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) يقول: لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها، كما استهزأ بك قومك، فلست بأول رسول استهزئ به، ولا هم اول أمة استهزأت برسولها. (فحاق بالذين سخروا منهم) أي: فحل بالساخرين منهم (ما كانوا به يستهزئون) من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا، وقيل: معنى حاق بهم: أحاط بهم، عن الضحاك، وهو اختيار الزجاج، أي: أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء استهزائهم، فهو من باب حذف المضاف إذا جعلت ما في قوله: (ما كانوا به يستهزئون) عبارة عن القرآن والشريعة. وإن جعلت (ما) عبارة عن العذاب الذي كان يوعدهم به النبي، إن لم يؤمنوا، استغنيت عن تقدير حذف المضاف، ويكون المعنى: فحاق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من وقوعه.
[ 15 ]
قل سيروا في الأرض ثم أنظروا كيف كان عاقبة المكذبين 11 قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لاريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون 12 وله ما سكن في اليل والنهار وهو السميع العليم 13. الاعراب: قال الأخفش: (الذين خسروا أنفسهم) بدل من الكاف والميم في (ليجمعنكم). وقال الزجاج: هو في موضع رفع على الإبتداء وخبره: (فهم لا يؤمنون) لأن (ليجمعنكم) مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم وغيرهم، قال: واللام في (ليجمعنكم) لام قسم، فجائز أن يكون تمام الكلام: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) ثم استأنف فقال: (ليجمعنكم) والمعنى: والله ليجمعنكم. وجائز أن يكون (ليجمعنكم) بدلا من (الرحمة) مفسرا لها، لأنه لما قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فسر رحمته بأنه يمهلهم الى يوم القيامة ليتوبوا. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه واله وسلم فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (سيروا في الأرض) أي: سافروا فيها (ثم انظروا): والنظر: طلب الإدراك بالبصر، وبالفكر، وبالإستدلال، ومعناه هنا: فانظروا بأبصاركم وتفكروا بقلوبكم، (كيف كان عاقبة المكذبين) المستهزئين. وإنما أمرهم بذلك، لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة، كانت باقية، وأخبارهم في الخسف والهلاك، كانت شائعة، فإذا سار هؤلاء في الأرض، وسمعوا أخبارهم، وعاينوا آثارهم، دعاهم ذلك الى الإيمان، وزجرهم عن الكفر والطغيان. ثم قال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (لمن ما في السموات والأرض): الله الذي خلقهما أم الأصنام ؟ فإن أجابوك فقالوا: الله، والا ف (قل) أنت (لله) أي: ملكهما وخلقهما، والتصرف فيهما كيف يشاء له. (كتب على نفسه الرحمة) أي: أوجب على نفسه الإنعام على خلقه. وقيل: معناه أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه. وقيل: أوجب على نفسه الرحمة بإنظاره عباده، وإمهاله إياهم ليتداركوا ما فرطوا فيه، ويتوبوا عن معاصيهم. وقيل: أوجب على نفسه الرحمة لأمة محمد،
[ 16 ]
بأن لا يعذبهم عند التكذيب، كما عذب من قبلهم من الأمم الماضية، والقرون الخالية، عند التكذيب، بل يؤخرهم إلى يوم القيامة، عن الكلبي. (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) أي: ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، فيكون تفسيرا ل (الرحمة)، على ما ذكرناه أن المراد به إمهال العاصي ليتوب. وقيل: إن هذا احتجاج على من أنكر البعث والنشور، ويقول: ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه، كما تقول: جمعت هؤلاء إلى هؤلاء، أي: ضممت بينهم في الجمع، يريد بجمع آخركم إلى أولكم، قرنا بعد قرن، إلى يوم القيامة وهو الذي (لا ريب فيه) وقيل: معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه، ويكفرون به، عن الأخفش. ويسأل عن هذا فيقال: كيف يحذر المشركين بالبعث، وهم لا يصدقون به ؟ والجواب: إنه جار مجرى الإلزام، وأيضا فإنه تعالى إنما ذكر ذلك عقيب الدليل. ويقال: كيف نفى الريب مطلقا، فقال: (لا ريب فيه) والكافر مرتاب فيه ؟ والجواب: إن الحق حق، وإن ارتاب فيه المبطل، وأيضا فإن الدلائل تزيل الشك والريب، فإن نعم الدنيا تعم المحسن والمسئ، فلا بد من دار يتميز فيه المحسن من المسئ. وأيضا فقد صح أن التكليف تعريف للثواب، وإذا لم يمكن إيصال الثواب في الدنيا، لأن من شأنه أن يكون صافيا من الشوائب، فلا يكون مقترنا بالتكليف، لأن التكليف لا يعرى من المشقة، فلا بد من دار أخرى. وأيضا فإن التمكين من الظلم، من غير انتصاف في العاجل، وإنزال الأمراض من غير استحقاق ولا إيفاء عوض في العاجل، توجب قضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفى فيها الأعواض، وينتصف من المظلوم للظالم. (الذين خسروا أنفسهم) أي: أهلكوها بارتكاب الكفر والعناد (فهم لا يؤمنون) أي: لا يصدقون بالحق، ولما ذكر تعالى ملك السماوات والأرض، عقبه بذكر ما فيهما، فقال: (وله ما سكن) أي: وله كل متمكن ساكن (في الليل والنهار) خلقا، وملكا، وملكا، وإنما ذكر الليل والنهار هنا، وذكر السماوات والأرض فيما قبل، لأن الأول يجمع المكان، والثاني يجمع الزمان، وهما ظرفان لكل موجود، فكأنه أراد الأجسام والأعراض. وعلى هذا فلا يكون السكون في الآية ما هو خلاف الحركة، بل المراد به الحلول كما قال ابن الأعرابي: إنه من قولهم: فلان
[ 17 ]
يسكن بلد كذا أي: يحله. وهذا موافق لقول ابن عباس: وله ما استقر في الليل والنهار من خلق، وقيل: معناه ما سكن في الليل للإستراحة، وتحرك في النهار للمعيشة. وإنما ذكر الساكن دون المتحر ك، لأنه أعم وأكثر، ولأن عاقبة التحرك السكون، ولأن النعمة في السكون أكثر، والراحة فيه أعم. وقيل: أراد الساكن والمتحرك، وتقديره وله ما سكن، وتحرك، ألا أن العرب قد تذكر أحد وجهي الشئ، وتحذف الآخر، لأن المذكور ينبه على المحذوف كقوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر) والمراد: الحر والبرد. ومتى قيل: لماذا ذكر السكون والحركة من بين سائر المخلوقات ؟ فا لجواب: لما في ذلك من التنبيه على حدوث العالم، وإثبات الصانع، لأن كل جسم لا ينفك من الحوادث التي هي الحركة والسكون، فإذا لا بد من محرك ومسكن لاستواء الوجهين في الجواز ولما نبه على إثبات الصانع، عقبه بذكر صفته، فقال: (وهو السميع العليم). والسميع: هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات، إذا وجدت، وهو كونه حيا لا آفة به، ولذلك يوصف به فيما لم يزل، والعليم: هو العالم بوجوه التدابير في خلقه، وبكل ما يصح أن يعلم. وإنما جعل الليل والنهار في هذه الآية كالمسكن، لما اشتملا عليه، لأنه ليس يخرج منهما شئ، فجمع كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف، وهذا من أفصح ما يمكن، كما قال النابغة. فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (1) فجعل الليل مدركا له، إذ كان مشتملا عليه. قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين 14 قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم 15 (1) المنتأى كمنتهى: اسم مكان من انتأى من النأي بمعنى: البعد، يقول: إنك كالليل الذي يدركني اين كنت، وإن أبعد في الهرب، فأذهب إلى أقصى الأرض لسعة ملكك. (*)
[ 18 ]
القراءة: روي في الشواذ قراءة عكرمة والأعمش (ولا يطعم) بفتح الياء، ومعناه: ولا يأكل. اللغة: الفطرة: ابتداء الخلقة. قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى (الفاطر) حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما، أنا فطرتها أي: ابتدأت حفرها. وأصل الفطر: الشق، ومنه: (إذا انفطرت السماء) أي: انشقت. قال الزجاج: فإن قال قائل: كيف يكون الفطر في معنى الخلق، والإنفطار في معنى الإنشقاق ؟ قيل: إنهما يرجعان إلى شئ واحد، لأن معنى فطرهما. خلقهما خلقا قاطعا. الاعراب: (غير) نصب لأنه مفعول. (أتخذ وليا) مفعول ثان. وقوله: (إن عصيت ربي) فيه وجهان: أحدهما: إنه اعتراض بين الكلام، كما يكون الإعتراض بالافسام. فعلى هذا لا موضع له من الإعراب. والآخر: إنه في موضع نصب على الحال، فكأنه قيل: إني أخاف عاصيا ربي عذاب يوم عظيم، ويكون جواب الشرط محذوفا على الوجهين جميعا. النزول: قيل: إن أهل مكة، قالوا لرسول الله: (يا محمد ! تركت ملة قومك، وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك الا الفقر، فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا). فنزلت الآية. المعنى: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم (أغير الله أتخذ وليا) أي: مالكا، ومولى. وولي الشئ: مالكه الذي هو اولى من غيره. والمعنى: لا أتخذ غير الله وليا. الا أن إخراجه على لفظ الإستفهام أبلغ من سائر ألفاظ النفي (فاطر السموات والأرض) أي: خالقهما ومنشئهما من غير احتذاء على مثال (وهو يطعم ولا يطعم) أي: يرزق ولا يرزق. والمراد: يرزق الخلق، ولا يرزقه أحد. وقيل: إنما ذكر الإطعام، لأن حاجة العباد إليه أشد، ولأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين، لأن الحاجة الى الطعام لا تجوز الا على الأجسام، واحتج سبحانه بهذا على الكفار، لأن من خلق السماوات والأرض، وأنشأ ما فيهما، وأحكم تدبيرهما، وأطعم من فيهما، وهم فقراء إليه، معلوم أنه الذي ليس كمثله شئ، وهو القادر، القاهر، الغني، الحي، فلا يجوز لمن عرف ذلك أن يعبد غيره.
[ 19 ]
(قل) يا محمد (إني أمرت) أي: أمرني ربي (أن أكون أول من أسلم) أي: استسلم لأمر الله ورضي بحكمه. وقيل: معناه أمرت أن أكون أول من أخلص العبادة من أهل هذا الزمان، عن الكلبي. وقيل: أول من أسلم من أمتي، وآمن بعد الفترة، عن الحسن. وإنما كان أول، لأنه خص بالوحي. وقيل: معناه أن أكون أول من خضع، وآمن، وعرف الحق من قومي، وأن أترك ما هم عليه من الشرك. ونظيره قول موسى: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) أي: بأنك لا ترى ممن سألك أن تريه نفسك، وقول السحرة (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) بأن هذا ليس بسحر، وانه الحق أي: أول المؤمنين من السحرة (ولا تكونن من المشركين) المعنى: أمرت بالأمرين جميعا أي: أمرت بالإيمان، ونهيت عن الشرك، وتقديره وقيل لي: لا تكونن من المشركين، وصار (أمرت) بدلا من ذلك، لأنه حين قال: (أمرت) أخبر أنه قيل له ذلك. فقوله: (ولا تكونن) معطوف على ما قبله في المعنى. (قل) يا محمد (إني أخاف) قيل: معناه أوقن، وأعلم. وقيل: هو من الخوف (إن عصيت ربي) بترك أمره، وترك نهيه. وقيل: بعبادة غيره. وقيل: باتخاذ غيره وليا (عذاب يوم عظيم): يعني يوم القيامة. ومعنى العظيم هنا: أنه شديد على العباد، وعظيم في قلوبهم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذالك الفوز المبين 16. القراءة: قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وأبو بكر، عن عاصم: (من يصرف) بفتح الياء وكسر الراء. والباقون (يصرف) بضم الياء وفتح الراء. الحجة: قال أبو علي: فاعل (يصرف) الضمير العائد إلى (ربي)، وينبغي أن يكون حذف الضمير العائد إلى (العذاب). والمعنى: من يصرفه عنه. وكذلك في قراءة أبي فيما زعموا. وليس حذف هذا الضمير بالسهل، وليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة، لأن (من) جزاء، ولا يكون صلة. على أن الضمير إنما يحذف من الصلة، إذا عاد إلى الموصول، نحو (أهذا الذي بعث الله رسولا) (وسلام على عباده الذين اصطفى) أي: بعثهم واصطفاهم، ولا يعود الضمير المحذوف هنا إلى موصول، ولا إلى (من) التي للجزاء، وإنما يرجع إلى العذاب في قوله (عذاب يوم عظيم). وليس هذا بمنزلة قوله: (والحافظين فروجهم
[ 20 ]
والحافظات) لأن هذا فعل واحد قد تكرر، وعدي الأول منهما إلى المفعول، فعلم بتعدية الأول أن الثاني بمنزلته. وأما قراءة من قرأ (يصرف): فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره، والذكر العائد إلى المبتدأ الذي هو (من) في القراءتين جميعا، الضمير الذي في (عنه). ومما يقوي قراءة من قرأ (يصرف) بفتح الياء أن ما بعده من قوله (فقد رحمه) مسند إلى ضمير إسم الله تعالى، فقد اتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير. ومما يقوي ذلك أيضا: أن الهاء المحذوفة من يصرفه، لما كانت في حيز الجزاء، وكان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة، في أنه لا يجوز أن يتسلط على الموصول، حسن حذف الهاء منه، كما حسن حذفها من الصلة. المعنى: (من يصرف) العذاب (عنه يومئذ فقد رحمه) الله، يريد: من غفر له فإنه يثيبه الله لا محالة، وذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب، لئلا يتوهم أنه ليس له إلا صرف العذاب عنه فقط (وذلك الفوز) أي: الظفر بالبغية (المبين) الظاهر البين، ويحتمل أن يكون معنى الآية: إنه لا يصرف العذاب عن أحد الا برحمة الله، كما روي ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (والذي نفسي بيده ! ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل. ووضع يده على فوق رأسه وطول صوته)، رواه الحسن في تفسيره. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير 17 وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير 18. المعنى: ثم بين سبحانه أنه لا يملك النفع والضر إلا هو، فقال: (وإن يمسسك الله بضر) أي: إن يمسك بفقر، أو مرض، أو مكروه، (فلا كاشف له إلا هو) أي: لا مزيل ولا مفرج له عنك، الا هو، ولا يملك كشفه سواه، مما يعبده المشركون (وإن يمسسك بخير) أي: وإن يصبك بغنى، أو سعة في الرزق، أو صحة في البدن، أو شئ من محاب الدنيا (فهو على كل شئ) من الخير والضر
[ 21 ]
(قدير): ولا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه، أو محبوب. فإن قيل: إن المس من صفات الأجسام، فكيف قال إن يمسسك الله ؟ قلنا: الباء للتعدية، والمراد إن أمسسك الله ضرا أي: جعل الضر يمسك، فالفعل للضر، وإن كان الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى، والضر إسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره، كما أن الخير إسم جامع لكل ما ينتفع به. (وهو القاهر): ومعناه القادر على أن يقهر غيره (فوق عباده) معنى فوق ههنا: قهره واستعلاؤه عليهم، فهم تحت تسخيره وتذليله بما علاهم به من الإقتدار الذي لا ينفك منه احد، ومثله قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم): يريد أنه أقوى منهم (وهو الحكيم الخبير) معناه: إنه مع قدرته عليهم، لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والخبير العالم بالشئ، وتأويله: إنه العالم بما يصح أن يخبر به، والخبر: علمك بالشئ. تقول: لي به خبر أي علم، وأصله من الخبر، لأنه طريق من طرق العلم، فإذا كان القاهر، على ما ذكرناه، بمعنى القادر، صح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه قاهر. وقال بعضهم: لا يسمى قاهرا الا بعد أن يقهر غيره. فعلى هذا يكون من صفات الأفعال، فلا يصح وصفه فيما لم يزل به. قل أي شئ أكبر شهادءة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله إلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون 19 الذين إتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أنباءهم الذين خسرو ا أنفسهم فهم لا يؤمنون 20. الاعراب: (شهادة) نصب على التمييز، (ومن بلغ) في محل نصب بالإنذار، والعائد إلى الموصول محذوف و (أئنكم) كتب بالياء، لأن الهمزة التي قبلها همزه تخفف، بأن تجعل بين بين. فإذا كانت مكسورة تجعل بين الهمزة والياء، فكتب بالياء. (الذين آتيناهم الكتاب) رفع بالإبتداء. (ويعرفونه) خبره. (الذين خسروا أنفسهم) رفع بكونه نعتا (للذين) الأولى، ويجوز أن يكون رفعا
[ 22 ]
بالإبتداء. وقوله: (فهم لا يؤمنون) خبره. النزول: قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا: أما وجد الله رسولا غيرك، ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. المعنى: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (أي شئ أكبر) أي: أعظم (شهادة)، وأصدق، حتى آتيكم به، وأدلكم بذلك على أني صادق. وقيل معناه: أي شئ أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ، وعليكم بالتكذيب، عن الجبائي. وقيل: معناه أي شئ أعظم حجة، وأصدق شهادة، عن ابن عباس. فإن قالوا: الله، والا ف (قل) لهم (الله شهيد بيني وبينكم) يشهد لي بالرسالة والنبوة. وقيل: معناه يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم، وتكذيبكم اياي (وأوحي إلي هذا القران) أي: أنزل إلي حجة، أو شهادة على صدقي (لأنذركم به) أي: لأخوفكم به من عذاب الله تعالى (ومن بلغ) أي: ولأخوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة. وروى الحسن في تفسيره عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: (من بلغه أني أدعو إلى أن لا إله إلا الله، فقد بلغه). يعني بلغته الحجة، وقامت عليه، وقال محمد بن كعب: (من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا وسمع منه). وقال مجاهد: حيث ما يأتي القرآن، فهو داع ونذير، وقرأ هذه الآية. وفي تفسير العياشي: قال أبو جعفر، وأبو عبد الله عليه السلام " من بلغ، معناه من بلغ أن يكون إماما من آل محمد، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله صلى الله عليه واله وسلم) وعلى هذا: فيكون قوله (ومن بلغ) في موضع رفع عطفا على الضمير في (أنذر). وفي الآية دلالة على أن الله تعالى يجوز أن يسمى شيئا، لان قوله: (أي شئ أكبر شهادة) جاء جوابه: (قل الله). ومعنى الشئ: إنه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. فالله سبحانه شئ لا كالأشياء بمعنى أنه معلوم لا كالمعلومات التي هي الجواهر والاعراض. والإشتراك في الإسم لا يوجب التماثل. وفي قوله (ومن بلغ) دلالة على أنه خاتم الأنبياء، ومبعوث إلى الناس كافة. ثم قال سبحانه، موبخا لهم: قل يا محمد لهم (أئنكم لتشهدون أن مع الله
[ 23 ]
آلهة أخرى): هذا استفهام معناه الجحد والإنكار، وتقديره: كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة، وقيام الحجة بوحدانية الله تعالى ؟ وإنما قال: (أخرى)، ولم يقل آخر، لأن الآلهة جمع، والجمع مؤنث، فهو كقوله: (ولله الأسماء الحسنى) وقوله: (فما بال القرون الأولى)، ولم يقل الأول. ثم قال سبحانه لنبيه: (قل) أنت يا محمد (لا أشهد) بمثل ذلك، وإن شهدتم بإثبات الشريك لله، بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى، والشاهد هو المبين لدعوى المدعي. ثم قال: (قل) يا محمد لمن شهد أن معه آلهة أخرى: (إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون) به وبعبادته من الأوثان وغيرها، ولهذا قال أهل العلم: يستحب لمن أسلم ابتداء، أن ياتي بالشهادتين، ويتبرأ من كل دين سوى الإسلام. ثم ذكر سبحانه أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم): وهذا مفسر في سورة البقرة (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) مفسر في هذه السورة، فإن حملته على أنه صفة للذين الأولى، فالمعني به أهل الكتاب. وإن حملته على الإبتداء، فإنه يتناول جميع الكفار. وقال أبو حمزة الثمالي: (لما قدم النبي صلى الله عليه واله وسلم المدينة، قال عمر لعبد الله بن سلام: إن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه واله وسلم ان أهل الكتاب (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، كيف هذه المعرفة ؟ قال عبد الله بن سلام: نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم، كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان. وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام، لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني ! فقال له: كيف ؟ قال عبد الله: عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا، فأشهد أنه هو، فأما إبني فإني لا أدري ما أحدثت أمه. فقال: قد وفقت، وصدقت، وأصبت). ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأياته إنه لا يفلح الظالمون 21 ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون 22. القراءة: (ويوم يحشرهم) (ثم يقول) بالياء فيهما قراءة يعقوب وحده، وكذلك في الفرقان، وفي سبأ، وقرئ في سائر القرآن بالنون. وقرأ حفص هنا، وفي يونس بالنون، وفي سائر القرآن بالياء. وقرأ أبو جعفر، وابن كثير، في الفرقان بالياء، وفي سائر القرآن بالنون. وقرأ الباقون بالنون في جميع القرآن.
[ 24 ]
الحجة: من قرأ بالياء: رده إلى الله في قوله: (على الله كذبا). ومن قرأ بالنون ابتداء، والياء في المعنى كالنون. الاعراب: (يوم نحشرهم): العامل فيه محذوف على معنى: واذكر يوم نحشرهم. وقيل: إنه معطوف على محذوف، كأنه قيل: لا يفلح الظالمون أبدا ويوم نحشرهم. والعائد إلى الموصول محذوف من (الذين كنتم تزعمون) وتقديره: تزعمون أنهم شركاء، أو تزعمونهم شركاء، فحذف مفعولي الزعم، لدلالة الكلام، وحالة السؤال عليه. المعنى: ثم بين سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ، والتهجين، بالإشراك، فقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) معناه: ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة، عن ابن عباس. وهذا استفهام معناه الجحد أي: لا أحد أظلم منه، لأن جوابه كذلك، فاكتفى من الجواب بما يدل عليه (أو كذب باياته) أي: بالقرآن، وبمحمد ومعجزاته (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا يفوز برحمة الله، وثوابه، ورضوانه، ولا بالنجاة من النار، الظالمون. والظالم، ههنا هو الكافر بنبوة محمد صلى الله عليه واله وسلم، المكذب بآياته، الجاحد لها بقوله: ما نصب الله آية على نبوته (ويوم نحشرهم جميعا) عنى بهم من تقدم ذكرهم من الكفار، لأنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم الى موضع الحساب. (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) إختلف في وجه هذا السؤال، فقيل: إن المشركين إذا رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد، قال بعضهم لبعض: إذا سئلتم فقولوا إنا موحدون. فلما جمعهم الله قال لهم: أين شركاؤكم ؟. ليعلموا أن الله يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا، وأنه لا ينفعهم الكتمان، عن مقاتل. وقيل: إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، فقيل لهم يوم القيامة (أين شركاؤكم الذين تزعمون) أنها تشفع لكم، توبيخا لهم، وتبكيتا على ما كانوا يدعونه، عن أكثر المفسرين. وإنما أضاف ألشركاء إليهم، لأنهم اتخذوها لأنفسهم، ومعنى (تزعمون): تكذبون. قال ابن عباس: (وكل زعم في كتاب الله كذب). وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب الجبر، وعلى إثبات المعاد، وحشر جميع الخلق.
[ 25 ]
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالو والله ربنا ما كنا مشركين 23 أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون 24. القراءة: قرأ أهل المدينة، وأبو عمرو، وأبو بكر، عن عاصم، وخلف: (ثم لم تكن) بالتاء، (فتنتهم): بالنصب. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص، عن عاصم: (ثم لم تكن) بالتاء أيضا، (فتنتهم): بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب: (ثم لم يكن) بالياء (فتنتهم) بالنصب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (والله ربنا) بالنصب. وقر أ الباقون بالجر. الحجة: من قر أ (تكن) بالتاء، (فتنتهم): بالنصب، فإنه أنث: (أن قالوا) لما كان القول: الفتنة في المعنى، كما قال: (فله عشر أمثالها) فأنث (الأمثال) لما كانت في المعنى: الحسنات، ومما جاء في الشعر، قول لبيد: فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها (1) فأنث الإقدام لما كانت العادة في المعنى. قال الزجاج: ويجوز أن يكون تأويل: (الا أن قالوا) إلا مقالتهم. ومن قرأ: (لم تكن) بالتاء (فتنتهم) رفعا، أثبت علامة التأنيث في الفعل المسند إلى الفتنة، والفتنة مؤنثة، وعلى هذه القراءة يكون قوله: (إلآ أن قالوا) في موضع نصب بكونه خبر كان. ومن قرأ: (لم يكن) بالياء (فتنتهم) نصبا، فعلى أن قوله: (أن قالوا) إسم كان، والأولى والأقوى أن يكون (فتنتهم) نصبا. وأن قالوا الإسم، لأن أن إذا وصلت، لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان، أن يكون المضمر الإسم أحسن، فكذلك (أن) إذا كانت مع اسم غيرها كانت، أن يكون الإسم أولى (2). وأما من قرأ: (والله ربنا) فإنه جعل الإسم المضاف وصفا للمفرد، ومثل ذلك، رأيت زيدا صاحبنا، وقوله: (ما كنا مشركين) جواب للقسم. ومن قرأ (ربنا) بالنصب: فصل بالإسم المنادى بين القسم والمقسم عليه، والفصل به لا يمتنع، وقد فصل بالنداء بين الصلة والموصول لكثرة النداء في الكلام، وذلك مثل قول الشاعر: (1) قوله: عردت أي: أنهزمت. (2) أي: أن يكون (أن) الإسم اولى. (*)
[ 26 ]
ذاك الذي وأبيك يعرف مالك والحق يدفع ترهات الباطل (1) ويجوز أن يكون نصبه على المدح بمعنى: أعني ربنا، وأذكر ربنا. اللغة: قال الأزهري: جماع الفتنة في كلام العرب: الإمتحان، مأخوذ من قولك: فتنت الذهب والفضة: إذا أذبتهما بالنار وأحرقتهما. وقد فتن الرجل بالمرأة، وافتتن، وقد فتنته المرأة، وأفتنته، قال الشاعر: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت عقيلا فأمسى قد قلى كل مسلم (2) الاعراب: العامل في (كيف) قوله (كذبوا) ولا يجوز أن يعمل فيه (أنظر) لأن الإستفهام له صدر الكلام، فلا يجوز أن يعمل فيه ما قبله 0 المعنى: ثم بين سبحانه جوأب القوم عند توجه التوبيخ إليهم، فقال: (ثم لم تكن فتنتهم) إختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه أحدها: إن معناه ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال، فلم يكن الجواب عن ذلك الإختبار إلا هذا القول. وثانيها: إن المراد لم يكن معذرتهم (الا أن قالوا) عن ابن عباس، وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وهذا راجع إلى معنى الجواب أيضا. وثالثها: ما قاله الزجاج: إن تأويله حسن لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب في ذلك، والله عز وجل، ذكر في هذه الاية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين، وأنهم مفتتنون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرأوا منه، وانتفوا منه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين، ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا، فإذا وقع في هلكة، تبرأ منه، فتقول له: ما كانت محبتك فلانا، إلا أن افتتنت منه. فالفتنة هاهنا بمعنى الشرك، والإفتتان بالأوثان. ويؤيد ذلك ما رواه عطا، عن ابن عباس قال: (فتنتهم يريد شركهم في الدنيا) وهذا القول في التأويل يرجع الى حذف المضاف، لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة منها بقولهم (والله ربنا ما كنا مشركين). ويسأل: فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة، ويحلفوا على الكذب والدار (1) الترهات: الطرق الصغار غير الجادة تتشعب عنها واستعير في الباطل. (2) قلى الرجل: أبغضه (*)
[ 27 ]
ليست بدار تكليف، وكل الناس ملجؤون فيها إلى ترك القبيح، لمشاهدة الحقائق، وزوال عوارض الشبه، والشكوك، ولمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة ؟ والجواب: إن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا، وفي اعتقادنا، وتقديرنا، وذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين، فيحلفون على هذا في الآخرة. فعلى هذا يكون قولهم وحلفهم يقعان على وجه الصدق. وقيل أيضا: إنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة، ثم ترجع عقولهم، فيقرون ويعترفون، ويجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال. (أنظر) المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء: أنظر يا محمد (كيف كذبوا على أنفسهم) وهذا وإن كان لفظه لفظ الإستفهام، فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم، ومعناه أنظر إلى إخباري عن افترائهم، كيف هو، فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة، وإنما كذبهم الله سبحانه في قولهم، وإن كانوا صادقين عند أنفسهم، لأن الكذب هو الإخبار بالشئ، لا على ما هو به علم المخبر بذلك، أو لم يعلم، فلما كان قولهم: (ما كنا مشركين) كذبا في الحقيقة، جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم. وقيل: معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا، لا إنهم كذبوا في الآخرة، لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة، وإن اعتقدوا أنهم على الحق، عن الجبائي (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها، ويفترون الكذب بقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا) فذهبت عنهم في الآخرة، فلم يجدوها، ولم ينتفعوا بها عن الحسن. وقيل: إنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى، أنها تضل عن عابديها يوم القيامة، ولا تغني عنهم شيئا، واختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب ؟ فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه، وقال بعضهم: يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش والحيرة في القيامة، فإذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح والكذب، ويكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح، وبه قال أبو بكر بن الأخشيد وأصحابه. وقال بعضهم: إنه يجوز وقوعه
[ 28 ]
منهم على جميع الأحوال. ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي إذانهم وقرا وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين 25. اللغة: الأكنة: جمج كنان، وهو ما وقى شيئا وستره مثل عنان وأعنة. قال الليث: كل شئ وقى شيئا فهو كنانه وكنه، والفعل منه كننت وأكننت. والكنة: إمرأة الإبن، أو الأخ، لأنها في كنه. واستكن الرجل من الحر، واكتن: استتر. والوقر: الثقل في الأذن. والوقر بكسر الواو: الحمل. قال أبو زيد: وقرت أذنه توقر وقرأ. وقال الكسائي: وقرت أذنه، فهي موقورة، قال الشاعر: وكلام سيئ قد وقرت أذني منه وما بي من صمم وأساطير: واحدتها أسطورة، وأسطارة مأخوذ من سطر الكتاب، وهو سطر وسطر، فمن قال سطر جمعه أسطارا. ومن قال سطر فجمعه في القليل أسطر، والكثير سطور، وقال رؤبة: إني وأسطار سطرا لقائل يا نصر نصرا نصرا وجمع أسطار: أسطير. قال الزجاج: وتأويل السطر في اللغة: أن تجعل شيئا ممتدا مؤلفا. وقال الأخفش: أساطير جمع لا واحد له، نحو أبابيل، ومذاكير. وقال بعضهم: واحد الأبابيل: إبيل بالتشديد وكسر الألف. والجدال: الخصومة، سمي بذلك لشدته، وقيل: إنه مشتق من الجدالة: وهي الأرض، لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض. الاعراب: (أن يفقهوه) موضعه نصب على أنه مفعول له. المعنى: لكراهة أن يفقهوه. فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة، إنتقل نصبها إلى أن قاله الزجاج: يريد أنه حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. (ويجادلونك) في موضع نصب على الحال. النزول: قيل: إن نفرا من مشركي مكة، منهم النضر بن الحارث، وأبو
[ 29 ]
سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وغيرهم، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد ؟ فقال: أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. فأنزل الله هذه الآية. المعنى: ثم وصف الله سبحانه حالهم، عند استماع القرآن، فقال: (ومنهم) أي: ومن الكفار الذين تقدم ذكرهم (من يستمع إليك) يريد: يستمعون إلى كلامك. قال مجاهد: يعني قريشا (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) قد ذكرنا الكلام فيه في سورة البقرة عند قوله (ختم الله على قلوبهم). وقال القاضي أبو عاصم العامري: أصح الأقوال فيه ما روي ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يصلي بالليل، ويقرأ القرآن في الصلاة جهرا، رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان، فيتدبر معانيه، ويؤمن به، فكان المشركون إذا سمعوه آذوه، ومنعوه عن الجهر بالقراءة، فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم، أو يجعل في قلوبهم أكنة. ليقطعهم عن مرادهم، وذلك بعد ما بلغهم مما تقوم به الحجة، وتنقطع به المعذرة، وبعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون بسماعه، ولا يؤمنون به، فشبه إلقاء النوم عليهم، بجعل الغطاء على قلوبهم، وبوقر آذانهم، لأن ذلك كان يمنعهم من التدبر، كالوقر والغطاء. وهذا معنى قوله تعالى: (وإذا قرأت القران جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا)، وهو قول أبي علي الجبائي. ويحتمل ذلك وجها آخر وهو: إنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم، تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه ويحتمل أيضا أن يكون سمى الكفر الذي في قلوبهم كنا، تشبيها ومجازا، وإعراضهم عن تفهم القرآن وقرأ، توسعا لأن مع الكفر والإعراض، لا يحصل الإيمان والفهم، كما لا يحصلان مع الكن والوقر، ونسب ذلك إلى نفسه، لأنه الذي شبه أحدهما بالآخر، كما يقول أحدنا لغيره، إذا أثنى على إنسان، وذكر مناقبه: جعلته فاضلا، وبالضد، إذا ذكر مقابحه وفسقه، يقول جعلته فاسقا. وكما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، وكل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك، والإبانة عن حاله، كما قال ا لشاعر:
[ 30 ]
جعلتني باخلا كلا ورب منى إني لأسمح كفأ منك في اللزب (1) ومعناه: سميتني باخلا: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) يريد: وإن يروا كل عبرة، لم يصدقوا بها، عن ابن عباس. وقيل: معناه وإن يروا كل علامة ومعجزة دالة على نبوتك، لا يؤمنوا بها لعنادهم، عن الزجاج، ولو أجرى معنى الآية على ظاهرها، لم يكن لهذا معنى، لأن من لا يمكنه أن يسمع ويفقه، لا يجوز أن يوصف بذلك، وكان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته، وغفلوا عنها، وهم ممنوعون عن ذلك. والذي يزيل الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض الكفار (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها) الاية، ولو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع، مزيل للقدرة، لكان لا معنى لقوله (كأن في أذنيه وقرا)، ولكان لا يستحق المذقة لأنه لم يعط آلة السمع، فكيف يذم على ترك السمع. (حتى إذا جاءوك يجادلونك) يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار، يجيئون مجئ مخاصمين مجادلين، رادين عليك قولك، ولم يجيؤوا مجئ من يريد الرشاد والنظر، في الدلالة الدالة على توحيد الله ونبوة نبيه (يقول الذين كفروا إن هذا) أي: ما هذا القرآن (إلا أساطير الأولين) أي: أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، عن الضحاك. وقيل: معنى الأساطير: الترهات والبسابس (2) مثل حديث رستم وإسفنديار، وغيره، مما لا فائدة فيه، ولا طائل تحته. وقال بعضهم: إن جدالهم هذا القول منهم. وقيل: هو مثل قولهم: أتأكلون ما تقتلونه بأيديكم، ولا تأكلون ما قتله الله تعالى. وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرو ن 26. اللغة: النأي: البعد. يقال نأيت عنه أنأى نأيا. ومنه أخذ النؤي: وهو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء. المعنى: ثم كنى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم، فقال: (وهم ينهون عنه وينئون عنه) أي: ينهون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه واله وسلم، يتباعدون عنه، فرارا منه، (1) اللزب: الشدة والقحط. (12 البسابس: الأباطيل،. (*)
[ 31 ]
عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والحسن، والسدي. وقيل: معناه ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقع في قلوبهم صحته، ويتباعدونهم عن استماعه، عن قتادة، ومجاهد، واختاره الجبائي، وقيل: عنى به أبا طالب بن عبد المطلب، ومعناه يمنعون الناس عن أذى إلنبي صلى الله عليه واله وسلم، ولا يتبعونه، عن عطا ومقاتل. وهذا لا يصح، لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدمها، وما تأخر عنها معطوف عليها، وكلها في ذم الكفار المعاندين للنبي صلى الله عليه واله وسلم هذا وقد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السلام على إيمان أبي طالب، وإجماعهم حجة، لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم بالتمسك بهما بقوله: " إن تمسكتم بهما لن تضلوا) ويدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر: " ان أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأسلم، فقال صلى الله عليه واله وسلم: ألا تركت الشيخ فآتيه وكان أعمى. فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذي بعثك بالحق ! لأنا كنت بإسلام أبي طالب، أشد فرحا مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك. فقال صلى الله عليه واله وسلم: صدقت ". وروى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش، لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، اجتمعوا عليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة، عمارة بن الوليد، ندفعه إليك، وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا، وسفه أحلامنا، فنقتله ! فقال أبو طالب: ما أنصفتموني ! تعطونني إبنكم فأغذوه، وأعطيكم إبني فتقتلونه، بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله، وقال: منعنا الرسسول رسول المليك ببيض تلالا كلمع البروق أذود وأحمي رسول المليك حماية حام عليه شفيق وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه، كثيرة مشهورة لا تحصى، فمن ذلك قوله: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب أليس أبونا هاشم شد أزره، وأوصى بنيه بالطعان وبالحرب وقوله من قصيدة: وقالوا لأحمد أنت امروء خلوف اللسان ضعيف السبب
[ 32 ]
ألا إن أحمد قد جاءهم بحق، ولم يأتهم بالكذب وقوله في حديث الصحيفة، وهومن معجزات النبي صلى الله عليه واله وسلم: وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا ألله منها كفرهم، وعقوقهم، وما نقموا من ناطق الحق معرب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا على سخط من قومنا، غير معتب وقوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي، والصبر في طاعته: صبرا أبا يعلى على دين أحمد، وكن مظهرا للدين، وفقت صابرا فقد سرني إذقلت إنك مؤمن فكن لرسول الله في الله ناصرا وقوله في قصيدة: أقيم على نصر النبي محمد أقاتل عنه بالقنا والقنابل وقوله يحض النجاشي على نصر النبي: تعلم مليك الحبش أن محمدا وزير لموسى، والمسيح بن مريم أتى بهدى مثل الذي أتيا به وكل بأمر الله يهدي ويعصم وإنكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث، لا حديث المرجم فلا تجعلوا لله ندا، وأسلموا، وإن طريق الحق ليس بمظلم وقوله في وصيته، وقد حضرته الوفاة: أوصي بنصر النبي الخير مشهده عليا إبني، وشيخ القوم عباسا وحمزة الأسد الحامي حقيقته، وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا كونوا فدى لكم أمي وما ولدت في نصر أحمد، دون الناس أتراسا في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة، ووصاياه، وخطبه، يطول بها الكتاب. على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قط، بل كان يقرب منه، ويخالطه، ويقوم بنصرته، فكيف يكون المعنى بقوله وينأون عنه (وإن يهلكون إلا أنفسهم) معناه: ما يهلكون بنهيهم عن قبوله، وبعدهم عنه، إلا أنفسهم (ا) القنا جمع القناة: الرمح. والقنابل جمع القنبلة: الطائفة من الخيل أو الناس. (*)
[ 33 ]
(وما يشعرون) أي: وما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك. ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بأيات ربنا ونكون من المؤمنين 27 بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون 28. القراءة: قرأ: (ولا نكذب) (ونكون). بالنصب: حفص عن عاصم، وحمزة، ويعقوب. وقرأ ابن عامر. (ونكون) بالنصب. وقرأ الباقوت بالرفع فيهن. الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالرفع جاز فيه وجهان أحدهما: أن يكون معطوفا على (نرد) فيكون قوله (ولا نكذب) (ونكون) داخلا في التمني دخول (نرد) فيه. فعلى هذا تمنى الرد وأن لا نكذب، والكون من المؤمنين. ويحتمل الرفع وجها آخر، وهو أن تقطعه من الأول، ويكون التقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون. وقال سيبويه: هو على قولك فإنا لا نكذب كما يقول القائل: دعني ولا أعود أي: فإني ممن لا يعود، فإنما يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه أن لا يعود، ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسألك أن تجمع له الترك، وأن لا يعود. وحجة من نصب فقال: (ولا نكذب) (ونكون): أنه أدخل ذلك في التمني غير موجب، لأن التمني غير موجب، فهو كالإستفهام، والأمر، والنهي، في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال، إذا دخلت عليها الفاء، أو الواو، على تقدير ذكر المصدر من الفعل الأول، كأنه في التمثيل: يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء التكذيب والكون من المؤمنين. ومن رفع (ولا نكذب) ونصب (ونكون): فإن الفعل الذي هو لا نكذب يحتمل وجهين (أحدهما). أن يكون داخلا في التمني، فيكون في المعنى كالنصب. (والاخر): أن يخبر على البتات أن لا نكذب، رد أو لم يرد، ومن نصبهما جميعا جعلهما داخلين في التمني. اللغة: يقال: وقفت الدابة وقوفا، ووقف غيره يقفه وقفا، وحكي عن أبي عمرو أنه أجاز ما أوقفك هاهنا ؟ مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب. وبدا يبدو
[ 34 ]
بدوأ: إذا ظهر. وفلان ذو بدوات: إذا بدا له الرأي بعد الرأي، وبدا لي في هذا الأمر بداء. والبداء لا يجوز على الله سبحانه، لأنه العالم بجميع المعلومات، لم يزل، ولا يزال. الاعراب: (ولو ترى): جوابه محذوف، وتقديره لرأيت أمرا هائلا، ونحوه قوله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) يريد: إسكان هذا القرآن، وهذه الأجوبة إنما تحذف لتعظيم الأمر وتفخيمه ومثله قول امرئ القيس: وجئتك لوشئ أتانا رسوله سواك، ولكن لم نجدلك مدفعا. وتقديره: لو أتانا رسول غيرك، لما جئنا. ويسأل فيقال: لم جاز (ولو ترى إذ وقفوا) وإذ هي للماضي ؟ والجواب: إن الخبر لصحته، وصدق المخبر به، صار بمنزلة ما وقع. المعنى: ثم بين سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة، وتمني الرجعة، فقال: (ولو ترى) يا محمد، أو يا أيها السامع (إذ وقفوا على النار) فهذا يحتمل ثلاثة أوجه: جائز أن يكون المعنى عاينوا النار. وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم. قال الزجاج: والأجود أن يكون معناه: أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها، كما تقول في الكلام: قد وقفت على ما عند فلان، تريد: قد فهمته وتبينته. وهذا وإن كان بلفظ الماضي، فالمراد به الإستقبال، وإنما جاز ذلك لأن كل ما هو كائن يوما مما لم يكن بعد، فهو عند الله قد كان، وأنشد في مثله: ستندم إذ يأتي عليك رعيلنا بأرعن جرار كثير صواهله (1) فوضع إذ موضع إذا، وقد يوضع أيضا إذا موضع إذ كما قال الشاعر: وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تعرضت النجوم (فقالوا) أي: فقال الكفار حين عاينوا العذاب، وندموا على ما فعلوا (يا ليتنا نرد) إلى الدنيا (ولا نكذب بآيات ربنا) أي: بكتب ربنا ورسله، وجميع ما جاءنا من عنده (ونكون من المؤمنين) يعني من جملة المؤمنين بآيات الله. (1) الرعيل: القطعة من الخيل. وجيش ارعن: هو المضطرب لكثرته. الصواهل جمع الصاهل وهو الفرس. (*)
[ 35 ]
(بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) اختلف فيه على أقوال أحدها: إن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم وضعفائهم، مما في كتبهم، فبدا للضعفاء عنادهم. وثانيها: إن المراد بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه، فأظهره الله، وشهدت به جوارحهم، عن أبي روق. وثالثها: إن المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة، ما كان الغواة يخفونه عنهم، من أمر البعث والنشور، لأن المتصل بهذا قوله: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) الآية، عن الزجاج، وهو قول الحسن. ورابعها: إن المراد بل بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر، عن المبرد. وكل هذه الأقوال بمعنى ظهرت فضيحتهم في الآخرة، وتهتكت أستارهم. (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) أي: لو ردوا إلى الدنيا، وإلى حال التكليف، كما طلبوه، لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب (وإنهم لكاذبون) ويسأل على هذا فيقال: إن التمني كيف يصح فيه الكذب، وإنما يقع الكذب في الخبر ؟ والجواب: إن من الناس، من حمل الكلام كله على وجه التمني، وصرف الكذب إلى غير الأمر الذي تمنوه، وقال: إن معناه هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإصابة، واعتقاد الحق، أو يكون المعنى: إنهم كاذبون إن خبروا عن أنفسهم، بأنهم متى ردوا آمنوا، وإن كان ما حكي عنهم من التمني، ليس بخبر، وقد يجوز أن يحمل على غير الكذب الحقيقي بأن يكون المراد أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم وتمنيهم، وهذا مشهور في كلام العرب يقولون: كذبك أملك لمن تمنى ما لم يدرك، وقال الشاعر: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها بني شاب قرناها تصر وتحلب (1) وقال آخر: كذبتم وبيت الله لا تأخذونها مراغمة ما دام للسيف قائم والمراد ما ذكرناه من الخيبة في الأمل والتمني. فإن قيل: كيف يجوز أن يتمنوا الرد إلى الدنيا، وقد علموا أنهم لا يردون ؟ فالجواب عنه من وجوه أحدها: إنا لا نعلم أن أهل الاخرة يعرفون جميع أ حكام الآخرة، وإنما نقول: إنهم يعرفون الله (1) القرن: ذؤابة المرأة. الصر: جمع اللبن في الضرع. أي: يا بني المرأة التي شاب قرناها حال كونها تصر وتحلب. (*)
[ 36 ]
معرفة لا يتخالجهم فيها الشك، لما يشاهدونه من الآيات الملجئة لهم إلى المعارف. وأما التوجع والتمني للخلاص، والدعاء للفرج، فيجوز أن يقع منهم ذلك، عن البلخي. وثانيها: إن التمني قد يجوز فيما يعلم أنه لا يكون، ولهذا قد يقع التمني على أن لا يكون ما قد كان، وأن لا يكون فعل ما قد فعله، وتقضى وقته. وثالثها: إنه لا مانع من أن يقع منهم التمني للرد، ولأن يكونوا من المؤمنين، عن الزجاج. وفي الناس من جعل بعض الكلام تمنيا، وبعضه إخبارا، وعلق تكذيبهم بالخبر دون (ليتنا) وهذا إنما ينساق في قراءة من رفع (ولا نكذب) (ونكون) على معنى: فإنا لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، فيكونون قد أخبروا بما علم الله أنهم فيه كاذبون، وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك، فلهذا كذبهم. وذكر أن أبا عمرو بن العلاء استدل على قراءته بالرفع في الجميع، بأ ن قوله: (وإنهم لكاذبون) فيه دلالة على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم، ولن يتمنوه، لأن التمني لا يقع فيه الكذب وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين 29 ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون 30 المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين ذكرهم قبل هذه الآية، وإنكارهم البعث والنشور، والحشر، والحساب، فقال: (وقالوا إن هي) أي: ما هي (إلا حياتنا الدنيا) عنوا بذلك أنه لا حياة لنا في الآخرة، وإنما هي هذه التي حيينا بها في الدنيا (وما نحن بمبعوثين) أي: لسنا بمبعوثين بعد الموت. ثم خاطب سبحانه نبيه، صلى الله عليه وآله، فقا ل: (ولو ترى) يا محمد (إذ وقفوا على ربهم) ليس يصح في هذه الآية شئ من الوجوه التي ذكرناها في قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) إلا وجها واحدا، وهو ان المعنى: عرفوا ربهم ضرورة، كما يقال: وقفته على كلام فلان أي: عرفته إياه. وقيل أيضا: إن المعنى: وقفوا على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله بالكفار، والثواب الذي يفعله بالمؤمنين، في الاخرة، وعرفوا صحة ما أخبرهم به من الحشر والحساب.
[ 37 ]
ويجوز أن يكون المعنى: حبسوا على ربهم ينتظر بهم ما يأمرهم به، وخرج الكلام مخرج ما جرت به العاده من وقوف العبد بين يدي سيده، لما في ذلك من الفصاحة، والإفصاح بالمعنى، والتنبيه على عظم الأمر (قال) أي: يقول الله تعالى لهم، وجاء على لفظ الماضي، لأنه لتحققه كأنه واقع. وقيل: معناه تقول الملائكة لهم بأمر الله تعالى (أليس هذا بالحق) كما قالت الرسل، وهذا سؤال توبيخ وتقريع. وقوله (هذا) اشارة إلى الجزاء، والحساب، والبعث (قالوا): أي فيقول هؤلاء الكفار مقرين بذلك، مذعنين له (بلى) هو حق (وربنا) قسم ذكروه، وأكدوا اعترافهم به (قال) الله تعالى أو الملك بأمره: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي: بكفركم. وإنما قال: (ذوقوا) لأنهم في كل حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدة الإحساس، من غير أن يصيروا إلى حال من يشم بالطعام في نقصان الإدراك. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون 31 وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون 32. القراءة: قرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بلام واحدة، وجر (الآخرة) على الإضافة والباقون بلامين، ورفع (الآخرة)، وقرأ أهال المدينة، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوب، وسهل: (أفلا تعقلون) بالتاء ههنا، وفي الأعراف، ويوسف، وياسين، ووافقهم حفص إلا في ياسين، وحماد، ويحيى، عن أبي بكر، في يوسف. وقرأ الباقون جميع ذلك بالياء. الحجة: من قرأ (وللدار الاخرة) فلأن الاخرة صفة للدار، يدل على ذلك قوله: (وللآخرة خير لك من الأولى)، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)، و (تلك الدار الآخرة نجعلها). ومن أضاف دارا إلى الآخرة، لم يجعل الآخرة صفة للدار، فإن الشئ لا يضاف إلى نفسه، لكنه جعلها صفة للساعة، فكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة. وجاز وصف الساعة بالاخرة، كما وصف اليوم بالآخر، في قوله: (وارجوا اليوم الاخر).
[ 38 ]
قال أبو علي: إنما حسن إضافة الدار إلى الآخرة، ولم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام الموصوف، لأن الاخرة قد صارت كالأبطح والأبرق (1)، الا ترى أنه قد جاء (وللآخرة خير لك من الأولى) فاستعملت استعمال الأسماء، ولم يكن مثل الصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء، ومثل (الآخرة) في أنها استعملت استعمال الأسماء قولهم: الدنيا لما استعملت استعمال الأسماء، حسن أن لا يلحق لام التعريف في نحو قوله: (في سعي دنيا طال ما قد مدت). وأما وجه القراءة بالياء في (أفلا يعقلون) فهو أنه قد تقدم في ذكر الغيبة في قوله: (للذين يتقون) ووجه القراءة بألتاء أنه يصلح أن يكون خطابا متوجها إليهم، ويصلح أن يكون المراد الغيب والمخاطبون فيغلب الخطاب. اللغة: كل شئ اتى فجاءة فقد بغت، يقال بغته الأمر يبغته بغتة، قال الشاعر: ولكنهم باتوا، ولم أخش بغتة، وأفظع شئ حين يفجأك البغت (2) والحسرة: شدة الندم، حتى يحسر النادم، كما يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد. والتفريط: التقصير، وأصله التقديم. والإفراط: التقديم في مجاوزة الحد. والتفريط: التقديم في العجز والتقصير. والوزر: الثقل في اللغة، واشتقاقه من الوزر، وهو الحبل الذي يعتصم به، ومنه قيل، وزير، كأنه يعتصم الملك به، ومثله قوله تعالى (واجعل لي وزيرا من أهلي). ويزرون: يفعلون، من وزر يزر وزرا: إذا أثم. وقيل: وزر فهو موزور: إذا فعل به ذلك، ومنه الحديث في النساء يتبعن جنازة قتيل لهن (3): (إرجعن موزورات غير مأجورات). والعامة تقول: مأزورات. والعقل، والنهى، والحجى، متقاربة المعنى. فالعقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها، عن الحسن. قال الأصمعي: وبالدهناء خبراء (4) يقال له معقلة، قال: وتراها سميت معقلة لأنها تمسك الماء كما يعقل الدواء البطن، والنهى: لا يخلو أن يكون مصدرا كالهدى، أو جمعا كالظلم، وهو في معنى ثبات وحبس، ومنه النهي والتنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء، فيستنقع فيه، لتسفله، (1) لأنهما في الأصل صفتان وصارا إسمين. (2) وفي اللسان (ماتوا). الأمر الفظيع: الشديد. (3) وفي بعض المخطوطة (فقيل) بدل (قتيل). (4) الدهناء: اسم موضع. الخبراء: الصحراء. (*)
[ 39 ]
ويمنع ارتفاع ما حوله من أن يسيح على وجه الأرض. والحجى: أصله من الحجو، وهو احتباس وتمكث، قال: (فهن يعكفن به إذا حجا). وحجيت بالشئ، وتحجيت به، يهمز ولا يهمز أي: تمسكت، عن الأزهري. قال أبو علي: فكأن الحجى مصدر، كالشبع، ومن هذا الباب الحجيا للغز لتمكث الذي يلقى عليه، حتى يستخرجه. الاعراب: يقال: ما معنى الغاية في قوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة) وما عامل الإعراب فيها ؟ والجواب: إن معناها منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والعامل فيها كذبوا أي: كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة، فندموا حيث لا ينفعهم الندامة. ويقال: ما معنى دعاء الحسرة، وهي مما لا يعقل ؟ والجواب: إن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم، تقع فيه، جعلته نداء، فلفظه لفظ ما ينبه، والمنبه غيره، مثل قوله: (يا حسرة على العباد) وقوله: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)، و (يا ويلتى أألد) وهذا أبلغ من أن تقول انا أتحسن على التفريط قاله الزجاج. وقال سيبويه: إنك إذا قلت: يا عجباه فكأنك قلت أحضر وتعال يا عجب، فإنه من أزمانك، وتأويل يا حسرتاه: انتبهوا على أننا قد حسرنا، فخرج مخرج النداء للحسرة. والمعنى على النداء لغيرها، تنبيها على عظم شأنها. وقيل: إنها بمنزلة الإستغاثة فكأنه قيل: يا حسرتنا تعالي فهذا أوانك، كما يقال: يا للعجب. وقوله: (ساء ما يزرون) تقديره بئس الشئ شئ يزرونه، وقد ذكرنا عمل نعم، وبئس، فيما مضى. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار، فقال: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) يعني بلقاء ما وعد الله به من الثواب والعقاب، وجعل لقاءهم لذلك، لقاء له تعالى، مجازا، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: المراد (بلقاء): جزاء الله كما يقال للميت: لقي فلان عمله أي: لقي جزاء عمله. ونظيره: (إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه). (حتى إذا جاءتهم الساعة) أي: القيامة (بغتة) أي: فجأة من غير أن علموا وقتها (قالوا) عند معاينة ذلك اليوم وأهواله، وتباين أحوال أهل الثواب والعقاب (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) أي: على ما تركنا وضيعنا في الدنيا من تقديم أعمال الآخرة، عن ابن عباس. قيل: إن الهاء يعود إلى (الساعة)
[ 40 ]
عن الحسن، والمعنى على ما فر طنا في العمل للساعة والتقدمة لها. قيل: إن الهاء يعود إلى الجنة أي: في طلبها والعمل لها، عن السدي، يدل عليه ما رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في هذه الآية قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة، فيقولون: يا حسرتنا. وقال محمد بن جرير: الهاء يعود إلى الصفقة، لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة، ويجوز أن يكون الهاء يعود إلى معنى ما في قوله (ما فرطنا) أي: يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها، فعلى هذا الوجه يكون (ما) موصولة بمعنى الذي، وعلى الوجوه المتقدمة يكون (ما) بمعنى المصدر، ويكون تقديره على تفريطنا (وهم يحملون أوزارهم) أي: أثقال ذنوبهم (على ظهورهم). وقال ابن عباس: يريد آثامهم وخطاياهم. وقال قتادة والسدي: إن المؤمن إذا خرج من قبره، استقبله أحسن شئ صورة، وأطيبه ريحا، فيقول: أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي: ركبانا، وإن الكافر إذا خرج من قبره، استقبله أقبح شئ صورة، وأخبثه ريحا، فيقول: أنا عملك السئ، طال ما ركبتني في الدنيا، فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم). وقال الزجاج: هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب، بمنزلة أثقل ما يحمل، لأن الثقل كما يستعمل في الوزن، يستعمل في الحال أيضا، كما تقول: ثقل علي خطاب فلان، ومعناه: كرهت خطابه كراهة اشتدت علي، فعلى هذا يكون المعنى: إنهم يقاسون عذاب آثامهم، مقاساة تثقل عليهم، ولا تزايلهم، وإلى هذا المعنى اشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم). (ألا ساء ما يزرون) أي: بئس الحمل حملهم، عن ابن عباس. وقيل: معناه ساء ما ينالهم جزاء لذنوبهم وأعمالهم السيئة، إذ كان ذلك عذابا ونكالا. ثم رد عليهم قولهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا) وبين سبحانه أن ما يتمتع به من الدنيا يزول ويبيد فقال: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) أي: باطل وغرور، إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الاخرة، وإنما عنى بالحياة الدنيا أعمال الدنيا، لأن نفس الدنيا لا توصف باللعب، وما فيه رضا الله من عمل الآخرة لا يوصف به أيضا، لأن اللعب ما
[ 41 ]
لا يعقب نفعا، واللهو ما يصرف من الجد إلى الهزل، وهذا إنما يتصور في المعاصي. وقيل: المراد باللعب واللهو: إن الحياة تنقضي وتفنى، ولا تبقى، فتكون لذة فانية عن قريب، كاللعب واللهو. (وللدار الأخرة) وما فيها من أ نواع النعيم والجنان (خير للذين يتقون) معاصي الله، لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها، ولا يذهب عنهم سرورها. (أفلا تعقلون) أن ذلك كما وصف لهم، فيزهدوا في شهوات الدنيا، ويرغبوا في نعيم الاخرة، ويفعلوا ما يؤديهم إلى ذلك من الأعمال الصالحة. وفي هذه الاية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا،، وتقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها، ولم يعملوا لغيرها. قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بأيات الله يجحدون 33 ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذروا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإي المرسلين. 34 القراءة: قرأ نافع (ليحزنك) بضم الياء وكسر الزاي. والباقون (يحزنك) بفتح الياء وضم الزاي. وقرأ نافع، والكسائي، والأعشى، عن أبي بكر (لا يكذبونك) خفيف، وهو قراءه علي عليه السلام، والمروي عن جعفر الصادق عليه السلام. والباقون (يكذبونك) بفتح الكاف والتشديد. الحجة: قال أبو علي: قال سيبويه، قالوا: حزن الرجل، وحزنته، وزعم الخليل أنك حيث تقول: حزنته، لم ترد أن تقول جعلته حزينا، كما أنك حيث قلت: أدخلته، أردت: جعلته داخلا، ولكنك أردت أن تقول: جعلت فيه حزنا، كما تقول كحلته: جعلت فيه كحلا، ودهنته: جعلت فيه دهنا، ولم ترد بفعلته هنا تعدي قوله حزن. ولو أردت ذلك لقلت: أحزنته. وحجة نافع إنه أراد أن يعدي حزن، فنقله بالهمزة، والإستعمال في حزنته أكثر منه في أحزنته فإلى كثرة الإستعمال ذهب عامة القراء. وأما قوله (يكذبونك) فمن ثقل فهو من فعلته، إذا نسبته إلى
[ 42 ]
الفعل، مثل زنيته، وفسقته، نسبته إلى الزنا والفسق. وقد جاء في هذا المعنى أفعلته: قالوا أسقيته أي: قلت له سقاك الله، قال ذو الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه (1) تكلمني أحجاره وملاعبه فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا، ويجوز أن يكون (لا يكذبونك) أي: لا يصادفونك كاذبا، كما تقول أحمدته: إذا أصبته محمودا، ويدل على الوجه الأول، قول الكميت: وطائفة قد أكفرتني بحبكم، وطائفة قالت: مسئ ومذنب أي: نسبتني إلى الكفر. قال أحمد بن يحيى: كان الكسائي يحكي عن العرب: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاءك بكذب، وكذبته: إذا أخبرت أنه كاذب. المعنى: ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه واله وسلم على تكذيبهم إياه، بعد إقامة الحجة عليهم، فقال: (قد نعلم) نحن يا محمد (إنه ليحزنك الذي يقولون) أي: ما يقولون إنك شاعر، أو مجنون، وأشباه ذلك (فإنهم لا يكذبونك): دخلت الفاء في إنهم لأن الكلام الأول يقتضيه، كأنه قيل: إذا كان قد يحزنك قولهم، فاعلم أنهم لا يكذبونك. واختلف في معناه على وجوه أحدها: إن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا، وهو قول أكثر المفسرين، عن أبي صالح، وقتادة، والسدي، وغيرهم، قالوا: يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله،. ولكن يجحدون بعد المعرفة، ويشهد لهذا الوجه ما روى سلام بن مسكين، عن أبي يزيد المدني، أن رسول إلله صلى الله عليه واله وسلم لقي أبا جهل، فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: والله إني لأعلم أنه صادق، ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف فأنزل الله هذه الاية. وقال السدي: التقى أخنس بن شريق، وأبو جهك بن هشام، فقال له: يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ههنا أحد غيري وغيرك (1) قوله اسقيه أي اقول له سقاك الله وأبث فلانا الخبر: أطلعه عليه. (*)
[ 43 ]
يسمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل. ويحك ! والله إن محمدا لصادق، وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والحجابة، والسقاية، والندوة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش ؟ وثانيها: إن المعنى: لا يكذبونك بحجة، ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان، ويدل عليه ما روي عن علي عليه السلام أنه كان يقرأ: (لا يكذبونك) ويقول: إن المراد بها إنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك وثالثها إن المراد لا يصادفونك كاذبا، تقول العرب قاتلناكم فما أجبناكم أي: ما أصبناكم جبناء، قال الأعشى: أثوى وقصر ليلة ليزودا فمضى، وأحلف من قتيلة موعدا (1) أراد: صادف منها خلف الوعد، وقال ذو الرمة: تريك بياض لبتها، ووجها كقرن الشمس أفتق ثم زالا 2) أي: وجد فتقا من السحاب. ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف دون التشديد، لأن أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع، وأفعلت هو الأصل فيه، ثم يشدد تأكيدا مثل: أكرمت وكرمت، وأعظمت وعظمت، إلآ أن التخفيف أشبه بهذا الوجه. ورابعها: إن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به، لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا، وإنما يدفعون ما أتيت به، ويقصدون التكذيب بآيات الله. ويقوي هذا الوجه قوله: (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) قوله: (وكذب به قومك وهو الحق) ولم يقل وكذبك قومك وما روي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه واله وسلم ما نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نتهم الذي جئت به ونكذبه. وخامسها: إن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني، فإن تكذيبك راجع إلي، ولست مختصا به، لأنك رسول الله، فمن رد عليك فقد رد علي، ومن كذبك فقد كذبني، وذلك تسلية منه سبحانه للنبي صلى الله عليه واله وسلم. وقوله: (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) أي بالقرآن والمعجزات يجحدون بغير حجة، سفها وجهلا، وعنادا. ودخلت الباء في (بايات الله) (1) أثوى بالمكان: أقام، وقتيلة: امرأة. وقوله: فمضى الضمير فيه يعود إلى العاشق. وفي اللسان (فمضت) أي: مضت الليلة. (2) اللبة: موضع القلادة من الصدر. وقرن الشمس: أول ما يبدو منها. (*)
[ 44 ]
والجحد يتعدى بغير الجار والمجرور، لأن معناه هنا التكذيب أي: يكذبون بآيات الله. وقال أبو علي: الباء تتعلق بالظالمين، والمعنى: ولكن الظالمين برد آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، ومثله قوله سبحانه: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) أي ظلموا بردها، أو الكفر بها، ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه صلى الله عليه واله وسلم بقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) أي: صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة. (حتى أتاهم): جاءهم. (نصرنا) إياهم على المكذبين. وهذا أ مر منه سبحانه، لنبيه صلى الله عليه واله وسلم بالصبر على كفار قومه، إلى أن يأتيه النصر، كما صبرت الأنبياء (ولا مبدل لكلمات الله) معناه: لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله على الحقيقة، ولا على إخلاف وعده، وإن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار، فلا بد من كونه لا محالة، وما وعدك به من نصره، فلا بد من حصوله، لأنه لا يجوز الكذب في إخباره، ولا الخلف في وعده. وقال الكلبي وعكرمة: يعني بكلمات الله: الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء، نحو قوله: (كتب الله لأغلبن انا ورسلي) وقوله: (إنهم لهم المنصورون). (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) أي:. خبرهم في القران كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم. قال الأخفش: (من) هاهنا صلة مزيدة، كما تقول: أصابنا من مطر أي: مطر. وقال غيره من النحويين: لا يجوز ذلك، لأن (من) لا تزاد في الإيجاب، وإنما تزاد في النفي، و (من) هنا للتبعيض، وفاعل جاء مضمر، يدل المذكور عليه، وتقديره: ولقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ، فيكون المعنى أنه أخبره عليه وآله السلام، ببعض أخبارهم، على حسب ما علم من المصالح، ويؤيد ذلك قوله: (ومنهم من لم نقصص عليك). وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بأية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين 35 إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون
[ 45 ]
36 وقالوا لولا نزل عليه إية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون 37. اللغة: النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، وأصله الخروج، ومنه المنافق لخروجه من الإيمان إلى الكفر، ومنه النفقة لخروجها من اليد. والسلم: الدرج وهو مأخوذ من السلامة. قال الزجاج: لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. والإستجابة من الجوب وهو القطع. وهل عندك جائبة خبر أي: تجوب البلاد، والفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب فيه قبول لما دعي إليه، وليس كذلك يجيب لأنه يجوز أن يجيب بالمخالفة، كما أن السائل يقول: أتوافق في هذا المذهب أم تخالف ؟ فيقول المجيب: أخالف عن علي بن عيسى. وقيل إن أجاب واستجاب بمعنى. الاعراب: جواب (إن) محذوف، وتقديره إن استطعت ذلك فافعل. قال الفراء: وإنما تفعله العرب في كل موضع يعرف فيه معنى الجواب، ألا ترى أنك تقول للرجل: إن استطعت أن تتصدق إن رأيت أن تقوم معنا، فتترك الجواب للمعرفة به، فإذا قلت: إن تقم تصب خيرا، فلا بد من الجواب، لأن معناه لا يعرف إذا طرح الجواب. المعنى: ثم بين سبحانه أن هؤلاء الكفار لا يؤمنون، فقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه واله وسلم: (وإن كان كبر) أي: عظم واشتد (عليك إعراضهم) وانصرافهم عن الإيمان، وقبول دينك، وامتناعهم من اتباعك وتصديقك (فإن استطعت) أي: قدرت وتهيأ لك (أن تبتغي) أي: تطلب وتتخذ (نفقا في الأرض) أي: سربا ومسكنا في جوف الأرض (أو سلما) أي: مصعدا (في السماء). ودرجا (تأتيهم بآية) أي: حجة تلجئهم إلى الإيمان، وتجمعهم على ترك الكفر، فافعل ذلك. وقيل: فتأتيهم بآية أفضل مما اتيناهم به فافعل، عن ابن عباس. يريد لا اية أفضل وأظهر من ذلك. (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) بالإلجاء وإنما أخبر، عز اسمه، عن كمال قدرته، وأنه لو شاء لألجأهم إلى الإيمان، ولم يفعل ذلك، لأنه ينافي التكليف، ويسقط استحقاق الثواب الذي هو الغرض با لتكليف، وليس في الآية أنه
[ 46 ]
سبحانه لا يشاء منهم أن يؤمنوا مختارين، أو لا يشاء أن يفعل ما يؤمنون عنده مختارين، وإنما نفى المشيئة لما يلجئهم إلى الإيمان، ليتبين أن الكفار لم يغلبوه بكفرهم، فإنه لو أراد أن يحول بينهم وبين الكفر لفعل، لكنه يريد أن يكون إيمانهم على الوجه الذي يستحق به الثواب، ولا ينافي التكليف. (فلا تكونن من الجاهلين) قيل: معناه فلا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم، عن الجبائي. إن هذا نفي للجهل عنه، أي: لا تكن جاهلا بعد أن أتاك العلم بأحوالهم، وأنهم لا يؤمنون. والمراد: فلا تجزع، ولا تتحسر لكفرهم وإعراضهم عن الإيمان، وغلظ الخطاب تبعيدا وزجرا عن هذه الحال. ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله لا يجتمع هؤلاء الكفار على الايمان فقال: (إنما يستجيب الذين يسمعون) ومعناه: إنما يستجيب إلى الإيمان بألله وما أنزل إليك من يسمع كلامك، ويصغي إليك، وإلى ما تقرأه عليه من القرآن، ويتفكر في آياتك، فإن من لم يتفكر ولم يستدل بالآيات، بمنزلة من لم يسمع كما قيل: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وقال الآخر (أصم عما ساءه سميع) (والموتى يبعثهم الله) يريد: إن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار، ولا يتدبرون فيما تقرأه عليهم، وتبينه لهم من الأيات والحجج، بمنزلة الموتى، فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله، فكذلك فآيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك، وتقديره: إنما يستجيب المؤمن السامع للحق، فأما الكافر فهو بمنزلة الميت، فلا يجيب إلى أن يبعثه الله يوم القيامة، فيلجئه إلى الإيمان، وقيل: معناه إنما يستجيب من كان قلبه حيا، فأما من كان قلبه ميتا فلا. ثم وصف الموتى بأنه يبعثهم، ويحكم فيهم (ثم إليه) أي: إلى حكمه (يرجعون) وقيل: معناه يبعثهم الله من القبور، ثم يرجعون إلى موقف الحساب. ثم عاد سبحانه إلى حكاية أقوال الكفار، فقال عاطفا على ما تقدم (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) هذا إخبار عن رؤساء قريش لما عجزوا من معارضته فيما أتى به من القرآن، اقترحوا عليه مثل آيات الأولين، كعصا موسى، وناقة ثمود، فقال سبحانه في موضع آخر (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) وقال ههنا: (قل) يا محمد
[ 47 ]
(إن الله قادر على أن ينزل آية) أي: آية تجمعهم على هدى، عن الزجاج، وقيل: آية كما يسألونها. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما في إنزالها من وجوب الإستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها، وما في الإقتصار بهم على ما أوتوه من الأيات من المصلحة. وقيل: معناه ولكن أكثرهم لا يعلمون أن فيما أنزلنا من الأيات مقنعا وكفاية لمن نظر وتدبر. وقد اعترضت الملحدة على المسلمين بهذه الاية فقالوا: إنها تدل على أن الله تعالى لم ينزل على محمد آية، إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إياها ! فيقال لهم: قد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة، وتلك لم يؤتوها، لأن المصلحة منعت عن ايتائها، وقد أنزل الآيات الدالة على نبوته من القرآن، واتاهم من المعجزات الباهرة التي شاهدوها، ما لو نظروا فيها، أو في بعضها، حق النظر، لعرفوا صدقه، وصحة نبوته وقد بين في آية اخرى، أنه لو أنزل عليهم ما التمسوه، لم يؤمنوا فقال: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) إلى قوله: (ما كانوا ليؤمنوا)، وفي موضع آخر (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الأيات عند الله) يعني في قدرة الله، ينزل منها ما يشاء، ويسقط ما اعترضوا به. وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون 38 والذين كذبوا بأياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم 39. اللغة: الدابة: كل ما يدب من الحيوان، وأصله الصفة من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو. والدبوب والديبوب: النمام. وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديبوب، ولا قلاع)، فالديبوب: النمام لأنه يدب بالنميمة والقلاع: الواشي بالرجل ليقتلعه. قال الأزهري: تصغير الدابة دويبة، الباء مخففة، وفيها إشمام الكسر. وفي الحديث: " أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب " (1) (1) الحوأب: منزل بين مكة والبصرة، وهو الذي نزلت فيه عائشة، لما جاءت إلى البصرة في وقعة الجمل، فنبحتها كلابه.
[ 48 ]
أراد: الأدب، فأظهر التضعيف، وهو الكثير الوبر. وقد دب يدب دبيبا. والجناح: إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء، وأصله: الميل إلى ناحية. الاعراب: (من) مزيدة، وتأويله وما دابة، ويجوز في غير القرآن. (ولا طائر) بالرفع، عطفا على موضع من دابة، وقوله (من شئ): من زائدة أيضا، وتفيد التعميم أي: ما فرطنا شيئا ما. و (صم)، و (بكم): كلاهما خبر (الذين) كقولهم: هذا حلو حامض، ودخول الواو لا يمنع من ذلك فإنه بمنزلة قولك: صم بكم. المعنى: لما بين سبحانه أنه قادر أن ينزل آية، عقبه بذكر ما يدال على كمال قدرته، وحسن تدبيره وحكمته، فقال: (وما من دابة في الأرض) أي: ما من حيوان يمشي على وجه الأرض (ولا طائر يطير بجناحيه) جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يطير بجناحيه، أو يدب. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (يطير بجناحيه)، وقد علم أن الطير لا يطير إلا بالجناح ؟ فالجواب: إن هذا إنما جاء للتوكيد، ورفع اللبس، لأن القائل قد يقول: طر في حاجتي أي: أسرع فيها، وقال الشاعر: قوم إذا الشرأبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا (1) وأنشد سيبويه فطرت بمنصلي في يعملات ودوامي الأيد يخبطن السريحا (2) وقيل: إنما قال (بجناحيه) لأن السمك تطير في الماء، ولا أجنحة لها، وإنما خرج السمك عن الطائر، لأنه من دواب البحر، وإنما أراد سبحانه ما في الأرض وما في الجو. (إلا أمم) أي: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير، عن مجاهد (أمثالكم) قيل: إنه يريد أشباهكم في إبداع (1) الزرافات: الجماعات. (2) المنصل: السيف. اليعملات جمع اليعملة: الناقة النجيبة الطبوعة على العمل والدوامي جمع الدامية: التي تسيل دمها. والخبط في الدواب: الضرب بالايدي دون الأرجل. والسريح: جلود تشدد على أخفاف النوق. (*)
[ 49 ]
الله إياها، وخلقه لها، ودلالتها على أ ن لها صانعا. وقيل: إنما مثلت الأمم من غير الناس بالناس، في الحاجة إلى مدبر يدبرهم، في أغذيتهم، وأكلهم ولباسهم، ونومهم، ويقظتهم، وهدايتهم إلى مراشدهم، إلى ما لا يحصى كثرة من أحوالهم، ومصالحهم، وأنهم يموتون، ويحشرون. وبين بهذه الآية أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شئ منها، فإن الله خالقها وا المنتصف لها. (ما فرطنا في الكتاب من شئ) أي: ما تركنا. وقيل: معناه ما قصرنا واختلف في معنى الكتاب على أقوال أحدها: إنه يريد بالكتاب القرآن، لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا، إما مجملا، وإما مفصلا. والمجمل قد بينه على لسان نبيه صلى الله عليه واله وسلم، وأمرنا باتباعه في قوله: (ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا). وهذا مثل قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ). ويروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه، يعني الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة - فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن، ثم أتته وقالت: يا ابن أم عبد ! تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة ! فقال: لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى (ما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وإن مما أتانا رسول الله أن قال: (لعن الله الواشمة والمستوشمة). وهو قول، أكثر المفسرين، وهذا القول اختيار البلخي. وثانيها: إن المراد بالكتاب ههنا الكتاب الذي هو عند الله، عز وجل، المشتمل على ما كان ويكون، وهو اللوح المحفوظ، وفيه آجال الحيوان، وأرزاقه، واثاره، ليعلم ابن آدم أن عمله أولى بالإحصاء والإستقصاء، عن الحسن. وثالثها: إن المراد بالكتاب الأجل أي: ما تركنا شيئا إلا وقد أوحينا له أجلا، ثم يحشرون جميعا، عن أبي مسلم وهذا الوجه بعيد. (ثم إلى ربهم يحشرون) معناه: يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة، كما يحشر العباد، فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض منها، وينتصف لبعضها من بعض، وفيما رووه عن أبي هريرة أنه قال: يحشر الله الخلق يوم القيامة: البهائم والدواب والطير، وكل شئ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء (1) من (1) الجماء: التي لا قرن لها. (*)
[ 50 ]
القرناء، ثم يقول. كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذ انتطحت عنزان (1)، فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: أتدرون فيما انتطحا ؟ فقالوا: لا ندري. قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما. وعلى هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر والإقتصاص، واختاره الزجاج، فقال: يعني (أمثالكم) في أنهم يبعثون ويؤيده قوله: (وإذا الوحوش حشرت) ومعنى (إلى ربهم) إلى حيث لا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى، إذ لم يمكن منه كما مكن في الدنيا. واستدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الاية على أن البهائم والطيور مكلفة لقوله (أمم أمثالكم): وهذا باطل، لأنا قد بينا أنها من أي وجه تكون أمثالنا، ولو وجب حمل ذلك على العموم، لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا وهيآتنا وخلقتنا وأخلاقنا، وكيف يصح تكليف البهائم، وهي غير عاقلة، والتكليف لا يصح إلا مع العقل. (والذين كذبوا بآياتنا) أي: بالقرآن. وقيل: بسائر الحجج والبينات (صم وبكم) قد بينا معناهما في سورة البقرة (في الظلمات) أي: في ظلمات الكفر والجهل لا يهتدون إلى شئ من منافع الدين، وقيل: أراد صم وبكم في الظلمات الآخرة على الحقيقة، عقابا لهم على كفرهم، لأنه ذكرهم عند ذكر الحشر، عن أبي علي الجبائي (من يشأ الله يضلله) هذا مجمل قد بينه في قوله (وما يضل به إلا الفاسقين ويضل الله الظالمين والذين اهتدوا زادهم هدى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) والمعنى: من يشأ الله يخذله بأن يمنعه ألطافه وفوائده، وذلك إذا واتر عليه الأدلة، وأوضح له الحجج، فأعرض عنها، ولم ينعم النظر فيها، ويجوز أن يريد: من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة، ونيل ثوابها، يضلله عنه (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) أي: ومن يشأ أن يرحمه ويهديه إلى الجنة، يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة. (1) انتطح الكبشان: نطح أحدهما الآخر أي: أ صابه بقرنه. (*)
[ 51 ]
قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أوأتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين 40 بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون 41. القراءة: قرأ أهل المدينة أرأيتكم، وأرأيتم، وأرأيت وأشباه ذلك بتخفيف الهمزة كل القرآن، وقرأ الكسائي وحده: أريتكم وأريت وأريتم كل القرآن بترك الهمزة. وقرأ الباقون بالهمز في الجميع كل القرآن. الحجة: قالى أبو علي: من حقق الهمزة، فوجه قراءته بين، لأنه فعلت من الرؤية، فالهمزة عين الفعل. ومن قرأ بألف في كل القران من غير همز على مقدار ذوق الهمزة، فإنه يجعل الهمزة بين بين، أي: بين الألف والهمزة. وأما الكسائي فإنه حذف الهمزة حذفا، ألا ترى ان التخفيف القياسي فيها، أن تجعل بين بين. وهذا حذف الهمزة كما قالوا: ويلمه (ا)، وكما أنشد أحمد بن يحيى (إن لم أقاتل فالبسوني برقعا) (2). وكقول أبي الأسود: " يابا المغيرة رب أمر معضل " ومما جاء على ذلك، قول الآخر: أريت إن جئت به أملودا مرجلا ويلبس البرودا (3) ومما يقوي ذلك، قول الشاعر: ومن رى مثل معدان بن ليلى إذاما النسع طال على المطية (4) الاعراب: (أرأيتكم): الكاف فيه للخطاب مجردا، ومعنى الإسم مخلوع عنه، لأنه لو كان اسما، لوجب أن يكون الإسم الذي بعده في قوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي، وأرأيتك زيدا ما صنع، هو الكاف في المعنى، لأن رأيت يتعدى (1) مخفف ويل أمه. (2) والمشاهد في حذف همزة فالبسوني. (3) الأملود: الناعم اللين. والمرجل: الذي شعره ببن الجعودة والسبوطة. والبرود جمع البرد بالضم. (4) النسع بالكسر: سير أو حبل عريض طويل نشد به الرحال. (*)
[ 52 ]
إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى، وقد علمنا أنه ليس الكاف في المعنى. وإذا لم يكن إسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الإسمية، كالكاف في ذلك وهنالك وكالتاء في أنت. وإذا ثبت أنه للخطاب، فالتاء في أرأيت لا يجوز أن يكون للخطاب، لأنه لا يجوز أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب، كما لا يلحقها علامتان للتأنيث، ولا علامتان للإستفهام. فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال، لما كان الفعل لا بد له من فاعل، وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد، لأن ما يلحق الكاف من معنى الخطاب، يبين الفاعلين، فيخصص التأنيث من التذكير، والتثنية من الجمع، ولو لحق علامة التأنيث والجمع التاء، لاجتمعت علامتان للخطاب: ما يلحق التاء، وما يلحق الكاف، فكان يؤدي إلى ما لا نظير له، فرفض، وهذا من كلام أبي علي الفارسي. وجواب (إن) من قوله (إن أتاكم عذاب الله) الفعل الذي دخل عليه حرف الإستفهام، كما تقول: إن أتاك زيد أتكرمه ؟ وموضع (إن) وجوابه نصب لأنه في موضع مفعولي رأيت. وقوله: (إن كنتم صادقين) جوأبه محذوف يدل عليه قوله (أرأيتكم)، لأنه في معنى أخبروا، فكأنه قال: إن كنتم صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه بمحاجة الكفار فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) في الدنيا، كما نزل بالأمم قبلكم، مثل عاد وثمود (أو أتتكم الساعة) أي: القيامة. قال الزجاج: الساعة إسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، واسم للوقت الذي يبعث فيه العباد. والمعنى: أو أتتكم الساعة التي وعدتم فيها بالبعث والفناء، لأن قبل البعث يموت الخلق كلهم. (أغير الله تدعون) أي: أتدعون فيها لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها ولا غيرها، أو تدعون الله الذي هو خالقكم ومالككم لكشف ذلك عنكم (إن كنتم صادقين) في أن هذه الأوثان آلهة لكم. أحتج سبحانه عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ثم قال (بل إياه تدعون) و (بل) استدراك وإيجاب بعد نفي. أعلمهم الله تعالى أنهم إذا لحقتهم
[ 53 ]
الشدائد في البحار، والبراري، والقفار، يتضرعون إليه، ويقبلون عليه، والمعنى: لا تدعون غيره بل تدعونه. (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) أي: يكشف الضر الذي من أجله دعوتم، إن شاء أن يكشفه (وتنسون ما تشركون) أي: تتركون دعاء ما تشركون من دون الله، لأنه ليس عندهم ضرر ولا نفع، عن ابن عباس. ويكون العائد إلى الموصول محذوفا، للعلم على تقدير ما تشركون به. وقيل: معناه إنكم في ترككم دعاءهم، بمنزلة من قد نسيهم، عن الزجاج، وهو قول الحسن، لأنه قال: تعرضون عنه إعراض الناسي أي: لليأس في النجاة من مثله، وبجوز أن يكون (ما) مع (تشركون) بمنزلة المصدر، فيكون بمنزلة وتنسون شرككم. ولقد ارسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون 42 فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون 43 فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 44 فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين 45. القراءة: قرأ أبو جعفر: (فتحنا) بالتشديد في جميع القرآن، ووافقه ابن عامر إلا قوله: (لو فتحنا عليهم بابا)، و (حتى إذا فتحنا عليهم بابا) فإنه خففهما، ووافقهما يعقوب في القمر. وقر أ الباقون في جميع ذلك بالتخفيف، إلا مواضع قد اختلفوا فيها سنذكرها إن شاء الله، إذا بلغنا إلى مواضعها. الحجة: من ثقل: أراد التكثير والمبالغة، ومن خفف لم يرد ذلك. اللغة: البأساء: من البأس والخوف، والضراء: من الضر. وقد يكون البأساء من البؤس ؟ والتضرع: التذلل. يقال ضرع فلان لفلان: إذا بخع له وسأله أن يعطيه. والملبس: الشديد الحسرة، ؟ وقال الفراء الملبس: ا لمنقطع الحجة، قال رؤية:
[ 54 ]
وحضرت يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس دابر القوم: الذي يدبرهم، ويدبرهم لغتان: وهو الذي يتلوهم من خلفهم ويأتي على أعقابهم، وأنشد: آل المهلب جز الله دابرهم أضحوا رمادا فلا أصل ولا طرف وقال الأصمعي: الدابر: الأصل، يقال قطع الله دابره أي: أصله، وأنشد: فدى لكما رجلي، ورحلي، وناقتي غداة الكلاب إذ تجز الدوابر أي: يقتل القوم، فتذهب أصولهم، فلا يبقى لهم أثر. وقال غيره دابر الأمر آخره. وروي عن عبد الله أنه قال: (من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا " بضم الدال: يعني في آخر الوقت، كذا يقول أصحاب الحديث. قال أبو زيد: الصواب دبريا بفتح الدال والباء. الاعراب: (لولا) للتحضيض، ولا يدخل إلا على الفعل، ومعناه: هلا تضرعوا. (ولكن قست قلوبهم): معطوف على تأويل الكلام الأول، فإن في قوله: " هلا تضرعوا) دلالة على أنهم لم يتضرعوا. وقوله (بغتة): مصدر وقع موقع الحال أي: أخذناهم مباغتين. المعنى: ثم أعلم الله سبحانه نبيه، حال الأمم الماضية في مخالفة رسله، وبين أن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة، كحالهم في نزول العذاب بهم، فقال: (ولقد أرسلنا) وهاهنا محذوف وتقديره: رسلا، (إلى أمم من قبلك) فخالفوهم (فاخذناهم) وحسن الحذف للإيجاز به، والإختصار من غير إخلال، لدلالة مفهوم الكلام عليه (بالبأساء والضراء) يريد به: الفقر، والبؤس، والأسقام، والأوجاع، عن ابن عباس، والحسن. (لعلهم يتضرعون) ومعناه: لكي يتضرعوا. وقال الزجاج: (لعل) ترج وهذا الترجي للعباد، المعنى: فأخذناهم بذلك، ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع، كما قال في قصة فرعون: (لعله يتذكر أو يخشى). قال سيبويه: المعنى إذهبا أنتما على رجائكما، فالله عالم بما يكون من وراء. ذلك، أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم، ليخضعوا ويذلوا لأمر الله، فلم يخضعوا ولم يتضرعوا،
[ 55 ]
وهذا كالتسلية للنبي صلى الله عليه واله وسلم. (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) معناه: فهلا تضرعو ا إذ جاءهم بأسنا، (ولكن قست قلوبهم) فأقاموا على كفرهم، فلم تنجع فيهم العظة، (وزين لهم الشيطان) بالوسوسة، والإغراء بالمعصية، لما فيها من عاجل اللذة، (ما كانوا يعملون) يعني: أعمالهم. وفي هذا حجة على من قال: ان الله لم يرد من الكافرين الإيمان، لأنه سبحانه بين أنه إنما فعل ذلك بهم ليتضرعوا، وبين أن الشيطان هو الذي زين الكفر للكافر، بخلاف ما قالته المجبرة من أنه تعالى هو المزين لهم ذلك. (فلما نسوا ما ذكروا به) أي: تركوا ما وعظوا به، عن ابن عباس، وتأويله: تركوا العمل بذلك، وقيل: تركوا ما دعاهم إليه الرسل، عن مقاتل (فتحنا عليهم أبواب كل شئ) أي: كل نعمة وبركة من السماء والأرض، عن ابن عباس. وقيل: أبواب كل شئ كان مغلقا عنهم، من الخير، عن مقاتل. والمعنى أنه تعالى امتحنهم بالشدائد، لكي يتضرعوا ويتوبوا، فلما تركوا ذلك، فتح عليهم أبواب النعم والتوسعة في الرزق، ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة. وإنما فعل ذلك بهم، وإن كان الموضع موضع العقوبة والإنتقام، دون الإكرام والإنعام، ليدعوهم ذلك إلى الطاعة، فإن الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف، وتارة باللطف، أ ولتشديد العقوبة عليهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم. (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) من النعيم واشتغلوا بالتلذذ، وأظهروا السرور بما أعطوه، ولم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه (أخذناهم) أي: أحللنا بهم العقوبة (بغتة) أي: مفاجأة من حيث لا يشعرون (فإذا هم مبلسون) أي: آيسون من النجاة والرحمة، عن ابن عباس. وقيل: أذلة خاضعون عن البلخي. وقيل: متحيرون منقطعو الحجة، والمعاني متقاربة والمراد بقوله (أبواب كل شئ) التكثير والتفخيم دون التعميم، وهو مثل قوله: (وأوتيت من كل شئ) والمراد: فتحنا عليهم أبواب أشياء كثيرة، وآتيناهم خيرا كثيرا، وروي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي، فإن ذلك استدراج منه ثم تلا هذه الآية، ونحوه ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم ! إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمه فاحذره. (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) معناه: فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب، فلم
[ 56 ]
يبق لهم عقب ولا نسل (والحمد لله رب العالمين) على إهلاك أعدائه وإعلاء كلمة رسله، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شأفتهم (1)، وقطع دابرهم، لأنه سبحانه أرسل إليهم، وأنظرهم بعد كفرهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، واختبرهم بالمحنة والبلاء، ثم بالنعمة والرخاء، وبالغ في الإنذار والإمهال والإنظار، فهو المحمود على كل حال. وفي هذا تعليم للمؤمنين ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الظالمين، ودلالة على أن هلاكهم نعمة من الله تعالى يجب حمده عليها. وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المقري. عن فضيل بن عياض، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الورع، فقال: الورع هو الذي يتورع عن محارم الله، ويجتنب هؤلاء، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام، وهو لا يعرفه، وإذا رأى المنكر ولم ينكره، وهو يقدر عليه، فقد أحب أن يعصى الله، ومن احب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة، ومن أحب بقاء الظالمين، فقد أحب أن يعصى الله، وان الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين، فقال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين). قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من أله غير الله يأتيكم انظر كيف نصرف الأيات ثم هم يصدفون 46 قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أوجهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون 47 وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 48 والذين كذبوا بأياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون 49. اللغة: صدف عن الشئ صدوفآ: إذا مال عنه، والصدف والصدفة: الجانب والناحية، والصدف كل بناء مرتفع. وفي الحديث: (كان صلى الله عليه واله وسلم إذا مر بصدف مائل، أسرع المشي). (1) استأصل شأفته: أزاله من أصله. (*)
[ 57 ]
الاعراب: (من إله) مبتدأ وخبر و (غير) صفة إله، وهذه الجملة في موضع مفعولي (أرأيتم) و (من) استفهام علق الفعل الذي هو (أرأيتم) فلم يعمل في مفعوليه لفظا، وقوله (إن أخذ الله سمعكم) جوابه محذوف، وتقديره فمن يأتيكم به إلا أنه أغنى عنه قوله (من إله غير الله يأتيكم به) الذي هو مفعول (أرأيتم) في المعنى. وموضع الشرط وجوابه نصب على الحال، كما تقول: لأضربنه إن ذهب أو مكث، فإن قولك إن ذهب أو مكث، وقع موقع ذاهبا أو ماكثا، وتقديره مقدرا ذهابه أو مكثه. ويدل على أنه في موضع الحال مشابهته المفرد في أنه لا يستقل بنفسه كما تستقل الجمل، وإن كان جملة في المعنى، فإنه بدخول حرف الشرط قد صار بمنزلة المفرد في الحاجة إلى ما يستند إليه، كما احتاج المفرد. ويدل على قوة اتصاله بما قبله حاجته إلى ما قبله، كما احتاج ما وقع موقعه إلى ما قبله، وليس شئ من الفضلات يقع من الجملة موقعه غير الحال فثبت أنه في موضع منصوب هو حال. فإن قيل: إن الجزاء مقدر، والشرط المذكور في اللفظ مع الجزاء كلام مستقل، وإنما كان هذا الإستدلال يسوغ لو كان الجزاء غير مقدر: قيل: الجزاء وإن كان مقدرا لا حكم له، لأنه لا يجوز إظهاره، وإنما هو شئ يثبت من جهة التقدير، فضعف أمره، ولو جاز إظهاره لكان في موضع الحال، وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي، ذكره في القصريات مع كلام كثير في معناه قد دقق فيه، ولم يسبق إليه وقوله (يأتيكم به) في موضع رفع بأنه صفة (إله). المعنى: ثم زاد سبحانه في الإحتجاج عليهم فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) أي: ذهب بهما فصرتم صما عميا (وختم على قلوبكم) أي: طبع عليها. وقيل: ذهب بعقولكم، وسلب عنكم التمييز، حتى لا تفهمون شيئا وإنما خص هذه الأشياء بالذكر، لأن بها تتم النعمة دينا ودنيا (من إله غير الله يأتيكم به) قال الزجاج: هذه الهاء تعود إلى معنى الفعل، المعنى من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم، قال: ويجوز أن يكون عائدا إلى السمع، ويكون ما عطف على السمع داخلا في القصة معه، إذا كان معطوفا عليه، قال ابن عباس: يريد لا يقدر هؤلاء الذين يعبدون أن يجعلوا لكم أسماعا، وأبصارا، وقلوبا، تعقلون بها، وتفهمون، أي: إن أخذها الله منكم، فمن يردها عليكم ؟ بين سبحانه بهذا أنه كما لا يقدر على ذلك غير الله، فكذلك يجب أن لا تعبدوا سواه.
[ 58 ]
(أنظر كيف نصرف الايات) أي: نبين لهم في القران الايات، عن الكلبي، وقيل: تصريف الآيات توجيهها في الجهات التي يظهرها أتم الإظهار، ومرة في جهة النعمة، ومرة في جهة الشدة. وقيل: تصريف الآيات: احداثها دالة على وجوه، كما أن الآية المعجزة تدل على فاعلها، وعلى قدرته، وعلمه، وعلى نبوة النبي صلى الله عليه واله وسلم، وصدقه. (ثم هم) أي الكفار (يصدفون) أي: يعرضون عن تأمل الآيات والفكر فيها. وقيل: إعراضهم عنها كفرهم بها، وإنما قال: (أنظر) لأنه تعالى عجب أولا من تتابع نعمه عليهم، وضروب دلائله من تصريف الآيات، وأسباب الإعتبار، ثم عجب ثانيا من إعراضهم عنها، ثم زاد تعالى في الحجاج فقال: (قل أرأيتكم) أي: أعلمتم (إن أتاكم عذاب الله) أي: عذبكم الله بعد إعذاره عليكم، وإرساله الرسل (بغتة) أي: مفاجأة (أو جهرة) أي: علانية، وإنما قابل البغتة بالجهرة، لأن البغتة تتضمن معنى الخفية، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون. وقيل: البغتة أن يأتيهم ليلا، والجهرة أن يأتيهم نهارا، عن الحسن. (هل يهلك) أي: لا يهلك بهذا العذاب (إلا القوم الظالمون) أي: الكافرون الذين يكفرون بالله، ويفسدون في الأرض. وقيل: إنهم كانوا يستدعون العذاب، فبين أنه إذا نزل لا يهلك به إلا الكافرون، فإن هلك فيه مؤمن، أو طفل، فإنما يهلك محنة، ويعوضه الله على ذلك أعواضا كثيرة، يصغر ذلك في جنبها، والمراد بذلك: عذاب الدنيا دون عذإب الأخرة. ثم بين سبحانه أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شئ يسألون عنه من الآيات، وأنما يرسلهم لما يعلمه من المصالح، فقال: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) ثم ذكر ثواب من صدقهم في باقي الآية، وعقاب من كذبهم في الآية الثانية، فقال: (فمن أمن) أي: صدق الرسل (وأصلح) أي: عمل صالحا في الدنيا (فلا خوف عليهم) في الآخرة (ولا هم يحزنون) كما يحزن أهل النار. وقيل: لا يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا (والذين كذبوا بآياتنا) أي: أدلتنا وحججنا، وقيل: بمحمد صلى الله عليه واله وسلم ومعجزاته (يمسهم العذاب) يصيبهم العذاب يوم القيامة (بما كانوا يفسقون) أي: بفسقهم، وخروجهم عن الإيمان.
[ 59 ]
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا يوحى إلي قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون 50. اللغة: الخزائن، جمع الخزانة، وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشئ وخزن الشئ: إحرازه بحيث لا تناله الأيدي، ومنه خزن اللحم خزنا إذا تغير، لأنه يخبأ حتى ينتن. المعنى: ثم أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم أن يقول بعد اقتراحهم الآيات منه: إني لا أدعي الربوبية، وإنما أدعي النبوة فقال: (قل) يا محمد (لا أقول لكم) أيها الناس (عندي خزائن الله) يريد: خزائن رحمة الله، عن ابن عباس. وقيل: خزائن الله مقدوراته، عن الجبائي. وقيل: أرزاق الخلق حتى يؤمنوا طمعا في المال (ولا أعلم الغيب) الذي يختص الله بعلمه، وإنما أعلم قدر ما يعلمني الله تعالى من أمر البعث، والنشور، والجنة، والنار، وغير ذلك. وقيل: عاقبة ما تصيرون إليه، عن ابن عباس (ولا أقول لكم إني ملك) لأني إنسان تعرفون نسبي، يريد، لا أقدر على ما يقدر عليه الملك، وقد استدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وهذا بعيد لأن الفضل الذي هو كثرة الثواب، لا معنى له ههنا، وإنما المراد لا أقول لكم: إني ملك فا شاهد من أمر الله وغيبه عن العباد ما تشاهده الملائكة. (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) يريد: ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلي، عن ابن عباس. وقال الزجاج: أي ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى، وفيما سيكون، فهو بوحي من الله، عزوجل. ثم أمره سبحانه فقال (قل) يا محمد لهم (هل يستوي الأعمى والبصير) أي: هل يستوي العارف بالله سبحانه، العالم بدينه، والجاهل به وبدينه، فجعل الأعمى مثلا للجاهل، والبصير مثلا للعارف بالله وبنبيه، وهذا قول الحسن، واختاره ا لجبائي. وفي تفسير أهل البيت: هل يستوي من يعلم ومن لا يعلم. وقيل: معناه هل
[ 60 ]
يستوي من صدق على نفسه، واعترف بحاله التي هو عليها من الحاجة والعبودية لخالقه، ومن ذهب عن البيان، وعمي عن الحق، عن البلخي (أفلا تتفكرون) فتنصفوا من أنفسكم، وتعملوا بالواجب عليكم من الإقرار بالتوحيد، ونفي التشبيه. وهذا استفهام يراد به الإخبار: يعني إنهما لا يستويان. وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون 51. الاعراب: الهاء في (به) يعود إلى (ما) من قوله ! (ما يوحى الي) وليس مع اسمه وخبره في موضع نصسب على الحال من (يخافون) كأنه قيل: متخلين من ولي وشفيع. المعنى: ثم أمر سبحانه بعد تقديم البينات بالإنذار، فقال: (وأنذر) أي: عظ وخوف (به) أي: بالقرآن، عن ابن عباس. وقيل: بالله، عن الضحاك (الذي يخافون أن يحشروا إلى ربهم) يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة، وما فيها من شدة الأهوال، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: معناه يعلمون، عن الضحاك. وقيل: يخافون أن يحشروا علما بأنه سيكون، عن الفراء قال: ولذلك فسره المفسرون بيعلمون. قال الزجاج: المراد بهم كل معترف بالبعث، من مسلم وكتابي، وإنما خصر الذين يخافون الحشر، دون غيرهم، وهو ينذر جميع الخلق، لأن الذين يخافون الحشر، الحجة عليهم أوجب، لاعترافهم بالمعاد. قال الصادق عليه السلام: " أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم، ترغبهم فيما عنده، فإن القرآن شافع مشفع لهم). (ليس لهم من دونه) أي: غير الله (ولي ولا شفيع) عن الضحاك. وقال الزجاج: إن اليهود والنصارى، ذكرت أنها أبناء الله وأحباؤه، فأعلم الله، عز اسمه، أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، وهذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر، والمفسرون على أن الآية في المؤمنين، ويكون معنى قوله (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع): على أن شفاعة الأنبياء وغيرهم للمؤمنين، إنما تكون بإذن الله لقوله سبحانه: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فذلك راجع إلى الله تعالى (لعلهم يتقون) كي يخافوا في الدنيا، وينتهوا عما نهيتم عنه، عن ابن عباس.
[ 61 ]
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطرد فتكون من الظالمين 52 وكذلك فتنا بعضم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين 53 القراءة: قرأ ابن عامر: (بالغدوة والعشي) في كل القرآن بواو. والباقون: (بالغد ا ة) بالألف. الحجة: قال أبو علي: الوجه (الغداة) لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام، فأما (غدوة) فمعرفة لم تتنكر، وهو علم، صيغ له. قال سيبويه: غدوة وبكرة: جعل كل واحد منهما إسما للجنس، كما جعلوا أم حبين إسما لدابة معروفة، قال: وزعم يونس، عن أبي عمرو، وهو القياس أنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة، وأنت تريد المعرفة، لم تنون. وهذا يقوي قراءة من قرأ بالغداة والعشي. ووجه قرأءة ابن عامر أن سيبويه قاك: زعم الخليل أنه يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة وبكرة، فجعلهما بمنزلة ضحوة، ومن حجته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف ولام، نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم: لقيته فينة (1) غير مصروف، والفينة بعد الفينة، فألحق لام المعرفة، ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير والشياع، كما يقدر فيه ذلك إذا ثنى، وذلك مستمر في جميع هذا الضرب من المعارف، ومثل ذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب: هذا يوم إثنين مباركا، وأتيتك يوم إثنين مباركا، فجاء معرفة بلا ألف ولام، كما جاء بالألف واللام ومن ثم انتصب الحال، ومثل ذلك قولهم: هذا ابن عرس مقبل: إما أن يكون جعل عرسا نكرة، وإن كان علما، وإما أن يكون أخبر عنه بخبرين. الاعراب: (فتطردهم): جواب للنفي في قوله: (ما عليك من حسابهم من شي) وما من حسابك عليهم من شئ، وقوله (فتكون): نصب لأنه جواب للنهي، وهو قوله (ولا تطرد) أي: لا تطردهم فتكون من الظالمين، وقد بينا تقديره (1) الفينة: الحين والساعة.
[ 62 ]
في مواضع. النزول: روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود، قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، عنده صهيب، وخباب، وبلال، وعمار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد: أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أفنحن نكون تبعا لهم ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم ؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم تبعناك ! فأنزل الله تعالى: (ولا تطرد) إلى آخره. وقال سلمان وخباب: فينا نزلت هذه الآية، (جاء الأقرع علي بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري، وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى الله عليه واله وسلم قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، في ناس من ضعفاء المؤمنين، فحقروهم، وقالوا: يا رسول الله ! لو نحيت هؤلاء عنك، حتى نخلو بك، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثم إذا انصرفنا، فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك ! فأجابهم النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى ذلك، فقالا له: أكتب لنا بهذا على نفسك كتابا، فدعا بصحيفة وأحضر عليا ليكتب، قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبرائيل عليه السلام بقوله (ولا تطرد الذين يدعون) إلى قوله (أليس الله بأعلم بالشاكرين) فنحى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الصحيفة، وأقبل علينا، ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) الآية. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقعد معنا، ويدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه، حتى يقوم، وقال لنا: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا، ومعكم الممات). المعنى: ثم نهى سبحانه رسوله عليه واله السلام، عن إجابة المشركين، فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين، فقال: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) يريد يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة، يعني صلاة الصبح والعصر، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وقيل: إن المراد بالدعاء ههنا الذكر، أي: يذكرون ربهم طرفي النهار، عن إبراهيم. وروي عنه أيضا أن هذا في الصلوات الخمس (يريدون وجهه) يعني: يطلبون ثواب الله، ويعملون ابتغاء مرضاة الله، لا يعدلون بالله شيئا، عن عطا، قال الزجاج: شهد الله لهم بصدق النيات، وأنهم
[ 63 ]
مخلصون في ذلك له. أي: يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده، فكأنه ذهب في معنى الوجه إلى الجهة والطريق. (ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ) يريد: ما عليك من حساب المشركين شئ، ولا عليهم من حسابك شئ، إنما الله الذي يثيب أولياءه، ويعذب أعداءه، عن ابن عباس، في رواية عطا، وأكثر المفسرين، يردون الضمير إلى الذين يدعون ربهم، وهو الأشبه. وذكروا فيه وجهين أحدهما: ما عليك من عملهم، ومن حساب عملهم من شئ، عن الحسن، وابن عباس. وهذا كقوله تعالى في قصة نوح: (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) وهذا لأن المشركين ازدروهم لفقرهم وحاجتهم إلى الأعمال الدينية، وهم برفع المشركين عليهم في المجلس، فقيل له: ما عليك من حسابهم من شئ، أي: لا يلزمك عار بعملهم. (فتطردهم) ثم قال: وما من حسابك عليهم من شئ تأكيدا لمطابقة ا 0 لكلام، وإن كان مستغنى عنه بالأول. الوجه الثاني: ما عليك من حساب رزقهم من شئ، فتملهم وتطردهم، أي: ليس رزقهم عليك، ولا رزقك عليهم، وإنما يرزقك وإياهم الله الرازق، فدعهم يدنوا منك، ولا تطردهم (فتكون من الظالمين) لهم بطردهم، عن ابن زيد. وقيل: فتكون من الضارين لنفسك بالمعصية، عن ابن عباس. قال ابن الأنباري عظم الأمر في هذا على النبي صلى الله عليه واله وسلم، وخوف الدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء وأولي الأموال على الضعفاء مقدرا أنه يستجر باسلامهم اسلام قومهم، ومن لف لفهم، كان صلى الله عليه واله وسلم لم يقصد في ذلك إلا قصد الخير، ولم ينو به ازدراء بالفقراء، فأعلمه الله أن ذلك غير جائز. ثم أخبر الله سبحانه أنه يمتحن الفقراء بالأغنياء، والأغنياء بالفقراء فقال: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) أي: كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، والشريف بالوضيع، ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، حمي آنفا أن يسلم، ويقول: سبقني هذا بالإسلام، فلا يسلم، وإنما قال سبحانه (فتنا) وهو لا يحتاج إلى الإختبار، لأنه عاملهم معاملة المختبر (ليقولوا) هذه لام العاقبة، المعنى: فعلنا هذا ليصبروا ويشكروا، فال أمرهم إلى هذه العاقبة (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) والإستفهام معناه الإنكار، كأنهم أنكروا
[ 64 ]
أن يكونوا سبقوهم بفضيلة، أو خصوا بمنة. وقال أبو علي الجبائي: المعنى في فتنا: شددنا التكليف على أشراف العرب، بأن أمرناهم بالإيمان وبتقديمهم هؤلاء الضعفاء على نفوسهم، لتقدمهم إياهم في الإيمان، وهذا أمر كان شاقا عليهم، فلذلك سماه الله فتنة. وقوله: (ليقولوا) أي: فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه الإستفهام لا على وجه الإنكار، أهؤلاء من الله عليهم بالإيمان إذا رأوا النبي يقدم هؤلاء عليهم، وليرضوا بذلك من فعل رسول الله، ولم يجعل هذه الفتنة والشدة في التكليف، ليقولوا ذلك على وجه الإنكار، لأن إنكارهم لذلك كفر بالله، ومعصية، والله سبحانه، لا يريد ذلك، ولا يرضاه، ولأنه لو أراد ذلك وفعلوه، كانوا مطيعين له، لا عاصين، وقد ثبت خلافه. وقوله: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) هذا استفهام تقرير أي: إنه كذلك، كقول جرير: ألستم خيرمن ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح (1) وهذا دليل واضح على أن فقراء المؤمنين وضعفاءهم، أولى بالتقريب والتقديم والتعظيم من أغنيائهم، ولقد قال أمير المومنين علي عليه السلام: (من أتى غنيا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه). وإذا جاءك الذين يؤمنون بأياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم 54. القراءة: قرأ أهل المدينة أنه من عمل بالفتح، فإنه بالكسر. وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب أنه فأنه بفتح الألف فيهما. وقرأ الباقون إنه فإنه بالكسر فيهما. الحجة: قال أبو علي: من كسر فقال: (إنه من عمل) جعله تفسيرا للرحمة، كما أن قوله (لهم مغفرة وأجر عظيم) تفسير للوعد. وأما كسر (فإنه غفور (1) المطايا كسجايا جمع مطية: الدابة السريعة. وأندى أفعل تفضيل من الندا: المطر والمراد السخاء. والراح جمع الراحة بمعنى الكف.
[ 65 ]
رحيم) فلأن ما بعد الفاء حكمه الإبتداء، ومن ثم حمل قوله: (فينتقم الله منه) على إرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه، وأما من فتح أن في قوله: أنه فأنه جعل أن الأولى بدلا من الرحمة، كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل. وأما فتحها بعد الفاء، فعلى أنه أضمر له خبرا، وتقديره فله أنه غفور رحيم أي: فله غفرانه، أو أضمر مبتدأ يكون أنه خبرا له أي: فأمره أنه غفور رحيم. وعلى هذا التقدير يكون الفتح في قول من فتح: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم، تقديره: فله أن له نار جهنم إلا أن إضماره هنا أحسن، لأن ذكره قد جرى في قوله (أن له) وإن شئت قدرت: فأمره أن له نار جهنم. فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر. وأما قراءة كتب ربكم أنه فإنه فالقول فيها أنه أبدل من الرحمة، ثم استأنف ما بعد الفاء. اللغة: قال المبرد: السلام في اللغة أربعة أشياء: مصدر سلمت سلاما. وجمع سلامة. واسم من أسماء الله عز وجل. وشجر في قوله (إلا سلام وحرمل) (1) ومعنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات. والسلام: اسم الله، تأويله ذو السلام أي الذي يملك السلام: الذي هو التخلص من المكروه. وأما السلام، الشجر: فهو شجر قوي، سمي بذلك لسلامته من الآفات. والسلام: الحجارة سمي بذلك لسلامتها من الرخاوة. والصلح يسمى السلام والسلم لأن معناه السلامة من الشر، والسلم: الدلو التي لها عروة واحدة، لأنها أسلم الدلاء من الآفات. النزول: اختلف في من نزلت فيه هذه الاية، فقيل: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام، عن عكرمة، وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة، وجعفر، ومصعب بن عمير، وعمار، وغيرهم، عن عطاء. وقيل: إن جماعة أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا كثيرة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت الآية، عن أنس بن مالك، وقيل: نزلت في التائبين، وهو المروي عن أبي عبد الله، عليه السلام. (1) وحرمل أيضا نبات يقال له بالفارسية " اسفند ". (*)
[ 66 ]
المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه بتعظيم المؤمنين، فقال: (وإذا جاءك) يا محمد (الذين يؤمنون) أي: يصدقون (باياتنا) أي: بحججنا وبراهيننا (فقل سلام عليكم) ذكر فيه وجوه، أحدها: إنه أمر نبيه صلى الله عليه واله وسلم أن يسلم عليهم من ألله تعالى، فهو تحية من الله على لسان نبيه صلى اله عليه واله وسلم، عن الحسن. وثانيها: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه واله وسلم أن يسلم عليهم تكرمة لهم، عن الجبائي. وثالثها: إن معناه اقبل عذرهم واعترافهم، وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه، عن ابن عباس. (كتب ربكم) أي: أوجب ربكم (على نفسه الرحمة) إيجابآ مؤكدا، عن الزجاج قال: إنما خوطب الخلق بما يعقلون، وهم يعقلون أن الشئ المؤخر إنما يحفظ بالكتاب. وقيل: معناه كتبه في اللوح المحفوظ، وقد سبق بيان هذا في أول السورة (أنه من عمل منكم سوء بجهالة). قال الزجاج: يحتمل الجهالة ههنا وجهين أحدهما: إنه عمله وهو جاهل بمقدار المكروه فيه أي: لم يعرف أن فيه مكروها والآخر: إنه علم أن عاقبته مكروهة، ولكنه آثر العاجل، فجعل جاهلا بأنه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة، وهذا أقوى. ومثله قوله سبحانه (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) الاية وقد ذكرنا ما فيه هناك (ثم تاب من بعده وأصلح) أي: رجع عن ذنبه، ولم يصر على ما فعل، وأصلح عمله (فأنه غفرر رحيم). وكذلك نفصل الأيات ولتستبين سبيل المجرمين 55. القراءة: قرأ أهل المدينة: (ولتستبين) بالتاء (سبيل) بالنصب. قرأ أهل الكوفة، غير حفص: (وليستبين) بالياء، (سبيل) بالرفع. وقرأ زيد، عن يعقوب: (وليستبين) بالياء، (سبيل) بالنصب. وقرأ الباقون: (ولتستبين) بالتاء (سبيل) با لرفع. الحجة: من قرأ (لتستبين) بالتاء (سبيل) رفعا، جعل السبيل فاعلا، وأنثه كما في قوله: (قل هذه سبيلي). قا ل سيبويه: استبان الشئ واستبنته. ومن قرأ (ولتستبين) بالتاء، (سبيل) نصبا، ففي الفعل ضمير المخاطب، و (سبيل) مفعوله، وهو على قولك استبنت الشئ. ومن قرأ بالياء، (سبيل) رفعا فالفعل مسند إلى السبيل، إلا أنه ذكر كما في قوله سبحانه: (يتخذوه سبيلا) والمعنى:
[ 67 ]
وليستبين سبيل المؤمنين، وسبيل المجرمين، فحذف، لأن ذكر إحدى السبيلين يدل على الآخر، ومثله: (سرابيل تقيكم الحر) ولم يذكر البرد لدلالة الحر عليه، ومن قرأ بالياء، ونصب اللام، فتقديره: وليستبين السائل سبيل المجرمين الاعراب: (كذلك) الكاف في موضع نصب بأنه مفعول (نفصل) وذلك مجرور الموضع بإضافة الكاف إليه: ويسأل: ما المشبه وما المشبه به في قوله (وكذلك) ؟ وفيه جوابان أحدهما: التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين، وصفة الضالين، شبه بتفصيل الدلائل على الحق من الباطل في صفة غيرهم، من كل مخالف للحق، والثاني: إن المعنى: كما فضلنا ما تقدم من الآيات لكم، نفصله لغيركم. المعنى: ثم عطف سبحانه على الآيات التي احتج بها على مشركي مكة، وغيرهم فقال: (وكذلك) أي: كما قدمناه من الدلالات على التوحيد، والنبوة، والقضاء. (نفصل الآيات): وهي الحجج والدلالات أي: نميزها، ونبينها، ونشرحها، على صحة قولكم، وبطلان ما يقوله هؤلاء الكفار. (ولتستبين سبيل المجرمين) بالرفع أي: ليظهر طريق من عاند بعد البيان إذا ذهب عن فهم ذلك، بالإعراض عنه، لمن أراد التفهم لذلك من المؤمنين، ليجانبوها، ويسلكوا غيرها. وبالنصب: ليعرف السامع أو السائل أو لتعرف أنت يا محمد سبيلهم. وسبيلهم: يريد به ما هم عليه من الكفر، والعناد، والإقدام على المعاصي، والجرائم المؤدية إلى النار. وقيل: إن المراد بسبيلهم: ما عاجلهم الله به من الإذلال، واللعن، والبراءة منهم، والأمر بالقتل، والسبي، ونحو ذلك. والواو في (ولتستبين) للعطف على مضمر محذوف والتقدير: لتفهموا، ولتستبين سبيل المجرمين والمؤمنين. وجاز الحذف لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين 56 القراءة: روي في الشواذ عن يحيى بن وثاب: (ضللت) بكسر اللام.
[ 68 ]
والقراء كلهم على فتحها. الحجة: وهما لغتان ضللت تضل، وضللت تضل. قال أبو عبيدة: واللغة الغالبة الفتح. الاعراب: معنى (من) في قوله (من دون الله): إضافة الدعاء إلى (دون) بمعنى ابتداء الغاية. ومعنى إذا الجزاء. والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. المعنى: ثم أمر الله سبحانه نبيه، بأن يظهر البراءة مما يعبدونه، فقال: (قل) يا محمد (إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) يعني: الأصنام التي تعبدونها، وتدعونها آلهة. (قل) يا محمد (لا أتبع أهواءكم) في عبادتها أي: إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البينة والبرهان، عن الزجاج. وقيل: معناه: لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين (قد ضللت إذا) أي: إن أنا فعلت ذلك، عن ابن عباس (وما أنا من المهتدين) الذين سلكوا سبيل الدين. وقيل: معناه وما أنا من المهتدين النبيين الذين سلكوا طريق الهدى. قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين 57 قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين 58. القراءة: قرأ أهل الحجاز، وعاصم: (يقص الحق) بالصاد. والباقون: (يقضي الحق). الحجة: حجة من قرأ (يقضي) قوله: (والله يقضي بالحق). وحكي عن أبي عمرو أنه استدل بقوله: (وهو خير الفاصلين): في أن الفصل في الحكم ليس في القصص. وحجة من قرأ (يقص) قوله: (والله يقول الحق): وقالوا: قد جاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله: (إنه لقول فصل) وأما قوله الحق: فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: يقضي القضاء الحق، أو يقص القصص الحق، ويجوز أن يكون مفعولا به مثل يفعل الحق كقوله:
[ 69 ]
وعليهما مسرودتان قضاهما داود، أو صنع السوابغ تبع (1) اللغة: البينة: الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. والبيان: هو الدلالة. وقيل: هو العلم الحادث. والإستعجال: طلب الشئ في غير وقته. والحكم: فصل الأمر على التمام. الاعراب: يقال: لم قال كذبتم به، والبينة مؤنثة ؟ قيل: لأن البينة بمعنى البيان، فالهاء كناية عن البيان، عن الزجاج. وقيل: كناية عن الرب في قوله (ربي). وقوله (كذبتم): قد مضمر معه، لأنه في موضع الحال، والحال لا يكون بالفعل الماضي، إلا ومعه قد إما مظهرة، أو مضمرة. المعنى: لما أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم بأن يتبرأ مما يعبدونه ؟ عقب ذلك سبحانه بالبيان، أنه على حجة من ذلك، وبينة، وأنه لا بينة لهم، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (إني على بينة من ربي) أي: على أمر بين، لا متبع لهوى، عن الزجاج. وقال الحسن: البينة: النبوة أي: على نبوة من جهة ربي. وقيل: على حجة من معجزة دالة على نبوتي، وهي القران ؟ عن الجبائي. وقيل: على يقين من ربي، عن ابن عباس. (وكذبتم به) أي: بما أتيتكم به من البيان يعني القرآن (ما عندي) أي: ليس عندي (ما تستعجلون به) قيل: معناه الذي تطلبونه من العذاب، كانوا يقولون يا محمد آتنا بالذي تعدنا، وهذا كقوله (ويستعجلونك بالعذاب)، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هي الآية التى اقترحوها عليه استعجلوه بها، فأعلم الله تعالى أن ذلك عنده، فقال: (إن الحكم إلا لله) بريد أن ذلك عند ربي. وعن ابن عباس: يعني ليس الحكم في الفصل بين الحق والباطل، وفي إنزال الآيات إلا لله. (يقص الحق) أي: يفصل الحق عن الباطل، ويقص الحق أي: يقوله، ويخبر به (وهو خير الفاصلين) لأنه لا يظلم في قضاياه، ولا يجوز عن الحق. وهذا يدل على بطلان قول من يزعم أن الظلم والقبائح بقضائه، لأن من المعلوم أن ذلك كله ليس بحق. (1) المسرودة: الدرع المثقوبة. وصنع محركة بمعنى: الصانع. والسابغة: الدرع الواسعة. وقوله تبع عطف بيان لقوله: (صنع السوابغ). (*)
[ 70 ]
(قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (لو أن عندي) أي: برأي وإرادتي (ما تستعجلون به) من إنزال العذاب بكل (لقضي الأمر بيني وبينكم) أي: لفرغ من الأمر بأن أهلككم فأستريح منكم، غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى (والله أعلم بالظالمين) وبوقت عذابهم، وما يصلحهم. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه إنما يؤخر العقوبة لضرب من المصلحة، إما لأن يؤمنوا، أو لغير ذلك من المصالح، فهو يدبر ذلك على حسب ما تقتضيه الحكمة. وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين 59 وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون 60. اللغة: المفاتح: جمع مفتح. فالمفتح بالكسر: المفتاح الذي يفتح به. والمفتح بفتح الميم: الخزانة. وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح. قال الفراء في قوله: (إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) يعني: خزائنه. والتوفي: قبض الشئ على التمام، يقال: توفيت الشئ، واستوفيته، بمعنى. والجرح: العمل بالجارحة. والإجتراح: الإكتساب. الاعراب: (ولا حبة): تقديره: ولا تسقط من حبة ثابتة في ظلمات ألأرض، ولا رطب، ولا يابس. وقوله: (إلا في كتاب مبين) الجار والمجرور في موضع الرفع، لأنه خبر الإبتداء تقديره: إلا هو في كتاب مبين. ولا بد من هذا التقدير، لأنه لو لم يكن محمولا على هذا لوجب أن لا يعلمها في كتاب مبين، وهو سبحانه يعلم ذلك في كتاب مبين، والإستثناء منقطع. المعنى: لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين، بين عقيبه أنه لا يخفى عليه شئ من الغيب، ويعلم أسرار العالمين فقال: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) معناه وعنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به، وغير ذلك لا
[ 71 ]
يعلمها أحد إلا هو، أو من أعلمه به، وعلمه إياه. وقيل. معناه وعنده مقدورات الغيب، يفتح بها على من يشاء من عباده، يإعلامه به، وتعليمه إياه، وتيسيره السبيل إليه، ونصبه الأدلة له، ويغلق عمن يشاء بأن لا ينصب الأدلة له. وقال الزجاج: يريد عنده الوصلة إلى علم الغيب، وكل ما لا يعلم، إذا استعلم، يقال فيه. أفتح علي، وقال ابن عمر: مفاتح الغيب خمسس: ثم قرأ (إن الله عنده علم الساعة) الآية. وقال ابن عباس: معناه وعنده خزائن الغيب من الأرزاق وألاعمار. وتأويل الآية: إن الله تعالى عالم بكل شئ من مبتدآت الأمور وعواقبها، فهو يعجل ما تعجيله أصوب وأصلح، ويؤخر ما تأخيره أصوب وأصلح، وإنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء والأولياء، لأنه لا يعلم الغيب سواه، ولا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد، إلا الله. (ويعلم ما في البر والبحر) من حيوان وغيره. وقال مجاهد: البر: القفار. والبحر: كل قرية قيها ماء. (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) قال الزجاج: المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة، وأنت تقول ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، فليس تأويله إلا وأنا أعوفه في حال مجيئه فقط. وقيل: يعلم مما سقط من ورق الأشجار، وما بقي، ويعلم كم انقلبت ظهرا لبطن عند سقوطها. (ولا حبة في طلمات الأرض) معناه وما تسقط من حبة في باطن الأرض إلا يعلمها، وكنى بالظلمة عن باطن الأرض، لأنه لا تدرك، كما لا يدرك ما حصل في الظلمة، وقال اين عباس: يعني تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع، أو تحت حجر، أو شئ. (ولا رطب ولا يابس) قد جمع الأشياء كلها في قوله. (ولا رطب ولا يابس) لأن الأجسام كلها، لا تخلو من أحد هذين، وهو بمنزلة قولك: ولا مجتمع ولا مفترق، لأن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة، أو متفرقة وقيل يريد ما ينبت وما لا ينبت، عن ابن عباس، وعنه أيضا: إن الرطب: الماء واليابس: البادية. وقيل الرطب الحي، واليابس: الميت. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال ؟ " الورقة. السقط. الحبة: الولد. وظلمات الأرض. الأرحام. والرطب ما يحيا. واليابس ما يغيض). (إلا في كتاب) معناه: وهو مكتوب في كتاب (مبين) أي قي اللوح
[ 72 ]
المحفوظ، ولم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها ويدرسها، فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها، ولكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام با لمكتوب فيه، فيجدونها موافقة للمكتوب فيه، فيزدادون علما ويقينا بصفات الله تعالى، وأيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ، تطالعها الملائكة، قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة، وترك القبائح. وقال الحسن. هذا توكيد في الزجر عن المعاصي، والحث على البر، لأن هذه الأشياء التي لا ثواب فيها، ولا عقاب، إذا كانت محصاة عند ه، محفوظة، فالأعمال التي فيها الثواب والعقاب أولى بالحفظ. وقيل: إن قوله (في كتاب مبين): معناه أنه محفوظ غير منسي، ولا مغفول عنه، كما يقول القائل لغيره: ما تصنعه عندي مسطور مكتوب، إنما يريد بذلك أنه حافظ له، يريد مكافأته عليه، وأنشد (إن لسلمى عندنا ديوانا)، عن البلخي. قال الجرجاني صاحب النظم تم الكلام عند قوله. (ولا يابس)، ثم استأنف خبرا آخر بقوله: (إلا في كتاب مبين) يعني وهو في كتاب مبين أيضا، لأنك لو جعلت قوله (إلا في كتاب مبين) متصلا بالكلام الأول، لفسسد المعنى، ولما نبه سبحانه بهذه الآية على أنه عالم لذاته من حيث انه لو كان عالما بعلم لوجب أحد ثلاثة أشياء كلها فاسدة ؟ إما أن يكون له علوم غير متناهية وإما أن يكون معلوماته متناهية، أو يتعلق علم واحد بمعلومات غير متناهية، وكلها باطل بالدليل نبه (ا) في الآية التي تليها، على أنه قادر لذاته من حيث انه قادر على الإحياء والإماتة، فقال: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي: يقبض أرواحكم عن التصرف، عن ا بن عباس، وغيره، واختاره علي بن عيسى. وقيل ؟ معناه يقبضكم بالنوم، كما يقبضكم بالموت، فيكون كقوله (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) الآية. عن الزجاج، والجبائي. (ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي: ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار، على كثرته وكثرتكم. وفيه اشارة إلى رحمته، حيث يعلم مخالفتهم إياه، ثم لا يعاجلهم بعقوبة. ولا يمنعهم فضله ورحمته. (ثم يبعثكم فيه) أي: ينبهكم من نومكم في النهار، عن الزجاج، (1) جواب لما.
[ 73 ]
والجبائي. جعل انتباههم من النوم بعثا (ليقضى أجل مسمى) معناه: لتستوفوا آجالكم، وترتيب الآية: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ثم يبعثكم في النهار، على علم بما تجترحون بالنهار، ليقضى أجل مسمى. فاللام تتصل بقوله: (ثم يبعثكم فيه) إلا أنه قدم ما من أجله بعثنا بالنهار، لأنه أهم والعناية به أشد عن علي بن عيسى. ومعنى القضاء: فصل الأمر على تمام. ومعنى قضاء الأجل: فصل مدة العمر من غيرها بالموت. وفي هذا حجة على النشأة الثانية، لأن منزلتها بعد الأولى، كمنزلة اليقظة بعد النوم، في أن من قدر على أحدهما فهو قادر عل الآخر. (ثم إليه مرجعكم) يريد: إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس، نقله إلى الدار الآخرة، ومعنى (إليه) إلى حكمه وجزائه، وإلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر (ثم ينبئكم) يخبركم (بما كنتم تعملون) أي: بما غفلتم عنه من أعمالكم. وفي هذه الآية دلالة على البعث وألإعادة، نبه الله سبحانه على ذلك بالنوم واليقظة، فإن كلا منهما لا يقدو عليه غيره تعالى، فأما ما يصح إعادته من الأشياء، فالصحيح من مذهب أهل العدل فيه، أن يكون الشئ من فعل القديم سبحانه، القادر لذاته، وأن يكون مما يبقى، وأ ن لا يكون مما يتولد عن سبب. وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاءكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون 61 ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق إلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين 62. القراءة: قرأ حمزة وحده: (توفاه) ؟ الباقون: بالتاء، وقرأ الأعرج: (يفرطون) في الشواذ. الحجة: حجة من قرأ بالتاء قوله: (فقد كذبت رسل)، و (قالت رسلهم). وحجة حمزة أنه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: (وقال نسوة)، إن كانت الكتابة في المصحف با لياء، فليس ذلك بخلاف، لأن الألف الممالة قد كتبت بياء. وقراءة الأعرج. من أفرط في الأمر إذا زاد فيه. وقراءه العامة من (فرط) في الأمر إذا قصر فيه، فهو بمعنى: لا يقتصرون فيما يؤمرون به من توفي من تحضره منيته، وذاك بمعنى. لا يزيدون على ذلك، ولا يتوفون إلا
[ 74 ]
من أمروا بتوفيه، ونظيره قوله (وكل شئ عنده بمقدار). المعنى ثم زاد سبحانه في بيان كمال قدرته فقال: (وهو القاهر فوق عباده) معناه: والله المقتدر المستعلي على عباده، الذي هو فوقهم، لا بمعنى أنه في مكان مرتفع فوقهم، وفوق مكانهم، لأن ذلك من صفة الأجسام ؟ والله تعالى منزه عن ذلك، ومثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان، أي هو أعلى أمرا، وأنفذ حكما، ومثله قوله: (يد الله فوق أيديهم): فالمراد به أنه أقوى وأقدر منهم، وأنه القاهر لهم، ويقال: هو فوقه في العلم أي: أعلم منه، وفوقه في الجود أي ؟ أجود، فعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها. (ويرسل عليكم حفظة) عطف على صلة الألف واللام في (القاهر) وتقديره: وهو الذي يقهر عباده، ويرسل عليكم حفظة أي: ملائكة يحفظون أعمالكم، يحصونها عليكم، ويكتبونها. وفي هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله، يشهدون بها عليهم يوم القيامة (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته) أي: تقبض روحه. (رسلنا) يعني: أعوان ملك الموت، عن بن عباس، والحسن، وقتادة، قالوا. وإنما يقبضون الأرواح بأمره، ولذلك أضاف التوفي إليه في قوله: (قل يتوفاكم ملك الموت). وقال الزجاج يريد بالرسل: هؤلاء الحفظة، فيكون المعنى: يرسلهم للحفظ في الحياة، والتوفية عند مجئ الممات، وحتى هذه هي التي تقع بعدها الجملة. (وهم لا يفرطون) أي: لا يضيعون، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: لا يغفلون، ولا يتوانون، عن الزجاج. وقال معنى التفريط تقدمة العجز، فالمعنى أنهم لا يعجزون، ثم بين سبحانه أن هؤلاء الذين تتوفاهم رسله، يرجعون إليه فقال (ثم ردوا إلى الله) أي: إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه إلا هو (مولاهم الحق) قد مر معناه عند قوله: (أنت مولانا) والحق: إسم من أسماء الله تعالى، واختلف في معناه، فقيل: المعنى أن أمره كله حق لا يشوبه باطل، وجد لا يجاوره هزل، فيكون مصدرا وصف به نحو قولهم: رجل عدل، وفي قول زهير:
[ 75 ]
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا فهم رضا وهم عدل (9). وقيل: إن الحق بمعنى المحق، كما قيل: غياث بمعنى مغيث. وقيل: إن معناه الثابت الباقي الذى لا فناء له، وقيل: معناه ذو الحق يريد أن أفعاله وأقواله حق (ألا له الحكم) أي القضاء فيهم يوم القيامة، لا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه، كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليكه إياه، (وهو أسرع الحاسبين) أي: إذا حاسب فحسابه سريع، وقد مضى معناه في سورة إلبقره عند قوله (سريع الحساب). وروى عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه سئل كيف يحاسب الله الخلق ولا يرونه ؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه. وروى أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة، وهذا يدل علي أنه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره. ويدل على أنه سبحانه يتكلم بلا لسان ولهوات، ليصح أن يحاسب الجميع في وقت واحد. قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين 63 قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشكرون 64. القراءة ؟ قرأ أبو بكر، عن عاصم (خفية) بكسر الخاء، هنا وفي الأعراف. والباقون ؟ (خفية) بالضم. وقرأ. (قل من ينجيكم) خفيفة يعقوب، وسهل. وقرأ الباقون: (ينجيكم). وقرأ أهل الكوفة: (لئن أنجانا من هذه) بالألف، إلا أن عاصما قرأ بالتفخيم. والباقون بالإمالة. وقرأ غيرهم من القراء: (لئن أنجيتنا) وقرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر، وهشام، عن ابن عامر: (قل الله ينجيكم) با لتشديد. والباقون (ينجيكم) بالتخفيف. الحجة: أما (خفية): فإن أبا عبيدة قال: (خفية) أي: تخفون في أنفسكم. وحكى غيره خفية وخفية لغتان. وأما خيفة (2): ففعلة من الخوف، انقلبت (1) اشتجر القوم: تشاجروا. سروات القوم: سادتهم ورؤساؤهم. (2) هذه أعني قراءة " خيفة " بتقديم المثناة التحتانية على الفاء قراءة ثالثة، وكان على المصنف أن يذكرها إجمالا قبل التفصيل، كما فعل في القراءتين الاخريين، ويحتمل سقوطه من النساخ. (*)
[ 76 ]
الياء عن الواو للكسرة قال فلا تقعدن على زخه وتضمر في القلب وجدا وخيفا (1) وهو جمع خيفة. وأما قوله: (ينجيكم) فإنهم قالوا: نجا زيد، فإذا نقل الفعل حسن نقلة بالهمزة، كما حسن نقله بالتضعيف. وفي التنزيل: (فأنجاه الله من النار)، (فأنجيناه والذين آمنوا). وفيه: (ونجينا الذين آمنوا) فاستوى القراءتان في الحسن. فأما من قرأ (أنجانا): فإنه حمله على الغيبة، لأن ما قبله (تدعونه) وما بعده: (قل الله ينجيكم)، وكلاهما للغيبة. ومن قرأ: (لئن أنجيتنا)، فإنه واجه بالخطاب، ولم يراع من المشاكلة ما راعاه الكوفيون. الاعراب: (تدعونه): في موضع نصب على الحال، تقديره: قل من ينجيكم داعين وقائلين لئن أنجيتنا، (تضرعا): نصب بانه حال أيضا من (تدعونه)، وكذلك (خفية). والمعنى تدعونه مظهرين الضراعة، ومضمرين الحاجة إليه، أو معلنين ومسرين. المعنى: ثم عاد سبحانه إلى حجاج الكفار، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (من ينجيكم) أي: يخلصكم، ويسلمكم (من ظلمات البر والبحر) أي: من شدائدهما وأهوالهما عن أبن عباس. قال الزجاج: العرب تقول لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، وأنشد: بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وقال آخر: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا وقال غيره: أراد ظلمة الليل، وظلمة الغيم، وظلمة التيه، والحيرة، في البر والبحر، فجمع لفظه، ليدل على معنى الجمع (تدعونه) أي: تدعون الله عند معاينة هذه الأهوال (تضرعا وخفية) أي: علانية وسرا، عن ابن عباس، والحسن. (2) لزخة: الحقد والغيظ والغضب. وقيل: إنه لم يسمع الزخة التي هي الحقد ؟ والغيظ والغضب إلا في هذا البيت. (*)
[ 77 ]
وقيل: معناه تدعونه مخلصين متضرعين تضرعا بألسنتكم، وخفية في أنفسكم، وهذا أظهر (لئن أنجانا) أي. في أي شدة وقعتم، قلتم لئن أنجيتنا (من هذه لنكونن من الشاكرين) لإنعامك علينا، وهذا يدل على أن السنة في الدعاء التضرع والإخفاء. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: خير الدعاء الخفي، وخير الرزق ما يكفي ومر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء، فقال: إنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا، وإنما تدعون سميعا قريبا ! ! (قل) يا محمد (الله ينجيكم) أي: ينعم عليكم بالنجاة، والفرج، ويخلصكم (منها) أي: من هذه الظلمات (ومن كل كرب) أي: ويخلصكم الله من كل غم (ثم أنتم تشركون) بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم، ما لا يقدر على الإنجاء من كل كرب، وإن خف. قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الأيات لعلهم يفقهون 65. اللغة: لبست عليهم الأمر ألبسه. إذا لم أبينه، وخلطت بعضه ببعض. ولبست الثوب، ألبسه. واللبس: اختلاط الأمر، واختلاط الكلام. ولابست الأمر: خالطته. والشيع: الفرق وكل فرقة شيعة على حدة. وشيعت فلانا: اتبعته. والتشيع هو الإتباع على وجه التدين والولاء للمتبوع. والشيعة صارت في العرف إسما لمتبعي أمير المؤمنين علي عليه السلام على سبيل الإعتقاد لإمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل من الامامية، والزيدية، وغيرهم، ولا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين سواء كان متبوعهم محقا أو مبطلا إلا أن يسقط عنه لام التعريف، ويضاف بلفظ من للتبعيض، فيقال هؤلاء شيعة بني العباس، أو شيعة بني فلان. المعنى ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الحجج التي حاج بها الكافرين، ونبه على الإعذار والإنذار، فقال (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (هو القادر على أن يبعث) أي: يرسل (عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) قيل: فيه وجوه أحدها: إن (عذابا من فوقكم): عنى به الصيحة، والحجارة، والطوفان والريح، كما فعل بعاد، وثمود، وقوم شعيب، وقوم لوط. (أو من تحت أرجلكم)
[ 78 ]
عنى به الخسف، كما فعل بقارون، عن سعيد بن جبير، ومجاهد. وثانيها: أن المراد بقوله: (من فوقكم) أي ! من قبل كباركم، أو (من تحت أرجلكم). من سفلتكم، عن الضحاك. وثالثها: إن (من فوقكم) ألسلاطين الظلمة، و (من تحت أرجلكم) ؟ العبيد السوء، ومن لا خير فيه، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. (أو يلبسكم شيعا) أي: يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء، لا تكونو شيعة وأحدة. وقيل: هو أن يكلهم إلى أنفسهم، فلا يلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده، ويخليهم من ألطافة بذنوبهم السالفة، وقيل: عنى به يظرب بعضكم ببعض، بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام (ويذيق بعضكم بأس بعض) أي: قتال بعضى، وحرب بعض، ومعناه يقتل بعضكم بعضا، حتى يفني بعضكم بعضا، كما قال: (وكذلك نولي بعض الضالمين بعضأ بما كانوا يكسبون) وقيل: هو سوء الجوار، عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال الحسن: التهديد بإنزال العذاب، والخسف، يتناول الكفار، وقوله: (أو يلبسكم شيعا) يتناول أهل الصلاة، وقال. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: " سألت ربي أ ن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، وسألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني "، وفي تفسير الكلبي: إنه لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه واله وسلم فتوضأ، وأسبغ وضوءه، ثم قام وصلى، فأحسن صلاته، ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فنزل جيرائيل عليه السلام فقال: يا محمد ! إن الله تعالى سمع مقالتك، إنه قد أجارهم من خصلتين، ولم يجرهم من خصلتين: أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، ولم يجرهم من الخصلتين الأخريين. فقال صلى الله عليه واله وسلم: يا جبرائيل ا ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا ؟ فقا م، وعاد إلى الدعاء، فنزل: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) الآيتين. فقال: لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها، ليتبين الصادق من الكاذب،
[ 79 ]
لأن الوحي انقطع وبقي السيف، وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة. وفي الخبر أنة صلى الله عليه واله وسلم قال: إذا وضع السيف في أمتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ! وقال أبي بن كعب: " سيكون في هذه الأمة بين يدي الساعة خسف، وقذف، ومسخ ". ثم أكد سبحانه الإحتجاج عليهم بقوله: (أنظر كيف نصرف الآيات) أي: أنظر يا محمد، كيف نردد الآيات، ونظهرها مرة بعد أخرى، بوجوه أدلتها، حتى تزول الشبه (لعلهم يفقهون) أي: لكي يعلموا الحق فيتبعوه، والباطل فيجتنبوه، وإذا كان البعث قي الآية محمولا على التسليط، فالمراد به التمكين، ورفع الحيلولة دون أن يفعل سبحانه ذلك، أو يأمر به، تعالى الله عن ذلك وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قادر على ما المعلوم أنه لا يفعله. وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل 66 لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون 67. المعنى. لما ذكر سبحانه تصريف الآيات، قال عقيب ذلك: (وكذب به) أي: بما نصرف من الأيات، عن الجبائي، والبلخي وقال الأزهري: الهاء يعود إلى القرآن، وهو قول الحسن، وجماعه. (قومك) يعني: قريشا والعرب (وهو الحق) أي: القرآن، أو تصريف الآيات حق ؟ بمعنى أنه يدل على الحق، وأن ما فيه حق. ثم بين سبحانه أ ن عاقبه تكذ يبهم يعود عليهم، فقال: (قل) يا محمد: (لست عليكم بوكيل) أي: لم أؤمر بمنعكم من التكذيب بآيات الله، وأن أحفظكم من ذلك، وأحول بينكم وبينه، لأن الوكيل على الشئ هو القائم بحفظه، والذي يدفع الضرر عنه، عن الجبائي. وقيل: معناه لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها، إنما أنا منذر، والله سبحانه هو المجازي، عن الحسن. وقيل: معناه لم أؤمر بحربكم، ولا أخذكم بالأيمان، كما يأخذ الموكل بالشئ الذي يلزم بلوغ آخوه، عن الزجاج. (لكل نبأ مستقر) أي: لكل خبر من أخبار الله ورسوله حقيقة كائنة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه لكل خبر قرار على
[ 80 ]
غاية ينتهي إليها، ويظهر عندها. قال السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب، وسمي الوقت مستقرا، لأنه ظرف للفعل الواقع فيه. وقيل: معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة، عن الحسن (وسوف تعلمون) فيه وعيد وتهديد لهم: إما بعذاب الآخرة، وإما بالحرب، وأخذهم بالأيمان شاؤوا أو أبو، وتقديره: وسوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب، وحذف لدلالة الكلام عليه. وإذا رأيت الذين يخوضون في إياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين 68 وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون 69. القراءة: قراء ابن عامر وحده: (ينسينك) باتشديد. والباقون: (ينسينك) بالتخفيف. الحجه: حجه من خفف قوله: (وما أنسانية الا الشيطان). وحجه ابن عامر: إنه يجوز نقل الفعل بتضعيف العين، كما يجوز نقله بالهمزة، كما يقال: عزمته وأعزمته. الاعراب (ذكرى). يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: ولكن ذكروهم ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أحد وجهين: إما أن يكون على معنى: ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى، فيكون خبر المبتدأ. وإما أ ن يكون عليكم ذكرى أي: عليكم أن تذكروهم، كما قال. (إن عليك إلا البلاغ)، وعلى هذا فيكون (ذكرى) مبتدأ. النزول: قال أبو جعفر عليه السلام: لما نزلت: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)، قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، فلا ندخل إذ ا المسجد الحرام، ولا نطوف بالبيت الحرام ؟ فأنزل الله سبحانه (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ): أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا.
[ 81 ]
المعنى: ثم أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن، فقال: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) خاطب النبي صلى الله عليه واله وسلم أي: إذا رأيت هؤلاء الكفار. وقيل: الخطاب له، والمراد غيره، ومعنى (يخوضون): يكذبون بآياتنا وديننا، عن الحسن، وسعيد بن جبير. والخوض: التخليط في المفاوضة على سبيل العبث، واللعب، وترك التفهم والتبيين (فأعرض عنهم) أي: فاتركهم، ولا تجالسهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي: يدخلوا في حديث غير الإستهزاء بالقرآن، وإنما أمره صلى الله عليه واله وسلم بالإعراض عنهم، لأن من حاج من هذه حاله، فقد وضع الشئ غير موضعه، وحط من قدر البيان والحجاج. (وإما ينسينك الشيطان) المعنى: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم. ويسأل على هذا، فيقال: كيف أضاف النسيان إلى الشيطان، وهو فعل الله تعالى ؟ والجواب: إنما أضافه إلى الشيطان، لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر، وتراكم الخواطر الردية، والوساوس الفاسدة، من الشيطان، فجاز إضافة النسيان إليه، لما حصل عند فعله، كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات، فإنه يضاف الموت إليه، لأئه عرضه لذلك، وكان كالسبب فيه. (فلا تقعد بعد الذكرى) أي: بعد ذكرك نهينا، وما يجب عليك من الإعراض، عن الجبائي. وقيل: معناه بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين، عن أبي مسلم. فكأنه قال: أعرض في حال اليأس، وذكر في حال الطمع. (مع القوم الظالمين) يعني: في مجالس الكفار والفساق الذين يظهرون التكذيب بالقرآن والآيات، والاستهزاء بذلك، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي، واختاره البلخي، وقال. كان ذلك في أول الإسلام، وكان يختص النبي صلى الله عليه واله وسلم، ورخص للمؤمنين في ذلك لما عز الإسلام، وكثر المسلمون، نهوا عن مجالستهم، ونسخت هذه الآية بقوله: (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم). قال الجبائي: وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في جواز التقية على الأنبياء والأئمة، وأن النسيان لا يجوز على الأنبياء، وهذا القول غير صحيح ولا مستقيم، لأن الإمامية إنما تجوز التقية على الإمام، فيما تكون عليه دلالة قاطعة
[ 82 ]
توصل إلى العلم، ويكون المكلف مزاح العلة في تكليفه ذلك، فأما ما لا يعرف إلا بقول الإمام من الأحكام، ولا يكون على ذلك دليل إلا من جهته، فلا يجوز عليه التقية فيه. وهذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شئ من الأشياء الشرعية، فإنه يجوز منه أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشئ، إذا اقتضته المصلحة. ألا ترى إلى ما روي أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال: يكفيك آية السيف ! وأما النسيان والسهو، فلم يجوزوهما عليهم، فيما يؤدونه عن الله تعالى، فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم أن ينسوه، أو يسهوا عنه، ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل، وكيف لا يكون كذلك، وقد جوزوا عليهم النوم والإغماء، وهما من قبيل السهو ؟ فهذا ظن منه فاسد، وإن بعض الظن إثم. (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أي: ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شئ، بحضورهم مجلس الخوض (ولكن ذكرى لعلهم يتقون، أي: نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى، وأمروا أن يذكروهم وينبهوهم على خطاياهم، لكي يتقي المشركون إذا رأوا إعراض هؤلاء المؤمنين عنهم، وتركهم مجالستهم، فلا يعودون لذلك، عن أكثر المفسرين. وقيل: معناه ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه، ولا تبعة، ولكنه أعلمهم أنهم محاسبون، وحكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم، فيتقوا، عن البلخي. فالهاء والميم على الوجه الأول يعود إلى الكفار، وفي الثاني إلى المؤمنين. وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون 70. اللغة: يقال أبسلته بجريرته أي: أسلمته بها. والمستبسل: المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص، قال الشاعر:
[ 83 ]
وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق أي: إسلامي إياهم. والبعو: الجناية. قال الأخفش: تبسل أي: تجازي. وقيل: تبسل أي: ترهن. والمعاني متقاربة. وهذا بسل عليك أي: حرام عليك. وجائز أن يكون أسد بأسل من هذا أي إنه لا يقدر عليه. وجائز أن يكون من الأول بمعنى: إن معه من الاقدام ما يستبسل له قرنه. ويقال: أعط الراقي بسلته أي: أجرته، وتأويله إنه عمل في الشئ الذي قد استبسل صاحبه معه. والعدل: الفداء، وأصله المثل. والحميم: الماء الحار، أحم حتى انتهى غليانه، ومنه الحمام. الاعراب: (أن تبسل) في موضع نصب بأنه مفعول، وهو من باب حذف المضاف، تقديره: كراهية أن تبسل. وقوله: (ليس لها من دون الله): صفة لنفس، والتقدير نفس عادمة وليا وشفيعا يكسبها. (أولئك الذين أبسلوا): مبتدأ وخبر. وقوله: (لهم شراب من حميم): يجوز أن يكون خبرا ثانيا (لأولئك)، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا. المعنى: ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار، فقال: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) أي: دعهم وأعرض عنهم، وإنما أراد به إعراض إنكار، لأنه قال بعد ذلك وذكر: يريد دع ملاطفتهم ومجالستهم، ولا تدع مذاكرتهم ودعوتهم، ونظيره في سورة النساء: (فأعرض عنهم وعظهم). (وغرتهم الحياة الدنيا) يعني به: اغتروا بحياتهم (وذكر به) أي: عظ بالقرآن. وقيل: بيوم الدين. وقيل: بالحساب (أن تبسل نفس بما كسبت) أي: لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت أي: بما عملت، عن الحسن، ومجاهد، والسدي، واختاره الجبائي، والفراء. وقيل: إن معنى تبسل: تهلك، عن ابن عباس. وقيل: تحبس، عن قتادة. وقيل: تؤخذ، عن ابن زيد. وقيل: تسلم إلى خزنة جهنم، عن عطية العوفي. وقيل: تجازى عن الأخفش (ليس لها من دون الله ولي) أي: ناصر ينجيها من العذاب (ولا شفيع) يشفع لها (وإن تعدل كل عدل) وإن تفد كل فداء (لا يؤخذ منها) وقيل: معناه وإن تقسط كل قسط في ذلك اليوم، لا يقبل منها، لأن التوبة هناك غير مقبولة، وإنما تقبل في الدنيا (أولئك الذين أبسلوا) أي: أهلكوا. وقيل: أسلموا للهلكة، فلا مخلص لهم. وقيل: ارتهنوا. وقيل: جوزوا (بما كسبوا) أي: بكسبهم وعملهم (لهم شراب من حميم) أي: ماء مغلي حار
[ 84 ]
(وعذاب أليم) مؤلم (بما كانوا يكفرون) أي: بكفرهم يريد جزاء على كفرهم. واختلف في الآية فقيل هي منسوخة باية السيف، عن قتادة. وقيل: ليست بمنسوخة، وإنما هي تهديد ووعيد، عن مجاهد، وغيره. وفيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله من الإستهزاء بالقرآن، وبآيات الله، وتحذير عن سلوك طريقتهم. وقال الفراء: ما من أمة إلا ولهم عيد يلعبون فيه ويلهون، إلا أمة محمد صلى الله عليه واله وسلم فإن أعيادهم صلاة، ودعاء، وعبادة ! قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين 71. القراءة: قرأ حمزة وحده: (أستهويه) بألف ممالة. والباقون: (إستهوته) بالتاء المعجمة من فوق. الحجة: قال أبو علي: كلا المذهبين حسن، قال الشاعر: وكنا ورثناه على عهد تبع، طويلا سواريه، شديدا دعائمه اللغة: استهواه: من قولهم هوى من حالق (1) إذا تردى منه، ويشبه به الذي زل عن الطريق المستقيم، كما أن قوله زل إنما هو في المكان قال (قام على منزعة زلخ فزل) (2) ثم يشبه به المخطئ في طريقته في مثل قوله: (فأزلهما الشيطان) فكذلك هوى وأهواه غيره، فيقال: أهويته واستهويته بمعنى. كما يقال أزله الشيطان واستزله بمعنى. وكذلك استجابه بمعنى أجابه قال: " فلم يستجبه عند ذاك مجيب " (3) (1) الحالق: الجبل المرتفع. (2) المنزعة: الصخرة التي يقوم عليها الساقي من البئر. ومكان زلخ: ملس. مزلة (3) قال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: وداع دعا يامن يجيب الى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب فقلت ادع أخرى وارفع الصوت رفعة لعل أبا المغوار منك قريب (اللسان: جوب). (*)
[ 85 ]
والحيران: المتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه، والفعل منه: حار يحار حيرة، ورجل حائر، وحيرا ن، وقوم حيارى. الاعراب: (كالذي استهوته): في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره أندعو من دون الله دعاء مثل دعاء الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، و (حيران): نصب على الحال من مفعول (استهوته). (له أصحاب): وصف ل (حيران). و (يدعونه): صفة لأصحاب أي: أصحاب داعون له إلى الهدي، قائلون له ائتنا، وهاهنا منتهى الكلام. وقوله: (أمرنا لنسلم): تقول العرب أمرتك لتفعل، وأمرتك أن تفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق، والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل. ومن قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار. ومن قال: أمرتك لتفعل المعنى أمرتك للفعل. وقال الزجاج: التقدير أمرنا كي نسلم، قال الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل أي: كي أنسى. المعنى: ثم أمر سبحان نبيه صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين بخطاب الكفار، فقال (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعون إلى عبادة الأصنام، أو قل أيها الإنسان، أو أيها السامع (أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا) إن عبدناه (ولا يضرنا) إن تركنا عبادته (ونرد على أعقابنا) هذا مثل يقولون لكل خائب لم يظفر بحاجته: رد على عقبيه ونكص على عقبيه وتقديره: أنرجع القهقرى في مشيتنا ؟ والمعنى: أنرجع عن ديننا الذي هو خير الأديان (بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران) لا يهتدي إلى طريق. وقيل: معناه استغوته الغيلان في المهامه (1)، عن ابن عباس. وقيل: معناه دعته الشياطين إلى اتباع الهوى. وقيل: أهلكته. وقيل: ذهبت به عن نفطويه. وقيل: أضلته عن أبي مسلم (له اصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) أي: إلى الطريق الواضح يقولون له: ائتنا، ولا يقبل منهم، ولا يصير إليهم، لأنه قد تحير لاستيلاء الشيطان عليه يهوى ولا يهتدي، ثم أمره الله سبحانه فقال: (قل) لهؤلاء الكفار (إن هدى الله هو الهدى) أي: دلالة الله لنا على توحيده، وأمر دينه، (1) أي في البادية. (*)
[ 86 ]
هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الصلاح والرشاد في دينه، وهو الذي يجب أن يعمل عليه، ونستدل به، فلا نترك ذلك إلى ما تدعون إليه. (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) معناه: وأمرنا أن نسلم. وقيل: معناه أن نسلم أمورنا ونفوضها إلى الله، ونتوكل عليه فيها. وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذى إليه تحشرون 72 وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهاده وهو الحكيم الخبير 73. الاعراب: يحتمل أول الآية وجهين أحدهما: أن يكون التقدير أمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة والثاني: أن يكون محمولا على المعنى، لأن معناه أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة وموضع (أن) نصب، لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل، فنصب. (عالم الغيب) رفع، لأنه نعت الذي في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض). ويحتمل أن يكون فاعل فعل يدل عليه الفعل المبني للمفعول به، وهو قوله: (ينفخ في الصور) وهذا كما يقولون: أكل طعامك عبد الله، والتقدير أكله عبد الله، قال الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح (1) كأنه قيل: من يبكيه ؟ قال: يبكيه ضارع. والأول أجود. المعنى: (وأن أقيموا الصلاة): هذا موصول بما قبله أي: وقيل لنا أقيموا الصلاة (واتقوه) أي: واتقوا رب العالمين أي: تجنبوا معاصيه فتتقوا عقابه (وهو الذي إليه تحشرون) أي: تجمعون إليه يوم القيامة، فيجازي كل عامل منكم بعمله (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) فيه قولان أحدهما: إن معناه خلقهما (1) الضارع فاعل من ضرع فلان أي: خضع وذل. المختبط: اسم فاعل من اختبطه: إذا سأله المعروف. أطاح: هلك. (*)
[ 87 ]
للحق، لا للباطل، عن الحسن، والزجاج، وغيرهما، ومعناه: خلقهما حقا وصوابا، لا باطلا وخطأ، كما قال: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا). وأدخلت الباء والألف واللام، كما أدخلت في نظائرها، يقولون: فلان يقول الحق بمعنى أنه يقول حقا، لا أن الحق معنى غير القول، بل تقديره إن خلقهما حكمة وصواب من حكم الله، وهو موصوف بالحكمة في خلقهما، وخلق ما سواهما من جميع خلقه، لا إن هناك حقا سوى خلقهما، خلقهما به. والقول الآخر: ما قاله قوم: إن معناه خلق السماوات والأرض بكلامه الحق، وهو قوله: (ائتيا طوعا أو كرها) فالحق صفة قوله، وكلامه. والأول هو الصحيح. (ويوم يقول كن فيكون): ذكر في نصب (يوم) وجوه أحدها: أن يكون عطفا على الهاء في قوله: (واتقوه) أي: واتقوا يوم يقول كن فيكون، كما قال سبحانه: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا). والثاني: أن يكون على معنى: واذكر يوم يقول كن فيكون لأن بعده: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) عطفا على ذلك، قال الزجاج: وهو الأجود والثالث: ان يكون معطوفا على السماوات، والمعنى: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وخلق يوم يقول كن فيكون، فإن يوم القيامة لم يأت بعد، فجوابه: إن ما أنبأ الله بكونه، فحقيقة واقع لا محالة، وأما قوله: (كن فيكون) فقد قيل فيه إنه خطاب للصور، والمعنى: يوم يقول للصور كن فيكون، وما ذكر من الصور يدل عليه. وقيل: إن قوله كن فيكون فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت، المعنى ويوم يقول للشئ كن فيكون. وهذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر البعث والساعة، فكأنه يقول: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون، وانتشروا فينتشرون أي: لا يتعذر عليه ذلك، ولا يتأخر عن وقت إرادته. وقيل: معناه ويوم يقول كن فيكون. (قوله الحق) أي: يأمر فيقع أمره أي: ما وعدوا به من الثواب، وحذروا به من العقاب، والحق من صفة قوله (وقوله): فاعل يكون، كما تقول قد قلت فكان قولك، وليس المعنى أنك قلت فكان الكلام، إنما المعنى انه كان ما دل عليه القول. وأما على القول المتقدم فيكون (قوله) مبتدأ، و (الحق) خبره. وقد ذكرنا تفسير قوله: (كن فيكون) في سورة البقرة مستقصى. (وله الملك يوم ينفخ في الصور) قيل في نصب يوم هنا وجوه أحدها: أن
[ 88 ]
يكون متعلقا بله الملك وتقديره: إن الملك قد وجب له في ذلك اليوم الذي فيه ينفخ في الصور، فقد خص ذلك اليوم بأن ا لملك له كما خصه في قوله (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) والوجه فيه أنه لا يبقى ملك من ملكه الله في الدنيا، أو تغلب عليه، بل يتفرد سبحانه بالملك والثاني: أن يكون: (يوم ينفخ في الصور) مبنيا عن قوله. (ويوم يقول كن فيكون). والثالث: أن يكون منصوبا بقوله (الحق). والمعنى: قوله ا لحق يوم ينفخ في الصور، والوجه في اختصاصه بذلك اليوم وإن كان قوله حقا، في كل وقت، ما بيناه في الوجه الأول، وهو مثل قوله. (والأمر يومئذ لله) ولا شك أ ن الأمر في كل وقت لله تعالى. والمراد أن ذلك اليوم يوم لا يخالف الله في أوامره، لأنها محتومة ليس فيها تخيير، ولا يقدر أحد على معصيته. وأما (الصور) فقيل فيه: قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام نفختين، فتفنى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى ويحيون بالنفخة الثانية، فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا، والثانية لابتداء الآخرة، وقال الحسن: هو جمع صوره، كما ان السور جمع سورة، وعلى هذا فيكون معناه: يوم ينفخ الروح في الصور. ويؤيد القول الأول ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: " كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنا جبينه، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر، فينفخ ؟ قالوا فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " والعرب تقول نفخ الصور، ونفخ في الصور، قال الشاعر: لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم ولا خراسان حتى ينفخ الصور (1) (عالم الغيب والشهادة) أي: يعلم ا ما لا يشاهد الخلق، وما يشاهدونه، وما لا يعلمه الخلق، وما يعلمونه، لا يخفى عليه شئ من ذلك (وهو الحكيم) في أفعاله (الخبير) العالم بعباده، وأفعالهم. وإذ قال إبراهيم لأبيه ازر أتتخذ أصناما إلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين 74 وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات ولأرض وليكون (1) قهندز هو في الأصل اسم الحصن أو القلعة في وسط المدينة، وهو في مواضع كثيرة منها قهندز نيسابور، وقهندز مرو، وغيرهما. (*)
[ 89 ]
من الموقنين 75. القراءة: القراءة الظاهرة: (آز ر) بالفتح. وقرأ يعقوب الحضرمي: (آزر) بضم الراء، وهو قراءة الحسن، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك. الحجة: من قرأ بالفتح جعل آزر في موضع جر بدلا من أبيه، أو عطف بيان، ومن قرأ بالضم: جعله منادى مفردا، وتقديره يا آزر. اللغة: الاصنام: جصع صنم. والصنم: ما كان صورة. والوثن: ما كان غير مصور. والآلهة: جمع إله، مثال إزار وآزرة. والمبين: هو البين الظاهر. والملكوت: بمنزلة الملك غير أن هذا اللفظ أبلغ، لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة، ومثله الرغبوت والرهبوت، ووزنه فعلوت. وفي المثل: " رهبوت خير من رحموت " أي: لأن ترهب خيرمن أن ترحم (1). الاعراب: العامل في (إذ) محذوف، وتقديره واذكر إذ قال. وقيل: إنه يتصل بقوله بعد إذ هدانا الله أي: وبعد إذ قال إبراهيم. والكاف في (كذلك) كاف التشبيه، والمعنى: كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه، وقومه من المذهب، وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، للإعتبار وقيل: شبه رؤية إبراهيم برؤية محمد صلى الله عليه واله وسلم، والمعنى: كما أريناك يا محمد، أرينا إبراهيم. وقوله (وليكون) عطف على محذوف، وتقديره نريه الملكوت، ليستدل به، وليكون من الموقنين. وقيل: إنه جملة مستأنفة أي: وليكون من الموقنين أريناه، فاللام يتعلق بأريناه المحذوف. وقيل: إن الواو زائدة، ومعناه ليكون، وهذا بعيد. المعنى: (وإذ قال إبراهيم) أي: واذكر إذ قال (لأبيه آزر) فيه أقوال أحدها: إنه اسم أبي إبراهيم، عن الحسن، والسدي، والضحاك. وثانيها: إن اسم أبي إبراهيم تارخ، قال الزجاج: ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل: آزر عندهم ذم في لغتهم، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه يا مخطئ، فإذا كان كذلك، فالإختيار الرفع، وجائز أن يكون وصفا له، كأنه قال لأبيه المخطئ. وقيل: آزر اسم صنم. عن (1) لأن الذي يخافه الناس، يقتضي أن يكون عزيزا، والذي يشفقون عليه، يقتضي أن يكون ذليلا. (*)
[ 90 ]
سعيد بن المسيب، ومجاهد، قال الزجاج: فإذا كان كذلك، فموضعه نصب على إضمار الفعل، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه: أتتخذ آزر. وجعل أصناما بدلا من آزر وأشباهه، فقال بعد أن قال أتتخذ آزر إلها: أتتخذ أصناما آلهة ؟ وهذا الذي قال الزجاج، يقوي ما قاله أصحابنا: إن آزر كان جد إبراهيم لأمه، أو كان عمه، من حيث صح عندهم، إن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين، واجتمعت الطائفة على ذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: " لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنسني بدنس الجاهلية ". ولو كان في آبائه كافر، لم يصف جميعهم بالطهارة، مع قوله تعالى (إنما المشركون نجس)، ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها. وقوله (أتتخذ أصناما آلهة) استفهام المراد به الانكار أي: لا تفعل ذلك (إني أراك وقومك في ضلال) عن الصواب (مبين): ظاهر. وفي الآية حث للنبي على محاجة قومه الذين دعوه إلى عبادة الأصنام. والإقتداء بأبيه إبراهيم فيه وتسلية له بذلك (وكذلك نري إبراهيم) أي: مثل ما وصفناه من قصة إبراهيم، وقوله لأبيه ما قال، نريه (ملكوت السماوات والأرض) أي: القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد الله تعالى. وقيل: معناه كما أريناك يا محمد، أريناه آثار قدرتنا فيما خلقنا من الشمس، والقمر والنجوم، وما في الأرض من البحار، والمياه، والرياح، ليستدل بها. وهذا معنى قول ابن عباس، وقتادة. وقيل: يعني بالملكوت آيات السماوات والأرض، عن مجاهد. وقيل: إن ملكوت السماوات والأرض ملكهما بالنبطية، عن مجاهد أيضا. وقيل: إن ملكوت السماوات والأرض ما نشاهده من الحوادث الدالة على أن الله سبحانه مالك لهما، والله المالك لهما، ولكل شئ بنفسه، لا يملكه سواه، فأجرى الملكوت على المملوك الذي هو في السماوات والأرض مجازا، عن أبي علي الجبائي. وقال أبو جعفر عليه السلام: " كشط إلله له عن الأرضين حتى رآهن وما تحتهن، وعن السماوات حتى رآهن وما فيهن من الملائكة، وحملة العرش ". وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، رأى رجلا يزني، فدعا عليه فمات. ثم رأى آخر، فدعا عليه فمات، ثم رأى ثلاثة، فدعا
[ 91 ]
عليهم فماتوا، فأوحى الله تعالى: يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإني لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم. إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه، وصنف يعبد غيري، فليس يفوتني، وصنف يعبد غيري، فأخرج من صلبه من يعبدني " (وليكون من الموقنين) أي: من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك، والمالك له. النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها: إنه لما عاب دينهم، وذم آلهتهم، واحتج عليهم بما سلف ذكره، بين أنه دين إبراهيم، وللناس إلف بدين الآباء، لا سيما إذا كان الأب ذا قدر، وقيل: إنها تتصل بقوله (أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا) إلى قوله (بعد إذ هدانا)، ثم قال: وبعد ان قال إبراهيم كذا وكذا، عن أبي مسلم. فلما جن عليه اليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لاأحب الأفلين 76 فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالمين 77 فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون 78 إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. 79 القراءة: قرأ أبو عمرو، وورش، من طريق البخاري: (راى كوكبا) بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويحى، عن أبي بكر: (راى) بكسر الراء والهمزة. وقرأ الباقون بفتح الراء والهمزة. الحجة: ذكر أبو علي، الوجه في قراءة من لم يمل، وقراءة من أمال، وأورد في ذلك كلاما كثيرا تركنا ذكره خوف الإطالة. اللغة: يقال: جن عليه الليل، وجنه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم حتى يستر بظلمته. ويقال لكل ما ستر: قد جن، وأجن، ومنه اشتقاق الجن: لأنهم استجنوا
[ 92 ]
عن أعين الناس، وقال الهذلي: وماء وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الأدهم (1) ويقال أجننت الميت، وجننته: إذا واريته في اللحد. وأفل، يأفل، أفولا: إذا غاب. قال ذو الرمة: مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك (2) والبزوغ: الطلوع، يقال بزغت الشمس إذا طلعت. ويسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال، ثم يسمى قمرا إلى آخر الشهر، وإنما يسمى قمرا لبياضه. وحمار أقمر: أبيض. والحنيف: المائل إلى الحق. الاعراب: السؤال يقال: لم قال: هذا ربي، ولم يقل هذه كما قال بازغة ؟ وألجواب: إن التقدير: هذا النور الطالع ربي، ليكون الخبر والمخبر عنه جميعا على التذكير، كما كان جميعا على التأنيث في (رأى الشمس بازغة). وقال ابن فضال المجاشعي قوله (رأى الشمس بازغة) إخبار من الله تعالى. وقوله (هذا ربي) من كلام إبراهيم، والشمس مؤنثة في كلام العرب، وأما في كلام ما سواهم، فيجوز أن لا تكون مؤنثة، وإبراهيم عليه السلام لم يكن عربيا، فحكى الله تعالى كلامه على ما كان في لغته. ويقال: لم أنث الشمس، وذكر القمر ؟ والجواب: إن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها على حد قولهم: نسابة، وعلامة، وليس القمر كذلك، لأنه دونها في الضياء. ويقال: لم دخلت الألف واللام فيها، وهي واحدة، ولم تدخل في زيد وعمرو ؟ قيل: لأن شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس، فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس، أو إلى الشعاع على طريق الجنس، أو الواحد من الجنس، وليس زيد ونحوه كذلك. المعنى: لما تقدم ذكر الايات التي أراها الله تعالى إبراهيم عليه السلام بين سبحانه (1) الكرى على ما قيل: إسم موضع. السدف هنا: الظلمة. الأدهم: الأسود. (2) الدوالك من الدلوك: وهو الغروب.
[ 93 ]
كيف استدل بها، وكيف عرف الحق من جهتها فقال: (فلما جن عليه الليل) أي: أظلم عليه، وستر بظلامه كل ضياء (رأى كوكبا) واختلف في الكوكب الذي رآه، فقيل !: هو الزهرة. وقيل: هو المشتري (قال هذا ربي فلما أفل) أي: غرب (قال لا أحب الأفلين) واختلف في تفسير هذه الآيات على أقوال أحدها: إن إبراهيم عليه السلام إنما قال ذلك، عند كمال عقله في زمان مهلة النظر، وخطور الخاطر الموجب عليه النظر بقلبه، لأنه عليه السلام لما أكمل الله عقله، وحرك دواعيه على الفكر والتأمل، رأى الكوكب فأعظمه وأعجبه نوره وحسنه، وقد كان قومه يعبدون الكواكب، فقال: هذا ربي، على سبيل الفكر، فلما أفل، علم أن الأفول لا يجوز على الإله، فاستدل بذلك على أنه محدث مخلوق، وكذلك كانت حاله في رؤية القمر والشمس، فإنه لما رأى أفولهما، قطع على حدوثهما واستحالة إلهيتهما، وقال في آخر كلامه (يا قوم إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) إلى آخره. وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى، وعلمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه، وهذا اختيار أبي القاسم البلخي، وغيره، قال: وزمان مهلة النظر هي أكثر من ساعة، وأقل من شهر، ولا يعلم ما بينهما إلا الله تعالى. وثانيها: إنه إنما قال ذلك قبل بلوغه، ولما قارب كمال العقل، حركته الخواطر فيما شاهده من هذه الحوادث، فلما رأى الكوكب، ونوره، وإشراقه، وزهوره، ظن أنه ربه، فلما افل وانتقل من حال إلى حال، قال: لا أحب الآفلين. (فلما رأى القمر بازغا) عند طلوعه، ورأى كبره، وإشراقه، وانبساط نوره، وضياءه في الدنيا (قال هذا ربي فلما أفل)، وصار مثل الكوكب في الأفول والغيبوبة، وعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله، (قال لئن لم يهدني ربي) إلى رشدي، ولم يوفقني، ويلطف بي في إصابة الحق من توحيده، (لأكونن من القوم الضالين) بعبادة هذه الحوادث. (فلما رأى الشمس بازغة) أي: طالعة، وقد ملأت الدنيا نورا، ورأى عظمها وكبرها، (قال هذا ربي هذا أكبر) من الكوكب والقمر (فلما أفلت قال) حينئذ لقومه (يا قوم إني برئ مما تشركون) مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم، فلما أكمل الله عقله، وضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام، بأن وجدها غير منفكة من المعاني المحدثة، وأنه لا بد لها من محدث قال حينئذ لقومه (إني
[ 94 ]
وجهت وجهي) أي نفسي (للذي فطر السموات والأرض حنيفا) أي مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص (وما أنا من المشركين) وهذا اختيار أبي علي الجبائي. ويسأل عن القول الأول: كيف قال عليه السلام هذا ربي مخبرا، وهو غير عالم بما يخبر به، والإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون فيه كاذبا قبيح ؟ والجواب عنه في وجهين أحدهما: إنه لم يقل ذلك مخبرا، وإنما قاله فارضا ومقدرا على سبيل التأمل، كما يفرض أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام كونها قديمة، ليتبين ما يؤدي إليه الفرض من الفساد، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة والأخر: إنه أخبر عن ظنه، قد يجوز أن يظن المتفكر في حال فكره ونظره، ما لا أصل له، ثم يرجع عنه بالأدلة. (سؤال آخر): كيف تعجب إبراهيم عليه السلام من رؤية هذه الأشياء تعجب من لم يكن راها، وكيف يجوز أن يكون مع كمال عقله، لم يشاهد السماء والكواكب ؟ والجواب: إنه لا يمتنع أن يكون عليه السلام ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت، لأنه قد روي أن أمه كانت ولدته في مغارة، خوفا من أن يقتله نمرود، ومن يكون في المغارة، لا يرى السماء، فلما قارب البلوغ، وبلغ حد التكليف، خرج من المغارة، ورأى السماء. وقد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك، إلا أنه لم يفكر في أعلامها، لأن الفكر لم يكن واجبا عليه، وحين كمل عقله فكر في ذلك. وثالثها: إن إبراهيم عليه السلام لم يقل (هذا ربي) على طريق الشك، بل كان عالما موقنا أن ربه سبحانه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب، وإنما قال ذلك على سبيل الانكار على قومه، والتنبيه لهم على أن من يكون إلها معبودا، لا يكون بهذه الصفة الدالة على الحدوث، ويكون قوله (هذا ربي) محمولا على أحد الوجهين: إما على أنه كذلك عندكم وفي مذاهبكم. كما يقول أحدنا للمشبه هذا ربه، جسم يتحرك ويسكن. وإما على ان يكون قال ذلك مستفهما، وأسقط حرف الإستفهام للاستغناء عنه، وقد كثرمجئ ذلك في كلام العرب، قال أوس بن حجر: لعمرك لا أدري وإن كنت داريا شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر وقال الأخطل:
[ 95 ]
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا (1) وقال عمربن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهرا (2) عدد القطر والحصى والتراب أي أتحبها ؟ وقال آخر: رفوني وقالوا: يا خويلد لا ترع فقلت، وأنكرت الوجوه: هم هم (3) أي: أهم أهم. وروي عن ابن عباس أنه قال في قوله (فلا أقتحم العقبة) معناه أفلا أقتحم فحذف حرف الإستفهام. ورابعها إنه عليه السلام إنما قال استخداعا للقوم، يريهم قصور علمهم، وبطلان عبادتهم لمخلوق جار عليه أعراض الحوادث، فإنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب، وبعضهم يعبدون النيران، وبعضهم يعبدون الأوثان، فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه، قال لهم (هذا ربي) في زعمكم، كما قال: (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) فأضافه إلى نفسه، حكاية لقولهم، فكأنه قال لهم (هذا ربي) في قولكم. وقيل: انه نوى في قلبه الشرط أي: إن كان ربكم هذا الحجر، كما تزعمون، فهذا الكوكب، وهذا القمر والشمس، ربي. ولم يكن الحجر ربهم، ولا الكوكب ربه. وفي هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام، وإثبات الصانع، وإنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها، لأن حركتها بالأفول أظهر، ومن الشبهة أبعد، وإذا جازت عليها الحركة والسكون، فلا بد أن تكون مخلوقة محدثة، وإذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث، والمحدث لا بد أن يكون قادرا ليصح منه الإحداث، وإذا أحدثها على غاية الإنتظام والإحكام، فلا بد أن يكون عالما، وإذا كان قادرا عالما، وجب أن يكون حيا موجود !. (1) الواسط: بلد بالعراق. الغلس كغرس: ظلمة آخر الليل. والظلام: ذهاب النور، وأراد به هنا ا لليل. والرباب كسحاب: اسم إمرأة. والخيال: الظن. (2) قوله بهرا مفعول مطلق لفعل محذوف اي: بهرني بهرا بمعنى غلبني غلبة. (3) رفوني أي: سكنوني من الرعب. اعتبر بمشاهدة الوجوه، وجعلها دليلا على ما في النفوس. (*)
[ 96 ]
وفيها تنبيه لمشركي العرب، وزجر لهم عن عبادة الأصنام وحث لهم على سلوك طريق أبيهم إبراهيم عليه السلام، في النظر والتفكر، لأنهم كانوا يعظمون آباءهم، فأعلمهم سبحانه أن اتباع الحق من دين إبراهيم الذي يقرون بفضله، أوجب عليهم. القصة: ذكر أهل التفسير والتاريخ أن إبراهيم عليه السلام ولد في زمن نمرود بن كنعان، وزعم بعضهم أن نمرود كان من ولاة كيكاوس، وبعضهم قال: كان ملكا برأسه، وقيل لنمرود: انه يولد في بلده هذه السنة، مولود، يكون هلاكه وزوال ملكه على يده. ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنما قالوا ذلك من طريق التنجيم والتكهن. وقال آخرون: بل وجد ذلك في كتب الأنبياء، وقال آخرون: رأى نمرود كأن كوكبا طلع، فذهب بضوء الشمس والقمر، فسأل عنه فعبر، بأنه يولد غلام يذهب ملكه على يده، عن السدي. فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة، وأمر بأن يعزل الرجال عن النساء، وبأن يتفحص عن أحوال النساء، فمن وجدت حبلى تحبس حتى تلد، فإن كان غلاما قتل، وإن كانت جارية خليت، حتى حبلت أم إبراهيم. فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أمه هاربة، فذهبت به إلى غار، ولفته في خرقة، ثم جعلت على باب الغار صخرة، ثم انصرفت عنه، فجعل الله رزقه في إبهامه. فجعل يمصها فتشخب لبنا. وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة. فمكث ما شاء الله أن يمكث، وقيل: كانت تختلف إليه أمه، فكان يمص أصابعه، فوجدته يمصن من أصبع ماء، ومن أصبع عسلا، ومن أصبع تمرا، ومن أصبع سمنا، عن أبي روق، ومحمد بن إسحاق. ولما خرج من السرب، نظر إلى النجم، وكان آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر، ثم رأى الشمس، فقال ما قال، ولما رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم، وكان يعيب آلهتهم، حتى فشا أمره، وجرت المناظرات. وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون 80
[ 97 ]
وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون 81. القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر، في رواية ابن ذكوان: (أتحاجوني) خفيفة النون. والباقون بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: لا نظير في قول مان شدد. فأما وجه التخفيف فإنه حذفت النون الثانية، لالتقاء النونين، والتضعيف يكره، فيتوصل إلى إزالته تارة بالحذف، نحو علماء بنو (1) فلان، وتارة بالإبدان نحو: لا أملاه حتى تفارقا، ونحو: ديوان وقيراط، فحذفوا النون الثانية، كراهة التضعيف. ولا يجوز أن تكون المحذوفة الأولى، لأن الإستثقال يقع بالتكرير في الأمر الأعم، وفي الأولى أيضا أنها دلالة الإعراب، وإنما حذفت الثانية كما حذفتها في ليتى في نحو قوله: " إذ قال ليتى أصادفه ويذهب بعض مالي " (2) وقوله: تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذافليني (3) فالمحذوفة المصاحبة للياء، ليسلم سكون لام الفعل، وما يجري مجراها، أو حركتها، ولا يجوز أن يكون المحذوفة الأولى، لأن الفعل يبقى بلا فاعل، كما لا تحذف الأولى في: (أتحاجوني)، لأنها لإعراب. ويدل على أن المحذوفة الثانية، أنها حذفت مع الجار أيضا، في نحو قوله: " قدني من نصر ألخبيبين قدي " (4). وقد جاء حذف هذه النون في كلامهم، قال الشاعر: أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني (1) أصله (بنوو) بواوين، فسقطت إحداهما. وأملاه أصله (أصلله) بلامين. (2) هومن بيت لزيد الخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه واله وسلم (زيد الخير) وهو: كمنية جابر إذ قال ليتى الخ. (3) الثغام: شجر أبيض الزهر والثمر كأن جماعتها هامة شيخ. قوله: عل مسكا من عل الأديم: إذا أشبعه الصباغ الفاليات جمع الفالية من الفلى: وهو أخذ القمل. والشاهد في قوله (فليني) فإن أصله فلينني بالنونين. (4) وتمامه: ليس الإمام بالشحيح الملحد. (*)
[ 98 ]
وقال: تذكرونا إذ نقاتلكم * لا يضر معدما عدمه الإعراب: موضع (أن يشاء): نصب أي: لا أخاف إلا مشيئة الله، وهذا استثناء منقطع. وقيل: متصل، وتقديره: لا أخافهم إلا أن يشاء ربي إحياءهم وإقدارهم. و (علما): منصوب على التمييز. المعنى: ثم ذكر سبحانه محاجة إبراهيم مع قومه، فقال (وحاجه قومه) أي: خاصموه وجادلوه في الدين، وخوفوه من ترك عبادة آلهتهم (قال) أي. إبراهيم لهم (أتحاجوني في الله وقد هدان) أي: وفقني لمعرفته، ولطف بي في العلم بتوحيده، وترك الشرك، وإخلاص العبادة له (ولا أخاف ما تشركون به) أي: لا أخاف منه ضررا إن كفرت به، ولا أرجو نفعا إن عبدته، لأنه بين صنم قد كسر، فلم يدفع عن نفسه، ونجم دل أفوله على حدوثه، فكيف تحاجونني وتدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره، ولا يرجى نفعه. (إلا أن يشاء ربي شيئا) فيه قولان أحدهما: إن معناه إلا أن يغلب الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها، فيحييها ويقدرها، فتضر وتنفع، فيكون ضررها ونفعها إذ ذاك، دليلا على حدوثها أيضا، وعلى توحيد الله، وعلى أنه المستحق للعبادة دون غيره، وأنه لا شريك له في ملكه، ثم أثنى على الله سبحانه فقال: (وسع ربي كل شئ علما) أي: هو عالم بكل شئ، ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فقال: (أفلا تتذكرون). والثاني: قول الحسن: معناه لا أخاف الأوثان إلا أن يشاء ربى أن يعذبني ببعض ذنوبي، أو يشاء الإضرار بي ابتداء، والأول أجود. ثم احتج عليه السلام عليهم، وأكد الحجاج بقوله (وكيف أخاف ما أشركتم) أي: كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان المخلوقة، وقد تبين حالهم في أنهم لا يضرون ولا ينفعون (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) أي: ولا تخافون من هو القادر على الضر والنفع، بل تجرؤون عليه بأن أشركتم، أي: جعلتم له شركاء في ملكه، وتعبدونهم، من دونه، وقيل: معناه كيف أخاف شرككم، وأنا منه برئ، والله تعالى لا يعاقبني بفعلكم، وأنتم لا تخافون، وقد أشركتم به، فيكون على هذا ما في قوله (ما أشركتم) مصدرية.
[ 99 ]
(ما لم ينزل به عليكم سلطانا) أي: حجة على صحته. وهذا يدل على أن كل من قال قولا، أو اعتقد مذهبا بغير حجة، فهو مبطل (فأي الفريقين أحق بالأمن) أنحن، وقد عرفنا الله بأدلته، ووجهنا العبادة نحوه، أم أنتم وقد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام. ولو اطرحتم العصبية والحمية، لما وجدتم لهذا الحجاج مدفعا (إن كنتم تعلمون) أي: تستعملون عقولكم، فتميزون الحق عن الباطل، والدليل من الشبهة. الذين إمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون 82. اللغة: قال الأصمعي: الظلم في اللغة: وضع الشئ في غير موضعه، قال الشاعر يمدح قوما (هرت الشقاشق ظلامون للجزر) (1): يريد أنهم عرقبوها، فوضعوا النحر غير موضعه. وقال النابغة: " والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد) (2): يريد الأرض التي صرف عنها المطر، وإنما سماها مظلومة، لأنهم يتحوضون فيها حوضا، لم يحكموا صنعه، ولم يضعوه في موضعه، لكونهم مسافرين. المعنى: لما تقدم قوله سبحانه: (فأي الفريقين أحق بالأمن) أي: بأن يأمن من العذاب، الموحد أم المشرك، عقبه ببيان من هو أحق به فقال: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) معناه: الذين عرفوا الله تعالى، وصدقوا به، وبما أوجبه عليهم، ولم يخلطوا ذلك بظلم. والظلم هو الشرك، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ومجاهد، وأكثر المفسرين. وروي عن أبي بن كعب، أنه قال: ألم تسمع قوله سبحانه (إن الشرك لظلم عظيم)، وهو المروي عن سلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان. وروي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الاية، شق على الناس، (1) من هرت ثوبه هرتا: إذا شقه. ويقال للخطيب من الرجال: أهرت الشقشقة. الشقشقة: شئ كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وفلان شقشقة قومه أي: شريفهم وفصيحهم. الجزر: جمع الجزور. (2) هو من شعر للنابغة يصف سيلا وقبله الا الأواري لأياما أبينها. النؤي: الحاجز حول البيت من تراب. الجلد: الأرض الصلبة. (*)
[ 100 ]
وقالوا: يا رسول الله ! وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم: إنه ليس الذي تعنون، ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم). وقال الجبائي، والبلخي: يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة. وقال البلخي: ولو اختص الشرك على ما قالوه، لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا، وذلك خلاف القول بالإرجاء، وهذا لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب، ومرتكب الكبيرة غير آمن، وإن كان ذلك معلوما بدليل آخر. (أولئك لهم الأمن). من الله بحصول الثواب، والأمان من العقاب (وهم مهتدون) أي: محكوم لهم بالإهتداء إلى الحق والدين، وقيل: إلى الجنة. واختلف في هذه الآية، فقيل: إنه من تمام قول إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن هذا القول من الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك، بين إبراهيم عليه السلام وقومه، عن محمد بن إسحاق، وابن زيد، والجبائي. وتلك حجتنا إتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم 83 ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين 84 وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين 85 وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين 86 ومن إبائهم وذريتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. القراءة: قرأ أهل الكوفة ويعقوب (درجات) منونا والباقون: (درجات من نشاء) بالإضافة. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (والليسع) بتشديد اللام وفتحها، وسكون الياء، ههنا وفي ص. والباقون: واليسع بسكون اللام، وفتح الياء. الحجة: من أضاف (درجات) ذهب إلى أن المرفوعة هي الدرجات لمن يشاء. ومن نون ذهب إلى أن المرفوع صاحب الدرجات، ويقوي قراءة من أضاف
[ 101 ]
قوله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) فمن فضل على غيره، فقد رفعت درجته عليه، ويدل على قراءة من نون قوله: (ورفع بعضهم درجات) لأنه في ذكر الرسل، فأما قوله (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) فإنه في الرتب وارتفاع الأحوال في الدنيا، واتضاعها، لأن قبله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) وأما من قرأ (الليسع) باللام فإن هذه اللام زائدة. قال أبو علي: إعلم إن لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين أحدهما: للتعريف والاخر زيادة زيدت كما تزاد الحروف، والتعريف على ضروب منها أن يكون إشارة إلى معهود بينك وبين المخاطب، نحو، الرجل إذا أردت به رجلا عرفتماه بعهد كان بينكما والآخر: أن يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس، فهذا الضرب وإن كان معرفة كالأول، فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسا، وهذا لم يعلمه كذلك، إنما يعلمه معقولا وأما نحو: مررت بهذا الرجل، فإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر، لا إلى غائب معلوم بعهد، ألا ترى أنك تقول ذلك فيما لا عهد بينك فيه وبين مخاطبك، ويدلك على ذلك قولك في النداء: يا أيها الرجل ! فتشير به إلى المخاطب الحاضر. فأما نحو العباس، والحارث، والحسن، فإنما دخلت الألف واللام فيها على تنزيل أنها صفات جارية على موصوفين، وهذا، يعني الخليل بقوله: جعلوه الشئ بعينه، فإذا لم ينزل هذا التنزيل لم يلحقوها الألف واللام، فقالوا: حارث وعباس، وعلى كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم، قال الفرزدق: يقعدهم أعراق حذيم بعدما رجا الهتم إدراك العلى والمكارم وقال: ثلاث مئين للملوك وفى بها ردائي. وجلت عن وجوه الأهاتم فجعله مرة اسما بمنزلة اضحاة وأضاح، ومرة صفة بمنزلة أحمر وحمر، وجمع الأعشى بين الأمرين في قوله: أتاني وعيد الحوص من آل جعفر فيا عبد عمر ولو نهيت الأحاوصا (1) (1) الحوص والأحاوص جمع الأحوص. أريد بهما بني الأحوص بن جعفر بن كلاب، واسمه ربيعة، وكان صغير العينين. (*)
[ 102 ]
وأما قوله: والتيم ألأم من يمشي وألامهم ذهل بن تيم بنو السود المدانيس (1) فإنه يحتمل أمرين يجوز أن يكون بمنزلة العباس، لأن التيم مصدر، والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين، فوصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين، وجمع جمعها في نحو: نور وأنوار، وسيل وسوائل. وعلى هذا قالوا: الفضل في اسم رجل، كأنهم جعلوه الشئ الذي هو خلاف النقص، والآخر أن يكون تيمي وتيم، كزنجي وزنج، فأما الألف والام في (الليسع) فلا يخلو أن تكون زائدة، أو غير زائدة، فإن كانت غير زائدة، فلا يخلو أن يكون على حد الرجل، إذا أردت به المعهود، أو الجنس، نحو (إن الإنسان لفي خسر)، أو على دخولهما في العباس، فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك، فثبت أنه زيادة، ومما جاءت اللام فيه زائدة، ما أنشده أحمد بن يحيى: يا ليت أم العمر وكانت صاحبي مكان من أنشا على الركائب (2) ومما جاءت الألف واللام فيه زائدة، الخمسة العشر درهما، حكاه أبو الحسن الأخفش، ألا ترى أنهما إسم واحد، ولا يجوز أن يعرف إسم واحد بتعريفين، كما لا يجوز أن يتعرف بعض الإسم دون بعض ؟ وذهب أبو الحسن إلى أن اللام في (اللات)، زائدة لأن اللات معرفة. فأما العزى فبمنزلة العباس، وقياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللام في (اليسع) أيضا زائدة، لأنه علم مثل اللات، وليس صفة، ومما جاءت اللام فيه زائدة، قول الشاعر: وجدنا الوليد ابن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله (3) فأما من قال (الليسع): فإنه يكون اللام على حد ما في الحرث، ألا ترى أنه على وزن الصفات، إلا أنه وإن كان كذلك، فليس له مزية على القول الآخر. ألا ترى أنه لم يجئ في الأسماء ألأعجمية المنقولة في حال التعريف، نحو إسماعيل وإسحاق، شئ على هذا النحو، كما لم يجئ فيها شئ فيه لام التعريف ؟ فإذا (1) المدانيس: جمع الدنس ككتف. (2) الركائب جمع الركاب: الإبل. (3) الأعباء: الأثقال. (*)
[ 103 ]
كان كذلك كان (الليسع) بمنزلة اليسع في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة. الاعراب: (وتلك حجتنا): تلك مبتدأ، وحجتنا خبره، والظاهر أن قوله (على قومه) من صلة حجتنا أي: وتلك حجتنا على قومه. وإذا جعلت (أتيناها) من صفة حجتنا، كان فصلا بين الصلة والموصول، وذلك لا يجوز، فينبغي أن يكون متعلقا بمحذوف هذا الظاهر تفسير له، كذا نقل عن أبي علي الجبائي. المعنى: ثم بين سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لقومه، آتاه إياها، وأعطاه إياها، بمعنى أنه هداه لها، وأنه احتج بها بأمره، فقال (وتلك حجتنا) أي: أدلتنا (آتيناها) أي: أعطيناها (إبراهيم) وأخطرناها بباله، وجعلناها حججا (على قومه) من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند المحاجة (نرفع درجات من نشاء) من المؤمنين الذين يصدقون الله ورسوله، ويطيعونه، ونفضل بعضهم على بعض، بحسب أحوالهم في الإيمان واليقين (إن ربك حكيم عليم) يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته، ويقتضيه علمه. وقيل: معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالإصطفاء للرسالة (ووهبنا له) أي: لإبراهيم (إسحاق) وهو ابنه من سارة (ويعقوب) ابن إسحاق (كلا هدينا) أي: كل الثلاثة فضلنا بالنبوة كما قال سبحانه (ووجدك ضالا فهدى) أي: ذاهبا عن النبوة، فهداك إليها. وقيل: معناه كلا هدينا بنيل الثواب والكرامات، عن الجبائي. من الله سبحانه على إبراهيم بأن رزقه الولد، وولد الولد، فإن من أفضل النعم على العبد، أن يرزقه الله ولدا يدعو له بعد موته، فكيف إذا رزق الولد وولد الولد، وهما نبيان مرسلان. (ونوحا هدينا من قبل) أي: من قبل هؤلاء (ومن ذريته) أي: من ذرية نوح، لأنه أقرب المذكورين إليه، ولأن فيمن عددهم من ليس من ذرية إبراهيم، وهو لوط، وإلياء. وقيل: أراد ومن ذرية إبراهيم (داود) وهو داود بن ايشا (وسليمان) ابنه (وأيوب) وهو أيوب بن أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم (ويوسف) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (وموسى) بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وهارون) أخاه، وكان أكبر منه بسنة. (وكذلك نجزي المحسنين) بنيل الثواب والكرامات. وقيل: المراد به كما
[ 104 ]
تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة، فكذلك نتفضل على المحسنين بنيل الثواب والكرامات (وزكريا) وهو زكريا بن أذن بن بركيا (ويحيى) وهو ابنه (وعيسى) وهو ابن مريم بنت عمران بن يا شهم بن أمون بن حزقيا (والياس) واختلف فيه، فقيل: إنه ادريس، كما قيل ليعقوب اسرائيل، عن عبد الله بن مسعود. وقيل: هو الياس بن بستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله، عن ابن إسحاق. وقيل: هو الخضر عن كعب. (كل من الصالحين) أي: من الأنبياء والمرسلين (وإسماعيل) وهو ابن إبراهيم (واليسع) بن أخطوب ابن العجوز (ويونس) بن متى (ولوطا) وهو لوط بن هاران بن أخي إبراهيم. وقيل: هو ابن اخته. (وكلا) أي وكل واحد منهم (فضلنا على العالمين) أي: عالمي زمانه، ومن قال إن الهاء في قوله (ومن ذريته) كناية عن إبراهيم، قال: إنه سمى ذريته إلى قوله (وكذلك نجزي المحسنين) ثم عطف قوله (وزكريا ويحيى) على قوله (ونوحا هدينا) ولا يمتنع أيضا أن يكون غلب الأكثر الذين هم من نسل إبراهيم، على أن الرواية التي جاءت عن ابن مسعود أن الياس إدريس هو جد نوح، إذا لم تضعف قول من قال إن الهاء كناية عن نوح، فكذلك إذا لم يكن لوط من ذرية إبراهيم، لم يضعف قول من قال إن الهاء كناية عن إبراهيم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون (من ذريته) من ذرية نوح، ويجوز أن يكون من ذرية إبراهيم، لأن ذكرهما جميعا قد جرى، وأسماء الأنبياء التي جاءت بعد قوله (ونوحا) نسق على نوح، وإذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم عليه السلام، أو نوح، ففي ذلك دلالة واضحة، وحجة قاطعة، على أن أولاد الحسن والحسين عليهم السلام ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق، وإنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد صح في الحديث أنه قال لهما عليها السلام: (إبناي هذان إمامان، قاما أو قعدا). وقال للحسن عليه السلام: إن ابني هذا سيد. وإن الصحابة كانت تقول لكل منهما ومن أولادهما: يا ابن رسول الله. (ومن آبائهم) يعني ومن آباء هؤلاء الأنبياء (وذرياتهم وإخوانهم) جماعة فضلناهم. وقال الزجاج: معناه هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وإخوانهم (واجتبيناهم) أي: اصطفيناهم واخترناهم للرسالة، وهو. مأخوذ من جبيت الماء في الحوض: إذا جمعته. (وهديناهم) أي: سددناهم وأرشدناهم، فاهتدوا (إلى
[ 105 ]
صراط مستقيم) أي: طريق بين لا اعوجاج فيه وهو الدين الحق. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون 88 أولئك الذين إتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين 89 أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين 90. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: (اقتده) بكسر الهاء مشبعة. والباقون (اقتده) ساكنة الهاء، إلا أن حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلفا، يحذفون الهاء في الوصل، ويثبتونها في الوقف. والباقون يثبتونها في الوصل والوقف. الحجة: قال أبو علي: الوجه الوقوف على الهاء لاجتماع الجمهور على إثباته، ولا ينبغي أن يوصل، والهاء ثابتة لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الإبتداء في أن الهاء للوقف، كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة في الوصل، كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء. ووجه قرأءة ابن عامر: أن يجعل الهاء كناية عن المصدر، لا التي تلحق الوقف، وحسن إضماره لذكر الفعل الدال عليه، ومثل ذلك قول الشاعر: فجال على وحشيه وتخاله على ظهره سبا جديدا يمانيا (1) كأنه قال: وتخال خيلا على ظهره سبا، فعلى متعلق بمحذوف، والتقدير ثابتا على ظهره، ومثله قول الشاعر: هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الرشى إن يلقفا ذيب (2) (1) وحشي كل دابة: شقه الأيمن، وأنسيه: شقه الأيسر، لأن الدابة لا تؤتى من جانبها الأيمن، وإنما تؤتى في الإحتلاب والركوب من جانبها الأيسر، فإنما خوفه منه، والخائف إنما يفر من موضع المخافة إلى موضع الأمن. السب: ثوب. (2) الرشى جمع الرشوة أي: وهذا المرء ذئب عند الرشى. وفي جامع الشواهد: الرشا بالكسر بمعنى الحبل. وذنب بالنون بدل (ذئب). (*)
[ 106 ]
فالهاء كناية عن المصدر ودل يدرسه على الدرس ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه وإلى ضميره. المعنى: ثم بين سبحانه إكرامه لأنبيائه عليهم السلام، ثم أمر من بعد بالإقتداء بهم، فقال: (ذلك) وهو إشارة إلى ما تقدم ذكره من التفضيل، والإجتباء، والهداية، والإصطفاء (هدى الله يهدي به من يشاء من عباده) ممن لم يسمهم في هذه الآيات، والهداية هنا هي الإرشاد إلى الثواب، دون الهداية التي هي نصب الأدلة، ألا ترى إلى قوله (كذلك نجزي المحسنين)، وذلك لا يليق إلا بالثواب الذى يختص المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن والكافر، وقوله (لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يدل أيضا على ذلك ومعناه أنهم لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يوقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب، لتوجيهها إلى غير الله تعالى، وليس في ذلك دلالة على أن الثواب الذي استحقوه على طاعتهم المتقدمة يحبط، إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك، على أنا قد علمنا بالدليل أن المشرك لا يكون له ثواب أصلا، واجتمعت الأمة على ذلك (أولئك) يعني به من تقدم ذكرهم من الأنبياء (الذين آتيناهم) أي: أعطيناهم (الكتاب) أراد الكتب، ووحد لأنه عنى به الجنس (والحكم) معناه والحكم بين الناس. وقيل: الحكمة (والنبوة) أي: الرسالة (فإن يكفر بها) أي: بالكتاب، والحكم، وبالنبوة (هؤلاء) يعنى الكفار الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت (فقد وكلنا بها) أي: بمراعاة أمر النبوة وتعظيمها، والأخذ بهدى الأنبياء. (قوما ليسوا بها بكافرين) واختلف في المعنيين بذلك، فقيل: عنى به الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وقت مبعثه، عن الحسن، واختاره الزجاج، والطبري، والجبائي. وقيل: عنى به الملائكة، عن أبي رجاء العطاردي. وقيل: عنى به من آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وقت مبعثه، وقيل: عنى بقوله: (فإن يكفر بها) كفار قريش وبقوله (قوما ليسوا بها بكافرين) أهل المدينة، عن الضحاك، واختاره الفراء، وإنما قال: وكلنا بها، ولم يقل فقد قام بها قوم تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه. وقيل: معناه فقد ألزمناها قوما فقاموا بها. وفي هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويحفظ دينه. (أولئك الذين هدى الله) أي: هداهم الله إلى الصبر (فبهداهم اقتده) معناه
[ 107 ]
اقتد بهم في الصبر على أذى قومك، واصبر كما صبروا، حتى تستحق من الثواب ما استحقوه، وقيل: معناه أولئك الذين قبلوا هدى الله، واهتدوا بلطف الله الذي فعله بهم، فاقتد بطريقتهم في التوحيد والأدلة، وتبليغ الرسالة، والإشارة بأولئك إلى الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، عن ابن عباس، والسدي، وابن زيد. وقيل إلى المؤمنين الموكلين بحفظ دين الله، لأنه في ذكرهم، عن الحسن، وقتادة. وعلى هذا فلم يتكرر لفظ الهداية. وفي القول الأول أعاد ذكر الهداية لطول الكلام، ويكون معنى قوله (فبهداهم اقتده) اقتد بصبر أيوب، وسخاء إبراهيم، وصلابة موسى، وزهد عيسى. ثم فسر بعض ما يقتدى بهم فيه بقوله (قل) يا محمد (لا أسئلكم عليه أجرا) أي: لا أطلب منكم على تبليغ الوحي، وأداء الرسالة، جعلا، كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي، فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن القبول (إن هو) أي: ما هو (إلا ذكرى) أي: تذكيرا (للعالمين) بما يلزمهم إتيانه واجتنابه. وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين، إما نبي، أو إمام لقوله (فقد وكلنا بها قوما) وأسند التوكيل إلى نفسه، وقد استدل قوم بالآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم، إلا ما قام الدليل على نسخه، وهذا لا يصح لأن الآية قد وردت فيما اتفقوا عليه على ما تقدم ذكره، وذلك لا يليق إلا بالتوحيد ومكارم الأخلاق، فأما الشرائع فإنها تختلف فلا يصح الإقتداء بجميع الأنبياء فيها، وتدل الآية على أن نبينا مبعوث إلى كافة العالمين، وان النبوة مختومة به، ولذلك قال: (إن هو إلا ذكرى للعالمين). وما قدروا الله حق قدره إذ قالو ا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا إباؤكم قل الله ثم ذرهم في حوضهم يلعبون 91 القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون) بالياء فيها. والباقون بالتاء في الجميع.
[ 108 ]
الحجة: من قرأ بالياء، فلأن ما قبله (وما قدروا الله) على الغيبة. ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب من قوله (قل) من أنزل الكتاب وقوله (فيما بعد): (وعلمتم ما لم تعلموا). الاعراب: (حق قدره): منصوب على المصدر. (تبدونها وتخفون كثيرا): يجوز أن يكون صفة ل (قراطيس) لأن النكرات توصف بالجمل، ويجوز أن يكون حالا من ضمير (الكتاب) في (تجعلونه) على أن تجعل القراطيس الكتاب في المعنى، لأنه مكتوب فيها، وإنما رفع قوله (يلعبون) لأنه لم يجعل جوابا لقوله (ذرهم) ولو جعله جوابا لجزمه، كما قال سبحانه (ذرهم يأكلوا) وموضع (يلعبون) نصب على الحال، والتقدير ذرهم لاعبين في خوضهم. النزول: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف، يخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله سبحانه يبغض الحبر السمين - وكان سمينا - فغضب وقال (1): ما أنزل الله على بشر من شئ ! فقال له أصحابه: ويحك ولا موسى ؟ فنزلت الآية، عن سعيد بن جبير. وقيل: إن الرجل كان فنحاص بن عازورا، وهو قائل هذه المقالة، عن السدي. وقيل: إن اليهود قالت يا محمد أنزل الله عليك كتابا ؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا ! فنزلت الآية، عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في الكفار، أنكروا قدرة الله عليهم، فمن أقر أن الله على كل شئ قدير، فقد قدر الله حق قدره. وقيل: نزلت في مشركي قريش، عن مجاهد. المعنى: لما تقدم ذكر الأنبياء والنبوة، عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة، فقال: (وما قدروا الله حق قدره) أي: ما عرفوا الله حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) أي: ما أرسل الله رسولا، ولم ينزل على بشر شيئا، مع أن المصلحة والحكمة تقتضيان ذلك، والمعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال (قل) يا محمد لهم (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) يعني التوراة، وإنما احتج بذلك عليهم، لأن القائل لذلك من اليهود، ومن قال: إن (1) [ والله ]. (*)
[ 109 ]
المعني بالأية مشركو العرب، قال: احتج عليهم بالأمر الظاهر، ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى. (نورا) أي: يستضاء به في الدين، كما يستضاء بالنور في الدنيا (وهدى للناس) أي: دلالة يهتدون به (تجعلونه قراطيس) أي: كتبا وصحفا متفرقة. وقال أبو علي الفارسي: معناه تجعلونه ذا قراطيس أي: تودعونه إياها (تبدونها وتخفون كثيرا) أي: تبدون بعضها، وتكتمون بعضها، وهو ما في الكتب من صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإشارة إليه، والبشارة به. (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) قيل: إنه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد، وقيل: هو خطاب لليهود أي: علمتم التوراة فضيعتموه، ولم تنتفعوا به. وقيل: معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا، عن الحسن. (قل) يا محمد (الله) أي: الله أنزل ذلك، وهذا كما أن الإنسان إذا أراد البيان والإحتجاج بما يعلم أن الخصم مقر به، ولا يستطيع دفعه، ذكر ذلك، ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أنه لا جواب له غيره (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي: دعهم وما يختارونه من العناد، وما خاضوا فيه من الباطل واللعب، وليس هذا على إباحة ترك الدعاء، والإنذار، بل على ضرب من التوعد والتهدد، كأنه قال: دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم. وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالأخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون 92. القراءة: قرأ أبو بكر، عن عاصم (لينذر) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ بالتاء: يؤيد قراءة قوله (وأنذز به الذين يخافون)، و (إنما أنت منذر من يخشاها). ومن قرأ بالياء: جعل المنذر هو الكتاب، ويؤيده قوله: (ولينذروا به) و (إنما أنذركم با الوحي) فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على وجه التوسع. الاعراب:: (أنزلناه) جملة مرفوعة الموضع، صفة ل (كتاب). و (مبارك) أيضا صفة له.
[ 110 ]
المعنى: لما احتج سبحانه بإنزال التوراة على موسى عليه السلام، بين ان سبيل القرآن سبيلها، فقال: (وهذا كتاب) يعني القرآن (أنزلناه) من السماء إلى الأرض، لأن جبرائيل عليه السلام أتى به من السماء (مبارك). وإنما سماه مباركا، لأنه ممدوح مستسعد به، فكل من تمسك به نال الفوز، عن أبي مسلم. وقيل: إن البركة ثبوت الخير على النماء والزيادة، ومنه (تبارك الله) أي: ثبت له ما يستحق به التعظيم، لم يزل ولا يزال، فالقرآن مبارك، لأن قراءته خير، والعمل به خير، وفيه علم الأولين والآخرين، وفيه مغفرة للذنوب، وفيه الحلال والحرام. وقيل: البركة: الزيادة. فالقرآن مبارك لما فيه من زيادة البيان على ما في الكتب المتقدمة. لأنه ناسخ لا يرد عليه نسخ لبقائه إلى آخر التكليف. (مصدق الذي بين يديه) من الكتب (1)، كالتوراة والإنجيل، وغيرهما، عن الحسن. وتصديقه للكتب على وجهين أحدهما: إنه يشهد بأنها حق والثاني: إنه ورد بالصفة التي نطقت بها الكتب المتقدمة. (ولتنذر ام القرى ومن حولها) يعني بأم القرى: مكة، ومن حولها: أهل الأرض كلهم، عن ابن عباس. وهو من باب حذف المضاف، يريد لتنذر أهل ام القرى، وإنما سميت مكة ام القرى لأن الأرض دحيت من تحتها، فكأن الأرض نشأت منها. وقيل: لأن أول بيت وضع في الدنيا وضع بمكة، فكأن القرى تنشأت منها، عن السدي. وقيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها، ويعظموها، لأنها قبلتهم، كما يجب تعظيم الأم، عن الزجاج، والجبائي (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) أي: بالقرآن، ويحتمل أن يكون كناية عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لدلالة الكلام عليه (وهم على صلاتهم) أي: على أوقات صلواتهم (يحافظون) أي: يراعونها ليؤدوها فيها، ويقوموا بإتمام ركوعها، وسجودها، وجميع أركانها. وفي هذه دلالة على أن المؤمن، لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه الله ؟ دون بعض، وفيها دلالة على عظم قدر الصلاة، ومنزلتها، لأنه سبحانه خصها بالذكر من بين الفرائض، ونبه على أن من كان مصدقا بالقيامة وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يخل بها، ولا يتركها. (1) [ المتقدمة ]. (*)
[ 111 ]
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون 93. اللغة: أصل الإفتراء: القطع، من فريت الأديم، أفريه فريا، فكان الإفتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له، والفترة: الغشية. وغمرة كل شئ: معظمه، وغمرات الموت: شدائده، قال الشاعر: الغمرات ثم ينجلينا * وثم يذهبن فلا يجينا وأصله الشئ يغمر الأشياء فيغطيها. والهون بضم الهاء: الهوان، قال ذو الأصبع العدواني: إذهب إليك فما أمي براعية * ترعى المخاض ولا أغضي على الهون (1) والهون بفتح الهاء: الدعة والرفق، ومنه يمشون على الأرض هونا، قال: هونا كما لا يرد الدهر ما فاتا لا تهلكا أسفا في أثر من ماتا الاعراب: من قال (سأنزل) في موضع الجر على العطف، كأنه قال ومن أظلم ممن قال ذلك، وجواب (لو) من قوله: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) محذوف، أي: لرأيت عذابا عظيما. النزول: اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل: نزلت في مسيلمة، حيث ادعى النبوة إلى قوله (ولم يوح إليه شئ)، وقوله (سأنزل مثل ما أنزل الله) في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإنه كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا قال له اكتب عليما حكيما، كتب غفورا رحيما، وإذا قال له اكتب غفورا رحيما، كتب عليما حكيما، وارتد ولحق بمكة، وقال إني أنزل مثل ما أنزل الله، عن عكرمة، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وإليه ذهب الفراء، والزجاج، والجبائي، وهو (1) المخاض: الحوامل من النوق. (*)
[ 112 ]
المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقال قوم: نزلت في ابن أبي سرح خاصة. وقال قوم: نزلت في مسيلمة خاصة. المعنى: لما تقدم ذكر نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنزال الكتاب عليه، عقبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذبوه، أو ادعوا أنهم يأتون بمثل ما أتى به، فقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) هذا استفهام في معنى الإنكار أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فادعى أنه نبي، وليس بنبي (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ) أي: يدعي الوحي، ولا يأتيه، ولا يجوز في حكمة الله سبحانه أن يبعث كذابا، وهذا وإن كان داخلا في الإفتراء، فإنما أفرد بالذكر تعظيما. (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) قال الزجاج: هذا جواب لقولهم: (لو نشاء لقلنا مثل هذا) فادعوا، ثم لم يفعلوا، وبذلوا النفوس والأموال، واستعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله، وأبى الله ألا ان يتم نوره. وقيل: المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله (ثم أنشأناه خلقا آخر) فجرى على لسان ابن أبي سرح (فتبارك الله أحسن الخالقين) فأملاه عليه، وقال: هكذا أنزل، فارتد عدو الله وقال: لئن كان محمد صادقا، فلقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا، فلقد قلت كما قال، وارتد عن الإسلام، وهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه. فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان وقد أخذ بيده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فقال: يا رسول الله ! أعف عنه. فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أعاد، فسكت. ثم أعاد فسكت. فقال: هو لك، فلما مر قال رسول الله لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله ؟ ! فقال عباد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الأنبياء لا يقتلون بالإشارة. ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) أي: في شدائد الموت عند النزع. وقيل: في أشد العذاب في النار (والملائكة) الذين يقبضون الأرواح. وقيل: يريد ملائكة العذاب (باسطو أيديهم) لقبض أرواحهم. وقيل: يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب، يضربون وجوههم، وأدبارهم.
[ 113 ]
(أخرجوا أنفسكم) أي. يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم، وصدقتم فيما قلتم، وادعيتم. وقيل: أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت، إرهاقا لهم وتغليظا عليهم، وإن كان إخراجها من فعل غيرهم، وقيل على التأويل الأول يقولون لهم يوم القيامة: أخرجوا أنفسكم من عذاب النار، إن استطعتم أي: خلصوها منه. (اليوم تجزون عذاب الهون) أي: عذابا تلقون فيه الهوان (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) أي: في الدنيا (وكنتم عن آياته تستكبرون) أي: تأنفون من اتباع آياته. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاؤا لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون 94. القراءة: قرأ أهل المدينة، والكسائي، وحفص: (بينكم) بالنصب. والباقون بالرفع. الحجة: قال أبو علي: استعمل هذا الإسم على ضربين أحدهما: أن يكون اسما متصرفا كالافتراق والآخر: أن يكون ظرفا، والمرفوع في قراءة من قرأ (لقد تقطع بينكم): هو الذي كان ظرفا، ثم استعمل إسما، والدليل على جواز كونه إسما، قوله: (ومن بيننا وبينك حجاب) و (هذا فراق بيني وبينك) فلما استعمل اسما في هذه المواضع، جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو (تقطع) في قول من رفع. والذي يدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا، أنه لا يخلو من أن يكون الذي كان ظرفا اتسع فيه، أو يكون الذي هو مصدر، فلا يجوز أن يكون المصدر، لأن تقديره يكون لقد تقطع افتراقكم، وهذا خلاف المعنى المراد، لأن المراد لقد تقطع وصلكم، وما كنتم تتألفون عليه. فإن قلت: كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل، وأصله الإفتراق والتمايز ؟ قيل. إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو: بيني وبينه شركة، وبيني وبينه رحم وصداقة، صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة، وعلى خلاف الفرقة، فلهذا قد جاء (لقد تقطع بينكم) بمعنى تقطع وصلكم.
[ 114 ]
فأما من نصب (بينكم) ففيه مذهبان أحدهما أنه أضمر الفاعل في الفعل، ودل عليه ما تقدم من قوله: (وما نرى معكم شفعاءكم) لأن هذا يدل على التقاطع، وذلك المضمر هو الوصل، فكأنه قال: لقد تقطع وصلكم بينكم، وقد حكى سيبويه أنهم قالوا إذا كان غدا فائتني، وأضمر ما كانوا فيه من رخاء وبلاء، لدلالة الحال عليه، والمذهب الآخر أنه انتصب على شئ يراه أبو الحسن، فإنه يذهب إلى أن معناه معنى المرفوع، فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام، وكذلك يقول في قوله: (يوم القيامة يفصل بينكم)، وقوله: (وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) ودون في موضع رفع عنده، وإن كان منصوب اللفظ، كما يقال منا الصالح، ومنا الطالح. اللغة: فرادى: جمع فرد، وفريد، وفرد. والعرب تقول فرادى وفراد، فلا يصرفونها تشبيها بثلاث ورباع، قال الشاعر: ترى النعرات البيض تحت لبانه فراد ومثنى أصعقتها صواهله (1) وقال النابغة: من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد (2) ومثل الفرادى: الردافى والقرابى. والتخويل: الإعطاء وأصله تمليك الخول (3)، كما ان التمويل: هو تمليك الأموال. وخوله الله: أعطاه مالا. وفلان خولي مال، وخال مال، وخائل مال: إذا كان يصلح المال. وهم خول فلان: أي أتباعه: الواحد خائل. والزعم: قد يكون حقا، وقد يكون باطلا قال الشاعر: يقول: هلكنا إن هلكت، وإنما على الله أرزاق العباد، كما زعم والبين: مصدر بان يبين إذا فارق، قال الشاعر: (1) مضي البيت بمعناه فيما سبق. (2) وجرة: موضع بين مكة والبصرة أربعون ميلا ليس فيها منزل فهي مفازة للوحش. الموشى: المنقش. الأكارع جمع الأكرع وهو جمع الكراع: مستدق الساق. طاوي المصير: ضامر المعي. يصف ثور الوحش بضمور البطن وتخطيط الساق وبريق الجلد. (3) الخول: جمع الخولي: ما أعطاك الله من النعم، والعبيد، والإماء. (*)
[ 115 ]
بان الخليظ برامتين فودعوا، أو كلما ظعنوا لبين تجزع (1) قال أبو زيد: بان الحي بينونة وبينا: إذا ظعنوا. وتباينوا أي: تفرقوا بعد أن كانوا جميعا. الاعراب: (فرادى): نصب على الحال. و (ما خولناكم): موصول وصلة في موضع نصب بأنه مفعول (تركتم). النزول: نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة، حين قال. سوف يشفع لي اللات والعزى، عن عكرمة، المعنى. ثم بين سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ، فقال: (ولقد جئتمونا) قيل. هذا من كلام الله تعالى، يخاطب به عباده، إما عند الموت، أو عند البعث، وقيل: هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم (فرادى) أي: وحدانا لا مال لكم، ولا خول، ولا ولد، ولا حشم، عن الجبائي. وقيل: واحدا واحدا على حدة، عن الحسن " وقيل: كل واحد منهم منفردا من شريكة في الغي، وشقيقه، عن الزجاج (كما خلقناكم أول مرة) أي: كما خلقناكم في بطون امهاتكم، فلا ناصر لكم " ولا معين، عن الجبائي. وقيل: معناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " تحشرون حفاة عراة غرلا) والغرل. هم القلف (2) " وروي أن عائشة قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سمعت ذلك: واسوأتاه أينظر بعضهم إلى سوأة بعض من الرجال والنساء ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ويشغل بعضهم عن بعض). وقال الزجاج: معناه كما بدأناكم أول مرة، أي: يكون بعثكم كخلقكم (وتركتم ما خولناكم) معناه: ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال (وراء ظهوركم) أي. خلف ظهوركم في الدنيا، والمراد تركتم الأموال، وحملتم من الذنوب الأحمال، واستمتع غيركم بما خلفتم، وحوسبتم عليه، فيا لها من حسرة (وما نرى معكم شفعاءكم) أي. ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم (1) الخليط. القوم الذين أمرهم واحد. رامتين: موضع. (2) القلف جمع الأقلف: من لم يختن. (*)
[ 116 ]
عند الله، يوم القيامة، وهي الأصنام (الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) معناه زعمتم أنهم شركاؤنا فيكم، وشفعاؤكم، يريد: وما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون إنها فيكم شركاء وإنها تشفع لكم عند الله تعالى. وهذا عام في كل من عبد غير الله، واعتمد غيره يرجو خيره، ويخاف ضيره، في مخالفة الله تعالى (لقد تقطع بينكم) أي: وصلكم وجمعكم. ومن قرأ بالنصب، فمعناه لقد تقطع الأمر بينكم، أو تقطع وصلكم بينكم. (وضل عنكم ما كنتم تزعمون) أي: ضاع وتلاشى، ولا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم، ولم تنفعكم عبادتها. وقيل: معناه ما تزعمون من عدم البعث والجزاء. قد حث الله سبحانه في هذه الآية على اقتناء الطاعات التي بها ينال الفوز، وتدرك النجاة، دون اقتناء المال الذي لا شك في تركه، وعدم الإنتفاع به بعد الممات. إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذالكم الله فأنى تؤفكون 95 فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذالك تقدير العزيز العليم 96 القراءة: قرأ أهل الكوفة: (وجعل الليل ساكنا) والباقون: (وجاعل) بالألف والرفع و (الليل) بالجر. الحجة: وجه قول من قرأ (وجاعل الليل) أن قبله اسم فاعل وهو (فالق الحب)، و (فالق الإصباح) ليكون فاعل المعطوف مثل فاعل المعطوف عليه، ألا ترى أن حكم الإسم أن يعطف على اسم مثله، لأن الإسم بالإسم أشبه من الفعل بالإسم، ويقوي ذلك قولهم. للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف فنصب وتقر ليكون في تقدير اسم بإضمار أن، فيكون قد عطف اسما على اسم وقوله:
[ 117 ]
ولولا رجال من رزام ومازن وآل سبيع أو أسوك علقما (1) ومن قرأ (أو وجعل) فلأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي، فلما كان فاعل بمعنى فعل، عطف عليه فعل لموافقته في المعنى، ويدلك على أنه بمنزلة فعل، انه نزل منزلته فيما عطف عليه، وهو قوله: (والشمس والقمر حسبانا) ألا ترى انه لما كان المعنى فعل، حمل المعطوف على ذلك، فنصب الشمس والقمر على فعل، لما كان فاعل كفعل، ويقوي ذلك قولهم: هذا معطي زيد درهما أمس، فالدرهم محمول على أعطى، لأن اسم الفاعل إذا كان لما مضى، لم يعمل عمل الفعل، فإذا كان معط بمنزلة أعطى، كذلك جعل (فالق) بمنزلة فلق، لأن اسم الفاعل لما مضى، فعطف عليه فعل، لما كان بمنزلته. اللغة: الفلق: الشق. يقال فلقه فانفلق. والفلق: الصبح، لأن الظلام ينفلق عنه، والفلق: المطمئن من الأرض، كأنه منشق عنها. والحب: جمع حبة، وهو كل ما لا يكون له نوى كالبر، والشعير. والنوى: جمع نواة. والإصباح والصبح واحد، وهو مصدر أصبحنا إصباحا. وقد روي عن الحسن أنه قرأ (فالق الأصباح) بالفتح، يريد: صبح كل يوم، وما قرأ به غيره. والسكن: الذي يسكن إليه، والحسبان: جمع حساب، مثل شهاب وشهبان. وقيل: هو مصدر حسبت الحساب، أحسبه، حسابا، وحسبانا. وحكي عن بعض العرب: على الله حسبان فلان وحسبته أي: حسابه. والحسبان: بكسر الحاء جمع حسبانة وهي وسادة صغيرة. والحسبان والمحسبة: مصدر حسبت فلانا عاقلا، أحسبه، وأحسبه. الاعراب: النصب في (الشمس والقمر) مفعول فعل يدل عليه قوله: (وجاعل الليل سكنا) وتقديره وجعل الشمس والقمر حسبانا. وحسبانا: المفعول الثاني منه، ولا يجوز: وجاعل الليل سكنا، لأن اسم الفاعل إذا كان واقعا لم يعمل عمل الفعل، وأضيف إلى ما بعده لا غير، تقول هذا ضارب زيد أمس، لا غير. المعنى: ثم عاد الكلام إلى الإحتجاج على المشركين، بعجائب الصنع، ولطائف التدبير، فقال سبحانه: (إن الله فالق الحب والنوى) أي: شاق الحبة اليابسة الميتة، فيخرج منها النبات، وشاق النواة اليابسة، فيخرج منها النخل، (1) قائله حصين بن حمام. رزام ومازن وسبيع: قبائل. العلقم: الحنظل، وكل شئ مر. (*)
[ 118 ]
والشجر، عن الحسن، وقتادة، والسدي. وقيل: معناه خالق الحب والنوى، ومنشئهما، ومبدئهما، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: المراد به ما في الحبة والنوى من الشق، وهو من عجيب قدرة الله تعالى في استوائه، عن مجاهد، وأبي مالك. (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) أي: يخرج النبات الغض والطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي، عن الزجاج. والعرب تسمي الشجر ما دام غضا قائما بأنه حي، فإذا يبس، أو قطع، أو قلع، سموه ميتا. وقيل: معناه يخلق الحي من النطفة، وهي موات، ويخلق النطفة وهي موات، من الحي، عن الحسن، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم، وهذا أصح. وقيل: معناه يخرج الطير من البيض، والبيض من الطير، عن الجبائي. وقيل: معناه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. (ذلكم الله) أي: فاعل ذلك كله الله (فأنى تؤفكون) أي: تصرفون عن الحق، ويذهب بكم عن هذه الأدلة الظاهرة إلى الباطل، أفلا تتدبرون، فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى، وإخراج الزرع من الحب، والشجر من النوى، شريك في عبادته (فالق الإصباح) أي: شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده، عن أكثر المفسرين. وقيل: معناه خالق الصباح، عن ابن عباس (وجاعل الليل سكنا) تسكنون فيه، وتتودعون فيه، عن ابن عباس، ومجاهد، وأكثر المفسرين، نبه الله سبحانه على عظيم نعمته بأن جعل الليل للسكون، والنهار للتصرف، ودل بتعاقبهما على كمال قدرته، وحكمته. ثم قال (والشمس والقمر حسبانا) أي: جعلهما تجريان في أفلاكهما بحساب لا يتجاوزانه، حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، فتقطع الشمس جميع البروج الإثني عشر في ثلاثمائة وخمس وستين يوما وربع والقمر في ثمانية وعشرين يوما، وبني عليهما الليالي، والأيام، والشهور والأعوام، كما قال سبحانه: (والشمس والقمر بحسبان)، وقال (كل في فلك يسبحون)، عن ابن عباس، والسدي، وقتادة، ومجاهد، أشار سبحانه بذلك إلى ما في حسبانهما من مصالح العباد في معاملاتهم، وتواريخهم، وأوقات عباداتهم، وغير ذلك من أمورهم الدينية والدنيوية (ذلك) إشارة إلى ما وصفه سبحانه من فلق الإصباح، وجعل الليل سكنا، والشمس والقمر
[ 119 ]
حسبانا. (تقدير العزيز) الذي عز سلطانه، فلا يقدر أحد على الإمتناع منه (العليم) بمصالح خلقه وتدبيرهم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون 97 وهو الذي أنشأ كم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون 98. القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، برواية روح، وزيد (فمستقر) بكسر القاف. والباقون بفتح القاف. الحجة: قال أبو علي: من كسر القاف، كان (المستقر) بمعنى القار. فإذا كان كذلك وجب خبره أن يكون المضمر منكم، أي: فمنكم مستقر، كقولك. بعضكم مستقر أي: مستقر في الأرحام. ومن فتح فليس على أنه مفعول، ألا ترى أن (استقر) لا يتعدى، وإذا لم يتعد، لم يبن منه اسم مفعول به، وإذا لم يكن مفعولا به، كان اسم مكان، فالمستقر بمنزلة المقر، كما كان المستقر بمعنى القار، وإذا كان كذلك جعلت الخبر المضمر لكم، والتقدير فمستقر لكم، وأما (المستودع) فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين، تقول استودعت زيدا ألفا، وأودعت زيدا ألفا. فاستودع مثل أودع، كما أن استجاب مثل أجاب. فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان، ويجوز أن يكون المكان نفسه. ومن قرأ (فمستقر) بفتح القاف جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه، أي: فلكم مكان استقرار واستيداع. ومن قرأ (فمستقر) فالمعنى منكم مستقر في الأرحام، ومنكم مستودع في الأصلاب فالمستودع اسم المفعول به، فيكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما يقارب في المعنى الآية المتقدمة فيما يدل على وحدانيته، وعظيم قدرته، فقال: (وهو الذي جعل) أي: خلق (لكم) أي: لنفعكم (النجوم لتهتدوا بها) أي: بضوئها، وطلوعها، ومواضعها، (في ظلمات البر والبحر) لأن من النجوم ما يكون بين يدي الإنسان، ومنها ما يكون خلفه، ومنها ما يكون عن يمينه، ومنها ما يكون عن يساره، ويهتدى بها في الأسفار، وفي
[ 120 ]
البلاد، وفي القبلة، وأوقات الليل، وإلى الطرق في مسالك البراري والبحار، وقال البلخي: ليس في قوله (لتهتدوا بها) ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك، بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة، ومن فكر في صغر الصغير منها، وكبر الكبير، واختلاف مواقعها، ومجاريها، واتصالاتها، وسيرها، وظهور منافع الشمس والقمر في نشوء الحيوان والنبات، علم أن الأمر كذلك، ولو لم يخلقها إلا للإهتداء، لما كان لخلقها صغارا وكبارا، واختلافاتها في المسير معنى. وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم: إن النجوم اد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (قد فصلنا الآيات) أي بينا الحجج والبينات (لقوم يعلمون) أي: يتفكرون فيعلمون (وهو الذي أنشأكم) أي: أبدعكم وخلقكم (من نفس واحدة) أي: من آدم عليه السلام، لأن الله تعالى خلقنا جميعا منه، وخلق أمنا حواء، من ضلع من أضلاعه، ومن علينا بهذا، لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد، كانوا أقرب إلى التواد، والتعاطف، والتآلف. (فمستقر ومستودع) قد مر ذكرهما في الحجة، واختلف في معناهما، فقيل: مستقر في الرحم إلى أن يولد، ومستودع في القبر إلى أن يبعث، عن عبد الله بن مسعود. وقيل: مستقر في بطون الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء، عن سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن عباس. وقيل: مستقر على ظهر الأرض في الدنيا، ومستودع عند الله في الآخرة ؟ عن مجاهد وقيل: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث يموت، وحيث يبعث، عن أبي العالية، وقيل: مستقر في القبر، ومستودع في الدنيا، عن الحسن، وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك، ويوشك أن تلحق بصاحبك، وأنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوما أن ترد الودائع وقال سليمان بن زيد العدوي، في هذا المعنى: فجع الأحبة بالأحبة قبلنا فالناس مفجوع به ومفجع مستودع، أو مستقر مدخلا فالمستقر يزوره المستودع (قد فصلنا الآيات) أي: بينا الحجج وميزنا الأدلة (لقوم يفقهون) مواقع الحجة، ومواضع العبرة. وإنما خص الذين يعلمون ويفقهون، لأنهم المنتفعون
[ 121 ]
بها، كما قال: (هدى للمتقين) وكرر وقوله (قد فصلنا الآيات) حثا على النظر، وتنبيها على أن كلا مما ذكر آية، ودلالة، تدل على توحيده، وصفاته العلى. وهو الذي أنزل من السماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانيه وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظر وا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لأيات لقوم يؤمنون 99. القراءة: قرأ أبو بكر، عن عاصم، برواية أبي يوسف الأعشى، والبرجمي، (وجنات) بالرفع، وهو قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن مسعود الأعمش، ويحيى بن يعمر. وقرأ الباقون: (وجنات) على النصب. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ثمره) بضمتين، وكذلك (كلوا من ثمره)، وفي سورة ياسين: (ليأكلوا من ثمره) وقرأ الباقون: (ثمره) بفتحتين في الجميع. الحجة: من قرأ: (وجنات): فإنه عطفها على قوله (خضرا) أي. فأخرجنا من الماء خضرا، وجنات من أعناب. ومن قرأ: (وجنات) بالرفع، فإنه عطفها على (قنوان) لفظا، وإن لم يكن من جنسها كقول الشاعر (متقلدا سيفا ورمحا). ومن قرأ (إلى ثمره)، فالثمر: جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر، وشجرة وشجر. ومن قرأ (ثمره) بضمتين: فيحتمل وجهين أحدهما: أن يكون على ثمرة، وثمر، مثل خشبة وخشب، وأكمة وأكم، قال الشاعر: نحن الفوارس يوم ديسقة المغ * شو الكماة غوارب الأكم (1) ونظيره، من المعتل: قارة وقور، وناقة ونوق، وساحة وسوح، قال الشاعر: وكان سيان إلا يسروحوا نعما، أو يسرحوه بها، واغبرت السوح والآخر: أن يكون جمع ثمار على ثمر، فيكون ثمر جمع الجمع. (1) يوم ديسقة: يوم من أيام العرب مشهور، وكأنه اسم موضع. والكماة جمع الكمي: الشجاع، أو لابس السلاح (*)
[ 122 ]
اللغة: خضر: بمعنى أخضر. يقال: اخضر فهو خضر، وأخضر وأعور، فهو عور وأعور. وفي الحديث: " إن الدنيا حلوة خضرة " أي: غضة ناعمة. وذهب دمه خضرا مضرا، أي: باطلا. وأخذ الشئ خضرا مضرا أي: مجانا بغير ثمن. وقيل: غضا طريا. وفلان أخضر الجلدة، وأخضر المنكب، أي: ذو سعة وخصب. وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب: وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة في بيت العرب من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب (1) برسول الله وابني بنته وبعباس بن عبد المطلب وكتيبة خضراء: إذا كان عليها سواد الحديد، والعرب تسمي الأسود أخضر، ويسمى سواد العراق سوادا، لكثرة خضرته، ومتراكب: متفاعل من الركوب. وطلع النخل: أول ما يبدو من ثمره، وقد أطلع النخل. والقنوان: جمع قنو، وهو العذق بكسر العين أي: الكباسة، والعذق بفتح العين: النخلة، وقنوان وقنوان بكسر القاف وضمها لغتان. وقنيان بالياء لغة تميم. ودانية: قريبة المتناول. والينع النضج، يقال ينع الثمر ينعا وينعا وأينع: إذا أدرك، قال الشاعر: في قباب وسط دسكرة (2) حولها الزيتون قد ينعا وقيل: إن الينع: جمع يانع، مثل صاحب وصحب، وتاجر وتجر. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال (وهو الذي أنزل من السماء ماء) يريد من السحاب، والعرب تقول: كل ما علاك فأظلك فهو سماء (فاخرجنا به نبات كل شئ) والمعنى: فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام، والطير، والوحش، وأرزاق بني آدم، ما يتغذون به ويأكلونه، فينبتون عليه، وينمون، ويريد، بنبات كل شئ: ما ينبت به كل شئ، وينمو عليه ويحتمل أن يكون المراد أخرجنا به من جميع أنواع النبات، ليكون كل شئ هو أصناف النبات كقوله (إن هذا لهو الحق اليقين) عن الفراء، والأول أحسن. وإنما قال به لأنه سبحانه جعله سببا مؤديا إلى النبات، لا مولدا له، وقد كان يمكنه الإنبات بغيره، فلا (1) ساجله: باراه وفاخره. والكرب: الحبل يعقد على رأس الدلو. (2) الدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت للأعاجم يكون فيها الشراب والملاهي. (*)
[ 123 ]
يقال إنه فعله بسبب مولد. (فأخرجنا منه) أي: من الماء. وقيل: من النبات (خضرا) أي: زرعا رطبا أخضر، وهو ساق السنبلة (نخرج منه) أي: من ذلك الزرع الخضر (حبا متراكبا) قد تركب بعضه على بعض، مثل سنبلة الحنطة، والسمسم، وغير ذلك (ومن النخل) أي: ونخرج من النخل (من طلعها قنوان) أي: أعذاق الرطب (دانية) أي: قريبة المتناول، ولم يقل ومنها قنوان بعيدة، لأن في الكلام دليلا على البعيدة السحيقة، من النخل، قد كانت غير سحيقة فاجتزأ بذكر القرينة، عن ذكر السحيقة، كما قال (سرابيل تقيكم الحر) ولم يقل وسرابيل تقيكم البرد، لأن في الكلام دليل على أنها تقي البرد، لأن ما يستر عن الحر يستر عن البرد، عن الزجاج. وقيل: دانية دنت من الأرض لكثرة ثمرها، وثقل حملها، وتقديره: ومن النخل من طلعها، ما قنوانه دانية، وإنما خص الطلع بالذكر، لما فيه من المنافع والأغذية الشريفة، التي ليست في أكمام الثمار (وجنات من أعناب) يعني: وأخرجنا به أيضا جنات من أعناب أي: بساتين من أعناب. ومن رفعه فتقديره: ونخرج به جنات من أعناب، (والزيتون والرمان) أي: فأخرجنا به الزيتون والرمان أي: شجر الزيتون والرمان، وقرن الزيتون والرمان، لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره، قال الشاعر: بورك الميت الغريب كما بورك نضج الرمان والزيتون ومعناه: إن ورقهما يشتمل على العود كله (مشتبها وغير متشابه) أي: مشتبها شجره يشبه بعضه بعضا، وغير متشابه في الطعم. وقيل: مشتبها ورقه، مختلفا ثمره، عن قتادة. وقيل: مشتبها في الخلق، مختلفا في الطعم. وقيل: مشتبها ما كان من جنس واحد، وغير متشابه، إذا اختلف جنسه، عن الجبائي. والأولى أن يقال إن جميع ذلك مشتبه من وجوه، مختلف من وجوه، فيدخل فيه جميع ما تقدم (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) أي: انظروا إلى خروج الثمار نظر الإعتبار. (وينعه) أي: نضجه. ومعناه انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر، إلى انتهائه إذا أينع، وأدرك، كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم، واللون، والرائحة، والصغر، والكبر، ليستدلوا بذلك على أن له صانعا مدبرا (إن في ذلكم لآيات) أي: إن خلق هذه الثمار والزروع، مع إتقان جواهرها أجناسا مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا،
[ 124 ]
لدلالات على أن لها خالقا. قصد إلى التمييز بينها قبل خلقها على علم بها، وانها تكونت بخلقه وتدبيره (لقوم يؤمنون) لأنهم بها يستدلون، وبمعرفة مدلولاتها ينتفعون. وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون 100 بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم 101. القراءة: قرأ أهل المدينة: (وخرقوا) بالتشديد. والباقون: (وخرقوا) بالتخفيف. الحجة: قال أحمد بن يحيى: خرق واخترق بمعنى: وقال أبو الحسن: الخفيفة أعجب إلي، لأنها أكثر والمعنى في القراءتين: كذبوا. وقد روي في الشواذ، عن ابن عباس: (وحرفوا) بالحاء والفاء، وهذا شاهد يكذبهم أيضا، ومثله: (يحرفون الكلم عن مواضعه). اللغة: البديع: بمعنى المبدع. والفرق بين الإبداع والإختراع أن الإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله، والإختراع فعل ما لم يوجد سبب له، ولذلك يقال: البدعة لما خالف السنة، لأنه إحداث ما لم يسبق إليه، ولا يقدر أحد على الإختراع غير الله تعالى، لأن حده ما ابتدئ في غير محل القدرة عليه، والقادر بقدرة إما أن يفعل مباشرا، وهو ما ابتدئ في محل القدرة، أو متولدا، وهو ما يوقع بحسب غيره، ولا يقدر على الإختراع أصلا. الاعراب: انتصاب (الجن) من وجهين أحدهما: أن يكون مفعولا أي: جعلوا الجن لله شركاء، ويكون (شركاء) مفعولا ثانيا، كما قال: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا). والآخر: أن يكون (الجن) بدلا من (شركاء)، ومفسرا له سبحانه، نصب على المصدر، كأنه قال تسبيحا له، و (بديع) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو بديع السماوات. ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: (أنى يكون له ولد). وإنما
[ 125 ]
تعدى (بديع) وهو فعيل، لأنه معدول عن مفعل، والصفة تعمل عمل ما عدلت عنه، فإذا لم تكن معدولة، لم تتعد نحو: طويل وقصير. المعنى: ثم رد سبحانه على المشركين، وعجب من كفرهم، مع هذه البراهين والحجج والبينات، فقال: (وجعلوا) يعني المشركين (لله شركاء الجن) أخبر الله سبحانه أنهم اتخذوا معه آلهة، جعلوهم له أندادا، كما قال: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) وأراد بالجن الملائكة، وإنما سماهم جنا لاستتارهم عن الأعين. وهذا كما قال (جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)، عن قتادة، والسدي. وقيل: إن قريشا كانوا يقولون: إن الله تعالى قد صاهر الجن، فحدث بينهما الملائكة، فيكون على هذا القول المراد به: الجن المعروف. وقيل: أراد بالجن الشياطين، لأنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، عن الحسن (وخلقهم) الهاء والميم عائدة إليهم أي: جعلوا للذي خلقهم شركاء، لا يخلقون. ويجوز أن يكون الهاء والميم عائدة على الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكونون شركاء له، ويجوز أن يكون المعنى: وخلق الجن، والإنس جميعا. وروي أن يحيى بن يعمر قرأ: (وخلقهم) بسكون اللام أي: وخلق الجن، يعني ما يخلقونه ويأفكون فيه، ويكذبونه، كأنه قال: جعلوا الجن شركاءه، وأفعالهم شركاء أفعاله، أو شركاء له، إذا عنى بذلك الأصنام ونحوها. وقيل: إن المعني بالآية المجوس إذ قالوا: (يزدان) و (أهرمن) وهو الشيطان عندهم، فنسبوا خلق المؤذيات، والشرور، والأشياء الضارة إلى (أهرمن)، وجعلوه بذلك شريكا له، ومثلهم الثنوية القائلون بالنور والظلمة (وخرقوا له بنين وبنات) أي: اختلقوا، وموهوا، وافتروا الكذب على الله، ونسبوا البنين والبنات إلى الله، فإن المشركين قالوا الملائكة بنات الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله. واليهود قالوا: عزير ابن الله. (بغير علم) أي: بغير حجة، ويجوز أن يكون معناه بغير علم منهم، بما عليهم، عاجلا وآجلا. ويجوز أن يكون معناه: بغير علم منهم بما قالوه على حقيقة، لكن جهلا منهم بالله وبعظمته تعالى (سبحانه) أي: تنزيها له عما يقولون (وتعالى عما يصفون) من ادعائهم له شركاء، واختراقهم له بنين وبنات أي: هو يجل من أن يوصف بما وصفوه به، وإنما صار اتخاذ الولد نقصا، لأنه لا يخلو من أن يكون ولادة، أو تبنيا، وكلاهما يوجب
[ 126 ]
التشبيه، ومن أشبه المحدث كان على صفة نقص. (بديع السموات والأرض) أي: مبدعهما ومنشئهما بعلمه ابتداء، لا من شئ، ولا على مثال سبق، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. (أنى يكون له ولد) أي: كيف يكون له ولد، ومن أين يكون له ولد (ولم تكن له صاحبة) أي: زوجة، وإنما يكون الولد من النساء فيما يتعارفونه (وخلق كل شئ) في هذا نفي للصاحبة والولد، فإن من خلق الأشياء لا يكون شئ من خلقه صاحبة له، ولا ولدا، ولأن الأشياء كلها مخلوقة له، فكيف يتعزز بالولد ويتكثر به (وهو بكل شئ عليم) يعلم الأشياء كلها، موجودها ومعدومها، لا يخفى عليه خافية. ومن قال: إن في قوله (وخلق كل شئ) دلالة على خلق أفعال العباد، فجوابه: إن المفهوم منه أنه أراد المخلوقات كما يفهم المأكولات، من قول من قال: أكلت كل شئ، والمخلوقات كلها بما فيها من التقدير العجيب، يضاف خلقها إليه سبحانه، على أنه سبحانه قد نزه نفسه عن إفك العباد وكذبهم، فلو كان خلقا له، لما تنزه عنه. ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فأعبدوه وهو على كل شئ وكيل 102 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير 102. اللغة: الوكيل على الشئ هو الحافظ له الذي يحوطه، ويدفع الضرر عنه، وإنما وصف سبحانه نفسه بأنه وكيل، مع أنه مالك الأشياء، لأنه لما كانت منافعها لغيره، لاستحالة المنافع عليه، والمضار، صحت هذه الصفة له. وقيل: الوكيل: من يوكل إليه الأمور، يقال وكلت إليه هذا الأمر أي: وليته تدبيره، والمؤمن يتوكل على الله أي: يفوض أمره إليه، والإدراك: اللحاق، يقال أدرك قتادة الحسن، أي: لحقه، وأدرك الطعام: نضج، وأدرك الزرع: بلغ منتهاه، وأدرك الغلام: بلغ ولحق حال الرجولية، وأدركته ببصري: لحقته ببصري، وتدارك القوم: تلاحقوا، ولا يكون الإدراك بمعنى الإحاطة لأن الجدار محيط بالدار، وليس بمدرك لها، والبصر: الحاسة التي تقع بها الرؤية.
[ 127 ]
الاعراب: (خالق كل شئ): خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون صفة (ربكم) وكان يجوز نصبه على الحال، لأنه نكرة اتصل بمعرفة بعد التمام. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الأدلة على وحدانيته، عقبه بتنبيه عباده على أنه الإله المستحق للطاعة، والعبادة، وتعليمهم الإستدلال بأفعاله عليه، فقال: (ذلكم) أي: ذلك الذي خلق هذه الأشياء، ودبر هذه التدابير لكم، أيها الناس هو (الله ربكم) أي: خالقكم، ومالككم، ومدبركم، وسيدكم (لا إله إلا هو خالق كل شئ) أي: كل مخلوق من الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها غيره (فاعبدوه) لأنه المستحق للعبادة (وهو على كل شئ وكيل) أي: حافظ، ومدبر، وحفيظ على خلقه، فهو وكيل على الخلق، ولا يقال وكيل لهم. (لا تدركه الأبصار) أي: لا تراه العيون، لأن الإدراك متى قرن بالبصر، لم يفهم منه إلا الرؤية، كما أنه إذا قرن بآلة السمع، فقيل: أدركت بأذني، لم يفهم منه إلا السماع، وكذلك إذا أضيف إلى كل واحد من الحواس، أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه، فقولهم: أدركته بفمي، معناه: وجدت طعمه، وأدركته بأنفي معناه: وجدت رائحته. (وهو يدرك الأبصار) تقديره لا تدركه ذوو الأبصار، وهو يدرك ذوي الأبصار أي: المبصرين، ومعناه أنه يرى ولا يرى وبهذا خالف سبحانه جميع الموجودات، لأن منها ما يرى ويرى كالأحياء، ومنها ما يرى ولا يرى كالجمادات والأعراض المدركة، ومنها ما لا يرى ولا يرى كالأعراض غير المدركة، فالله تعالى خالف جميعها، وتفرد بأن يرى ولا يرى وتمدح في هذه الآية بمجموع الأمرين، كما تمدح في الآية الأخرى بقوله (وهو يطعم ولا يطعم). وروى العياشي بالإسناد المتصل، أن الفضل بن سهل، ذا الرياستين، سأل أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام فقال: (أخبرني عما اختلف الناس فيه من الرؤية، فقال: من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهذه الأبصار ليست هي الأعين، إنما هي الأبصار التي في القلوب، لا يقع عليه الأوهام، ولا يدرك كيف هو. (وهو اللطيف) قيل في معناه وجوه أحدها: إنه اللاطف بعباده، بسبوغ
[ 128 ]
الإنعام، غير أنه عدل عن وزن فاعل إلى فعيل للمبالغة والثاني: إن معناه لطيف التدبير، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه. والثالث: إن اللطيف: الذي يستقل الكثير من نعمه، ويستكثر القليل من طاعة عباده والرابع إن اللطيف: الذي إذا دعوته لباك، وإن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك، وإن أطعته كافاك، وإن عصيته عافاك، وإن أعرضت عنه دعاك، وإن أقبلت إليه هداك. والخامس: اللطيف: من يكافي الوافي، ويعفو عن الجافي، والسادس: اللطيف من يعز المفتخر به، ويغني المفتقر إليه والسابع: اللطيف: من يكون عطاؤه خيرة، ومنعه ذخيرة. (الخبير): العليم بكل شئ من مصالح عباده، فيدبرهم عليها، وبأفعالهم، فيجازيهم عليها. قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ 104 وكذلك نصرف الأ يات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون 105. القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (دارست). وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وسهيل: (درست) بفتح السين وسكون التاء، والباقون: (درست) وفي قراءة عبد الله، وأبي (درس) أي: ليقولوا درس محمد. وروي عن ابن عباس والحسن: (درست). الحجة: من قرأ (دارست) فمعناه أنك دارست اهل الكتاب، وذاكرتهم، ويقويه قوله: وأعانه عليه قوم آخرون ومن قرأ (درست) فحجته أن ابن مسعود قرأ (درس) فأسند الفعل فيه إلي الغيبة، كما أسند إلى الخطاب. ومن قرأ (درست) فهو من الدروس الذي هو تعفي الأثر أي: انمحت، ويكون اللام في (ليقولوا) على هذا، بمعنى لكراهية أن يقولوا، ولأن لا يقولوا انها أخبار قد تقدمت، فطال العهد بها، وباد من كان يعرفها، لأن تلك الأخبار لا تخلو من خلل، فإذا سلم الكتاب منه، لم يكن لطاعن فيه مطعن. وأما على القراءتين الأوليين فاللام في (ليقولوا) كالتي في قوله (ليكون لهم عدوا وحزنا) ولم يلتقطوه لذلك، كما لم يصرف الآيات ليقولوا درست ودارست، ولكن لما قالوا ذلك، أطلق على هذا للاتساع، وأما قراءة ابن عباس (درست) ففيه ضمير الآيات، ومعناه درستها انت يا محمد، ويجوز
[ 129 ]
ان يكون معناه عفت وتنوسيت، فيكون كقوله: (إن هذا إلا أساطير الأولين). اللغة: البصيرة: البينة، والدلالة التي يبصر بها الشئ على ما هو به. والبصائر جمعها. والبصيرة: مقدار الدرهم من الدم. والبصيرة: الترس. والبصيرة: الثأر والدية، قال الشاعر: جاؤا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأي (1) أي: أخذوا الديات، فصارت عارا، وبصيرتي على فرسي أطلب بها ثأري. وقيل: أراد ثقل دمائهم على أكتافهم لم يثأروا بها. قال الأزهري: البصيرة: ما اعتقد في القلب من تحقيق الشئ والشقة تكون على الجنأ، والإبصار: الإدراك بحاسة البصر. والدرس: أصله استمرار التلاوة. ودرس الأثر دروسا: إذا انمحى لاستمرار الزمان به. ودرست الريح الأثر دروسا: محته باستمرارها عليه. الاعراب: (كذلك): موضع الكاف نصب منه بكونه صفة للمصدر أي: تصريفا مثك ذلك التصريف، واللام في (وليقولوا) معطوف على محذوف تقديره ليجحدوا وليقولوا درست، واللام لام العاقبة. المعنى: ثم بين سبحانه، انه بعد هذه الآيات، قد أزاح العلة للمكلفين، فقال: (قد جاءكم) أيها الناس (بصائر): بينات، ودلالات (من ربكم) تبصرون بها الهدى من الضلال، وتميزون بها بين الحق والباطل، ووصف البينة بأنها جاءت تفخيما لشأنها، كما يقال: جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبل السعد (فمن أبصر فلنفسه) أي: من تبين هذه الحجج، بأن نظر فيها حتى أوجبت له العلم، فمنفعة ذلك تعود إليه ولنفسه نظر (ومن عمي) فلم ينظر فيها، وصدف عنها (2) (فعليها) أي: على نفسه وباله، وبها أضر، وإياها ضر، فسمي العلم والتبيين إبصارا، والجهل عمى، مجازا وتوسعا. وفي هذا دلالة على أن المكلفين مخيرون في أفعالهم، غير مجبرين. ثم أمر سبحانه نبيه بأن يقول لهم (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: لست أنا (1) فرس عتد: شديد تام الخلق، معد للجري، ليس فيه اضطراب، ولا رخاوة. الوأي: الفرس السريع المقتدر الخلق. (2) [ حتى جهل ]. (*)
[ 130 ]
الرقيب على أعمالكم. قال الزجاج: معناه لست آخذكم بالإيمان اخذ الحفيظ عليكم والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال، صار حفيظا عليهم، ومسيطرا على كل من تولى (وكذلك) أي: وكما صرفنا الآيات قبل (نصرف) هذه (الآيات) قال علي بن عيسى: والتصريف إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة، لتجتمع فيه وجوه الفائدة. (وليقولوا درست) ذلك يا محمد أي: تعلمته من اليهود. قال الزجاج: وهذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة أي: إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات، وكذلك دارست أي دارست أهل الكتابين، وقارأتهم، وذاكرتهم عن الحسن، ومجاهد، والسدي، وابن عباس (ولنبينه لقوم يعلمون) معناه: لنبين الذي هذه الآيات دالة عليه، للعلماء الذين يعقلون ما نورده عليهم، وإنما خصهم بذلك لأنهم انتفعوا به، دون غيرهم. اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين 106 ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل 107. اللغة: الإتباع: أن يتصرف الثاني بتصريف الأول، والنبي كان يتصرف في الدين بتصريف الوحي، فلذلك كان متبعا، وكذلك كل متدبر بتدبير غيره فهو متبع له. والإيحاء هو إلقاء المعنى الى النفس على وجه يخفى. والإعراض: أصله الإنصراف بالوجه إلى جهة العرض ومنه: وأعرضت اليمامة، واشمخرت كأسياف بأيدي مصلتينا (1) أي: ظهرت كالظهور بالعرض، ومنه المعارضة: لظهور المساواة بها كالظهور بالعرض. والإعتراض: المنع من الشئ الحاجز عنه عرضا، ومنه العرض: الذي يظهر كالظهور بالعرض، ثم لا يلبث، وحد أيضا بأنه ما يظهر في الوجود، ولا يكون له لبث كلبث الجواهر. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم باتباع الوحي، فقال: (اتبع) أيها الرسول (ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو) إنما أعاد سبحانه هذا القول، لأن المراد (1) اشمخر الشئ: طال. (*)
[ 131 ]
ادعهم إلى أنه لا إله إلا هو، عن الحسن. وقيل: معناه ما أوحي إليك من أنه لا إله إلا هو (وأعرض عن المشركين) قال ابن عباس: نسختة آية القتال. وقيل: معناه اهجرهم، ولا تخالطهم، ولا تلاطفهم، ولم يرد به الإعراض عن دعائهم إلى الله تعالى، وحكمه ثابت (ولو شاء الله ما أشركوا) أي: لو شاء الله ان يتركوا الشرك قهرا وإجبارا، لاضطرهم إلى ذلك، إلا أنه لم يضطرهم إليه بما ينافي أمر التكليف، وأمرهم بتركه اختيارا، ليستحقوا الثواب والمدح عليه، فلم يتركوه، فأتوا به من قبل نفوسهم. وفي تفسير أهل البيت عليهم السلام: لو شاء الله أن يجعلهم كلهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد، لما كان يحتاج الى جنة، ولا إلى نار، ولكنه أمرهم ونهاهم، وامتحنهم وأعطاهم ما له به عليهم الحجة، من الآلة والإستطاعة، ليستحقوا الثواب والعقاب. (وما جعلناك عليهم حفيظا) مراقبا لأعمالهم (وما أنت عليهم بوكيل) أي: ولست بموكل عليهم بذلك وإنما أنت رسول عليك البلاغ، وعلينا الحساب. وجمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معنى اللفظين، فإن الحافظ للشئ هو الذي يصونه عما يضره. والوكيل على الشئ هو الذي يجلب الخير إليه. ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذالك زينا لكل عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعلمون 108. القراءة: قرأ يعقوب: (عدوا) بضم العين والدال، وتشديد الواو، وهو قراءة الحسن، وأبي رجاء وقتادة. وقرأ الباقون: (عدوا) بفتح العين، وسكون الدال. الحجة: العدو والعدو جميعا: الظلم والتعدي للحق، ومثلهما العدوان والعداء، وإنما انتصب (عدوا) لأنه مصدر في موضع الحال. اللغة: السب: الذكر بالقبيح، ومنه الشتم والذم، وأصله السبب، كأنه يتسبب إلى ذكره بالقبيح، وسبك الذى يسابك، وقال: لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم
[ 132 ]
وقيل: أصل، السب القطع. النزول: قال ابن عباس: لما نزلت (أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الآية، قال المشركون: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك ! فنزلت الآية. وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهاهم الله عن ذلك، لئلا يسبوا الله، فإنهم قوم جهلة. المعنى: ثم نهى الله المؤمنين أن يسبوا الأصنام، لما في ذلك من المفسدة، فقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) أي: لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم، إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله، فإن ذلك ليس من الحجاج في شئ (فيسبوا الله عدوا) أي: ظلما (بغير علم) وأنتم اليوم غير قادرين على معاقبتهم بما يستحقون، لأن الدار دارهم، ولم يؤذن لكم في القتال، وإنما قال: (من دون الله) لأن المعنى يدعونه إلها. وفي هذا دلالة على أنه لا ينبغي لأحد أن يفعل، أو يقول ما يؤدي إلى معصية غيره. وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء، في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله، فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم، لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين، فكان المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون). (كذلك زينا لكل أمة عملهم) قيل في معناه أقوال أحدها: إن المراد كما زينا لكم أعمالكم، زينا لكل أمة ممن قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله تعالى، وترك السب للأصنام، ونهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق، عن الحسن، والجبائي. ويسمي ما يجب على الإنسان أن يعمله بأنه عمله، كما تقول لولدك أو غلامك: إعمل عملك، أي: ما ينبغي لك أن تفعله. وثانيها: إن معناه. وكذلك زينا لكل أمة عملهم، بميل الطباع إليه، ولكن قد عرفناهم الحق مع ذلك، ليأتوا الحق، ويجتنبوا الباطل. وثالثها: إن المراد زينا عملهم بذكر ثوابه فهو كقوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) يريد: حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه، ومدح فاعليه. على فعله، وكره
[ 133 ]
الكفر بذكر عقابه، وذم فاعليه على فعله، ولم يرد سبحانه بذلك أنه زين عمل الكافرين، لأن ذلك يقتضي الدعاء إليه، والله تعالى ما دعا أحدا إلى معصيته، لكنه نهى عنها وذم فاعليها، وقد قال سبحانه (وزين لهم الشيطان أعمالهم) ولا خلاف أن المراد بذلك الكفر والمعاصي، وفي ذلك دلالة على أن المراد به في الآية تزيين أعمال الطاعة. (ثم إلى ربهم مرجعهم) أي: مصيرهم (فينبئهم بما كانوا يعملون) أي: بأعمالهم من الخير والشر. نهى الله سبحانه في هذه الآية عن سب الأصنام لئلا يؤدي ذلك إلى سبه، فإذا كان سبحانه لا يريد ما ربما يكون سببا إلى سبه، فلأن لا يريد سب نفسه أولى وأجدر، وأيضا إذا لم يرد سب الأصنام إذا كان زيادة في كفر الكافرين، فلأن لا يريد كفرهم أحرى، فبطل قول المجبرة. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جائتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الأيات عند الله وما يشعركم أنها أذا جاءت لا يؤمنون 109 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون 110. القراءة: قرأ ابن كثير، وأهل البصرة، وأبو بكر، عن عاصم، ونصير، عن الكسائي، وخلف، (إنها) بكسر الألف. وقرأ الباقون: (أنها) بفتح الألف. وقرأ ابن عامر، وحمزة: (لا تؤمنون) بالتاء، والباقون: (لا يؤمنون) بالياء. وفي الشواذ: (ويذرهم) بالياء، والجزم، قراءة الأعمش. الحجة: قال أبو علي: وما يشعركم ما فيه استفهام، وفاعل (يشعركم) ضمير (ما) ولا يجوز أن يكون نفيا، لأن الفعل فيه يبقى بلا فاعل، فإن قلت: يكون (ما) نفيا، ويكون فاعل (يشعركم) ضمير إسم الله تعالى، قيل: ذلك لا يصح، لأن التقدير يصير: وما يشعركم الله انتفاء إيمانهم، وهذا لا يستقيم، لأن الله قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله (ولو أننا نزلنا) الآية. وإذا فسد أن يكون (ما) للنفي، ثبت أنها للاستفهام، فيكون إسما، فيصير في الفعل ضميره، ويكون المعنى: وما يدريكم إيمانهم، إذا جاءت فحذف المفعول، وحذف المفعول كثير. ثم قال إنهم
[ 134 ]
لا يؤمنون مع مجئ الآية، فمن كسر الهمزة فإنه استأنف على القطع بأنهم لا يؤمنون. ومن فتح الهمزة جاز ان يكون (يشعركم) منقولا من شعرت الشئ، وشعرت به، مثل دريته، ودريت به، في انه يتعدى مرة بحرف، ومرة بلا حرف، فإذا عديته بالحرف جاز أن يكون أن في قول من لم يجعلها بصنى لعل في موضع جر، لأن الكلام لما طال صار كالبدل منه، وجاز أن يكون في موضع نصب، والوجه في هذه القراءة على تأويلين احدهما: أن يكون بمعنى لعل: كقول الشاعر، وهو دريد بن الصمة: ذريني أطوف في البلاد لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقال: هل أنتم عائجون (1) بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام وقال عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي: لعل منيتي المعنى: وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وهذا ما فسره الخليل بقوله ائت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي: لعلك. وقد جاء في التنزيل لعل بعد العلم قال سبحانه (وما يدريك لعله يزكى). (وما يدريك لعل الساعة قريب) والتأويل الآخر الذي لم يذهب إليه الخليل وسيبويه: أن يكون (لا) في قوله (لا يؤمنون) زائدة، والتقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، ومثل (لا) هذه في كونها في تأويل زائدة، وفي آخر غير زائدة، قول الشاعر: أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله (2) يريد لا يمنع الجائع الخبز وينشد: (أبى جوده لا البخل ولا البخل) فمن نصب البخل جعلها زائدة، كأنه قال أبي جوده البخل، ومن قال لا البخل: أضاف لا إلى البخل (3). ووجه القراءة بالياء في (يؤمنون) أن المراد بهم قوم مخصوصون بدلالة (1) أي هل مائلون بنا عن الطريق. (2) ويروى (لا يمنع الجود قاتله) وقوله: نعم أي لفظة (نعم) التي هي حرف الجواب، وهي فاعل (استعجلت). (3) والمعنى على هذا أبى جوده لفظة (لا) التي تقال عند البخل. (*)
[ 135 ]
قوله (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) الآية. وليس كل الكفار بهذه الصفة أي: لا يؤمن هؤلاء المقسمون. ووجه القراءة بالتاء أنه انصراف من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالمخاطبين هم الغيب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون. ومن قرأ: (ويذرهم) فإنه أسكن المرفوع تخفيفا. اللغة: الجهد بالفتح: المشقة. والجهد بالضم: الطاقة. وقيل الجهد بالفتح: المبالغة فقوله (جهد أيمانهم) أي: بالغوا في اليمين واجتهدوا فيه، وهو منصوب على المصدر، لأنه مضاف إلى المصدر، والمضاف الى المصدر مصدر، فإن الأيمان جمع اليمين. واليمين هي القسم. والتقدير: وأقسموا بالله جهد أقسامهم. النزول: قالت قريش: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا ان عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا بآية من الآيات حتى نصدقك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي شئ تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا إجعل لنا الصفا ذهبا، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك، أحق ما تقول ام باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أن يجعل الصفا ذهبا، فجاءه جبرائيل عليه السلام، فقال له: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي. المعنى: ثم بين سبحانه حال الكفار الذين سألوه الآيات، فقال: (وأقسموا) أي: حلفوا (بالله جهد أيمانهم) أي: مجدين مجتهدين، مظهرين الوفاء به (لئن جاءتهم آية) مما سألوه (ليؤمنن بها قل) يا محمد (إنما الآيات) أي: الأعلام والمعجزات (عند الله) والله تعالى مالكها، والقادر عليها، فلو علم صلاحكم في إنزالها، لأنزلها (وما يشعركم) الخطاب متوجه إلى المشركين، عن مجاهد، وابن زيد. وقيل: هو متوجه الى المؤمنين، عن الفراء، وغيره، لأنهم ظنوا أنهم لو أجيبوا الى الآيات لآمنوا (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) قد مر معناه.
[ 136 ]
(ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) أخبر سبحانه أنه يقلب أفئدة هؤلاء الكفار، وأبصارهم، عقوبة لهم، وفي كيفية تقليبهما قولان أحدهما: إنه يقلبهما في جهنم على لهب النار، وحر الجمر، (كما لم يؤمنوا به أول مرة) في الدنيا، عن الجبائي، قال: وجمع بين صفتهم في الدنيا، وصفتهم في الآخرة، كما قال: (وجوه يومئذ خاشعة) يعني في الآخرة (عاملة ناصبة) يعني في الدنيا، والآخر: إن المعنى نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحيرة التي تغم وتزعج النفس. وقوله (كما لم يؤمنوا به أول مرة) قيل: إنه متصل بما قبله، وتقديره وأقسموا بالله ليؤمنن بالآيات، والله تعالى قد قلب قلوبهم وأبصارهم، وعلم أن فيها خلاف ما يقولون. يقال: فلان قد قلب هذه المسألة، وقلب هذا الأمر إذا عرف حقيقته، ووقف عليه (وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) كما لم يؤمنوا بما أنزل الله من الآيات أول مرة، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه لو أعيدوا الى الدنيا ثانية، لم يؤمنوا به، كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا، كما قال: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) عن ابن عباس في رواية أخرى. وقيل: معناه يجازيهم في الآخرة كما لم يؤمنوا به في الدنيا، عن الجبائي. والهاء في (به) يحتمل أن يكون عائدة على القرآن، وما أنزل من الآيات. ويحتمل أن تكون عائدة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (ونذرهم في طغيانهم) أي: نخليهم وما اختاروه من الطغيان، فلا نحول بينه وبينهم (يعمهون) يترددون في الحيرة. قال الحسين بن علي المغربي: قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) حشو بين الجملتين، ومعناه: إنا نحيط علما بذات الصدور وخائنة الأعين أي: نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها. ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون 111. القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (قبلا) بضمتين ها هنا، وفي الكهف (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ أبو جعفر ههنا بكسر القاف، وفي الكهف بالضم. وقرأ نافع، وابن عامر: (قبلا) بكسر القاف في موضعين. وقرأ أهل الكوفة بضم القاف في السورتين.
[ 137 ]
الحجة: (قبلا): يحتمل أن يكون جمع قبيل: بمعنى الكفيل. ويجوز أن يكون بمعنى الصنف كما فسر أبو عبيدة، ويجوز أن يكون بمعنى قبل أي: مواجهة، كما فسره أبو زيد في قوله: لقيت فلانا قبلا، وقبلا، وقبلا، ومقابلة، وقبيلا، كله واحد، وهو المواجهة. فالمعنى في القراءتين على قوله واحد، وإن اختلف اللفظان. اللغة: الحشر: الجمع مع سوق، وكل جمع: حشر. المعنى: ثم بين سبحانه حالهم في عنادهم، وترددهم في طغيانهم، وكفرهم، فقال: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) حتى يروهم عيانا، يشهدون لنبينا بالرسالة (وكلمهم الموتى) أي: وأحيينا الموتى حتى كلموهم بالتوحيد، وشهدوا لمحمد بالرسالة (وحشرنا) أي: جمعنا (عليهم كل شئ) أي: كل آية. وقيل: كل ما سألوه (قبلا) أي: معاينة ومقابلة حتى يواجهوها، عن ابن عباس، وقتادة. ومعناه أنهم من شدة عنادهم، وتركهم الإنقياد والإذعان للحق، يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها، ومثله قوله (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) وقبلا أي: قبيلا قبيلا يعني جماعة جماعة، عن مجاهد. هذا إذا حملت (قبلا) على جمع القبيل الذي هو الصنف، وإنما كانت تبهر هذه الآية، لأنه ليس في العرف أن يجتمع جميع الأشياء وتنحشر الى موضع. وقيل: كفلاء عن الفراء. وهذا الوجه فيه بعد لأنهم إذا لم يؤمنوا عند إنزال الملائكة إليهم، وكلام الموتى، فأن لا يؤمنوا بالكفالة أجدر، إلا أن يكون المراد حشر كل شئ وفي الأشياء المحشورة ما لا ينطق، فإذا نطق بالكفالة ما لا ينطق، كان خارقا للعادة. (ما كانوا ليؤمنوا) عند هذه الآيات (إلا أن يشاء الله) أن يجبرهم على الإيمان، عن الحسن، وهو المروي عن أهل البيت عليهم السلام. والمعنى انهم قط لا يؤمنون مختارين إلا أن يكرهوا (ولكن أكثرهم يجهلون) أن الله قادر على ذلك. وقيل: معناه يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وقيل: معناه يجهلون مواضع المصلحة، فيطلبون ما لا فائدة فيه. وفي الآية دلالة على أن الله سبحانه، لو علم أنه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا، لفعل ذلك، ولكان ذلك من الواجب في حكمته، لأنه لو لم يجب ذلك، لم
[ 138 ]
يكن لتعليله بأنه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا معنى. وفيها ايضا دلالة على أن إرادته محدثة، لأن الإستثناء يدل على ذلك، إذ لو كانت قديمة، لم يجز هذا الإستثناء، ولم يصح كما كان لا يصح لو قال ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يعلم الله، وإلا أن يقدر الله لحصول هاتين الصفتين فيما لم يزل. ومتى قيل: فلم لا يقال انهم لم يؤمنوا لأنه سبحانه يعلم أنه لم يشأ ؟ فالقول فيه: إنه لو كان كذلك، لكان وقوع الإيمان منهم موقوفا على المشيئة، سواء كانت الآيات، أم لم تكن، وفي هذا إبطال للآيات. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنسان والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. 112 ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالأخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون 113 القراءة: في الشواذ عن الحسن (ولتصغي إليه) (وليرضوه) (وليقترفوا) بسكون اللام في الجميع، والقراءة الظاهرة بكسر اللام في سائرها. الحجة: قال أبو الفتح: هذه اللام هي الجارة أعني لام كي، وهي معطوفة على الغرور من قوله (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) أي: للغرور، ولأن تصغي (إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا) إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الإستعمال على قوته في القياس، لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر، نحو قوله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا) وإنما أسكنت تخفيفا لثقل الكسرة فيها، وفرقوا بينها وبين لام كي، بأن لم يسكنوها، وكأنهم إنما اختاروا السكون للام الأمر، والتحريك للام كي، من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر، عن أن، وهي أيضا في جواب كان سيفعل إذا قلت ما كان ليفعل، محذوفة مع اللام البتة، فلما نابت عنها، قووها بإقرار حركتها فيها، لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن، والأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف. اللغة: الزخرف: المزين، يقال زخرفه زخرفة، إذا زينه. والزخرف: كمال
[ 139 ]
حسن الشئ. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل الكعبة، حتى أمر بالزخرف فنحي قيل: كانت نقوش وتصاوير زينت الكعبة بها، وقيل: أراد بالزخرف: الذهب. والغرور: ما له ظاهر تحبه، وفيه باطن مكروه. والشيطان غرور لأنه يحمل على محاب النفس ووراءه سوء العاقبة. وبيع الغرر: ما لا يكون على ثقة، وصغوت إليه أصغي صغوا، وصغوا، وصغوا، وصغيت أصغي بالياء ايضا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنى. قال الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء (1) ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. ومنه الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصغي الإناء للهر) والأصل فيه الميل إلى الشئ لغرض من الأغراض. والإقتراف: اكتساب الإثم. ويقال: خرج يقترف لأهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرف الذنب واقترفه: عمله وقرفه بما ادعاه عليه أي رماه بالريبة. وقرف القرحة أي قشر منها. واقترف كذبا. الاعراب: نصب (عدوا) على احد وجهين: إما أن يكون مفعول (جعلنا) و (شياطين) بدل منه، ومفسر له، و (عدوا) في معنى أعداء. وإما أن يكون أصله خبرا، ويكون هنا مفعولا ثانيا ل (جعلنا) على تقدير جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا أي: أعداء. وقوله: (غرورا) نصب على المصدر من الفعل المتقدم، لأن معنى إيحاء إلزخرف من القول معنى الغرور، فكأنه قال: يغرون غرورا، عن الزجاج. وقيل: إنه مفعول له عن ابن جني. وقيل: نصب على البدل من زخرف، عن أبي مسلم. المعنى: ثم بين سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء عليهم السلام مع أعدائهم، تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) أي: وكما جعلنا لك شياطين الإنس والجن أعداء، كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم. وقيل في معنى قوله: (وجعلنا) هنا وجوه أحدها: إن المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين، فقد أمرنا من قبلك بمعاداة أعدائهم، من الجن والإنس، ومتى أمر الله رسوله بمعاداة قوم من المشركين، فقد جعلهم أعداء له، وقد (1) قوله التشبيه: أي المتشابه. (*)
[ 140 ]
يقول الأمير للمبارز من عسكره: جعلت فلانا قرنك في المبارزة، وإنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته، لأنه إذا أمره بمبارزته، فقد جعل من يبارزه قرنا له. وثانيها: إن معناه حكمنا بأنهم أعداء، وأخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الإحتراز عنهم، والإستعداد لدفع شرهم، وهذا كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، وفلانا فاسقا، إذا حكم بعدالة هذا، وفسق ذلك، وثالثها: إن المراد خلينا بينهم وبين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها، ولا جبرا، لأن ذلك يزيل التكليف. ورابعها: إنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه، لأنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل، وأمرهم بدعائهم إلى الإسلام، والإيمان، وخلع ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه عليهم السلام. ومثله قوله سبحانه مخبرا عن نوح عليه السلام: (فلم يزدهم دعائي إلا قرارا) والمراد بشياطين الإنس والجن: مردة الكفار من الفريقين، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد. وقيل: إن شياطين الإنس الذين يغوونهم، وشياطين الجن الذين هم من ولد إبليس، عن السدى، وعكرمة. وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين، فبعث فريقا منهم إلى الإنس، وفريقا إلى الجن فشياطين الإنس والجن أعداء الرسل والمؤمنين، فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، في كل حين، فيقول بعضهم لبعض أضللت صاحبي بكذا، فأضل صاحبك بمثلها، فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض. وروي عن أبي جعفر عليه السلام ايضا أنه قال: إن الشياطين يلقى بعضهم بعضا، فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض (يوحي) أي يوسوس ويلقي خفية (بعضهم إلى بعض زخرف القول) أي المموه المزين الذي يستحسن ظاهره، ولا حقيقة له، ولا أصل (غرورا) أي: يغرونهم بذلك غرورا، أو ليغروهم بذلك (ولو شاء ربك ما فعلوه) أخبر سبحانه أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا، ويحول بينهم وبينه، لقدر على ذلك، ولو حال بينهم وبينه، لما فعلوه، ولكنه خلى بينهم وبين أفعالهم إبقاء للتكليف، وامتحانا للمكلفين. وقيل: معناه ولو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذابا، أو آية، فتظل أعناقهم لها خاضعين (فذرهم وما يفترون) أي: دعهم وافتراءهم الكذب، فإني أجازيهم وأعاقبهم. أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخلي بينهم وبين ما اختاروه، ولا يمنعهم منه بالقهر، تهديدا لهم، كما قال اعملوا ما شئتم دون أن يكون أمرا واجبا،
[ 141 ]
أو ندبا. (ولتصغي إليه) أي: ولتميل إلى هذا الوحي بزخرف القول، أو إلى هذا القول المزخرف (أفئدة) أي: قلوب (الذين لا يؤمنون بالآخرة) والعامل في قوله (ولتصغي) قوله: (يوحي) ولا يجوز أن يكون العامل فيه (جعلنا) لأن الله سبحانه لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب إلى الكفر ووحي الشياطين، إلا أن تجعلها لام العاقبة، كما في قوله (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) على أنه غير معلوم أن كل من أرادوا منه الصغو قد صغى إلى كلامهم، ولم يصح ذلك أيضا في قوله (وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) لأنه غير معلوم حصول ذلك، وعلى ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفا بعضه على بعض، والمراد بالأفئدة: أصحاب الأفئدة، ولكن لما كان الإعتقاد في القلب، وكذلك الشهوة، أسند الصغو إلى القلب (وليرضوه) أي: وليرضوا ما أوحي إليهم من القول المزخرف. (وليقترفوا) أي: وليكتسبوا من الإثم والمعاصي (ما هم مقترفون) أي: مكتسبون في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، عن ابن عباس، والسدي. وقال أبو علي الجبائي: إن اللام في قوله (ولتصغي) وما بعده، لام الأمر، والمراد بها التهديد، كما قال سبحانه (اعملوا ما شئتم) (واستفزز من استطعت) وهذا غلط فاحش، لأنه لو كان كذلك، لقال: ولتصغ، فحذف الألف. وقال البلخي: اللام في (ولتصغي) لام العاقبة، وما بعده لام الأمر الذي يراد به التهديد، وهذا جائز إلا أن فيه تعسفا، فالأصح ما ذكرناه. أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين إتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين 144. القراءة: قرأ ابن عامر، وحفص (منزل) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. الحجة: حجة التشديد قوله سبحانه: (تنزيل الكتاب من الله) وما أشبهه، وحجة التخفيف: إنا أنزلنا إليك) وما أشبهه.
[ 142 ]
المعنى: ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهؤلاء الكفار الذين مضى ذكرهم (أفغير الله أبتغي حكما) أي: أطلب سوى الله حاكما، والحكم والحاكم بمعنى واحد، إلا أن الحكم أمدح، لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه، فهو لا يقضي إلا بالحق، وقد يحكم الحاكم بغير حق، والمعنى: هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله رغبة عنه، أو هل يجوز أن يكون حكم سوى الله يساويه في حكمه ؟ (وهو الذي) يعني: والله الذي (أنزل إليكم الكتاب) أي: القرآن (مفصلا) فصل فيه جميع ما يحتاج إليه، وقيل: فصل فيه بين الصادق والكاذب في الدين. وقيل: فصل بين الحلال والحرام، والكفر والإيمان، عن الحسن. ومعنى التفصيل: تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، وينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد. (والذين آتيناهم الكتاب) يعني بهم مؤمني أهل الكتاب. والكتاب هو التوراة والإنجيل، وقيل: يعني بهم كبراء الصحابة، وأصحاب بدر، والكتاب: هو القرآن، عن عطا (يعلمون أنه) أي أن القرآن (منزل من ربك بالحق) يعني بيان الحق أي: يعلمون أن كل ما فيه بيان عن الشئ على ما هو به، فترغيبه وترهيبه، ووعده ووعيده، وقصصه وأمثاله، وغير ذلك، جميعه بهذه الصفة. وقيل: إن معنى (بالحق): بالبرهان الذي تقدم لهم حتى عالموه به (فلا تكونن من الممترين) أي: من الشاكين في ذلك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به الأمة، وقيل: الخطاب لغيره أي: فلا تكن أيها الإنسان، أو أيها السامع. وقيل: الخطاب له صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به الزيادة في شرح صدره ويقينه، وطمأنينة قلبه وتسكينه، كقوله تعالى: (فلا يكن في صدرك حرج منه) عن أبي مسلم. وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم 115. القراءة: (كلمة ربك) بالتوحيد عراقي، غير أبي عمرو. والباقون: (كلمات ربك) الحجة: من قرأ (كلمة ربك) قال: قد وقع المفرد على الكثرة، فلذلك أغنى
[ 143 ]
عن الجمع. قالوا: إن زهيرا قال في كلمته، يعنون قصيدته. وقال قس في كلمته، يعنون خطبته، ومن قرأ بالجمع فلأنه لما كان جمعا في المعنى، جمعوا. اللغة: التبديل: وضع الشئ مكان غيره، والصدق: الخبر الذي مخبره على وفق ما أخبر به. والعدل: ضد الجور. وقيل: إن أفعال الله تعالى كلها عدل، لأنها كلها على الإستقامة. وقيل: إنما يوصف بذلك فيما يعامل به عباده. الاعراب: (صدقا وعدلا) نصب على التمييز. وقيل: إنهما مصدران انتصبا على الحال من الكلمة، وتقدير ذلك صادقة وعادلة، عن أبي علي الفارسي. وقد تقدم مثل هذا فيما مضى. المعنى: ثم بين سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال: (وتمت) أي: كملت على وجه لا يمكن أحدا الزيادة فيه، والنقصان منه (كلمة ربك) أي: القرآن، عن قتادة، وغيره، وقيل: معناه أنزلت شيئا بعد شئ، حتى كملت على ما تقتضيه الحكمة، وقيل: إن المراد بالكلمة دين الله كما في قوله: (وكلمة الله هي العليا) عن أبي مسلم. وقيل: المراد بها حجة الله على الخلق (صدقا وعدلا) ما كان في القرآن من الأخبار، فهو صدق لا يشوبه كذب، وما فيه من الأمر، والنهي، والحكم، والإباحة والحظر، فهو عدل (لا مبدل لكلماته) أي: لا مغير لأحكامه عن قتادة، لأنه وإن أمكن التغيير والتبديل في اللفظ، كما بدل أهل الكتاب التوراة والإنجيل، فإنه لا يعتد بذلك. قال: وقد تطلق الكلمة بمعنى الحكم قال سبحانه (وكذلك حقت كلمة ربك) أي: حكم ربك، ويقال عقوبة ربك. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صفة النساء: (إنهن هوان عندكم، استحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى). وقيل: معناه إن القرآن محروس عن الزيادة والنقصان، فلا مغير لشئ منه، وذلك أن الله تعالى ضمن حفظه في قوله (وإنا له لحافظون) ولا يجوز أن يعني بالكلمات الشرائع كما عنى بقوله (وصدقت بكلمات ربها) لأن الشرائع، قد يجوز فيها النسخ والتبديل (وهو السميع) لأقوالكم (العليم) بضمائركم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلونك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون 116 إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو
[ 144 ]
أعلم بالمهتدين 117. اللغة: الفرق بين الأكثر والأعظم أن الأعظم قد يوصف به واحد، ولا يوصف بالأكثر واحد بحال، ولهذا يقال في صفة الله تعالى عظيم وأعظم، ولا يوصف بأكثر، وإنما يقال أكبر بمعنى أعظم. والخرص: الكذب، يقال: خرص، يخرص، خرصا، وتخرص، واخترص: وأصله القطع قال الشاعر: ترى قصد المران فيهم كأنه تذرع خرصان بأيدي الشواطب (1) يعني جريدا يقطع طولا، ويتخذ منه الحصر، وهو جمع الخرص). ومنه خرص النخل، يخرص، خرصا: إذا أحرزه. والخرص: حبة القرط إذا كانت منفردة. والخرص: العود لانقطاعه عن نظائره بطيب ريحه. ولفظة (أعلم) إذا لم يذكر معها من فله معنيان أحدهما: أعلم من الكل واجتزئ عن ذكر من كقولهم: الله أكبر أي: من كل شئ والثاني: بمعنى فعيل كقول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول أي: عزيز وطويل. الاعراب: موضع (من يضل عن سبيله) فيه وجوه أحدها: إنه نصب على حذف الباء حتى يكون مقابلا لقوله: (وهو أعلم بالمهتدين) والثاني: إن موضع (من) رفع بالإبتداء، ولفظها لفظ الإستفهام، والمعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله وهذا مثل قوله تعالى (لنعلم أي الحزبين أحصى) عن الزجاج. وفي هذه المسألة خلاف، وسيأتي شرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى والثالث: إن موضعها نصب بفعل مضمر، يدل عليه قوله (أعلم) فكأنه قال: إن ربك هو أعلم، يعلم من يضل عن سبيله، وصيغة أفعل من كذا، لا تتعدى، لأنها غير جارية على الفعل، ولا معدولة عن الجارية على الفعل، كما عدل ضروب عن ضارب، ومتجار عن تاجر، عن أبي علي الفارسي. وزعم قوم أن (أعلم) ههنا (1) قائله قيس بن الخطيم. القصد جمع القصدة: القطعة مما يكسر ومران - كرمان - الرماح الصلبة اللدنة. والتذرع: تقدير الشئ بذراع اليد. والشواطب جمع الشاطبة: المرأة التي تشق الجريد لتعمل منه الحصير. (*)
[ 145 ]
بمعنى يعلم، كما قال حاتم الطائي: فحالفت طيئ من دوننا حلفا والله أعلم ما كنا لهم خذلا وقالت الخنساء: القوم أعلم أن جفنته تغدو غداة الريح، أو تسري (1) وهذا فاسد، لأنه لا يطابق قوله: (وهو أعلم بالمهتدين)، ولا يجوز أن يكون (من) في موضع جر باضافة (أعلم) إليه، لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه، وجل ربنا وتقدس عن أن يكون بعض الضالين، ولا بعض المضلين. المعنى: لما تقدم ذكر الكتاب، بين سبحانه في هذه الآية ان من تبع غير الكتاب، ضل وأضل، فقال: (وإن تطع) يا محمد، خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره، وقيل: المراد هو وغيره، والطاعة هي امتثال الأمر وموافقة المطيع المطاع فيما يريده منه إذا كان المريد فوقه، والفرق بينها وبين الإجابة أن الإجابة عامة في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسألة، ولا يراعى فيها الرتبة (أكثر من في الأرض) يعني الكفار، وأهل الضلالة، وإنما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه أن منهم من يؤمن ويدعو إلى الحق، ويذب عن الدين، ولكن هم الأقل، والأكثر الضلال. (يضلوك عن سبيل الله) أي: عن دينه. وفى هذا دلالة على أنه لا عبرة في دين الله ومعرفة الحق، بالقلة والكثرة، لجواز أن يكون الحق مع الأقل، وإنما الإعتبار فيه بالحجة دون القلة والكثرة (إن يتبعون الا الظن) أي: ما يتبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه، ويدعون إليه إلا الظن (وإن هم الا يخرصون) أي: ما هم إلا يكذبون، وقيل: معناه أنهم لا يقولون عن علم، ولكن عن خرص وتخمين. وقال ابن عباس: كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى أكل الميتة، ويقولون: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربكم ؟ فهذا ضلالهم (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله) خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإن عنى به جميع الأمة. ويسأل فيقال: كيف جاز في صفة القديم سبحانه أعلم، مع أنه سبحانه لا (1) الجفنة: القصعة الكبيرة، وقوله تسري أي: تسير عامة الليل.
[ 146 ]
يخلو من أن يكون أعلم بالمعنى ممن يعلمه، أو ممن لا يعلمه، وكلاهما لا يصح فيه أفعل ؟ والجواب: إن المعنى هو أعلم به ممن يعلمه، لأنه يعلمه من وجوه لا يخفى على غيره، وذلك أنه يعلم ما يكون منه، وما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، على جميع الوجوه التي يصح أن يعلم الأشياء عليها، وليس كذلك غيره، لأن غيره لا يعلم جميع الأشياء وما يعلمه لا يعلمه من جميع وجوهها، وأما من هو غير عالم أصلا، فلا يقال الله سبحانه أعلم منه، لأن لفظة (أعلم) يقتضي الإشتراك في العلم، وزيادة لمن وصف بأنه أعلم، وهذا لا يصح فيمن ليس بعالم أصلا إلا مجازا. (وهو أعلم بالمهتدين) المعنى: إنه سبحانه أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك والعقاب، ومن يسلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة والثواب، وفي هذا دلالة على أن الضلال والإضلال من فعل العبد، خلاف ما يقوله أهل الجبر. وعلى أنه لا يجوز التقليد واتباع الظن في الدين، والإغترار بالكثرة، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال للحارث الهمداني: (يا حار ! الحق لا يعرف بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله). فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بأياته مؤمنين 118 وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين 119 وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون 120 القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير حفص: (فصل لكم) بالفتح (ما حرم) بالضم. وقرأ أهل المدينة، وحفص، ويعقوب، وسهل: (فصل لكم ما حرم) كليهما بالفتح. وقرأ الباقون: (فصل لكم ما حرم) بالضم فيهما. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (ليضلون) بفتح الياء هنا، وفي يونس (ليضلوا عن سبيلك) وفي إبراهيم (ليضلوا عن سبيله) وفي الحج (ليضل عن سبيل الله)، وفي لقمان،
[ 147 ]
والزمر في المواضع الستة، وقرأ أهل الكوفة بضم الياء في هذه المواضع. وقرأ الباقون هنا، وفي سورة يونس بفتح الياء، وفي الأربعة بعد هذين الموضعين بضم الياء. الحجة: حجة من ضم الفاء من (فصل) والحاء من (حرم) قوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) فهذا تفصيل هذا العام المجمل بقوله: (حرم) (1)، (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) فمفصلا يدل على فصل. وحجة من قرأ (فصل)، و (حرم) بفتح الفاء والحاء، قوله: (قد فصلنا الآيات)، وقوله: (أتل ما حرم ربكم)، وقوله: (الذين يشهدون ان الله حرم هذا). وحجة من ضم الياء من يضلون ويضلوا أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلالة أذهب، ومن الهدى أبعد، ألا ترى أن كل مضل ضال، وليس كل ضال مضلا، لأن الضلال قد يكون مقصورا على نفسه لا يتعداه إلى سواه. ومن قرأ بفتح الياء فإنه يريد أنهم يضلون في أنفسهم، من غير أن يضلوا غيرهم من أتباعهم، بامتناعهم من أكل ما ذكر إسم الله عليه، وغير ذلك، أي: يضلون باتباع أهوائهم. الاعراب واللغة: (وذروا): الواو للعطف، وإنما استعمل منه الأمر والمستقبل، ولا يستعمل وذر ولا واذر أشعروا بذلك كراهية الإبتداء بالواو، حتى لم يزيدوها هناك أصلا مع زيادتهم أخواتها، واستغنوا فيها بترك وتارك، وهذا كما استعملوا الماضي دون المستقبل، واسم الفاعل في عسى. والظاهر: الكائن على وجه يمكن إدراكه، والباطن: هو الكائن على وجه يتعذر إدراكه. والكسب: ما يفعل لاجتلاب النفع، أو دفع الضرر، وإنما يوصف به العبد دون الله تعالى، لاستحالة النفع والضرر عليه سبحانه. والكواسب: الجوارح من الطير، لأنها تكسب ما تنتفع به، وقد بينا أن معنى الإقتراف: الإكتساب. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الكلام فقال: (فكلوا) ثم، اختلف في ذلك فقيل: انه لما ذكر المهتدين فكأنه قال: ومن الهداية أن تحلوا ما أحل الله، وتحرموا ما حرم الله، فكلوا. وقيل: إن المشركين لما قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم أنتم، ولا تأكلوا ما قتل ربكم، فكأنه قال سبحانه لهم، أعرضوا عن (1) [ وقوله ]. (*)
[ 148 ]
جهلكم، فكلوا. والمراد به الإباحة، وإن كانت الصيغة صيغة الأمر (مما ذكر اسم الله عليه) يعني: ذكر اسم الله عند ذبحه دون الميتة، وما ذكر عليه اسم الأصنام، والذكر: هو قول: (بسم الله) وقيل: هو كل اسم يختص الله تعالى به، أو صفة تختصه، كقول باسم الرحمن، أو باسم القديم، أو باسم القادر لنفسه، أو العالم لنفسه، وما يجري مجراه، والأول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جواز غيره لقوله سبحانه (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى). (إن كنتم بآياته مؤمنين) بأن عرفتم رسوله وصحة ما أتاكم به من عند الله، فكلوا ما أحل دون ما حرم. وفي هذه الآية دلالة علن وجوب التسمية على الذبيحة، وعلى أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها، لأنهم لا يسمون الله تعالى عليها، ومن سمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة، ولأنه يعتقد أن الذي يسميه هو الذي أبد شرع موسى، أو عيسى، فإذا لا يذكرون الله تعالى حقيقة. (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) قد ذكرنا إعرابه في سورة البقرة، عند قوله: (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله) وتقديره: أي شئ لكم في أن لا تأكلوا ؟ فيكون (ما) للاستفهام، وهو اختيار الزجاج، وغيره من البصريين، ومعناه ما الذي يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عند ذبحه. وقيل: معناه ليس لكم أن لا تأكلوا، فيكون (ما) للنفي (وقد فصل لكم) أي: بين لكم (ما حرم عليكم) قيل: هو ما ذكر في سورة المائدة من قوله (حرمت عليكم الميتة والدم) الآية: واعترض على هذا بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة، فلا يصح أن يقال أنه فصل، الا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد ذلك نزل به القرآن. وقيل: إنه ما فصل في هذه السورة في قوله: (قل لا أجد فجما أوحي إلي محرما) الآية. (إلا ما اضطررتم إليه) معناه: إلا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم التناول منه، فحينئذ يجوز لكم تناوله، وإن كان مما حرمه الله. واختلف في مقدار ما يسوغ تناوله عند الإضطرار: فعندنا لا يجوز أن يتناول إلا ما يمسك به الرمق. وقال قوم: يجوز أن يشبع المضطر منها. وأن يحمل منها معه، حتى يجد ما يأكل. وقال الجبائي: في هذه الآية دلالة على أن ما يكره على أكله من هذه الأجناس، يجوز أكله لأن المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.
[ 149 ]
(وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم) أي: باتباع أهوائهم. ومن قرأ بالضم أراد أنهم يضلون أشياعهم، فحذف المفعول به، وفي أمثاله كثرة، وإنما جعل النكرة اسم (إن) لأن الكلام إذا طال احتمل ذلك، ودل بعضه على بعض. (بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) المتجاوزين الحق الى الباطل، والحلال إلى الحرام (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) أمر سبحانه بترك الإثم مع قيام الدلالة على كونه إثما، ونهى عن ارتكابه سرا وعلانية، وهو قول قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس. وقيل: أراد بالظاهر أفعال الجوارح، وبالباطن أفعال القلوب، عن الجبائي. وقيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، والباطن هو اتخاذ الأخدان، عن السدي، والضحاك. وقيل: ظاهر الإثم امرأة الأب، وباطنه الزنا، عن سعيد بن جبير. وقيل: إن أهل الجاهلية كانت ترى أن الزنا إذا أظهر كان فيه إثم، وإذا استسر به صاحبه، لم يكن إثما، ذكره الضحاك. والأصح القول الأول لأنه يعم الجميع (إن الذين يكسبون الإثم) أي: يعملون المعاصي التي فيها الآثام، ويرتكبون القبائح (سيجزون) أي: سيعاقبون (بما كانوا يقترفون) بما كانوا يكسبون، ويرتكبون. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون 121. المعنى: ثم أكد سبحانه ما تقدم بقوله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) يعني عند الذبح من الذبائح، وهذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ترك التسمية غير محرم لها (وإنه لفسق) يعني: وإن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لفسق. وفي هذا دلالة على تحريم أكل ذبائح الكفار كلهم، أهل الكتاب وغيرهم، من سمي منهم، ومن لم يسم، لأنهم يعرفون الله تعالى على ما ذكرناه من قبل، فلا يصح منهم القصد إلى ذكر إسمه. فأما ذبيحة المسلم إذا لم يسم الله تعالى عليها، فقد اختلف في ذلك، فقيل: لا يحل أكلها سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا، عن مالك، وداود، وروي ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وبه قال الجبائي. وقيل: يحذ أكلها في الحالين عن
[ 150 ]
الشافعي. وقيل: يحل أكلها إذا ترك التسمية ناسيا بعد أن يكون معتقدا لوجوبها، ويحرم أكلها إذا تركها متعمدا، عن ابي حنيفة وأصحابه، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. (وإن الشياطين) يعني علماء الكافرين ورؤساءهم المتمردين في كفرهم (ليوحون) أي: يؤمون ويشيرون (إلى أوليائهم) الذين اتبعوهم من الكفار (ليجادلوكم) في استحلال الميتة. قال الحسن: كان مشركو العرب يجادلون المسلمين فيقولون لهم: كيف تأكلون مما تقتلونه أنتم، ولا تأكلون مما قتله الله ؟ ! وقتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم، فهذه مجادلتهم. وقال عكرمة: إن قوما من مجوس فارس، كتبوا إلى مشركي قريش، وكانوا أولياءهم في الجاهلية: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال، وما قتله الله حرام، فوقع ذلك في نفوسهم، فذلك إيحاؤهم إليهم. وقال ابن عباس: معناه وإن الشياطين من الجن، وهم إبليس وجنوده، ليوحون إلى أوليائهم من الإنس. والوحي إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي، وهم يلقون الوسوسة إلى قلوب أهل الشرك، ثم قال سبحانه (وإن أطعتموهم) أيها المؤمنون، فيما يقولون من استحلال الميتة، وغيره (إنكم) إذا (لمشركون) لأن من استحل الميتة، فهو كافر بالإجماع، ومن أكلها محرما لها، مختارا، فهو فاسق، وهو قول الحسن، وجماعة المفسرين. وقال عطا: إنه مختص بذبائح العرب التي كانت تذبحها للأوثان. أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون 122 وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون 123. القراءة: قرأ أهل المدينة، ويعقوب (ميتا) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. الحجة: قال أبو عبيدة: الميتة تخفيف ميتة، ومعناهما واحد، قال أبو الرعلاء (1) الغساني: (1) في لسان العرب عدي بن الرعلاء. (*)
[ 151 ]
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو وأعلت بالحذف، كما أعلت بالقلب. اللغة: الأكابر: جمع الأكبر، وقد قالوا الأكابرة والأصاغرة، كما قالوا الأساورة والأحامرة، قال الشاعر: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي، وكنت بهن قدما مولعا الخمر، واللحم السمين أحبه، والزعفران وقد أبيت مردعا (1) واصل المكر: الفتل، ومنه جارية ممكورة أي: مفتلة البدن، فكأن المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد. الاعراب: (أو من) هذه همزة الإستفهام، دخلت على واو العطف، وهو استفهام يراد به التقرير، وموضع الكاف في قوله (وكذلك جعلنا) نصب معطوفة على ما قبلها، وهو قوله (كذلك زين للكافرين) (مجرميها): يجوز أن يكون منصوبا على التقديم والتأخير، وتقديره جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، ويجوز أن يكون منصوبا بإضافة (أكابر) إليه. النزول: الآية الأولى قيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل بن هاشم، وذلك أن أبا جهل آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء ومعه قوس، فضرب بها رأس أبي جهل، وآمن عن ابن عباس. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن، وأبي جهل، عن عكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب، عن الضحاك. وقيل: إنها عامة في كل مؤمن وكافر، عن الحسن، وجماعة. وهذا أولى لأنه أعم فائدة، فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة. المعنى: ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين فقال (أو من كان ميتا فأحييناه) أي: كافرا فاحييناه، بأن هديناه إلى الإيمان، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، شبه (1) ثوب مردع أي الملطخ بالزعفران. (*)
[ 152 ]
سبحانه الكفر بالموت، والإيمان بالحياة، وقيل: معناه من كان نطفة فأحييناه، كقوله: (وكنتم امواتا فأحياكم) (وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) قيل فيه وجوه أحدها: إن المراد بالنور: العلم والحكمة، سمى سبحانه ذلك نورا، والجهل ظلمة، لأن العلم يهتدى به إلى الرشاد، كما يهتدى بالنور في الطرقات. وثانيها: إن المراد بالنور هنا القرآن، عن مجاهد وثالثها: إن المراد به الإيمان، عن ابن عباس. (كمن مثله في الظلمات) لم يقل سبحانه كمن هو في الظلمات (1) تقديره كمن مثله مثل من هو في الظلمات، يعني به الكافر الذي هو في ظلمة الكفر. وقيل: معناه كمن هو في ظلمات الكفر (ليس بخارج منها) لكنه ذكره بلفظ المثل ليبين أنه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل فيها، وإنما سمى الله تعالى الكافر ميتا، لأنه لا ينتفع بحياته، ولا ينتفع غيره بحياته، فهو أسوأ حالا من الميت، إذ لا يوجد من الميت ما يعاقب عليه، ولا يتضرر غيره به، وسمى المؤمن حيا، لأن له ولغيره المصلحة والمنفعة في حياته، وكذلك سمى الكافر ميتا والمؤمن حيا، في عدة مواضع، مثل قوله (إنك لا تسمع الموتى ولينذر من كان حيا) وقوله (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) وسمى القرآن، والإيمان، والعلم: نورا، لأن الناس يبصرون بذلك، ويهتدون به من ظلمات الكفر، وحيرة الضلالة، كما يهتدى بسائر الأنوار، وسمى الكفر ظلمة، لأن الكافر لا يهتدي بهداه، ولا يبصر أمر رشده، وهذا كما سمى الكافر أعمى في قوله (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وقوله (وما يستوي الأعمى والبصير). (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) وجه التشبيه بالكافر أن معناه زين لهؤلاء الكفر، فعملوه، مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه، فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه: (كل حزب بما لديهم فرحون). وروي عن الحسن أنه قال زينه. والله لهم الشيطان وأنفسهم، واستدل بقوله (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) وقوله (زين) لا يقتضي مزينا غيرهم، لأنه بمنزلة قوله تعالى: (أني يصرفون وأنى يؤفكون) وقول العرب أعجب فلان بنفسه، وأولع بكذا، ومثله كثير. (1) [ لان ]. (*)
[ 153 ]
(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر) أي: مثل ذلك الذي قصصنا عليك، زين للكافرين عملهم، ومثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر (مجرميها) وجعلنا ذا المكر من المجرمين، كما جعلنا ذا النور من المؤمنين، فكل ما فعلنا بهؤلاء، فعلنا بأولئك، إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم، وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم، لأن في كل واحد منهم الجعل بمعنى الصيرورة، إلا أن الأول باللطف، والثاني بالتمكين من المكر. وإنما خص أكابر المجرمين بذلك دون الأصاغر لأنه أليق بالإقتدار على الجميع، لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر، فالأصاغر بذلك أجدر، واللام في قوله (ليمكروا فيها) لام العاقبة ويسمى لام الصيرورة، كما في قوله سبحانه (ليكون لهم عدوا وحزنا)، وكما قال الشاعر: فأقسم لو قتلوا مالكا لكنت لهم حية راصدة وأم سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدة (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) لأن عقاب ذلك يحل بهم، ولا يصح أن يمكر الإنسان بنفسه على الحقيقة، لأنه لا يصح أن يخفي عن نفسه معنى ما يحتال به عليها، ويصح أن يخفي ذلك عن غيره، وفائدة الآية: إن أكابر مجرميها، لم يمكروا بالمؤمنين على وجه المغالبة لله، إذ هم كأنه سبحانه جعلهم ليمكروا، وهذه مبالغة في انتفاء صفة المغالبة. وإذا جاءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ اوتى الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون 124. القراءة: قرأ ابن كثير، وحفص: (رسالته) على التوحيد، ونصب التاء. والباقون: (رسالاته) على الجمع. الحجة: من وحد فلأن الرسالة تدل على القلة والكثرة، لكونها مصدرا. ومن جمع فلما تكرر من رسالات الله سبحانه، مرة بعد أخرى.
[ 154 ]
اللغة: الإجرام: الإقدام على القبيح بالإنقطاع إليه، لأن أصل الجرم: القطع، فكأنه قطع ما يجب أن يوصل من العمل، ومنه قيل للذنب الجرم، والجريمة والصغار: الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه، يقال: صغر الإنسان، يصغر، صغارا، وصغرا. الاعراب: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) لا يخلو (حيث) هنا، من أن يكون ظرفا متضمنا لحرفه، أو غير ظرف، فإن كان ظرفا، فلا يجوز أن يعمل فيه (أعلم) لأنه يصير المعنى: أعلم في هذا الموضع، أو في هذا الوقت، ولا يوصف تعالى بأنه أعلم في مواضع، أو في أوقات، كما يقال زيد أعلم في مكان كذا، أو أعلم في زمان كذا، وإذا كان الأمر كذلك، لم يجز أن يكون (حيث) هنا ظرفا، وإذا لم يكن ظرفا، كان إسما، وكان انتصابه انتصاب المفعول به على الإتساع. ويقوي ذلك دخول الجار عليها، فكان الأصل: الله أعلم بمواضع رسالاته، ثم حذف الجار كما قال سبحانه: (أعلم بمن ضل عن سبيله) وفي موضع آخر (أعلم من يضل عن سبيله) فمن يضل: معمول فعل مضمر، دل عليه (أعلم)، ولا يجوز أن يكون معمول (أعلم) لأن المعاني لا تعمل في مواضع الإستفهام ونحوه، إنما تعمل فيها الأفعال التي تلغى، فتعلق كما تلغى. ومثل ذلك في أنه لا يكون إلا محمولا على فعل قوله (وأضرب منا بالسيوف القوانس) (1). فالقوانس منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله: (أضرب) لأن المعاني لا تعمل في المفعول به، ومما جعل حيث فيه إسما متمكنا غير ظرف متضمن لمعنى في قول الشاعر: كأن منها حيث تلوي المنطقا حقفا نقا مالا على حقفي نقا (2) ألا ترى أن حيث هنا في موضع نصب بكأن، وحقفا نقا مرفوع بأنه خبره. وقال القاضي أبو سعيد السيرافي، في شرح كتاب سيبويه: إن من العرب من يضيف حيث إلى المفرد، فيجر ما بعدها، وأنشد إبن الاعرابي بيتا آخره (حيث لي العمائم)، وأنشد أيضا أبو سعيد، وأبو علي في إخراج (حيث) من حد الظرفية بالإضافة إليها، إلى حد الأسماء المحضة، قول الشاعر يصف شيخا يقتل القمل: (1) القوانس جمع القونس: أعلى الرأس. (2) المنطق: كلما شددت به وسطك. الحقفان تثنية الحقف: ما اعوج من الرمل واستطال. النقا مقصورا: الكثيب من الرمل. قوله مالا: من الميل. (*)
[ 155 ]
يهز الهرانع عقده عند الخصى بأذل حيث يكون من يتذلل (1) ومن ذلك قول الفرزدق: فمحن به عذبا رضابا غروبه رقاق وأعلى، حيث ركبن أعجف (2) وقوله (صغار عند الله) قال الزجاج: (عند) متصلة بسيصيب أي: سيصيبهم عند الله صغار، وجاز أن يكون (عند) متصلة بصغار، فيكون المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت لهم عند الله، ولا يصلح أن يكون من محذوفة من (عند)، إنما المحذوف من (عند) في إذا قلت زيد عند عمرو، فالمعنى زيد في حضرة عمرو. وقال أبو علي، إذا قلت ان (عند) معمول لصغار، لم تحتج إلى تقدير محذوف في الكلام، ولكن نفس المصدر يتناوله، ويعمل فيه، ويكون التقدير أن يصغروا عند الله، فلا وجه لتقدير ثابت في الكلام، فإن قدرت صغارا موصوفا بعند، لم يكن (عند) معمولا لصغار، ولكن يكون متعلقا بمحذوف، فلا بد على هذا من تقدير ثابت، ونحوه ما يكون في الأصل صفة، ثم حذف، وأقيم الظرف مقامه للدلالة عليه، وهذا كقولك وأنت تريد الصفة هذا رجل عندك، المعنى ثابت عندك، أو مستقر عندك، وكلا الوجهين جائز. النزول: نزلت في الوليد بن المغيرة قال: (والله لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك مالا). وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام قال: (زاحمنا بني عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به، ولا نتبعه ابدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه)، عن مقاتل. المعنى: ثم حكى سبحانه عن الأكابر الذين تقدم ذكرهم واقتراحاتهم الباطلة، فقال: (وإذا جاءتهم آية) أي: دلالة معجزة من عند الله تعالى، تدل على توحيده، وصدق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قالوا لن نؤمن) أي: لن نصدق بها (حتى نؤتى) (1) وهز القملة بين أصابعه: قصعها أي قتلها. الهرانع جمع الهرنع: القمل الكبير. (2) ماح الريق من فيه بالسواك: استخرجه به. والرضاب بمعنى العذب أيضا والعزوب جمع عزب: ماء الفم. والأعجف: المهزول. يصف جواري اشتغلن بالسواك وقوله: أعلى حيث ركبن أي: الأسنان، يعني لثتهن قليلة اللحم. (*)
[ 156 ]
أي: نعطى آية معجزة (مثل ما أوتي) أي: أعطي (رسل الله) حسدا منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) أنه أعلم منهم، ومن جميع الخلق بمن يصلح لرسالاته، ويتعلق مصالح الخلق ببعثه، وأنه يعلم من يقوم بأعباء الرسالة، ومن لا يقوم بها، فيجعلها عند من يقوم بأدائها، ويحتمل ما يلحقه من المشقة والأذى على تبليغها. ثم توعدهم سبحانه، فقال: (سيصيب) أي: سينال (الذين أجرموا) أي: انقطعوا إلى الكفر، وأقدموا عليه، يعني بهم المشركين من أكابر القرى الذين سبق ذكرهم (صغار عند الله) أي: سيصيبهم عند الله ذل، وهوان، وإن كانوا أكابر في الدنيا، عن الزجاج. ويجوز أن يكون المعنى سيصيبهم صغار معد لهم عند الله، أو سيصيبهم أن يصغروا عند الله (وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) في الدنيا أي: جزاء على مكرهم. فمن يرد الله يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون 125. القراءة: قرأ ابن كثير: (ضيقا) بتخفيف الياء وسكونها ههنا، وفي الفرقان. والباقون بتشديدها وكسرها. وقرأ أهل المدينة، وأبو بكر، وسهل: (حرجا) بكسر الراء. والباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير: (يصعد) بتخفيف الصاد والعين، وسكون الصاد. وقرأ أبو بكر: (يصاعد) بتشديد الصاد، وألف بعدها، وتخفيف العين. والباقون: (يصعد) بتشديد الصاد والعين، وفتح الصاد. الحجة: الضيق والضيق بمعنى، مثل الميت والميت. ومن فتح الراء من (حرج) فقد وصف بالمصدر، كما قيل في قمن، ودنف، ونحوهما من المصادر التي يوصف بها. ومن كسر الراء من (حرج) فهو مثل دنف وقمن، وقراءة ابن كثير: يصعد من الصعود. ومن قرأ (يصعد): أراد يتصعد، فأدغم، ومعنى
[ 157 ]
يتصعد. انه يثقل الإسلام عليه، فكأنه يتكلف ما يثقل عليه، شيئا بعد شئ، كقولهم يتعفف، ويتحرج، ونحو ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئا بعد شئ ويصاعد: مثل يصعد في المعنى، فهو مثل ضاعف وضعف، وناعم ونعم، وهما من المشقة وصعوبة الشئ، ومن ذلك قوله (يسلكه عذابا صعدا) وقوله (سأرهقه صعودا) أي: سأغشيه عذابا صعودا، وعقبة صعود أي: شاقة، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب: (ما تصعد في شئ، كما تصعد في خطبة النكاح) أي: ما شق علي شئ مشقتها. اللغة: الحرج والحرج: أضيق الضيق. قال أبو زيد: حرج عليه السحر، يحرج، حرجا إذا أصبح قبل أن يتسحر. وحرم عليه، حرما: وهما بمعنى واحد، وحرجت على المرأة الصلاة، وحرمت بمعنى واحد. وحرج على فلان: إذا هاب ان يتقدم على الأمر، وقاتل فصبر وهو كاره، وقد ذكرنا معاني الهداية، والهدى، والضلال، والإضلال، في سورة البقرة، وما يجوز إسناده إلى الله تعالى من كلا الأمرين، وما لا يجوز عند قوله (وما يضل به إلا الفاسقين). المعنى: لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين، بين عقبه ما يفعله سبحانه بكل من القبيلتين فقال: (فمن يرد الله أن يهديه) قد ذكر في تأويل الآية وجوه أحدها: إن معناه (فمن يرد الله أن يهديه) إلى الثواب، وطريق الجنة (يشرح صدره) في الدنيا (للإسلام) بأن يثبت عزمه عليه، ويقوي دواعيه على التمسك به، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان، وما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة، وإنما يفعل ذلك لطفا له، ومنا عليه، وثوابا على اهتدائه بهدى الله، وقبوله إياه، ونظيره قوله سبحانه (والذين اهتدوا زادهم هدى)، (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى). (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) يعني: ومن يرد ان يضله عن ثوابه وكرامته، يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا، عقوبة له على ترك الإيمان، من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان، وسالبا إياه القدرة عليه، بل ربما يكون ذلك سببا داعيا له إلى الإيمان، فإن من ضاق صدره بالشئ، كان ذلك داعيا له إلى تركه، والدليل على أن شرح الصدر قد يكون ثوابا قوله سبحانه (ألم نشرح لك صدرك) الآيات، ومعلوم أن وضع الوزر ورفع الذكر يكون ثوابا على تحمل أعباء
[ 158 ]
الرسالة وكلفها فكذلك ما قرن به من شرح الصدر. والدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قوله (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم). ومعلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب، فليس بعد الموت تكليف، وقد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية، سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شرح الصدر ما هو ؟ فقال: نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له صدره، وينفسح. قالوا: فهل لذلك من إمارة يعرف بها ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزول الموت. وثانيها: إن معنى الآية فمن يرد الله ان يثبته على الهدى، يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه، جزاء له على إيمانه واهتدائه، وقد يطلق لفظ الهدى والمراد به الإستدامة كما قلناه في قوله (إهدنا الصراط المستقيم). (ومن يرد أن يضله) أي: يخذله، ويخلي بينه وبين ما يريده لاختياره الكفر، وتركه الإيمان (يجعل صدره ضيقا حرجا) بأن يمنعه الألطاف التي يشرح لها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره. فإن قيل: إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر، لما هو فيه، ونراه طيب القلب على كفره، فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه ؟ قلنا إنه سبحانه بين أنه يجعل صدره ضيقا، ولم يقل في كل حال، ومعلوم من حاله في أحوال كثيرة، أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك عليه، وعندما يجازي الله تعالى المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان، وهذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر. وثالثها: إن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن (يشرح صدره) لتلك الزيادة، لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة، ومن يرد ان يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه (يجعل صدره ضيقا حرجا) لمكان فقد تلك الزيادة، لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه، أوجب في الكافر ما يضاده، ويكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان، والزجر عن الكفر. وهذا التأويل قريب مما تقدمه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (إنما سمى الله قلب الكافر حرجا، لأنه لا
[ 159 ]
يصل الخير إلى قلبه) وفي رواية أخرى: (لا تصل الحكمة إلى قلبه). ولا يجوز أن يكون المراد بالإضلال في الآية: الدعاء إلى الضلال، ولا الأمر به، ولا الإجبار عليه، لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال، ولا يدعو إليه، فكيف يجبر عليه، والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه، وقد ذم الله تعالى فرعون والسامري على إضلالهما عن دين الهدى في قوله (وأضل فرعون قومه وما هدى) وقوله (فأضلهم السامري). ولا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر، وإجبار، ودعاء، وقد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا، فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره ؟. قوله (كأنما يصعد في السماء) فيه وجوه أحدها. إن معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره عنه، أو كأن قلبه يصعد في السماء نبوا (1) عن الإسلام والحكمة، عن الزجاج وثانيها: إن معنى (يصعد) كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود، وعلى هذا قيل عقبة عنوت وكؤود، عن أبي علي الفارسي قال: ولا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض، ولكن كما قال سيبويه القيدود: الطويل في غير سماء أي: في غير ارتفاع صعدا. وقريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكا إلا صعدا وثالثها: إن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء، لشدة المشقة عليه في مفارقة مذهبه. (كذلك يجعل الله الرجس) أي: العذاب عن ابن زيد، وغيره من أهل اللغة. وقيل: هو ما لا خير فيه، عن مجاهد (على الذين لا يؤمنون) وفي هذا دلالة على صحة التأويل الأول، لأنه تعالى بين أن الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر، ولو كان المراد به الإجبار على الكفر، لقال: كذلك لا يؤمن من جعل الله الرجس على قلبه، ووجه التشبيه في قوله (كذلك يجعل الله الرجس) أنه يجعل الرجس على هؤلاء، كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك، وأن كل ذلك على وجه الإستحقاق. وروى العياشي بإسناده، عن أبي بصير، عن خيثمة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: (إن القلب يتقلب من لدن موضعه الى حنجرته، ما لم يصب الحق، فإذا أصاب الحق قر، ثم قرأ هذه الآية). (1) نبا نبوا: تجافى وتباعد. (*)
[ 160 ]
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الأيات لقوم يذكرون 126 لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعلمون 127. المعنى: ثم أشار تعالى إلى ما تقدم من البيان فقال: (وهذا صراط ربك) أي: طريق ربك، وهو القرآن، عن ابن مسعود، والإسلام، عن ابن عباس، وإنما أضافة إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي دل عليه، وأرشد إليه (مستقيما) لا اعوجاج فيه، وإنما انتصب على الحال. وإنما وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالإستقامة مع اختلاف وجوه الأدلة، لأنها مع اختلافها تؤدي إلى الحق، فكأنها طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض والفساد (قد فصلنا الآيات) أي: بيناها وميزناها. (لقوم يذكرون) وأصله يتذكرون خص المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج، كما قال: (هدى للمتقين). (لهم دار السلام) أي: للذين تذكروا وتدبروا، وعرفوا الحق وتبعوه، دار السلامة الدائمة الخالصة، من كل آفة وبلية، مما يلقاه أهل النار، عن الزجاج، والجبائي. وقيل: إن السلام هو الله تعالى، ودار الجنة، عن الحسن، والسدي (عند ربهم) أي: هي مضمونة لهم عند ربهم، يوصلهم إليها لا محالة، كما يقول الرجل لغيره: لك عندي هذا المال أي: في ضماني. وقيل: معناه لهم دار السلام في الآخرة، يعطيهم إياها (وهو وليهم) يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم. وقيل: وليهم ناصرهم على أعدائهم. وقيل: يتولاهم في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرة بالجزاء (بما كانوا يعملون) المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات، فحذف لظهور المعنى، فإن من المعلوم أن ما لا يكون طاعة من الأعمال، فلا ثواب عليه.
[ 161 ]
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنسان وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم 128 وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون 129. القراءة: قرأ حفص، وروح: (ويوم يحشرهم) بالياء. والباقون بالنون. الحجة: من قرأ بالياء فلقوله: (عند ربهم)، والنون كالياء في المعنى، ويقوي النون قوله: (وحشرناهم) (ونحشره يوم القيامة أعمى). الاعراب: قال الزجاج: (خالدين فيها) منصوب على الحال، والمعنى النار مقامكم في حال خلود دائم. قال أبو علي المثوي: عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان لحصول الحال في الكلام معملا فيها، ألا ترى أنه لا يخلو من إن يكون موضعا، أو مصدرا، فلا يجوز أن يكون موضعا، لأن اسم الموضع لا يعمل عمل الفعل، لأنه لا معنى للفعل فيه، وإذا لم يكن موضعا، ثبت انه مصدر، والمعنى: النار ذات إقامتكم فيها، خالدين أي: أهل أن تقيموا، أو تثووا خالدين فيها فالكاف والميم في المعنى فاعلون، وإن كان في اللفظ خفض بالإضافة. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال (ويوم يحشرهم جميعا) أي: يجمعهم، يريد جميع الخلق. وقيل: الإنس والجن، لأنه يتعقبه حديثهم. وقيل: يريد الكفار، وانتصب (اليوم) بالقول المضمر، لأن المعنى: ويوم يحشرهم جميعا يقول (يا معشر الجن) أي: يا جماعة الجن (قد استكثرتم من الإنس) أي: قد استكثرتم ممن أضللتموه من الإنس، عن الزجاج، وهو مأخوذ من قول ابن عباس: معناه من إغواء الإنس وإضلالهم. (وقال أولياؤهم) أي: متبعوهم (من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض) أي: انتفع بعضنا ببعض، وقد قيل فيه أقوال: أحدها: إن استمتاع الجن بالإنس أن اتخذهم الإنس قادة ورؤساء، فاتبعوا أهواءهم واستمتاع الإنس بالجن انتفاعهم في الدنيا بما زين لهم الجن من اللذات ودعوهم إليه من الشهوات وثانيها: إن استمتاع الإنس بالجن أن الرجل كان إذا سافر، وخاف الجن في سلوك طريق، قال: (أعوذ بسيد هذا الوادي) ثم يسلك، فلا يخاف. وكانوا يرون ذلك استجارة بالجن، وإن الجن تجيرهم، كما قال الله تعالى: (وانه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) واستمتاع الجن بالإنس أن الجن إذا اعتقدوا أن الإنس يتعوذون بهم، ويعتقدون أنهم ينفعونهم ويضرونهم، كان في ذلك لهم سرور ونفع، عن الحسن، وابن جريج، والزجاج، وغيرهم. وثالثها: إن المراد بالإستمتاع طاعة بعضهم لبعض، وموافقة بعضهم
[ 162 ]
بعضا، عن محمد بن كعب. قال البلخي: وبحتمل أن يكون الإستمتاع مقصورا عن الإنس. فيكون الإنس استمتع بعضهم ببعض، دون الجن. وقوله: (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) يعني بالأجل: الموت، عن الحسن، والسدى، وقيل: البعث والحشر، لأن الحشر أجل الجزاء، كما أن الموت أجل استدراك ما مضى. قال الجبائي: وفي هذا دلالة على أنه لا أجل إلا واحد، لأنه لو كان أجلان لكان الرجل إذا اقتطع دون الموت، بأن يقتل، لم يكن بلغ أجله. والآية تتضمن أنهم أجمع قالو: بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. وقال علي بن عيسى، وغيره من البغداديين: لا دلالة في الآية على ذلك بل لا يمتنع أن يكون للإنسان أجلان أحدهما: ما يقع فيه الموت والآخر: ما يقع فيه الحشر، أو ما كان يجوز أن يعيش إليه. (قال) الله تعالى لهم: (النار مثواكم) أي: مقامكم، والثواء، الإقامة. (خالدين فيها) أي: دائمين مؤبدين فيها معذبين (إلا ما شاء الله) وقيل في معنى هذا الإستثناء أقوال احدها: ما روي عن ابن عباس، انه قال: كان وعيد الكفار مبهما غير مقطوع به، ثم قطع به لقوله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشرك به) وثانيها: إن الإستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله (ويوم يحشرهم جميعا) هو يوم القيامة، فقال: خالدين فيها مذ يوم يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم، ومقدار مدتهم في محاسبتهم، عن الزجاج قال: وجائز أن يكون المراد: إلا ما شاء الله أن يعذبهم به من أضعاف العذاب وثالثها: إن الإستثناء راجع إلى غير الكفار، من عصاة المسلمين، الذين هم في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبهم بذنوبهم، بقدر استحقاقهم عدلا، وإن شاء عفا عنهم فضلا. ورابعها: إن معناه إلا ما شاء الله ممن آمن منهم عن عطاء. (إن ربك حكيم عليم) أي: محكم لأفعاله، عليم بكل شئ. وقيل: حكيم في عقاب من يختار أن يعاقبه، والعفو عمن يختار أن يعفو عنه، عليم بمن يستحق الثواب، وبمقدار ما يستحقه، وبمن يستحق العقاب، وبمقدار ما يستحقه. (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) الكاف للتشبيه أي: كذلك المهل بتخلية بعضهم عن بعض، للإمتحان الذي معه يصح الجزاء على
[ 163 ]
الأعمال توليتنا بعض الظالمين بعضا، بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض، للعقاب الذي يجري على الإستحقاق، عن علي بن عيسى. وقيل: معناه إنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن والإنس، بعضهم إلى بعض، يوم القيامة، وتبرأنا منهم، فكذلك نكل الظالمين بعضهم الى بعض، يوم القيامة، ونكل الأتباع إلى المتبوعين، ونقول للأتباع: قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب، عن أبي علي الجبائي، قال: والغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة ولي يدفع عنهم شيئا من العذاب. وقال غيره: لما حكى الله تعالى ما يجري بين الجن والإنس من الخصام والجدال في الآخرة، قال: (وكذلك) أي: وكما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار، وتولية بعضهم بعضا، نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم، ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم) (بما كانوا يكسبون من المعاصي) أي: جزاء على أعمالهم القبيحة، وذلك معنى قوله: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ومثله ما رواه الكلبي، عن مالك بن دينار، قال: (قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم). وقيل معنى قوله: (نولي بعضهم بعضا): نخلي بينهم وبين ما يختارونه من غير نصرة لهم. وقيل: معناه نتابع بعضهم بعضا في النار من الموالاة: التي هي المتابعة أي: يدخل بعضهم النار عقيب بعض، عن قتادة. يا معشر الجن ولأنسان ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين 130 ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون 131 ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون 132.
[ 164 ]
القراءة: قرأ ابن عامر: (عما تعملون) بالتاء. والباقون بالياء. اللغة: الغفلة عن المعنى والسهو عنه والعزوب عنه نظائر. وضد الغفلة: اليقظة. وضد السهو: الذكر. وضد العزوب: الحضور. الاعراب: موضع ذلك يحتمل أن يكون رفعا على تقدير الأمر ذلك، ويحتمل ان يكون نصبا على تقدير فعلنا ذلك، وأن لم في أن هذه هي المخففة من الثقيلة، وتقديره لأنه لم يكن كما في قول الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل أن المفتوحة لا بد لها من إضمار الهاء، لأنه لا معنى لها في الإبتداء، وإنما هي بمعنى المصدر المبني على غيره، والمكسورة لا تحتاج إلى الهاء، لأنها تصح أن تكون حرفا من حروف الإبتداء، فلا يحتاج إلى إضمار، وإنما لم يبن كل إذا حذف منه المضاف إليه، كما بني قبل وبعد لأن ما حذف منه المضاف إليه، مثل قبل وبعد لم يكن في حال الإعراب على التمكن التام، فإنه لا يدخله الرفع في تلك الحال، فلما انضاف إلى ذلك نقصان التمكن بحذف المضاف إليه، أخرج إلى البناء، وليس كذلك كل لأنه متمكن على كل حال، فلذلك لم يبن. المعنى: ثم بين، عز وجل، تمام ما يخاطب به الجن والإنس، يوم القيامة، بأن يقول (يا معشر الجن والإنس) والمعشر: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف. ومنه العشرة لأنها تمام العقد (ألم يأتكم رسل منكم) هذا احتجاج عليهم بأن بعث إليهم الرسل إعذارا وإنذارا، وتأكيدا للحجة عليهم. وأما قوله: (منكم) وإن كان خطابا لجميعهم والرسل من الإنس خاصة، فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الآخر كما قال تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب، وكما يقال: أكلت الخبز واللبن، وإنما يؤكل الخبز ويشرب اللبن، وهو قول أكثر المفسرين، والزجاج، والرماني. وقيل: إنه أرسل رسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس، عن الضحاك، وقال الكلبي: كان الرسل يرسلون إلى الإنس، ثم بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإنس والجن. وقال ابن عباس: إنما بعث الرسول من الإنس، ثم كان يرسل هو إلى الجن، رسولا من الجن. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن.
[ 165 ]
(يقصون) أي: يتلون ويقرأون (عليكم آياتي) أي: حججي، ودلائلي، وبيناتي. (وينذرونكم) أي: يخوفونكم (لقاء يومكم هذا) أي: لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم، وحصولكم فيه، يعني يوم القيامة (قالوا شهدنا على أنفسنا) بالكفر والعصيان في حال التكليف، ولزوم الحجة، وانقطاع المعذرة، واعترافنا بذلك. (وغرتهم الحياة الدنيا) أي: تزينت لهم بظاهرها، حتى اغتروا بها (وشهدوا على أنفسهم) في الآخرة (أنهم كانوا كافرين) في الدنيا: أي: أقروا بذلك وشهدوا باستحقاقهم العقاب (ذلك) حكم الله تعالى (أن لم يكن ربك) أي: لأنه لم يكن ربك (مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) وهذا يجري مجرى التعليل أي: لأجل أنه لم يكن الله تعالى، ليهلك أهل القرى بظلم يكون منهم، حتى يبعث إليهم رسلا، ينبهونهم على حجج الله تعالى، ويزجرونهم، ويذكرونهم، ولا يؤاخذهم بغتة، وهذا إنما يكون منه تعالى على وجه الإستظهار في الحجة، دون أن يكون ذلك واجبا، لأن ما فعلوه من الظلم، قد استحقوا به العقاب. وقيل: معناه أنه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه، وتذكير، عن الفراء، والجبائي. ومثله قوله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وفي هذا دلالة واضحة على أنه تغالى منزه عن الظلم، ولو كان الظلم من خلقه، لما صح تنزهه تعالى عنه (ولكل) أي: ولكل عامل طاعة، أو معصية (درجات مما عملوا) أي: مراتب في عمله على حسب ما يستحقه فيجازى عليه، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وإنما سميت درجات لتفاضلها، كتفاضل الدرج في الإرتفاع والإنحطاط، وإنما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، إلا أنه لما جمع بينهم عبر عن تفاضلهم بالدرج تغليبا لصفة أهل الجنة. (وما ربك) يا محمد، أو أيها السامع (بغافل) أي: ساه (عما يعملون) أي: لا يشذ شئ من ذلك عن عمله فيجازيهم على حسب ما يستحقونه من الجزاء، وفي هذا تنبيه وتذكير للخلق في كل أمورهم.
[ 166 ]
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين 133 إن ما تدعون لأت وما أنتم بمعجزين 134 قل يا قوم اعلموا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون 135. القراءة: قرأ أبو بكر، عن عاصم: (مكاناتكم) على الجمع. والباقون: (مكانتكم) على التوحيد، وقرأ حمزة، والكسائي: (من يكون) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: وجه قراءة (مكانتكم) على التوحيد أنه مصدر والمصادر في أكثر الأمور مفردة، ووجه الجمع: أنه قد يجمع المصدر كقولهم الحلوم والأحلام قال: فأما إذا جلسوا في الندى فأحلام عاد، وأيد هضم ومن قرأ (من يكون) بالياء فلأن العاقبة مصدر كالعافية، وتأنيثه غير حقيقي، فمن أنث فهو كقوله (فأخذتهم الصيحة). ومن ذكر فكقوله: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) وكلا الأمرين جائز. اللغة: الإنشاء: الإبتداء. أنشأ الله الخلق إذا خلقهم وابتدأهم. ومنه قولهم: أنشأ فلان قصيدة. والنشأ: الأحداث من الأولاد، قال نصيب: ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار وتوعدون: من الإيعاد. ويحتمل أن يكون من الوعد، والوعد: في الخير، والإيعاد: في الشر. وقال أبو زيد: المكانة المنزلة، يقال رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء، وقد مكن مكانة. الاعراب: الكاف في قوله (كما أنشأكم) في موضع نصب، أي: مثل ما أنشأكم، و (من) في قوله: (ويستخلف من بعدكم) للبدل، كقولهم أعطيتك من
[ 167 ]
دينارك ثوبا أي: مكان دينارك، وبدله و (من) في قوله (من ذرية قوم آخرين) لابتداء الغاية، وما في قوله: (ان ما توعدون) بمعنى الذي. (ومن) في قوله (من تكون له عاقبة الدار) في موضع رفع بالإبتداء، وخبره: تكون له عاقبة الدار، وتقديره أينا تكون له عاقبة الدار، ويكون تعليقا، ويحتمل أن يكون موضعه نصبا بتعلمون ويكون في معنى الذي. المعنى: لما أمر سبحانه بطاعته، وحث عليها، ورغب فيها، بين أنه لم يأمر بها لحاجة، لأنه يتعالى عن النفع والضر، فقال: (وربك) أي: خالقك وسيدك (الغني) عن أعمال عباده لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، لأن الغني عن الشئ هو الذي يكون وجود الشئ وعدمه، وصحته وفساده، عنده بمنزلة. (ذو الرحمة) أي: صاحب النعمة على عباده بين سبحانه أنه مع غناه عن عباده، ينعم عليهم، وأن إنعامه وإن كثر، لا ينقص من ملكه، ولا من غناه. ثم أخبر سبحانه عن قدرته فقال: (إن يشأ يذهبكم) أي: يهلككم، وتقديره يذهبكم بالإهلاك، (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) أي: وينشئ بعد هلاككم خلقا غيركم، يكون خلفا لكم (كما أنشأكم) في الأول (من ذرية قوم آخرين) تقدموكم. وهذا خطاب لمن سبق ذكره من الجن والإنس. ويحتمل أن يكون معناه: ويستخلف جنسا آخر، أي: كما قدر على إخراج الجن من الجن، والإنس من الإنس، فهو قادر على ان يخرج قوما آخر لا من الجن ولا من الإنس. وفي هذه الآية دلالة على أن خلاف المعلوم يجوز أن يكون مقدورا، لأنه سبحانه بين أنه قادر على أن ينشئ خلقا، خلاف الجن والإنس، ولم يفعل ذلك. (إن ما توعدون) من القيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، وتفاوت أهل الجنة في الدرجات، وتفاوت أهل النار في الدركات، (لآت) لا محالة (وما انتم بمعجزين) بفائتين. ويقال: بسابقين. ويقال: بخارجين من ملكه وقدرته. والإعجاز: أن يأتي الإنسان بشئ يعجز خصمه عنه، ويقصر دونه، فيكون قد جعله عاجزا عنه، فعلى هذا يكون المعنى لستم بمعجزين الله سبحانه عن الإتيان بالبعث والعقاب، (قل) يا محمد لهم (يا قوم اعملوا على مكانتكم) أي: على قدر منزلتكم، وتمكنكم من الدنيا، ومعناه: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر، وهذا
[ 168 ]
تهديد ووعيد بصيغة الأمر. وقيل: على مكانتكم على طريقتكم. وقيل: على حالتكم، عن الجبائي، أي: أقيموا على حالتكم التي انتم عليها فإني مجازيكم. (إني عامل) إخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: عامل بما أمرني الله تعالى به. وقيل: إخبار عن الله تعالى أي: عامل ما وعدتكم به من البعث والجزاء، عن أبي مسلم، والأول الصحيح (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) أي: فستعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في دار السلام، عند الله تعالى. وقيل: المراد عاقبة الدار الدنيا في النصر عليكم (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا يظفر الظالمون بمطلوبهم، وإنما لم يقل الكافرون، وإن كان الكلام في ذكرهم، لأنه سبحانه قال في موضع آخر: (والكافرون هم الظالمون) وقال: (ان الشرك لظلم عظيم). وجعلوا لله مما ذر أمن الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون 136. القراءة: قرأ الكسائي: (بزعمهم) بضم الزاي، وهي قراءة يحيي بن ثابت، والأعمش، وقرأ الباقون بفتح الزاي. الحجة: القول فيه انهما لغتان، أو قيل: إن الكسر أيضا لغة، ومثله، الفتك، والفتك، والفتك، والود، والود، والود. اللغة: الذرء: الخلق على وجه الإختراع، وأصله الظهور، ومنه ملح ذرآني وذرآني، لظهور بياضه. والذرأة: ظهور الشيب، قال: (وقد علتني ذرأة بادي بدي) (1) وذرئت لحيته إذا شابت. والحرث: الزرع. والحرث: الأرض التي تثار (1) قائله أبو نخيلة السعدي، وبعده (ورثية تنهض بالتشدد) وقوله: (بادي بدي): أي أول كل شئ من بدأ، فترك الهمز لكثرة الإستعمال، وطلب التخفيف، وقد يجوز أن يكون من بدا يبدو: إذا ظهر. (*)
[ 169 ]
للزرع. والأنعام: جمع النعم، مأخوذ من نعمة الوطء، ولا يقال لذوات الحافر: أنعام. المعنى: ثم عاد الكلام إلى حجاج المشركين، وبيان اعتقاداتهم الفاسدة، فقال سبحانه: (وجعلوا لله) اي: كفار مكة، ومن تقدمهم من المشركين. والجعل هنا بمعنى الوصف والحكم. (مما ذرأ من الحرث) أي: مما خلق من الزرع (والأنعام) أي: المواشي من الإبل، والبقر، والغنم. (نصيبا) أي: حظا. وههنا حذف يدل الكلام عليه، وهو: وجعلوا للأوثان منه نصيبا (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) يعني الأوثان، وإنما جعلوا الأوثان شركاءهم، لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم، ينفقونه عليها، فشاركوها في نعمهم. (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) قيل: في معناه أقوال أحدها: إنهم كانوا يزرعون لله زرعا، وللأصنام زرعا، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله، ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام، وصرفوه إليها، ويقولون إن الله غني، والأصنام أحوج. وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله، لم يجعلوا منه شيئا لله، وقالوا: هو غني. وكانوا يقسمون النعم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للأصنام. فما كان لله إطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، عن الزجاج، وغيره وثانيها: إنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى، ردوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه، وقالوا: الله أغنى. وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام، لم يسدوه. وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه وقالوا الله أغنى، عن ابن عباس، وقتادة، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وثالثها: إنه كان إذا هلك ما جعل للأصنام، بدلوه مما جعل لله، وإذا هلك ما جعل لله، لم يبدلوه مما جعل للأصنام، عن الحسن، والسدي (ساء ما يحكمون) أي: ساء الحكم حكمهم هذا. وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء
[ 170 ]
الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون 137. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: (زين) بضم الزاي: (قتل) بالرفع (اولادهم) بالنصب (شركائهم) بالجر. والباقون (زين) بالفتح، (قتل) بالنصب، (أولادهم) بالجر، (وشركاؤهم) بالرفع. الحجة: (شركاؤهم) في قراءة الأكثرين: فاعل (زين) و (قتل أولادهم) مفعوله، ولا يجوز أن يكون (شركاء) فاعل المصدر الذي هو (قتل أولادهم)، لأن (زين) حينئذ يبقى بلا فاعل، ولأن الشركاء ليسوا قاتلين، إنما هم مزينون القتل لهم، وأضيف المصدر الذي هو (قتل) إلى المفعولين الذين هم الأولاد، وحذف الفاعل، وتقديره قتلهم أولادهم. كما حذف ضمير الإنسان في قوله: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) والمعنى من دعائه الخير. وأما قراءة ابن عامر: (وكذلك زين) فإنه أسند زين إلى قتل وأعمل المصدر عمل الفعل، وأضافه إلى الفاعل، ونظير ذلك قوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض)، فاسم الله هنا فاعل، كما أن الشركاء في الآية فاعلون والمصدر مضاف إلى الشركاء الذين هم فاعلون، والمعنى قتل شركائهم أولادهم، وتقديره ان قتل شركاؤهم أولادهم، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعول به، والمفعول مفعول المصدر، وهذا قبيح في الإستعمال. قال أبو علي: ووجه ذلك، على ضعفه، أنه قد جاء في الشعر الفصل، قال الطرماح: يطفن بحوزي المراتع لم ترع بواديه من قرع القسي الكنائن (1) وزعموا أن أبا الحسن أنشد: (زج القلوص أبي مزاده) (2) فهو شاذ، مثل قراءة ابن عامر وذكر سيبويه في هذه الآية قراءة أخرى، وهو قوله (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) وهو قراءة أبي عبد الرحمن السلمي، فحمل (1) الحوزي. الفحل من النوق. والقسي - بكسر القاف -: جمع القوس، والكنائن. جمع الكنانة، جعبة السهم، والشاهد في فصل القسي بين المضاف، وهو القرع، والمضاف إليه، وهو الكنائن. (2) وقبله (فزججتها بمزجة) والزج: الطعن والمزجة: الرمح. والقلوص من الإبل: الشابة. وتقدير الشعر كزج أبي مزادة القلوص، ففصل القلوص بين المضاف، والمضاف إليه. (*)
[ 171 ]
الشركاء فيها على فعل مضمر غير هذا الظاهر، كأنه لما قيل (وكذلك زين) قيل من زينه. فقال: زينه شركاؤهم، ومثل ذلك قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح (1) كأنه لما قيل ليبك يزيد، قيل: من يبكيه ؟ فقال: يبكيه ضارع. اللغة: الإرداء: الإهلاك. وردى يردي ردى: إذا هلك. وتردى ترديا. والمرادة: الحجر يتردى من رأس الجبل. المعنى: ثم بين سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة، فقال: (وكذلك) أي: وكما جعل أولئك في الحرث والأنعام ما لا يجوز كذلك (زين لكثير من المشركين) أي: مشركي العرب (قتل أولادهم شركاؤهم) يعني الشياطين الذين زينوا لهم قتل البنات ووأدهن، أحياء، خيفة العيلة، والفقر، والعار، عن الحسن، ومجاهد، والسدي. وقيل: إن المزينين لهم ذلك، قوم كانوا يخدمون الأوثان، عن الفراء، والزجاج. وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل: كان السبب في تزيين قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم، فسبى نساءهم، وكان فيهن بنت قيس بن عاصم، ثم اصطلحوا، فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها، غير ابنة قيس، فإنها أرادت من سباها، فحلف قيس لا يولد له بنت إلا وأدها، فصار ذلك سنة فيما بينهم (ليردوهم) أي: يهلكوهم، واللام لام العاقبة، لأنهم لم يكونوا معاندين لهم فيقصدوا أن يردوهم، عن أبي علي الجبائي. وقال غيره: يجوز أن يكون فيهم المعاند، فيكون ذلك على التغليب. (وليلبسوا عليهم دينهم) أي: يخلطوا عليهم، ويدخلوا عليهم الشبهات فيه. (ولو شاء الله ما فعلوه) معناه: ولو شاء الله أن يمنعهم من ذلك، أو يضطرهم إلى تركه، لفعل، ولو فعل المنع والحيلولة، لما فعلوه، ولكن كان يكون ذلك منافيا للتكليف (فذرهم وما يفترون) أي: أتركهم ودعهم وافتراءهم أي: كذبهم على الله تعالى، فإنه يجازيهم. وفي هذا غاية الزجر والتهديد، كما يقول القائل: دعه وما (1) الضارع: الذليل الخاشع، والمختبط. الذي يسألك بلا وسيلة، ولا قرابة، ولا معرفة. وأطاحه: أهلكه. (*)
[ 172 ]
اختار. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن تزيين القتل، والقتل فعلهم، وأنهم في إضافة ذلك إلى الله سبحانه كاذبون. وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون 138. القراءة: قرئ في الشواذ: (حرج) روي ذلك عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن الزبير، والأعمش، وعكرمة، وعمرو بن دينار. الحجة: (الحرج): يمكن أن يؤول معناه إلى الحجر، فإنهما يرجعان في الأصل إلى معنى الضيق، فإن الحرام سمي حجرا لضيقه، والحرج ايضا: الضيق. فعلى هذا يكون لغة في حجر، مثل جذب وجبذ، فهو من المقلوب. اللغة: الحجر: الحرام. والحجر: العقل. وفلان في حجر القاضي: من حجرت حجرا أي: في منع القاضي إياه من الحكم في ماله. وحجر المرأة وحجرها بالفتح والكسر: حضنها. الاعراب: (افتراء) منصوب بقوله: (لا يذكرون)، وهو مفعول له، ويجوز أن يكون لا يذكرون بمعنى يفترون، فكأنه قال يفترون افتراء. المعنى: ثم حكى سبحانه عنهم عقيدة أخرى من عقائدهم الفاسدة، فقال: (وقالوا) يعني المشركين (هذه أنعام) أي: مواش، وهي الإبل، والبقر، والغنم، (وحرث) زرع (حجر) أي: حرام، عنى بذلك الأنعام والزرع اللذين جعلوهما لآلهتهم وأوثانهم (لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم) أي: لا يأكلها إلا من نشاء أن نأذن له في أكلها، وأعلم سبحانه أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة لهم فيه، ولا برهان، وكانوا لا يحتون ذلك إلا لمن قام بخدمة أصنامهم من الرجال والنساء. (وأنعام حرمت ظهورها) يعني الأنعام التي حرموا الركوب عليها، وهي: السائبه، والبحيرة، والحام، عن الحسن، ومجاهد، وقيل: هي الحامي الذي
[ 173 ]
حمى ظهره إذا ركب ولد ولده عندهم، فلا يركب، ولا يحمل عليه، (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) قيل: كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها، ولا في شئ من شأنها، عن مجاهد. وقيل: إنهم كانوا لا يحجون عليها، عن أبي وائل. وقيل: هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم، فلا يذكرون اسم الله عليها، عن الضحاك (افتراء عليه) أي: كذبا على الله تعالى، لأنهم كانوا يقولون إن الله امرهم بذلك، وكانوا كاذبين به عليه سبحانه (سيجزيهم بما كانوا يفترون) ظاهر المعنى. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم 139. القراءة: قرأ ابن كثير: (وإن يكن) بالياء (ميتة) رفع. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (تكن) بالتاء، (ميتة) رفع. وقرأ أبو بكر عن عاصم: (تكن) بالتاء، (ميتة) نصب. والباقون: (يكن) بالياء، (ميتة) نصب. وفي الشواذ قراءة ابن عباس بخلاف، وقتادة، والأعرج (خالصة) بالنصب. وقراءة سعيد بن جبير: (خالصا). وقراءة ابن عباس بخلاف، والزهري، والأعمش (خالص) بالرفع. وقراءة ابن عباس، وابن مسعود، والأعمش بخلاف: (خالصة) مرفوع مضاف. الحجة: وجه قراءة الأكثر أن يحمل على (ما)، فيكون تقديره: إن يكن ما في بطون الأنعام ميتة، ووجه قراءة ابن كثير: إنه لما لم يكن تأنيث الميتة، تأنيث ذوات الفروج، جاز تذكير الفعل، كقوله: (فمن جاءه موعظة من ربه) ويكون (كان) تامة، وتقديره إن وقع ميتة. ومن أنث الفعل فكقوله سبحانه (قد جاءتكم موعظة). ووجه قراءة أبي بكر: إن ما في بطون الأنعام من الأنعام فلذلك أنثها. وأما (خالصة) بالرفع على القراءة المشهورة، فتقديره: ما في بطون الأنعام من الأنعام خالصة لنا أي: خالص، فأنث للمبالغة في الخلوص، كما يقال: فلان خالصة فلان أي: صفيه، والمبالغ في الصفاء، والثقة عنده. والتاء فيه للمبالغة، وليكون أيضا بلفظ المصدر نحو العافية والعاقبة، والمصدر إلى الجنسية، فيكون أعم
[ 174 ]
وأوكد. ويدل على ذلك قراءة من قرأ (خالص). وأما من نصب (خالصة) وخالصا ففيه وجهان أحدهما: أن يكون حالا من المضمر في الظرف الذي جرى صلة على (ما) فيكون كقولهم: الذي في الدار قائما زيد، فيكون قوله (لذكورنا) خبر المبتدأ الموصول والآخر: أن يكون حالا من (ما) على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها، إذا كان معنى بعد أن يتقدم صاحب الحال عليها، كقولنا: زيد قائما في الدار. واحتج بقوله سبحانه: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة). المعنى: ثم حكى الله سبحانه عنهم مقالة أخرى، فقال (وقالوا): يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم (ما قي بطون هذه الأنعام) يعني: ألبان البحائر والسيب، عن ابن عباس، والشعبي، وقتادة. وقيل: أجنة البحائر والسيب، ما ولد منها حيا، فهو خالص للذكور دون النساء، وما ولد ميتا، أكله الرجال والنساء، عن مجاهد، والسدي. وقيل: المراد به كليهما. (خالصة لذكورنا) لا يشركهم فيها أحد من الإناث، من قولهم: فلان يخلص العمل لله، ومنه إخلاص التوحيد. وسمي الذكور: من الذكر الذي هو الشرف. والذكر: أشبه وأذكر من الأنثى (ومحرم على أزواجنا) أي: نسائنا (وإن يكن ميتة) معناه: وإن يكن جنين الأنعام ميتة (فهم فيه شركاء) أي: الذكور والإناث فيه سواء. ثم قال سبحانه (سيجزيهم وصفهم) أي: سيجزيهم العقاب بوصفهم، فلما أسقط الباء نصب (وصفهم). وقيل: تقديره سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، عن الزجاج (إنه حكيم) فيما يفعل بهم من العقاب، آجلا، وفى إمهالهم عاجلا (عليم) بما يفعلونه، لا يخفى عليه شئ منها. وقد عاب الله سبحانه الكفار في هذه الآية من وجوه أربعة أحدها: ذبحهم الأنعام بغير إذن الله. وثانيها: أكلهم على ادعاء التذكية افتراء على الله وثالثها: تحليلهم للذكور، وتحريمهم على الإناث، تفرقة بين ما لا يفترق إلا بحكم من الله ورابعها: تسويتهم بينهم في الميتة، من غير رجوع إلى سمع موثوق به.
[ 175 ]
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين 140. القراءة: قرأ ابن كثير، وابن عامر: (قتلوا) بتشديد التاء. والباقون: بالتخفيف. الحجة: التشديد للتكثير، والتخفيف يدل على القلة والكثرة، وقد تقدم بيان ذلك. الاعراب: قوله (سفها) و (افتراء على الله) نصب على الوجهين اللذين ذكرناهما في قوله: (افتراء عليه). المعنى: ثم جمع سبحانه بين الفريقين الذين قتلوا أولادهم، والذين حرموا الحلال، فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) خوفا من الفقر، وهربا من العار. ومعناه: هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك عقاب الأبد، والخسران: هلاك رأس المال (سفها) أي: جهلا، وتقديره سفهوا بما فعلوه سفها، والفرق بين السفه والنزق أن السفه عجلة يدعو إليها الهوى. والنزق عجلة من جهة حدة الطبع، والغيظ. (بغير علم) وهذا تأكيد لجهلهم، وذهابهم عن الثواب. (وحرموا ما رزقهم الله) يعني الأنعام والحرث الذين زعموا أنها حجر، عن الحسن. واعترض علي بن عيسى على هذا فقال: الأنعام كانت محرمة حتى ورد السمع، فما قاله غير صحيح. وهذا الإعتراض يفسد من حيث ان الركوب لا يحتاج إلى السمع، وإن احتاج الذبح إليه، لأن الركوب مباح، إذا قام بمصالحها، ولأن أكلها أيضا بعد الذبح مباح (افتراء) أي: كذبا (على الله) سبحانه (قد ضلوا) أي: ذهبوا عن طريق الحق بما فعلوه، وحكموا بحكم الشياطين، فيما حكموا فيه. (وما كانوا مهتدين) إلى شئ من الدين، والخير، والرشاد، وفي هذه الآيات دلالات على بطلان مذهب المجبرة، لأنه سبحانه أضاف القتل والإفتراء، والتحريم إليهم، ونزه نفسه عن ذلك، وذمهم على قتل الأطفال بغير جرم، فكيف يعاقبهم سبحانه عقاب الأبد على غير جرم.
[ 176 ]
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا كله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 141. القراءة: قرأ أهل البصرة، والشام، وعاصم: (حصاده) بالفتح. والباقون: (حصاده) بالكسر. الحجة: هما لغتان، قال سيبويه: جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وذلك الصرام، والجداد، والجرام، والجزاز، والقطاع، والحصاد، وربما دخلت اللغتان في بعض هذا، فكان فيه فعال وفعال. اللغة: الإنشاء: إحداث الفعل ابتداء، لا على مثال سبق، وهو كالإبتداع. والإختراع هو إحداث الأفعال في الغير من غير سبب. والخلق هو التقدير والترتيب. والجنات والبساتين: التي يجنها الشجر من النخل وغيره. والروضة الخضراء بالنبات والزهر المشرقة باختلاف الألوان الحسنة. والعرش: أصله الرفع، ومنه سمي السرير عرشا، لارتفاعه. والعرش: السقف، والملك. وعرش الكرم: رفع بعض أغصانها على بعض. والعريش: شبه الهودج، يتخذ للمرأة. والإسراف: مجاوزة الحد، وقد يكون بالمجاوزة إلى الزيادة، وقد يكون بالتقصير، وهو إن يجاوز حد الحق والعدل، قال الشاعر: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف (1) أي: ولا تقصير. وقيل معناه: ولا إفراط. الاعراب: (مختلفا أكله) نصب على الحال، من (أنشأ)، وإنما انتصب على الحال، وإن كان يؤكل بعد ذلك بزمان لأمرين أحدهما: إن المعنى مقدر اختلاف أكله، كما في قوله مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي: مقدرا الصيد (1) هنيدة: اسم لكل مائة من الابل. حدى الإبل: ساقها وغنى لها. (*)
[ 177 ]
به غدا والثاني: أن يكون معنى أكله ثمره الذي يصلح أن يؤكل منه. المعنى: لما حكى سبحانه عن المشركين، أنهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان، عقب ذلك البيان، بأنه الخالق لجميع الأشياء، فلا يجوز إضافة شئ منها الى الأوثان، ولا تحليل ذلك، ولا تحريمه، إلا بإذنه، فقال: (وهو الذي أنشأ) أي: خلق وابتدع لا على مثال (جنات) أي: بساتين فيها الأشجار المختلفة (معروشات) مرفوعات بالدعائم، قيل: هو ما عرشه الناس من الكروم ونحوها، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: عرشها أن يجعل لها حظائر كالحيطان، عن أبي علي قال: وأصله الرفع، ومنه قوله تعالى (خاوية على عروشها) يعني: على أعاليها، وما ارتفع منها ما لم تندك فتسوى بالأرض. (وغير معروشات) يعني: ما خرج من قبل نفسه في البراري والجبال من أنواع الأشجار، عن ابن عباس. وقيل: معناه غير مرفوعات، بل قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش، عن أبي مسلم (والنخل والزرع) أي: وأنشأ النخل والزرع (مختلفا أكله) أي: طعمه. وقيل: ثمره، وقيل: هذا وصف للنخل والزرع جميعا، فخلق سبحانه بعضها مختلف اللون والطعم والرائحة والصورة. وبعضها مختلفا في الصورة، متفقا في الطعم، وبعضها مختلفا في الطعم، متفقا في الصورة وكل ذلك يدل على توحيده وعلى أنه قادر على ما يشاء، عالم بكل شئ. (والزيتون والرمان) أي: وأنشأ الزيتون والرمان (متشابها) في الطعم واللون والصورة (وغير متشابه) فيها، وإنما قرن الزيتون إلى الرمان، لأنهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها (كلوا من ثمره إذا أثمر) المراد به الإباحة، وإن كان بلفظ الأمر، قال الجباثي، وجماعة: هذا يدل على جواز الأكل من الثمر وإن كان فيه حق الفقراء. (وآتوا حقه يوم حصاده) هذا أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد، على الجملة، والحق الذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان أحدهما: إنه الزكاة العشر، أو نصف العشر، عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وزيد بن أسلم، والحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك، وطاوس والثاني: إنه ما تيسر مما يعطى المساكين، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، وعطا، ومجاهد، وابن
[ 178 ]
عمر. وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس. وروى أصحابنا أنه الضغث بعد الضغث، والحفنة بعد الحفنة (1)، وقال إبراهيم، والسدي: الآية منسوخة بفرض العشر، ونصف العشر، لأن هذه الآية مكية، وفرض الزكاة إنما أنزل بالمدينة، ولما روي أن الزكاة نسخ كل صدقة، قالوا: ولأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد، قال علي بن عيسى: وهذا غلط لأن (يوم حصاده) ظرف لحقه، وليس للإيتاء المأمور به. (ولا تسرفوا) أي: لا تجاوزوا الحد وفيه أقوال أحدها: إنه خطاب لأرباب الأموال، لا تسرفوا بأن تتصدقوا بالجميع، ولا تبقوا للعيال شيئا، كما فعل ثابت بن قيس بن شماس، فإنه صرم خمسين نخلا، وتصدق بالجميع، ولم يدخل منه شيئا في داره لأهله، عن أبي العالية، وابن جريج. وثانيها: إن معناه ولا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، والتقصير سرف، عن سعيد بن المسيب وثالثها: إن المعنى: لا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد، كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، عن أبي مسلم ورابعها: إن معناه لا تنفقوه في المعصية، ولا تضعوه في غير موضعه، وفي جميع هذه الأقوال الخطاب لأرباب الأموال وخامسها: إن الخطاب للأئمة، ومعناه: لا تأخذوا ما يجحف بأرباب الأموال، ولا تأخذوا فوق الحق، عن ابن زيد وسادسها: إن الخطاب للجميع، بأن لا يسرف رب المال في الإعطاء، ولا الإمام في الأخذ، وصرف ذلك إلى غير مصارفه، وهذا أعم فائدة (إنه لا يحب المسرفين) ظاهر المعنى. ومن الأنعام حمولة وفرشا كلو ا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين 142 ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثين أما اشتملت عليه أرحام الأنثين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين 143 ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأثنين أما اشتملت عليه أرحام (1) الضغث: قبضة حشيش يختلط فيها الرطب باليابس. الحفنة بالمهملة: ملاء الكفين. (*)
[ 179 ]
الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين 144. القراءة: قرأ ابن كثير، وابن فليح، وابن عامر، وأهل البصرة: (المعز) بفتح العين، والباقون بسكونها. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (المعز): فإنه جمع ماعز، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، وطالب وطلب، وقال أبو الحسن: هو جمع على غير واحد، وكذلك المعزى. وحكى أبو زيد الأمعوز، وقالوا: المعيز كالكليب والضئين. ومن قرأ (المعز) فإنه جمع أيضا مثل صاحب وصحب، وتاجر وتجر، وراكب وركب، وأبو الحسن يرى هذا الجمع مستمرا، ويرده في التصغير إلى الواحد، فيقول في تحقير ركب: رويكبون، وفي تجر: تويجرون، وسيبويه يراه إسما من أسماء الجموع، وأنشد أبو عثمان في الإحتجاج لسيبويه (أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا) فتحقيره له على لفظه يدل على أنه إسم للجمع، وأنشد (وأين ركيب واضعون رحالهم). اللغة: الحمولة: الإبل يحمل عليه الأثقال، ولا واحد لها من لفظها، كالركوبة والجزورة. والحمولة: بضم الحاء هي الأحمال، وهي الحمول أيضا، وإنما قيل للصغار فرش لأمرين: أحدهما: لاستواء أسنانها في الصغر، والإنحطاط كاستواء ما يفرش والثاني: إنه من الفرش: وهو الأرض المستوية التي يتوطأها الناس، والزوج يقع على الواحد الذي يكون معه آخر، وعلى الإثنين كما يقال للواحد والإثنين خصم، وعدل، والإشتمال: أصله الشمول يقال شملهم الأمر، يشملهم، وشملهم الأمر يشملهم شمولا إذا عمهم، ومنه الشمال لشمولها على ظاهر الشئ وباطنه بقوتها ولطفها، ومن ذلك الشمول للخمر، لاشتمالها على العقل. وقيل: لأن لها عصفة كعصفة الشمال. الاعراب: (حمولة) عطف على (جنات) أي: وأنشأ من الأنعام حمولة
[ 180 ]
وإثنين محمول على (أنشأ) أيضا أي: ثمانية أزواج إثنين من كذا، واثنين من كذا، (فثمانية أزواج): بدل من (حمولة)، و (فرشا) وإثنين من كذا، وإثنين من كذا، بدل من (ثمانية)، أو عطف بيان وقوله (آلذكرين حرم): دخلت همزة الإستفهام على همزة الوصل، وفصل بينهما بالألف، ولم تسقط همزة الوصل، لئلا يلتبس الإستفهام بالخبر، ولو أسقطت لجاز، لأن (أم) تدل على الإستفهام، وعلى هذا الوجه أجاز سيبويه أن يكون قول الشاعر: فو الله ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم، أو شعيث بن منقر (1) استفهاما، فيكون تقديره: أشعيث وما في قوله (أم ما اشتملت) في موضع نصب بكونه عطفا على الأنثيين، وإنما قال الأنثيين، فثنى لأنه أراد من الضأن والمعز. المعنى: ثم عطف سبحانه، على ما عده فيما تقدم، من عظيم الأنعام ببيان نعمته في إنشاء الأنعام، فقال (ومن الأنعام) أي: وأنشأ من الأنعام (حمولة وفرشا) قد قيل فيه أقوال أحدها: إن الحمولة: كبار الإبل، والفرش: صغارها، عن ابن عباس، وابن مسعود، بخلاف، والحسن، بخلاف، ومجاهد. وثانيها: إن الحمولة: ما يحمل عليه من الإبل، والبقر، والفرش: الغنم، عن الحسن في رواية أخرى، وقتادة، والربيع، والسدي، والضحاك، وابن زيد وثالثها: إن الحمولة: كل ما حمل من الإبل والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، والفرش: الغنم، عن ابن عباس في رواية أخرى، فكأنه ذهب إلى أنه يدخل في الأنعام الحافر، على وجه التبع. رابعها: إن معناه: ما ينتفعون به في الحمل، وما يفترشونه في الذبح، فمعنى الإفتراش: الإضطجاع للذبح، عن أبي مسلم، قال: وهو كقوله: (فإذا وجبت جنوبها). وروي عن الربيع بن أنس أيضا: إن الفرش: ما يفرش للذبح أيضا وخامسها: إن الفرش ما يفرش أصوافها وأوبارها، ويرجع الصفتان إلى الأنعام، أي: من الأنعام ما يحمل عليه، ومنها ما يتخذ من أوبارها، وأصوافها ما يفرش، ويبسط، عن أبي علي الجبائي. (كلوا مما رزقكم الله) أي: استحلوا الأكل مما أعطاكم الله، ولا تحرموا شيئا (1) وفي بعض النسخ (شعيب) بالباء الموحدة بدل الثاء. (*)
[ 181 ]
منها، كما فعله أهل الجاهلية، في الحرث والأنعام، وعلى هذا يكون الأمر على ظاهره، ويمكن أن يكون أراد نفس الأكل، فيكون بمعنى الإباحة. (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) مضى تفسيره في سورة البقرة. ثم فسر تعالى الحمولة، والفرش، فقال: (ثمانية أزواج) وتقديره: وأنشأ ثمانية أزواج أنشأ (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) و (من الإبل اثنين ومن البقر اثنين) وإنما أجمل ثم فضل المجمل، لأنه أراد أن يقرر على شئ، شئ منه، ليكون أشد في التوبيخ، من أن يذكر ذلك دفعة واحدة، ومعناه: ثمانية أفراد، لأن كل واحد من ذلك يسمى زوجا، فالذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، كما قال تعالى (أمسك عليك زوجك). وقيل: معناه ثمانية أصناف: من الضأن، اثنين، يعني الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين، الذكر والأنثى، والضأن: ذوات الصوف من الغنم. والمعز: ذوات الشعر منه، وواحد الضأن: ضائن، كقولهم تاجر وتجر. والأنثى: ضائنة. وواحد المعز: ماعز. وقيل: إن المراد بالإثنين الأهلي والوحشي من الضأن والمعز والبقر، والمراد بالإثنين من الإبل العراب والبخاتي، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وإنما خص هذه الثمانية، لأنها جميع الأنعام التي كانوا يحرمون منها ما يحرمونه، على ما تقدم ذكره. (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما أحل الله تعالى: (آلذكرين) من الضأن والمعز (حرم) الله، (أم الأنثيين) منهما (أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) أي: أم حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن. والأنثى من المعز. وإنما ذكر الله سبحانه هذا على وجه الإحتجاج عليهم، بين به فريتهم وكذبهم على الله تعالى، فيما ادعوا من أن ما في بطون الأنعام حلال للذكور، وحرام على الإناث، وغير ذلك مما حرموه، فإنهم لو قالوا: حرم الذكرين، لزمهم أن يكون كل ذكر حراما، ولو قالوا: حرم الأنثيين، لزمهم أن يكون كل أنثى حراما، ولو قالوا: حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن والمعز، لزمهم تحريم الذكور والإناث،
[ 182 ]
فإن أرحام الإناث تشتمل على الذكور والإناث، فيلزمهم بزعمهم تحريم هذا الجنس صغارا وكبارا، وذكورا وإناثا، ولم يكونوا يفعلون ذلك، بل كان يخصون بالتحريم بعضا دون بعض، فقد لزمتهم الحجة. ثم قال (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) معناه: أخبروني بعلم عما ذكرتموه من تحريم ما حرمتموه، وتحليل ما حللتموه، إن كنتم صادقين في ذلك (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) هذا تفصيل لتمام الأزواج الثمانية (قل) يا محمد (آلذكرين حرم) الله منهما (أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) قد تقدم معناه (ام كنتم شهداء) أي: حضورا (إذ وصاكم الله بهذا) أي: أمركم به، وحرمه عليكم، حتى تضيفوه إليه، وإنما ذكر ذلك لأن طريق العلم: إما الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به، أو المشاهدة التي يختص بها بعضهم دون بعض، فإذا لم يكن واحد من الأمرين، سقط المذهب، والمراد بذلك أعلمتموه بالسمع، والكتب المنزلة، وأنتم لا تقرون بذلك، أم شافهكم الله تعالى به فعلمتموه ؟ وإذا لم يكن واحد منهما، فقد علم بطلان ما ذهبتم إليه. (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: من أظلم لنفسه ممن كذب على الله، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله (ليضل الناس بغير علم) أي: يعمل عمل القاصد إلى إضلالهم، من أجل دعائه إياهم إلى ما لا يثق بصحته، مما لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم، وإن لم يقصد إضلالهم (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) إلى الثواب، لأنهم مستحقون العقاب الدائم، بكفرهم، وضلالهم. قل لا إجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم 145. القراءة: قرأ ابن كثير، وحمزة: (تكون) بالتاء، (ميتة): بالنصب. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: (تكون) بالتاء (ميتة) بالرفع. والباقون بالياء، ونصب (ميتة). وكلهم خففوا (ميتة) غير أبي جعفر، فإنه شددها.
[ 183 ]
الحجة: قال أبو علي: قراءة ابن كثير، وحمزة، محمولة على المعنى، كأنه قال: إلا أن تكون العين والنفس ميتة، ألا ترى أن المحرم لا يخلو من جواز العبارة عنه، بأحد هذه الأشياء، وليس قوله (إلا أن يكون) كقولك جاءني القوم لا يكون زيدا، وليس زيدا في أن الضمير الذي يتضمنه من الإستثناء لا يظهر، ولا يدخل الفعل علامة التأنيث، لأن الفعل إنما يكون عاريا من علامة التأنيث، ومن أن يظهر معه الضمير، إذا لم يدخل عليه أن فأما إذا دخله أن فعلى حكم سائر الأفعال. ومن قرأ بالياء، ونصب (ميتة): فإنه جعل فيه ضميرا مما تقدم، وهو أقيس مما تقدم ذكره، أي: إلا أن يكون الموجود ميتة. ومن قرأ (إلا أن تكون ميتة): فألحق علامة التأنيث الفعل، كما ألحق في قوله (قد جاءتكم موعظة)، وتقديره: إلا أن تقع ميتة. المعنى: لما قدم سبحانه، ذكر ما حرمه المشركون، عقبه ببيان المحرمات، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء (لا أجد فيما أوحي إلي) أي: ما أوحاه الله تعالى إلي، شيئا (محرما على طاعم يطعمه) أي: على آكل يأكله (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) أي: مصبوبا، وإنما خص المصبوب بالذكر، لأن ما يختلط باللحم منه، مما لا يمكن تخليصه منه، معفو عنه مباح (أو لحم خنزير) إنما خص الأشياء الثلاثة هنا بذكر التحريم، مع ان غيرها محرم، فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المتخنقة، والموقودة، والمتردية، وغيرها، لأن جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة، فيكون في حكمها، فأجمل هاهنا، وفصل هناك. وأجود من هذا أن يقال: انه سبحانه خص هذه الأشياء بالتحريم، تعظيما لحرمتها، وبين تحريم ما عداها في مواضع أخر، إما بنص القرآن، وإما بوحي غير القرآن، وايضا فإن هذه السورة مكية، والمائدة مدنية، فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرمات، إنما حرم فيما بعد، والميتة عبارة عما كان فيه حياة، فقدت من غير تذكية شرعية. (فإنه رجس، أي: نجس، والرجس اسم لكل شئ مستقذر منفور عنه، والرجس أيضا العذاب. والهاء في قوله (فإنه) عائد إلى ما تقدم ذكره، فلذلك ذكره (أو فسقا) عطف على قوله (أو لحم خنزير) فلذلك نصبه (أهل لغير الله به) أي:
[ 184 ]
ذكر عليه اسم الأصنام والأوثان، ولم يذكر اسم الله عليه، وسمي ما ذكر عليه اسم الصنم فسقا، لخروجه عن أمر الله، وأصل الإهلال: رفع الصوت بالشئ، وقد ذكرناه في سورة المائدة (فمن اضطر) إلى تناول شئ مما ذكرناه (غير باغ ولا عاد) قد سبق معناه في سورة البقرة (فإن ربك غفور رحيم) حكم بالرخصة، كما حكم بالمغفرة، والرحمة. وعلى الذين هادو ا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا حملت ظهورهما أو الحويا أوما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون 146 فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين 147. اللغة: الظفر: ظفر الإنسان وغيره ورجل أظفر: إذا كان طويل الأظفار، كما يقال: أشعر لطويل الشعر. والحوايا: المباعر، قال الزجاج، واحدها حاوية، وحاوياء، وحوية، وهي ما يحوى في البطن، فاجتمع واستدار. الاعراب: موضع (الحوايا): يحتمل أن يكون رفعا، عطفا على الظهور، وتقديره أو ما حملت الحوايا. ويحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله (إلا ما حملت). فأما قوله (أو ما اختلط بعظم): فإن (ما) هذه معطوفة على (ما) الأولى. (ذلك): يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان ل (جزيناهم)، التقدير جزيناهم ذلك ببغيهم، ولا يجوز أن يرفع بالإبتداء، لأنه يصير التقدير ذلك جزيناهموه، فيكون كقولهم زيد ضربت أي: ضربته، وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر. المعنى: ثم بين سبحانه ما حرمه على اليهود فقال: (وعلى الذين هادوا) أي: على اليهود في أيام موسى (حرمنا كل ذي ظفر) اختلف في معناه، فقيل: هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل، والنعام، والأوز، والبط، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، والسدي. وقيل: هو الإبل فقط، عن ابن زيد. وقيل: يدخل فيه كل السباع، والكلاب، والسنانير، وما يصطاد بظفره، عن
[ 185 ]
الجبائي. وقيل: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي حافر من الدواب، عن القتيبي، والبلخي (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) أخبر سبحانه أنه كان حرم عليهم شحوم البقر والغنم من الثرب، وشحم الكلى، وغير ذلك مما في أجوافها، واستثنى من ذلك فقال (إلا ما حملت ظهورهما) (1) من الشحم، وهو اللحم السمين، فإنه لم يحرم عليهم (أو الحوايا) أي ما حملته الحوايا من الشحم، فإنه غير محرم عليهم أيضا، والحوايا: هي المباعر، عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، والسدي. وقيل: هي بنات اللبن، عن ابن زيد. وقيل: هي الأمعاء التي عليها الشحوم، عن الجبائي. (أو ما اختلط بعظم) ذلك أيضا مستثنى من جملة ما حرم، وهو شحم الجنب، والألية، لأنه على العصعص (2)، عن ابن جريج، والسدي. وقيل: الألية لم تدخل في هذا، لأنها لم تستثن، عن الجبائي، فكأنه لم يعتد بعظم العصعص، قال الزجاج: إنما دخلت (أو) هاهنا على طريق الإباحة، كما قال سبحانه: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) والمعنى: إن كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا، أو اعص هذا، وأو بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا، فجائز أن يكون نهيتني عن طاعتهما في حال معا، فإن أطعت زيدا على حدته، لم أكن عصيتك، وإذا قلت: لا تطع زيدا، أو عمرا أو خالدا، فالمعنى: إن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم، ولا تطع الجماعة، ومثله جالس الحسن، أو ابن سيرين، أو الشعبي. (ذلك جزيناهم ببغيهم) المعنى: حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء، وأخذهم الربا، واستحلالهم أموال الناس بالباطل، فهذا بغيهم وهو كقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وقيل: بغيهم ظلمهم على أنفسهم في ارتكابهم المحظورات. وقيل: إن ملوك بني إسرائيل، كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير، والشحوم، فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم، ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره. ويسأل فيقال: كيف يكون التكليف عقوبة، وهو تابع للمصلحة، وتعريض (1) [ أي ما حملته ظهورهما ]. (2) العصعص: عجب الذنب وهو عظمه. (*)
[ 186 ]
للثواب ؟ وجوابه: إنه إنما سمي جزاء وعقابا، لأن عظيم ما فعلوه من المعاصي، اقتضى تحريم ذلك، وتغيير المصلحة فيه، ولولا عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك (وإنا لصادقون) أي: في الإخبار عن التحريم، وعن بغيهم، وفي كل شئ، وفي أن ذلك التحريم عقوبة لأوائلهم، ومصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ (فإن كذبوك) يا محمد فيما تقول (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة، بل يمهلكم (ولا يرد بأسه) أي: لا يدفع عذابه إذا جاء وقته (عن القوم المجرمين) أي: المكذبين. سيقول الذين لو شاء الله ما أشركنا ولا إباؤنا ولا حرمنا من شئ كذالك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون 148 قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 149 قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بأياتنا والذين لا يؤمنون بالأخرة وهم بربهم يعدلون 150 اللغة: (هلم): قال الزجاج إنها هاء ضمت إليها لم، وجعلتا كالكلمة الواحدة، فأكثر اللغات أن يقال هلم للواحد، والإثنين، والجماعة، بذلك جاء القرآن نحو قوله (هلم إلينا) ومعنى (هلم شهداءكم): هاتوا شهداءكم. ومن العرب من يثني، ويجمع، ويؤنث، فيقول للمذكر: هلم، وللإثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، وللمؤنث: هلمي، وللنسوة: هلممن، وفتحت لأنها مدغمة كما فتحت رد يا هذا في الأمر لالتقاء الساكنين، ولا يجوز فيها هلم للواحد بالضم، كما يجوز في رد الفتح والضم والكسر، لأنها لا تتصرف قال أبو علي: هي في اللغة الأولى بمنزلة رويد، وصه، ومه، ونحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال، وفي الأخرى بمنزلة رد في ظهور علامات الفاعلين فيها، كما يظهر في رد وأما هاء
[ 187 ]
اللاحق بها، فهي التي للتنبيه، لحقت اولا، لأن لفظ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور به، واستدعاء إقباله على الأمر، فهو لذلك يقرب من المنادى. ومن ثم دخل حرف التنبيه في ألا يا اسجدوا، ألا ترى أنه أمر، كما أن هذا أمر، وقد دخل في جمل أخر نحوها أنتم هؤلاء، فكما دخل في هذه المواضع، كذلك لحقت في لم إلا أنه كثر الإستعمال معها، فغير بالحذف لكثرة الإستعمال، كأشياء تغير لذلك، نحو: لم أبل (1)، ولم أدر (2). وما أشبه ذلك مما يغير للكثرة. المعنى: لما تقدم الرد على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة، رد عليهم سبحانه هنا مقالتهم الفاسدة، فقال: (سيقول الذين أشركوا) أي: سيحتج هؤلاء المشركون في إقامتهم على شركهم، وفي تحريمهم ما أحل الله تعالى، بأن يقولوا (لو شاء الله ما أشركنا) أي: لو شاء الله أن لا نعتقد الشرك، ولا نفعل التحريم. (ولا آباؤنا) وأراد منا خلاف ذلك، ما أشركنا ولا آباؤنا (ولا حرمنا من شئ) أي: شيئا من ذلك. ثم كذبهم الله تعالى، في ذلك بقوله: (كذلك) أي: مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء في أنه منكر (كذب الذين من قبلهم) وإنما قال (كذب) بالتشديد، لأنهم بهذا القول كذبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله لهم إن الله سبحانه أمركم بتوحيده، وترك الإشراك به، وترك التحريم لهذه الأنعام، فكانوا بقولهم: إن الله تعالى أراد منا ذلك، وشاءه، ولو أراد غيره ما فعلناه، مكذبين للرسول عليه السلام، كما كذب من تقدمهم انبياءهم، فيما أتوا به من قبل الله تعالى. (حتى ذاقوا بأسنا) أي: حتى نالوا عذابنا. وقيل: معناه أصابوا العذإب المعجل، ودل ذلك على أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى، لأن الذوق أول إدراك الشئ (قل) يا محمد لهم، جوابا عما قالوه من أن الشرك بمشيئة الله تعالى (هل عندكم من علم) أي: حجة تؤدي إلى علم. وقيل: معناه هل عندكم علم فيما تقولونه (فتخرجوه لنا) أي: فتخرجوا ذلك العلم، أو تلك الحجة لنا، بين سبحانه بهذا أنه ليس عندهم علم ولا حجة فيما يضيفونه إلى الله تعالى، وأن ما قالوه باطل، ثم أكد سبحانه الرد عليهم وتكذيبهم في مقالتهم بقوله (إن تتبعون إلا الظن) أي: ما تتبعون فيما تقولونه إلا الظن والتخمين (وإن أنتم إلا تخرصون) أي: إلا تكذبون في (1) أي لم أبال. (2) [ ولم يك ]. (*)
[ 188 ]
هذه المقالة على الله تعالى. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله سبحانه لا يشاء المعاصي، والكفر، وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله سبحانه، هذا مع قيام الأدلة العقلية التي لا يدخلها التأويل، على أنه سبحانه يتعالى عن إرادة القبيح، وجميع صفات النقص، علوا كبيرا (قل) يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه (فلله الحجة البالغة) والحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام، وهي التي تقصد إلى الحكم بشهادته، مأخوذة من حج: إذا قصد، والبالغة: هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج، بأن تزيل كل لبس وشبهة عمن نظر فيها، واستدل بها، وإنما كانت حجة الله صحيحة بالغة، لأنه لا يحتج إلا بالحق، وبما يؤدي إلى العلم. (فلو شاء لهداكم أجمعين) أي: لو شاء لألجأكم إلى الإيمان، وهداكم جميعا إليه، بفعل الإلجاء، إلا أنه لم يفعل ذلك، وإن كان فعله حسنا، لأن الإلجاء ينافي التكليف، وهذه المشيئة بخلاف المشيئة المذكورة في الآية الأولى، لأن الله تعالى أثبت هذه، ونفى تلك، وذلك لا يستقيم إلا على الوجه الذي ذكرناه. فالأولى مشيئة الإختيار، والثانية مشيئة الإلجاء. وقيل: إن المراد أنه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب، ودخول الجنة، ابتداء من غير تكليف، ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك، بل كلفكم وعرضكم للثواب الذي لا يحسن الإبتداء بمثله، ولو كان الأمر ما قاله أهل الجبر، من أن الله سبحانه شاء منهم الكفر، لكانت الحجة للكفار على الله تعالى من حيث فعلوا ما شاء الله تعالى، ولكانوا بذلك مطيعين له، لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا يكون الحجة لله تعالى عليهم على قولهم من حيث انه خلق فيهم الكفر، وأراد منهم الكفر، فأي حجة له عليهم، مع ذلك. ثم بين سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم، مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية، ولا سمعية، وما هذه صفته، فهو فاسد لا محالة. فقال: (قل) يا محمد لهم (هلم شهداءكم) أي: أحضروا، وهاتوا شهداءكم (الذين يشهدون) بصحة ما تدعونه من (أن الله حرم هذا) أي: هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحرث، والأنعام، وغيرها (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) معناه: فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم، فشهدوا بأنفسهم، فلا تشهد أنت معهم، وإنما نهاه عن الشهادة معهم، لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل.
[ 189 ]
فإن قيل: وكيف دعاهم إلى الشهادة، ثم قال: فلا تشهد معهم ؟ فالجواب: إنه أمرهم أن يأتوا بالعدول الذين يشهدون بالحق، فإذا لم يجدوا ذلك، وشهدوا لأنفسهم، فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم، أو تشهد معهم، لأنها ترجع إلى دعوى مجردة بعيدة من الصواب. وقيل: إنه سبحانه أراد هاتوا شهداء من غيركم، ولم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك، لأنه كان للعرب شرائع شرعوها لأنفسهم. (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا): الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أمته، أي: لا تعتقد مذهب من اعتقد مذهبه هوى، ويمكن أن يتخذ الإنسان المذهب هوى من وجوه، منها: أن يهوى من سبق إليه فيقلده فيه، ومنها: أن يدخل عليه شبهة، فيتخيله بصورة الصحيح، مع أن في عقله ما يمنع منها، ومنها: أن يقطع النظر دون غايته للمشقة التي تلحقه، فيعتقد المذهب الفاسد. ومنها: أن يكون نشأ على شئ وألفه واعتاده، فيصعب عليه مفارقته، وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله (والذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة، إنما ذكر الفريقين، وإن كانوا كلهم كفارا، ليفصل وجوه كفرهم، لأن منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة كحال أهل الكتاب، ومنه ما يكون مع الإنكار كحال عبدة الأوثان (وهم بربهم يعدلون) أي: يجعلون له عدلا: وهو المثل. وفي الآية دلالة على فساد التقليد، لأنه سبحانه طالب الكفار على صحة مذهبهم، وجعل عجزهم عن الإتيان بها، دلالة على بطلان قولهم، وأيضا فإنه سبحانه أوجب اتباع الدليل، دون اتباع الهوى. قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذالكم وصاكم لعلكم تعقلون 151. اللغة: تعالوا: مشتق من العلو، على تقدير أن الداعي في المكان العالي، وإن كان في مستو من الأرض، كما يقال للإنسان: ارتفع إلى صدر المجلس.
[ 190 ]
والتلاوة مثل القراءة. والمتلو مثل المقروء. والتلاوة غير المتلو، كما أن الحكاية غير المحكي. فالمتلو والمحكي هو الكلام الأول. والتلاوة والحكاية هي الثاني منه، على طريق الإعادة. والإملاق، والإفلاس، من المال، والزاد، ومنه الملق والتملق، لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية. والفواحش: جمع فاحشة، وهو القبيح العظيم القبح. والقبيح يقع على الصغير والكبير، لأنه يقال: القرد قبيح الصورة، ولا يقال فاحش الصورة. وضد القبيح: الحسن، وليس كذلك الفاحش. الاعراب: (ما حرم ربكم) في موضع نصب بقوله: (أتل) المعنى أتل الذي حرمه ربكم عليكم، فيكون (ما) موصولة. وجائز أن يكون في موضع نصب بحرم، لأن التلاوة بمنزلة القول، فكأنه قال: أقول أي شئ حرم ربكم عليكم، أهذا أم هذا ؟ فجائز أن يكون الذي تلاه عليهم قوله: (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا)، ويكون (ألا تشركوا به) منصوبة بمعنى طرح اللام أي: أبين لكم الحرام، لأن لا تشركوا، لأنهم إذا حرموا ما أحل الله، فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله سبحانه، فصاروا بذلك مشركين. ويجوز أن يكون (أن لا تشركوا به شيئا) محمولا على المعنى، فيكون المعنى: أتل عليكم ألا تشركوا أي: أتل عليكم تحريم الشرك. ويجوز أن يكون على معنى: أوصيكم أن لا تشركوا به شيئا لأن قوله (وبالوالدين إحسانا) محمول على معنى أوصيكم بالوالدين إحسانا، هذا كله قول الزجاج. و (تشركوا): يجوز أن يكون منصوبا بأن، ويكون (لا) للنفي. ويجوز أن يكون مجزوما بلا على النهي، وإذا كان منصوبا، فيكون قوله: (ولا تقتلوا أولادكم) عطفا بالنهي على الخبر. وجاز ذلك كما جاز في قوله (فل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين). وقال جامع العلوم البصير الاصفهاني: يجوز أن تقف على (عليكم)، ثم تبتدئ ب (أن لا تشركوا) أي: هو أن لا تشركوا، أي: هو الإشراك: أي المحرم الإشراك و (لا) زيادة ويجوز أن يكون (ما) استفهاما، فيقف على قوله (ربكم)، ثم يبتدئ فيقول (عليكم ألا تشركوا) أي: عليكم ترك الإشراك. وهذا وقف بيان، وتمام قوله (قل تعالوا) عند قوله (بلقاء ربهم يؤمنون) لأن قوله (وإن هذا صراطي) فيمن فتح معطوف على قوله (ما حرم) أي: أتل هذا، وهذا، ومن كسر فالتقدير
[ 191 ]
(وقل إن هذا صراطي) وكذلك (ثم آتينا) أي: وقل ثم آتينا، وهذا كله داخل في التلاوة، والقول. المعنى: لما حكى سبحانه عنهم، تحريم ما حرموه، عقبه بذكر المحرمات، فقال: سبحانه (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين (تعالوا) أي: أقبلوا وادنوا (أتل) أي: أقرأ (ما حرم ربكم عليكم) أي: منعكم عنه بالنهي. ثم بدأ بالتوحيد فقال (أن لا تشركوا به شيئا) أي: أمركم أن لا تشركوا، ولا فرق بين أن تقول: لا تشركوا به شيئا، وبين أن تقول حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئا، إذ النهي يتضمن التحريم، وقد ذكرنا ما يحتمله من المعاني في الإعراب. وقد قيل أيضا: إن الكلام قد تم عند قوله (حرم ربكم) ثم قال (عليكم أن لا تشركوا) كقوله سبحانه (عليكم أنفسكم). (وبالوالدين إحسانا) أي: وأوصى بالوالدين إحسانا، ويدل على ذلك أن في حرم كذا معنى أوصى بتحريمه، وأمر بتجنبه، ولما كانت نعم الوالدين، تالية نعم الله سبحانه، في الرتبة، أمر بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم من املاق) أي: خوفا من الفقر، عن ابن عباس، وغيره. (نحن نرزقكم وإياهم) أي: فإن رزقكم ورزقهم جميعا علينا. (ولا تقربوا الفواحش) أي: المعاصي والقبائح كلها (ما ظهر منها وما بطن) أي: ظاهرها وباطنها، عن الحسن. وقيل: إنهم كانوا لا يرون بالزنا في السر بأسا، ويمنعون منه علانية، فنهى الله سبحانه عنه في الحالتين، عن ابن عباس، والضحاك، والسدى، وقريب منه ما روي عن أبي جعفر عليه السلام، إن ما ظهر هو الزنا، وما بطن هو المخالة (1). وقيل: إن ما ظهر: أفعال الجوارح، وما بطن: أفعال القلوب، فالمراد ترك المعاصي كلها، وهذا أعم فائدة. (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق): أعاد ذكر القتل، وإن كان داخلا في الفواحش، تفخيما لشأنه، وتعظيما لأمره، والنفس المحرم قتلها هي نفس المسلم والمعاهد، دون الحربي، والحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها، (1) المخالة: المصادقة.
[ 192 ]
ثلاثة أشياء: القود، والزنا بعد إحصان، والكفر بعد إيمان. (ذلكم) خطاب لجميع الخلق، أي: ما ذكر في هذه الآية (وصاكم به) أي: أمركم به (لعلكم تعقلون) أي: لكي تعقلوا ما أمركم الله تعالى به، فتحللوا ماحلله لكم، وتحرموا ما حرمه عليكم. ودل قوله سبحانه (وصاكم به) على أن الوصية مضمرة في أول الآية على ما قلناه، وفي قوله سبحانه (أن لا تشركوا به شيئا) دلالة على أن التكليف قد يتعلق بأن لا يفعل، كما يتعلق بالفعل، وعلى أنه يستحق الثواب والعقاب على أن لا يفعل، وهو الصحيح من المذهب. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون 152 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون 153 القراءة: قرأ أهل الكوفة، إلا أبا بكر (تذكرون) بتخفيف الذال حيث وقع. والباقون بالتشديد. وقرأ أهل الكرفة غير عاصم (وإن هذا) بكسر الهمزة. والباقون بفتحها، وكلهم شدد النون إلا ابن عامر ويعقوب، فإنهما قرآ (إن) بالتخفيف. وكلهم سكن الياء من (صراطي)، إلا ابن عامر فإنه فتحها، وقرأ ابن عامر، وابن كثير: (سراطي) بالسين. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي. الحجة: القراءتان في (تذكرون) متقاربتان. والأصل (تتذكرون) فمن خفف، حذف التاء الأولى، ومن شدد: أدغم التاء الثانية في الذال. واما من فتح: (وان هذا) فإنه حملها على (فاتبعوه) على قياس قول سيبويه في قوله تعالى: (لإيلاف قريش)، وقوله (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون)، وقوله: (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، فيكون على تقدير ولأن (هذا صراطي
[ 193 ]
مستقيما فاتبعوه) ومن خفف فقال: (وإن هذا) فإن الخفيفة في قوله يتعلق بما يتعلق به الشديدة، وموضع (هذا) رفع بالإبتداء، وخبره (صراطي) وفي إن ضمير القصة والحديث، وعلى هذه الشريطة يخفف، وليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت، وعلى هذا قول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى، وينتعل والفاء التي في قوله (فاتبعوه) على قول من كسر إن، عاطفة جملة على جملة، وعلى قول من فتح أن زائدة. اللغة: الأشد: واحدها شد مثل الأشر في جمع شر، والأضر في جمع ضر، والشد: القوة، وهو استحكام قوة الشباب والسن، كما أن شد النهار هو ارتفاعه، قال عنترة: عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان، ورأسه، بالعظلم (1) وقيل: هو جمع شدة، مثل نعمة وأنعم، وقال بعض البصريين: الأشد واحد، فيكون مثل الآنك. قال سيبويه: الذكر والذكر بمعنى. وذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضاعفت العين يعدي إلى مفعولين، كما في قوله: يذكر نيك حنين العجول ونوح الحمامة تدعو هديلا (2) ويقول ذكره فتذكر فتفعل مطاوع فعل، كما أن تفاعل مطاوع فاعل. المعنى: ثم ذكر سبحانه تمام ما يتلو عليهم، فقال (ولا تقربوا مال اليتيم) والمراد بالقرب: التصرف فيه، وإنما خص مال اليتيم بالذكر، لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا عن ماله، فيكون الطمع في ماله أشد، ويد الرغبة إليه أمد، فأكد سبحانه النهي عن التصرف في ماله، وإن كان ذلك واجبا في مال كل أحد (إلا بالتي هي أحسن) أي: بالخصلة، أو الطريقة الحسنى، ولذلك أنث. وقد قيل في معناه أقوال أحدها: إن معناه إلا بتثمير ماله بالتجارة، عن مجاهد، والضحاك، (1) العظلم: نبت يخضب به. (2) حنين الناقة: صوتها في نزوعها إلى ولدها. العجول من النساء والإبل: الواله التي فقدت ولدها، الهديل: صوت الحمام. (*)
[ 194 ]
والسدي، وثانيها: بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف دون الكسوة، عن ابن زيد، والجبائي وثالثها: بأن يحفظ عليه حتى يكبر. (حتي يبلغ أشده) اختلف في معناه، فقيل: إنه بلوغ الحلم، عن الشعبي، وقيل: هو أن يبلغ ثماني عشرة سنة. وقال السدي: هو أن يبلغ ثلاثين سنة، ثم نسخها قوله (حتى إذا بلغوا النكاح) الآية. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، دفع المال إليه، وقبل ذلك يمنع منه إذا لم يؤنس منه الرشد، وقيل: إنه لا حد له. بل هو أن يبلغ ويكمل عقله، ويؤنس منه الرشد، فيسلم إليه ماله، وهذا أقوى الوجوه، وليس بلوغ اليتيم أشده مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن، ولكن تقديره: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد، حتى يبلغ أشده، فادفعوا إليه بدليل قوله: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا). (وأوفوا) أي: أتموا (الكيل والميزان بالقسط) أي: بالعدل والوفاء، من غير بخس (لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي: إلا ما يسعها، ولا يضيق عنه، ومعناه هنا: إنه لما كان التعديل في الوزن والكيل على التحديد من أقل القليل، يتعذر، بين سبحانه أنه لا يلزم في ذلك إلا الإجتهاد في التحرز من النقصان (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قرى) أي: فقولوا الحق، وإن كان على ذي قرابة لكم، وإنما خص القول بالعدل دون الفعل، لأن من جعل عادته العدل في القول، دعاه ذلك إلى العدل في الفعل، ويكون ذلك من آكد الدواعي إليه. وقيل: معناه: إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا في الشهادة والحكم، وإن كان المقول عليه، أو المشهود له، أو عليه، قرابتك، وهذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير، والشهادات، والوصايا، والفتاوى، والقضايا، والأحكام، والمذاهب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. (وبعهد الله أوفوا) قيل في معنى عهد الله قولان أحدهما: إن كل ما أوجبه الله تعالى على العباد، فقد عهد إليهم بإيجابه عليهم، وبتقديم القول فيه، والدلالة عليه والآخر: إن المراد به النذور والعهود في غير معصية الله تعالى، والمراد أوفوا بما عاهدتم الله عليه من ذلك (ذلكم) أي ذلك الذي تقدم ذكره من ذكر مال اليتيم، وأن لا يقرب الا بالحق، وإيفاء الكيل، واجتناب البخس والتطفيف، وتحري الحق
[ 195 ]
فيه على مقدار الطاقة، والقول بالحق، والصدق، والوفاء بالعهد (وصاكم) الله سبحانه (به لعلكم تذكرون) أي: لكي تتذكروه وتأخذوا به، فلا تطرحوه، ولا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به، والقيام بما يلزمكم منه. (وان هذا صراطي) أي: ولأن هذا صراطي، ومن خفف فتقديره ولأنه هذا صراطي، ومن كسر إن فإنه استأنف. قال ابن عباس: يريد إن هذا ديني دين الحنيفية، أقوم الأديان، وأحسنها. وقيل: يريد إن ما ذكر في هذه الآيات من الواجب والمحرم صراطي، لأن امتثال ذلك على ما أمر به، يؤدي إلى الثواب والجنة، فهو طريق إليها وإلى النعيم فيها (مستقيما) أي: فيما لا عوج فيه، ولا تناقض، وهو منصوب على الحال (فاتبعوه) أي: اقتدوا به، واعملوا به، واعتقدوا صحته، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه (ولا تتبعوا السبل) أي: طرق الكفر، والبدع، والشبهات، عن مجاهد. وقيل: يريد اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعبادة الأوثان، عن ابن عباس. (فتفرق) وأصله فتتفرق (بكم عن سبيله) أي: فتشتت، وتميل، وتخالف بكم عن دينه الذي ارتضى، وبه أوصى. وقيل: عن طريق الدين (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) أي: لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه. قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شئ من جميع الكتب، وهي محرمات على بني آدم كلهم، وهم أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار، وقال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شئ في التوراة، (بسم الله الرحمن الرحيم: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات. ثم إتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون 154 وهذا كتاب أنزلناه مبارك فإتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون 155. القراءة: في الشواذ قراءة يحعى بن يعمر (على الذي أحسن) بالرفع.
[ 196 ]
الحجة: قال ابن جني: هذا متضعف الإعراب عندنا، لأنه حذف المبتدأ العائد إلى الذي، لأن تقديره على الذي هو أحسن، وإنما يحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل، الذي هو صلتها، نحو مررت بالذي ضربت أي: ضربته، ومن المفعول بدله، وطال الإسم بصلته، فحذف الهاء لذلك، وليس المبتدأ بنيف، ولا فضلة، فيحذف تخفيفا، لا سيما وهو عائد الموصول، وعلى أن هذا قد جاء نحوه عنهم، حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع ما أنا بالذي قائل لك شيئا وسوءا، أي: بالذي هو قائل لك، وقال: لم أر مثل الفتيان في غير الأيام ينسون ما عواقبها أي: ينسون الذي هو عواقبها. ويجوز أن يكون ينسون معلقة، كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون، فيكون (ما) استفهاما، وعواقبها: خبر ما، كقولك: قد علمت من أبوك، وعلى الوجه الأول حمله أصحابنا، وقال الزجاج: (تماما) منصوب بأنه مفعول له، وكذلك (تفصيلا) وما بعده، والمعنى آتيناه لهذه العلة أي: للتمام ولتفصيل (أنزلناه): في موضع رفع بأنه صفة كتاب المعنى: (ثم آتينا موسى الكتاب) قيل في معنى ثم آتينا موسى الكتاب، مع أن كتاب موسى قبل القرآن، وثم يقتضي التراخي وجوه أحدها: إن فيه حذفا وتقديره، ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب بدلالة قوله: (قل تعالوا) وثانيها: إن تقديره ثم أتل عليكم آتينا موسى الكتاب، ويكون عطفا على معنى التلاوة، والمعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى، عن الزجاج وثالثها: إنه عطف خبر على خبر، لا عطف معنى على معنى، وتقديره ثم أخبركم أنه أعطى موسى الكتاب، والذي يؤيده قول الشاعر: ولقد ساد، ثم ساد أبوه، ثم قد ساد، قبل ذلك، جده ورابعها: إنه يتصل بقوله في قصة إبراهيم: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) فعد سبحانه نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء، ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما أتي موسى من الكتاب والنبوة، وهو أيضا من ذريته، عن أبي مسلم، واستحسنه المغربي (تماما على الذي أحسن) قيل فيه وجوه أحدها: تماما على إحسان موسى، فكأنه قال: ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة، عن الربيع،
[ 197 ]
والفراء وثانيها: تماما على المحسنين، عن مجاهد. قيل: إن في قراءة عبد الله (تماما على الذي أحسنوا) فكأنه قال تماما للنعمة على المحسنين الذين هو أحدهم، والنون قد تحذف من الذين كما في البيت: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم، كل القوم، يا أم خالد (1) ويجوز أن يكون الذي للجنس، ويكون بمعنى من أحسن وثالثها: إن معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه، عن ابن زيد ورابعها: إن معناه تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، عن الحسن وقتادة، وقال قتادة: تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة وخامسها: إن معناه تماما على الذي أحسن الله سبحانه إلى موسى بالنبوة وغيرها من الكرامة، عن الجباثي وسادسها: ما قاله أبو مسلم انه يتصل بقصة إبراهيم، فيكون المعنى تماما للنعمة على إبراهيم، ولجزائه على إحسانه في طاعة ربه، وذلك من لسان الصدق الذي سأل الله سبحانه أن يجعله له، ولفظة (على) تقتضي المضاعفة عليه، ولو قال تماما، ولم يأت بقوله (على الذي أحسن) لدل على نقصانه قبل تكميله. (وتفصيلا لكل شئ) أي: وبيانا لكل ما يحتاج إليه الخلق (وهدى) أي ودلالة على الحق والدين يهتدي بها إلى التوحيد، والعدل، والشرائع. (ورحمة) أي: نعمة على سائر المكلفين لما فيه من الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والأحكام. (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) معناه: لكي يؤمنوا بجزاء ربهم، فسمي الجزاء لقاء الله، تفخيما لشأنه، مع ما فيه من الإيجاز والإختصار. وقيل: معنى اللقاء الرجوع إلى ملكه، وسلطانه، يوم لا يملك أحد سواه شيئا. (وهذا كتاب) يعني القرآن، وصفه بهذا الوصف لبيان أنه مما ينبغي أن يكتب، لأنه أجل الحكم (أنزلناه) يعني أنزله جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأضاف النزول إلى نفسه توسعا. (مبارك): وهو من يأتي من قبله الخير الكثير، عن الزجاج. فالبركة: ثبوت الخير بزيادته ونموه. وأصله الثبوت، ومنه براكاء القتال في قوله: (1) حانت: قربت. الفلج اسم بلد قريب البصرة. (*)
[ 198 ]
وما ينجي من الغمرات إلا براكاء القتال، أو الفرار ومنه تبارك الله أي: تعالى بصفة إثبات، لا أول له ولا آخر، وهذا تعظيم لا يستحقه غير الله تعالى (فاتبعوه) أي. اعتقدوا صحته، واعملوا به، وكونوا من أتباعه (واتقوا) معاصي الله ومخالفته، ومخالفة كتابه (لعلكم ترحمون) أي: لكي ترحموا، وإنما قال (واتقوا لعلكم ترحمون) مع أنهم إذا اتقوا رحموا لا محالة، لأمرين أحدهما أنه اتقوا على رجاء الرحمة، لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة والثاني: إتقوا لترحموا أي: ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ما عند الله من الرحمة، والثواب. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين 156 أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بأيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن إياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون 157. الاعراب: قال الزجاج: (أن تقولوا) معناه عند البصريين: كراهة أن تقولوا، وهم لا يجيزون إضمار لا فلا يقولون: جئت أن أكرمك أي: لأن لا أكرمك، ولكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمك على إضمار محبة أن أكرمك، أو كراهة أن أكرمك، ويكون الحال ينبئ عن الضمير و (أو تقولوا): نصب (تقولوا) بأنه معطوف على (أن تقولوا) أي: أو كراهة أن تقولوا، وأقول: أراد أنه مفعول له على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وإذا كان حذف المضاف يطرد جوازه مع غير أن فلأن يجوز مع أن أجدر مع طول الكلام بالصلة. وقال الكسائي: موضع (أن تقولوا) نصب بإتقوا أي: إتقوا يا اهل مكة أن تقولوا و (لو أنا) فتحت أن بعد (لو) مع أنه لا يقع فيه المصدر، لأن الفعل مقدر بعد (لو) فكأنه قيل: لو وقع إلينا أنا أنزل الكتاب علينا، إلا أن هذا الفعل لا يظهر من أجل طول (أن) بالصلة، ولا
[ 199 ]
يحذف مع المصدر إلا في الشعر، قال: لو غيركم علق الزبير بحبله أدى الجوار إلى بني العوام (1) المعنى: ثم بين سبحانه أنه إنما أنزل القرآن قطعا للمعذرة، وإزاحة للعلة، فقال (أن تقولوا) أي: كراهة أن تقولوا يا أهل مكة، أو لئلا تقولوا (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) أي: جماعتين، وهم اليهود والنصارى، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما، وظهور أمرهما أي: أنزلنا عليكم هذا الكتاب، لنقطع حجتكم. (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) والمعنى: إنا كنا غافلين عن تلاوة كتبهم، وما كنا إلا غافلين عن دراستهم، ولم ينزل علينا الكتاب، كما أنزل عليهم لأنهم كانوا أهله دوننا، ولو أريد منا ما أريد منهم، لأنزل الكتاب علينا، كما أنزل عليهم (أو تقولوا) يا أهل مكة (لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) في المبادرة إلى قبوله، والتمسك به، لأنا أجود أذهانا، وأثبت معرفة منهم، فإن العرب كانوا يدلون بجودة الفهم، وذكاء الحدس، وحدة الذهن. وقد يكون العارف بالشئ أهدى إليه من عارف آخر بأن يعرفه من وجوه لا يعرفها هو، وبأن يكون ما يعرفه به، أثبت مما يعرفه به الآخر. ثم قال تعالى (فقد جاءكم بينة من ربكم) أي: حجة واضحة، ودلالة ظاهرة، وهو القرآن (وهدى) يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم، والثواب العظيم (ورحمة) أي: نعمة لمن اتبعه، وعمل به (فمن أظلم) لنفسه (ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) أي: أعرض عنها، غير مستدل بها، ولا مفكر فيها، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة (سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب) أي: شدة العذاب، وهو ما أعده الله للكفار نعوذ بالله منه (بما كانوا يصدفون) أي: جزاء بما كانوا يصدفون عن القرآن، ومن أتى به، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا دلالة على أن إنزال القرآن لطف للمكلفين، وأنه لو لم ينزله، لكان لهم الحجة، وإذا كان في منع اللطف عذر وحجة للمكلف، فمنع القدرة، وخلق (1) الشعر في جامع الشواهد فراجع. (*)
[ 200 ]
الكفر، أولى بذلك. فإن قيل: فهل للذين ماتوا من قبل من خوطب بقوله (ان تقولوا) حجة وعذر ؟ قيل له: إن عذر أولئك كان مقطوعا بالعقل، وبما تقدم من الأخبار والكتب، وهؤلاء أيضا لو لم يأتهم الكتاب والرسول، لم يكن لهم حجة، لكن الله تعالى لما علم أن المصلحة تعلقت بذلك فعله، ولو علم مثل ذلك فيمن تقدم لأنزل عليهم مثل ما أنزل على هؤلاء، وإذا لم ينزل عليهم، علمنا أن ذلك لم يكن من مصالحهم. هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض ءايات ربك يوم يأتي بعض إيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن إمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون 158. القراءة: قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يأتيهم) بالياء ههنا، وفي النحل. وقرأ الباقون: (تأتيهم) بالتاء. وقد مضى الكلام في أمثال ذلك. المعنى: ثم توعدهم سبحانه، فقال (هل ينظرون) معناه ما ينتطرون، يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم، وقال أبو علي الجبائي: معناه هل تنتظر أنت يا محمد وأصحابك إلا هذا، وهم وإن انتظروا غيره، فذلك لا يعتد به من حيث ما ينتظرونه من هذه الأشياء المذكورة، لعظم شأنها، فهو مثل قوله: (وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى)، وكما يقال: تكلم فلان، ولم يتكلم إذا تكلم بما لا يعتد به (إلا أن تأتيهم الملائكة) لقبض أرواحهم، عن مجاهد، وقتادة، والسدي. وقيل: لإنزال العذاب والخسف بهم، وقيل لعذاب القبر. (أو يأتي ربك) فيه أقوال أحدها: أو يأتي أمر ربك بالعذاب، فحذف المضاف، ومثله: (وجاء ربك) عن الحسن، وجاز هذا الحذف كما جاز في قوله: (إن الذين يؤذون الله) أي: أولياء الله. وقال ابن عباس: يأتي أمر ربك فيهم بالقتل وثانيها: أو يأتي ربك بجلائل آياته، فيكون حذف الجار، فوصل الفعل، ثم حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وهو قيام الدليل في العقل، على أن الله سبحانه لا يجوز عليه الانتقال، ولا يختلف عليه الحال. وثالثها: إن المعنى: أو يأتي إهلاك
[ 201 ]
ربك إياهم بعذاب عاجل، أو آجل، أو بالقيامة، وهذا كقولنا قد نزل فلان ببلد كذا، وقد أتاهم فلان أي: قد أوقع بهم، عن الزجاج (أو يأتي بعض آيات ربك) وذلك نحو خروج الدابة، أو طلوع الشمس من مغربها، عن مجاهد، وقتادة، والسدي. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدجال، والدخان، وخويصة أحدكم - أي موته - وأمر العامة - يعني القيامة (يوم يأتي بعض آيات ربك) التي تضطرهم إلى المعرفة، ويزول التكليف، عندها (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) لأنه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة، ويضطر الله تعالى كل أحد إلى معرفته، ومعرفة المحسنات والمقبحات ضرورة، ويعرفه أنه إن حاول القبيح، أو ترك الحسن، حيل بينه وبينه، فيصير ملجأ إلى فعل الحسن، وترك القبيح. (أو كسبت في إيمانها خيرا) عطف على قوله (آمنت). وقيل في معناه أقوال أحدها: إنه إنما قال ذلك على جهة التغليب، لأن الأكثر مما ينتفع بإيمانه حينئذ من كسب في إيمانه خيرا وثانيها: إنه لا ينفع أحدا فعل الإيمان، ولا فعل خير فيه، في تلك الحال، لأنها حال زوال التكليف. وإنما ينفع ذلك قبل تلك الحال، عن السدي. فيكون معناه: لا ينفعه إيمانه حينئذ وإن كسب في إيمانه خيرا، أي طاعة وبرا، لأن الإيمان واكتساب الخير، إنما ينفعان من قبل وثالثها: إنه الإبهام في أحد الأمرين، فالمعنى: إنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس، إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم، أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير، فإنها إذا آمنت قبل، نفعها إيمانها، وكذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة، نفعتها أيضا، يريد أنه لا ينفع حينئذ إيمان من آمن من الكفار، ولا طاعة من أطاع من المؤمنين، ومن آمن من قبل نفعه إيمانه بانفراده، وكذلك من أطاع من المؤمنين، نفعته طاعته أيضا، وهذا أقوى الأقوال وأوضحها. (قل انتظروا) إتيان الملائكة، ووقوع هذه الآيات ف (إنا منتظرون) بكم وقوعها، وفي هذه الآية حث على المسارعة إلى. الإيمان والطاعة، قبل الحال التي لا يقبل فيها التوبة، وفيها أيضا حجة على من يقول إن الإيمان إسم لأداء الواجبات
[ 202 ]
وللطاعات، فإنه سبحانه قد صرح فيها بأن اكتساب الخيرات، غير الإيمان المجرد، لعطفه سبحانه كسب الخيرات، وهي الطاعات في الإيمان، على فعل الإيمان، فكأنه قال: لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم، إيمانها ذلك اليوم، وكذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا في إيمانها قبل ذلك كسبها الخيرات ذلك اليوم. وقد عكس الحاكم أبو سعيد في تفسيره الأمر فيه، فقال: هو خلاف ما يقوله المرجئة، لأنه يدل على أن الإيمان بمجرده لا ينفع حتى يكون معه اكتساب الخيرات، وليت شعري كيف تدل الآية على ما قاله ؟ وكيف حكم لنفسه على خصمه فيما الحكم فيه لخصمه عليه ؟ وهل هذا إلا عدول عن سنن العدل والإنصاف ؟. إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم يما كانوا يفعلون 159. القراءة: قرأ حمزة، والكسائي، هاهنا، وفي الروم: (فارقوا) بالألف، وهو المروي عن علي عليه السلام. والباقون: (فرقوا) بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (فرقوا) فتقديره يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، كما قال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) وقال: ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله، ويقولون نؤمن ببعض، ونكفر ببعض. ومن قرأ (فارقوا دينهم) فالمعنى: باينوه وخرجوا عنه، وهو يؤول إلى معنى (فرقوا) ألا ترى أنهم لما آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، فارقوه كله، فخرجوا عنه، ولم يتبعوه ؟. اللغة: الشيع: الفرق التي يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحد، مع اختلافهم في غيره. وقيل: إن أصله من الظهور، يقال: شاع الخبر، يشيع، شيوعا: ظهر. وشيعت النار إذا ألقيت عليها الحطب، فكأنك تظهرها. وقال الزجاج: أصله الإتباع، يقال: شاعكم السلام، وأشاعكم السلام أي: تبعكم السلام، قال: ألا يا نخلة من ذات عرق برود الظل، شاعكم السلام (1) ويقول: آتيك غدا، أو شيعه، أي: أو اليوم الذي يتبعه، فمعنى الشيعة: (1) الشعر في جامع الشواهد بتغيير في المصرع الثاني. قوله برود الظل أي في برود الظل. (*)
[ 203 ]
الذين يتبع بعضهم بعضا، قال الكميت: ومالي إلا آل أحمد شيعة، ومالي إلا مشعب الحق مشعب المعنى: ثم عطف سبحانه على ما قدمه من الوعيد، فقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) اختلف في المعنيين بهذه الآية على أقوال أحدها: إنهم الكفار، وأصناف المشركين، عن السدي، والحسن. ونسختها آية السيف وثانيها: إنهم اليهود والنصارى، لأنهم يكفر بعضهبم بعضا، عن قتادة وثالثها: إنهم أهل الضلالة، وأصحاب الشبهات والبدع من هذه الأمة، رواه أبو هريرة، وعائشة مرفوعا، وهو المروي عن الباقر عليه السلام: جعلوا دين الله أديانا لإكفار بعضهم بعضا، وصاروا أحزابا وفرقا. (لست منهم في شئ): هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلام له أنه ليس منهم في شئ، وأنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض، لأنهم يجتمعون في معنى من المعاني الباطلة، وإن افترقوا في غيره، فليس منهم في شئ، لأنه برئ من جميعه، وقيل: إن معناه لست من مخالطتهم في شئ، وإنما هو نهي النبي من مقاربتهم. وأمر له بمباعدتهم، عن قتادة، وقيل: معناه لست من قتالهم في شئ، ثم نسختها آية القتال، عن الكلبي، والحسن. (إنما أمرهم إلى الله) في مجازاتهم على سوء أفعالهم. وقيل: أمرهم في الإنظار والإستئصال إلى الله وقيل: الحكم بينهم في اختلافهم إلى الله (ثم ينبئهم) أي: يخبرهم، ويجازيهم (بما كانوا يفعلون) يوم القيامة فيظهر المحق من المبطل. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا لا يظلمون. القراءة: قرأ يعقوب: (عشر) منون (أمثالها): برفع اللام، وهو قراءة الحسن، وسعيد بن جبير. والباقون: (عشر) مضاف (أمثالها) مجرور.
[ 204 ]
الحجة: من قرأ (عشر أمثالها) فالمعنى له عشر حسنات أمثالها، فيكون (أمثالها) صفة للموصوف الذي أضيف إليه (عشر) ومن قرأ (عشر أمثالها) فيكون (أمثالها) صفة (لعشر) هذا قول الزجاج. وحذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه ضعيف عند المحققين، وأكثر ما يأتي ذلك في الشعر. والأولى أن يكون (أمثالها) غير صفة في قوله (عشر أمثالها) بل يكون محمولا على المعنى، فأنث الأمثال لما كان في معنى الحسنات. وحكي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول: (فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها) قال: فقلت له: أتقول جاءته كتابي ؟ قال: نعم أليس بصحيفة ؟ اللغة: الحسنة: إسم للأعلى في الحسن، ودخول الهاء للمبالغة. قال علي بن عيسى: دخول الهاء يدل على أنها طاعة إما واجب، أو ندب. وليس كل حسن كذلك، لأن في الحسن ما هو مباح لا يستحق عليه مدح ولا ثواب، وأقوى من ذلك أن يقال دخول لام التعريف فيها يدل على أنها المأمور بها، لأنها لام العهد، والله سبحانه لا يأمر بالمباح. المعنى: لما ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي، عقبه بذكر الوعد، وتضعيف الجزاء في الطاعات فقال (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أي: من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة، فله عشر أمثالها من الثواب (ومن جاء بالسيئة) أي: بالخصلة الواحدة من خصال الشر (فلا يجزى إلا مثلها) وذلك من عظيم فضل الله تعالى، وجزيل إنعامه على عباده، حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الإستحقاق، بل يزيد عليه، وربما يعفو عن ذنوب المؤمن، منا منه عليه، وتفضلا، وإن عاقب على قدر الإستحقاق عدلا. وقيل: المراد بالحسنة: التوحيد، وبالسيئة: الشرك، عن الحسن، واكثر المفسرين. وعلى هذا فإن أصل الحسنات: التوحيد، وأسوأ السيئات: الكفر. (وهم لا يظلمون) بالزيادة على مقدار ما استحقوا من العقاب، ثم اختلف الناس في أن هذه الحسنات العشر التي وعدها الله من جاء بالحسنة، هل يكون كلها ثوابا، أم لا ؟ فقال بعضهم: لا يكون كلها ثوابا، وإنما يكون الثواب منها الواحدة والتسع الزائدة تكون تفضلا، ويؤيده قوله (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله)
[ 205 ]
فيكون على هذا معنى (عشر أمثالها) في النعيم واللذة، لا في عظيم المنزلة. ويجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في الكثرة واللذة، وأن يميز منه الثواب بمقارنة التعظيم والإجلال اللذين لولاهما لما حسن التكليف، وهذا هو الصحيح. وقال قوم: لا يجوز أن يساوي الثواب والتفضل على وجه. فيكون على قولهم كل ذلك ثوابا، قال الزجاج: إن المجازاة من الله، عز وجل، على الحسنة بدخول الجنة شئ لا يبلغ وصف مقداره، فإذا قال (عشر أمثالها) وقال: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وقال: (فيضاعفه له أضعافا كثيرة) فالمعنى في هذا كله: إن جزاء الله سبحانه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس، فيضاعف الله سبحانه ذلك، بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وقد قيل ايضا في ذلك: إن المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها، والمستحق لا يعلم مقداره إلا الله تعالى، وليس المراد أمثال ذلك في العدد، وهذا كما يقول الإنسان لأجيره: لك من الأجر مثل ما عملت، أي: مثل ما تستحقه بعملك. وقد وردت الرواية عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: حدثني الصادق المصدق: (إن الله تعالى قال: الحسنة عشر، أو أزيد، والسيئة واحدة، أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 161 قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين 162 لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين 163. القراءة: قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة (قيما) مكسورة القاف خفيفة الياء، والباقون: (قيما) مفتوحة القاف مشددة الياء. وقرأ أهل المدينة: (محياي) ساكنة الياء (ومماتي) بفتحها. والباقون: (محياي) بفتح الياء، (ومماتي) ساكنة الياء. الحجة: من قرأ (قيما) فالقيم: هو المستقيم، فيكون وصفا للدين، كما أن
[ 206 ]
التقدير في قوله: (دين القيمة) دين الملة القيمة، لأن الملة هي مثل الدين. ومن قرأ (قيما) فإنه مصدر كالصغر والكبر، إلا أنه لم يصحح كما صحح حول وعوض، وكان القياس، ولكنه شذ كما شذ نحو ثيرة في جمع ثور، وجياد في جمع، جواد، وكان القياس الواو. وقال الزجاج: إنما اعتل (قيم) لأنه من قام، فلما اعتل قام، اعتل قيم، لأنه جرى عليه، واما (حول) فإنه جار على غير فعل. وأما إسكان الياء في (محياي) فإنه شاذ عن القياس والإستعمال، فإن الساكنين لا يلتقيان على هذا الحد، وإذا كان ما قبلها متحركا، نحو (ومماتي) فالفتح جائز، والإسكان جائز. قال أبو علي: والوجه في (محياي) بسكون الياء، مع شذوذه، ما حكي عن بعض البغداديين، أنه سمع: التقت حلقتا البطان، بإسكان الألف، مع سكون لام المعرفة، مثل هذا جوزه يونس في قوله: أضربان زيد، واضربنان زيدا، وسيبويه ينكر هذا من قول يونس. وقال علي بن عيسى: ولو وصله على نية الوقف جاز، كما: (فبهداهم اقتده) فإنما تزاد هذه الهاء في الوقف، كما تسكن تلك الياء في الوقف. اللغة: الملة: الشريعة، مأخوذة من الإملاء، كأنه ما يأتي به الشرع، ويورده الرسول من الشرائع المتجددة، فيمله على أمته ليكتب، أو يحفظ فأما التوحيد والعدل فواجبان بالعقل، ولا يكون فيهما اختلاف، والشرائع تختلف، ولهذا يجوز أن يقال: ديني دين الملائكة، ولا يقال: ملتي ملة الملائكة، فكل ملة دين، وليس كل دين ملة، والنسك: العبادة، ورجل ناسك، ومنه النسيكة: الذبيحة. والمنسك: الموضع الذي تذبح فيه النسائك. قال الزجاج: فالنسك كل ما تقرب به إلى الله تعالى، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح. وقول الناس: فلان ناسك، ليس يراد به ذبح، إنما يراد به انه يؤدي المناسك، أي: يؤدي ما افترض عليه، مما يتقرب به إلى الله. الاعراب: (دينا): قال أبو علي: يحتمل نصبه ثلاثة أضرب: أحدها: أنه لما قال: (هداني ربي إلى صراط مستقيم) استغنى بجري ذكر الفعل، عن ذكره ثانيا، فقال (دينا قيما) كما قال: (إهدنا الصراط المستقيم). وإن شئت نصبته
[ 207 ]
على إعرفوا، لأن هدايتهم إليه، تعريف لهم، فحمله على إعرفوا دينا قيما، وإن شئت حملته على الإتباع كأنه قال اتبعوا دينا قيما، والزموه، كما قال: (اتبعوا ما أنزل إليكم). قال الزجاج: (ملة إبراهيم) بدل من (دينا قيما) و (حنيفا) منصوب على الحال من (إبراهيم)، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفية. المعنى: ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار، وللخلق جميعا: (إنني هداني): اي: دلني وأرشدني (ربي إلى صراط مستقيم) وقيل: أراد لطف لي ربي في الإهتداء، ووفقني لذلك. وقد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد (دينا قيما) أي: مستقيما على نهاية الإستقامة. وقيل: دائما لا ينسخ. (ملة إبراهيم) وإنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم، ترغيبا فيه للعرب، لجلالة إبراهيم في نفوسها، ونفوس كل أهل الأديان، ولانتساب العرب إليه، واتفاقهم على أنه كان على حق (حنيفا) أي: مخلصا في العبادة لله، عن الحسن. وقيل: مائلا إلى الإسلام ميلا لازما لا رجوع معه، من قولهم رجل أحنف: إذا كان مائل القدم من خلقة، عن الزجاج. وقيل: مستقيما، وإنما جاء أحنف على التفاؤل، عن الجبائي. (وما كان من المشركين) يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة الأصنام (قل إن صلاتي) قد فسرنا معنى الصلاة فيما تقدم (ونسكي) أي: ذبيحتي للحج والعمرة، عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة والسدي. وقيل: نسكي: ديني، عن الحسن. وقيل: عبادتي، عن الجبائي، والزجاج، وإنما ضم الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل، لأن فيها التعظيم لله عند التكبير، وفيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر، وفيها الركوع والسجود، وفيها الخضوع لله تعالى، والتسبيح الذي هو التنزيه له. (ومحياي ومماتي) أي: حياتي وموتي (لله رب العالمين) وإنما جمع بين صلاته وحياته، وأحدهما من فعله، والآخر من فعل الله، لأنهما جميعا بتدبير الله. وقيل: معناه صلاتي ونسكي له عبادة، وحياتي ومماتي له ملكا وقدرة، عن
[ 208 ]
القاضي. وقيل: إن عبادتي له لأنها بهدايته ولطفه، ومحياي ومماتي له، لأنه بتدبيره وخلقه، وقيل: معنى قوله: (ومحياي ومماتي لله) إن الأعمال الصالحة التي تتعلق بالحياة في فنون الطاعات، وما يتعلق بالممات من الوصية والختم بالخيرات لله، وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان حياته لشهوته، ومماته لورثته، (لا شريك له) أي: لا ثاني له في الإلهية. وقيل: لا شريك له في العبادة، وفي الإحياء، والإماتة. (وبذلك أمرت) أي: وبهذا أمرني ربي (وأنا أول المسلمين) من هذه الأمة، فإن إبراهيم كان أول المسلمين، ومن بعده تابع له في الإسلام، عن الحسن، وقتادة. وفيه بيان فضل الإسلام، وبيان وجوب اتباعه على الإسلام، إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم أول من سارع إليه ولأنه إنما أمر بذلك ليتأسى به، ويقتدى بفعله. قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون 164 وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما إتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم 165. اللغة: الرب: إذا أطلق أفاد المالك بتصريف الشئ بأتم التصريف، وإذا أضيف فقيل: رب الدار، ورب الضيعة، فمعناه: المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد، وأصله التربية، وهي تنشئة الشئ حالا بعد حال، حتى يصير إلى الكمال. والفرق بين الرب والسيد أن السيد المالك لتدبير السواد الأعظم، والرب: المالك لتدبير الشئ حتى يصير إلى الكمال مع إجرائه على تلك الحال، ويقال: وزر، يزر، وزرا، ووزر يوزر فهو موزور، وأصله من الوزر الذي هو الملجأ. فحال الموزور كحال الملتجئ إلى غير ملجأ، ومنه الوزير: لأن الملك يلتجئ إليه في الأمور. وقيل: إن أصله الثقل، ومنه قوله: (ووضعنا عنك وزرك)، وكلاهما محتمل. وواحد (الخلائف): خليفة، مثل صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، وخلف فلان فلانا، يخلفه، فهو خليفته: إذا جاء بعده. الاعراب: في نصب درجات ثلاثة أقوال أحدها: أن يقع موقع المصدر، فكأنه
[ 209 ]
قال رفعة بعد رفعة والثاني: إنه إلى درجات، فحذفت إلى كما حذفته في قولك: دخلت البيت وتقديره إلى البيت والثالث: أن يكون مفعولا من قولك ارتفع درجة، ورفعته درجة، مثل اكتسى ثوبا، وكسوته ثوبا. المعنى: لما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الإخلاص في الدين، عقبه بأمره أن يبين لهم بطلان أفعال المشركين، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار، على وجه الإنكار (أغير الله أبني ربا وهو رب كل شئ) وتقديره: أيجوز أن أطلب غير الله ربا، وأطلب الفوز بعبادته، وهو مربوب مثلي، وأترك عبادة من خلقني ورباني، وهو مالك كل شئ، وخالقه، ومدبره، وليس بمربوب، أم هذا قبيح في العقول، وهو لازم لكم على عبادتكم الأوثان (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) أي: لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة، أو معصية، إلا عليها، فعليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها، ووجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره، ما أنتم عليه من ذلك، لأنه ليس بعذر لي في اكتساب الإثم، اكتساب غيري له، (و) لأنه (لا تزر وازرة وزر أخرى) أي: لا يحمل أحد ذنب غيره، ومعناه: ولا يجازى احد بذنب غيره. وقال الزجاج: معناه لا تؤخذ نفس غيرآثمة بإثم أخرى. وقيل: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اتبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ، فأنزل الله هذا. وفيه دلالة على فساد قول المجبرة ان الله تعالى يعذب الطفل بكفر أبيه. (ثم إلى ربكم مرجعكم) أي: مالكم ومصيركم (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) أي: يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه، فيظهر المحسن من المسئ (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض، ومعناه: إن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله، كلما مضى قرن، خلفهم قرن، يجري ذلك على انتظام واتساق، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير، فلا يخلفه عصر، وهذا لا يكون إلا من عالم مدبر، عن الحسن، والسدي، وجماعة. وقيل: المراد بذلك أمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، جعلهم الله تعالى خلفاء لسائر الأمم، ونصرهم على سائر الخلق. (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) في الرزق، عن السدي. وقيل: في الصورة، والعقل، والعمر، والمال، والقوة، وهذا أولى، لأن الأول يدخل فيه.
[ 210 ]
ووجه الحكمة في ذلك مع أنه سبحانه خلقهم ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم، ما فيه من الألطاف الداعية إلى الواجبات، والصارفة عن المقبحات، لأن كل من كان غنيا في ماله، شريفا في نسبه، ربما دعاه ذلك الى طاعة من يملكه، رغبة في امتثاله، ومن كان على ضد ذلك، ربما دعاه إلى طاعته، رهبة من أمثاله، ورجاء أن ينقله عن هذه الحال إلى حال جليلة، يغتبط عليها. (ليبلوكم فيما آتاكم) أي: ليختبركم فيما أعطاكم أي: يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل، وانتفاء من الظلم، ومعناه: لينظر الغني إلى الفقير فيشكر، وينظر الفقير إلى الغني فيصبر، ويفكر العاقل في الأدلة فيعلم، ويعمل بما يعلم. (إن ربك سريع العقاب) إنما وصف نفسه بذلك مع أن عقابه في الآخرة من حيث ان كل ما هو آت قريب فهو إذا سريع. وقيل: معناه إنه سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة. وقيل: معناه أنه قادر على تعجيل العقاب، فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا. (وإنه لغفور رحيم) قابل سبحانه بين العقاب والغفران، ولم يقابل بالثواب، لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب، لأنه لو ذكر الثواب، لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان. وقيل: إنه سبحانه افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما، وختمها بالمغفرة والرحمة ليحمد على ذلك.
[ 211 ]
7 - سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان هي مكية، وقد روي عن قتادة والضحاك أنها مكية غير قوله (واسئلهم عن القرية) إلى قوله (بما كانوا يفسقون)، فإنها نزلت بالمدينة، عدد آياتها مائتان وست آيات حجازي، كوفي، وخمس بصري شامي. اختلافها: خمس آيات (المص) وبدأكم تعودون كوفي (مخلصين له الدين): بصري شامي، (ضعفا من النار والحسنى على بني اسرائيل) حجازي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا، وكان آدم شفيعا له يوم القيامة. وروى العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من قرأ سورة الأعراف في كل شهر، كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها في كل يوم جمعة، كان ممن لا يحاسب يوم القيامة). قال أبو عبد الله عليه السلام: أما إن فيها آيا محكمة، فلا تدعوا قراءتها وتلاوتها، والقيام بها، فإنها تشهد يوم القيامة، لمن قرأها عند ربه تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين، والحكمة، فقال المص 1 كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتندر به وذكرى للمؤمنين 2 اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء:
[ 212 ]
قليلا ما تذكرون 3. القراءة: قرأ ابن عامر: (يتذكرون) بياء وتاء. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (تذكرون) خفيفة الذال، وقرأ الباقون: (تذكرون) بتشديد الذال، والكاف. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (تذكرون) مشددة أراد تتذكرون، فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأن التاء مهموسة، والذال مجهورة، والمجهور، أزيد صوتا وأقوى من المهموس، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، ولا يسوغ إدغام الأزيد في الأنقص. ما في قوله (ما تذكرون) موصولة بالفعل، وهي معه بمنزلة المصدر والمعنى: قليلا تذكركم، ولا ذكر في الصلة يعود إليها، كما لا يكون في صلة أن ذكر ومن قرأ (تذكرون) فإنه حذف التاء التي أدغمها من شدد الذال، وذلك حسن، لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة، ويقوي ذلك قولهم: اسطاع يسطيع، فحذفوا أحد الثلاثة المتقاربة. ومن قرأ (يتذكرون) بياء وتاء، فوجهه أنه مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: قليلا ما يتذكر هؤلاء. اللغة: قد تقدم ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور، في أول سورة البقرة، وذكرنا الأقوال في معانيها وإعرابها، فلا معنى لإعادتها، وبينا أن حروف الهجاء توصل على نية الوقف فرقا بينها وبين ما يوصل للمعاني. فعلى هذا متى سميت رجلا بالمص، وجبت الحكاية. وإن سميته بصاد، أو قاف، لم يجب ذلك، لأن صاد وقاف، لهما نظير في الأسماء المفردة، مثل باب ونار، وليس كذلك (المص) لأنه بمنزلة الجملة، إذ ليس له نظير في المفرد، وإنما عد الكوفيون (المص) آية، ولم يعدوا صاد، لأن (المص) بمنزلة الجملة مع أن آخره على ثلاثة أحرف، بمنزلة المردف. فلما اجتمع هذان السببان، وكل واحد منهما يقتضي عده، عدوه، ولم يعدوا (المر) لأن آخره لا يشبه المردف، ولم يعدوا (صاد) لأنه بمنزلة اسم مفرد، وكذلك قاف ونون. ومن قال: إن هذه الحروف في أوائل السور أسماء للسور، فعلى قوله إنما سميت بها، ولم تسم بالأسماء المنقولة، لأنها تتضمن معاني أخر، مضافة إلى التسمية، وهو أنها فاتحة لما هو منها، وأنها فاصلة بينها وبين ما قبلها، ولأنه يأتي من
[ 213 ]
التأليف بعدها ما هو معجز، مع أنه تأليف كتأليفها. فهذه المعاني من أسرارها، والذكرى: مصدر ذكر، يذكر، تذكيرا فهي اسم للتذكير، وفيه مبالغة، ومثله الرجعى. الاعراب: قال الزجاج: أجمع النحويون على أن قوله (كتاب أنزل إليك) مرفوع بغير هذه الحروف، فالمعنى هذا كتاب أنزل إليك. ومن قال: إن (كتاب) يرتفع بالمص، وتقديره المص حروف كتاب، يلزمه إضمار شيئين. فيكون المعنى: المص بعض حروف كتاب أنزل إليك، فيكون قد أضمر المضاف وما أضيف إليه، وهذا ليس بجائز. فإن قال قائل: قد يقول ا ب ت ث ثمانية وعشرون حرفا، وإنما ذكرت أربعة، فمن اين جاز ذلك ؟ قيل: قد صار اسم هذه الحروف كلها ا ب ت ث، كما أنك تقول الحمد سبع آيات، فالحمد اسم لجملة السورة، وليس اسم الكتاب الم، ولا اسم القرآن طسم، وهذا فرق بين قال: والذي اخترناه في تفسير المص قول ابن عباس: (إن المص: أنا الله أعلم وأفصل) فيكون يرتفع بعض هذه الحروف ببعض، والجملة لا موضع لها، وقوله: (فلا يكن في صدرك حرج): دخول الفاء فيه يحتمل وجهين أحدهما: أن تكون عاطفة جملة على جملة، وتقديره هذا كتاب أنزلناه إليك، فلا يكن بعد إنزاله في صدرك حرج، والآخر أن يكون جوابا، وتقديره إذا كان أنزل إليك الكتاب لتنذر به، فلا يكن في صدرك حرج منه، فيكون محمولا على معنى إذا، وذكرى: قال الزجاج يصلح أن يكون في موضع نصب ورفع وخفض، فالنصب على قوله: أنزل إليك لتنذر به ولتذكر به ذكرى، لأن في الإنذار معنى التذكير، وهذا كما يقال: جئتك للإحسان، وشوقا إليك، فيكون مفعولا له. وأما الرفع فعلى تقدير: وهو ذكرى، وأما الخفض فعلى معنى لتنذر، فإن معنى: (لتنذر) لأن تنذر، فيكون تقديره للإنذار، وللذكرى. قال علي بن عيسى: وهذا الوجه ضعيف، لأنه لا يجوز أن يحمل الجر على التأويل، كما لا يجوز مررت به وزيد. المعنى: (المص): مضى تفسيره، وما قيل فيه (كتاب أنزل إليك) أي: هذا الذي أوحيته إليك، كتاب أنزل إليك، أي: أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى (فلا يكن في صدرك حرج منه) ذكر في معناه أقوال أحدها: ما ذكره الحسن أن
[ 214 ]
معنى الحرج الضيق، فمعناه: ولا يضيقن صدرك لتشعب الفكر خوفا من أن لا تقوم بتبليغ ما أنزل إليك حق القيام، فليس عليك أكثر من الإنذار وثانيها: إن معنى الحرج الشك عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، فمعناه فلا يكن في صدرك شك فيما يلزمك من القيام بحقه، فإنما أنزل إليك لتنذر به وثالثها: إن معناه: فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك ويجبهوك بالسوء (1)، فيما أنزل إليك، كما قال سبحانه: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) عن الفراء. وقد روي في الخبر أن الله تعالى لما نزل القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إني أخشى أن يكذبني الناس ويثلغوا رأسي (2)، فيتركوه كالخبزة، فأزال الله الخوف عنه بهذه الآية، وقوله: (لتنذر به) أي: بالقرآن. قال الفراء، والزجاج، وأكثر العلماء: إنه على التقديم والتأخير، وتقديره كتاب أنزل إليك لتنذر به (وذكرى للمؤمنين)، فلا يكن في صدرك حرج منه، وقال آخرون: وهو متصل بقوله (فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذربه) أي: كن على انشراح صدر بالإنذار، ومعناه التخوف بوعده ووعيده، وأمثاله، وأمره، ونهيه، وليذكروا بما فيه، وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به. ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) ويحتمل أن يكون المراد: قل لهم يا محمد، اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم، لأنه قال قبل: (لتنذر به) والإتباع تصرف الثاني بتصرف الأول وتدبره بتدبيره، فالأول إمام، والثاني مؤتم، ووجوب الإتباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب، والندب، والمباح، لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه. (ولا تتبعوا من دونه اولياء) أي: ولا تتخذوا غيره أولياء، تطيعونهم في معصية الله، لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان، والأوثان، فأمر سبحانه باتباع القرآن، ونهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه. (قليلا ما تذكرون) أي: قليلا يا معشر المشركين تذكركم واتعاظكم، وهذا (1) جبهه: نكس رأسه. (2) ثلغ رأسه: خدشه. (*)
[ 215 ]
استبطاء في التذكر وخرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر، فمعناه تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم، وما اوجبه الله عليكم. ومعنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شئ، مثل التفقه، والتعلم. وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قائلون 4 فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين 5. الاعراب: كم لفظة موضوعة للتكثير، ورب للتقليل، وإنما كان كذلك لأن رب حرف، وكم اسم. والتقليل: ضرب من النفي، وكم يدخل في الخبر بمعنى التكثير، فأما في الإستفهام فلا، لأن الإستفهام موكول إلى بيان المجيب، وإنما دخلها التكثير لأن استبهام العدد عن أن يظهر، أو يضبط، إنما يكون لكثرته في غالب الأمر، وكم مبهمة، قال الفرزدق: كم عمة لك يا جرير وخالة فدعاء قد حلبت علي عشاري (1) فدل بكم على كثرة العمات والخالات. وموضع (كم) في الآية رفع بالإبتداء، وخبرها (أهلكناها) ولو جعلتها في موضع نصب جاز، كما تقول في قوله سبحانه (إنا كل شئ خلقناه بقدر) والأول أجود. وقيل في دخول الفاء في قوله (فجاءها بأسنا بياتا)، مع أن الفاء للتعقيب، أقوال أحدها: أهلكناها في حكمنا، فجاءها بأسنا والثاني: أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا والثالث: إنه مثل زرتني فأكرمتني، فإن نفس الإكرام هي الزيارة. قال علي بن عيسى: وليس هذا مثل ذلك، لأن هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة، ثم الإكرام بها. والرابع: أهلكناها فصح أنه جاءها بأسنا. وقال الفراء: إن الفاء هاهنا بمعنى الواو، ورد عليه علي بن عيسى، بأنه نقل حرف عن معناه بغير دليل، وذلك لا يجوز. وقوله (أو هم قائلون). قال الفراء: واو الحال مقدرة فيه، وتقديره أو وهم قائلون، (1) الفدع: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل حتى ينقلب الكف أو القدم إلى انسيها. العشار جمع عشراء الناقة التي أتت عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، (*)
[ 216 ]
وإنما حذفت استخفافا، قال الزجاج: وهذا لا يحتاج إلى ضمير الواو، ولو قلت: جاءني زيدا راجلا، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. ومعنى (بياتا) أي: ليلا. يقال: بات بياتا حسنا، وبيتة حسنة، والمصدر في الأصل بات بيتا، وإنما سمي البيت بيتا، لأنه يصلح للمبيت، فمعنى أو هم قائلون أي: أو جاءهم بأسنا نهارا في وقت القائلة، فأو دخلت هاهنا على جهة تصرف الشئ ووقوعه (1)، وأما مرة كذا، فهي في الخبر هاهنا بمنزلة أو في الإباحة، إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين أي: كل واحد منهما أهل أن يجالس، وأو هاهنا أحسن من الواو، لأن الواو يتضمن اجتماع الشيئين، لو قلت ضربت القوم قياما وقعودا، لأوجبت الواو أنك ضربتهم، وهم على هاتين الحالتين. ولو قلت: ضربتهم قياما، أو ضربتهم قعودا، ولم تكن شاكا، فإنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال، ومرة على هذه الحال. وأقول إن الأولى أن يكون (بياتا) مصدرا وموضع (أن قالوا): الإختيار أن يكون رفعا، وأن يكون (دعواهم) في موضع نصب، كقوله: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا). ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون (الدعوى) في موضع رفع، إلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع، فالأكثر في اللفظ، فما كانت دعواهم كذا، لأن الدعوى مؤنثة، وهي اسم لما تدعيه، وتصلح أن تكون بمعنى الدعاء، حكى سيبويه: اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين، وأنشد (ولت ودعواها كثير صخبه) أي: دعاؤها (2). المعنى: لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين، باتباع القرآن، والتحذير من مخالفته، والتذكير، عقب ذلك تذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب، وتحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، فقال: (وكم من قرية) أي: من أهل قرية، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. (أهلكناها) بعذاب الإستئصال (فجاءها بأسنا) أي: عذابنا (بياتا) بالليل (أو هم قائلون) أي: في وقت القيلولة، وهي نصف النهار، وأصله الراحة، ومنه الإقالة في البيع، لأنه الإراحة منه بالإعفاء من عقده، والأخذ (1) [ أما مرة كذا ]. (2) الصخب: شدة الصوت. (*)
[ 217 ]
بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة، فلذلك خص الوقتين بالذكر. (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا) أي: لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم وكفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا (إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم، وإقرارهم به، وهذا القول كان منهم عند معاينة البأس والتيقن بأنه ينزل بهم، ويجوز أن يكونوا قالوه حين لابسهم طرف منه، ولم يهلكوا بعد وفي هذا دلالة على أن الإعتراف والتوبة عند معاينة البأس، لا ينفع. فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين 6 فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين 7 والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون 8 ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بأياتنا يظلمون 9. اللغة: السؤال: طلب الجواب بأدائه في الكلام، كما أن الإستخبار طلب الخبر بأدائه في الكلام. والقصص: ما يتلو بعضه بعضا، ومنه المقمص (1) لأن قطعه يتلو بعضه بعضا، ومنه القصة من الشعر، والقصة من الكتاب، ومنه القصاص، لأنه يتلو الجناية في الإستحقاق، ومنه المقاصة في الحق، لأنه يسقط ماله قصاصا بما عليه. والوزن في اللغة هو مقابلة أحد الشيئين بالآخر، حتى يظهر مقداره، وقد استعمل في غير ذلك تشبيها به، فمنها وزن الشعر بالعروض، ومنها قولهم فلان يزن كلامه وزنا، قال الأخطل: وإذا وضعت أباك في ميزانهم رجحوا، وشال أبوك في الميزان (2) والحق: وضع الشئ موضعه على وجه تقتضيه الحكمة، وقد استعمل مصدرا على هذا المعنى، وصفة، كما جرى ذلك في العدل قال الله سبحانه: (ذلك بأن الله هو الحق)، فجرى على طريق الوصف. والثقل: عبارة عن الإعتماد اللازم (1) المقص: المقراض. (2) شال ميزان فلان: غلب في المفاخرة. (*)
[ 218 ]
سفلا، ونقيضه الخفة، وهي الإعتماد اللازم علوا. الاعراب: الفاء في قوله (فلنسألن) عاطفة جملة على جملة، وإنما دخلت الفاء وهي موجبة للتعقيب، مع تراخي ما بين الأول والثاني، وذلك يليق بثم لتقريب ما بينهما، كما قال سبحانه: (اقتربت الساعة)، وقال: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) وقال: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) وإذا طرف المفاجأة وبينهما (1) بعد (يومئذ) يجوز فيه الإعراب والبناء، لأن إضافته إلى مبني، إضافة غير محضة، تقربه من الأسماء المركبة، وإضافته إلى الجملة تقربه من الإضافة الحقيقية، ونون (إذ) لأنه قد قطع عن الإضافة، إذ من شأن التنوين أن يعاقب الإضافة. المعنى: ولما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا، عقبه بالإنذار بعذاب الآخرة، فقال: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين) أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله، وأقسم أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم، فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ، ويسأل أولئك عن الإمتثال، وهو تعالى، وإن كان عالما بما كان منهم، فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد والزجر، ليتأهب العباد بحسن الإستعداد لذلك السؤال. وقيل: إنه يسأل الأمم عن الإجابة، ويسأل الرسل ماذا عملت أممهم فيما جاؤوا به، وقيل: إن الأمم يسألون سؤال توبيخ، والأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق، عن الحسن. وأما فائدة السؤال فأشياء، منها: أن يعلم الخلائق أنه سبحانه أرسل الرسل، وأزاح العلة، وأنه لا يظلم أحدا. ومنها: أن يعلموا أن الكفار استحقوا العذاب بأفعالهم. ومنها: أن يزداد سرور أهل الإيمان بالثناء الجميل عليهم، ويزداد غم الكفار، بما يظهر من أفعالهم القبيحة. ومنها: أن ذلك لطف للمكلفين إذا أخبروا به. ومما يسأل على هذا، أن يقال: كيف يجمع بين قوله تعالى (ولا يسأل عن (1) أي بين الجملتبن أعني خلقه من النطفة وصيرورته خصما. (*)
[ 219 ]
ذنوبهم المجرمون)، (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) وقوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) (فوربك لنسألنهم أجمعين) ؟ والجواب عنه في وجوه أحدها: إنه سبحانه نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام، وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع، ولذلك قال عقيبه: (يعرف المجرمون بسيماهم) وسؤال الإستعلام مثل قولك: أين زيد ؟ ومن عندك ؟ وهذا لا يجوز على الله سبحانه. وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول: ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي ؟ ومنه قوله: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) وكقول الشاعر: (أطربا وأنت قنسري) أي كبير السن. وهذا توبيخ منه لنفسه، أي: كيف أطرب مع الكبر والشيب. وقد يكون السؤال للتقرير، كقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح (1) أي: أنتم كذلك، وفي ضده قوله (وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر) (2) أي: لا يصلح وأما سؤال المرسلين، فليس بتقريع ولا توبيخ لهم، ولكنه توبيخ للكفار، وتقريع لهم وثانيها: إنهم إنما يسألون يوم القيامة، كما قال: (وقفوهم إنهم مسؤولون) ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة، وعند دخولهم النار، فلا تنافي بين الخبرين، بل هو إثبات للسؤال في وقت، ونفي له في وقت آخر. وثالثها: إن في القيامة مواقف، ففي بعضها يسأل، وفي بعضها لا يسأل، فلا تضاد بين الآيات. وأما الجمع بين قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) وقوله (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) فهو: إن الأول معناه لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار عن الحال إلتي جهلها بعضهم، لتشاغلهم عن ذلك، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. والثاني معناه يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم وتوبيخ كما قال في موضع آخر: (يتلاومون) وكقوله (أنحن صددناكم عن الهدى) الآية. ومثل ذلك كثير في القرآن. ثم بين سبحانه ما ذكرناه، ومن أنه لا يسألهم سؤال استعلام بقوله (فلنقصن عليهم) أي: لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة، وليعلم (1) المطايا جمع المطية: الدابة. الأندى أفعل التفضيل من الندى وهو الجود. الراح جمع الراحة: الكف. والبيت لجرير. (2) أوله (تروح إلى العطار تبغي شبابها). وقيل: (تصلح شأنها). (*)
[ 220 ]
كل منهم جزاء عمله، وأنه لا ظلم عليه، وليظهر لأهل الموقف أحوالهم (بعلم) قيل: معناه نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها. وقيل: معناه بمعلوم كما قال: (ولا يحيطون بشئ من علمه) أي: من معلومه. وقال ابن عباس: معنى قوله: (فلنقصن عليهم بعلم) ينطق عليهم كتاب أعمالهم كقوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) (وما كنا غائبين عن علم ذلك. وقيل: عن الرسل فيما بلغوا، وعن الأمم فيما أجابوا، وذكر ذلك مؤكدا لعلمه بأحوالهم والمعنى: إنه لا يخفى عليه شئ. (والوزن يومئذ الحق) ذكر فيه أقوال أحدها: إن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة، وإنه لا ظلم فيها على أحد، عن مجاهد، والضحاك، وهو قول البلخي. وثانيها: إن الله ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة، فتوزن به أعمال العباد، الحسنات، والسيئات، عن ابن عباس، والحسن، وبه قال الجبائي. ثم اختلفوا في كيفية الوزن، لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة، ولا يكون لها وزن، ولا تقوم بأنفسها. فقيل: توزن صحائف الأعمال، عن عبد الله بن عمر، وجماعة. وقيل: يظهر علامات للحسنات وعلامات للسيئات في الكفتين، فيراها الناس، عن الجبائي. وقيل: يظهر للحسنات صورة حسنة وللسيئات صورة سيئة، عن ابن عباس، وقيل: توزن نفس المؤمن والكافر، عن عبيد بن عمير، قال: يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة وثالثها: إن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم، ومقدار الكافر في الذلة، كما قال سبحانه: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي: يعظم قدره، فقد أفلح ومن أتى بالعمل السئ الذي لا وزن له، ولا قيمة، فقد خسر، عن أبي مسلم. وأحسن الأقوال القول الأول، وبعده الثاني، وإنما قلنا ذلك، لأنه اشتهر من العرب قولهم: كلام فلان موزون وأفعاله موزونة: يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة، لا تكون ناقصة عنها، ولا زائدة عليها زيادة مضرة، أو داخلة في باب العبث. قال مالك بن اسماء الفزاري: وحديث ألذه هو مما ينعت الناعتون: يوزن وزنا منطق صائب، ويلحن أحيانا، وخير الحديث ما كان لحنا
[ 221 ]
أي: يعرض في الكلام، ولا يصرح به، وقيل: إنه من اللحن الذي هو سرعة الفهم والفطنة. وعلى هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره، كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك، وأما حسن القول الثاني: فلمراعاة الخبر الوارد فيه، والجري على ظاهره. (فمن ثقلت موازينه) إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان، ويجوز أن يكون كل ميزان صنفا من أصناف أعماله، ويؤيد هذا ما جاء في الخبر: (إن الصلاة ميزان، فمن وفى استوفى). (فأولئك هم المفلحون) أي: الفائزون بثواب الله (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) بأن استحقوا عذاب الأبد (بما كانوا بآياتنا يظلمون) أي: بجحودهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آياتنا وحججنا. والخسران: ذهاب رأس المال، ومن أعظم رأس المال النفس، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله، فقد خسر نفسه. ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون 10 ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين 11. القراءة: قرأ كل القراء: (معايش) بغير همز. وروى بعضهم، عن نافع: (معائش) ممدودا، مهموزا. الحجة: قال أبو علي: معايش: جمع معيشة، واعتل معيشة، لأنه على وزن يعيش، وزيادته زيادة تختص الإسم دون الفعل، فلم يحتج إلى الفصل بين الإسم والفعل، كما احتيج إليه فيما كانت زيادته مشتركة، نحو الهمزة في أخاف، وهو أخوف منك. وموافقة الإسم لبناء الفعل توجب في الإسم الإعتلال، ألا ترى أنهم أعلوا بابا ونابا ويوم راح لما كان على وزن الفعل، وصححوا نحو: حول، وغيبة، ولومة، لما لم تكن على مثال الفعل، فمعيشة: موافقة للفعل في البناء. ألا ترى أنه مثل يعيش في الزنة، وتكسيرها يزيل مشابهته في البناء، فقد علمت بذلك زوال
[ 222 ]
المعنى الموجب للإعلال في الواحد وفي الجمع، فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ، ولأن التكسير معنى لا يكون في الفعل، إنما يختص به الإسم، وإذا كانوا قد صححوا نحو الجولان والهيمان، مع قيام بناء الفعل فيه لما لحقه من الزيادة التي يختص بها الإسم، فتصحيح قولهم: معايش الذي قد زال مشابهة الفعل عنه في اللفظ والمعنى لا إشكال فيه، وفي وجوب العدل عن إعلاله، ومن أعل فهمز فمجازه على وجه اللفظ، وهو أن معيشة على وزن مصيبة، فتوهمها فعيلة، فهمزها كما همز مصائب. ومثل ذلك مما يحمل على الغلط قولهم في جمع مسيل: أمسلة، فتوهموه فعيلة، وإنما هو مفعلة، وذكر المحققون أن الهمزة في هذه الياء، إنما تكون إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف، وإنما يهمز الياء الزائدة، لأنه لا حظ لها في الحركة، وقد قربت من آخر الكلمة ولزمتها الحركة، فأوجبوا فيها الهمزة، وإذا جمعت مقاما قلت: مقاوم، وانشدوا: وإني لقوام مقاوم لم يكن جرير، ولا مولى جرير، يقومها اللغة: التمكين: إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع، لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة، فقد يحتاج إلى آلة، وإلى دلالة، وإلى سبب، ويحتاج إلى ارتفاع المنع، فالتمكين عبارة عن جميع ذلك، والجعل: إيجاد ما به يكون الشئ على خلاف ما كان عليه، مثل أن تقول: جعلت الساكن متحركا، لأنك فعلت فيه الحركة، ونظيره التصيير، وجعل الشئ أعم من حدوثه، لأنه قد يكون بحدوث غيره مما يتغير به، والمعيشة: ما يكون وصلة إلى ما فيه الحياة من جهة المطعم، والمشرب، والملبس، والخلق: إحداث الشئ على تقدير تقتضيه الحكمة. والتصوير: جعل الشئ على صورة من الصور. والصورة: بنية مقومة على هيئة ظاهرة. والسجود: أصله الإنخفاض، وحقيقته وضع الجبهة على الأرض. الاعراب: (قليلا): نصب بتشكرون، وتقديره تشكرون قليلا. و (ما) زائدة، ويجوز أن يكون (ما) مع ما بعدها بمبزلة المصدر، فيكون تقديره: قليلا شكركم. المعنى: ثم ذكر سبحانه نعمه على البشر بالتمكين في الأرض، وما خلق فيها من الأرزاق، مضافة إلى نعمه السابغة عليهم، بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فقال:
[ 223 ]
(ولقد مكناكم في الأرض) أي: مكناكم من التصرف فيها، وملكناكموها، وجعلناها لكم قرارا (وجعلنا لكم فيها معايش) أي: ما تعيشون به من أنواع الرزق، ووجوه النعم، والمنافع. وقيل: يريد المكاسب، والإقدار عليها بالعلم، والقدرة، والآلات. (قليلا ما تشكرون): أي: ثم أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا، وقد قل شكركم. ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق، فقال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) قال الأخفش: ثم هاهنا في معنى الواو. وقال الزجاج: وهذا خطأ لا يجيزه الخليل، وسيبويه، وجميع من يوثق بعلمه، إنما ثم للشئ الذي يكون بعد المذكور قبله، لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا، فالمراد: إنا بدأنا خلق آدم، ثم صورناه. فابتداء خلق آدم عليه السلام من التراب، ثم وقعت الصورة بعد ذلك، فهذا معنى (خلقناكم ثم صورناكم). (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) بعد الفراغ من خلق آدم، فثم إنما هو لما بعد، وهذا مروي عن الحسن. ومن كلام العرب: فعلنا بكم كذا وكذا، وهم يعنون أسلافهم. وفي التنزيل (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) أي: ميثاق أسلافكم. وقد قيل في ذلك أقوال أخر منها: إن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة والسدي. ومنها: إن الترتيب وقع في الإخبار، فكأنه قال: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم، إنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كما يقول القائل: أنا راجل، ثم أنا مسرع، وهذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى، والقاضي أبو سعيد السيرافي، وغيرهما. وعلى هذا فقد قيل: إن المعنى: خلقناكم في أصلاب الرجال، ثم صورناكم في أرحام النساء، عن عكرمة، وقيل: خلقناكم في الرحم، ثم صورناكم بشق السمع والبصر، وسائر الأعضاء، عن يمان، وقول الشاعر: سئلت ربيعة من خيرها أبا، ثم أما، فقالت ليه فمعناه لتجيب أولا عن الأب، ثم الأم. وقوله (فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين) قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة.
[ 224 ]
قالو ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين 12 قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين 13. اللغة: الصاغر: الذليل بصغر القدر، يقال: صغر، يصغر صغرا، وصغارا، فهو صاغر: إذا رضي بالضيم. ومن الصغر ضد الكبر: صغر يصغر. قال ابن السكيت: يقال فلان صغرة ولد أبيه أي: أصغرهم. الاعراب:: (ما) في قوله: (ما منعك) مرفوع الموضع، والمعنى: أي شئ منعك ؟ ولا ملغى في قوله: (ألا تسجد). المعنى: ما منعك أن تسجد. ومثله قوله سبحانه (لئلا يعلم) ومعناه: لأن يعلم، وقال الشاعر: أبى جوده لا البخل، واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله (1) قالوا: معناه أبى جوده البخل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرواية أبى جوده لا البخل بالجر، والمعنى: أبى جوده لا التي تبخل الإنسان. قال الزجاج: وروي فيه وجها آخر حسنا، وهو: أن يكون لا غير لغو، ويكون البخل منصوبا بدلا من لا، والمعنى أبى جوده لا التي هي البخل، فكأنه قال: أبى جوده البخل، وقد قيل: إنما دخل لا في قوله (ألا تسجد) لأن معناه: ما دعاك إلى أن لا تسجد، أو ما أحوجك إلى أن لا تسجد. المعنى: ثم حكى سبحانه خطابه لإبليس، حين امتنع من السجود لآدم، بقوله (قال) أي: قال الله تعالى (ما منعك أن لا تسجد) أي: ما دعاك إلى أن لا تسجد، وما اضطرك إليه، أو ما منعك أن تسجد (إذ أمرتك) بالسجود لآدم (قال) إبليس: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، وهذا الجواب غير مطابق، لأنه كان يجب أن يقول: منعني كذا، لأن قوله (أنا خير منه) جواب لمن يقول: أيكما خير ؟ ولكن فيه معنى الجواب، ويجري ذلك مجرى أن يقول القائل لغيره: كيف كنت ؟ فيقول: أنا صالح. وكان يجب أن يقول: كنت صالحا، لكنه جاز ذلك لأنه أفاد أنه صالح في الحال، مع أنه كان صالحا فيما مضى. (1) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 225 ]
قال ابن عباس: (أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشئ من رأيه، قرنه الله بإبليس). وقال ابن سيرين: (أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس). ووجه دخول الشبهة على إبليس أنه ظن أن النار إذا كانت أشرف من الطين، لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون، وهذا خطأ لأن ذلك تابع لما يعلم الله سبحانه من مصالح العباد. وقد قيل أيضا: إن الطين خير من النار، لأنه أكثر منافع للخلق من حيث إن الأرض مستقر الخلق، وفيها معايشهم، ومنها يخرج أنواع أرزاقهم، والخيرية إنما يراد بها كثرة المنافع، دون كثرة الثواب، لأن الثواب لا يكون إلا للمكلف المأمور، دون الجماد. (قال) أي: قال الله سبحانه لإبليس (فاهبط) أي: إنزل وانحدر (منها) أي: من السماء، عن الحسن. وقيل: من الجنة. وقيل: معناه إنزل عما أنت عليه من الدرجة الرفيعة، والمنزلة الشريفة، التي هي درجة متبعي أمر الله سبحانه، وحافظي حدوده، إلى الدرجة الدنية التي هي درجة العاصين، المضيعين أمر الله (فما يكون لك أن تتكبر، عن أمر الله (فيها) أي: في الجنة، أو في السماء، فإنها ليست بموضع المتكبرين، وإنما موضعهم النار كما قال (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) (فاخرج) من المكان الذي أنت فيه، أو المنزلة التي أنت عليها (إنك من الصاغرين) أي: من الأذلاء بالمعصية في الدنيا، لأن العاصي ذليل عند من عصاه، أو بالعذاب في الآخرة، لأن المعذب ذليل. وهذا الكلام إنما صدر من الله سبحانه على لسان بعض الملائكة، عن الجبائي. وقيل: إن إبليس رأى معجزة تدله على أن ذلك كلام الله، وقوله سبحانه: (فما يكون لك أن تتكبر فيها) لا يدل على أنه يجوز التكبر في غير الجنة، فإن التكبر لا يجوز على حال، لأنه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء، وهذا في صفة العباد ذم، وفي صفة الله سبحانه مدح، إلا أن إبليس تكبر على الله سبحانه في الجنة، فأخرج منها قسرا، ومن تكبر خارج الجنة، منع من ذلك بالأمر والنهي. قال أنظرني إلى يوم يبعثون 14 قال إنك من المنظرين 15 قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المسيقيم 16 ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم
[ 226 ]
وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين 17. اللغة: الإنظار، والإمهال، والتأخير، والتأجيل، نظائر. وبينها فروق. وضد الإمهال: الإعجال والبعث الإطلاق في الأمر. والإنبعاث: الإنطلاق. والبعث، والحشر، والنشر، والجمع، نظائر. الاعراب: (لأقعدن) جواب للقسم، والقسم محذوف لأن غرضه بالكلام التأكيد، وهو ضد قوله (ص والقرآن ذي الذكر)، فإنه حذف الجواب هناك، وبقي القسم، لأن الغرض تعظيم المقسم به. ونصب (صراطك) على الحذف دون الظرف، وتقديره على صراطك، كما قيل ضرب زيد الظهر والبطن أي: على الظهر والبطن، قال الشاعر: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب (1) وقال آخر: كأني إذا أسعى لأظفر طائرا مع النجم في جو السماء يصوب (2) أي: لأظفر على طائر. المعنى: (قال) يعني إبليس (أنظرني) أي: أمهلني وأخرني في الأجل، ولا تمتني (إلى يوم يبعثون) أي: يبعث الخلق من قبورهم للجزاء. وقيل: معناه أنظرني في الجزاء إلى يوم القيامة، فكأنه خاف أن يعاجله الله سبحانه بالعقوبة. يدل عليه قوله: (إلى يوم يبعثون) ولم يقل إلى يوم يموتون، ومعلوم أن الله تعالى لا يبقي أحدا حيا إلى يوم القيامة. قال الكلبي: أراد الخبيث أن لا يذوق الموت في النفخة الأولى مع من يموت، فأجيب بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم، وهي النفخة الأولى، ليذوق الموت بين النفختين، وهو اربعون سنة. وأما الوجه، في مسألة إبليس الإنظار، مع علمه بأنه مطرود ملعون، فعلمه بأنه (1) اللدن: اللين من كل شئ. وعسل الرمح: اضطرب واشتد اهتزازه. ورمح عاسل: يهتز لينا. يصف الشاعر رمحه. (2) الصوب: الميل والنزول. (*)
[ 227 ]
سبحانه يظاهر إلى عباده بالنعم، ويعمهم بالفضل والكرم، فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن المسألة والطمع في الإجابة. (قال) أي: قال الله سبحانه لإبليس: (إنك من المنظرين) أي: من المؤخرين (قال) إبليس لما لعنه الله وطرده، ثم سأله الإنظار فأجابه الله تعالى إلى شئ منه (فبما أغويتني) أي: فبالذي أغويتني. قيل في معناه أقوال أحدها: إن معناه: بما خيبتني من رحمتك وجنتك، كما قال الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره، ومن يغولا يعدم على الغي لائما أي: من يخب وثانيها: إن المراد امتحنتني بالسجود لآدم فغويت عنده، فلذلك قال: (أغويتني) كما قال: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) وثالثها: إن معناه حكمت بغوايتي، كما يقال: أضللتني أي. حكمت بضلالتي، عن ابن عباس، وابن زيد ورابعها: إن معناه أهلكتني بلعنك إياي، كما قال الشاعر: معطفة الأثناء ليس فصيلها برازئها درا، ولا ميت غوى (1) أي ولا ميت هلاكا بالقعود عن شرب اللبن، ومنه قوله (فسوف يلقون غيا) أي: هلاكا وقالوا: غوى الفصيل: إذا فقد اللبن فمات، والمصدر غوى مقصور وخامسها: أن يكون الكلام على ظاهره من الغواية، ولا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أن الله تعالى يغوي الخلق بأن يضلهم، ويكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشر (لأقعدن) أي: لأجلسن (لهم) أي: لأولاد آدم (صراطك المستقيم) أي على طريقك المستوي، وهو طريق الحق، لأصدنهم عنه بالإغواء حتى أصرفهم إلى طريق الباطل، كيدا لهم، وعداوة. وقول من قال: إنه لو كان ما يفعل به الإيمان، هو بعينه ما يفعل به الكفر، لكان قوله (فبما اغويتني) مساويا لقوله فبما أصلحتني، يفسد بأن صفة الآلة إذا وقع بها الكفر، صفتها إذا وقع بها الإيمان، وإن كانت الآلة واحدة، كما أن السيف واحد، ويصلح لأن يستعمل في قتل المؤمن، كما (1) الأثناء جمع الثنى: الناقة التي ولدت بطنين، ويقال لولدها أيضا (الثني). عطف الشئ: أماله. قوس معطفة: منحنية. قال في (اللسان) (وربما عطفوا عدة ذود على فصيل واحد فاحتلبوا البانهن على ذلك ليدررن). الرزء: النقص والفقد. الدر: اللبن. وقال فيه يصف قوسا يعني القوس وسهما رمى به عنها، وهذا من اللغز. (*)
[ 228 ]
يصلح أن يستعمل في قتل الكافر، ولا يجب من ذلك أن تكون الصفتان واحدة من أجل أنه واحد، فلا يمتنع أن يكون متى استعملت آلة الإيمان في الضلال والكفر، تسمى إغواء، وإن استعمل في الإيمان سميت هداية، وإن كان ما يصح به الإيمان هو بعينه ما يصح به الكفر، والضلال. (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) قيل في ذلك أقوال أحدها: إن المعنى من قبل دنياهم وآخرتهم، ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن جريج، وتلخيصه: إني أزين لهم الدنيا، وأخوفهم بالفقر، وأقول لهم: لا جنة، ولا نار، ولا بعث، ولا حساب، وأثبطهم عن الحسنات، وأشغلهم عنها، وأحبب إليهم السيئات، وأحثهم عليها، قال ابن عباس: وإنما لم يقل ومن فوقهم، لأن فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء، فلا سبيل له إلى ذلك، ولم يقل من تحت أرجلهم، لأن الإتيان منه موحش وثانيها: إن معنى (من بين أيديهم) (وعن أيمانهم): من حيث يبصرون (ومن خلفهم) (وعن شمائلهم): من حيث لا يبصرون عن مجاهد. وثالثها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) معناه: أهون عليهم أمر الآخرة، (ومن خلفهم). آمرهم بجمع الأموال، والبخل بها عن الحقوق، لتبقى لورثتهم، (وعن أيمانهم) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة، وتحسين الشبهة، (وعن شمائلهم) بتحبيب اللذات إليهم، وتغليب الشهوات على قلوبهم، وإنما دخلت (من) في القدام والخلف، و (عن) في اليمين والشمال، لأن في القدام والخلف معنى طلب النهاية، وفي اليمين والشمال الإنحراف عن الجهة. (ولا تجد أكثرهم شاكرين) هذا أخبار من إبليس، أن الله تعالى لا يجد أكثر خلقه شاكرين. وقيل: إنه يمكن أن يكون قد قال ذلك من أحد وجهين: إما من جهة الملائكة، بإخبار الله تعالى إياهم، وإما عن ظن منه، كما قال سبحانه: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) فإنه لما استنزل آدم ظن أن ذريته أيضا سيجيبونه لكونهم أضعف منه، والقول الأول: اختيار الجبائي، والثاني: عن الحسن، وأبي مسلم. قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين 18 ويا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
[ 229 ]
الظالمين 19 فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أوتكونا من الخالدين 20 وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين 21. القراءة: في الشواذ قراءة الزهري: (مذموما) على تخفيف الهمزة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة: (سواتهما) بتشديد الواو، وهو قراءة الحسن، والزهري. وقرأ ابن محيصن: (عن هذي الشجرة). الحجة: الوجه في تحفيف السوآت أنه يحذف الهمزة، ويلقي حركتها على الواو، فيقال السوة، ومنهم من يقول السوة، وهو أردأ اللغتين. وأما (هذي الشجرة) فإنه الأصل في الكلمة وإنما الهاء في ذه بدل من الياء في ذي وأما الياء اللاحقة بعد الهاء في (هذه) ونحوه، فزائدة لحقت بعد الهاء، تشبيها لها بهاء الإضمار في نحو: مررت بهي. اللغة: الذام والذيم: أشد العيب: يقال: ذامه، يذامه، ذاما، فهو مذؤوم. وذامه، يذيم، ذيما، وذاما، فهو مذيم. قال الشاعر: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها وفي رواية: ألومها، والدحر: الدفع على وجه الهوان والإذلال، دحره، يدحره، دحرا، ودحورا. والوسوسة: الدعاء إلى أمر بصوت خفي كالهينمة، والخشخشة، قال رؤبة: وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا، وقد أون تأوين العقق (1) وقال الأعشى: (1) أون الحمار: إذا أكل، وشرب، وامتلأ بطنه، وامتدت خاصرتاه، فصار مثل الأون وهو العدل والخرج يجعل فيه الزاد. والعقق بضمتين - جمع العقوق: الحامل من البهائم يصف حمارا ورد الماء، فشرب حتى امتلأت خواصره، فصار الماء مثل الأونين إذا عدلا على الدابة. (*)
[ 230 ]
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما أستعان بريح عشرق زجل (1) والإبداء: الإظهار، وهو جعل الشئ على صفة ما يصح أن يدرك، وضده. الإخفاء. وكل شئ أزيل عنه الساتر فقد أبدي. والمواراة: جعل الشئ وراء ما يستره، ومثله المساترة، وضده المكاشفة، ولم يهمز، ووري لأن الثانية مدة، ولولا ذلك لوجب همز الواو المضمومة، والسوأة: الفرج، لأنه يسوء صاحبه إظهاره، وأصل القسم، من القسمة، قال أعشى بني ثعلبة: رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا نتفرق (2) والمقاسمة لا تكون إلا بين اثنين، والقسم كان من إبليس، لا من آدم، فهو من باب عاقبت اللص، وطارقت النعل، وعافاه الله، وقيل: إن جميع ذلك معنى المقابلة، فالمعاقبة مقابلة بالجزاء، وكذلك المعافاة مقابلة المرض بالسلامة، وكذلك المقاسمة مقابلة في المنازعة باليمين. والنصح: نقيض الغش، يقال: نصحته أنصحه، وهو إخلاص الفاعل ضميره فيما يظهر من عمله. الاعراب: (لمن تبعك منهم لأملأن) اللام الأولى: لام الإبتداء، والثانية: لام القسم، ومن للشرط، وهو في موضع رفع بالإبتداء، ولا يجوز أن يكون هنا بمعنى الذي، لأنها لا تقلب الماضي إلى الإستقبال. وحذف الجزاء في قوله (لمن تبعك) لأن جواب القسم أولى بالذكر حيث انه في صدر الكلام، ولو كان القسم في حشو الكلام، لكان الجزاء أحق بالذكر من جواب القسم، كقولك: إن تأتني والله أكرمك، ويجوز أن تقول: والله لمن جاءك أضربه، بمعنى: لا أضربه. ولم يجز بمعنى لأضربنه، كما يجوز والله أضرب زيدا بمعنى لا أضرب. ولا يجوز بمعنى لأضربن، لأن الإيجاب لا بد فيه من نون التأكيد مع اللام، وإنما قال (منكم) على التغليب للخضاب على الغيبة، والمعنى: لأملأن جهنم منك، وممن تبعك منهم، كما قاله (1) الوسواس: جرس الحلى. وإذا انصرفت: أي إذا انقلبت إلى فراشها. والعشرق: شجرة قدر ذراع، لها أكمام فيها حب صغار، إذا جفت صوتت بمر الريح. ونبات زجل أي: للريح صوت في خلاله. (2) اللبان بالكسر: الرضاع. أسحم داج: الليل المظلم. قوله: (عوض لا نتفرق) أي: لا نتفرق أبدا. وفي (اللسان في مادة لبن) (ورضيعي لبان ثدي أم تحالفا) [ اه ]. (*)
[ 231 ]
في موضع آخر، وقوله: (إلا أن تكونا) تقديره إلا كراهة أن تكونا ملكين، فحذف المضاف، فهو في موضع نصب بأنه مفعول له، وقيل: إن تقديره لأن لا تكونا ملكين، فحذف لا. والأول الصحيح. وقوله: (إني لكما لمن الناصحين) تقديره: إني لكما ناصح، ثم فسر ذلك بقوله (لمن الناصحين) ولا يكون قوله (لكما) متعلقا بالناصحين، لأن ما في الصلة، لا يجوز أن يتقدم على الموصول، ومثله قوله: (وأنا على ذلكم من الشاهدين) تقديره: وأنا على ذلكم شاهد، وبينه بقوله: (من الشاهدين). المعنى: ثم بين سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة والإذلال، وما آتاه آدم من الإكرام والإجلال، بقوله: (قال اخرج منها) أي: من الجنة، أو من السماء، أو من المنزلة الرفيعة. (مذؤوما) أي: مذموما عن ابن زيد. وقيل: معيبا، عن المبرد. وقيل: مهانا لعينا، عن ابن عباس، وقتادة. (مدحورا) أي: مطرودا، عن مجاهد، والسدي. (لمن تبعك منهم) أي: من بني آدم، ومعناه: من أطاعك واقتدى بك من بني آدم، (لأملأن جهنم منكم) أي: منك، ومن ذريتك، وكفار بني آدم. (أجمعين): وإنما جمعهم في الخطاب، لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين، وكفار الإنس، وضلالهم الذين انقادوا له، وتركوا أمر الله لاتباعه (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) هذا أمر بالسكنى، دون السكون، وإنما لم يقل وزوجتك، لأن الإضافة إليه قد أغنت عن ذكره، وأبانت عن معناه، فكان الحذف أحسن لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى. (فكلا من حيث شئتما) أباح سبحانه لهما أن يأكلا من حيث شاءا، وأين شاءا، وما شاءا (ولا تقربا هذه الشجرة) بالأكل (فتكونا من الظالمين) أي: من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم، وقد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة (فوسوس لهما) أي: لآدم، وحواء (الشيطان) الفرق بين وسوس إليه، ووسوس له، أن معنى وسوس إليه انه ألقى إلى قلبه المعنى بصوت خفي، ومعنى وسوس له أنه أوهمه النصيحة له في ذلك (ليبدي لهما) أي: ليظهر لهما (ما ووري) أي: ستر (عنهما من سوآتهما) أي: عوراتهما، وهذا الظاهر يوجب أن يكون إبليس علم أن من اكل من هذه الشجرة بدت عورته، وأن من بدت عورته لا يترك في الجنة، فاحتال
[ 232 ]
في اخراجهما منها بالوسوسة. (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) أي: عن أكل هذه الشجرة (إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) والمعنى أنه أوهمهما أنهما إذا أكلا من هذه الشجرة، تغيرت صورتهما إلى صورة الملك، وأن الله تعالى، قد حكم بذلك، وبأن لا تبيد حياتهما إذا أكلا منها. وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ (ملكين) بكسر اللام. قال الزجاج: قوله (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) يدل على الملكين وأحسبه قد قرأ به، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (إلا أن تكونا ملكين) أنه أوهمهما أن المنهى عن تناول الشجرة الملائكة خاصة، والخالدين دونهما، فيكون كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا، وإنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك، وهذا المعنى أوكد في الشبهة واللبس عليهما، ذكره المرتضى، قدس الله روحه. (وقاسمهما) أي: وحلف لهما بالله تعالى، حتى خدعهما، عن قتادة (إني لكما لمن الناصحين) أي: المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة، ولذلك تأكدت الشبهة عندهما، إذ ظنا أن أحدا لا يقدم على اليمين بالله تعالى، إلا صادقا، فدعاهما ذلك إلى تناول الشجرة. واستدل جماعة من المعتزلة بقوله: (إلا أن تكونا ملكين) على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، قالوا: لأن إبليس رغبهما بالتناول من الشجرة في منزلة الملائكة، حتى تناولا، ولا يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون علي منزلة دون منزلته، فيحمله ذلك على معصية الله وأجاب عنه المرتضى بأن قال: ما أنكرتم أن تكون الآية محمولة على الوجه الثاني الذي ذكرناه، دون أن يكون معناها أن ينقلبا إلي صفة الملائكة، وإذا كانت الآية محتملة لما ذكروه، وأيضا فمما يرفع هذه الشبهة أن يقال: ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا إلى صفة الملائكة وخلقتهم، لما رغبهما إبليس في ذلك، ولا تدل هذه الرغبة على أن الملائكة أفضل منهما، فإن الثواب إنما يستحق على الطاعات دون الصور والهيئات، ولا يمتنع أن يكونا رغبا في صور الملائكة وهيآتها، ولا يكون ذلك رغبة في الثواب، ولا الفضل، ألا ترى أنهما رغبا في أن يكونا من الخالدين، وليس الخلود مما يقتضي مزية في الثواب، ولا الفضل.
[ 233 ]
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجر ة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين 22 قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وأن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين 23 قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين 24 قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون 25. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (تخرجون) بفتح التاء، هاهنا، وفي الروم، والزخرف، والجاثية (لا يخرجون منها) بفتح الياء، ووافقهم يعقوب، وسهل هاهنا، وابن ذكوان هاهنا، وفي الزخرف. وقرأ الباقون جميع ذلك: بضم التاء والياء. الحجة: من قرأ بالفتح فحجته اتفاق الجميع في قوله (إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) بفتح التاء وقوله (إلى ربهم ينسلون)، ويؤيده أيضا قوله: (كما بدأكم تعودون). ومن قرأ بالضم: فحجته قوله (أبعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) وقوله: (كذلك نخرج الموتى). اللغة: (دلاهما) قيل: أصله من تدلية الدلو، وهو أن ترسلها في البئر. والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، وأصل الغر: طي الثوب، يقال: أطوه على غره أي: على كسر طيه، فالغرور بمنزلته، لما فيه من إظهار حال، وإخفاء حال، وطفق يفعل كذا: بمعنى جعل يفعل، ومثله ظل يفعل، وابتدأ يفعل، وأخذ يفعل. والخصف: أصله الضم والجمع، ومنه خصف النعل، والمخصف: المثقب الذي يخصف به النعل. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لكنه خاصف النعل في الحجرة) يعني عليا عليه السلام. والإخصاف: سرعة العدو، لأنه يقطعه بسرعة، والبعض: هو أحد قسمي العدة، فأحد قسمي العشرة بعضها، وأحد قسمي الإثنين كذلك، ولا بعض للواحد، لأنه لا ينقسم، قال علي بن عيسى: العدو هو النائي بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته والولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إليها، والمستقر: هو موضع الإستقرار، وهو أيضا الإستقرار بعينه، لأن المصدر يجئ على
[ 234 ]
وزن المفعول. والمتاع: الإنتفاع بما فيه عاجل استلذاذ، والحين: الوقت، قصيرا كان أو طويلا، إلا أنه استعمل هنا على طول الوقت، وليس بأصل فيه. المعنى: (فدلاهما بغرور) أي: أوقعهما في المكروه، بان غرهما بيمينه، وقيل: معناه دلاهما من الجنة إلى الأرض، وقيل: معناه خذلهما وخلاهما من قولهم: تدلى من الجبل أو السطح، إذا نزل إلى جهة السفل، عن أبي عبيدة أي: حطهما عن درجتهما بغروره (فلما ذاقا الشجرة) أي: ابتدءا بالأكل، ونالا منها شيئا يسيرا، ولذلك أتى بلفظة (ذاقا) عبارة عن أنهما تناولا شيئا قليلا من ثمرة الشجرة، على خوف شديد، لأن الذوق ابتداء الأكل والشرب، ليعرف الطعم. وفي هذا دلالة على أن ذوق الشئ المحرم، يوجب الذم، فكيف استيفاؤه، وقضاء الوطر منه. (بدت لهما سوآتهما) أي: ظهرت لهما عوراتهما، ظهر لكل واحد منهما عورة صاحبه. قال الكلبي: فلما أكلا منها تهافت (1) لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما سوأة صاحبه، فاستحيا. (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي: أخذا يجعلان ورقة على ورقة، ليسترا سوآتهما، عن الزجاج. وقيل: معناه جعلا يرقعان ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين، حتى صار كهيئة الثوب، عن قتادة. وهذا إنما كان لأن المصلحة اقتضت إخراجهما من الجنة، وإهباطهما إلى الأرض، لا على وجه العقوبة، فإن الأنبياء لا يستحقون العقوبة، وقد مضى الكلام فيه في سورة البقرة. (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) أي: من تلك الشجرة، لكنه لما خاطب اثنين قال (تلكما)، والكاف حرف الخطاب (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) ظاهر المعنى (قالا) أي: قال آدم وحواء، لما عاتبهما الله سبحانه، ووبخهما على ارتكاب المنهي عنه: (ربنا ظلمنا أنفسنا) ومعناه: بخسناها الثواب بترك المندوب إليه، فالظلم هو النقص، ومن ذهب إلى أنهم فعلا صغيرة، فإنه يحمل الظلم على تنقيص الثواب، إذا كانت الصغيرة عنده تنقص من ثواب الطاعات. فأما من قال إن الصغيرة تقع مكفرة من غير أن تنقص من ثواب فاعلها شيئا، فلا (1) تهافت: تساقط. (*)
[ 235 ]
يتصور هذا المعنى عنده، ولا يثبت في الآية فائدة، ولا خلاف أن حواء وآدم لم يستحقا العقاب، وإنما قالا ذلك، لأن من جل في الدين قدمه، كثر على يسير الزلل ندمه. وقيل: معناه ظلمنا أنفسنا بالنزول إلى الأرض، ومفارقة العيش الرغد (وإن لم تغفر لنا) معناه: لان لم تستر علينا، لأن المغفرة هي الستر على ما تقدم بيانه (وترحمنا) أي: ولم تتفضل علينا بنعمتك التي يتم بها ما فوتناه على نفوسنا من الثواب، وبضروب فضلك (لنكونن من الخاسرين) أي: من جملة من خسر، ولم يربح. والإنسان يصح أن يظلم نفسه بأن يدخل عليها ضررا غير مستحق، فلا يدفع عنها ضررا أعظم منه، ولا يجتلب به منفعة توفي عليه، ولا يصح أن يكون معاقبا لنفسه (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) قد مر تفسيره في سورة البقرة. (قال) الله تعالى (فيها تحيون) أي: في الأرض تعيشون، (وفيها تموتون ومنها تخرجون) عند البعث، يوم القيامة. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن الله سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض التي حيوا فيها بعد موتهم، وأنه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر، وإذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة، فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها الساهرة وتفنى هذه كما قال: (فإذا هم بالساهرة). يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوأتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ءايات الله لعلهم يذكرون 26 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوأتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون 27 وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آبائنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون 28. القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر، والكسائي: (ولباس) بالنصب.
[ 236 ]
والباقون بالرفع. الحجة: قال أبو علي: أما النصب فلأنه حمل على أنزل أي: أنزلنا عليكم لباسا ولباس التقوى. وقوله (ذلك) على هذا مبتدأ، وخبره (خير). ومن رفع فقال: (ولباس التقوى) قطع اللباس من الأول. واستأنف به، فجعله مبتدأ، وذلك صفة، أو بدل، أو عطف بيان. ومن قال: إن ذلك لغو، لم يكن على قوله دلالة، لأنه يجوز أن يكون علي أحد ما ذكرنا وخير خبر اللباس. والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق له من اللباس، والرياش الذي يتجمل به، وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف في قوله (فأذاقها الله لباس الجوع) إلى الجوع، والخوف. اللغة: اللباس: كل ما يصلح للبس، من ثوب، أو غيره، من نحو الدرع، وما يغشى به البيت، من نطع، أو كسوة، وأصله المصدر، تقول: لبسه يلبسه لبسا ولباسا ولبسا، بكسر اللام. قال الشاعر: فلما كشفن اللبس عنه مسحنه بأطراف طفل زان غيلا موشما (1) والغيل: الساعد الريان الممتلئ. والريش والأثاث: متاع البيت من فراش أو دثار. وقيل: الريش ما فيه الجمال، ومنه ريش الطائر. وقيل: إنه المصدر من راشه، يريشه، ريشا، وانشد سيبويه: ريشي منكم، وهواي معكم، وإن كانت زيارتكم لماما (2) قال الزجاج: الريش كل ما يستر الرجل في جسمه ومعيشته. يقال: تريش فلان أي: صار له ما يعيش به، وتقول العرب: أعطيته رجلا بريشه أي: بكسوته. وقال أبو عبيدة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس. والفتنة: الإبتلاء والإمتحان. يقال: فتنت الذهب بالنار: امتحنته. وقلب فاتن أي: مفتون، قال الشاعر: رخيم الكلام، قطيع القيام، أمسى فؤادي بها فاتنا (3) (1) أطراف البدن. اليدان والرجلان. الطفل: الرخص الناعم من كل شئ. قائله حميد بن ثور، يصف فرسا خدمته الجواري. (2) اللمام ككتاب يقال فلان يزور لماما: أي في حين دون حين، أو في كل أسبوع مرة. (3) رخيم الكلام: أي رقيقه ولينه. قطيع القيام أي: منقطع مقطوع القيام ضعفا، أو سمنا. (*)
[ 237 ]
القبيل: الجماعة من قبائل شتى، فإذا كانوا من أب وأم واحد، فهم قبيلة. المعنى: لما ذكر سبحانه نعمته على بني آدم، وفي تبوئه الدار والمستقر، عقبه بذكر النعمة في الملابس والستر، فقال (يا بني آدم) وهو خطاب عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين كما يوصي الإنسان ولده، وولد ولده، بتقوى الله. ويجوز خطاب المعدوم إذا كان من المعلوم أنه سيوجد، ويتكامل فيه شروط التكليف (قد أنزلنا عليكم لباسا) قيل: إنه أنزل ذلك مع آدم وحواء، حين أمرا بالإنهباط، عن الجبائي، وهو الظاهر. وقيل: معناه إنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء، عن الحسن. وقيل: لأن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء، كقوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)، عن علي بن عيسى. وقيل: معنى (أنزلنا عليكم): أعطيناكم ووهبنا لكم، وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده، فقد أنزله عليه، ليس أن هناك علوا وسفلا، ولكنه يجري مجرى التعظيم، كما يقال: رفعت حاجتي إلى فلان، ورفعت قضيتي إلى الأمير، عن أبي مسلم. وقيل: معناه خلقنا لكم كما قال (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) (وأنزلنا الحديد) عن أبي علي الفارسي. (يواري سوآتكم) أي: يستر عوراتكم (وريشا) أي: أثاثا مما تحتاجون إليه. وقيل: مالا، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقيل: جمالا، عن ابن زيد. وقيل: خصبا ومعاشا، عن الأخفش. وقيل: خيرا، وكل ما قاله المفسرون فإنه يدخل فيه، إلا أن كلا منهم خص بعض الخير بالذكر (ولباس التقوى): هو العمل الصالح، عن ابن عباس. وقيل: هو الحياء الذي يكسيكم التقوى، عن الحسن. وقيل: هو ثياب النسك والتواضع إذا اقتصر عليه كلباس الصوف، والخشن من الثياب، عن الجبائي. وقيل: هو لباس الحرب، والدرع، والمغفر، والآلات التي يتقى بها من العدو، عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام، وأبي مسلم. وقيل: هو خشية الله تعالى عن عروة بن الزبير. وقيل: هو ستر العورة يتقي الله، فيواري عورته، عن ابن زيد. وقيل: هو الإيمان، عن قتادة، والسدي. ولا مانع من حمل ذلك على الجميع. (ذلك خير) أي: لباس التقوى خير من جميع ما يلبس (ذلك من آيات الله) أي: ذلك الذي خلقه الله، وأنزله، من حجج الله التي تدل على توحيده (لعلهم
[ 238 ]
يذكرون) معناه: لكي يتفكروا فيها، فيؤمنوا بالله، ويصيروا إلى طاعته، وينتهوا عن معاصيه. ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى، فقال: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) أي: لا يضلنكم عن الدين، ولا يصرفنكم عن الحق، بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس وإنما صح أن ينهى الإنسان بصيغة النهي للشيطان، لأنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه يطلبنا بالمكروه، ويقصدنا بالعداوة. فالنهي له يدخل فيه النهي لنا، عن ترك التحذير منه (كما أخرج أبويكم من الجنة) نسب الإخراج إليه لما كان بإغوائه، وإن كان خروجهما بأمر الله تعالى، وجرى ذلك مجرى ذمه لفرعون، بأنه يذبح أبناءهم، وإنما أمر بذلك، وتحقيق الذم فيها راجع إلى فعل، المذموم، ولكنه يذكر بهذه الصفة، لبيان منزلة فعله في عظم الفاحشة. (ينزع عنهما) عند وسوسته ودعائه لهما (لباسهما) من ثياب الجنة. وقيل: كان لباسهما الظفر، عن ابن عباس، أي: كان شبه الظفر، وعلى خلقته. وقيل: كان لباسهما نورا، عن وهب بن منبه. (ليريهما سوآتهما) عوراتهما (إنه) يعني الشيطان (يراكم هو وقبيله) أي: نسله، عن الحسن، وابن زيد، يدل عليه قوله (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) وقيل: جنوده وأتباعه من الجن، والشياطين (من حيث لا ترونهم) قال ابن عباس: إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم، مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، كما قال: (الذي يوسوس في صدور الناس) فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم. قال قتادة: (والله إن عدوا يراك من حيث لا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله) وإنما قال ذلك، لأنا إذا كنا لا نراهم، لم نعرف قصدهم لنا بالكيد، والإغواء، فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس، خيفة أن يكون ذلك من الشيطان. وإنما لا يراهم البشر لأن أجسامهم شفافة لطيفة، تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع. وقال أبو الهذيل، وأبو بكر بن الإخشيد: يجوز أن يمكنهم الله تعالى، فيتكشفوا، فيراهم حينئذ من يحضرهم، وإليه ذهب علي بن عيسى، وقال: إنهم ممكنون من ذلك، وهو الذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد الله، رحمه الله، قال الشيخ أبو جعفر، قدس الله روحه: وهو الأقوى عندي وقال الجبائي: لا يجوز أن يرى الشياطين والجن. لأن الله عز اسمه قال: (لا ترونهم) وإنما يجوز أن يروا في
[ 239 ]
زمن الأنبياء، بأن يكشف الله أجسادهم على الأنبياء، كما يجوز أن يرى الناس الملائكة في زمن الأنبياء (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) أي: حكمنا بذلك، لأنهم يتناصرون على الباطل، كما قال: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) أي: حكموا بذلك حكما باطلا. وإنما خص (الذين لا يؤمنون) تنبيها على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين المتيقظين منهم، وإنما يتمكنون من الكفرة، والجهال، والفسقة الأغفال. (وإذا فعلوا فاحشة) كنى به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم، فكان يطوف الرجال والنساء عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، وهم الحمس (1). قال الفراء: كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة، يشذونهم على حقويهم، يسمى حوفا، وإن عمل من صوف يسمى رهطا، وكانت تضع المرأة على قبلها النسعة فتقول: اليوم يبدو بعضه، أو كله، وما بدا منه فلا أحله يعني الفرج، لأن ذلك يستر سترا تاما، وفي الآية حذف تقديره: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها (قالوا وجدنا عليها آباءنا) قيل: ومن أين أخذها آباؤكم، قالوا: (والله أمرنا بها) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار، أنهم إذا فعلوا ما يعظم قبحه، اعتذروا لنفوسهم: إنا وجدنا آباءنا يفعلونها، وإن آباءهم فعلوا ذلك من قبل الله. وقال الحسن: إنهم كانوا أهل إجبار، فقالوا: لو كره الله ما نحن عليه، لنقلنا عنه، فلهذا قالوا: (والله أمرنا بها) فرد الله سبحانه عليهم قولهم، بأن قال: (إن الله لا يأمر بالفحشاء)، ثم أنكر عليهم من وجه آخر، فقال: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) لأنهم إن قالوا: لا، لنقضوا مذهبهم، وإن قالوا: نعم، افتضحوا في قولهم. قال الزجاج: (أتقولون على الله) معناه: أتكذبون عليه. قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه (1) الحمس: لقب قريش، وكنانة، وجديلة، ومن تابعهم في الجاهلية. (*)
[ 240 ]
مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون 29 فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون 30. اللغة: أصل القسط: العدل، فإذا كان إلى جهة الحق فهو عدل، ومنه قوله (إن الله يحب المقسطين) وإذا كان إلى جهة الباطل، فهو جور، ومنه قوله: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). وأصل الإخلاص إخراج كل شائب من الجنس، ومنه إخلاص الدين لله، وهو توجيه العبادة إليه خالصا دون غيره. والبداء: فعل الشئ أول مرة، والعود فعله ثاني مرة، وقد يكون فعل أول خصلة منه بدء، كبدء الصلاة، وبدء القراءة، وبدأ وأبدأ لغتان. والفريق: جماعة انفصلت من جماعة. والإتخاذ: افتعال من الأخذ بمعنى إعداد الشئ لأمر من الأمور. والحسبان: بمعنى الظن، وهو ما قوي عند الظان، كون المظنون كل ما ظنه، مع تجويزه أن يكون على غيره، فبالقوة يتميز من اعتقاد التقليد والتبخيت، وبالتجويز يتميز من العلم، لأن مع العلم القطع. الاعراب: (وأقيموا): عطف على ما تقدم من قوله (لا يفتننكم الشيطان) فتقديره: احذروا الشيطان، وأقيموا وجوهكم، عن أبي مسلم. وقيل: ان تقديره أمر ربي بالقسط وقل اقيموا. وقوله: (كما بدأكم) قال أبو علي الفارسي: تفديره كما بدأ خلقكم، ثم حذف المضاف. (وتعودون) معناه: ويعود خلقكم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار المخاطبون فاعلين، (وفريقا حق عليهم الضلالة) نصبه ليعطف فعلا على فعل، وتقديره وفريقا أضل، فأضمر أضل، لأنه قد فسره ما بعده، فأغنى عن ذكره، ونظيره قوله: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) وقال الفراء: (فريقا): منصوب على الحال من (تعودون) و (فريقا) الثاني عطف عليه، ولو رفع على تقدير أحدهما كذا، والآخر كذا، لجاز. كما قال: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة). المعنى: لما بين سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء، وهو اسم جامع للقبائح والسيئات، عقبه ببيان ما يأمر به من القسط، وهو اسم جامع لجميع الخيرات فقال: (قل) يا محمد (أمر ربي بالقسط) أي: بالعدل والإستقامة، عن مجاهد،
[ 241 ]
والسدي، وأكثر المفسرين. وقيل: بالتوحيد، عن الضحاك. وقيل: بلا إله إلا الله، عن ابن عباس. وقيل: بجميع الطاعات، والقرب، عن أبي مسلم. (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) قيل فيه وجوه أحدها: إن معناه توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة، عن مجاهد، والسدي، وابن زيد. وثانيها: إن معناه أقيموا وجوهكم إلى الجهة التي أمركم الله بالتوجه إليها في صلاتكم، وهي الكعبة، والمراد بالمسجد أوقات السجود، وهي أوقات الصلاة. عن الجبائي، وغيره. وثالثها: إن المراد إذا أدركتم الصلاة في مسجد، فصلوا ولا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي، والمراد بالمسجد موضع السجود، عن الفراء، وهو اختيار المغربي. ورابعها: إن معناه اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر بالجماعة لها ندبا، عند الأكثرين، وحتما عند الأقلين. وخامسها: إن معناه أخلصوا وجوهكم لله تعالى في الطاعة، فلا تشركوا به وثنا، ولا غيره عن الربيع. (وادعوه مخلصين له الدين) وهذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص، أي: ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين. وقيل: معناه واعبدوه مخلصين له الدين (كما بدأكم تعودون) قيل في وجه اتصاله بما قبله وجوه أحدهما: إن معناه وادعوه مخلصين، فإنكم مبعوثون ومجازون، وان بعد ذلك في عقولكم، فاعتبروا بالإبتداء، واعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول، فإنه يبعثكم فتعودون إليه في الخلق الثاني وثانيها: إنه يتصل بقوله (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) فقال: (كما بدأكم تعودون) أي: فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم، عن الزجاج قال: وإنما ذكره على وجه الحجاج عليهم، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث وثالثها: إنه كلام مستأنف، أي: يعيدكم بعد الموت، فيجازيكم، عن أبي مسلم. قال قتادة: بدأكم من التراب، وإليه تعودون، كما قال: (منها خلقناكم، وفيها نعيدكم). وقيل: معناه كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تبعثون يوم القيامة. ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (تحشرون يوم القيامة، عراة حفاة، غرلا) (1) (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين). وقيل: معناه تبعثون على ما متم عليه، المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره، عن ابن عباس، وجابر. (1) الغرل جمع الأغرل وهو الأقلف. (*)
[ 242 ]
(فريقا) أي: جماعة (هدى) أي: حكم لهم بالإهتداء بقبولهم للهدى، أو لطف لهم بما اهتدوا عنده، أو هداهم إلى طريق الثواب، كما تكرر بيانه في مواضع (وفريقا حق) أي: وجب (عليهم الضلالة) إذ لم يقبلوا الهدى، أو حق عليهم الخذلان، لأنه لم يكن لهم لطف ينشرح له صدورهم، أو حق عليهم العذاب والهلاك بكفرهم، ويؤيد هذا القول الأخير أنه سبحانه ذكر الهدى والضلال بعد العود والبعث. ثم قال (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) بين سبحانه أنه لم يبدأهم بالعقوبة، ولكن جازاهم على عصيانهم، واتباعهم الشيطان، وإنما اتخذوهم أولياء بطاعتهم لهم فيما دعوهم إليه. (ويحسبون أنهم مهتدون) ومعناه: وهم مع ذلك يظنون أنهم في ذلك على هداية وحق. يا بني إدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 31 قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين إمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الأيات لقوم يعلمون 32. القراءة: قرأ نافع وحده: (خالصة) بالرفع. والباقون بالنصب. الحجة: قال أبو علي: من رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو (هي)، ويكون (للذين آمنوا) تبيينا للخلوص، ولا شئ فيه على هذا. ومن قال: هذا حلو حامض، أمكن أن يكون (للذين آمنوا): خبرا، و (خالصة) خبر آخر. ومن نصب (خالصة) كان حالا مما في قوله (للذين آمنوا). ألا ترى أن فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ الذي هو (هي) ف (خالصة) حال عن ذلك الذكر، والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل. وحجة من رفع إن المعنى هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة، وإن شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا. ومن نصب فالمعنى عنده ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة لهم، وانتصاب (خالصة) على الحال أشبه بقوله (إن المتقين في جنات وعيون آخذين) ونحو ذلك مما انتصب الإسم فيه
[ 243 ]
على الحال بعد الإبتداء، وخبره، وما يجري مجراه، إذا كان فيه معنى فعل. قال الزجاج: من نصب (خالصة) فهو حال على أن العامل في قولك (في الحياة الدنيا) في تأويل الحال، كأنك تقول هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة. قال أبو علي: قوله: (في الحياة الدنيا) يحتمل ثلاثة أضرب أحدها: أن يكون قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا خالصة، على أن يكون خبر (هي) قوله: (للذين آمنوا) ويكون (في الحياة الدنيا) ظرفا، والعامل فيه الظرف الذي هو قوله (للذين آمنوا) والتقدير هي في الحياة الدنيا للمؤمنين، مقدار خلوصها يوم القيامة، ففي هذا الوجه يجوز تقديرها مقدمة على اللام الجارة لأنه ظرف للذين آمنوا، والظروف وإن كان العامل فيها المعاني، فإن تقديمها عليها جائز، وإن لم يجز ذلك في الأحوال. ويحتمل أن يكون قوله (في الحياة الدنيا) متصلا بالصلة التي هي (آمنوا) وهي العاملة فيه، والمعنى هي للذين آمنوا في حياتهم أي: للذين آمنوا، ولم يكفروا فيها خالصة، فموضع (في) على هذا نصب (بآمنوا)، ويجوز أن يكون (في الحياة الدنيا) في موضع حال، وصاحب الحال هو (هي) والعامل في الحال معنى الفعل، وهو قوله (للذين آمنوا) والمعنى: قل هي لهم مستقرة في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، ولا يجوز في هذا الوجه، ولا في الوجه الذي قبله، تقدير تقديم في الحياة على قوله (للذين آمنوا). أما في الوجه الأول فلأن قوله (في الحياة) صلة الذين، ولا يجوز تقديم الصلة على الموصول. وأما في الوجه الآخر فلأنه في موضع الحال، والحال لا يجوز تقديمها إذا كان العامل فيها معنى الفعل، وهذا الوجه الثالث ذكره أبو إسحاق. واما قراءة من قرأ (خالصة) بالنصب: جعله منصوبا على الحال، على أن العامل في قوله (في الحياة الدنيا) على تأويل الحال إلى آخر كلامه، فينبغي أن تعلم أن من نصب (خالصة) في قراءة، جاز أن يكون (في الحياة الدنيا) ظرفا (للذين آمنوا)، والعامل فيه معنى الفعل، وجاز أن يكون متعلقا بآمنوا وظرفا له، وجاز أن يكون في موضع الحال، كما ذكر، فالوجهان الأولان لا يحتاج معهما إلى
[ 244 ]
تقدير شئ حتى تعلقه بما قبل. أما إذا كان ظرفا للام الجارة، فمعنى الفعل يعمل فيه كما تقول: لك ثوب كل يوم، وإذا كان من الصلة فنفس الفعل الظاهر يعمل فيه. فاما إذا جعلته حالا، فإنه ينبغي أن تقدر فعلا، أو اسم فاعل يكون في موضع الحال، ويكون (في الحياة) متعلقا به، ولا يوهمنك قول أبي إسحاق الذي ذكرناه: إنه يلزم أن يقدر قوله (في الحياة الدنيا) في تقدير الحال لا غير، إذا جعلت (خالصة) منصوبا على الحال، فإن الوجهين الآخرين كل واحد منهما مع نصب (خالصة) على الحال، سائغ جائز. المعنى: لما تقدم ذكر ما أنعم الله سبحانه على عباده، من اللباس، والرزق، أمرهم في أثرها بتناول الزينة، والتستر، والإقتصاد في المأكل والمشرب، فقال: (يا بني آدم) وهو خطاب لسائر المكلفين (خذوا زينتكم عند كل مسجد) أي: خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات والأعياد، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. وقيل: عند كل صلاة. روى العياشي بإسناده أن الحسن بن علي عليه السلام، كان إذا قام إلى الصلاة، لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا بن رسول الله ! لم تلبس أجود ثيابك ؟ فقال: (إن الله جميل يحب الجمال، فأتجمل لربي، وهو يقول (خذوا زينتكم عند كل مسجد) فأحب أن ألبس أجود ثيابي). وقيل: معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم، وإنما قال ذلك، لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف، على ما تقدم بيانه، وكان يطوف الرجال بالنهار، والنساء بالليل، فأمرنا بلبس الثياب في الصلاة، والطواف، عن جماعة من المفسرين. وقيل: إن أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة، روي ذلك عن الصادق عليه السلام. (وكلوا واشربوا) صورته صورة الأمر، والمراد الإباحة، وهو عام في جميع المباحات (ولا تسرفوا) أي: لا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد: (لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله، لم تكن مسرفا، ولو أنفقت درهما، أو مدا، في معصية الله، لكان إسرافا). وقيل: معناه لا تخرجوا عن حد الإستواء في زيادة المقدار. وقد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس
[ 245 ]
في كتابكم من علم الطب شئ، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان ! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، وهو قوله (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)، وجمع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الطب في قوله: (المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، واعط كل بدن ما عودته). فقال الطبيب: ما ترك كتابكم، ولا نبيكم لجالينوس طبا. وقيل: معناه لا تأكلوا محرما، ولا باطلا على وجه لا يحل، وأكل الحرام وإن قل إسراف ومجاوزة للحد، وما استقبحه العقلاء وعاد بالضرر عليكم، فهو أيضا اسراف لا يحل، كمن يطبخ القدر بماء الورد، ويطرح فيها المسك، وكمن لا يملك الا دينار، فاشترى به طيبا، فتطيب به، وترك عياله محتاجين. (إنه لا يحب المسرفين) أي: يبغضهم، لأنه سبحانه قد ذمهم به، ولو كان بمعنى لا يحبهم، ولا يبغضهم، لم يكن ذما ولا مدحا. ولما حث الله سبحانه على تناول الزينة. عند كل مسجد، وندب إليه (1)، الأكل والشرب، ونهى عن الإسراف، وكان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس، حتى إنهم كانوا يحرمون السمون والألبان في الإحرام، وكانوا يحرمون السوائب والبحائر، أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال: (قل) يا محمد (من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) أي: من حرم الثياب التي تتزين بها الناس، مما أخرجها الله من الأرض لعباده، والطيبات من الرزق، قيل: هي المستلذات من الرزق. وقيل: هي المحللات، والأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين. (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) قال ابن عباس: يعني إن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامهم، ولبسوا من جياد ثيابهم، ونكحوا من صالح نسائهم، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شئ. قال الفراء: مجازة هي للذين آمنوا، مشتركة في الدنيا، وهي خالصة لهم في الآخرة، وهذا معنى قول (1) [ وأباح ]. (*)
[ 246 ]
ابن عباس. وقيل: معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم، والأحزان، والمشقة، وهي خالصة يوم القيامة من ذلك، عن الجبائي. (كذلك نفصل الآيات) أي: كما نميز لكم الآيات، وندلكم بها على منافعكم، وصلاح دينكم، كذلك نفصل الآيات (لقوم يعلمون) وفي هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة، وأكل الأطعمة الطيبة من الحلال. وروى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد، عن عمه عمر بن علي، عن أبيه زين العابدين بن الحسين بن علي عليهم السلام، أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا، فإذا أصاف (1) تصدق به، ولا يرى بذلك بأسا ويقول: (قل من حرم زينة الله) الآية. وبإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، وعليه جبة خز، وطيلسان خز، فنظر إلي، فقلت: جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه ؟ فقال: وما بأس بالخز ؟ قلت فسداه إبريسم ! قال: لا بأس به، فقد أصيب الحسين عليه السلام وعليه جبة خز، ثم قال: إن عبد الله بن عباس، لما بعثه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخوارج، لبس أفضل ثيابه، وتطيب بأطيب طيبه، وركب أفضل مراكبه، فخرج إليهم، فوافقهم قالوا: يا بن عباس ! بينا أنت خير الناس، إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم ؟ فتلا هذه الآية (قل من حرم زينة الله) إلى آخرها. فالبس وتجمل، فإن الله جميل يحب الجمال، وليكن من حلال). وفي الآية دلالة أيضا على أن الأشياء على الإباحة لقوله: (من حرم) فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون 33 ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون 34. اللغة: التحريم: هو المنع من الفعل، بإقامة الدليل على وجوب تجنبه. (1) أي دخل في الصيف. (*)
[ 247 ]
وضده التحليل وهو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله، وأصل التحريم: المنع من قولهم حرم فلان الرزق حرمانا، فهو محروم. وأحرم بالحج. وحرمة الرجل: زوجته. والحرمات: الجنايات. والمحرم: القرابة التي لا يحل تزوجها. وحريم الدار: ما كان من حقوقها. والفواحش: جمع فاحشة، وهي أقبح القبائح، وهي الكبائر. والبغي: الإستطالة على الناس، وحده طلب الترؤس بالقهر من غير حق، وأصله الطلب، وينبغي كذا أي: هو أولى أن يطلب. والسلطان، والبرهان، والبيان، والفرقان، نظائر، وحدودها تختلف: فالبيان: إظهار المعنى للنفس، كإظهار نقيضه. والبرهان: إظهار صحة المعنى، وإفساد نقيضه. والفرقان: إظهار تميز المعنى مما التبس به، والسلطان: إظهار ما يتسلط به على نقيض المعنى بالإبطال، والأمة: الجماعة التي يعمها معنى، وأصلها من أمه يؤمه: إذا قصده فالأمة: الجماعة التي على مقصد واحد. والأجل: الوقت المضروب لانقضاء المهل، لأن بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل، وبين الوقت الآخر مهلا، مثل أجل الدين، وأجل الرزق وأجل الوعد، وأجل العمر. المعنى: ثم بين سبحانه المحرمات، فقال: (قل) يا محمد (انما حرم ربي الفواحش) أي: جميع القبائح والكبائر، عن الجبائي، وأبي مسلم (ما ظهر منها وما بطن) أي: ما علن منها، وما خفي. وقد ذكرنا ما قيل فيه في سورة الأنعام، ومعناه لم يحرم ربي إلا الفواحش لما قد بينا قبل أن لفظة (إنما) محققة لما ذكرنا فيه، لما لم يذكر، فذكر القبائح على الإجمال. ثم فصل للبيان، فقال: (والإثم والبغي) فكأنه قال: حرم ربي الفواحش التي منها الإثم، ومنها البغي، ومنها الإشراك بالله. وقيل: إن الفواحش هي الزنا، وهو الذي بطن منها، والتعري في الطواف، وهو الذي ظهر منها، عن مجاهد. وقيل: هي الطواف فما ظهر منها: طواف الرجال بالنهار، وما بطن: طواف النساء بالليل. والإثم: قيل هو الذنوب والمعاصي، عن الجبائي. وقيل: الإثم ما دون الحد عن الفراء. وقيل: الإثم الخمر عن الحسن، وأنشد الأخفش: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
[ 248 ]
وقال آخر: نهانا رسول الله أن نقرب الخنا (1) وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا والبغي: الظلم والفساد، وقوله (بغير الحق) تأكيد كقوله: (ويقتلون النبيين بغير حق). وقيل: قد يخرج البغي من كونه ظلما، إذا كان بسبب جائز في الشرع، كالقصاص (وأن تشركوا بالله) أي: وحرم الشرك بالله (ما لم ينزل به سلطانا) أي: لم يقم عليه حجة، وكل إشراك بالله فهو بهذه الصفة، ليس عليه حجة، ولا برهان (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) أي: وحرم القول على الله بغير علم. ثم بين تعالى ما فيه تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تأخير عذاب الكفار، فقال (ولكل أمة أجل) أي: لكل جماعة، وأهل عصر، وقت لاستئصالهم، عن الحسن. ولم يقل لكل أحد لأن ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر. ووجه آخر وهو: إنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم، بإتيان الرسل. وقال الجبائي: المراد بالأجل هنا أجل العمر الذي هو مدة الحياة، وهذا أقوى، لأنه يعم جميع الأمم (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون) أي: لا يتأخرون (ساعة) عن ذلك الوقت (ولا يستقدمون) أي: لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت. وقيل، معناه لا يطلبون التأخر عن ذلك الوقت للأياس عنه، ولا يطلبون التقدم عليه، ومعنى (جاء أجلهم): قرب أجلهم، كما يقال جاء الصيف: إذا قارب وقته. يا بني إدم إما يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم إياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 35 والذين كذبوا بأياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 36. الاعراب: (إما) أصله إن الجزاء دخلت عليه ما، ولدخولها دخلت النون الثقيلة في (يأتينكم) ولو قال: ان يأتينكم، لم يجز. وقد شرحنا هذا في سورة البقرة، وبيناه. وقال سيبويه: إن حتى وإما وإلا لا يجوز فيهن الإمالة، لأن هذه (1) الخنى: - محركة - الفحش في الكلام. (*)
[ 249 ]
الألفات ألزمت الفتح، لأنها أواخر حروف، جاءت لمعنى، ففصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف، نحو: حبلى، وهدى. إلا أن حتى كتبت بالياء، لأنها على أربعة أحرف، فأشبهت سكرى وإما التي للتخيير شبهت بإن التي ضمت إليها ما فكتبت بالألف، وإلا كتبت بالألف لأنها لو كتبت بالياء لأشبهت إلى. المعنى: لما تقدم ذكر النعم الدنيوية، عقبه بذكر النعم الدينية (يا بني آدم) هو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم، من جاءه الرسول منهم، ومن جاز أن يأتيه الرسول معطوف على ما تقدم (إما يأتينكم) أي: إن يأتكم (رسل منكم) أي: من جنسكم (يقصون عليكم آياتي) أي: يعرضونها عليكم، ويخبرونكم بها (فمن اتقى) إنكار الرسل والآيات، (وأصلح) عمله. وقيل: فمن اتقى المعاصي واجتنبها. والتقوى: اسم جامع لذلك، وتقديره فمن اتقى منكم وأصلح (فلا خوف عليهم) في الدنيا (ولا هم يحزنون) في الآخرة (والذين كذبوا بآياتنا) أي: حججنا (واستكبروا عنها) أي: عن قبولها (أولئك أصحاب النار) الملازمون لها (هم فيها خالدون) باقون فيها على وجه الدوام والتأبيد. فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جائتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين 37. اللغة: النيل: وصول النفع إلى العبد إذا أطلق، فإن قيد وقع على الضرر، لأن أصله الوصول إلى الشئ، من نلت أنال نيلا، قال امرؤ القيس: سماحة ذا، وبر ذا، ووفاء ذا، ونائل ذا، إذا صحا، وإذا سكر (1) والتوفي: قبض الشئ بتمامه، يقال: توفيته، واستوفيته. المعنى: ثم ذكر سبحانه وعيد المكذبين، فقال: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: لا أحد أظلم منه، صورته صورة الإستفهام، والمراد به (1) صحا السكران: ذهب سكره. (*)
[ 250 ]
الإخبار، وإنما جاء بلفظ الإستفهام ليكون أبلغ (أو كذب بآياته) الدالة على توحيده، ونبوة رسله (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) أي: من العذاب، إلا أنه كنى عن العذاب بالكتاب، لأن الكتاب ورد به كقوله (لقد حقت كلمة العذاب على الكافرين)، عن الحسن، وأبي صالح. وقيل: معناه ينالهم نصيبهم من العمر والرزق، وما كتب لهم من الخير والشر، فلا يقطع عنهم رزقهم بكفرهم، عن الربيع، وابن زيد. وقيل: ينالهم جميع ما كتب لهم، وعليهم، عن مجاهد، وعطية. (حتى إذا جاءتهم رسلنا) يعني الملائكة أي: حتى إذا استوفوا أرزاقهم، وجاءهم ملك الموت مع أعوانه، (يتوفونهم) أي: يقبضون أرواحهم. وقيل: معناه حتى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم، يتوفونهم إلى النار يوم القيامة، عن الحسن (قالوا): يعني الملائكة (أين ما كنتم تدعون من دون الله) من الأوثان والأصنام، والمراد بهذا السؤال توبيخهم، أي: هلا دفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب (قالوا) يعني قال الكفار (ضلوا عنا) أي: ذهبوا عنا وافتقدناهم، فلا يقدرون على الدفع عنا، وبطلت عبادتنا إياهم (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) أي أقروا على نفوسهم بالكفر. قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتيهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون 38 وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون 39. القراءة: قرأ أبو بكر: (لا يعلمون) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: وجه القراءة بالياء. أنه حمل الكلام على كل، لأنه وإن كان للمخاطبين، فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة، فحمل على اللفظ دون المعنى.
[ 251 ]
اللغة: الخلو: انتفاء الشئ عن مكانه، يقال خلا عن البيت، وكذلك خلت: بمعنى مضت، لأنها إذا مضت بالهلاك، فقد خلا مكانها منها. الجن: جنس من الحيوان مستترون عن أعين الناس لرقتهم، يغلب عليهم التمرد في أفعالهم، كما يغلب على الملك أفعال الخير، والضعف: المثل الزائد على مثله، فإذا قال القائل أضعف هذا الدرهم: فمعناه إجعل معه درهما آخر لا دينارا، وكذلك إذا قال أضعف الإثنين: فمعناه اجعلهما أربعة، وحكي أن المضعف في كلام العرب ما كان ضعفين، والمضاعف ما كان أكثر من ذلك، واداركوا: أصله تداركوا فأدغمت التاء في الدال، واجتلب ألف الوصل، ليمكن النطق بالساكن الذي بعده، ومعناه: تلاحقوا. المعنى: (قال ادخلوا) هذه حكاية قول الله تعالى للكفار، يوم القيامة، وأمره لهم بالدخول، ويجوز أن يكون إخبارا عن جعله إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول: كما قال: (كونوا قردة خاسئين) والمراد أنه جعلهم كذلك (في أمم قد خلت) أي: في جملة أقوام، وجماعات، قد مضت (من قبلكم من الجن والإنس) على الكفر (في النار) وقيل: إن (في) بمعنى مع أي: ادخلوا مع أمم كافرة (كلما دخلت أمة) من هذه الأمم النار. (لعنت أختها) يعني التي سبقتها إلى النار، وهي أختها في الدين، لا في النسب، يريد أنهم يلعنون من كان قبلهم، عن ابن عباس. وقيل: يلعن الأتباع القادة والرؤساء، إذا حصلوا في العذاب، بعدما كانوا يتوادون في الدنيا، يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله، عن أبي مسلم (حتى إذا اداركوا) أي تلاحقوا واجتمعوا (فيها) أي: في النار (جميعا) أي: كان هذا حالهم حتى اجتمعوا فيها، فلما اجتمعوا فيها (قالت أخراهم لأولاهم) أي: قالت أخراهم دخولا النار وهم الأتباع، لأولاهم دخولا، وهم القادة والرؤساء (ربنا هؤلاء أضلونا) أي: شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها، عن ابن عباس. وقيل: معناه دعونا إلى الضلال، وحملونا عليه، ومنعونا عن اتباع الحق، قال الصادق عليه السلام: (يعني أئمة الجور). (فآتهم عذابا ضعفا من النار) أي: فأعطهم عذابا مضاعفا. قال ابن مسعود: أراد بالضعف هنا الحيات والأفاعي. وقيل: أراد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر،
[ 252 ]
وبالآخر عذابهم على الإغواء (قال) الله تعالى: (لكل ضعف) أي: للتابع والمتبوع عذاب مضاعف، لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا (ولكن لا تعلمون) أيها المضلون والمضلون، ما لكل فريق منكم من العذاب (وقالت أولاهم لأخراهم) أي: قال المتبوعون للتابعين (فما كان لكم علينا من فضل) أي: تفاوت في الكفر، حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا، وينقص من عذابكم. وقيل: معناه قالت الأمة السابقة للأمة المتأخرة: ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل، وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب، فلم أتبعتمونا. وقيل: من فضل أي: من تخفيف من العذاب (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) من الكفر باختياركم، لا باختيارنا لكم. إن الذين كذبوا بأياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين 40 لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين 41. القراءة: قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لا يفتح) بالياء والتخفيف. وقرأ أبو عمرو بالتاء والتخفيف. وقرأ الباقون بالتاء والتشديد. وروي في الشواذ، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والشعبي، وابن الشخير (حتى يلج الجمل) بالضم والتشديد. عن سعيد بن جبير في رواية أخرى. وعبد الكريم، وحنظلة: (الجمل) بالضم والتخفيف. وعن ابن عباس أيضا: (الجمل) بضم الجيم وسكون الميم (والجمل) بضمتين. وعن ابن السماك: (الجمل) بفتح الجيم وسكون الميم. الحجة: حجة في قرأ لا تفتح بالتشديد قوله (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب)، وحجة من خفف قوله (ففتحنا أبواب السماء). وأما (الجمل) بالضم بالتشديد، و (الجمل) بالتخفيف، وكلاهما: الحبل الغليظة من القنب (1). وقيل: هو حبل السفينة. وقيل: الحبال المجموعة. وإما (الجمل): فيجوز أن يكون جمع جمل، فيكون مثل أسد، أسد، ووثن ووثن، وكذلك المضموم أيضا: كأسد ووثن. (1) القنب: نبات. (*)
[ 253 ]
قال ابن جني: وأما (الجمل)، فيبعد أن يكون مخففا من (جمل) لخفة الفتحة، وإن كان قد جاء عنهم قوله: وما كل مبتاع، ولو سلف صفقة، يراجع ما قد فاته برداد (1) اللغة: السم: بفتح السين وضمها: الثقب، ومنه السم القاتل، لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، فينقض بنيته. وكل ثقب في البدن لطيف: فهو سم وسم، وجمعه سموم، وقال الفرزدق: فنفست عن سميه حتى تنفسا، وقلت له لا تخش شيئا ورائيا يريد بسميه: ثقبي أنفه، ويجمع السم القاتل، سماما، والخياط والمخيط: الإبرة، كاللحاف والملحف، والقناع والمقنع، والإزار والمئزر، والقرام والمقرم، ذكره الفراء. وجهنم: إسم من أسماء النار، واشتقاقها من الجهومة: وهي الغلظ. وقيل: أخذ من قولهم بئر جهنام أي: بعيد قعرها. والمهاد: الوطاء الذي يفترش، ومنه مهد الصبي، وقد مهدت له هذا الأمر أي: وطأته له، والغواشي: جمع غاشية، وهو كل ما يغشاك أي: يسترك. ومنه غاشية السرج، وفلان ينشى فلانا أي: يأتيه، ويلابسه. الاعراب: قال أبو علي: للنحوببن في نحو غواشي وجوابي، قولان أحدهما: مذهب سيبويه والخليل، وهو أن الياء حذفت حذفا، لا لالتقاء الساكنين، فلما حذفت الياء انتقص الإسم عن الزنة التي كان التنوين يعاقبها، ولا يجتمع معها، فدخلها، وإنما حذف هنا الياء، لا لالتقاء الساكنين، كما يحذف حرف اللين في الوقف في نحو: (والليل إذا يسر)، و (ذلك ما كنا نبغ) وقد حذف في الوصل أيضا. وكان الذي حسن ذلك الحذف، انها قد صارت بمنزلة الحركات، لأنها قد صارت عوضا منها، بدلالة تعاقبها، وأنها تحذف ني الموضع الذي تحذف فيه الحركة، فلما قوي الحذف فيها، وكثر، وكان هذا الجمع خارجا عن الأبنية الأول وباينا، لزم الحذف. والقول الآخر ما حدث السراج، عن المبرد، عن المازني، قال: ينظر يونس النحوي، وأبو زيد، والكسائي، إلى جواري وبابه، فما كان من الصحيح، لا (1) كأنه يقول ليس كل من سلف متاعه يتوفى دينه. (*)
[ 254 ]
يلحقه التنوين، لم يلحقوه في المعتل، وما كان يلحقه التنوين في الصحيح الحقوه في المعتل. قال: والذي عليه البصريون هو القول الأول. المعنى: ثم عاد الكلام إلى الوعيد، فقال سبحانه: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها) أي: تكبروا عن قبولها (لا تفتح لهم أبواب السماء) أي: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم. كما تفتح لأرواح المؤمنين، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولدعائهم، عن الحسن، ومجاهد، وعن ابن عباس في رواية أخرى. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، أنه قال: أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء، فتفتح لهم أبوابها. وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه، حتى إذا بلغ إلى السماء، نادى مناد: إهبطوا به إلى سجين وهو واد بحضرموت، يقال له برهوت وقيل: لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة، لأن الجنة في السماء، عن الجبائي. (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة. والمعنى: لا يدخلون الجنة أبدا. وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: هو زوج الناقة، كأنه استجهل من سأله عن الجمل ! وهذا كما تقول العرب في التبعيد للشئ لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، وحتى يؤوب القارظان (1)، قال الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي، وصار القار كاللبن الحليب وقال آخر: فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا وتعليق الحكم بما لا يتوهم وجوده، ولا يتصور حصوله، تأكيد له، وتحقيق لليأس من وجوده (وكذلك نجزي المجرمين) أي: ومثل ما جزينا هؤلاء نجزي سائر (1) القار: القير. القارظان: رجلان من قبيلة عنزة، خرجا يجنيان القرظ (وهو ورق السلم يدبغ به ويسمى بالفارسية مازو) فلم يرجعا، ولا عرف لهما خبر، فضرب بهما المثل لكل غائب لا يرجى إيابه. (*)
[ 255 ]
المجرمين المكذبين بآيات الله تعالى (لهم) أي: لهؤلاء (من جهنم مهاد) أي: فراش، ومضجع (ومن فوقهم غواش) مثل قوله: (لهم من فوقهم ظلل من النار). وقيل: المراد به لحف، والمعنى إن النار محيطة بهم من أعلاهم وأسفلهم (وكذلك نجزي الظالمين) قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا به، واتخذوا من دونه إلها. والذين إمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة فيها خالدون 42 ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون 43. القراءة: قرأ ابن عامر: (ما كنا لنهتدي) بغير واو، وكذلك في مصاحف أهل الشام. والباقون مع الواو. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (أورثموها) مدغمة، وكذلك في الزخرف. وقرأ الباقون (أورثتموها) غير مدغمة. الحجة: قال أبو علي: وجه الإستغناء عن حرف العطف، أن الجملة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسها به عن حرف العطف، وقد تقدم ذكر أمثاله. ومن ترك الإدغام في (أورثتموها) فلتباين المخرجين، وكأن الحرفين في حكم الإنفصال، وإن كانا من كلمة واحدة، ألا ترى أنهم لم يدغموا: (ولو شاء الله اقتتلوا)، وإن كانا مثلين لما لم يكونا لازمين ألا ترى أن تاء افتعل قد يقع بعدها غير التاء، فكذلك أورث قد يقع بعد الثاء منها غير الثاء، فلا يجب الإدغام، ووجه الإدغام أن الثاء والتاء مهموستان متقاربتان، فاستحسن الإدغام لذلك. اللغة: الغل: الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة. ومنه الغل: الذي يجمع اليدين والعنق بانغلاله فيهما. والصدر: ما يصدر من جهته التدبير والرأي. ومنه قيل للرئيس صدر.
[ 256 ]
والجريان: انحدار المائع، فالماء يجري والدم يجري، وكل ما يصح أن يجري فهو مائع. والنهر: الواسع من مجاري الماء، ومنه النهار لاتساع ضيائه. والنداء: الدعاء بطريقة يا فلان ! الاعراب: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) جملة في موضع رفع بأنه خبر (الذين آمنوا) وحذف العائد إلى المبتدأ، فكأنه قيل منهم لا من غيرهم، نحو قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه، ويجوز أن يكون اعتراضا ما بين المبتدأ والخبر، ويكون الخبر الجملة التي هي (أولئك أصحاب الجنة) وإذا كان اعتراضا فلا موضع له من الإعراب و (أن تلكم الجنة) يجوز أن يكون (أن) بمعنى أي لتفسير النداء، فيكون المعنى: نودوا على وجه التهنئة بكلام هذا معناه ويجوز أن يكون مخففة من الثقيلة، والهاء مضمرة، والتقدير بأنه تلكم الجنة. قال الشاعر: أكاشره، وأعلم أن كلانا، * على ما ساء صاحبه، حريص (1) المعنى: لما تقدم وعيد الكفار بالخلود في النيران، أتبع ذلك بالوعد للمؤمنين بالخلود في الجنان، فقال: (والذين آمنوا) أي: صدقوا بآيات الله، واعترفوا بها، ولم يستكبروا عنها (وعملوا الصالحات) أي: ما أوجبه الله عليهم، أو ندبهم إليه (لا نكلف نفسا إلا وسعها) التكليف من الله سبحانه هو إرادة ما فيه المشقة، من الكلفة التي هي المشقة، أي: لا نلزم نفسا إلا قدر طاقتها وما دونها، لأن الوسع دون الطاقة. ووجه اتصاله بما قبله بين إذا جعلته خبرا، لأن معناه: لا نكلف أحدا منهم الطاعات، إلا ما يقدر عليه. وإذا كان اعتراضا بين الكلامين، فكأنه لما وعد المؤمنين بالجنان، والكافرين بالنيران، بين أنه لا يكلف أحدا منهم إلا ما في وسعه، وإن من استحق النار فمن نفسه أتي. (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) مقيمون (ونزعنا ما في صدورهم من غل) أي: وأخرجنا ما في قلوبهم من حقد، وحسد، وعداوة، في الجنة، حتى لا يحسد بعضهم بعضا، وإن رآه أرفع درجة منه (تجري من تحتهم الأنهار) قيل: إنه في موضع الحال أي: يجري ماء الأنهار من تحت أبنيتهم وأشجارهم في حال نزعنا الغل من صدورهم. وقيل: هو استئناف. (1) كاشره مكاشرة: ضاحكه وحرك عليه أسنانه. (*)
[ 257 ]
(وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا) أي: هدانا للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلنا عليه، وعرضنا له بتكليفه إيانا. وقيل: معناه هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا، وقيل: لنزع الغل من صدورنا. وقيل: هدانا لمجاوزة الصراط، ودخول الجنة (وما كنا لنهتدي) لما يصيرنا إلى هذا النعيم المقيم، والثواب العظيم. (لولا أن هدانا الله) هذا اعتراف من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم، ومنته عليهم في دخول الجنة، على سبيل الشكر والتلذذ بذلك، لأنه لا تكليف هناك (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) وهذا إقرار منهم بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله تعالى، فهو حق لا شبهة في صحته (ونودوا) أي: ويناديهم مناد من جهة الله تعالى. ويجوز أن يكون ذلك خطابا منه سبحانه لهم (أن تلكم الجنة) أي: هذه الجنة. وإنما قال (تلكم) لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وعدتم بها. ويجوز أن يكونوا عاينوها، فيقال لهم قبل أن يدخلوها، إشارة إليها تلكم الجنة. (أورثتموها) أي: أعطيتموها إرثا، وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهله. وقيل: معناه جعلها الله سبحانه بدلا لكم، كما كان أعده للكفار لو آمنوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فلذلك قوله أورثتموها) (بما كنتم تعملون) أي: توحدون الله، وتقومون بفرائضه. ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين 44 الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالأخرة كافرون 45. القراءة: قال الكسائي وحده (نعم) بكسر العين كل القرآن. والباقون بالفتح. وقرأ أهل المدينة والبصرة (1): (أن) مخففة (لعنة الله) بالرفع. والباقون: (أن) مشددة (لعنة الله) بالنصب. (1) [ وعاصم ]. (*)
[ 258 ]
الحجة: قال الأخفش: نعم ونعم لغتان، فالكسر لغة كنانة وهذيل، والفتح لغة باقي العرب، وأن التي تقع بعد العلم، إنما هي المشددة والمخففة عنها. وأذن مؤذن معناه: أعلم معلم أن لعنة الله. ومن خفف أن فعلى إرادة إضمار القصة، والحديث، وتقديره أنه لعنة الله، ومثله: (آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) التقدير أنه. ولا تخفف أن هذه إلا وإضمار القصة والحديث يراد معها، والمكسورة إذا خففت لا يكون كذلك. والفصل بينهما أن المفتوحة موصولة، والموصولة تقتضي صلتها فصارت لاقتضائها أشد اتصالا بما بعدها من المكسورة، فقدر بعدها الضمير الذي هو من جملة صلتها، وليست المكسورة كذلك. الاعراب واللغة: قال سيبويه: نعم عدة وتصديق، فإذا استفهمت أجبت بنعم. قال أبو علي: والذي يريده بقوله عدة وتصديق، أنه يستعمل عدة، ويستعمل تصديقا، وليس يريد أنه يجتمع التصديق مع العدة. ألا ترى انه إذا قال أتعطيني ؟ فقلت: نعم. كان عدة ولا تصديق في هذا، وإذا قال: قد كان كذا ؟ فقلت: نعم. فقد صدقته، ولا عدة في هذا. فليس هذا القول من سيبويه كقوله في إذا أنها جواب وجزاء، لأن إذا يكون جوابا في الموضع الذي يكون فيه جزاء، وقوله: إذا استفهمت أجبت بنعم: يريد إذا استفهمت عن موجب أجبت بنعم، ولو كان مكان الإيجاب النفي، لقلت بلى، ولم تقل نعم، كما لا تقول في جواب الموجب بلى (قال ألست بربكم قالوا بلى) (والذين يصدون) في موضع جر بأنه صفة (للظالمين). و (عوجا) يجوز أن يكون منصوبا بانه مفعول به بمعنى يبغون لها العوج. ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر بمعنى يطلبون لها هذا الضرب من الطلب، كما تقول: رجع القهقرى أي: رجع هذا الضرب من الرجوع، وكذلك عدا البشكى (1)، واشتمل الصما. والعوج بالكسر يكون في الطريق وفي الدين، وبالفتح يكون في الخلقة، تقول في ساقه عوج بفتح العين، وفي دينه عوج بالكسر. المعنى: ثم حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنة والنار، بعد استقرارهم في الدارين، فقال، (ونادى) أي: وسينادي (أصحاب الجنة أصحاب النار) أي: أهل الجنة أهل النار، وإنما ذكر بلفظ الماضي، لتحقيق المعنى، جعل ما سيكون كأنه (1) البشكى: السرعة في العمل. (*)
[ 259 ]
قد كان، لأنه كائن لا محالة، وذلك أبلغ في الردع (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا) من الثواب في كتبه، وعلى ألسنة رسله (حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم) من العقاب (حقا) وإنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم، لأن الكفار ما وعدهم الله بالجنة إلا بشرط أن يؤمنوا، فلما لم يؤمنوا، فكأنهم لم يوعدوا بالجنة، وإنما سألوهم هذا السؤال لأن الكفار كانوا يكذبون المؤمنين فيما يدعون لأنفسهم من الثواب، ولهم من العقاب، فهو سؤال توبيخ وشماتة يريد به سرور أهل الجنة، وحسرة أهل النار. (قالوا نعم) أي: قال أهل النار وجدنا ما وعدنا ربنا من العقاب حقا، وصدقا (فأذن مؤذن بينهم) أي: نادى مناد بينهم أسمع الفريقين (أن لعنة الله على الظالمين) أي: غضب الله، وسخطه، وأليم عقابه على الكافرين، لأنه وصف الظالمين بقوله (الذين يصدون عن سبيل الله) أي: يعرضون عن الطريق الذي دل الله سبحانه على أنه يؤدي إلى الجنة. وقيل: معناه يصرفون غيرهم عن سبيل الله أي دينه، والحق الذي دعا إليه. (ويبغونها عوجا) قال ابن عباس: معناه يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله. وقيل: معناه يطلبون لها العوج بالشبه التي يلتبسون بها، ويوهمون انه يقدح فيها، وهي معوجة عن الحق بتناقضها (وهم بالآخرة) أي: بالدار الآخرة، يعني القيامة، والبعث، والجزاء. (كافرون) جاحدون. وقيل في المؤذن إنه مالك خازن النار. وروي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال: (المؤذن أمير المؤمنين علي عليه السلام)، ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره قال: حدثني أبي عن محمد بن فضيل عن الرضا عليه السلام، ورواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية، عن علي عليه السلام أنه قال: (أنا ذلك المؤذن له وبإسناده عن أبي صالح، عن ابن عباس: (إن لعلي عليه السلام في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس، قوله: (فأذن مؤذن بينهم) فهو المؤذن بينهم، يقول ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي، واستخفوا بحقي). وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون 46 وإذا صرفت أبصارهم بلقاء أصحاب
[ 260 ]
النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين 47. اللغة: الحجاب: الحاجز المانع من الإدراك، ومنه قيل للضرير محجوب. وحاجب الأمير، وحاجب العين. والأعراف: الأمكنة المرتفعة، أخذ من عرف الفرس، ومنه عرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عرف، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض، قال الشماخ: وظلت بأعراف تعالى كأنها رماح نحاها وجهة الريح راكز (1) وقال آخر: كل كناز لحمه نياف كالعلم الموفي على الأعراف (2) يعني نشوزا من الأرض. والسيما: العلامة، وهي فعلى من سام إبله يسومها: إذا أرسلها في المرعى، معلمة وهي السائمة. وقيل: إن وزنه عفلى من وسمت، فقلبت كما قالوا له جاه في الناس، وأصله وجه. وكما قالوا اضمحل وامضحل. وأرض خامة أي: وخمة. وفيه ثلاث لغات سيما وسيماء بالقصر والمد، وسيمياء على زنة كبرياء قال الشاعر (له سيمياء ما يشق على البصر. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولذلك كان ظرفا من ظروف المكان، تقول هو تلقاءك، نحو هو حذاءك. والأبصار: جمع بصر، وهو الحاسة التي يدرك بها المبصر. وقد يستعمل بمعنى المصدر، ويقال له بصر بالأشياء أي علم بها، وهو بصير بالأمور أي عالم. المعني: ثم ذكر سبحانه الفريقين في الجزاء فقال (وبينهما حجاب) أي: بين الفريقين، أهل الجنة، وأهل النار، ستر، وهو الأعراف. والأعراف: سور بين الجنة والنار، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. وفي التنزيل: (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب). وقيل: الأعراف: شرف ذلك السور، عن الجبائي. وقيل: الأعراف: الصراط، عن الحسن بن الفضل. (1) ظل يفعل كذا: دام كا وقوله ظلت أصله ظللت. وتعالى أي: تتعالى. وقوله نحاها أي: أمالها من قولهم نحى الشئ جره إليه: أماله. وركز الرمح: غرزه في الأرض. (2) جارية وناقة كناز: أي كثيرة اللحم صلبة. نياف من الجمال والنوق: الطويل في ارتفاع. وأوفى عليه: أشرف. (*)
[ 261 ]
(وعلى الأعراف رجال) اختلف في المراد بالرجال هنا على أقوال، فقيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فحالت حسناتهم بينهم وبين النار، وحالت سيئاتهم بينهم وبين الجنة، فجعلوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما شاء، ثم يدخلهم الجنة، عن ان عباس، وابن مسعود. وذكر أن بكربن عبد الله المزني قال للحسن: بلغني أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فضرب الحسن يده على فخذه، ثم قال: هؤلاء قوم جعلهم الله على تعريف أهل الجنة والنار، يميزون بعضهم من بعض، والله لا أدري لعل بعضهم معنا في هذا البيت. وقيل: إن الأعراف موضع عال على الصراط، عليه حمزة، والعباس، وعلي، وجعفر، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسواد الوجوه، عن الضحاك، عن ابن عباس، رواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره. وقيل: إنهم الملائكة في صورة الرجال، يعرفون أهل الجنة والنار، ويكونون خزنة الجنة والنار جميعا أو يكونون حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة، عن أبي مجلز. وقيل: إنهم فضلاء المؤمنين، عن الحسن، ومجاهد، وقيل: إنهم الشهداء، وهم عدول الآخرة، عن الجبائي. وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: (هم آل محمد عليه السلام، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه). وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: (الأعراف كثبان (1) بين الجنة والنار، فيقف عليها كل نبي، وكل خليفة نبي، مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سيق المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: أنظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنة، فيسلم المذنبون عليهم، وذلك قوله: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم). ثم أخبر سبحانه أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والإمام، وينظر هؤلاء المذنبون (1) الكثبان جمع الكثيب. التل من الرمل. (*)
[ 262 ]
إلى أهل النار، فيقولون: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، ثم ينادي أصحاب الأعراف، وهم الأنبياء والخلفاء أهل النار مقرعين لهم (1): ما أغنى عنكم جمعكم، وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم يعني أهؤلاء المستضعفين الذين كنتم تحقرونهم، تستطيلون بدنياكم عليهم، ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله لهم بذلك: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون. ويؤيده ما رواه عمر بن شيبة وغيره: (إن عليا عليه السلام قسيم النار والجنة) ورواه أيضا بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يا علي كأني بك يوم القيامة، وبيدك عصا عوسج، تسوق قوما إلى الجنة وآخرين إلى النار). وروى أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباته، قال: (كنت جالسا عند علي عليه السلام، فأتاه ابن الكوا فسأله عن هذه الآية، فقال: ويحك يا ابن الكوا ! نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار). وقوله (يعرفون كلا بسيماهم) يعني هؤلاء الرجال الذين هم على الأعراف، يعرفون جميع الخلق بسيماهم، يعرفون أهل الجنة بسيماء المطيعين، وأهل النار بسيماء العصاة (ونادوا أصحاب الجنة) يعني هؤلاء الذين على الأعراف، ينادون بأصحاب الجنة (أن سلام عليكم) وهذا تسليم وتهنئة وسرور، بما وهب الله لهم (لم يدخلوها، أي: لم يدخلوا الجنة بعد، عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة (وهم يطمعون) أن يدخلوها. وقيل: إن الطمع ههنا طمع يقين، مثل قول إبراهيم (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي)، وهو قول الحسن، وأبي علي الجبائي. (وإذا صرفت أبصارهم) يعني أبصار الذين على الأعراف (تلقاء أصحاب النار) إلى جهنم (2)، فنظروا إليهم، وإنما قال (صرفت أبصارهم) لأن نظرهم نظر عداوة، فلا ينظرون إليهم إلا إذا صرفت وجوههم إليهم (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) أي: لا تجمعنا وإياهم في النار. وروي أن في قراءة عبد الله بن (1) أقرع فلانا: كفه. (2) وفي النسخة المطبوعة بطهران (جهتهم) بدل (جهنم). (*)
[ 263 ]
مسعود، وسالم. (وإذا قلبت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا عائذا بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين). وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون 48 أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون 49. اللغة: النداء: امتداد الصوت ورفعه، ونادى نظير دعا، إلا أن الدعاء قد يكون بعلامة من غير صوت ولا كلام، ولكن بإشارة تنبئ عن معنى تعال، ولا يكون النداء إلا برفع الصوت، وهو مشتق من الندى. والخوف: توقع المكروه، وهو ضد الأمن، وهو الثقة بانتفاء المكروه. الاعراب: (هؤلاء) مبتدأ وخبره (الذين أقسمتم) والأولى أن يكون (الذين أقسمتم) خبر مبتدأ محذوف التقدير: أهؤلاء هم الذين أقسمتم، وقوله: (لا ينالهم الله برحمة) جواب أقسمتم. وهذا داخل في صلة (الذين) لأن الذين هنا، وصل بالقسم، وجوابه. ولا يجوز أن يكون (الذين) صفة (لهؤلاء) من وجهين أحدهما: إن المبهم لا يوصف إلا بالجنس والآخر: إنه يبقى المبتدأ بلا خبر. المعنى: ثم بين سبحانه خطاب أصحاب الأعراف، لأصحاب النار، فقال: (ونادى) أي: وسينادي (أصحاب الأعراف رجالا) من أصحاب النار (يعرفونهم بسيماهم) أي: بصفاتهم يدعونهم بأساميهم، وكناهم، ويسمون رؤساء المشركين، عن ابن عباس. وقيل: بعلاماتهم التي جعلها الله تعالى من سواد الوجوه، وتشويه الخلق، وزرقة العين، عن الجبائي. وقيل: بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا (1) (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) الأموال، والعدد في الدنيا (وما كنتم تستكبرون) أي: واستكباركم عن عبادة الله، وعن قبول الحق، وقد كنا نصحناكم فاشتغلتم بجمع المال، وتكبرتم فلم تقبلوا منا، فأين ذلك المال ؟ واين ذلك التكبر ؟ وقيل: معناه ما نفعكم جماعتكم التي استندتم إليها، وتجبركم عن الإنقياد لأنبياء الله (1) [ عن أبي مسلم ]. (*)
[ 264 ]
في الدنيا، عن الجبائي. (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) أي: حلفتم أنهم لا يصيبهم الله برحمة وخير، ولا يدخلون الجنة، كذبتم. ثم يقولون لهؤلاء (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) أي: لا خائفين، ولا محزونين على أكمل سرور، وأتم كرامة. والمراد بهذا تقريع الذين زروا (1) على ضعفاء المؤمنين، حتى حلفوا أنهم لا خير لهم عند الله، وقد اضطربت أقوال المفسرين في القائل لهذا القول، فقال الأكثرون: إنه كلام أصحاب الأعراف. وقيل: هو كلام الله تعالى. وقيل: كلام الملائكة. والصحيح ما ذكرناه، لأنه المروي عن الصادق عليه السلام. ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين 50 الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بأياتنا يجحدون 51. اللغة: الإفاضة: إجراء المائع من علو، ومنه قولهم أفاضوا في الحديث أي: أخذوا فيه من أوله لأنه بمنزلة أعلاه، وأفاضوا من عرفات الى المزدلفة: صاروا إليها. واللهو، طلب صرف الهم بما لا يحسن أن يطلب به. واللعب: طلب المرح بما لا يحسن أن يطلب به، واشتقاقه من اللعاب: وهو المرور على غير استواء. الاعراب: قال: (أن أفيضوا علينا الماء أو مما رزقكم الله) ثم قال (حرمهما) ولم يقل حرمه، وإن كان التقدير أفيضوا أحد هذين، لأنه جاء على قولهم جالس الحسن، أو ابن سيرين، فيجوز مجالستهما جميعا. وقوله: (الذين اتخذوا) يجوز أن يكون في موضع جر صفة (للكافرين)، ويحتمل أن يكون رفعا بالإبتداء، فيكون إخبارا من الله تعالى، على وجه الذم لهم. المعنى: ثم ذكر سبحانه كلام أهل النار، وما أظهروه من الإفتقار، بدلا مما (1) زرأ عليه عمله: عاتبه أو عابه عليه. (*)
[ 265 ]
كانوا عليه من الإستكبار، فقال (ونادى) أي: وسينادي (أصحاب النار) وهم المخلدون في النار، وفي عذابها (أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء، أي: صبوا علينا من الماء نسكن به العطش، أو ندفع به حر النار (أو مما رزقكم الله) أي: أعطاكم الله من الطعام، عن السدي، وابن زيد (قالوا) يعني أهل الجنة جوابا لهم (إن الله حرمهما على الكافرين). ويسأل، فيقال: كيف ينادي أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الجنة في السماء على ما جاءت به الرواية، وأهل النار في الأرض، وبينهما أبعد الغايات من البعد ؟ وأجيب عن ذلك بأنه يجوز أن يزيل الله تعالى عنهم ما يمنع من السماع، ويجوز أن يقوي الله أصواتهم فيسمع بعضهم كلام بعض. (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) أي: أعدوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به للهو واللعب، دون التدين به وقيل: معناه اتخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التدين به والتجنب من محظوراته لعبا ولهوا، فحرموا ما شاؤوا، واستحلوا ما شاؤوا بشهواتهم، (وغرتهم الحياة الدنيا) أي: اغتروا بها وبطول البقاء فيها، فكأن الدنيا غرتهم (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا التأهب والعمل، للقاء هذا اليوم، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقيل: معناه نعاملهم معاملة المنسي في النار، فلا نجيب لهم دعوة، ولا نرحم لهم عبرة، كما تركوا الإستدلال حتى نسوا العلم، وتعرضوا للنسيان، عن الجبائي (وما كانوا بآياتنا يجحدون) ما في الموضوعين بمعنى المصدر، وتقديره كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وكونهم جاحدين لآياتنا. واختلف في هذه الآية، فقيل: إن الجميع كلام الله تعالى، على غير وجه الحكاية، عن أهل الجنة، وتم كلام أهل الجنة عند قوله (حرمهما على الكافرين). وقيل: إنه من كلام أهل الجنة، إلى قوله: (الحياة الدنيا)، ثم استأنف تعالى الكلام بقوله: (فاليوم ننساهم). ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون 52 هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل
[ 266 ]
ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون 53. اللغة: الكتاب: صحيفة فيها (1) حروف مسطورة، تدل بتأليفها على معان مفهومة. والتفصيل، والتبيين، والتقسيم، نظائر. ينظرون أي: ينتظرون. والإنتظار هو الإقبال على ما يأتي بالتوقع له، وأصله الإقبال على الشئ بوجه من الوجوه. والتأويل: ما يؤول إليه حال الشئ. والنسيان: ذهاب المعنى عن النفس. واختلف المتكلمون فيه فقال أبو علي الجبائي: إنه معنى وقال أبو هاشم: ليس بمعنى، وإنما هو من قبيل السهو. وقالى القاضي: هو ذهاب العلم الضروري، وإليه ذهب المرتضى. الاعراب: (هدى ورحمة) يجوز أن يكون حالا، ويجوز أن يكون مفعولا له. وقال أبو مسلم: مصدر وضع موضع الحال، ولو قرئ بالرفع على الإستئناف، أو بالجر على البدل، لجاز. إلا أن القراءة بالنصب (فيشفعوا) نصب، لأنه جواب التمني بالفاء، وتقديره هل يكون لنا شفعاء فشفاعة، أو نرد بالرفع على تقدير: أو هل نرد فنعمل أي: هل يكون لنا رد. قال: فعمل أي: فعمل منا غير ما كنا عملناه. المعنى: لما ذكر حال الفريقين، بين سبحانه أنه قد أتاهم الكتاب والحجة، فقال: (ولقد جئناهم بكتاب) وهو القرآن (فصلناه) بيناه وفسرناه (على علم) أي: ونحن عالمون به، ولما كانت لفظة عالم مأخوذة من العلم، جاز أن يذكر العلم، ليدل به على العالم، كما أن الوجود في صفة الموجود كذلك (هدى ورحمة لقوم يؤمنون) أي: دلالة ترشدهم إلى الحق، وتنجيهم من الضلالة، ونعمة على جميع المؤمنين، لأنهم المنتفعون به (هل ينظرون الا تأويله) أي: هل ينتظرون إلا عاقبة الجزاء عليه، وما يؤول مغبة أمورهم إليه (2)، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي. وإنما أضاف إليهم مجازا، لأنهم كانوا جاحدين لذلك، غير متوقعين له. وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون لإيمانهم بذلك، واعترافهم به. وقيل: إن تأويله ما (1) [ كتابة والكتابة ]. (2) المغبة: عاقبة الشئ. (*)
[ 267 ]
وعدوا به من البعث والنشور، والحساب والعقاب، عن الجبائي (يوم يأتي تأويله) أي: يوم يأتي عاقبة ما وعدوا به (يقول الذين نسوه من قبل) أي: يقول الذين تركوا العمل به، ترك الناس له، وأعرضوا عنه، عن مجاهد، والزجاج (قد جاءت رسل ربنا بالحق) اعترفوا بأن ما جاءت به الرسل كان حقا، والحق ما شهد بصحته العقل. (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) تمنوا أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب (أو نرد، أي: أو هل نرد إلى الدنيا (فنعمل غير الذي كنا نعمل) من الشرك والمعصية (قد خسروا أنفسهم) أي: أهلكوها بالعذاب (وضل عنهم ما كانوا يفترون) على الأصنام بقولهم: إنها آلهة، وإنها تشفع لنا. إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير حفص، ويعقوب: (يغشي) بالتشديد. وكذلك في الرعد. والباقون بالتخفيف. وقرأ ابن عامر: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) كله بالرفع. والباقون بالنصب. الحجة: قال أبو علي: غشي فعل متعد إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة، أو بتضعيف العين، تعدى إلى مفعولين. وقد جاء التنزيل بالأمرين قال: (فغشاها ما غشى) فما في موضع نصب بأنه المفعول الثاني. وقال: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) فهذا منقول بالهمزة، والمفعول الثاني محذوف، والمعنى فأغشيناهم العمى، أو فقد الرؤية عنهم، فإذا جاء التنزيل بالأمرين، فكلا الفريقين قرأ بما جاء في التنزيل، وقوله: (يغشي الليل النهار) كل واحد من الليل والنهار منتصب بأنه مفعول به، والفعل قبل النقل غشي الليل النهار، ولم يقل يغشي النهار الليل، كما قال: (سرابيل تقيكم الحر)، ولم يقل تقيكم البرد، للعلم بذلك من الفحوى، ومثل هذا لا يضيق. وحجة من نصب (الشمس والقمر والنجوم) أنه حمله على خلق، كما قال:
[ 268 ]
(واسجدوا لله الذي خلقهن) وحجة ابن عامر قوله (وسخر لكم ما في السماوات (1) والأرض) ومما في السماء الشمس والقمر فإذا أخبر بتسخيرهما، حسن الإخبار عنهما به، كما أنك إذا قلت ضربت زيدا، استقام أن تقول، زيد مضروب. اللغة: قد بينا معنى الإستواء في سورة البقرة، عند قوله (ثم استوى إلى السماء). والعرش السرير، ومنه (ولها عرش عظيم) والعرش: الملك، يقال ثل عرشه (2) والعرش: السقف، ومنه قوله: (فهي خاوية على عروشها). والحثيث: السير السريع بالسوق. وأصل البركة: الثبات، ومنه براكاء القتال. الاعراب: قوله: (حثيثا) يجوز أن يكون حالا من الفاعل، أو المفعول، أو منهما جميعا، ومثله قوله: (فأتت به قومها تحمله) فان تحمله كذلك، ومثله قول الشاعر: متى ما تلقني فردين ترجف روانف أليتيك، وتستطارا (3) المعنى: لما ذكر سبحانه الكفار، وعبادتهم غير الله سبحانه، احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته، ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه، فقال مخاطبا لجميع الخلق: (إن ربكم الله) أي: إن سيدكم ومالككم، ومنشئكم ومحدثكم، هو الله (الذي خلق السموات) أي: أنشأ أعيانها وأبدعها لا من شئ، ولا على مثال، ثم أمسكها بلا عماد يدعمها (والأرض) أي: وأنشأ الأرض: أوجدها كذلك. (في ستة أيام) أي: في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على خلق أمثال ذلك في لحظة، ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة، ورتبهما على أيام الأسبوع، فابتدأ بالأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، فاجتمع له الخلق يوم الجمة، فلذلك سمي الجمعة، عن مجاهد، وقيل: إن ترتيب الحوادث على إنشاء شئ بعد شئ، على ترتيب أدل على كون فاعله عالما مدبرا يصرفه على أختياره، ويجريه على مشيئته. وقيل: إنه (1) والصواب (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض). (2) ثل عرشهم: ذهب عزهم. ثل الله عرشهم: هدم ملكهم. (3) رجف الشئ: تحرك واضطرب شديدا. الروانف جمع الرانفة: أسفل الإلية الذي يلي الأرض عند القعود. استطير فلان: ذعر. (*)
[ 269 ]
سبحانه علم خلقه التثبت والرفق في الأمور، عن سعيد بن جبير. (ثم استوى على العرش) أي: استوى أمره على الملك، عن الحسن. يعني استقر ملكه، واستقام بعد خلق السماوات والأرض، فظهر ذلك للملائكة، وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب، كقولهم استوى الملك على عرشه، إذا انتظمت أمور مملكته، وإذا اختل أمر ملكه، قالوا: ثل عرشه، ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير، ولا يجلس على سرير أبدا. قال الشاعر: إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم، وأودت كما أودت إياد وحمير (1) وقال: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب وقيل: معناه ثم استوى عليه بأن رفعه عن الجبائي. وقيل: معناه ثم قصد إلى خلق العرش عن الفراء وجماعة، واختاره القاضي، قال: دل بقوله ثم إن خلق العرش كان بعد خلق السماء والأرض. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: الإستواء غير مجهول، وكيفيته غير معلومة، والسؤال عنه بدعة. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: (أمروه كما جاء) أي: لا تفسروه (يغشي) أي: يلبس (الليل النهار) يعني يأتي بأحدهما بعد الآخر، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار، ولم يقل ويغشى النهار الليل، لأن الكلام يدل عليه، وقد ذكر في موضع آخر: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل). (يطلبه حثيثا) أي: يتلوه فيدركه سريعا، وهذا توسع يريد أنه يأتي أثره كما يأتي الشئ في أثر الشئ، طالبا له (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي: مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره وصنعه. خلقهن لمنافع العباد. ومن قرأ (مسخرات) بالنصب: فإنه منصوب على الحال (ألا له الخلق والأمر) إنما فصل بين الخلق والأمر، لأن فائدتهما مختلفة، لأنه يريد بالخلق أن له الإختراع. وبالأمر أن له أن يامر في خلقه بما أحب، ويفعل بهم ما شاء. (تبارك الله) أي: تعالى بالوحدانية فيما لم يزل، ولا يزال، فهو بمعنى تعالى (1) أودى: هلك. وإياد - بالكسر - وحمير: قبيلتان. (*)
[ 270 ]
بدوام الثبات. وقيل: معناه تعالى عن صفات المخلوقين والمحدثين. وقيل: تعالى بدوام البركة. أي: البركة في ذكر اسمه (رب العالمين) أي: خالقهم، ومالكهم، وسيدهم. ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين 55 ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين 56. القراءة: قرأ أبو بكر، عن عاصم: (خفية) بكسر الخاء. والباقون بضمها، وهما لغتان. اللغة: التضرع: التذلل، وهو إظهار الذل الذي في النفس، ومثله التخشع، ومنه التطلب لأمر من الأمور. وأصل التضرع: الميل في الجهات ذلا، من قولهم: ضرع الرجل يضرع ضرعا: إذا مال بأصبعه يمينا وشمالا ذلا وخوفا. ومنه ضرع الشاة، لأن اللبن يميل إليه. ومنه المضارعة: للمشابهة، لأنها تميل إلى شبه. والضريع: نبت لا يسمن، لأنه يميل مع كل داء. والخفية: خلاف العلانية. والهمزة في الإخفاء منقلبة عن الياء، كما أن الهمزة في الغناء منقلبة عن الياء، بدلالة الغنية. وقالوا: أخفيت الشئ إذا أظهرته، قال الشاعر: يخفي التراب بأظلاف ثمانية في أربع مسهن الأرض تحليل (1) ويمكن أن يكون أخفيت الشئ أي: أزلت إظهاره، وإذا أزلت إظهاره فقد كتمته، كما أن أشكيته بمعنى أزلت شكايته. والخفية: الإخفاء. والخيفة: الخوف والرهبة. والطمع: توقع المحبوب، وضده اليأس: وهو القطع بانتفاء المحبوب. الاعراب: (تضرعا وخفية): مصدران وضعا موضع الحال أي: ادعوه متضرعين ومخفين. وقوله: (خوفا وطمعا) في موضعع الحال أيضا، أي: خائفين (1) الظلف: ظفر كل ما اجتر وهو للبقرة، والشاة، والظبي، وشبهها بمنزلة القدم للإنسان. وقوله أربع أريد به اليدان والرجلان. والتحليل بمعنى التقليل، وأصله من تحليل اليمين بأقل المسمى. (*)
[ 271 ]
عقابه، وطامعين في رحمته. قال الفراء: إنما ذكر قريب، ولم يؤنث، ليفصل بين القريب من القرابة، والقريب من القرب. قال الزجاج: وهذا غلط، لأن كل ما قرب في مكان، أو نسب، فهو جار على ما يصيبه من التأنيث والتذكير، والوجه في تذكيره هنا أن الرحمة، والغفران، والعفو، في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: جائز أن يكون أراد بالرحمة هنا النظر، فلذلك ذكره، ومثله قول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت (1) أي: ما هذه الصيحة، وقول الآخر: إن السماحة، والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح المعنى: ثم أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده، بدعائه على وجه الخشوع كافة عبيده، فقال (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) أي: تخشعا وسرا. عن الحسن قال: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ثم قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الكثيرة في بيته، وعنده الزور (2) فلا يشعرون به، ولقد تداركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعل الناس يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس ! أربعوا على أنفسكم، أما إنكم لا تدعون الأصم، ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، إنه معكم،. وقيل: إن التضرع: رفع الصوت. والخفية: السر، أي: ادعوه علانية وسرا، عن أبي مسلم، ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره. (إنه لا يحب المعتدين) في الدعاء قيل: هو أن يطلب منازل الأنبياء، فيجاوز الحد في الدعاء، عن أبي مجلز. وقيل: هو الصياح في الدعاء، عن ابن جريج. (1) أزجاه: ساقه. (2) الزور بمعنى الزائر. (*)
[ 272 ]
وقيل: معناه لا يحب المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات. (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ومعناه النهي عن قتل المؤمنين، وإضلالهم، والعمل بالمعاصي في الأرض، بعد أن أصلحها الله بالكتب والرسل، عن السدي، والحسن، والضحاك، والكلبي، وقيل: بعد أن أمر الله بالإصلاح فيها، قال الحسن: وإصلاحها: اتباع أوامر الله تعالى فيها، وروي عنه أيضا أنه قال: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه. وقيل: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. وقيل: معناه لا تعصوا في الأرض، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم، عن عطية. وعلى هذا فيكون معنى قوله (بعد إصلاحها): بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. وروى ميسر عن أبي جعفر عليه السلام، في هذه الآية قال: (إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم). (وادعوه خوفا وطمعا) خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه. وقيل: خوفا من الرد، وطمعا في الإجابة - وقيل: خوفا من عدله، وطمعا في فضله، عن ابن جريج. وقيل: معناه خوفا من النيران، وطمعا في الجنان، عن عطا (إن رحمة الله قريب من المحسنين) معناه: إن إنعام الله قريب إلى فاعلي الإحسان. وقيل: إن رحمة الله أي ثوابه قريب من المطيعين، عن سعيد بن جبير. وقيل: المراد بالرحمة المطر، عن الأخفش، ويؤيده قوله: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) والإحسان: هو النفع الذي يستحق به الحمد. والإساءة: هي الضرر الذي يستحق به الذم. ومن قال إن المراد بالمحسنين من خلصت أفعاله من الإساءة، وكانت كلها حسنة، فالظاهر لا يقتضي ذلك، بل الذي يقتضيه أن رحمة الله واصلة إلى من فعل الإحسان وليس فيه أنه لا يصل إلى من جمع الإحسان والإساءة، وذلك موقوف على الدلالة. وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحاربا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك
[ 273 ]
نخرج الموتى لعلكم تذكرون 57 والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون 58. القراءة: قرأ ابن كثير: (الريح) واحدة و (نشرا) مضمومة النون والشين. وقرأ أهل المدينة، والبصرة: (الرياح) جمع، (نشر) بضم النون والشين، حيث كان. وقرأ أهل الكوفة، عن عاصم: (الريح نشرا) بفتح النون وسكون الشين. وقرأ ابن عامر: (الرياح نشرا) بضم النون وسكون الشين. وقرأ عاصم: (الرياح بشرا) بالباء ساكنة الشين. وقرأ أبو جعفر (إلا نكدا) بفتح الكاف. والباقون بالكسر. الحجة: قال أبو علي: إعلم أن (الريح) اسم على فعل، والعين منه واو. فانقلبت في الواحد للكسر، فأما في الجمع القليل فصحت، لأنه لا شئ فيه يوجب الإعلال، ألا ترى أن الفتحة لا توجب إعلال هذه الواو في نحو قوم وقول. فأما في الجمع الكثير: فرياح انقلبت ياء للكسرة التي قبلها، وإذا كانت انقلبت في نحو ديمة وديم، وحيلة وحيل، فإن تنقلب في رياح أجدر، لوقوع الألف بعدها، والألف تشبه الياء، والياء إذا تأخرت عن الواو، أوجب فيه الإعلال، وكذلك الألف لتشبهها بها. وقد يجوز أن يكون (الريح) على لفظ الواحد، ويراد به الكثرة كقولهم: كثر الدرهم والدينار، والشاة والبعير، و (إن الإنسان لفي خسر) ثم قال: (إلا الذين آمنوا)، وكذلك من قرأ (الريح نشرا) فأفرد ووصفه بالجمع فإنه حمله على المعنى. وقد أجاز أبو الحسن ذلك، وقال الشاعر: فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم (1) ومن نصب حمله على المعنى لأن المفرد يراد به الجمع، وهذا وجه قراءة ابن كثير. وقول من جمع (الريح) إذا وصفها بالجمع الذي هو (نشرا) أحسن، لأن الحمل على المعنى ليس بكثير، كالحمل على اللفظ. واما ما جاء في الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: إذا هبت ريح: (اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها (1) الحلوبة: المحلوبة. وخافية واحدة الخوافي وهي الريشات التي إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. (*)
[ 274 ]
ريحا)، فلأن عامة ما جاء في التنزيل على لفظ (الرياح) للسقيا والرحمة، كقوله تعالى (وأرسلنا الريأح لواقح)، و (يرسل الرياح مبشرات). وما جاء بخلاف ذلك، جاء على الإفراد كقوله (فأهلكوا بريح صرصر عاتية) (ريح فيها عذاب أليم)، قال أبو عبيدة: نشرا: متفرقة من كل جانب، وقال أبو زيد: أنشر الله الموتى إنشارا: إذا بعثها، وأنشر الله الريح مثل أحياها فنشرت هي أي حييت. والدليل على أن إنشار الريح، إحياؤها، قول المرار الفقعسي: وهبت له ريح الجنوب، وأحييت له ريدة يحيي المياه نسيمها (1) والريدة والريدانة: الريح، قال: (أودت به ريدانة صرصر). ومن قرأ (نشرا): يحتمل ضربين: يجوز أن يكون جمع ريح نشور، وريج ناشر، ويكون على معنى النسب، فإذا جعلته جمع نشور احتمل أمرين أحدهما: أن يكون النشور بمعنى المنشر، كما أن الركوب بمعنى المركوب، فكان المعنى ريح، أو رياح منشرة. ويجوز أن يكون جمع نشور يراد به الفاعل، مثل طهور، ونحوه من الصفات، ويجوز أن يكون نشرا جمع ناشر، كشاهد وشهد، ونازل ونزل، وقاتل وقتل. قال الأعشى: (إنا لأمثالكم يا قومنا قتل). وقول ابن عامر (نشرا) يحتمل الوجهين أحدهما: أن يكون على فعول وفاعل، وخفف العين كما خفف في كتب ورسل، ويكون جمع فاعل كنازل، ونزل، وعايط وعيط. وأما من قرأ (نشرا): فإنه يحتمل ضربين أحدهما: أن يكون المصدر حالا من الريح، فإذا جعلته حالا منها احتمل أمرين أحدهما: أن يكون النشر الذي هو خلاف الطي، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية. ويجوز على تأويل أبي عبيدة أن تكون متفرقة في وجوهها والآخر: أن يكون النشر الذي هو الحياة في نحو قوله (يا عجبا للميت الناشر، فإذا حملته على ذلك، وهو الوجه، كان المصدر يراد به الفاعل، كما تقول أتانا ركضا أي: راكضا. ويجوز أن يكون المصدر، يراد به المفعول، كأنه يرسل الرياح إنشارا أي: محياة، فحذف الزوائد من المصدر، كما قال: عمرك الله، وكما قال: (وأن يهلك فذلك كان قدري) أي: تقديري. (1) وفي اللسان (الممات) بدل (المياه). (*)
[ 275 ]
والضرب الآخر: أن يكون نشرا ينتصب انتصاب المصدر من باب صنع الله، لأنه إذا قال يرسل الرياح، دل هذا الكلام على تنشر الرياح نشرا، أو تنشر نشرا من قوله (كما تنشر بعد الطية الكتب) ومن نشرت الريح كما ينشر الميت. وقرأ عاصم (بشرا) جمع بشير وبشر من قوله (يرسل الرياح مبشرات) أي: تبشر بالمطر والرحمة. وجمع بشيرا على بشر، ككتاب وكتب. الوجه في قراءة أبي جعفر نكدا أنه لغة في نكد، قال الزجاج: ويجوز فيه وجهان آخران: نكدا ونكدا، إلا أنه لم يثبت بهما رواية. اللغة: الإقلال: حمل الشئ بأسره، حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه، يقال: استقل بحمله استقلالا وأقله إقلالا. والسحاب: الغيم الجاري في السماء، يقال: سحبته فانسحب. والسوق: حث الشئ في السير حتى يقع الإسراع فيه، يقال ساقه واستاقه. والبلد: هو الأرض التي تجمع الخلق الكثير. والبادية: كالبلد للأعراب ونحوهم من الأكراد. والنكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل، يقال: نكد، ينكد، نكدا، ونكدا، فهو نكد، ونكد. وقد نكد: إذا سئل فبخل، قال الشاعر: وأعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد المعنى: لما أخبر الله سبحانه في الآية المتقدمة، بأنه خلق السماوات والأرض، وما فيها من البدائع، عطف على ذلك بقوله (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) تعداد النعمة على بريته أي: يطلقها ويجريها منتشرة في الأرض، أو محيية للأرض، أو مبشرة بالغيث على ما تقدم بيانه، قدام رحمته، وهو المطر (حتى إذا أقلت) أي: حملت. وقيل: رفعت (سحابا ثقالا) بالماء (سقناه لبلد ميت) أي: إلى بلد ميت. وموت البلد: تعفي مزارعه، ودروس مشاربه، لا نبات فيه ولا زرع، ولم يقل سقناها، لأنه رد الضمير إلى لفظ السحاب، والرياح تجمع السحاب من المواضع المختلفة، حتى إذا اتصل السحاب، أنزل المطر. (فأنزلنا به الماء) يجوز أن يكون الضمير في (به) راجعا إلى البلد أي: فأنزلنا بالبلد الماء، ويجوز أن يكون راجعا إلى السحاب، أي: فأنزلنا بالسحاب الماء (فأخرجنا به) أي: بهذا الماء المنزل، أو بهذا البلد (من كل الثمرات)
[ 276 ]
يحتمل أن يكون (من) للتبعيض، ويحتمل أن يكون لتبيين الجنس (كذلك نخرج الموتى) أي: كما أخرجنا الثمرات، كذلك نخرج الموتى، بأن نحييها بعد موتها (لعلكم تذكرون) أي: لكي تتذكروا، وتتفكروا، وتعتبروا، بأن من قدر على إنشاء الأشجار والثمار في البلد الذي لا ماء فيه، ولا زرع، بريح يرسلها، فإنه يقدر على إحياء الأموات بأن يعيدها إلى ما كانت عليه، ويخلق فيها الحياة والقدرة. واستدل أبو القاسم البلخي بهذه الآية على أن كثيرا من الأشياء يكون بالطبع، قال لأن الله تعالى بين أنه يخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، ثم قال: ولا ينبغي أن ينكر ذلك، وإنما ينكر قول من يقول بقدم الطبائع، وأن الجهادات فاعلة، فأما من قال إن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأشياء غير أنه يفعلها تارة مخترعة بلا وسائط، وتارة يفعلها بوسائط، فلا كراهة في ذلك، كما تقول السبب والمسبب. وأنكر عليه هذا القول أكثر أهل العدل، وقالوا: إن الله سبحانه أجرى العادة بإخراج النبات عند إنزال المطر مع قدرته على إخراج ذلك، من غير مطر، لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح الدينية والدنيوية. ثم بين سبحانه حال الأرض التي يأتيها المطر فقال (والبلد الطيب) معناه: والأرض الطيب ترابه (يخرج نباته) أي: زروعه خروجا، حسنا، ناميا، زاكيا، من غير كد، ولا عناء (بإذن ربه) بأمر الله تعالى، وإنما قال (بإذن ربه) ليكون أدل على العظمة، ونفوذ الإرادة، من غير تعب، ولا نصب (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) أي: والأرض السبخة التي خبث ترابها، لا يخرج ريعها إلا شيئا قليلا، لا ينتفع به، عن السدي. ومعناه إلا عسرا ممتنعا من الخروج. ولو أراد سبحانه أن يخرج من الأرض النكدة أكثر مما يخرج من الأرض الطيبة لأمكنه، إلا أنه أجرى العادة بإخراجه من الأرض الطيبة، ليكون ذلك باعثا للإنسان على طلب الخير من مظانه، ودلالة له على وجوب الإجتهاد في الطاعات، فإذا حمل نفسه على ابتغاء الخير اليسير الذي لا يدوم، وربما لا يحصل، فأن يبتغي النعيم الدائم الذي لا يفنى، ولا يبيد بالأعمال الصالحة أولى. (كذلك نصرف الآيات) أي: الدلالات المختلفة (لقوم يشكرون) معناه: كما بينا هذا المثل نبين الدلالات للشاكرين. وقيل: كما صرفنا الآيات لكم بالإتيان
[ 277 ]
بآية بعد آية، وحجة بعد أخرى، نصرفها لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم، ومن إنعامه عليهم: هدايته إياهم لما فيه نجاتهم، وتبصيرهم سبيل أهل الضلال، وأمره إياهم تجنب ذلك، والعدول عنه. وروي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن أن هذا مثل ضربة الله تعالى للمؤمن والكافر، فأخبر بأن الأرض كلها جنس واحد، إلا أن منها طيبة تلين بالمطر، ويحسن نباتها، ويكثر ريعها، ومنها سبخة لا تنبت شيئا، فإن أنبتت فما لا منفعة فيه، وكذلك القلوب كلها لحم ودم، ومنها لين يقبل الوعظ، ومنها قاس جاف لا يقبل الوعظ، فليشكر الله تعالى من لان قلبه لذكره. لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم 59 قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين 60 قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين 61 أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون 62 أو عجبتم أن جائكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا لعلكم ترحمون 63 فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بأياتنا إنهم كانوا قوما عمين 64. القراءة: قرأ أبو جعفر والكسائي (من إله غيره) بخفض الراء حيث وقع، والباقون بالرفع. وقرأ أبو عمرو وحده: (أبلغكم) بتخفيف اللام. والباقون بتشديدها. الحجة: قال أبو علي: وجه قراءة من جر أنه جعل (غيرا) صفة (لإله) على اللفظ، وجعل لكم مستقرا، أو جعله غير مستقر، وأضمر الخبر، والخبر: (ما لكم) في الوجود، أو في العالم، أو نحو ذلك، لا بد من هذا الإضمار إذا لم نجعل لكم مستقرا، لأن الصفة والموصوف لا يستقبل بهما كلام.
[ 278 ]
وحجة من رفع قوله (ما من إله إلا الله) فكما أن قوله (إلا الله) بدل من قوله (من إله) كذلك قوله (غيره) يكون بدلا من قوله (من إله) و (غيره) يكون بمنزلة الإسم الذي بعد إلا. وهذا الذي ذكرنا أولى أن يحمل عليه من أن يجعل (غير) صفة لإله على الموضع. فإن قلت: ما تنكر أن يكون (إلا الله) صفة لقوله (من إله) على الموضع كما كان قوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله) صفة لآلهة ؟ قيل: إن (إلا) بكونها استثناء أعرف وأكثر من كونها صفة، وإنما جعلت صفة على التشبيه بغير، فإذا كان الإستثناء أولى، حملنا هل من خالق غير الله، على الإستثناء من المنفي في المعنى، لأن قوله: هل من خالق غير الله بمنزلة ما من خالق غير الله. ولا بد من إضمار الخبر. كأنه ما من خالق للعالم غير الله (1) ويؤكد ذلك: (لا إله إلا الله) فهذا استثناء من منفي، مثل لا أحد في الدار إلا زيد. فأما قراءة حمزة والكسائي: (هل من خالق غير الله) فعلى أن جعلا (غير) صفة للخالق، وأضمرا الخبر، كما تقدم، والباقون جعلوه استثناء بدلا من المنفي، وهو الأولى عندنا، لما تقدم من الإستشهاد عليه من قوله (ما من إله إلا الله) و (ابلغكم) فالقول فيه أن بلغ يتعدى إلى مفعول في نحو بلغني الخبر، فإذا نقلته تعدى إلى مفعولين. والنقل يكون بالهمزة، وبتضعيف العين، وكلا الأمرين جاء به التنزيل، قال سبحانه (يا أيها الرسول بلغ) إلى قوله: (فما بلغت رسالته) وقال: (فإن تولوا فقد ابلغتكم) (وليعلم أن قد أبلغوا). اللغة: الملأ: الجماعة من الرجال خاصة، ومثله القوم، والنفر، والرهط، عن الفراء. وسموا بذلك، لأنهم يملأون المحافل. والقوم: الجمع الذي يقوم بالأمر، سموا بالمصدر. والإبلاغ: إيصال ما فيه بيان، وإفهام. ومنه البلاغة وهو إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورة من اللفظ. والبليغ: الذي ينشئ البلاغة، لا الذي يأتي بها على وجه الحكاية، والفرق بين الإبلاغ والأداء أن الأداء: إيصال الشئ على الوجه الذي يجب فيه، ومنه فلان أدى الدين أداء، وفلان حسن الأداء لما يسمع، وحسن الأداء للقراءة. والرسالات: جمع رسالة، وهي جملة من البيان (1) أي كأنه قال ما من خالق للعالم غير الله. (*)
[ 279 ]
يحملها القائم بها ليؤديها إلى غيره. والنصيحة: إخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة. والفلك والسفن، يقع على الواحد، وعلى الجمع، وأصله الدور، مشتق من قولهم فلك ثدي الجارية: إذا استدار، ومنه الفلكة، والفلك. الاعراب: (يا قوم): حذفت ياء الإضافة لقوة النداء على التغيير، حتى يحذف للترخيم، فلما جاز أن يحذف في غير النداء للإجتزاء بالكسرة منها، لزم أن يحذف فيه لاجتماع سببين فيها (لكني) أصله لكنني، حذفت النون لاجتماع النونات، ويجوز الإتمام في غير القرآن، لأنه الأصل، وكذلك أني وكأني، فأما ليتني فلا يجوز فيه إلا إثبات النون، لأنه لم يعرض فيه علة الحذف، وأما لعلي فيجوز فيه الوجهان، لأن اللام قريبة من النون، (رسول من رب العالمين): من هنا، لابتداء الغاية أي: هو ابتدائي بالرسالة، وكل مبتدأ بفعل، فذلك الفعل منه. وأصل (من) أن يكون لابتداء الغاية. المعنى: لما بين سبحانه الأدلة على وحدانيته، ذكر بعده حال من عاند وكذب رسله، تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتثبيتا له على احتمال الأذى من قومه، وتحذيرا لهم عن الإقتداء بأولئك، فينزل بهم ما نزل بهم، وابتدأ بقصة نوح، فقال: (لقد أرسلنا نوحا إلى قوهه): اللام للقسم، وقد تأكيد للكلام، وتقديره حقا أقول: إنا حملنا نوحا الرسالة إلى قومه. وتحميل الرسالة: تكليفه القيام بها، وهي منزلة جليلة شريفة، يستحق الرسول بتقبله إياها، وقيامه بأعبائها من التعظيم والإجلال، ما لا يستحق بغيره. وهو نوح بن ملك بن متوشلخ بن اخنوخ النبي، وهو إدريس عليه السلام، وهو أول نبي بعد إدريس. وقيل: إنه كان نجارا، وولد في العام الذي مات فيه آدم عليه السلام قبل موت آدم في الألف الأولى. وبعث في الألف الثانية، وهو ابن أربعمائة. وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وكان في تلك الألف ثلاثة قرون عايشهم وعمر فيهم، وكان يدعوهم ليلا ونهارا، فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا، وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون ثم شكاهم إلى الله تعالى، ففرغت له الدنيا، وعاش بعد ذلك تسعين سنة، وروي أكثر من ذلك أيضا.
[ 280 ]
(فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره): أخبر سبحانه أنه أمرهم بعبادة الله وحده، لأنه لا إله لهم غيره، ولا معبود لهم سواه، ثم أوعدهم على مخالفته فقال (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) إنما قال أخاف، ولم يقطع، لأنه جوز أن يؤمنوا. ثم ذكر سبحانه جوابهم، فقال: (قال الملأ من قومه) أي: الجماعة من قومه، عن الجبائي. وقيل: الأشراف والرؤساء الذين يملأون الصدور هيبا وجمالا، عن أبي مسلم (إنا لنراك في ضلال مبين) قيل: معناه رؤية القلب الذي هو العلم، أي: إنا لنعلمك في ذهاب من الحق بين ظاهر، لدعائك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام. وقيل: معناه رؤية البصر أي: نراك بأبصارنا على هذه الحال. وقيل: إنه من الرأي الذي هو غالب الظن، فكأنه قال: إنا لنظنك. (قال يا قوم ليس بي ضلالة) هذا إخبار عما أجابهم به نوح عليه السلام أي: ليس بي عدول عن الحق، ولا ذهاب عن الصواب، يقال: به ضلالة، لأن معناه عرض به ذاك، كما يقال به جنة، ولا يجوز أن يقال: به معرفة، لأنها ليست مما يعرض لصاحبها، ولكن يصح أن يقال: به جوع، وبه عطش (ولكني رسول من رب العالمين) الذي يملك كل شئ (أبلغكم رسالات ربي) أي: أؤدي إليكم ما حملني ربي من الرسالات. (وأنصح لكم) في تبليغ الرسالة على وجهها، من غير تغيير، ولا زيادة، ولا نقصان، (وأعلم من الله) أي: من صفات الله وتوحيده، وعدله، وحكمته (ما لا تعلمون) وقيل: أعلم من دين الله. وقيل: أعلم من قدرته وسلطانه، وشدة عقابه، ما لا تعلمونه، والكل محتمل. وقيل: إنما قال ذلك لأن قوم نوح لم يسمعوا قط أن الله سبحانه، عذب قوما، وقد سمعت الأمم بعدهم هلاك من قبلهم، ألا ترى أن هودا قال: (جعلكم خلفاء من بعد نوح) وقال شعيب: (مثل ما أصاب نوح) (أو عجبتم) هذه همزة استفهام دخلت على واو العطف، على جهة الإنكار، فبقيت الواو مفتوحة، كما كانت. فالكلام مستأنف من وجه متصل من وجه. (أن جاركم ذكر) أي: لأن جاءكم بيان، وقيل: نبوة ورسالة (من ربكم على رجل منكم لينذركم) أي على بشر مثلكم ليخوفكم العقاب إن لم تؤمنوا، وقيل: إن (على) هنا بمعنى مع أي: مع رجل منكم تعرفون مولده ومنشأه، ليعلمكم
[ 281 ]
بموضع المخافة، وإنما أنكر عليهم التعجب، لأنه ليس في إرساله إليهم، ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، موضع تعجب. وإنما العجب من إهمال أمرهم، كيف ووجوب الرسالة إذا كان للخلق فيها مصلحة أمر قد اقتضته الحكمة، ودل عليه العقل. (ولتتقوا) أي: ولتتقوا الشرك والمعاصي (ولعلكم ترحمون) أي: ولكي ترحموا. وقال الحسن: ولتتقوه رجاء أن يرحمكم (فكذبوه) أي: فكذبوا نوحا فيما دعاهم إليه (فأنجيناه والذين معه في الفلك) أي: فخلصناه والذين كانوا معه في السفينة، وهم المؤمنون من عذاب الغرق (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) أي: وأهلكنا الذين كذبوا بدلائلنا بالماء (إنهم كانوا قوما عمين) عن الحق أي: ذاهبين عنه، جاهلين به. يقال: رجل عم: إذا كان أعمى القلب. ورجل أعمى في البصر، قال زهير: (ولكنني عن علم ما في غد عمي) (1) قصة نوح عليه السلام: قد ذكرنا نسبه، وكان من قصته ما رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه، بإسناده في كتاب النبوة مرفوعا إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: لما بعث الله عزوجل نوحا، دعا قومه علانية، فلما سمع عقب هبة الله بن آدم من نوح، تصديق ما في أيديهم من العلم، وعرفوا أن العلم الذي في أيديهم، هو العلم الذي جاء به نوح، صدقوه وسلموا له. فأما ولد قابيل فإنهم كذبوه، وقالوا: إن الجن كانوا قبلنا، فبعث الله إليهم ملكا، فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث ملكا من الملائكة. حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر. وفي حديث وهب بن منبه: إن نوحا عليه السلام كان أول نبي نبأه الله، عز وجل، بعد إدريس. وكان إلى الأدمة ما هو دقيق الوجه، في رأسه طول، عظيم العينين، دقيق الساقين، طويلا، جسيما، دعا قومه إلى الله حتى انقرضت ثلاثة قرون منهم، كل قرن ثلاثمائة سنة، يدعوهم سرا وجهرا، فلا يزدادون إلا طغيانا، ولا يأتي منهم (1) وقبله: (وأعلم علم اليوم والأمس قبله). (*)
[ 282 ]
قرن، إلا كان أعتى على الله من الذين قبلهم. وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير، فيقيمه على رأس نوح، فيقول: يا بني إن بقيت بعدي، فلا تطيعن هذا المجنون. وكانوا يثورون إلى نوح، فيضربونه حتى يسيل مسامعه دما، وحتى لا يعقل شيئا مما يصنع به، فيحمل فيرمى به في بيت، أو على باب داره. مغشيا عليه. فأوحى الله تعالى إليه: إنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن. فعندها أقبل على الدعاء عليهم، ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك، فقال: (رب لا تذر على الأرض) إلى آخر السورة. فأعقم الله تعالى أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ولبثوا أربعين سنة، لا يولد لهم ولد، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم، وأصابهم الجهد والبلاء، ثم قال لهم نوح: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) الآيات، فأعذر إليهم، وأنذر، فلم يزدادوا إلا كفرا. فلما يئس منهم، أقصر عن كلامهم، ودعائهم، فلم يؤمنوا وقالوا: (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا) الآية. يعنون آلهتهم، حتى غرقهم الله وآلهتهم التي كانوا يعبدونها. فلما كان بعد خروج نوح من السفينة، وعبد الناس الأصنام، سموا أصنامهم أصنام قوم نوح، فاتخذ أهل اليمن يغوث ويعوق، وأهل دومة الجندل صنما سموه ودا، واتخذت حمير صنما سمته نسرا، وهذيل صنما سموه سواعا، فلم يزالوا يعبدونها حتى جاء الإسلام. وسنذكر قصة السفينة والغرق في سورة هود إن شاء الله تعالى. وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه، عن علي بن أحمد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا سهل بن زياد الأدمي، قال: حدثنا عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: سمعت علي بن محمد عليه السلام يقول: عاش نوح عليه السلام ألفين وخمسمائة سنة، وكان يوما في السفينة نائما، فهبت ريح فكشفت عورته، فضحك حام ويافث، وزجرهما سام، ونهاهم عن الضحك، وكان
[ 283 ]
كلما غطى سام ما يكشفه الريح، كشفه حام ويافث. فانتبه نوح فرآهم يضحكون، فقال: ما هذا ؟ فأخبره سام بما كان، فرفع نوح يده إلى السماء يدعو، فقال: اللهم غير ماء صلب حام، حتى لا يولد له إلا السودان. اللهم غير ماء صلب يافث، فغير الله ماء صلبيهما، فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا، وجميع الترك، والسقلاب، ويأجوج، ومأجوج، والصين من يافث. وجميع البيض سواهم من سام. وقال نوح لحام ويافث: جعل الله ذريتكما خولا (1) لذرية سام إلى يوم القيامة، لأنه بر بي وعققتماني، فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذريتكما ظاهرة، وسمة البر بي في ذرية سام ظاهرة، ما بقيت الدنيا. قال الشيخ أبو جعفر بن بابويه القمي، رحمه الله: ذكر يافث في هذا الخبر غريب لم أروه إلا من هذا الطريق، وجميع الأخبار التي رويتها في هذا المعنى، فيها ذكر حام وحده، وأنه ضحك لما انكشفت عورة أبيه، وإن ساما ويافث، كانا في ناحية، فبلغهما ما صنع، فأقبلا ومعهما ثوب، وهما معرضان، وألقيا عليه الثوب، وهو نائم، فلما استيقظ أوحى الله عز وجل إليه الذي صنع حام، فلعن حاما، ودعا عليه. وروى إبراهيم بن هاشم، عن علي بن الحكم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: عاش نوح ألفي سنة، وخمسمائة سنة، منها ثمانمائة وخمسين قبل أن يبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما، وهو في قومه يدعوهم، ومأتي عام في عمل السفينة، وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة، ونضب الماء، فمصر الأمصار، وأسكن ولده البلدان. ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس، فقال: السلام عليك يا ملك الموت. فقال: جئت لأقبض روحك. فقال له: تدعني أتحول من الشمس إلى الظل ؟ فقال له: نعم. قال: فتحول نوح. ثم قال له يا ملك الموت كان ما مر بي من الدنيا، مثل تحولي من الشمس إلى الظل، فامض لما أمرت به. قال: فقبض روحه عليه السلام. (1) الخول: العبيد. (*)
[ 284 ]
وإلى عاد أخوهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون 65 قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين 66 قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين 67 أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين 68 أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا إلاء الله لعلكم تفلحون 69 قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد إباؤنا فأتنا بما تعدنا أن كنت من الصادقين 70 قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وإباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين 71 فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بأياتنا وما كانوا مؤمنين 72. اللغة: السفاهة: خفة الحلم. وثوب سفيه: إذا كان خفيفا. قال مؤرج: السفاهة الجنون بلغة حمير. والفرق بين العجب والعجب أن العجب بضم العين: عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يعجب منها. وليس كذلك العجب بفتح العين والجيم، لأنه قد يكون حسنا. وفي المثل: (لا خير فيمن لا يتعجب من العجب وأرذل منه المتعجب من غير عجب). وخلفاء: جمع خليفة، وهو الكائن بدل غيره ليقوم مقامه في تدبيره. وهذا الجمع على التذكير، لا على اللفظ، مثل ظريف وظرفاء. وجائز أن يجمع على خلائف على اللفظ، مثل ظريفة وظرائف. والآلاء: النعم، وفي واحدها أربع لغات: إلى مثل معى مثل قفا، وألي مثل رمي، وإلي مثل حسي. قال الأعشى:
[ 285 ]
أبيض لا يرهب الهزال، ولا يقطع رحما، ولا يخون إلى وروي إلي أيضا. وقيل: إنه أراد بقوله الا إلا بالتشديد فخففه، وهو العهد والقرابة. والوقوع، والسقوط، والنزول، نظائر. والرجس: العذاب. وقيل الرجس: الزجر قلبت الزاي سينا، كما قلبت السين تاء، في قول الشاعر: ألا لحى الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات (1) أي: الناس، (ليسوا بأعفاف ولا أكيات): يريد أكياس. الاعراب: انتصب (أخاهم هودا) بقوله (أرسلنا) في أول الكلام، لأن تفصيل القصص يقتضي ذلك، والتقدير: وأرسلنا إلى عاد اخاهم هودا، وصرف هود لخفته، كما صرفت جمل لخفتها. (يا قوم) موضع (قوم) نصب، لأنه نداء مضاف، ولو وصفته لم يجز في صفته إلا النصب. قوله (ولكني رسول) استدرك بلكن، لأن فيه معنى ما دعاني إلى أمركم السفه، ولكن دعاني إليه أني رسول. المعنى: ثم عطف سبحانه على قصة نوح، قصة هود، فقال (وإلى عاد) وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (أخاهم) يعني في النسب، لا في الدين (هودا) وهو هود بن شالخ بن أرفحشد بن سام بن نوح عليه السلام، عن محمد بن إسحاق. وقيل: هو هود بن عبد الله بن رياح بن جلوث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، عن غيره. وكذا هو في كتاب النبوة. وإنما قال (أخاهم)، لأنه أبلغ في الحجة عليهم، إذا اختار الرسالة إليهم من هو من قبيلتهم، ليكونوا إليه أسكن، وبه آنس، وعنه أفهم (قال) هود (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) قد مر تفسيره (أفلا تتقون) استفهام يراد به التقرير (قال الملأ الذين كفروا من قومه) قد مر تفسيره (إنا لنراك) يا هود (في سفاهة) أي: جهالة، ومعناه نراك سفيها، إلا أنه قال (في سفاهة) على جهة المبالغة أي: نراك منغمسا في سفاهة (وإنا لنظنك من الكاذبين) أي: كذبوه ظانين لا متيقنين، عن الحسن، والزجاج، وقيل: إن المراد بالظن هنا: العلم، كما في قول الشاعر: (1) لحى الله فلانا: قبحه ولعنه. (*)
[ 286 ]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد (1) ومعناه أيقنوا (قال) هود (يا قوم ليس بي سفاهة) أي: لم يحملني على هذا الإخبار السفاهة (ولكني رسول من رب العالمين) هذا تعليم من الله تعالى بأن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح، ولكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف إليه عن النفس (أبلغكم رسالات ربي) أي: نبوات ربي. إنما قال (رسالات) هنا وفيما تقدم بلفظ الجمع، لأن الرسالة متضمنة لأشياء كثيرة من الأمر والنهي والترغيب، والترهيب، والوعد والوعيد، وغير ذلك، فأتى بلفظ يدل عليها. وإذا قال رسالة ربي بلفظ الواحد، أتى بلفظة مشتملة على هذه الأشياء بطريق الإجمال. (وأنا لكم ناصح) فيما أدعوكم إليه من طاعة الله وتوحيده (أمين) أي: ثقة مأمون في تأدية الرسالة، فلا أكذب، ولا أغير، عن الضحاك، والجبائي. وقيل: معناه كنت مأمونا فيكم، فكيف تكذبونني، عن الكلبي (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم) أي: لا عجب في أن جاءكم نبوة. وقيل: معجزة وبيان (على رجل منكم) في النسب نشأ بينكم. وقيل: إن معناه كيف تتعجبون من بعثة رجل منكم، ولا تتعجبون من عبادة حجر (لينذركم) ليخوفكم. (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) معناه: واذكروا نعمة الله عليكم بأن جعلكم سكان الأرض من بعد قوم نوح، وهلاكهم بالعصيان (وزادكم في الخلق بسطة) أي: طولا وقوة عن ابن عباس، وجماعة. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. وقيل: كان أقصرهم إثني عشر ذراعا، وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: كانوا كأنهم النخل الطوال، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيديه، فيهدم منه قطعة. وقيل: معناه وزاد في خلقكم بسطة، فكانوا أطول من غيرهم بمقدار أن يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا. (فاذكروا آلاء الله) أي: نعم الله (لعلكم تفلحون) أي: لكي تفوزوا بنعيم الدنيا والآخرة (قالوا أجئتنا) يا هود (لنعبد الله وحده ونذر) عبادة (ما كان يعبد آباؤنا) من الأصنام (فائتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من الصادقين) في أنك (1) المدجج: اللابس السلاح. والسراة بمعنى الأشراف. والمسرد: الدرع. (*)
[ 287 ]
رسول الله الينا، وفي نزول العذاب بنا، لو لم نترك عبادة الأصنام. (قال) هود لقومه جوابا عما قالوه: (قد وقع عليكم) أي: وجب عليكم، وحل بكم لا محالة، فهو كالواقع (من ربكم رجس) أي: عذاب (وغضب) والغضب من الله: إرادة العذاب بمستحقيه، ومثله السخط (أتجادلونني) أي: أتناظرونني وتخاصمونني (في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) أي: في أصنام صنعتموها أنتم وآباؤكم، واخترعتم لها أسماء سميتموها آلهة، وما فيها من معنى الإلهية شئ. وقيل: معناه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر، ولآخر أنه يأتيهم بالرزق، ولآخر أنه يشفي المرض، ولآخر أنه يصحبهم في السفر. (ما نزل الله بها من سلطان) أي: حجة وبرهان وبينة، وعليكم البينة بما ادعيتم وسميتم، وليس علي أن آتيكم بالبينة على ما تعبدون من دون الله، بل ذلك عليكم، وعلي أن آتيكم بسلطان مبين، إن الله تعالى هو المعبود، ولا معبود سواه، وإني رسوله (فانتظروا) عذاب الله، فإنه نازل بكم (إني معكم من المنتظرين) لنزوله بكم، عن الحسن، والجبائي، والمفسرين (فأنجيناه والذين معه برحمة منا) أي: فخلصنا هودا والذين كانوا آمنوا معه من العذاب، بإخراجنا إياهم من بينهم، قبل إنزال العذاب بهم (وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) أي: واستأصلنا الذين كذبوا بحججنا بعذاب الإستئصال، فلم يبق لهم نسل، ولا ذرية (وما كانوا مؤمنين) بالله ورسوله، وإنما قال ذلك ليبين أنه كان المعلوم من حالهم، أنه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا، كما قال في موضع آخر: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا) وفي هذه الآية دلالة على أن قوم هود استؤصلوا، فلا عقب لهم. قصة هود: جملة ما ذكره السدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما من المفسرين، في قصة هود أن عادا كانوا ينزلون اليمن، وكانت مساكنهم منها بالشحر والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج والدهناء ويبرين ما بين عمان إلى حضرموت. وكان لهم زرع ونخل، ولهم أعمار طويلة، وأجساد عظيمة، وكانوا أصحاب أصنام يعبدونها، فبعث الله تعالى إليهم هودا نبيا، وكان من أوسطهم نسبا، وأفضلهم حسبا، فدعاهم إلى التوحيد، وخلع الأنداد، فأبوا عليه، وكذبوه، وآذوه، فأمسك الله عنهم المطر سبع سنين، وقيل: ثلاث سنين، حتى قحطوا.
[ 288 ]
وكان الناس في ذلك الزمان، إذا نزل بهم بلاء أو جهد، التجأوا إلى بيت الله الحرام بمكة، مسلمهم وكافرهم، وأهل مكة يومئذ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكانت أمه من عاد، فبعث عاد وفدا إلى مكة، ليستسقوا لهم، فنزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة، خارجا من الحرم، فأكرمهم، وأنزلهم، وأقاموا عنده شهرا، يشربون الخمر. فلما رأى معاوية طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم، شق ذلك عليه، وقال: هلك أخوالي، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه. وشكا ذلك إلى قينتيه اللتين كانتا تغنيانهم، وهما الجرادتان، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية بن بكر: ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما (1) فيسقي أرض عاد، إن عادا قد أمسوا ما يبينون الكلاما وإن الوحش تأتيهم جهارا، ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم نهاركم، وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم، ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء، فادخلوا هذا الحرم، واستسقوا لهم. فقال رجل منهم: قد آمن هود سرا، والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم سقيتم ! فزجروه، وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، وكان قيل بن عنزر رأس وفد عاد، فقال: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سبحانه سحابا ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء. ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل ! اختر لنفسك ولقومك. فاختار السحابة السوداء التي فيها العذاب، فساق الله سبحانه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد. فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) فسخرها الله تعالى (1) قيل: اسم رجل من عاد. قوله فهينم أمر من هينم أي فادع الله تعالى. (*)
[ 289 ]
عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي: دائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، وما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلتذ النفوس، وإنها لتمر من عاد بالظعن، ما بين السماء والأرض، وتدمغهم (1) بالحجارة، فأهلكتهم. وروى أبو حمزة الثمالى، عن سالم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (إن لله، تبارك وتعالى، بيت ريح مقفل عليه، لو فتح لأذرت (2) ما بين السماء والأرض، ما أرسل على قوم عاد إلا قدر الخاتم). وكان هود، وصالح، وشعيب، واسماعيل، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يتكلمون بالعربية. وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم إية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم 73 واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا إلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين 74 قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون 75 قال الذين استكبروا إنا بالذي إمنتم به كافرون 76 فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين 77 فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في داره جاثمين 78 فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم (1) دمغه: شجه حتى بلغت الشجة دماغه. (2) أذرته الريح اذراءا: أطارته وأذهبته. (*)
[ 290 ]
رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين 79. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: (وقال الملأ) بإثبات الواو. والباقون بغير الواو. الحجة: قد تقدم القول في نحو هذا الواو، وإن إثباتها حسن، وحذفها حسن. اللغة: البينة: العلامة الفاصلة بين الحق والباطل من جهة شهادتها به، والناقة: أصلها من التوطئة والتذليل، يقال بعير منوق أي: مذلل موطأ. وتنوق في العمل: جوده. والآية، والعبرة، والدلالة، والعلامة، نظائر. والتبوئة: التمكين من المنازل، يقال: بوأته منزلا: إذا أمكنته منه ليأوي إليه، وأصله من الرجوع، قال الشاعر: وبوئت في صميم معشرها * فتم في قومها مبوأها أي: أنزلت ومكنت. والقصور: جمع قصر، وهو الدار التي لها سور يكون به مقصورة، وأصله القصر: الذي هو الجعل على منزلة دون منزلة. ومنه القصير. لأنه دون غيره. والقصر: الغاية يقال قصرك الموت لأنه قصر عليه. والعثي: الفساد، يقال عثى يعثي وعاث يعيث بمعنى. والعقر: الجرح الذي يأتي على أصل النفس، وهو من عقر الحوض: أصله، قال امرؤ القيس (بإزاء الحوض أو عقره) (1) والعتو: تجاوز الحد في الفساد. والرجف: الإضطراب، يقال رجف بهم السقف يرجف رجوفا: إذا اضطرب من تحتهم. وأرجف الناس بالشئ: إذا خاضوا فيه واضطربوا. والجثوم: البروك على الركبة، يقال جثم يجثم جثوما، قال جرير: عرفت المنتأى وعرفت منها * مطايا القدر كالحدأ الجثوم (2) (1) قبله فرماها في فرائسها. الفرائس جمع الفريسة وهي اللحمة التي ترعد من الدابة عند مرجع الكتف تتصل بالفؤاد. وإزاء الحوض: مهراق الدلو ومصبها من الحوض. عقر الحوض: مؤخره ومقام الشارب منه. يصف صائدا حاذقا بالرمي يصيب المقاتل. (2) المنتأى: الموضع البعيد ومطايا القدر: الأثافي وهي الأحجار التي توضع عليها القدر: والحدأ: طائر. وجثم الطائر: تلبد بالأرض. (*)
[ 291 ]
الاعراب: (ثمود) جاء مصروفا، وغير مصروف، فمن صرفه، فعلى أنه اسم الحي مذكر، ومن ترك صرفه فعلى أنه اسم القبيلة، كما قال: (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود)، فصرف الأول، ولم يصرف الثاني. (آية) منصوب على الحال، لأن معنى قوله: هذه ناقة الله أنظروا إلى هذه الناقة آية أي: علامة. و (تأكل): في موضع نصب على الحال، أي: آكلة. و (مفسدين) أيضا نصب على الحال. وقوله: (لمن آمن منهم) موضعه نصب بدل من قوله (للذين استضعفوا)، وهو بدل البعض من الكل، إلا أنه أعيد فيه حرف الجر. وقوله: (يا صالح ائتنا) إن وصلته همزته، وإن ابتدأت به لم تهمز، بل تقول إيتنا، وإنما كان كذلك، لأن أصله إئتنا بهمزتين، فكرهوا اجتماعهما، فقلبوا الثانية ياء لكسرة ما قبلها، وإذا وصل، تسقط همزة الوصل، فتظهر همزة الأصل. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم قصة صالح، فقال: (وإلى ثمود أخاهم صالحا) أي: وأرسلنا إلى ثمود، وثمود هنا القبيلة، وهو ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وصالح من ولد ثمود (قال يا قوم اعبدوا الله) وحده (ما لكم هن إله غيره) فتعبدوه (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي: دلالة معجزة شاهدة على صدقي (هذه ناقة الله لكم آية) أشار إلى ناقة بعينها، أضافها إلى الله سبحانه، تفضيلا وتخصيصا، نحو: بيت الله. وقيل: إنما أضافها إليه لأنها خلقها بلا واسطة، وجعلها دلالة على توحيده، وصدق رسوله، لأنها خرجت من صخرة ملساء، تمخضت بها، كما تتمخض المرأة، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها، وكان لها شرب، يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم اللبن بدله، ولهم شرب يوم يخصهم، لا تقرب فيه ماءهم، عن السدي، وابن إسحاق، وجماعة. وقيل: إنما أضافها إلى الله، لأنه لم يكن لها مالك سواه تعالى، عن الجبائي. قال الحسن: كانت ناقة من النوق، وكان وجه الإعجاز فيها أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، على ما شرحناه (فذروها) أي: أتركوها (تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء) أي: بعقر، أو نحر (فيأخذكم) أي: ينالكم (عذاب أليم) أي: مؤلم. (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد) أي: واذكروا نعم الله تعالى عليكم، في أن أورثكم الأرض، ومكنكم فيها، من بعد عاد (وبوأكم في الأرض) أي:
[ 292 ]
أنزلكم فيها، وجعل لكم فيها مساكن وبيوتا تأوون إليها (تتخذون من سهولها قصورا) والسهل: خلاف الجبل، وهو ما ليس فيه مشقة على النفس، أي: تبنون في سهولها الدور والقصور، وإنما اتخذوها في السهول، ليصيفوا فيها. (وتنحتون الجبال بيوتا) قال ابن عباس: كانوا يبنون القصور بكل موضع، وينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها شتاء لتكون مساكنهم في الشتاء أحصن وأدفأ، ويروى أنهم لطول أعمارهم يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتا في الجبال، لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم (فاذكروا آلاء الله) أي: نعم الله عليكم بما أعطاكم من القوة، وطول العمر، والتمكن في الأرض (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي: ولا تضطربوا بالفساد في الأرض، ولا تبالغوا فيه. (قال الملأ الذين استكبروا) أي: تعظموا ورفعوا أنفسهم فوق مقدارها، بجحود الحق، للأنفة من اتباع الرسول الداعي إليه (من قومه) أي: من قوم صالح (للذين استضعفوا) أي: للذين استضعفوهم من المؤمنين (لمن آمن منهم) إنما ذكره لئلا يظن بالمستضعفين أنهم كانوا غير مؤمنين، لأنه قد يكون المستضعف مستضعفا في دينه، ولا يكون مؤمنا، فأزال الله سبحانه هذه الشبهة (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه) أي: هل تعلمون أن الله سبحانه أرسل صالحا (قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون) أي: مصدقون. (قال الذين استكبروا) لهم حين سمعوا منهم الإيمان، والإعتراف بنبوة صالح (إنا بالذي آمنتم به) أي: صدقتم به (كافرون) جاحدون. ثم أخبر سبحانه عما فعله المستكبرون بقوله (فعقروا الناقة) أي: فنحروا الناقة. قال الأزهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره، ثم ينحره. (وعتوا عن أمر ربهم) أي: تجاوزوا الحد في الفساد والمعصية (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) من العذاب على قتل الناقة، فقد قتلناها (إن كنت من المرسلين) ثم أخبر سبحانه بما حل بهم من العذاب بقوله (فأخذتهم الرجفة) أي الصيحة: عن مجاهد، والسدي. وقيل: الصاعقة. وقيل الزلزلة، أهلكوا بها، عن أبي مسلم. وقيل: كانت صيحة زلزلت بها الأرض. وأصل الرجفة: الحركة
[ 293 ]
المزعجة بشدة الزعزعة. (فأصبحوا في دارهم) أي: في بلدهم، ولذلك وحد. وقيل: يريد في دورهم، وإنما وحد لأنه أراد الجنس. كقوله (إن الإنسان لفي خسر) وقد ذكر في موضع آخر (ديارهم) بالجمع (جاثمين) أي: صرعى ميتين ساقطين، لا حركة بهم. وقيل: كالرماد الجاثم، لأنهم احترقوا بالصاعقة (فتولى عنهم) صالح أي: أعرض عنهم، لأنه إنما كان يقبل عليهم لدعائهم إلى الإيمان (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم) أي: أديت النصح في تبليغ الرسالة (ولكن لا تحبون الناصحين) أي: ولكنكم لا تحبون من ينصح لكم، لأن من أحب إنسانا قبل منه. قصة صالح: وكان من قصة صالح وقومه، على ما ذكره أصحاب التواريخ أن عادا لما هلكت، وتقضى أمرها، عمرت ثمود بعدها، واستخلفوا في الأرض، فكثروا وعمروا وكانوا في سعة من معايشهم، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا، وكان من أوسطهم نسبا، وكانوا قوما عربا. وروي في الخبر أنه لما بعث كان ابن ست عشرة سنة، فلبث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى حتى بلغ عشرين ومائة سنة، لا يجيبونه إلى خير، وكان لهم سبعون صنما يعبدونها. فلما رأى ذلك منهم قال لهم: أنا أعرض عليكم أمرين، إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألون، وإن شئتم سألت آلهتكم، فإن أجابوني خرجت عنكم فقد شنئتكم وشنئتموني. قالوا قد أنصفت فاتعدوا ليوم يخرجون فيه، فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم، واكلوا وشربوا، فلما فرغوا دعوه فقالوا: يا صالح سل ؟ فسألها، فلم تجبه. قال: لا أرى آلهتكم تجيبني، فاسألوفي حتى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة. فقالوا: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، وأشاروا إلى صخرة منفردة، ناقة مخترجة، جوفاء، وبراء، والمخترجة: ما شاكل البخت من الإبل، فإن فعلت صدقناك، وآمنا بك !
[ 294 ]
فسأل الله سبحانه ذلك صالح، فانصدعت الصخرة صدعا، كادت عقولهم تطير منه، ثم اضطربت كالمرأة يأخذها الطلق، ثم انصدعت عن ناقة عشراء، جوفاء، وبراء، كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها الا الله عظما، وهم ينظرون، ثم نتجت سقبا مثلي في العظم، فآمن به رهط من قومه، ولم يؤمن أكابرهم. فقال لهم صالح: هذه ناقة لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم، وقد بينا ذلك قبل، فإذا كان يومها وضعت رأسها في مائهم، فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيه، ثم ترفع رأسها فتفجج لهم (1)، فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدخرون، حتى يملؤوا أوانيهم كلها. قال الحسن بن محبوب: حدثني رجل من أصحابنا يقال له سعيد بن يزيد، قال: أتيت أرض ثمود، فذرعت مصدر الناقة بين الجبلين، ورأيت اثر جنبيها، فوجدته ثمانين ذراعا، وكانت تصدر من غير الفج الذي منه وردت، لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد، لأنه يضيق عنها، فكانوا في سعة ودعة منها، وكانوا يشربون الماء يوم الناقة من الجبال والمغارات، فشق ذلك عليهم، وكانت مواشيهم تنفر عنها لعظمها، فهموا بقتلها. قالوا: وكانت امرأة جميلة يقال لها صدوف، ذات مال من إبل وبقر وغنم، وكانت أشد الناس عداوة لصالح، فدعت رجلا من ثمود يقال له مصدع بن مهرج، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وامرأة أخرى يقال لها عنيزة، دعت قدار بن سالف، وكان أحمر أزرق قصيرا، وكان ولد زنا، ولم يكن لسالف الذي يدعى إليه، ولكنه ولد على فراشه، وقالت له: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة. وكان قدار عزيزا منيعا في قومه. فانطلق قدار بن سالف، ومصدع، فاستغويا غواة ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، وأجمعوا على عقر الناقة. قال السدي وغيره: أوحى الله إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك. فقال ذلك لقومه، فقالوا: ما كنا لنفعل. قال صالح: إنه يولد في شهركم هذا غلام (1) تفجج: فرق بين رجليه. (*)
[ 295 ]
يعقرها، ويكون هلاككم على يديه. فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلا قتلناه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا ابناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى ان يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شئ. وكان العاشر ازرق أحمر، ونبت نباتا سريعا، وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناونا أحياء، لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح، لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم، فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. قالوا: نخرج، فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار، فنكون فيه حتى إذا كان الليل، وخرج صالح إلى مسجده، أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار، فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: ما شهدنا مهلك أهله، وأنا لصادقون، فيصدقوننا، يعلمون أنا قد خرجنا إلى سفرنا. وكان صالح لا ينام معهم في القرية، ويبيت في مسجد يقال له مسجد صالح، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد، فبات فيه. فانطلقوا فلما دخلوا الغار، وأرادوا أن يخرجوا من الليل، سقط عليهم الغار فقتلهم، فانطلق رجال ممن اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضخ، فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية: أي عباد الله ! أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم إذ قتلهم ! ! فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق: إنما كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقر الناقة، وإنذار صالح إياهم بالعذاب. قال السدي: ولما ولد قدار وكبر. جلس مع أناس يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقة، فاشتد ذلك عليهم، فقال قدار: هل لكم في ان أعقرها لكم ؟ قالوا: نعم. وقال كعب: كان سبب عقرهم الناقة أن امرأة يقال لها ملكاء، كانت قد ملكت ثمودا، فلما أقبل الناس على صالح، وصارت الرئاسة إليه، حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام، وكانت معشوقة قدار بن سالف، ولامرأة أخرى يقال لها قبال، كانت معشوقة مصدع، وكان قدار ومصدع يجتمعان معهما كل ليلة، ويشربون الخمر. فقالت لهما ملكا: إن أتاكما الليلة قدار ومصدع، فلا تطيعاهما، وقولا لهما: إن ملكاء حزينة لأجل الناقة، ولأجل صالح، فنحن لا نطيعكما حتى تعقرا
[ 296 ]
الناقة، فلما أتياهما قالتا هذه المقالة لهما، فقالا: نحن نكون من وراء عقرها. قالوا فانطلق قدار ومصدع، وأصحابهما السبعة، فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع، فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس، فأسفرت لقدار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف، فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاة واحدة، وتحذر سقبها، ثم طعن في لبتها، فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه. فلما رأى الفصيل ما فعل بأمه، ولى هاربا حتى صعد جبلا، ثم رغا رغاء تقطع منه قلوب القوم. وأقبل صالح فخرجوا يعتذرون إليه، إنما عقرها فلان، ولا ذنب لنا ! فقال صالح: أنظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه في الجبل، فلم يجدوه، وكانوا عقروا الناقة ليلة الأربعاء، فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم يعني: في محلتكم في الدنيا، ثلاثة أيام، فإن العذاب نازل بكم. ثم قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني تصبحون وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة. فلما كان أول يوم أصبحت وجوههم مصفرة، فقالوا: جاءكم ما قال لكم صالح. ولما كان اليوم الثاني احمرت وجوههم، واليوم الثالث اسودت وجوههم. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرائيل عليه السلام فصرخ بهم صرخة، خرقت أسماعهم، وفلقت قلوبهم، وصدعت أكبادهم، وكانوا قد تحنطوا، وتكفنوا، وعلموا أن العذاب نازل بهم، فماتوا أجمعين في طرفة عين، صغيرهم وكبيرهم، فلم يبق الله منهم ثاغية، ولا راغية، ولا شيئا يتنفس إلا أهلكه. فأصبحوا في ديارهم موتى. ثم أرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين، فهذه قصتهم. وفي كتاب علي بن إبراهيم: فبعث الله عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا، وروى الثعلبي بإسناده مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا علي أتدري من أشقى الأولين ؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر الناقة. قال: أتدري من أشقى الآخرين ؟ قال
[ 297 ]
قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قاتلك). وفي رواية أخرى قال: أشقى الآخرين من يخضب هذه من هذه - وأشار إلى لحيته ورأسه - وروى أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: (لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجر في غزوة تبوك، قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم الذي أصابهم. ثم قال: أما بعد: فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سالوا رسولهم الآية، فبعث الله لهم الناقة، وكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، تشرب ماءهم يوم ورودها، وأراهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في القارة، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم، في مشارق الأرض ومغاربها، إلا رجلا واحدا يقال له أبو رغال، وهو أبو ثقيف، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ودفن معه غصن من ذهب، وأراهم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، وحثوا عنه، فاستخرجوا ذلك الغصن، ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي). ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين 80 إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون 81 وما كان جواب قومه إلا قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون 82 فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين 83 وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين 84. القراءة: قرأ أهل المدينة، وحفص، وسهل، هنا: (انكم لتأتون)، وكذلك مذهبهم في الإستفهامين يجتمعان، يكتفون بالإستفهام الأول عن الثاني في كل القرآن، وهو مذهب الكسائي، إلا في قصة لوط. والباقون بهمزتين الثانية مكسورة، وحققهما أهل الكوفة إلا أن حفصا يفصل بينهما بألف. وابن كثير، وأبو عمرو
[ 298 ]
ورويس: يحققون الأولى، ويلينون الثانية، إلا أن أبا عمرو يفصل بينهما بالألف. الحجة: قال أبو علي: كل واحد من الإستفهامين جملة مستقلة، لا يحتاج في تمامها إلى شئ، فمن ألحق حرف الإستفهام جملة، نقلها به من الخبر إلى الإستخبار، ومن لم يلحقها بقاها على الخبر، فإذا كان كذلك، فمن قرأ (إنكم لتأتون الرجال) جعله تفسيرا للفاحشة، كما أن قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) تفسير الوصية. اللغة: قال الزجاج: لوط اسم غير مشتق، لأن العجمي لا يشتق من العربي، وإنما قال ذلك، لأنه لم يوجد إلا علما في أسماء الأنبياء. وقيل: إنه مشتق من لطت الحوض: إذا ألزقت عليه الطين وملسته به. ويقال هذا ألوط بقلبي من ذاك أي: ألصق. والليطة. القشر، للصوقه بما اتصل به. والشهوة: مطالبة النفس بفعل ما فيه اللذة، وليست كالإرادة، لأنها قد تدعو إلى الفعل من جهة الحكمة، والشهوة ضرورية فينا من فعل الله تعالى، والإرادة من فعلنا. يقال شهيت أشهى شهوة، قال: وأشعث يشهي النوم قلت له ارتجل إذا ما النجوم أعرضت واسبكرت (1) فقام يجر البرد لو أن نفسه يقال له: خذها بكفيك، خرت والإسراف: الخروج عن حد الحق إلى الفساد. والغابر: الباقي، قال الأعشى: عض بما أبقى المواسي له من أمه في الزمن الغابر (2) الاعراب: إنما صرف (لوطا) لخفته، بكونه على ثلاثة أحرف، ساكن الأوسط، فقاومت الخفة أحد السببين. ويجوز في قوله (جواب قومه) الرفع، إلا أن الأجود النصب، وعليه القراءة. (شهوة) مصدر وضع موضع الحال، وقوله: (إلا امرأته) استثناء متصل، لأنه يجوز أن تدخل الزوجة في الأهل على التغليب في الجملة دون التفصيل، ولم يقل من الغابرات، لأنه أراد أنها ممن بقيت مع الرجال. و (مطرا) مصدر ذكر للتأكيد كقوله: ضربه ضربا. (1) اسبكر: اضطجع وامتد. (2) عض به: أمسكه بأسنانه. المواسي جمع الموسى: آلة من فولاذ يحلق بها: قاله في الهجاء. (*)
[ 299 ]
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم، فقال: (ولوطا) أي: وأرسلنا لوطا. وقيل: إن تقديره واذكر لوطا. قال الأخفش: يحتمل المعنيين جميعا ههنا، ولم يحتمل في قصة عاد وثمود إلا أرسلنا لأن فيها ذكر إلى وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: إنه كان ابن خالة إبراهيم، وكانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط (إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة) أي: السيئة العظيمة القبح، يعني إتيان الرجال في أدبارهم (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) قيل: ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط، عن عمرو بن دينار. قال الحسن: وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء، ثم بين تلك الفاحشة، فقال (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) معناه: أتأتون الرجال في أدبارهم اشتهاء منكم، أي: تشتهونهم فتأتونهم، وتتركون إتيان النساء اللاتي أباحها الله لكم (بل أنتم قوم مسرفون) أي: متجاوزون عن الحد في الظلم والفساد، ومستوفون جميع المعايب، إتيان الذكران، وغيره (وما كان جواب قومه) أي: لم يجيبوه عما قال (إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) قابلوا النصح والوعظ بالسفاهة، فقالوا: أخرجوا لوطا ومن آمن به من بلدتكم، والمراد بالقرية: البلدة، كما قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن البصري، والحجاج، يريد بالقروي: من يسكن المدن. (إنهم أناس يتطهرون) أي: يتحرجون عن أدبار الرجال، فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقيل، معناه: يتنزهون عن أفعالكم، وطرائقكم (فأنجيناه) أي: فخلصنا لوطا من الهلاك (وأهله) المختصين به، وأهل الرجل: من يختص به اختصاص القرابة (إلا امرأته كانت من الغابرين) أي: من الباقين في قومه، المتخلفين عن لوط، حتى هلكت لأنها كانت على دينهم، فلم تؤمن به. وقيل: معناه كانت من الباقين في عذاب الله، عن الحسن، وقتادة. (وأمطرنا عليهم مطرا) أي: أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر، كما قال في آية أخرى (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) (فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) معناه: تفكر وانظر بعين العقل، كيف كان مآل أمر المقترفين للسيئات، والمنقطعين إليها، وعاقبة فعلهم، من عذاب الدنيا بالإستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار.
[ 300 ]
قصة لوط مع قومه: وجملة أمرهم فيما روي، عن أبي حمزة الثمالي، وأبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام أن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، وكان نازلا فيهم، ولم يكن منهم، يدعوهم إلى الله، وينهاهم عن الفواحش، ويحثهم على الطاعة، فلم يجيبوه، ولم يطيعوه، وكانوا لا يتطهرون من الجنابة، بخلاء أشحاء على الطعام، فأعقبهبم البخل الداء الذي لا دواء له في فروجهم، وذلك أنهم كانوا على طريق السيارة إلى الشام ومصر، وكان ينزل بهم الضيفان، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه، وإنما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك، فأوردهم البخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال، ويعطون عليه الجعل. وكان لوط سخيا كريما، يقري الضيف إذا نزل به، فنهوه عن ذلك، وقالوا: لا تقرين ضيفا جاء ينزل بك، فإنك إن فعلت، فضحنا ضيفك. فكان لوط إذا نزل به الضيف، كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه. ولما أراد الله سبحانه عذابهم، بعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين، فلما عتوا عن أمره، بعث الله إليهم جبرائيل عليه السلام في نفر من الملائكة، فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط، فلما رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه، نكرهم وأوجس منهم خيفة. قالوا: يا إبراهيم ! إنا رسل ربك، ونحن لا نأكل الطعام، إنا أرسلنا إلى قوم لوط. وخرجوا من عند إبراهيم، فوقفوا على لوط وهو يسقي الزرع، فقال: من أنتم ؟ قالوا: نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة. فقال لوط: إن أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم، ويأخذون أموالهم. قالوا: قد أبطأنا فأضفنا. فجاء لوط إلى أهله، وكانت امرأته كافرة، فقال: قد أتاني أضياف في هذه الليلة، فاكتمي أمرهم، قالت: أفعل. وكانت العلامة بينها وبين قومها، أنه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار، تدخن من فوق السطح، وإذا كان بالليل، توقد النار. فلما دخل جبرائيل عليه السلام والملائكة معه بيت لوط، وثبت امرأته على السطح، فأوقدت نارا، فأقبل القوم من كل ناحية، يهرعون إليه، أي: يسرعون، ودار بينهم ما قصه الله تعالى في مواضع من كتابه، فضرب جبرائيل عليه السلام بجناحه على عيونهم،
[ 301 ]
فطمسها. فلما رأوا ذلك، علموا أنهم قد أتاهم العذاب، فقال جبرائيل عليه السلام: يا لوط ! أخرج من بينهم أنت وأهلك، إلا امرأتك. فقال: كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري ؟ فوضع بين يديه عمودا من نور، وقال اتبع هذا العمود، ولا يلتفت منكم أحد فخرجوا من القرية. فلما طلع الفجر، ضرب جبرائيل بجناحه في طرف القرية، فقلعها من تخوم الأرضين السابعة، ثم رفعها في الهواء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وصراخ ديوكهم، ثم قلبها عليها، وهو قول الله عز وجل (فجعلنا عاليها سافلها) وذلك بعد أن أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وهلكت امرأته بأن أرسل الله عليها صخرة فقتلها. وقيل: قلبت المدينة على الحاضرين منهم، فجعل عاليها سافلها، وأمطرت الحجارة على الغائبين، فأهلكوا بها. وقال الكلبي: أول من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث، لأن بلادهم أخصبت فانتجعها (1) أهل البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب، ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، ثم عبثوا بذلك العمل. فلما كثر ذلك فيهم عجت الأرض إلى ربها، فسمعت السماء، فعجت إلى ربها، فسمع العرش، فعج إلى ربه، فأمر الله السماء أن تحصبهم، وأمر الأرض أن تخسف بهم. وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين 85 ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من إمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم (1) انتجع فلانا. أتاه طالبا معروفه. (*)
[ 302 ]
وانظروا كيف كانت عاقبة المفسدين 86 وإن كان طائفة منكم إمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين 87. اللغة: الإيفاء: إتمام الشئ إلى حد الحق فيه، ومنه إيفاء العهد، وهو إتمامه بالعمل به. والكيل: تقدير الشئ بالمكيال حتى يظهر مقداره منه. والوزن: تقديره بالميزان. والمساحة: تقديره بالذراع، أو ما زاد عليه، أو نقص. والبخس: النقص عن الحد الذي يوجبه الحق. والإفساد: إخراج الشئ إلى حد لا ينتفع به بدلا من حال ينتفع بها، وضده الإصلاح. والصد: الصرف عن الفعل بالإغواء فيه، كما يصد الشيطان عن ذكر الله، وعن الصلاة. يقال: صده عن الأمر يصده أي: منعه. العوج بكسر العين في الدين، وكل ما لا يرى. والعوج بفتح العين في العود، وكل ما يرى، كالحائط وغيره. والطائفة: الجماعة من الناس وهو من الطوف، مأخوذة من أنها تجتمع على الطواف. الاعراب: (مدين) اسم المدينة، أو القبيلة، لا ينصرف للتعريف والتأنيث. وجائز أن يكون أعجميا، عن الزجاج. (بكل صراط) بمعنى على كل صراط. ويجوز تعاقب الحروف الثلاثة هنا الباء وعلى، وفي، تقول: لا تقعد بكل صراط، وعلى كل صراط، وفي كل صراط، لأنه اجتمع معاني الأحرف الثلاثة فيه، فإن الباء للإلصاق وهو قد لاصق المكان. وعلى للإستعلاء، وهو قد علا المكان. وفي للمحل وقد حل المكان. و (من آمن): في موضع نصب بأنه مفعول به، أي: وتصدون المؤمنين بالله، وإنما قال (فاصبروا) فجعل الصبر جزاء، وهو لازم على كل حال، لأن المعنى فسيقع جزاء كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب، كأنه قال فأنتم مصبورون على حكم الله بذلك. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من القصص، قصة شعيب، فقال (وإلى مدين) أي: وأرسلنا إلى مدين (أخاهم شعيبا)، وقيل: إن مدين ابن إبراهيم الخليل، فنسبت القبيلة إليه. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وقال قتادة: هو شعيب بن بويب. قال ابن إسحاق: هو شعيب بن
[ 303 ]
ميكيل بن يشحب بن مدين بن إبراهيم. وأم ميكيل بنت لوط. وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وهم أصحاب الأيكة. وقال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى مدين مرة، وإلى أصحاب الأيكة مرة. (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) قد مر تفسيره (فأوفوا الكيل والميزان) أي: أتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال، وما تزنونه عليهم بالميزان، ومعناه: أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات. (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أي: لا تنقصوهم حقوقهم. وقال قتادة، والسدي: البخس: الظلم، ومنه المثل (تحسبها حمقاء وهي باخس). (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) يعني: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي واستحلال المحارم، بعد إن أصلحها الله بالأمر والنهي، وبعثة الأنبياء، وتعريف الخلق مصالحهم. وقيل: لا تفسدوا بأن لا تؤمنوا، فيهلك الله الحرث والنسل. (ذلكم) الذي أمرتكم به (خير لكم) وأعود عليكم (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين بالله. وإنما علق خيريته بالإيمان، وإن كان هو خيرا علي كل حال، من حيث إن من لا يكون مؤمنا بالله، وعارفا بنبيه، لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له، فكأنه قال لهم: كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم. ويمكن أن يكون المراد: لا ينفعكم إيفاء الكيل والوزن، إلا بعد أن تكونوا مؤمنين. وقال الفراء: لم يكن لشعيب معجزة على نبوته، لأن الله تعالى لم يذكر له دلالة في القرآن، وهو غلط، لأنه لا يجوز أن يخلي الله تعالى نبيا عن معجزة. هذا وقد قال سبحانه: (قد جاءتكم بينة من ربكم فاوفوا) فجاء بالفاء جوابا للجزاء. ويجوز أن يكون له معجزات، وإن لم تذكر في القرآن، كما أن أكثر آيات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، غير مذكورة في القرآن. ولم يوجب ذلك نفيها. (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) قيل في معناه أقوال أحدها أنهم كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للإيمان به، فيخوفونه بالقتل، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد. وثانيها أنهم كانوا يقطعون الطريق، فنهاهم، عن أبي هريرة، وعبد الرحمن بن زيد، ويمكن أن يكونا أرادا به أنهم كانوا يقطعون الطريق
[ 304 ]
على الناس عن قصد شعيب، فيرجع إلى معنى القول الأول وثالثها: إن المراد لا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين، فتطلبون له العوج، بإيراد الشبه، وتقولون لشعيب إنه كذاب، فلا يفتننكم عن الدين وتتوعدونه. (وتصدون عن سبيل الله من آمن به) أي: تمنعون عن دين الله، من أراد أن يؤمن به من الناس (وتبغونها عوجا) الهاء راجعة إلى (السبيل) أي: تبغون السبيل عوجا عن الحق، وهو أن تقولوا: هذا كذب، وهذا باطل، وما أشبه ذلك، عن قتادة. وقيل: معناه تلتمسون لها الزيغ، عن مجاهد. وقيل: معناه لا تستقيمون على طريق الهدى، عن الحسن. وقيل: تريدون الإعوجاج، والعدول عن القصد، عن الزجاج. (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) أي: كثر عددكم. قال ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط، فولدت حتى كثر أولادها. قال الزجاج: وجائز أن يكون (كثركم) جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء. وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وإقدار، فكثرهم. وجائز أن يكون عددهم قليلا فكثرهم. (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) يعني: فكروا في عواقب أمر عاد، وثمود، ولوط، وإنزال العقاب بهم، واستئصال شأفتهم، وما حل بهم من البوار (وإن كان طائفة) أي: جماعة (منكم آمنوا بالذي أرسلت به) أي: صدقوني في رسالتي، وقبلوا قولي (وطائفة لم يؤمنوا) لم يصدقوني (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا) خاطب الطائفتين، ومعناه: لا يغرنكم تفرق الناس عني، فإن جميل العاقبة لي، وسيجزي الله كل واحد من الفريقين بما يستحقه على عمله في الدنيا، أو الآخرة دون الدنيا (وهو خير الحاكمين) لأنه لا يجوز عليه الجور، ولا المحاباة في الحكم، وهذا وعيد لهم. قال البلخي: أمرهم في هذه الآية بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين، والإيعاد عليه، والكف عنه خير ورشد، ولم يأمرهم بالمقام على الكفر. وفي ذلك دلالة على أنه ليس كل أفعال الكفار كفر ومعصية، كما يذهب إليه بعض أهل النظر. قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين إمنوا
[ 305 ]
معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين 88 قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين 89. اللغة: العود: الرجوع، وهو مصير الشئ إلى حال كان عليها، ومنه إعادة الله الخلق. وتستعمل لفظة الإعادة في الفعل مرة ثانية حقيقة، وفي فعل مثله مجازا، وكلاهما يسمى إعادة، تقول: أعدت الكتابة والقراءة، ومعناه: فعلت مثله، قال الزجاج: يقال قد عاد علي من فلان مكروه، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، وتأويله أنه قد لحقني منه مكروه، قال الشاعر: لئن كانت الأيام أحسن مرة إلي، فقد عادت لهن ذنوب الإفتراء: مشتق من فري الأديم، وهو مثل الإختلاف والإفتعال. والملة: الديانة التي يجتمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرار الأمر من قولهم: طريق مليل: إذا تكرر سلوكه حتى توطأ. ومنه الملل: وهو تكرر الشئ على النفس حتى تضجر. والملة: الرماد الحار تدفن فيه الخبزة حتى تنضج لتكرار الحمي عليها. والفتح: الحكم. والفاتح والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره. وفاتحته في كذا، أي: قاضيته. قال ابن عباس: (ما كنت أدري ما الفتح، حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن، وقد جرى بيني وبينها كلام، فقالت: إنطلق أفاتحك إلى القاضي، أي: أحاكمك إليه). المعنى: ثم أخبر سبحانه، عما دار بينه وبين قومه، فقال (قال الملأ الذين استكبروا من قومه) أي: رفعوا أنفسهم فوق مقدارها (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا) أي: نخرجنك وأتباعك من المؤمنين بك من بلدتنا التي هي وطنك، ومستقرك (أو لتعودن في ملتنا) أو لترجعن إلى ملتنا التي كنا عليها، لأنه كان عندهم، وفي ظنهم، أنه كان قبل ذلك على دينهم، فلذلك أطلقوا لفظ العود.
[ 306 ]
وقد كان عليه السلام، يخفي دينه فيهم. ويحتمل أنهم أرادوا به قومه، فأدخلوه معهم في الخطاب. ويحتمل أن يكون المراد به أو لتدخلن في ديننا وطريقتنا، لأن العود يذكر ويراد به الإبتداء كما قاله الزجاج. ويكون بمعنى الصيرورة، ومثله قول الشاعر: تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (1) وحقيقة المعنى: إنا لا نمكنك من المقام في بلدنا، وأنت على غير ملتنا، فإما أن تخرج من بلدتنا، أو تدخل في ملتنا (قال أو لو كنا كارهين) أي: قال شعيب لهم: أتعيدوننا في ملتكم، وتردوننا إليها، ولو كنا كارهين للدخول فيها. والمعنى: إنا مع كراهتنا لذلك، لما عرفناه من بطلانه، لا نرجع، فأدخل همزة الإستفهام على (ولو). وقيل: المعنى أنكم لا تقدرون على ردنا إلى دينكم على كره منا، فيكون على هذا (كارهين)، بمعنى مكرهين (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها) أي: إن عدنا في ملتكم، بأن نحل ما تحلونه، ونحرم ما تحرمونه، وننسبه إلى الله تعالى، بعد إذ نجانا الله تعالى منها، بأن أقام الدليل والحجة على بطلانها، وأوضح الحق لنا، فقد اختلقنا على الله كذبا فيما دعوناكم إليه. (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) قيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم، بأنه سبحانه لا يشاء عبادة الأصنام، أقوال أحدها: إن المراد بالملة: الشريعة، وليس المراد بها ما يرجع إلى الإعتقاد في الله سبحانه وصفاته، مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه، وفي شريعتهم أشياء يجوز أن يتعبد الله تعالى بها، فكأنه قال: ليس لنا أن نعود في ملتكم إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بها، وينقلنا إليها، وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، عن الجبائي، والقاضي. وثانيها: إنه سبحانه علق ما لا يكون بما علم، لأنه لا يكون على وجه التبعيد، كما قال: (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)، وكقول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي، وصار القار كاللبن الحليب (2) (1) القعبان تثنية القعب: القدح الضخم. شاب الشئ: خلطه. يقول ليس ما تفتخرون به هي المكارم بل المكارم ما ذكرت. (2) مر البيت في ما سبق. (*)
[ 307 ]
فيكون المعنى: كما لا يشاء الله عبادة الأصنام والقبائح، لأن ذلك لا يليق بحكمته، فكذلك لا نعود في ملتكم، عن جعفر بن حرب. وثالثها: إن المراد إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه، فنعود إلى إظهارها مكرهين، ويقوي هذا قوله: أو لو كنا كارهين ورابعها: أن تعود الهاء التي في قوله: (فيها)، إلى القرية، لا إلى الملة، لأن ذكر القرية قد تقدم، كما أن ذكر الملة تقدم، فيكون تحقيق الكلام: إنا سنخرج من قريتكم، ولا نعود فيها، إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم، والظفر بكم، فنعود فيها وخامسها: أن يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق، فنكون جميعا على ملة واحدة غير مختلفة، لأنه لما قال حاكيا عنهم، (أو لتعودن في ملتنا) كان معناه: أو لنكونن على ملة واحدة غير مختلفة، فحسن أن يقول من بعد: (الا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة). فإن قيل: فكأن الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق ؟ قلنا: بلى قد شاء ذلك، إلا أنه إنما شاء بأن يؤمنوا مختارين، ليستحقوا الثواب، ولم يشأ على كل حال، إذ لو شاءه على كل حال، جاز ألا يقع منهم ذلك، فكأنه قال: إن ملتنا لا تكون واحدة ابدا، الا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الإيمان والإجتماع معنا على ملتنا. (وسع ربنا كل شئ علما) انتصب (علما) على التمييز، وتقديره: وسع علم ربنا كل شئ، فنقل الفعل إلى نفسه، لما فيه من جزالة اللفظ، وفخامة المعنى. وقيل في وجه اتصاله بما قبله: إن الملة إنما يتعبد بها على حسب ما في المعلوم من المصلحة، فالمعنى أنه سبحانه أحاط علمه بكل شئ، فهو أعلم بما هو أصلح لنا، فيتعبدنا به. وقيل: إن المراد به أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك. (على الله توكلنا) في الإنتصار منكم، وفي كل أمورنا (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) هذا سؤال من شعيب، ورغبة منه إلى الله، في أن يحكم بينه وبين قومه بالحق، على سبيل الإنقطاع إليه سبحانه، وإن كان من المعلوم أن الله سيفعله لا محالة. وقيل: إن معناه: اكشف بيننا وبين قومنا، وبين أينا على حق، وهذا استعجال منه للنصر (وأنت خير الفاتحين) أي: خير الحاكمين والفاصلين.
[ 308 ]
وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون 90 فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين 91 الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين 92 فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين 93. اللغة: غني بالمكان يغني غنا وغنانا: أقام به، كأنه استغنى بذلك المكان عن غيره. والمغاني: المنازل، وأصل الباب: الغني، قال حاتم طئ: غنينا زمانا بالتصعلك، والغنى، فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر (1) والأسى: شدة الحزن، يقول أسي يأسي أسا. وقال: (يقولون لا تهلك أسى وتجمل). الاعراب: (إنكم إذا لخاسرون) جواب القسم، وقد سد مسد جواب الشرط من قوله (لئن) وإذا هاهنا ملغاة، لأنها وقعت حشو الكلام، وما بعدها يعتمد على ما قبلها (الذين كذبوا شعيبا): الأول في موضع رفع بالإبتداء، وخبره: (كأن لم يغنوا فيها)، وإنما أعيد مرة ثانية من غير كناية، لتغليظ الأمر في تكذيبهم شعيبا، مع البيان أنهم الذين حصلوا على الخسران، لا من نسبوه إلى ذلك من أهل الإيمان، و (هم) في قوله: (هم الخاسرين) فصل، وإنما دخل الفصل مع أن المضمر لا يوصف، لأنه يحتاج فيه إلى التوكيد، ليتمكن معناه في النفس، وان الذي بعده من المعرفة لا يخرجه ذلك من معنى الخبر، وإن كان الأصل في الخبر النكرة. المعنى: ثم حكى الله سبحانه، ما قالت الجماعة الكافرة الجاحدة بآيات الله، فقال: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه) أي: من قوم شعيب الباقين منهم (لئن اتبعتم شعيبا) في دينه، وتركتم دينكم انقيادا لأمره ونهيه، لأن الإتباع هو طلب الثاني (1) تصعلك الرجل: افتقر. وأزراه: عابه ووضع من حقه. (*)
[ 309 ]
موافقة الأول فيما دعا إليه (إنكم إذا لخاسررن) والخسران: ذهاب رأس المال، فكأنهم قالوا: إن اتبعتموه كنتم بمنزلة من ذهب رأس ماله: وقيل: خاسرون: مغبونون، عن ابن عباس. وقيل: هالكون. (فأخذتهم الرجفة) أي: فأخذ قوم شعيب الزلزلة، عن الكلبي. وقيل: أرسل الله عليهم رمدة، وحرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم البيوت، فلم ينفعهم ظل ولا ماء، وأنضجهم الحر، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة، فوجدوا برد الريح وطيبها. وظل السحابة، فتنادوا: عليكم بها، فخرجوا إلى البرية، فلما اجتمعوا تحت السحابة، ألهبها الله عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي، وصاروا رمادا، وهو عذاب يوم الظلة، عن ابن عباس، وغيره من المفسرين. وقيل: بعث الله عليهم صيحة واحدة، فماتوا، عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إنه كان لشعيب قومان قوم أهلكوا بالرجفة، وقوم هم أصحاب الظلة (فأصبحوا في دارهم) أي: منازلهم (جاثمين) أي: ميتين ملقين على وجوههم (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) أي: كأنهم لم يقيموا بها قط، لأن المهلك يصير كأن لم يكن. وقيل: (كأن لم يغنوا فيها): كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، عن قتادة. وقيل: كأن لم يعمروا فيها، عن ابن عباس. (الذين كذبوا شعيبا،: عاد اللفظ تأكيدا وتغليظا (كانوا هم الخاسرين) مر معناه: بين سبحانه انهم الخاسرون دون من آمن به (فتولى عنهم) شعيب أي: أعرض عنهم لما رأى إقبال العذاب عليهم إعراض الآيس منهم (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) فيما أمرني، فلم تؤمنوا (ونصحت لكم) فلم تقبلوا. ومعناه: إن ما نزل بكم من البلاء، وإن كان عظيما، فقد استوجبتم ذلك بجنايتكم على أنفسكم. (فكيف آسى) أي: فكيف أحزن (على قوم كافرين) حل العذاب بهم مع استحقاقهم له. وقوله: (فكيف آسى) وإن كان على لفظ الإستفهام، فالمراد به النفي، لأن جوابه في هذا الموضوع لا يصح إلا بالنفي، وإنما يدخله معنى الإنكار أيضا، لهذه العلة. وهذا كما قال العجاج: (أطربا وأنت قنسري). وهذا تسل من
[ 310 ]
شعيب بما يذكر من حاله معهم في مناصحته لهم، وتأديته رسالة ربه إليهم، وأنه لا ينبغي أن يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم، وشدة عتوهم. قال البلخي: وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يدعو للكافر بالخير. وأنه لا يجوز الحزن على هلاك الكافرين، والظالمين. وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون 94 ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون 95. اللغة: التبديل: وضع أحد الشيئين مكان الآخر. وأصل العفو: الترك، من قوله (فمن عفي له من أخيه شئ) فمعنى قوله (عفوا): تركوا حتى كثروا، قال: ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات اللحم كوم (1) والبغتة: الفجأة وهي الأخذ على غرة من غير تقدمة تؤذن بالنازلة، يقال بغته، يبغته بغتا، وبغتة، قال: (وأنكأ شئ حين يفجأك البغت) (2). الاعراب: أصل (يضرعون): يتضرعون، فأدغمت التاء في الضاد استطالة، وإنما يدغم الناقص في الزائد، ولا يدغم الزائد في الناقص، لما في ذلك من الإخلال به، وهو في موضع رفع بأنه خبر (لعل). و (بغتة): مصدر وضع موضع الحال. المعنى: ثم ذكر سبحانه بعد ما اقتص من قصص الأنبياء، وتكذيب أممهم إياهم، وما نزل بهم من العذاب، سنة في أمثالهم، تسلية لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فقال (وما أرسلنا في قرية) من القرى التي أهلكناها بالعذاب. وقيل: في سائر القرى، عن الجبائي (من نبي) وهو من يؤدي عنا بلا واسطة البشر، فلم يؤمنوا به بعد قيام (1) قائله لبيد. وأعضه سيفي: ضربته به، يقال أعض السيف بساق البعير. وأسوق جمع الساق. وناقة عافية اللحم: كثيرة اللحم. والكوم جمع الكوماء. العظيمة السنام من النوق. يصف قومه بالجود. (2) قائله يزيد بن ضبة الثقفي وقبله: (ولكنهم ماتوا ولم أدر بغتة). (*)
[ 311 ]
الحجة عليهم (إلا أخذنا أهلها) يعني: أهل تلك القرية (بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون) أي: ليتنبهوا ويعلموا أنه مقدمة العذاب، ويتضرعوا ويتوبوا عن شركهم، ومخالفتهم، ويعني بالبأساء: ما نالهم من الشدة في أنفسهم، والضراء: ما نالهم في أموالهم. وقيل: إن البأساء: الجوع، والضراء: الأمراض والشدائد، عن الحسن. وقيل: إن البأساء: الجوع، والضراء: الفقر، عن السدي. (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) أي: رفعنا السيئة، ووضعنا الحسنة مكانها، والسيئة: الشدة، والحسنة: الرخاء، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد. وسميت سيئة لأنها تسوء صاحبها. قال الجبائي: جرى في هذا الموضع على سبيل التوسع والمجاز. (حتى عفوا) أي: كثروا، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقيل: سمنوا، عن الحسن. وقيل: أعرضوا عن الشكر، عن أبي مسلم (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي: قال بعضهم لبعض: هكذا عادة الدهر فكونوا على ما أنتم عليه، كما كان آباؤكم كذلك، فلم ينتقلوا عن حالهم فتنتقلوا. (فأخذناهم بغتة) أي: فجأة، عبرة لمن بعدهم (وهم لا يشعرون) أي: لم يعلموا أن العذاب نازل بهم، إلا بعد حلوله. وحقيقة المعنى في الآية: إنه سبحانه يدبر خلقه الذين يعصونه، بأن يأخذهم تارة بالشدة، وتارة بالرخاء، فإذا أفسدوا على الأمرين جميعا، أخذهم فجأة، ليكون ذلك أعظم في الحسرة، وأبلغ في العقوبة، نعوذ بالله من سخطه !. ولو أن أهل القرئ امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون 96 أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون 97 أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون 98 أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون 99.
[ 312 ]
القراءة: (أو أمن): بفتح الواو عراقي (1)، وابن فليح. والباقون: (أو أمن) بسكون الواو إلا أن ورشاء قرأه على أصله في إلقاء حركة الهمزة على الساكن قبلها فقال: (أو من). الحجة: قال أبو علي: أو حرف استعمل على ضربين أحدهما: أن يكون بمعنى أحد الشيئين، أو الأشياء في الخبر والإستفهام والآخر: أن يكون للإضراب عما قبلها في الخبر والإستفهام، كما أن أم المنقطعة في الإستفهام والخبر، كذلك فأما التي تكون لأحد الشيئين، أو الأشياء، فمثاله في الخبر، زيد أو عمرو ضربته، وجاء زيد أو عمرو. كما تقول: أحدهما جاء، وأحدهما ضربته، وهي إذا كانت للإباحة كذلك أيضا، وهو قوله: جالس الحسن، أو ابن سيرين. وأما أو التي تجئ للإضراب بعد الخبر، والإستفهام، فكقولك: أنا أخرج، ثم تقول أو أقيم. أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنك قلت: لا بل أقيم. كما أنك في قولك: إنها لإبل أم شاء مضرب عن الأول، ولا يقع بعد أو هذه إلا جملة. ومن ثم قال سيبويه في قوله: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) إنك لو قلت: أو لا تطع كفورا، انقلب المعنى، وإنما كان ينقلب المعنى، لأنه إذا قال لا تطع منهم آثما أو كفورا، فكأنه قال: لا تطع هذا الضرب، ولا تطع هؤلاء، فإنما لزمه أن لا يطيع واحدا منهما، لأن كل واحد منهما في معنى الآخر في وجوب ترك الطاعة له، كما جاز له أن يجمع بين مجالسة الحسن وابن سيرين، لأن كل واحد منهما أهل للمجالسة، ومجالسة كل واحد منهما كمجالسة الآخر. ولو قال: ولا تطع منهم آثما، أو لا تطع كفورا، كان بقوله (أو لا تطع) قد أضرب عن ترك طاعة الأول، وكان يجوز أن يطيعه، وفي جواز ذلك انقلاب المعنى. ووجه قراءة من قرأ (أو أمن) أنه جعل (أو) للإضراب، لا على أنه أبطل الأول، ولكن كقوله: (آلم تنزيل الكتاب) ثم قال: (أم يقولون افتراه)، فجاء هذا ليبصروا ضلالتهم، فكان المعنى: أو أمنوا هذه الضروب من معاقبتهم، والأخذ لهم، وإن شئت جعلته أو التي في قولك ضربت زيدا أو عمرا، كأنك أردت أفأمنوا (1) أي على قراءة أهل العراق. (*)
[ 313 ]
إحدى هذه العقوبات. ووجه قراءة من قرأ (أو أمن): أنه أدخل همزة الإستفهام على حرف العطف، كما دخل في نحو قوله: أثم إذا ما وقع، وقوله: (أو كلما عاهدوا عهدا). ومن حجة من قرأ ذلك أنه أشبه بما قبله وما بعده، ألا ترى أن قبله (أفأمن أهل القرى) وبعده: (أفأمنو مكر الله) (أولم يهد للذين يرثون الأرض) فكما أن هذه الأشياء عطف حرف دخل عليها حرف الإستفهام، كذلك يكون (أو أمن). اللغة: البركات: الخيرات النامية وأصله الثبوت، والأمن، والثقة، والطمأنينة نظائر في اللغة، وضد الأمن: الخوف. وضد الثقة: الريبة. وضد الطمأنينة: الإنزعاج. والأمن: الثقة بالسلامة من الخوف. والبأس: العذاب. والبؤس: الفقر. والأصل الشدة. ورجل بئيس: شديد في القتال، والنوم: نقيض اليقظة، وهو سهو يغمر القلب، ويغشى العين، وبضعف الحس. وينافي العلم، يقال: نام الرجل ينام. نوما، وهو حسن النيمة: إذا كان حسن هيئة النوم. ورجل نومة بسكون الواو: إذا كان خسيسا لا يؤبه به. ورجل نومة بفتح الواو: إذا كان كثير النوم. والنيم: الفرو، لأن من شأنه أن ينام فيه، أو لأنه يغشي كما يغشي النوم. والضحى: صدر النهار في وقت انبساط الشمس، وأصله الظهور، من قولهم: ضحا الشمس، يضحو، ضحوا، وضحوا، وفعل ذلك الأمر ضاحية: إذا فعله ظاهرا. والأضحية: لأنها تذبح عند الضحى يوم العيد. قال الخليل: المكر: الإحتيال بإظهار خلاف الإضمار. وقيل: إن أصل المكر: الإلتفاف، ومنه ساق ممكورة أي ملتفة حسنة. قال ذو الرمة: عجزاء ممكورة خمصانة قلق عنها الوشاح، وتم الجسم، والقصب (1) والمكور: شجر ملتف يستن في علقى وفي مكور (2) فمعنى قولك: مكر (1) العجزاء: العظيمة العجز. الخمصانة مؤنث الخمصان: ضامر البطن. وخماصة البطن: دقة خلقته. امرأة قلق الوشاح أي: مضطرب وشاحها. والوشاح: شبه قلادة من نسيج عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة على خصرها. تم الجسم. تمامه. القصب: عظام اليدين والرجلين ونحوهما. (2) استن الفرس: قمص وعدا اقبالا وادبارا من نشاط وزعل. العلقى: نبت يكون واحدا وجمعا قضبانه دقاق. (*)
[ 314 ]
فلان، يمكر، مكرا: التف تدبيره على مكروه لصاحبه. الاعراب: (لو) معناه تعليق الثاني بالأول الذي يجب الثاني بوجوبه، وينتفي بانتفائه، على طريقة كان، وإن فيها هذا المعنى على طريقة يكون، والفرق بينهما أن إن تعلق الثاني بالأول الذي يمكن أن يكون، ويمكن أن لا يكون، كقولك إن آمن هذا الكافر استحق الجواب، وهذا مقدور، وليس كذلك (لو) لأنها قد تدخل على ما لا يمكن أن يكون، كقولك: لو كان الجسم سليما لاستغنى عن صانع، وإنما فتحت (أن) بعد (لو) لأنها وقعت في الموضع الذي يختص بالفعل، فإن (لو) ليس يدخل إلا على الفعل. وأن مع اسمها وخبرها في تأويل اسم مفرد، فيكون تقديره: لو وقع أن أهل القرى آمنوا، فيكون أن مع ما بعدها في موضع رفع بالفعل المقدر بعد (لو) وإنما دخلت همزة الإستفهام على حرف العطف من قوله (أفأمن) (أو أمن) مع أن الإستفهام للإستئناف والعطف، بخلافه، لأنهما إنما يتنافيان في المفرد، لأن الثاني إذا عمل فيه الأول، كان من الكلام الأول، والإستئناف قد أخرجه من أن يكون منه. وأما في عطف جملة على جملة، فيصح لأنه على استئناف جملة بعد جملة. المعنى: ثم بين سبحانه أن كل من أهلكه من الأمم المتقدم ذكرهم، إنما أتوا في ذلك من قبل نفوسهم، فقال (ولو أن أهل القرى) التي أهلكناها بسبب جحودهم وعنادهم، (آمنوا). وصدقوا رسلنا (واتقوا) الشرك والمعاصي (لفتحنا عليهم بركات) أي: خيرات نامية (من السماء) بإنزال المطر (و) من (الأرض) بإخراج النبات والثمار، كما وعد نوح بذلك أمته فقال: (يرسل السماء عليكم مدرارا) الآيات. وقيل: بركات السماء: إجابة الدعاء، وبركات الأرض، تيسير الحوائج (ولكن كذبوا) الرسل (فأخذناهم بما كانوا يكسبون) من المعاصي والمخالفة، وتكذيب الرسل، فحبسنا السماء عنهم، وأخذناهم بالضيق عقوبة لهم على فعلهم. (أفأمن أهل القرى) المكذبون لك يا محمد (أن يأتيهم بأسنا) أي: عذابنا (بياتا): ليلا. (وهم نائمون) في فرشهم ومنازلهم، كما أتى المكذبين قبلهم. (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى) أي: عذابنا نهارا عند ارتفاع الشمس (وهم يلعبون) أي: وهم في غير ما ينفعهم، أو يعود عليهم بنفع، فإن من اشتغل بدنياه، وأعرض عن آخرته، فهو كاللاعب. والمعنى بأهل القرى كل أهل قرية يقيم
[ 315 ]
على معاصي الله في كل وقت وزمان، وإن نزلت بسبب أهل القرى الظالم أهلها، المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما خص سبحانه هذين الوقتين، لأنه أراد أنه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا، ونهارا، عن الحسن (أفأمنوا مكر الله) أي: أفبعد هذا كله، أمنوا عذاب الله أن يأتيهم من حيث لا يشعرون، عن الجبائي، قال: دخلت الفاء للتعقيب، وسمي العذاب مكرا، لنزوله بهم من حيث لا يعلمون، كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكر، من حيث لا يعلمه. وقيل: إن مكر الله: استدراجه إياهم بالصحة، والسلامة، وطول العمر، وتظاهر النعمة. (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) يسأل عن هذا فيقال: إن الأنبياء والمعصومين أمنوا مكر الله، وليسوا بخاسرين ؟ وجوابه من وجوه أحدها: إن معناه لا يأمن مكر الله من المذنبين إلا القوم الخاسرون، بدلالة قوله سبحانه: (ان المتقين في مقام أمين) وثانيها: إن معناه لا يأمن عذاب الله للعصاة إلا الخاسرون، والمعصومون لا يأمنون عذاب الله للعصاة، ولهذا سلموا من مواقعة الذنوب. وثالثها: لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته، إلا الخاسرون. ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف، لعقاب الله تعالى، ليسارع إلى طاعته، واجتناب معاصيه، ولا يستشعر الأمن من ذلك، فيكون قد خسر في دنياه وآخرته، بالتهالك في القبائح. أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون 100 تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين 101 وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين 102 القراءة: قرأ يعقوب برواية زيد: (أو لم نهد) بالنون، وكذلك في طه، والسجدة، وبه قرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وقتادة. والباقون بالياء.
[ 316 ]
الحجة: من قرأ (نهد) بالنون فإنه للتعظيم، وهذا يقوي أن المعنى في قوله (أو لم يهد) بالياء، أو لم يبين الله سبحانه لهم دون أن يكون المعنى أو لم يهد لهم مشيئتنا، أو اصطلامنا لمن أهلكناه. اللغة: القصص: إتباع الحديث الحديث، يقال: فلان يقص الأثر أي: يتبعه، ومنه المقص لأنه يتبع في القطع أثر القطع. والنبأ: الخبر عن أمر عظيم الشأن، ولذلك أخذ منه إسم نبي. والوجدان والإلفاء، والإدراك، والمصادفة، نظائر. الاعراب: (نطبع): ليس بمحمول على (أصبناهم) لأنه لو حمل عليه، لكان ولطبعنا، ولكنه على الإستئناف، أي: ونحن نطبع، (ومن عهد) من، هنا: للتبعيض، لأنه إذا لم يوجد بعض العهد، لم يوجد الجميع، والأولى أن تكون (من) مزيدة للتعميم واستغراق الجنس. وقيل: إن أصلها لابتداء الغاية، فدخلت على ابتداء الجنس إلى انتهائه. (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين): إن هذه هي المخففة من الثقيلة، وإذا خففت جاز إلغاؤها من العمل، وأن يليها الفعل، لأنها حينئذ قد صارت خارجة من شبه الفعل. المعنى: ثم أنكر سبحانه عليهم تركهم الإعتبار بمن تقدمهم من الأمم، فقال (أو لم يهد): وهو استفهام يراد به التقرير، أي: أو لم يبين الله، وبالنون أو لم نبين، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. وقيل: معناه أو لم يهد ما تلونا من أنباء القرى. وقيل: تقديره أو لم يهد لهم مشيئتنا، لأن قوله: (أن لو نشاء أصبناهم) في موضع رفع بأنه فاعل يهدي (للذين يرثون الأرض من بعد أهلها) معناه: الذين خلفوا في الأرض من بعد أهلها الذين أهلكهم الله بتكذيبهم للرسل (أن لو نشاء أصبناها بذنوبهم) يعني: أو لم نبين أنا لو شئنا أهلكناهم بعقاب ذنوبهم، كما أهلكنا الأمم الماضية قبلهم (ونطبع على قلوبهم) قد ذكرنا معنى الطبع والختم في أوائل سورة البقرة (فهم لا يسمعون) الوعظ، ولا يقبلونه. ثم أخبر سبحانه عن أهل القرى التي ذكرها، وقص خبرها، فقال: (تلك القرى) والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (نقص عليك من أنبائها) لتتفكر فيها، وتخبر قومك بها، ليتذكروا، ويعتبروا، ويحذروا عن الإصرار على مثل حال أولئك المغترين
[ 317 ]
بطول الإمهال في النعم السابغة، والمنن المتظاهرة (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) أي: الدلالات والحجج، وإنما أضاف الرسل إليهم مع أنهم رسل الله، لأن المرسل مالك الرسالة، وقد ملك العباد الإنتفاع بها، والإهتداء بما فيها من البيان (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) معناه: فما إهلكناهم إلا وقد كان في معلومنا أنهم لا يؤمنون أبدا، عن مجاهد، قال: ويريد بقوله (من قبل) من قبل الهلاك وهو بمنزلة قوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه). وقيل: معناه إن عتوهم في كفرهم، وتمردهم فيه، يحملهم على أن لا يتركوه إلى الإيمان، فما كانوا ليؤمنوا بعد أن جاءتهم الرسل بالمعجزات، بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك البينات، عن الحسن. وقيل: معناه ما كان هؤلاء الخلف ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم. قال الأخفش: بما كذبوا معناه بتكذيبهم، فجعل ما مصدرية. (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) قيل: إن الله سبحانه شبه الكفر بالصدأ (1)، لأنه يذهب عن القلوب بحلاوة الإيمان، ونور الإسلام، كما يذهب الصدأ بنور السيف، وصفاء المرآة. ولما صاروا عند أمر الله لهم بالإيمان إلى الكفر، جاز أن يضيف الله سبحانه الطبع إلى نفسه كما قال: (زادتهم رجسا إلى رجسهم) وإن كانت السورة لم تزدهم ذلك، عن جعفر بن حرب، والبلخي. ووجه التشبيه في الكاف، ومعناه: إن دلالته على أنهم لا يؤمنون، كالطبع علي قلوب الكافرين الذين في مثل صفتهم. وقيل: معناه كما دل الله لكم بالإخبار على أنهم لا يؤمنون، فكذلك يدل للملائكة بالطبع على أنهم لا يؤمنون. (وما وجدنا لأكثرهم) أي: ما وجدنا لأكثر المهلكين (من عهد) أي: من وفاء بعهد، كما يقال: فلان لا عهد له، أي: لا وفاء له بالعهد، وليس بحافظ للعهد. ويجوز أن يكون المراد بهذا العهد: ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم، وطاعة المالك المحسن، واجتناب القبائح. ويجوز أن يكون المراد به ما أخذ على المكلفين عنى ألسنة الأنبياء أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وهو قول الحسن. (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) اللام وإن للتأكيد، والمعنى: وإنا وجدنا (1) صدأ الحديد والنحاس ونحوهما: وسخه. (*)
[ 318 ]
أكثرهم ناقضين للعهد، مخلفين للوعد. ويسأل فيقال: كيف (أكثرهم) وكلهم فسقة، وكيف يجوز أن يكون كافر غير فاسق ؟ والجواب: إنه قد يكون الكافر عدلا في دينه، غير مرتكب لما يحرم في طريقته، فعلى هذا يكون المعنى: وإن أكثرهم مع كفرهم، فاسق في دينه، غير لازم لمذهبه، ناقض للعهد، وقليل الوفاء بالوعد. ثم بعثنا من بعدهم موسى بأياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين 103 وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين 104 حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل 105 قال إن كنت جئت بأية فأت بها إن كنت من الصادقين 106 فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين 107 ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين 108. القراءة: قرأ نافع وحده: (حقيق علي) بتشديد الياء. والباقون بتخفيف الياء. الحجة: قال أبو علي: حجة نافع في قوله (حقيق علي) واتصاله بعلى من وجهين: أحدهما: إن (حق) الذي هو فعل يعدى بعلى، قال: فحق علينا قول ربنا والآخر: إن (حقيق) بمعنى واجب، فكما أن وجب يتعدى بعلى، كذلك يتعدى حقيق به. ومن قرأ (حقيق على): فجاز تعديته بعلى من الوجهين اللذين ذكرنا. وقد قالوا: هو حقيق بكذا، فيجوز على هذا أن يكون على بمعنى الباء. قال أبو الحسن: كما وقعت الباء في قوله: (بكل صراط توعدون) موقع على، كذلك وقعت على هنا موقع الباء. اللغة: البعث: الإرسال، وهو في الأصل النقل باعتماد يوجب الإسراع في المشي. فالبعث بعد الموت: نقل إلى حال الحياة، والبعث للأنبياء: نقل بالإرسال عن حالة إلى حالة النبوة. والعصا: عود كالقضيب يابس، وأصله الإمتناع بيبسه،
[ 319 ]
يقال: عصي بالسيف يعصى إذا امتنع، قال جرير: تصف السيوف، وغيركم يعصي بها يابن القيون، وذاك فعل الصيقل (1) ويقال عصا بالسيف: أي أخذه أخذ العصا، ويقال لمن استقر بعد تنقل: ألقى عصاه. قال: فألقت عصاها واستقرت بها النوى (1) كما قر عينا بالإياب المسافر وليست المعصية بمشتقة من العصا، لأن العصا من بنات الواو، والمعصية من بنات الياء، قال: فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق (3) وأصل ألقى: من اللقاء الذي هو الإتصال، فألقى عصاه أي: أزال اتصالها عما كان عليه. والثعبان: الحية الضخمة الطويلة. قال الفراء: الثعبان أعظم الحيات، وهو الذكر، وهو مشتق من ثعبت الماء أثعبه: إذا فجرته، والمثعب مجتمع انفجار الماء، فسمي الثعبان، لأنه كعنق الماء عند الإنفجار. والنزع: إزالة الشئ عن مكانه الملابس معه المتمكن فيه، كنزع الرداء عن الإنسان. والنزع، والقلع، والجذب، نظائر. الاعراب: موضع (كيف) في قوله: (كيف كان)، نصب لأنه خبر كان، وتقديره أنظر أي شئ كان عاقبة المفسدين. و (موسى): على وزن مفعل. والميم زائدة لكثرة زيادتها أولا كالهمزة، حتى صارت أغلب من زيادة الألف أخيرا، وأفعى على وزن أفعل لهذه العلة، و (موسى) لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرفة، وموسى الحديد عربي، وإن سميت به رجلا لم تصرفه، لأنه مؤنث ومعرفة على أكثر من ثلاثة أحرف، كما لو سميته بعناق، لم تصرفه. و (فرعون): على وزن فعلون مثل برذون، فالواو زائدة، لأنها جاءت مع سلامة الأصول الثلاثة، والنون زائدة للزومها، (1) القيون جمع القين: الحداد. والصيقل: الذي يشحذ السيف، ولا يستعمله. (2) استقر نوى القوم بموضع كذا: أقاموا. (3) السابري من الثياب: الرقاق، وكل ثوب رقيق سابري. وثوب مشبرق: ممزق مقطع. وقال في (اللسان) عصوا البئر عرقوتاه، وأنشد هذا البيت. (*)
[ 320 ]
وفرعون لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة، عرب في حال تعريفه، لأنه نقل من الإسم العلم، ولو عرب في حال تنكره لا نصرف كما ينصرف ياقوت في إسم رجل. (إلا الحق): نصب بأنه مفعول القول على غير الحكاية، بل على معنى الترجمة، عن المعنى، دون حكاية اللفظ. قوله: (إن كنت جئت بآية) قال أبو العباس المبرد: إن هنا لم ينقل الماضي إلى معنى الإستقبال من أجل قوة كان، لأنها أم الأفعال، ولا يجوز ذلك في غيرها. وقال أبو بكر السراج: المعنى إن تكن جئت بآية أي: إن صح ذلك قال: إذا أمكن إجراء الحرف على أصله، لم يجز إخراجه عنه، وإن ينقل الفعل نقلين إلى الشرط والإستقبال، كما ان لم ينقل الفعل إلى النفي والماضي. وضمير المخاطب في (كنت) يرجع إلى المكنى، ولا يجوز ذلك في الذي لأن الذي غائب، فحقه أن يعود إليه ضمير الغائب. وقد أجازوه إذا تقدمت كناية المتكلم، في نحو قول الشاعر: وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا، وتركت تغلب غير ذات سنام ونحو ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: أنا الذي سمتني أمي حيدره أكيلكم بالسيف كيل السندره (1) وعلى هذا يجوز أنت الذي ضربك عمرو، والوجه ضربه عمرو، وقوله (فائت بها): جاز وقوع الأمر في جواب الشرط، لأن فيه معنى إن كنت جئت بآية فإني ألزمك أن تأتي بهذا، فقد عاد إلى أنه وجب الثاني بوجوب الأول. قوله: (فإذا هي ثعبان مبين) إذا هذه ظرف مكان، ويسمى ظرف المفاجأة، وهي بخلاف إذا التي هي ظرف زمان، وفيها معنى الشرط، ويعمل فيها جوابها، ومثال إذا التي هي ظرف المكان قولهم: خرجت فإذا الناس وقوف، فإذا في موضع نصب بكونها ظرفا لوقوف، وتقديره فبالحضرة الناس وقوف. فيجوز أن ينصب وقوفا على الحال، لأن إذا ظرف مكان، وظروف المكان تكون إخبارا عن الجثث. وهذه المسألة وقعت بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيى بن خالد (1) السندرة - بفتح السين - ضرب من الكيل عزاف جراف، والعزاف: مكيال ضخم، والجراف: نوع منه، يعني: أقتلكم قتلا واسعا كبيرا ذريعا. (*)
[ 321 ]
البرمكي، فيما رواه علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب، ومحمد بن زيد المبرد، قالا: لما ورد سيبويه بغداد، شق أمره على الكسائي، فأتى جعفر بن يحيى، والفضل بن يحيى، فقال: أنا وليكما وصاحبكما، وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي. فقالا له: فاحتل لنفسك، فإنا سنجمع بينكما. فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء، وعلي الأحمر، وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول (كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها) قال أقول: فإذا هو هي). فأقبل عليه الجمع، فقالوا أصه: أخطأت ولحنت ! فقال يحيى: هذا موضع مشكل ! أنتما إماما مصريكما فمن يحكم بينكما ؟ قال: فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب. فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم، فقالوا: إنا نقول فإذا هو إياها وانصرف المجلس على أن سيبويه أخطأ، وحكموا عليه بذلك، فأعطاه البرامكة، وأخذوا له من الرشيد، وبعثوا به إلى بلده، فما لبث بعد هذا الأمر الا يسيرا حتى مات، ويقال إنه مات كمدا (1). قال علي بن سليمان: (وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم، يقولون: إن الجواب على ما قال سيبويه فإذا هو هي). وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان، وذلك أن النصب إنما يكون على الحال، نحو خرجت فإذا الناس وقوفا، جاز النصب هنا، لأن وقوفا نكرة، والحال لا يكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال، فإن المضمر معرفة، والمعرفة لا تكون حالا، فوجب العدول عن النصب إلى الرفع، كما تقول: فإذا الناس وقوف. المعنى: ثم عطف سبحانه بقصة موسى عليه السلام على ما تقدم من قصص الأنبياء عليهم السلام، فقال: (ثم بعثنا من بعدهم) أي: من بعد الرسل الذين ذكرناهم، أو من بعد الأمم الذين ذكرنا إهلاكهم (موسى بآياتنا) أي: بدلائلنا وحججنا (إلى فرعون وملائه) أي: أشراف قومه، وذوي الأمر منهم (فظلموا بها) أي: ظلموا (1) الكمد. الحزن الشديد. مرض القلب من الحزن. (*)
[ 322 ]
أنفسهم بجحدها، عن الحسن، والجبائي. وقيل: فظلموا بوضعها غير مواضعها، فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر والجحود، لأن الظلم: وضع الشئ في غير موضعه الذي هو حقه، ولم يقل فذهب موسى عليه السلام، فأدى إليهم الرسالة، فكذبوه لأن في قوله (فظلموا بها) دلالة عليه (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) يعني: ما آل إليه أمرهم في الهلاك (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) هذه حكاية موسى لفرعون، وندائه له: إني رسول اليك من قبل رب العالمين، مبعوث اليك وإلى قومك. قال وهب: وكان اسم فرعون الوليد بن مصعب، وهو فرعون يوسف، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر، واليوم الذي دخلها موسى رسولا، أربعمائة عام. (حقيق على أن لا أقول على الله الا الحق) قال الزجاج: معناه حقيق على ترك القول على الله إلا الحق. وقال الإمام العلامة الزمخشري: تقول: أنا حقيق على قول الحق أي: واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، والقائم به، ولا يرضى الا مثلي ناطقا به، ومنه قول العرب: فلان يدعيه العلم بالطرق فوق ما يدعي هو العلم بها. وقال الفراء: معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، فيكون على بمعنى الباء، كما تقول رميت السهم على القوس، وبالقوس، وجاءني فلان على حالة حسنة، وبحالة حسنة وقيل: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، وما فرضه علي من الرسالة، عن أبي عبيدة. (قد جئتكم ببينة) أي: بحجة ومعجزة (من ربكم) أي أعطانيها ربكم (فأرسل معي بني إسرائيل) أي: فأطلق بني إسرائيل من عقال التسخير، وخلهم يرجعوا إلى الأرض المقدسة، وذلك أن فرعون والقبط، كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل، واعتقلوهم للاستخدام في الأعمال الشاقة، مثل بناء المنازل، وحمل الماء، ونقل التراب، وما أشبه ذلك (قال) فرعون (إن كنت جئت بآية) أي: حجة ودلالة تشهد لك على ما تقوله (فأت بها إن كنت من الصادقين) في أنك رسول الله. (فألقى عصاه) الفاء فاء الجواب، أي: فكان جوابه لفرعون أن ألقى عصاه
[ 323 ]
من يده (فإذا هي ثعبان مبين) أي: حية عظيمة بين ظاهر أنه ثعبان بحيث لا يشتبه على الناس، ولم يكن مما يخيل أنه حية، وليس بحية. وقيل: إن العصا لما صارت حية. أخذت قبة فرعون بين فكيها، وكان ما بينهما ثمانون ذراعا، فتضرع فرعون إلى موسى بعد أن وثب من سريره، وهرب منها، وأحدث، وهرب الناس، ودخل فرعون البيت، وصاح: يا موسى خذها، وأنا أؤمن بك فأخذها موسى، فعادت عصا، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: وكان طولها ثمانين ذراعا (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) هناك، قيل: إن فرعون قال له: هل معك آية أخرى ؟ قال: نعم، فأدخل يده في جيبه، وقيل: تحت إبطه، ثم نزعها أي: أخرجها منه وأظهرها، فإذا هي بيضاء أي: لونها أبيض نوري. ولها شعاع يغلب نور الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم فيما يروى، ثم أعاد اليد إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول، عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد. سؤال: قيل كيف قال سبحانه هنا: (فإذا هي ثعبان)، وقال في موضع آخر: (فلما رآها تهتز كأنها جان)، والثعبان: الحية العظيمة، والجان: الحية الصغيرة، فاختلف الوصفان، والقصة واحدة ؟. والجواب: إن الآيتين ليستا إخبارا عن قصة واحدة، بل الحالتان مختلفتان، والحالة التي كانت العصا بصفة الجان، كانت في ابتداء النبوة، والحالة التي كانت بصفة الثعبان، كانت عند لقائه فرعون، وعلى هذا فلا سؤال. وقد أجيب أيضا عن ذلك بأنه شبهها بالجان، لسرعة حركتها، ونشاطها، وخفتها، مع أنها في جسم الثعبان، وكبر خلقه، وهذا أبهر في باب الإعجاز. حديث العصا: قد ذكرنا نسب موسى عليه السلام في سورة البقرة، وأما عصاه فقيل: إنه أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين. وقيل: إنها عصا آدم من آس الجنة، حين أهبط، وكانت تدور بين أولاده حتى انتهت النوبة إلى شعيب، فكانت ميراثا له مع أربعين عصا، كانت لآبائه، فلما استأجر شعيب موسى، أمره بدخول بيت فيه العصي، وقال له: خذ عصا من تلك العصي، فوقعت تلك العصا بيد موسى. فاستردها شعيب، وقال: خذ غيرها. حتى فعل ذلك ثلاث مرات، في كل مرة تقع يده عليها دون غيرها، فتركها في يده في المرة الرابعة.
[ 324 ]
فلما خرج من عنده متوجها إلى مصر. ورأى نارا، وأتى الشجرة، فناداه الله تعالى أن يا موسى إني انا الله، وأمره بإلقائها، فألقاها فصارت حية، فولى هاربا، فناداه الله سبحانه (خذها ولا تخف) فأدخل يده بين لحييها، فعادت عصا. فلما أتى فرعون ألقاها بين يديه على ما تقدم بيانه. وقيل: كان الأنبياء عليهم السلام يأخذون العصا تجنبا من الخيلاء، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعصوا فإنها من سنن إخواني المرسلين). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج في سفر ومعه عصا من لوز مر، وتلا هذه الآية (ولما توجه تلقاء مدين) إلى قوله (والله على ما نقول وكيل) آمنه الله من كل سبع ضار، ومن كل لص عاد، ومن كل ذات حمة، حتى يرجع إلى أهله ومنزله، وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات، يستغفرون له حتى يرجع ويضعها). وقيل: إن أول من أخذ العصا عند الخطبة في العرب: قس بن ساعدة. قال الملأمن قوم فرعون إن هذا لساحر عظيم 109 يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون 110 قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين 111 يأتوك بكل ساحر عليم 112. القراءة: قرأ أهل المدينة، والكسائي، وخلف: (ارجه) بكسر الهاء بغير همز بين الجيم والهاء، إلا أن نافعا، والكسائي، وخلفا، يشبعون كسرة الهاء، ولا يشبع أبو جعفر. وقالون عن نافع بل يكسران الهاء بغير همز بين الجيم والهاء. وقرأ عاصم وحمزة (ارجه) بغير همز وسكون الهاء، وقرأ الباقون: (ارجئه) بالهمز وضم الهاء، وفي الشعراء مثله. وقرأ (بكل سحار) بألف بعد الحاء كوفي، غير عاصم هاهنا، وفي يونس وقرأ الباقون (ساحر) بألف قبل الحاء في السورتين، ولم يختلفوا في الشعراء أن الألف بعد الحاء هناك. الحجة: قال أبو علي: (أرجئه) أفعله من الإرجاء وهو التأخير، ولا بد من ضم الهاء مع الهمزة، ولا يجوز غيره، وأن لا يبلغ الواو أحسن، لأن الهاء خفية، فلو بلغ بها الواو، لكان كأنه جمع بين ساكنين، ومن قال (أرجئهو) فألحق الواو،
[ 325 ]
فلأن الهاء متحركة، ولم يلتق ساكنان، لأن الهاء يفصل بينهما، ولو كان مع الهاء حرف لين، لكان وصلها بالواو أقبح، نحو عليهو لاجتماع حروف متقاربة مع أن الهاء ليس بحاجز قوي. ومن قرأ (أرجهي) فوصل الهاء بياء، فلأن هذه الهاء يوصل في الإدراج بواو وياء، نحو بهو وبهي وضر بهو. ومن قرأ (ارجه) فلأن في أرجأت لغتين: أرجئت وأرجيت، فإذا قال: (ارجه) كان من أرجيت. قال الزجاج: زعم الحذاق بالنحو أن هذه الهاء لا يجوز إسكانها أعني هاء الإضمار، وزعم بعض النحويين أن إسكانها جائز، وأن هاء التأنيث يجوز إسكانها، واستشهد ببيت مجهول وهو: لما رأى أن لادعه، ولا شبع، مال إلى أرطاة حقف فاضطجع (1) قال: وهذا شعر لا يعرف قائله، والشاعر قد يجوز أن يخطئ. وحجة من قرأ (ساحر) قوله (فألقي السحرة)، و (لعلنا نتبع السحرة) والسحرة: جمع ساحر، وكذلك قوله (سحروا اعين الناس). وحجة من قرأ (سحار) انه قد وصفه بعليم، وذلك يدل على تناهيه فيه، وحذقه به، فحسن لذلك أن يذكروا بالإسم الدال على المبالغة في السحر. اللغة: السحر: لطف الحيلة في إظهار أعجوبة توهم المعجزة، وقال الأزهري: السحر صرف الشئ عن حقيقته إلى غيره، وأصل السحر: خفاء الأمر. والسحر: آخر الليل، لخفاء الشخص ببقية ظلمته. والسحر: الرئة، لخفاء أمرها. ويقال سحر المطر الأرض إذا جادها فقطع نباتها عن أصوله، فقلب الأرض ظهرا لبطن بسحرها سحرا، والأرض مسحورة، فشبه سحر الساحر بذلك لتخييله إلى من سحره أنه يرى الشئ بخلاف ما هوبه. الاعراب: (فماذا تأمرون): موضع (ما) يحتمل أن يكون رفعا، ويكون (ذا) بمعنى الذي فيكون بمعنى فما الذي تأمرون. ويحتمل أن يكون نصبا، ويكون (ما) و (ذا) إسما واحدا، ويكون بمعنى فأي شئ تأمرون. و (يأتوك): مجزوم لأنه جواب الأمر، وعامل الإعراب فيه محذوف، وتقديره. فإنك إن ترسل يأتوك. (1) الدعة: الخفض في العيش. الأرطي: شجر واحدته أرطاة. الحقف بالكسر: ما اعوج من الرمل، واستطال. (*)
[ 326 ]
والباء في قوله (بكل ساحر): يحتمل أن يكون بمعنى مع أي يأتون ومعهم كل ساحر، فيكون في موضع الحال. ويحتمل أن يكون للتعدية، تقول: ذهبت به، وأذهبته وأتيت به، وأتيته. المعنى: ثم حكى سبحانه ما قاله أشراف قوم فرعون، فقال: (قال الملأ من قوم فرعون) لمن دونهم في الرتبة من الحاضرين (إن هذا لساحر عليم) بالسحر (يريد أن يخرجكم من أرضكم) معناه: يريد أن يستميل بقلوب بني إسرائيل إلى نفسه، ويتقوى بهم، فيغلبكم بهم، ويخرجوكم من بلدتكم (فماذا تأمرون) قيل: إن هذا فول الأشراف بعضهم لبعض، على سبيل المشورة. ويحتمل أن يكون قالوا ذلك لفرعون، وإنما قالوا (تأمرون) بلفظ الجمع، على خطاب الملوك. ويحتمل أيضا أن يكون قول فرعون لقومه، فيكون تقديره: قال فرعون لهم فماذا تأمرون، وهو قول الفراء، والجبائي. (قالوا أرجه وأخاه) أي: قالوا لفرعون أخره وأخاه هارون، ولا تعجل بالحكم فيهما بشئ، فتكون عجلتك حجة عليك، عن الزجاج. وقيل: أخره أي: احبسه، والأول أصح لأنه كان يعلم أنه لا يقدر على حبسه مع ما رأى من تلك الآيات (وأرسل في المدائن) التي حولك (حاشرين) أي: جامعين للسحرة يحشرون من يعلمونه منهم، عن مجاهد، والسدي. وقيل: هم أصحاب الشرط، أرسلهم في حشر السحرة، وكانوا اثنين وسبعين رجلا، عن ابن عباس (يأتوك بكل ساحر عليم) أي: يحشرون اليك السحرة ليجتمعوا، ويعارضوا موسى فيغلبوه. وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراإن كنا نحن الغالبين 113 قال نعم وإنكم لمن المقربين 114 قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين 115 قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم 116. القراءة: قرأ أهل الحجاز، وحفص: (إن لنا لأجرا) بهمزة واحدة على الخبر. وقرأ: (أئن) بهمزتين محققتين ابن عامر، وأهل الكوفة، غير حفص. وقرأ
[ 327 ]
أبو عمرو (أئن) بهمزة ممدودة. وقرأ يعقوب، غير زيد، بهمزة غير ممدودة. الحجة: قال أبو علي: الإستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم يستفهمون عن الأجر، وليسوا يقفون على أن لهم الأجر، ويقوي ذلك إجماعهم في الشعراء، وربما حذفت همزة الإستفهام. قال أبو الحسن في قوله: (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) إن من الناس من يذهب إلى أنه على الإستفهام، وقد جاء ذلك في الشعر، قال: أفرح أن أرزأ الكرام، وأن أورث ذودا شصائصا نبلا (1) وهذا أقبح من قوله: وأصبحت فيهم آمنا، لا كمعشر أتوني، فقالوا: من ربيعة أم مضر لأن أم يدل على الهمزة. الاعراب: (نحن) يحتمل أن يكون موضعه رفعا، ويكون تأكيدا للضمير المتصل في (كنا). ويحتمل أن يكون فصلا بين الخبر والإسم، ونعم حرف مع أنه يجوز الوقف عليه، لأنه في الوجوب نظير لا في النفي، وإنما جاز الوقف على كل واحد منهما، لأنه جواب لكلام يستغنى بدلالته عليه، عما يتصل به. والواو في قوله (وإنكم): واو العطف، فكأنه قال لكم ذلك. (وإنكم لمن المقربين) وهو في مخرج الكلام، كأنه معطوف على الحرف، وكسرت الألف من (إنكم) لأنه في موضع استئناف بالوعد، ولم يكسر لدخول اللام في الخبر، لأنه لو لم يكن اللام، لكانت مكسورة، وإنما دخلت (أن) في قوله (إما أن تلقي) ولم تدخل في (إما يعذبهم واما يتوب عليهم) لأن فيه معنى الأمر، كأنه قال: اختر إما أن تلقي أي: إما إلقاؤك، وإما إلقاؤنا، فموضع (أن) نصب. ويجوز أيضا أن يكون التقدير إما إلقاؤك مبدوء به، وإما إلقاؤنا فموضع (أن) على هذا يكون نصبا. المعنى: (وجاء السحرة فرعون) في الكلام حذف كثير، تقديره: فأرسل (1) الرزيئة: المصيبة. الذود: الطائفة القليلة من الإبل. الشصوص من النوق: القليلة اللبن. النبل بفتحتين: صغار الإبل أي: أأفرح بصغار الإبل، وقد رزئت بكبار الكرام، قاله حين عيره رجل بأنه فرح بموت أخيه لما ورثه. (*)
[ 328 ]
فرعون في المدائن حاشرين، يحشرون السحرة، فحشروهم، فجاء السحرة فرعون، وكانوا خمسة عشر ألفا، عن ابن إسحاق. وقيل: ثمانين ألفا عن ابن المنكدر. وقيل: سبعين ألفا، عن عكرمة. وقيل: بضعة وثلاثين ألفا، عن السدي. وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، إثنان من القبط، وهما رئيسا القوم، وسبعون من بني إسرائيل، عن مقاتل. وقيل: كانوا سبعين عن الكلبي. (قالوا) لفرعون، إنما لم يقل فقالوا، حتى يتصل الثاني بالأول، لأن المعنى لما جاؤوا قالوا، لم يصلح دخول الفاء على هذا الوجه (أئن لنا لأجرا) (1) أي: عوضا على عملنا، وجزاء بالخير (إن كنا نحن الغالبين) لموسى (قال نعم) أي: قال فرعون مجيبا لهم عما سألوه: نعم لكم الأجر (وإنكم لمن المقربين) أي: وإنكم مع حصول الأجر لكم، لمن المقربين إلى المنازل الجليلة، والمراتب الخطيرة، التي لا يتخطى إليها العامة، ولا يحظى (2) بها إلا الخاصة. وفي هذا دلالة على حاجة فرعون وذلته لو استدل قومه به وأحسنوا النظر فيه لنفوسهم، لأن من المعلوم أنه لم يحتج إلى السحرة إلا لعجزه وضعفه. (قالوا) يعني: قالت السحرة لموسى (يا موسى إما أن تلقي) ما معك من العصا أولا (وإما أن نكون نحن الملقين) لما معنا من العصي والحبال أولا. (قال) لهم موسى (ألقوا) أنتم وهذا أمر تهديد وتقريع كقوله سبحانه: (إعملوا ما شئتم). وقيل: معناه ألقوا على ما يصح، ويجوز لا على ما يفسد، ويستحيل. وقيل: معناه إن كنتم محقين فألقوا (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) أي: فلما ألقى السحرة ما عندهم من السحر، احتالوا في تحريك العصي والحبال، بما جعلوا فيها من الزئبق، حتى تحركت بحرارة الشمس، وغير ذلك من الحيل، وأنواع التمويه، والتلبيس، وخيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية، وإنما سحروا أعين الناس، لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته، وخفي ذلك عليهم، لبعده منهم، فإنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم. وفي هذا دلالة على أن السحر لا حقيقة له، لأنها لو صارت حيات حقيقية، لم (1) كذا في جميع النسخ ولعله على قراءة أهل الكوفة. (2) حظي: كان ذا منزلة، ومكانة، وحظ. (*)
[ 329 ]
يقل الله سبحانه (سحروا أعين الناس) بل كان يقول فلما ألقوا صارت حيات. وقد قال سبحانه أيضا: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) (واسترهبوهم) أي: استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس، عن الزجاج. وقيل: معناه أرهبوهم وأفزعوهم، عن المبرد (وجاءوا بسحر عظيم) وصف سحرهم بالعظم لبعد مرام الحيلة فيه، وشدة التمويه به، فهو لذلك عظيم الشأن عند من يراه من الناس، ولأنه على ما ذكرناه في عدة السحرة وكثرتهم، كان مع كل واحد منهم عصا، أو حبل، فلما ألقوا، وخيل إلى الناس أنها تسعى، استعظموا ذلك، وخافوه. وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون 117 فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون 118 فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين 119 وألقى السحرة ساجدين 120 قالوا ءامنا برب العالمين 121 رب موسى وهارون 122. القراءة: قرأ حفص، عن عاصم: (تلقف) خفيفة في طه، والشعراء، مثله. والباقون (تلقف) بتشديد القاف في جميعها. الحجة: تلقف وتلقم واحد، وأصله تتلقف، فحذفت التاء التي للمطاوعة في تفعل، وثبتت التاء التي للمضارعة، وتلقف ساكنة اللام مضارع لقف، يلقف، لقفا، قال الشاعر: أنت عصا موسى التي لم تزل تلقف ما يأفكه الساحر اللغة: الإفك: قلب الشئ عن وجهه في الأصل، ومنه الإفك: الكذب، لأنه قلب المعنى عن جهة الصواب، أصل الوقوع: السقوط، كسقوط الحائط، والطائر. والواقعة: النازلة من السماء. قال علي بن عيسى: الوقوع ظهور الشئ بوجوده نازلا إلى مستقره. والحق: كون الشئ في موضعه الذي اقتضته الحكمة. والباطل: الكائن بحيث يؤدي إلى الهلاك، وهو نقيض الحق. فإن الحق كون الشئ بحيث يؤدي إلى النجاة. والغلبة: الظفر بالبغية من العدو في حال المنازعة. والصاغر: الذليل، والصغر والصغار: الذلة، يقال صغر الشئ، يصغر، صغرا وصغرا، وصغارا: إذا ذل، وأصله صغر القدر.
[ 330 ]
الاعراب: (أن ألق) يجوز أن يكون (أن) مع ما بعدها من الفعل، بمنزلة المصدر، فيكون تقديره: وأوحينا إلى موسى بأن الق أي: بالإلقاء. ويجوز أن يكون بمعنى أي، لأنه تفسير ما أوحي إليه. (ما يأفكون): ما بمعنى الذي، وتقديره تلقف ما يأفكون فيه أي: تلقف المأفوك الذي حل فيه الإفك، ومثله (والله خلقكم وما تعملون) يعني وما تعملون فيه. و (ما كانوا يعملون): يحتمل أن تكون (ما) بمعنى المصدر، أي: وبطل عملهم. ويحتمل أن يكون (ما) بمعنى الذي، أي: وبطل الحبال والعصي التي عملوا بها السحر. و (ما) إذا كانت بمعنى المصدر، لا تعمل في الفعل، كما يعمل أن فيه، إذا كانت بمعنى المصدر، لأن أن ينقل الفعل نقلين إلى المصدر، وإلى الإستقبال، ولا ينقله (ما) إلى الإستقبال، تقول: يعجبني ما تصنع الآن، ويعجبني أن تصنع الخير، و (هنالك): دخلت اللام فيه، ليدل على بعد المكان المشار إليه، كما دخلت في ذلك لبعد المشار إليه، فههنا لما بعد قليلا. وهنالك لما كان أشد بعدا، وهو ظرف مبهم، وفيه معنى الإشارة، كما أن ذا مبهم، وإنما دخلت كاف المخاطبة مع بعد الإشارة، لتشعر بتأكيد معنى الإشارة إلى المخاطب، ليتنبه على بعد المشار إليه من المكان، والبعيد أحق بعلامة التنبه من القريب. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن نفسه، فقال: (وأوحينا إلى موسى) أي: ألقينا إليه من وجه لم يشعر به إلا هو (أن ألق عصاك) التي معك (فإذا هي تلقف ما يأفكون) معناه: فألقاها فصارت ثعبانا، فإذا هي تبتلع ما يكذبون فيه أنها حيات، عن مجاهد (فوقع) أي: ظهر (الحق) وهو أمر موسى، وصحة نبوته، ومعجزاته، عن الحسن، ومجاهد. وقيل: وقع الحق بأن صارت العصا حية في الحقيقة (وبطل ما كانوا يعملون) أي: بطل تمويهاتهم، عن الجبائي. وإنما ظهر ذلك لهم لأنهم لما رأوا تلك الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة في العصا، علموا أنه أمر سماوي، لا يقدر عليه غير الله تعالى، فمن تلك الآيات: قلب العصا حية، ومنها: أكلها حبالهم وعصيهم مع كثرتها، ومنها: فناء حبالهم وعصيهم في بطنها، إما بالتفرق، وإما بالفناء عند من جوزه، ومنها: عودها عصا كما كانت من غير زيادة ولا نقصان، وكل من هذه الأمور يعلم كل عاقل أنه لا يدخل تحت مقدور البشر، فاعترفوا بالتوحيد والنبوة، وصار إسلامهم حجة على فرعون
[ 331 ]
وقومه. (فغلبوا هنالك) أي: قهر فرعون وقومه عند ذلك المجمع، وبهت فرعون، وخلى سبيل موسى، ومن تبعه (وانقلبوا صاغرين) أي: انصرفوا أذلاء مقهورين (وألقي السحرة ساجدين) يعني: إن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات، وعلموا أنها من عند الله تعالى، آمنوا بالله تعالى، وبموسى، وسجدوا لله ألهمهم الله ذلك. وقيل: إن موسى وهارون سجدا لله تعالى شكرا له على ظهور الحق، فاقتدوا بهما فسجدوا معهما، وإنما قال (ألقي) على ما لم يسم فاعله، ليكون فيه معنى إلقائهم ما رأوا من عظيم آيات الله، بأن دعاهم إلى السجود لله، والخضوع له، عزت قدرته، وأنهم لم يتمالكوا أنفسهم، عند ذلك، بأن وقعوا ساجدين. وهذا كما يقال: أعجب فلان بنفسه، وإن كان أتي من قبله، وليس يفعل ذلك به غيره. (قالوا آمنا) أي: صدقنا (برب العالمين) الذي خلق السماوات والأرض، وما بينهما (رب موسى وهارون) خصوهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين، لأنهما دعوا إلى الإيمان بالله تعالى، ولشريف ذكرهما ولتفضيلهما على غيرهما، على طريق المدحة والتعظيم لهما. وقيل: إنهم فسروا سجودهم بأن (قالوا آمنا برب العالمين) لئلا يتوهم متوهم أنهم سجدوا لفرعون، ثم قالوا: (رب موسى وهارون) لأن فرعون كان يدعي أنه رب العالمين، فأزالوا به الإبهام، لئلا يتوهم الجهال، أنهم عنوا بقولهم رب العالمين فرعون. وقال علي بن عيسى: يجوز أن يقال إن الله سبحانه، لم يزل ربا، ولا مربوب، كما جاز لم يزل سميعا ولا مسموع، لأنها صفة غير جارية على الفعل، كما جرى صفة مالك على ملك يملك، فالمقدور هو المملوك، ولا يطلق الرب إلا على الله تعالى، لأنه يقتضي أنه رب كل شئ يصح ملكه، ويقال في غيره: رب الدار، ورب الفرس، ومثل (خالق) لا يطلق إلا عليه سبحانه، ويقال في غيره: خالق الأديم. قال فرعون ءامنتم قبل إن إذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون 123 لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم
[ 332 ]
لأصلبنكم أجمعين 124 قالوا إنا إلى ربنا منقلبون 125 وما تنقم منا إلا أن ءامنا بأيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين 126. القراءة: قرأ حفص، عن عاصم: (آمنتم) بهمزة واحدة على الخبر، حيث كان. والباقون بهمزتين على الإستفهام إلا أن أهل الكوفة، إلا حفصا يحققون الهمزتين، وغيرهم حققوا الاولى، ولينوا الثانية، ولم يفصل أحد بين الهمزتين بألف. الحجة: وجه الخبر فيه أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم بإيمانهم، والإنكار عليهم، ووجه الإستفهام أنه على جهة التقريع والتوبيخ أيضا. ومن حقق الهمزتين فإنه على ما يراه من تحقيقهما، والهمزة الثانية ممدودة لأن الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء من الأمن يتصل بها. ومن خفف الهمزة الثانية، فتخفيفها أن يجعلها بين بين. اللغة: الصلب: الشد على الخشبة وغيرها، وأصله من صلابة الشئ، والقراء كلهم على تشديد اللام من التصليب. الأزهري: يقال نقمت على الرجل أنقم، ونقمت، والفصيح نقمت (1)، ابن الأعرابي: النقمة العقوبة والإنكار. قال علي بن عيسى: النقمة ضد النعمة، والفرق بين النقمة والإساءة: أن النقمة قد تكون بحق جزاء على كفر النعمة. والإساءة لا تكون إلا قبيحة. والمسئ مذموم لا محالة والإفراغ: صب ما في الإناء أجمع حتى يخلو، مشتق من الفراغ. والصبر: حبس النفس عن إظهار الجزع، والصبر على الحق عز، كما أن الصبر على الباطل ذل. المعنى: ثم حكى سبحانه ما صدر عن فرعون عند إيمان السحرة، فقال سبحانه: (قال فرعون آمنتم به) أي: أقررتم له بالصدق من (قبل أن آذن لكم) أي: من قبل أن آمركم بإيمان، وآذن لكم في ذلك (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها) أراد فرعون بهذا القول التلبيس على الناس، وإيهامهم أن إيمان السحرة لم يكن عن علم، ولكن لتواطؤ منهم، ليذهبوا مالكم وملككم. وقيل: معناه: إن هذا لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر، قبل (1) يعني بفتح القاف في الماضي وكسرها في المضارع. (*)
[ 333 ]
خروجكم إلى هذا الموضع، لتستولوا على مصر، فتخرجوا منها أهلها (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم، وهذا وعيد لهم، ثم بين الوعيد فقال: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي: من كل شق طرفا. قال الحسن: هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، وكذلك اليد اليسرى مع الرجل اليمنى. (ثم لأصلبنكم أجمعين) أي: لا أدع واحدا منكم إلا صلبته. وقيل: إن أول من قطع الرجل، وصلب، فرعون، صلبهم في جذوع النخل على شاطئ نهر مصر. (قالوا) يعني السحرة جوابا لفرعون: (إنا إلى ربنا منقلبون) أي: راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص، عن ابن عباس. والإنقلاب إلى الله تعالى هو الإنقلاب إلى جزائه، وغرضهم بهذا القول التسلي في الصبر على الشدة، لما فيه من المثوبة مع مقابلة وعيده بوعيد أشد منه، وهو عقاب الله (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) معناه: وما تطعن علينا، وما تكره منا، إلا إيماننا بالله، وتصديقنا بآياته التي جاءتنا، قال ابن عباس: معناه ما لنا عندك من ذنب، ولا ركبنا منك مكروها تعذبنا عليه، الا إيماننا بآيات ربنا، وهي ما أتى به موسى عليه السلام آمنوا بها، أنها من عند الله، ولا يقدر على مثلها إلا هو (ربنا أفرغ علينا صبرا) أي: أصبب علينا الصبر عند القطع والصلب، حتى لا نرجع كفارا. والمراد: ألطف لنا حتى نتصبر على عذاب فرعون، ونتشجع عليه، ولا نفزع منه (وتوفنا مسلمين) أي: وفقنا للثبات على الإيمان والإسلام إلى وقت الوفاة. وقيل: مسلمين مخلصين لله، حتى لا يردنا البلاء عن ديننا. قالوا: فصلبهم فرعون من يومه، فكانوا أول النهار كفارا سحرة، وآخر النهار شهداء بررة. وقيل أيضا: إنه لم يصل إليهم، وعصمهم الله منه ! وقال الملأمن قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون 127. القراءة: روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وعلقمة، وغيرهم: (ويذرك وآلهتك). وعن نعيم بن ميسرة، والحسن بخلاف: (ويذرك) بالرفع. وعن الأشهب: (ويذرك) بسكون الراء،
[ 334 ]
والقراءة المشهورة: (ويذرك وآلهتك). وقرأ أهل الحجاز: (سنقتل أبناءهم) بالتخفيف. والباقون: (سنقتل) بالتشديد. الحجة: اما الإلاهة: فإنه الربوبية والعبادة، فمن قرأ (وإلاهتك) فمعناه ويذرك وربوبيتك، عن الزجاج. وقيل: عبادتك، عن ابن جني قال: ومنه سميت الشمس الآلهة والإلهة، لأنهم كانوا يعبدونها. ومن قرأ (ويذرك) بالرفع فإنه على الإستئناف، أي: وهو يذرك. وأما من أسكن فقال (ويذرك) فإنه كقراءة أبي عمرو وان الله يأمركم، وقد مضى الكلام في ذلك. ومن نصب (ويذرك) فإنه على جواب الإستفهام بالواو، فيكون المعنى: أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذرك، ويجوز أن يكون عطفا على (ليفسدوا). ومن قرأ (سنقتل) بالتخفيف فإنه قد يقع ذلك على التكثير، وغير التكثير، والتثقيل بهذا المعنى أخص، وبالموضع أليق. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن قوم فرعون، فقال سبحانه (وقال الملأ من قوم فرعون) لما أسلم السحرة، تحريضا له على موسى (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) أي: أتتركهم أحياء ليظهروا خلافك، ويدعوا الناس إلى مخالفتك، ليغلبوا عليك، فيفسد به ملكك وأمرك. وقيل: ليفسدوا في الأرض بعبادة غيرك، والدعاء إلى خلاف دينك. وقيل: ليفسدوا فيها بالغلبة عليها، وأخذ موسى قومه منها، وروي عن ابن عباس أنه لما آمن السحرة، أسلم من بني إسرائيل ستمائة ألف نفس، واتبعوه. (ويذرك وآلهتك) قال الحسن، كان فرعون يستعبد الناس، ويعبد الأصنام بنفسه، وكان الناس يعبدونها تقربا إليه. وقال السدي: كان يعبد ما يستحسن من البقر. وروي أنه كان يأمرهم أيضا بعبادة البقر، ولذلك أخرج السامري لهم (عجلا جسدا له خوار) وقال: (هذا إلهكم وإله موسى). وقال الزجاج: كانت له أصنام يعبدها قومه تقربا إليه. ومن قرأ (وآلهتك) قال: كان فرعون يستعبد الناس بنفسه، ولا يعبد شيئا. وروي عن مجاهد أنه قال: كان فرعون يعبد، ولا يعبد. (قال) فرعون (سنقتل أبناءهم) الذين يكون فيهم النجدة والقوة، ويصلحون للقتال (ونستحيي نساءهم) أي: بناتهم نستبقيهن إذ لا يكون فيهن نجدة وفوة، للمهنة والخدمة، استذلالا لهن، وإن كان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى وقومه،
[ 335 ]
فلم يقل سأقتل موسى وقومه، لما رأى من علو أمره، وعظم شأنه، فانتقل إلى عذاب المستضعفين منهم، وهم أبناء بني إسرائيل، وبناتهم، ليوهم أنه يتم له ذلك فيهم أيضا (وإنا فوقهم قاهرون) ظاهر المعنى. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين 128 قالوا أوذينا من قبل أن يأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 129. المعنى: قال ابن عباس: كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل، فلما كان من أمر موسى ما كان، أمر بإعادة القتل عليهم، فشكا ذلك بنو إسرائيل إلى موسى، فعند ذلك (قال موسى لقومه استعينوا بالله) في دفع بلاء فرعون عنكم (واصبروا) على دينكم، وعلى أذى فرعون، (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) أي: ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث، فيورثكم بعد إهلاك فرعون، كما أورثها فرعون. وهذا وعد لهم بحسن العاقبة، ليكون داعيا لهم إلى الصبر (والعاقبة للمتقين) معناه: تمسكوا بالتقوى في الدنيا، فإن حسن العاقبة في الدارين للمتقين، والعاقبة: ما يؤدي إليه البادئة، إلا أنه إذا قيل العاقبة له، فهو في الخير، وإذا قيل العاقبة عليه: فهو في الشر، كما يقال: الدائرة له وعليه، والدبرة له وعليه. (قالوا) أي: قال بنو إسرائيل لموسى (أوذينا من قبل أن تأتينا) أي: عذبنا فرعون بقتل الأبناء، واستخدام النساء، قبل أن تأتينا بالرسالة. وقيل: قبل أن جئتنا (ومن بعد ما جئتنا) أيضا، ويتوعدنا ويأخذ أموالنا، ويكلفنا الأعمال الشاقة، فلم ننتفع بمجيئك. وهذا يدل على أنه جرى فيهم القتل والتعذيب مرتين. قال الحسن: كان فرعون يأخذ الجزية قبل مجئ موسى وبعده، من بني إسرائيل، فلهذا (قالوا أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا) وهذا الذي قالوه، إنما هو استبطاء منهم لما وعدهم موسى عليه السلام من النجاة من فرعون وقومه، فجدد عليه السلام لهم الوعد عن الله تعالى، ليتقوا، به (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم)
[ 336 ]
قال الزجاج: عسى طمع وإشفاق، إلا أن ما يطمع الله فيه، فهو واجب، وهو معنى قول المفسرين: عسى من الله واجب، ومعناه: أوجب ربكم على نفسه أن يهلك عدوكم فرعون، وقومه. (ويستخلفكم في الأرض) أي: يملككم ما كانوا يملكونه في الأرض من بعدهم (فينظر كيف تعملون) أي: فيرى ذلك بوقوعه منكم، لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم، عن الزجاج. وقيل: يعلم ذلك، ومعناه: فيظهر معلومه أي: يبتليكم بالنعمة ليظهر شكركم، كما ابتلاكم بالمحنة ليظهر صبركم، ومثله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين). وموضع (كيف) نصب وتقديره أعملا حسنا تعملون، أم قبيحا، أي: شاكرين كنتم لنعمته أم كافرين. وقد حقق الله سبحانه هذا الوعد، فأورث بني إسرائيل أرض مصر ونواحيها، بعد أن أهلك عدوهم. ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون 130 فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون 131. القراءة: في الشواذ قراءة الحسن: (ألا إنما طيرهم عند الله) بغير ألف. الحجة: الطير: جمع طائر في قول أبي الحسن. وفي قول صاحب الكتاب: الطائر اسم للجمع بمنزلة الجامل والباقر غير مكسر. وروي عن قطرب أن الطير قد يكون واحدا كما أن الطائر واحد، ويجوز أن يكون الطائر جمعا كالجامل، أنشد ابن الأعرابي: كأنه تهتان يوم ماطر (1) على رؤوس كرؤوس الطائر اللغة: العرب تقول أخذتهم السنة إذا كانت قحطة، ويقال: أسنت القوم إذا (1) تهتان: شدة نزول المطر على ما قيل. (*)
[ 337 ]
أجدبوا. وإنما قيل للسنة المجدبة: السنة، ولم يقل للمخصبة، لأنها نادرة في الإنفراد بالجدب، والنادر أحق بالإنفراد بالذكر لانفراده بالمعنى الذي ندر به. قالوا: وجدنا البلاد سنين، أي: جدوبا قال: وأموال اللئام بكل أرض تجحفها الجوائح والسنون (1) وقال آخر: كأن الناس إذ فقدوا عليا نعام جال في بلد سنينا أي: في بلد جدب. والتطير: الطيرة من الشئ وهو التشاؤم به، واشتقاقه من الطير. وطائر الإنسان: عمله، أخذ من ذلك، لأن العرب كانت تزجر الطير، فتتشأم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من قبل اليمين، قال الشاعر: زجرت لها طير الشمال فإن يكن هواك الذي تهوي يصبك اجتنابها ثم كثر ذلك، فسمي نصيب الإنسان طائره. ويقال: طار له من القسم كذا وكذا، وانشد ابن الأعرابي: فإني لست منك، ولست مني، إذا ما طار من مالي الثمين يريد الزوجة إذا أخذ (2) ثمنها من ماله. المعنى: ثم بين سبحانه ما فعله بآل فرعون، وأقسم عليه، فقال: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) اللام للقسم، وقد يقرب الماضي من الحال، لأنه إذا توقع كون أمر، فقيل: قد كان دل على قربه من الحال، وآل الرجل: خاصته الذين يؤول أمره إليهم، وأمرهم إليه، ومعناه: ولقد عاقبنا قوم فرعون بالجدوب، والقحوط (ونقص من الثمرات) أي: وأخذناهم مع القحط وإجداب الأرض بنقصان من الثمرات (لعلهم يذكرون) أي: يخافون فيوحدون الله، فلم يتذكروا. وقيل: لكي يتفكروا في ذلك، ويرجعوا إلى الحق. قال الزجاج: إنما أخذوا بالضراء، لأن (1) قوله تجحفها أي تذهب بها والجوائح جمع الجائحة. النازلة العظيمة. (2) وفي نسخة (أخذت). (*)
[ 338 ]
أحوال الشدة ترق القلوب، وترغب فيما عند الله، ألا ترى إلى قوله: (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض). وقيل: معناه: لكي تتذكروا أن فرعون لو كان إلاها، لما كان يستسلم لذلك الضر. وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، وفي أنه سبحانه يريد الكفر، فإنه بين أنه أراد منهم التذكر والرجوع إلى الله. (فإذا جاءتهم الحسنة) يعني: الخصب، والنعمة، والسعة في الرزق، والسلامة والعافية (قالوا لنا هذه) أي: إنا نستحق ذلك على العادة الجارية لنا من نعمنا، وسعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من عند الله سبحانه فيشكروه عليه، ويؤدوا شكر النعمة فيه (وإن تصبهم سيئة) أي: جوع، وبلاء، وقحط المطر، وضيق الرزق، وهلاك الثمر، والمواشي، (يطيروا بموسى ومن معه) أي: يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاء، وتفسيره: يتشاءموا بهم، عن الحسن، ومجاهد، وابن زيد، وقالوا: ما رأينا شرا ولا أصابنا بلاء حتى رأيناكم (ألا إنما طائرهم عند الله) معناه إلا إنما الشؤم الذي يلحقهم، هو الذي وعدوا به من العقاب عند الله، يفعل بهم في الآخرة، لا ما ينالهم في الدنيا، عن الزجاج. وقيل: إن معناه إن الله تعالى هو الذي يأتي بطائر البركة، وطائر الشؤم، من الخير والشر، والنفع والضر، فلو عقلوا لطلبوا الخير والسلامة من الشر من قبله. وقال الحسن: معناه ألا إن ما تشاءموا به محفوظ عليهم، حتى يجازيهم الله يوم القيامة. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ولا يتفكرون ليعلموا. وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين 132 فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين 133. القراءة: في الشواذ قراءة الحسن: (القمل) بفتح القاف، وسكون الميم، وهو المعروف. اللغة: الطوفان: السيل الذي يعم بتغريقه الأرض، وهو مأخوذ من الطوف
[ 339 ]
فيها. وقيل هو مصدر كالرجحان والنقصان. قال الأخفش: واحده طوفانة. قال أبو عبيدة: الطوفان من السيل البعاق (1)، ومن الموت الذريع. والقمل: كبار القردان، قال أبو عبيدة: هو الحمنان، واحدته حمنة، وحمنانة (2). الاعراب: (مهما) قال الخليل: مه أصلها ما، إلا أنهم أدخلوا عليها ما كما يدخلونها على حروف الجزاء، يقولون اما، ومتى، وما فغيروا ألفها بأن أبدلوها هاء لئلا يوهم التكرير وصارما فيها مبالغة في معنى العموم. وقال غيره: أصلها مه بمعنى أكفف، دخلت على ما التي للجزاء. والفرق بين مهما وما، أن مهما خالصة للجزاء، وفي ما الإشتراك، لأنه قد يكون استفهاما تارة، وبمعنى الذي أخرى، وبمعان أخر. و (تأتنا): مجزوم، وعلامة الجزم فيه الياء، وإنما حذف الياء للجزم، لأنه من حروف المد واللين، وهي مجانسة لحركات الإعراب، ومن شأن الجازم أن يحذف حركة، فإذا لم يصادف حركة، عمل في نفس الحرف، لئلا يتعطل من العمل، والضمير في (به) يعود إلى (مهما)، وتقديره: أي شئ تأتنا به، والضمير في (بها) يعود إلى (آية). (آيات مفصلات): نصب على الحال. المعنى: (وقالوا) أي: قال قوم فرعون لموسى (مهما تأتنا به من آية) أي: أي شئ تأتنا به من المعجزات (لتسحرنا بها) أي: لتموه علينا بها، حتى تنقلنا عن دين فرعون (فما نحن لك بمؤمنين) أي: مصدقين. أشاروا بهذا القول إلى إصرارهم على الكفر، وأنهم لا يصدقونه، وإن أتى بجميع الآيات. ثم زاد الله سبحانه في الآيات، تأكيدا لأمر موسى عليه السلام، كما قال: (فأرسلنا عليهم الطوفان) اختلف فيه، فقيل: هو الماء الغالب الخارج عن العادة، الهادم للبنيان، والقالع للأشجار والزروع، عن ابن عباس. وقيل: هو الموت الذريع الجارف، عن مجاهد، وعطاء. وقيل: هو الطاعون بلغة أهل اليمن، أرسل الله ذلك على أبكار آل فرعون في ليلة، فأقعصهن، فلم يبق منهن إنسان، ولا دابة، عن وهب بن منبه. وقيل: هو الجدري، وهم أول من عذبوا به، (1) سيل بعاق وبعاق: شديد الدفعة. وقيل: هو الذي يجرف كل شئ. (2) الحمن والحمنان: صغار القردان. (*)
[ 340 ]
وبقي في الأرض عن أبي قلابة. وقيل: هو أمر من الله تعالى، طاف بهم، عن ابن عباس، رواه أبو ظبيان عنه، ثم قرأ: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون). (والجراد) هو المعروف (والقمل): اختلف فيه، فقيل: هو الدبى، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له، والجراد الطيارة التي لها أجنحة، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة، والكلبي. وقيل: القمل بنات الجراد، عن عكرمة. وقيل: القمل البراغيث. وقيل: دواب سود صغار، عن سعيد بن جبير، والحسن، وعطاء الخراساني، ولذلك قرأ الحسن: (والقمل). وقيل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة، عن سعيد بن جبير (والضفادع والدم آيات مفصلات) أي: معجزات مبينات ظاهرات، وأدلة واضحات، عن مجاهد. وقيل: مفصلات، أي: بعضها منفصل عن بعض (فاستكبروا) أي: تكبروا عن قبول الحق والإيمان بالله (وكانوا قوما مجرمين): عاصين كافرين. القصة: قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا:. لما آمنت السحرة، ورجع فرعون مغلوبا، وأبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر، قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى، فانظر من دخل في دينه، فاحبسه. فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل، فتابع الله عليهم بالآيات، وأخذهم بالسنين، ونقص من الثمرات، ثم بعث عليهم الطوفان، فضرب دورهم ومساكنهم، حتى خرجوا إلى البرية، وضربوا الخيام، وامتلأت بيوت القبط ماء، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، وأقام الماء على وجه أراضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا. فقالوا لموسى: أدع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا. وقال هامان لفرعون: لئن خليت، بني إسرائيل، غلبك موسى، وأزال ملكك، وأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلأ، والزرع، والثمر، ما أعشبت به بلادهم، وأخصبت، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا، وخصبا، فأنزل الله عليهم في
[ 341 ]
السنة الثانية عن علي بن إبراهيم، وفي الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد، فجردت زروعهم، وأشجارهم، حتى كانت تجرد شعورهم، ولحاهم، وتأكل الأبواب، والثياب، والأمتعة، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل، ولا يصيبهم من ذلك شئ. فعجوا، وضجوا، وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، وقال: يا موسى ! أدع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد، حتى أخلي عن بني إسرائيل. فدعا موسى ربه، فكشف عنه الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. وقيل: إن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت الجراد من حيث جاءت، حتى كأن لم يكن قط. ولم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل، فأنزل الله عليهم السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم، وفي الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل، وهو الجراد الصغار، الذي لا أجنحة له، وهو شر ما يكون وأخبثه، فأتى على زروعهم كلها، واجتثها من أصلها، فذهبت زروعهم، ولحس الأرض كلها. وقيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه، فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه، وكان يأكل أحدهم الطعام، فيمتلئ قملا. قال سعيد بن جبير: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا، فلم يرد منها ثلاثة أقفرة، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، وأخذت أشعارهم وأبشارهم، وأشفار عيونهم، وحواجبهم، ولزمت جلودهم، كأنه الجدري عليهم، ومنعتهم النوم والقرار، فصرخوا وصاحوا. فقال فرعون لموسى: أدع لنا ربك، لئن كشفت عنا القمل، لأكفن عن بني إسرائيل. فدعا موسى حتى ذهب القمل، بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، فنكثوا فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة، وقيل في الشهر الرابع الضفادع، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم، وامتلأت منها بيوتهم، وأبنيتهم، فلا يكشف أحد ثوبا، ولا إناء، ولا طعاما، ولا شرابا، إلا وجد فيه الضفادع، وكانت تثب في قدورهم، فتفسد عليهم ما فيها، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع،
[ 342 ]
ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، ويفتح فاه لأكلته، فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، فلقوا منها أذى شديدا. فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى، وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فادع الله أن يذهب عنا الضفادع، فإنا نؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل. فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربه، فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت. ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم، فلما كانت السنة الخامسة، أرسل الله عليهم الدم، فسال ماء النيل عليهم دما، فكان القبطي يراه دما، والإسرائيلي يراه ماء، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، وإذا شربه القبطي كان دما، وكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك، وصبه في في، فكان إذا صبه في فم القبطي، تحول دما. وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف، فأتوا موسى فقالوا: أدع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا، ولم يخلوا عن بني اسرائيل. ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل 134 فلما كشفنا عنهم الرجزإلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون 135 فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بأياتنا وكانوا عنها غافلين 136. اللغة: أصل الرجز: الميل عن الحق. ومنه (والرجز فاهجر) يعني: عبادة الوثن، والعذاب رجز لأنه عقوبة على الميل عن الحق. والرجز: رعدة في رجل الناقة لداء يلحقها تعدل به عن حق سيرها. والرجز: ضرب من الشعر، أخذ من رجز
[ 343 ]
الناقة، لأنه متحرك وساكن، ثم متحرك وساكن، في كل أجزائه، فهو كالرعدة في رجل الناقة، يتحرك بها ثم يسكن، ثم يستمر على ذلك. والنكث: نقض العهد الذي يلزم الوفاء به. واليم: البحر، قال ذو الرمة: دوية، ودجى ليل، كأنهما يم تراطن في حافاته الروم (1) والغفلة: حال تعتري النفس تنافي الفطنة واليقظة. الاعراب: (إذا): ظرف المفاجأة على ما تقدم بيانه، وليست مضافة إلى الجملة، بل هي بمنزلة هناك، وقد يكتفي بالإسم كما تقول: خرجت فإذا زيد، وفيه وقوع خلاف المتوقع منهم، لأنه أتى منهم نقض العهد بدلا من الوفاء، فكأنه فاجأ الرأي (2) عجب من نكثهم. و (إذا) هذه جواب لما، ومثله قوله: (وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون). ولا يجوز إن يجاب الشرط بإذ لأن (إذ) لا يكون إلا للوقت الماضي، والجواب إنما يكون بعد الأول، ولذلك يصلح فيه الفاء، ولا يصلح الواو، وحرف الجزاء إنما يقلب الفعل إلى الإستفبال دون الوقت. المعنى: ثم اخبر سبحانه عنهم أيضا فقال (ولما وقع عليهم الرجز) أي: العذاب، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، وهو ما نزل بهم من الطوفان وغيره. وقيل: هو الطاعون، أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان، وهو العذاب السادس، عن سعيد بن جبير، ومثله ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه أصابهم ثلج أحمر، ولم يروه قبل ذلك، فماتوا فيه، وجزعوا، وأصابهم ما لم يعهدوه قبله (قالوا) يعني فرعون وقومه (يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي: بما تقدم اليك أن تدعوه به، فإنه يجيبك كما أجابك في آياتك. وقيل: بما عهد عندك أنا لو آمنا لرفع عنا العذاب. وقيل: بما عهد عندك من النبوة، عن أبي مسلم. فعلى هذا يكون الباء باء القسم، والمعنى: بحق ما آتاك الله من النبوة، لما دعوت الله ليكشف هذا عنا (لئن كشفت عنا الرجز) أي: العذاب (لنؤمنن لك) أي: نصدقك في (1) أرض دوية: بعيدة الأطراف مستوية واسعة. المراطنة: التكلم بالعجمية. الحافات: الجوانب. (2) كذا في النسخ التي عندنا ولعله تصحيف (الرائي). (*)
[ 344 ]
أنك نبي أرسلك الله (ولنرسلن معك بني إسرائيل) أي: نطلقهم من الإستخدام، وتكليف الأعمال الشاقة (فلما كشفنا عنهم الرجز) أي: رفعنا عنهم العذاب (إلى أجل هم بالغوه) يعني: الأجل الذي عرفهم الله فيه، وقيل: هو الأجل المقدر، عن الحسن. (إذا هم ينكثون) أي: ينقضون العهد (فانتقمنا منهم) أي: فجزيناهم على سوء صنيعتهم بالعذاب. ثم فسر ذلك العذاب فقال (فأغرقناهم في اليم) أي: البحر (بأنهم كذبوا بآياتنا) أي: فعلنا ذلك بهم جزاء بتكذيبهم آياتنا، وحججنا، وبراهيننا الدالة على صدق موسى، وصحة نبوته، وجحودهم لها. (وكانوا عنها غافلين) معناه أنه أنزل عليهم العذاب، وكانوا غافلين عن نزول ذلك بهم. وقيل: معناه إنا عاقبناهم بتكذيبهم وتعرضهم لأسباب الغفلة، وعملهم عمل الغافل عنها، فيكون وعيدا لهم على الإعراض عن الآيات. وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون 137. القراءة: قرأ ابن عامر وأبو بكر يعرشون بضم الراء والباقون بكسرها. الحجة: هما لغتان فصيحتان والكسر أفصح. اللغة: قا أبو عبيدة يعرشون يبنون يقال عرش مكة أي بناؤها. الاعراب: يجوز أن يكون مشارق الأرض ومغاربها إنما انتصب بأنه مفعول (أورثنا) ويجوز أن يكون ظرفا على تقدير وأورثناهم الأرض في مشارقها ومغاربها. وقيل: إنما انتصبت (مشارق الأرض ومغاربها) على الظرف للإستضعاف والتقدير: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها. وعلى هذا فالهاء في (فيها) يعود إلى (التي) والتي: صفة للأرض المحذوفة،
[ 345 ]
وموضعها نصب بأورثنا. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يعني بني إسرائيل، فإن القبط كانوا يستضعفونهم، فأورثهم الله بأن مكنهم، وحكم لهم بالتصرف، وأباح لهم ذلك بعد إهلاك فرعون وقومه القبط، فكأنهم ورثوا منهم (مشارق الأرض ومغاربها) التي كانوا فيها يعني جنات الأرض الشرق والغرب منها، يريد به ملك فرعون من أدناه إلى أقصاه. وقيل: هي أرض الشام ومصر، عن الحسن، وقيل: هي أرض الشام وشرقها وغربها، عن قتادة. وقيل: هي أرض مصر، عن الجبائي. قال الزجاج: كان من بني إسرائيل داود وسليمان ملكوا الأرض. (التي باركنا فيها) بإخراج الزروع والثمار، وسائر صنوف النبات والأشجار، إلى غير ذلك من العيون والأنهار، وضروب المنافع (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام بتمام النعمة به. وقيل: إن الكلمة الحسنى قوله سبحانه (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) إلى قوله (يحذرون). وقال الحسن: وإن كانت كلمات الله سبحانه كلها حسنة، لأنها وعد بما يحبون. وقال الحسن: أراد وعد الله لهم بالجنة. (بما صبروا) على أذى فرعون وقومه، وتكليفهم إياهم ما لا يطيقونه من الإستعباد، والأعمال الشاقة (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه، أي: أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، والديار، (وما كانوا يعرشون) من الأشجار، والأعناب، والثمار، وقيل: يعرشون يسقفون من القصور والبيوت، عن ابن عباس. وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم إلهة قال إنكم قوم تجهلون 138 إن هؤلاء متبرما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون 139 قال أغير الله أبغيكم إلها
[ 346 ]
وهو فضلكم على العالمين 140. القراءة: (يعكفون): بكسر الكاف كوفي غير عاصم. والباقون بضم الكاف، وهما لغتان. اللغة: المجاوزة: الإخراج عن الحد، وجاز الوادي، يجوز، جوازا: إذا قطعه وخلفه وراءه. وجاوزه، مجاوزة، واجتازه اجتيازا. وأصل البحر: من السعة، ومنه البحيرة: لسعة شق أذنها. وتبحر في العلم إذا اتسع فيه وقوي تصرفه. وعكف على الشئ: واظب عليه ولزمه ومنه الإعتكاف وهو لزوم المسجد للعبادة فيه. والمتبر: من التبار وهو الهلاك، ومنه التبر للذهب، وسمي بذلك لأمرين: أحدهما: إن معدنه مهلكة والآخر: ما قاله الزجاج: إنه يقال لكل إناء مكسر: متبر، وكسارته: تبره. الاعراب: (كما لهم آلهة) ما هذه كافة للكاف، لأن ما بعدها جملة. وقال البصير، وهو واحد زماننا في هذا الفن: ما هاهنا مصدرية، أي كما ثبت لهم آلهة وصلت بالظرف، وما ارتفع به كما يوصل بالمبتدأ والخبر في قوله: (كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه). ويجوز أن يكون بمعنى الذي، وفي لهم ضمير يعود إليه. وآلهة بدل من ذلك الضمير، أو يرتفع بإضمار هي، أي: هي آلهة فحذف هي. و (ما هم فيه): موصول وصلة في موضع رفع بقيامه مقام الفاعل. لقوله (متبر). وكذلك (ما كانوا يعملون): فاعل الباطل. (أغير الله أبغيكم إلها) بغى يتعدى إلى مفعولين، وطلب: يتعدى إلى مفعول واحد، لأن معنى قولك: بغاه الخير، أعطاه الخير، وليس كذلك طلب، لأنه غير مضمر بالمطلوب. وعلى هذا فيكون (إلها): مفعولا به ثانيا، ويكون (غير): منصوبا على الحال التي لو تأخرت، كانت صفة للنكرة. وتقديره: أبغيكم إلها غير الله. وقد يجوز أن يكون بمعنى أبغي لكم، ويكون (غير الله) منصوبا بأنه مفعول (أبغي)، وتقديره: أطلب غير الله لكم معبودا، فيكون (إلها) منصوبا على الحال. المعنى: ثم أخبر الله سبحانه عن أحوال بني إسرائيل، فقال (وجاوزنا ببني إسرائيل): أي: قطعنا بهم (البحر) يعني النيل: نهر مصر، بأن جعلنا لهم فيه
[ 347 ]
طرقا يابسة، حتى عبروا، ثم أغرقنا فرعون وقومه فيه (فأتوا) أي: فمروا (على قوم يعكفون على أصنام لهم) أي: يقبلون عليها، ملازمين لها، مقيمين عندها، يعبدونها. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة، وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر. وذلك أول شأن العجل. (قالوا يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة) أي: أنصب لنا شيئا نعبده، كما لهم أوثان يعبدونها، وهذا كفر ربما قاله الجهال من قومه، دون المؤمنين الأخيار، وإنما قالوا ذلك، لأن الإنسان يحن إلى ما يراه لغيره، فيحب أن يكون له مثل ما لغيره. وفي هذا دلالة على عظيم جهلهم بعدما رأوا الآيات المترادفة، والمعجزات، من حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى، ولم يعرفوا أن المجعول لا يكون إلها وأن الأصنام لا تكون آلهة. ويمكن أن يكونوا قد ظنوا أنه يجوز أن يتقرب إلى الله تعالى بعبادة غيره، وإن اعتقدوا أنه لا يشبه الأشياء، ولا تشبهه، ولم يكونوا مشبهة كما حكى الله سبحانه عن المشركين أنهم قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). (قال إنكم قوم تجهلون) هذه حكاية عما أجابهم به موسى عليه السلام، أي: تجهلون ربكم، وعظمته، وصفاته، ولو عرفتموه حق معرفته، لما قلتم هذا القول، عن الجبائي. وقيل: تجهلون نعمة ربكم فيما صنع بكم، عن ابن عباس. (إن هؤلاء) يعني القوم الذين عبدوا الأصنام (متبر) أي: مدمر، مهلك (ما هم فيه) من عبادة الأصنام، (وباطل ما كانوا يعملون) أي: باطل عملهم، لا يجدي عليهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا، فكأنه بمنزلة من لم يكن من هذا الوجه. فالبطلان: انتفاء المعنى بعدمه، أو بأنه لا يصح معتقده، فالأول: كبطلان البناء بالهدم، والثاني: كبطلان إله آخر مع الله، لأنه لا يصح في عدم، ولا وجود. (قال) يعني: قال موسى لقومه بعد ازرائه على الأصنام، وعلى من كان يعبدها: (أغير الله أبغيكم) أي: ألتمس وأطلب غير الله لكم، فحذف حرف الجر، فوصل الفعل بقوله: (واختار موسى قومه) أي: من قومه (إلها) أي: معبودا تعبدونه سوى الله (وهو فضلكم على العالمين) أي: على عالمي زمانكم، عن الحسن، والجبائي. وقيل: معناه وهو سبحانه خصكم بفضائل لم يعطها أحدا
[ 348 ]
غيركم، وهو أن أرسل إليكم رجلين منكم، لتكونوا أقرب إلى القبول، وخلصكم من أذى فرعون وقومه على أعجب وجه، وأورثكم أرضهم، وديارهم، وأموالهم. وإذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم 141. القراءة: قرأ ابن عامر: (أنجاكم) على لفظ الماضي. والباقون: (أنجيناكم). وقرأ نافع وحده: (يقتلون) بالتخفيف. والباقون: (يقتلون) بالتشديد. الحجة: قد مضى الكلام في أمثال ذلك مرة بعد أخرى، فلا وجه للإطالة بإعادته. المعنى: ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم على وجه الإمتنان عليهم، بما أنعمه على أسلافهم: (وإذ أنجيناكم) أي: واذكروا إذ خلصناكم (من آل فرعون يسومونكم) أي: يولونكم إكراها، ويحملونكم إذلالا (سوء العذاب يقتلون أبناءكم) أي: يكثرون قتل أبنائكم (ويستحيون نساءكم) أي: يستبقونهم للخدمة، والمهنة، (وفي ذلكم) أي: وفي ما فعل بكم من النجاة (بلاء) أي: نعمة (من ربكم عظيم) قدرها. وقيل: معناه في تخليته إياكم وقوم فرعون، ابتلاء عظيم، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة البقرة. وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين 142. اللغة: الفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال. والوقت: وقت الشئ قدره (1)، ولذلك قيل، مواقيت الحج: وهي (1) [ مقدر أولم يقدره ]. (*)
[ 349 ]
المواضع التي قدرت للإحرام فيها. المعنى: ثم بين سبحانه تمام نعمته على بني إسرائيل، فقال: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ولم يقل أربعين ليلة، كما قاله في سورة البقرة، لفائدة زائدة ذكر فيها وجوه أحدها: إن العدة كانت ذا القعدة، وعشر ذي الحجة، ولو قال أربعين ليلة، لم يعلم أنه كان الإبتداء أول الشهر، ولا أن الأيام كانت متوالية، ولا أن الشهر شهر بعينه، قاله الفراء، وهو معنى قول مجاهد، وابن عباس، وابن جريج، ومسروق، وأكثر المفسرين وثانيها: إنه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة، ليصوم فيها، ويتقرب بالعبادة، ثم أتمت بعشر إلى وقت المناجاة. وقيل: هي العشر التي نزلت التوراة فيها، ولذلك أفردت بالذكر وثالثها: إن موسى عليه السلام قال لقومه: إني أتأخر عنكم ثلاثين يوما، ليتسهل عليهم، ثم زاد عليهم عشرا، وليس في ذلك خلف، لأنه إذا تأخر عنهم أربعين ليلة، فقد تأخر ثلاثين ليلة قبلها، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقريب منه ما روي عن الحسن أن الموعد كان أربعين ليلة في الأصل، فأجمل هناك، وفصل ههنا على وجه التأكيد. (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) إنما قال هذا مع أن ما تقدمه دل على هذه العدة، للبيان والتفصيل الذي تسميه الكتاب الفذلكة، ولو لم يذكره لجاز أن يتوهم أنه أتم الثلاثين بعشر منها على معنى كملنا الثلاثين بعشر، حتى كملت ثلاثين، كما يقال: كملت العشرة بدرهمين. وقد مر معنى المواعدة والوعد في سورة البقرة، وقلنا إن أربعين هنا منصوب على الحال، وتقديره معدودة أربعين ليلة. (وقال موسى) وقت خروجه إلى الميقات (لأخيه هارون اخلفني) أي: كن خليفتي (في قومي وأصلح) فيما بينهم، واجر على طريقتك في الصلاح. وقيل: معناه وأصلح فاسدهم في حال غيبتي. وقيل: أصلحهم أي: إحملهم على الطاعة (ولا تتبع سبيل المفسدين) أي: لا تسلك طريقة العاصين، ولا تكن عونا للظالمين، وإنما أراد بذلك إصلاح قومه، وإن كان المخاطب. به أخاه، وإنما أمر موسى عليه السلام أخاه هارون بأن يخلفه، وينوب عنه، في قومه، مع أن هارون كان نبيا مرسلا، لأن الرئاسة كانت لموسى عليه السلام عليه، وعلى أمته، ولم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك. وفي هذا دلالة على أن منزلة الإمامة، منفصلة من النبوة،
[ 350 ]
وغير داخلة فيها، وإنما اجتمع الأمر ان لأنبياء مخصوصين، لأن هارون لو كان له القيام بأمر الأمة، من حيث كان نبيا، لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إياه، وإقامته مقامه. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب إرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين 143. القراءة: (جعله دكا) بالمد هاهنا،، وفي الكهف، كوفي، غير عاصم، ووافقهم عاصم في الكهف. والباقون: (دكا) بالقصر والتنوين، في الموضعين. الحجة: قال الزجاج: (جعله دكا) بالتنوين معناه: جعله مدقوقا مع الأرض. والدكاء والدكاوات: الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها. ولا تبلغ أن تكون جبلا. قال أبو الحسن: لما قال (جعله) فكأنه قال دكه، وأراد جعله ذا دك، وقال أبو عبيده: (جعله دكا) أي: مندكا. وناقة دكاء: ذاهبة السنام كأنه جعله كالناقة الدكاء، فبقي أكثره. والدك: المستوي، وانشد للأغلب: (هل غير غار دك غارا فانهدم). وقال علي بن عيسى: دكا مستويا بالأرض، يقال دكه يدكه دكا: أي سحقه سحقا. اللغة: التجلي: الظهور، ويكون تارة بالظهور، وتارة بالدلالة، قال الشاعر: تجلى لنا بالمشرفية، والقنا، وقد كان عن وقع الأسنة نائيا (1) أراد الشاعر: إن تدبيره دل عليه، ويقال للسيد: هو ابن جلا، أي: لا يخفى أمره لشهرته. وفي خطبة الحجاج: (انا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني). قال سيبويه: جلا فعل ماض، فكأنه قال: انا ابن الذي جلا، أي: أوضح وكشف. (1) السيوف المشرفية: التي تنسب إلى مشارف الشام. (*)
[ 351 ]
المعنى: ثم ذكر سبحانه حديث الميقات، فقال: (ولما جاء موسى لميقاتنا) معناه: ولما انتهى موسى إلى المكان الذي وقتناه له، وأمرناه بالمصير إليه، لنكلمه، وننزل عليه التوراة. ويمكن أن يكون المراد بالميقات: الزمان الذي وقته الله تعالى له، أن يأتي ذلك المكان فيه، فإن لفظ الميقات كما يقع على الزمان، يقع على المكان، كمواقيت الإحرام، فإنها للأمكنة التي لا يجوز مجاوزتها لأهل الآفاق، إلا وهم محرمون. (وكلمه ربه) من غير سفير أو وحي، كما كان يكلم الأنبياء على ألسنة الملائكة، ولم يذكر من أي موضع أسمعه كلامه، وذكر في موضع آخر أنه أسمعه كلامه من الشجرة، فجعل الشجرة محلا للكلام، لأن الكلام عرض لا يقوم الا بجسم. وقيل: إنه في هذا الموضع أسمعه كلامه من الغمام (قال رب أرني أنظر إليك) أي: أرني نفسك أنظر إليك، اختلف العلماء في وجه مسألته عليه السلام الرؤية، مع علمه بأنه سبحانه لا يدرك بالحواس، على أقوال: أحدها: ما قاله الجمهور، وهو الأقوى: إنه لم يسأل الرؤية لنفسه، وانما سألها لقومه، حين قالوا له: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولذلك قال عليه السلام لما أخذتهم الرجفة: (تهلكنا بما فعل السفهاء منا) فأضاف ذلك إلى السفهاء. ويسأل على هذا فيقال: لو جاز أن يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى، لجاز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما، وما أشبه ذلك، متى شكوا فيه ؟ والجواب: إنما صح السؤال في الرؤية، لأن الشك في جواز الرؤية التي تقتضي كونه جسما، يمكن معه معرفة السمع، وانه سبحانه حكيم صادق في إخباره، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته، وجوازه، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع من حيث إن الجسم لا يجوز أن يكون غنيا، ولا عالما بجميع المعلومات، لا بد في العلم بصحة السمع من ذلك، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم. وقال بعض العلماء: إنه كان يجوز أن يسأل موسى لقومه ما يعلم استحالته أيضا، وإن كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان في المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في دينهم، غير أنه شرط أن يبين النبي في مسألته ذلك علمه
[ 352 ]
باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه في السؤال ورود الجواب، ليكون لطفا وثانيها: إنه عليه السلام لم يسأل الرؤية بالبصر، ولكن سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعي والشكوك، ويستغني عن الإستدلال، فخفف المحنة عليه بذلك، كما سأل إبراهيم عليه السلام: (رب أرني كيف تحيي الموتى) طلبا لتخفيف المحنة، وقد كان عرف ذلك بالإستدلال. والسؤال وإن وقع بلفظ الرؤية، فإن الرؤية تفيد العلم، كما يفيد العلم الإدراك بالبصر، فبين الله سبحانه له أن ذلك لا يكون في الدنيا، عن أبي القاسم البلخي وثالثها: إنه سأله الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه عن الحسن، والربيع، والسدي، وذلك لأن معرفة التوحيد تصح مع الجهل بمسألة الرؤية، ومعرفة السمع تصح أيضا معه، وهذا ضعيف، لأن الأمر، وإن كان على ما ذكروه، فإن الأنبياء لا يجوز أن يخفى عليهم مثل هذا، مع جلالة رتبتهم، وعلو درجتهم. (قال لن تراني): هذا جواب من الله تعالى، ومعناه: لا تراني أبدا، لأن (لن) ينفي على وجه التأبيد، كما قال: (ولن يتمنوه أبدا) وقال: (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) علق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر، وهذه طريقة معروفة في استبعاد الشئ، لأنهم يعلقونه مما يعلم أنه لا يكون، ومتى قيل: إنه لو كان الغرض بذلك التبعيد، لعلقه سبحانه بأمر يستحيل، كما علق دخول الجنة بأمر مستحيل، ومن ولوج الجمل في سم الخياط ؟ فجوابه: إنه سبحانه علق جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكا، وذلك مستحيل لما فيه من اجتماع الضدين. (فلما تجلى ربه للجبل) أي: ظهر أمر ربه لأهل الجبل، فحذف، والمعنى أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدل به من كان عند الجبل، على أن رؤيته غير جائزة. وقيل: معناه ظهر ربه بآياته التي أحدثها في الجبل لأهل الجبل، كما يقال: (الحمد لله الذي تجلى لنا بقدرته)، فكل آية يجددها الله سبحانه، فكأنه يتجلى للعباد بها، فلما أظهر الآية العجيبة في الجبل، صار كأنه ظهر لأهله. وقيل: إن تجلى بمعنى جلى، كقولهم حدث وتحدث، وتقديره: جلى ربه أمره للجبل، أي: أبرز في ملكوته للجبل ما تدكك به، ويؤيده ما جاء في الخبر: (إن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر، فتدكدك به الجبل). وقال ابن عباس: معناه ظهر نور ربه
[ 353 ]
للجبل، وقال الحسن: لما ظهر وحي ربه للجبل (جعله دكا) أي: مستويا بالأرض. وقيل: ترابا، عن ابن عباس. وقيل: ساخ في الأرض حتى فني عن الحسن. وقيل: تقطع أربع قطع: قطعة ذهبت نحو المشرق، وقطعة ذهبت نحو المغرب، وقطعة سقطت في البحر، وقطعة صارت رملا. وقيل: صار الجبل ستة أجبل، وقعت ثلاثة بالمدينة، وثلاثة بمكة، فالتي بالمدينة: أحد، وورقان، ورضوى. والتي بمكة: ثور، وثبير، وحراء، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وخر موسى صعقا) أي: سقط مغشيا عليه، عن ابن عباس، والحسن، وابن زيد، ولم يمت بدلالة قوله: (فلما أفاق) ولا يقال أفاق الميت، وانما (1) عاش أو حيي. وأما السبعون الذين كانوا معه فقد ماتوا كلهم، لقوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) وروي عن ابن عباس أنه قال: أخذته الغشية عشية الخميس يوم عرفة، وأفاق عشية يوم الجمعة، وفيه نزلت عليه التوراة. وقيل: معناه خر ميتا، عن قتادة. (فلما أفاق) من صعقته، ورجع إليه عقله (قال سبحانك) أي: تنزيها لك عن أن يجوز عليك ما لا يليق بك. وقيل: تنزيها لك من أن تأخذني بما فعل السفهاء من سؤال الرؤية (تبت إليك) من التقدم في المسألة قبل الإذن فيها، وقيل: إنه قاله على وجه الإنقطاع إلى الله سبحانه كما يذكر التسبيح، والتهليل، ونحو ذلك من الألفاظ عند ظهور الأمور الجليلة. (وأنا أول المؤمنين) بأنه لا يراك أحد من خلقك، عن ابن عباس، والحسن، وروي مثله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معناه أنا أول من آمن وصدق، بأنك لا ترى. وقيل: معناه أنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية، عن الجبائي. وقيل: أول المؤمنين بك من بني إسرائيل، عن مجاهد، والسدي. قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين 144 وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار (1) يقال). (*)
[ 354 ]
الفاسقين 145. القراءة: قرأ أهل الحجاز، وروح: (برسالتي) على التوحيد، والباقون: (برسالاتي) على الجمع، وقد مضى الكلام فيه. اللغة: اللوح: صحيفة مهيأة للكتابة فيها، وأصله من اللوح: وهو اللمع، يقال، لاح، يلوح إذا لمع وتلألأ. والتلويح: التضمير. ولوحه السفر: غيره تغييرا، تبين عليه أثره، لأن حاله يلوح بما نزل به. واللوح: الهواء، لأنه كاللامع في هبوبه، فاللوح: تلوح المعاني بالكتابة فيه، والموعظة: التحذير بما يزجر عن القبيح، ويبصر مواقع المخوف. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالإصطفاء، وإجلال القدر، وأمره إياه بالشكر بقوله (قال) أي: قال الله سبحانه (يا موسى إني اصطفيتك) أي: اخترتك واتخذتك صفوة، وفضلتك على الناس (برسالاتي) من غير كلام (وبكلامي) من غير رسالة، وخص الناس لأنه كلم الملائكة، ولم يكلم أحدا من الناس بلا واسطة، سوى موسى عليه السلام. وقيل: إنه سبحانه كلم موسى على الطور، وكلم نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عند سدرة المنتهى. (فخذ ما آتيتك) أي: تناول ما أعطيتك من التوراة، وتمسك بما أمرتك (وكن من الشاكرين) أي: من المعترفين بنعمتي، القائمين بشكرها على حسب مرتبتها، فكلما كانت النعمة أعظم وأجل، وجب أن تقابل من الشكر بما يكون أتم وأكمل. والوجه في تشريف موسى عليه السلام بالإختصاص بالكلام أن ذلك نعمة عظيمة ومنة جسيمة، منه تعالى عليه، لأنه كلمه، وعلمه الحكمة، من غير واسطة بينه وبينه، ومن أخذ العلم من العالم المعظم، كان أجل رتبة ممن أخذه ممن هو دونه. (وكتبنا له) يعني لموسى عليه السلام، (في الألواح) يريد: ألواح التوراة، عن ابن عباس. وقيل: كانت من خشب نزلت من السماء، عن الحسن. وقيل: كانت من زمرد، وطولها عشرة أذرع، عن ابن جريج. وقيل: كانت من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء (1)، عن الكلبي. وقيل: إنهما كانا لوحين. قال الزجاج: ويجوز في (1) وفي بعض النسخ (أو ياقوتة حمراء). (*)
[ 355 ]
اللغة أن يقال للوحين ألواح، ويجوز أن يكون ألواح، ويجوز أن يكون ألواحا جمع أكثر من إثنين. (من كل شئ) قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه أعطاه من كل شئ يحتاج إليه من أمر الدين، مع ما أراه من الآيات (موعظة) هذا تفسير لقوله (كل شئ)، وبيان لبعض ما دخل تحته (وتفصيلا لكل شئ) يحتاج إليه في الدين من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، وذكر الجنة والنار، وغير ذلك من العبر والأخبار، وتفصيلا أيضا تفسير لقوله: (كل شئ). (فخذها بقوة) أي: بجد واجتهاد. وقيل: بصحة عزيمة، وقوة قلب (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) أي: بما فيها من أحسن المحاسن، وهي الفرائض والنوافل، فإنها أحسن من المباحات. وقيل: معناه يأخذ بالناسخ دون المنسوخ، عن الجبائي، وهذا ضعيف لأن المنسوخ قد خرح من أن يكون حسنا. وقيل: إن المراد بالأحسن الحسن، وكلها حسن، كقوله سبحانه: (وهو أهون عليك)، وكقوله: (ولذكر الله أكبر)، عن قطرب. (سأريكم دار الفاسقين) يعني سأريكم جهنم، عن الحسن، ومجاهد، والجبائي. والمراد فليكن منكم على ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم، وهذا تهديد لمن خالف أمر الله. وقيل: يريد ديار فرعون بمصر عن عطية العوفي. وقيل: معناه سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية، ممن خالفوا أمر الله، لتعتبروا بها، عن قتادة. وفي تفسير علي بن إبراهيم: (إن معناه: يجيئكم قوم فساق، يكون الدولة لهم). سأصرف عن إياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وأن يروا كل إية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بأياتنا وكانوا عنها غافلين 146 والذين كذبوا بأياتنا ولقاء الأخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون 147.
[ 356 ]
القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (الرشد) بفتح الراء، والشين. والباقون: (الرشد) بضم الراء وسكون الشين. الحجة: هما لغتان، ويحكى أن أبا عمرو فرق بينهما فقال: الرشد الصلاح، والرشد في الدين مثل قوله: (مما علمت رشدا) و (تحروا رشدا)، فهذا في الدين. وقوله: (فإن آنستم منهم رشدا) وهو في إصلاح المال والحفظ له، وقد جاء الرشد في غير الدين قال: حنت إلى نعم الدهنا، فقلت لها: أمي بلالا على التوفيق، والرشد (1) اللغة: الرشد: سلوك طريق الحق، يقال رشد، يرشد، رشادا، ورشد، يرشد، رشدا، ورشدا، وضده الغي، غوي، يغوي، غيا، وغواية. والحبوط: سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، وأصله الفساد، من الحبط: وهو داء يأخذ البعير في بطنه من فساد الكلا عليه، ويقال: حبطت الإبل تحبط حبطا: إذا أصابها ذلك، وإذا عمل الإنسان عملا على خلاف الوجه الذي أمر به يقال: أحبطه. المعنى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض) ذكر في معناه وجوه أحدها: إنه أراد سأصرف عن نيل الكرامة المتعلقة بآياتي، والإعتزاز بها، كما يناله المؤمنون في الدنيا والآخرة، والمستكبرين في الأرض، بغير الحق، كما فعل بقوم موسى وفرعون، فإن موسى كان يقتل من القبط، وكان أحد منهم لا يجسر أن يناله بمكروه، خوفا من الثعبان، وعبر ببني إسرائيل البحر، وغرق فيه فرعون وقومه، عن أبي علي الجبائي. والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة، ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء وفي قوله: (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) بيان أن صرفهم عن الآيات مستحق بتكذيبهم. وثانيها: إن معناه سأصرفهم عن زيادة المعجزات التي أظهرها على الأنبياء عليهم السلام بعد قيام الحجة، بما تقدم من المعجزات التي ثبتت بها النبوة، لأن هذا الضرب من المعجزات، إنما يظهر، إذا كان في المعلوم أنه يؤمن عنده من لا يؤمن (1) حنت إليه: اشتاقت. والنعم - بالتحريك وتسكن عينه -: الإبل. والدهناء: اسم موضع. وأمه: قصده. (*)
[ 357 ]
بما تقدم من المعجزات، فيكون الصرف بأن لا يظهرها جملة، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم، وهذا الوجه اختاره القاضي، لأن ما بعده يليق به من قوله (وإن يروا سبيل الرشد) إلى آخر الآية. وثالثها: إن معناه سأمنع الكذابين والمتكبرين آياتي ومعجزاتي، وأصرفهم عنها، وأخص بها الأنبياء، فلا أظهرها إلا عليهم، وإذا صرفهم عنها، فقد صرفهم عنهم، وكلا اللفظين يفيد معنى واحدا، فليس لأحد أن يقول هلا قال سأصرف آياتي عن الذين يتكبرون، وهذا يبطل قول من قال إن الله تعالى جعل النيل في أمر فرعون، فكان يجري بأمره، ويقف وما شاكل ذلك. ورابعها: أن يكون الصرف معناه المنع من إبطال الآيات والحجج، والقدح فيها بما بخرجها عن كونها أدلة وحججا، ويكون تقدير الآية: إني أصرف المبطلين والمكذبين عن القدح في دلالاتي بما أؤيدها وأحكمها من الحجج والبينات، ويجري ذلك مجرى قول أحدنا: إن فلانا منع أعداءه بأفعاله الحميدة، وأخلاقه الكريمة من ذمه وتهجينه، وأخرس ألسنتهم عن الطعن فيه، وإنما يريد المعنى الذي ذكرناه ويكون على هذا قوله (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) راجعا إلى ما قبله بلا فصل من قوله (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) ولا يرجع إلى قوله (سأصرف). وخامسها: إن المراد سأصرف عن إبطال آياتي، والمنع من تبليغها، هؤلاء المتكبرين بالإهلاك، أو المنع من غير إهلاك، فلا يقدرون على القدح فيها، ولا على قهر مبلغيها، ولا على منع المؤمنين من اتباعها، والإيمان بها، وهو نظير قوله: (والله يعصمك من الناس)، ويكون (الآيات) في هذا الوجه القرآن، وما جرى مجراه، من كتب الله، التي تحملتها الأنبياء عليهم السلام، ويكون قوله (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) على هذا متعلقا أيضا بقوله (وإن يروا سبيل الرشد) إلى ما بعده. ومعنى قوله (الذين يتكبرون في الأرض) أي: يرون لأنفسهم فضلا على الناس، وحقا ليس لغيرهم مثله، فيحملهم ذلك على ترك اتباع الأنبياء أنفة من الإنقياد لهم، والقبول منهم. وقوله: (بغير الحق) تأكيد وبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق كقوله (ويقتلون النبيين بغير الحق) وقد مضى ذكر أمثاله. (وإن يروا كل آية) أي: كل حجة ودلالة تدل على توحيد الله، وصحة نبوة
[ 358 ]
انبيائه (لا يؤمنوا بها) هذا إخبار من الله تعالى، عن هؤلاء بعلمه فيهم، أنهم لا يؤمنون به، وبكتبه ورسله، وبيان أنه إنما صرفهم عن آياته لذلك (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) يعني: إن يروا طريق الهدى والحق، لا يتخذوه طريقا لأنفسهم. (وان يروا سبيل الغي) أي: طريق الضلال (يتخذوه سبيلا) أي: طريقا لأنفسهم، ويميلون إليه. وقيل: الرشد، الإيمان، والغي الكفر. وقيل: الرشد كل أمر محمود، والغي كل أمر قبيح مذموم. (ذلك): إشارة إلى صرفهم عن الآيات. وقيل: إشارة إلى اتخاذهم طريق الغي، وترك طريق الرشد، وتقديره أمرهم ذلك (بأنهم كذبوا بآياتنا) أي: بحججنا، ومعجزات رسلنا. (وكانوا عنها غافلين) أي: لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها، والمراد بالغفلة هنا: التشبيه، لا الحقيقة، مثل قوله سبحانه (صم بكم عمي) وذلك أنهم لما أعرضوا عن الإنتفاع بالآيات، والتأمل فيها، أشبهت حالهم حال من كان غافلا ساهيا عنها. ثم بين سبحانه وعيد المكذبين فقال: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) يعني القيامة، والبعث والنشور (حبطت أعمالهم) التي عملوها، ولا يستحقون بها مدحا، ولا ثوابا، لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به، فصارت بمنزلة ما لم يعمل. (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) صورته صورة الإستفهام، والمراد به الإنكار والتوبيخ، ومعناه: ليس يجزون إلا ما عملوه إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. النظم: قيل في وجه اتصال الآية بما قبلها وجوه أحدها: إنه تقدم ذكر المعجزات، وما رام فرعون من إبطالها، فبين سبحانه بقوله (سأصرف عن آياتي) أنه يمنع عن إبطال المعجزات، فيتصل بما تقدم من قصة موسى وفرعون وثانيها: إنه لما تقدم ذكر معجزات موسى، نبه عقيبه على أنه سبحانه لا يظهر المعجزات على يد من ليس بنبي، وأبان عن صدق موسى ومحمد عليهما السلام: لمكان المعجزة وثالثها: إنه خطاب لموسى، وزيادة في البيان عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه، وصرفهم عن الإعتراض على آياته، ومعناه: خذها آمنا من طعن الطاعنين، فإني سأصرف ورابعها: إن الآيتين اعتراض بين قصة موسى، والخطاب لنبينا محمد عليه السلام، والمراد
[ 359 ]
أنه يصرف المتكبرين عن آياته، كما صرف فرعون عن موسى. وأتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين 148. القراءة: قرأ حمزة والكسائي: (حليهم) بكسر الحاء، واللام. وقرأ يعقوب: (حليهم) بفتح الحاء، وسكون اللام. وقرأ الباقون: (حليهم) بضم الحاء، وكسر اللام. الحجة: من قرأ بضم الحاء فإنه جمع حلي نحو ثدي وثدي، وجمعه لأنه أضافه إلى جمع. ومن قرأ بكسر الحاء، أتبع الكسرة الكسرة، وكره الخروج من الضمة إلى الكسرة، وأجرى مجراه في قسي ونحوه. ومن قرأ (حليهم) فلأنه اسم جنس يقع على القليل، والكثير. اللغة: الإتخاذ: اجتباء الشئ لأمر من الأمور فهؤلاء اتخذوا العجل للعبادة، والحلي: ما اتخذ للزينة من الذهب، والفضة، ويقال حلي الشئ في عيني، يحلي حلى، وحلا في فمي يحلو حلاوة. وحليت الرجل تحلية: إذا وصفته بما ترى منه. وتحلى بكذا تزين به وتحسن. والجسد: جسم الحيوان مثل البدن، وهو روح وجسد، فالروح ما لطف، والجسد ما كثف. والجسم: يقع على جسد الحيوان وغيره من الجمادات. والخوار: صوت الثور، وهو صوت غليظ، وبناء فعال يدل على الآفة، نحو: الصراخ، والسكات، والعطاس. الاعراب: موضع (من حليهم): نصب تقديره أتخذوا حليهم عجلا. و (جسدا): بدل من عجل. المعنى: ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل، وما أحدثوه عند خروج موسى عليه السلام، إلى ميقات ربه، فقال سبحانه (واتخذ قوم موسى) يعني السامري، ومن جرى على طريقته. وقيل: يعني جميعهم، لأن منهم من ساق العجل، ومنهم من عبده، ومنهم من لم ينكر، وإنما أنكر ذلك القليل منهم، فخرج الكلام على الغالب (من بعده) أي: من بعد خروج موسى إلى الميقات، عن الجبائي، وغيره
[ 360 ]
(من حليهم) التي استعاروها من قوم فرعون، وكانت بنو إسرائيل بمنزلة أهل الجزية في القبط، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه، ويستعيرون من القبط الحلي، فوافق ذلك عيدهم، فاستعاروا حلي القبط، فلما أخرجهم الله من مصر، وغرق فرعون، بقيت تلك الحلي في أيديهم، فاتخذ السامري منها (عجلا) وهو ولد البقرة (جسدا) أي: مجسدا لا روح فيه. وقيل: لحما ودما، عن وهب (له خوار) أي: صوت. وروي في الشواذ عن علي عليه السلام جؤار بالجيم والهمزة، وهو الصوت أيضا. وفي كيفية خوار العجل، مع أنه مصوغ من ذهب، خلاف، فقيل: أخذ السامري قبضة من تراب أثر فرس جبرائيل عليه السلام، يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في فم العجل، فتحول لحما ودما، وكان ذلك معتادا غير خارق للعادة، وجاز أن يفعل الله تعالى ذلك، بمجرى العادة، عن الحسن. وقيل: إنه احتال بإدخال الريح كما يعمل هذه الآلات التي تصوت بالحيل، عن الزجاج، والجبائي، والبلخي. وإنما أضاف سبحانه الصوت إليه، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه، وكان السامري عندهم، مهيبا مطاعا فيما بينهم، فأرجف أن موسى عليه السلام قد مات، لما لم يرجع على رأس الثلاثين، فدعاهم إلى عبادة العجل، فأطاعوه، ولم يطيعوا هارون، وعبدوا العجل، وعلى ما مر ذكره في سورة البقرة. ثم أنكر سبحانه ذلك عليهم فقال: (ألم يروا) أي: ألم يعلموا (أنه لا يكلمهم) بما يجدي عليهم نفعا، أو يدفع عنهم ضررا. (ولا يهديهم سبيلا) أي: لا يهديهم إلى خير ليأتوه، ولا إلى شر ليجتنبوه، دل سبحانه بهذا على فساد ما ذهبوا إليه، فإن من لا يتكلم في خير وشر، ولا يهدي إلى طريق، فهو جماد لا ينفع ولا يضر، فكيف يكون إلها معبودا (اتخذوه) أي: اتخذوه إلها وعبدوه (وكانوا ظالمين) باتخاذهم له إلها، واضعين للعبادة في غير موضعها. ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين 149. القراءة: (لئن لم ترحمنا بالتاء)، (ربنا) بالنصب، (وتغفر لنا) بالتاء
[ 361 ]
كوفي، غير عاصم. والباقون: (يرحمنا)، (ويغفر لنا) بالياء. (ربنا) بالرفع. الحجة: من قرأ بالياء جعل الفعل للغيبة، وارتفع (ربنا) به، (ويغفر لنا) فيه ضمير (ربنا). ومن قرأ بالتاء ففيه ضمير الخطاب و (ربنا) نداء، وحذف حرف التنبيه معه، لأن عامة ما في التنزيل حذف حرف التنبيه نحو قوله (ربنا إني أسكنت من ذريتي)، (ربنا وآتنا ما وعدتنا). اللغة: معنى سقط في أيديهم: وقع البلاء في أيديهم أي: وجدوه وجدان من يده فيه، يقال ذلك للنادم، عندما يجده مما كان خفي عليه. ويقال: سقط في يده، وأسقط في يده، وبغير ألف أفصح، وقيل: معناه صار الذي كان يضر به ملقى في يده. المعنى: ثم أخبر سبحانه أنهم ندموا على عبادة العجل، فقال: (ولما سقط في أيديهم) أي: فلما لحقتهم الندامة (ورأوا أنهم قد ضلوا) أي: علموا ضلالهم عن الصواب، وطريق الحق، بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى، وبين لهم ذلك (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) بقبول توبتنا (ويغفر لنا) ما قدمناه من عبادة العجل (لنكونن من الخاسرين) باستحقاق العقاب، قال الحسن: إن كلهم عبدوا العجل إلا هارون، بدلالة قول موسى: (رب اغفر لي ولأخي)، ولو كان هناك مؤمن غيرهما، لدعا له، وقال غيره: إنما عبده بعضهم. ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين 150 قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين 151. القراءة: قرأ ابن عامر وأهل الكوفة، عن عاصم: (ابن أم) بالكسر ههنا،
[ 362 ]
وفي طه. وقرأ الباقون: (ابن أم) نصبا في الموضعين. وروي في الشواذ عن مجاهد (فلا تشمت) بفتح التاء والميم، (الأعداء) بالنصب. وروي عن مجاهد أيضا: (فلا يشمت) بالياء. الحجة: من قرأ (ابن أم) بالفتح: فلكثرة استعمالهم هذا الإسم، قالوا: يا بن أم، ويا بن عم، جعلوهما إسما واحدا، نحو خمسة عشر. قال سيبويه: قالوا يا بن أم، ويا بن عم، فجعلوا ذلك بمنزلة إسم، لأن هذا أكثر في كلامهم من يا بن أبي، ويا غلام غلامي، ومن العرب من يقول يا بن أمي، بإثبات الياء قال الشاعر: يا بن أمي، ويا شقيق نفسي ! أنت خليتني لدهر شديد (ولأمر شديد) (1). قال أبو علي: بني الإسمان على الفتح، والفتحة في (ابن) ليست النصبة التي كانت تكون في الإسم المضاف المنادى، لكن بني على الحركة التي كانت تكون للإعراب، كما أن قولهم لا رجل كذلك، وكما أن مكانك إذا أردت به الأمر، لا تكون الفتحة فيه، الفتحة التي كانت فيه، وهو ظرف، ولكنه على حد الفتحة في رويدك. فإن قال قائل: فلم لا تقول إنها نصبته، والمراد يا بن أما، فحذفت. الألف كما حذفت ياء الإضافة في غلامي ؟ قيل له: ليس هذا مثله، ألا ترى أن من حذف الياء من يا غلام أثبتها في يا غلام غلامي، فلو كانت الألف مقدرة في (يا بن أم) لم يكن تحذف كما لم تحذف في قوله (يا بنت عما لا تلومي واهجعي) فالألف لا يحذف حيث يحذف الياء، ألا ترى أن من قال: ما كنا نبغ والليل إذا يسر، فحذف الياء من الفواصل، وما أشبه الفواصل، من الكلام التام، لم يكن عنده في نحو قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) إلا الإثبات فإن قلت: فقد حذف الألف في نحو قوله (رهط ابن مرحوم ورهط ابن المعل) يريد المعلى، وأنشد أبو الحسن فلست بمدرك ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لوأني يريد: بلهفى، فحذف الألف. فالقول فيه: إن ذلك في الشعر، ولا يكون (1) أي وروي (لأمر شديد) مكان (لدهر شديد). ورد البيت بلفظه في (جامع الشواهد: 3 / 313) وهو من قصيدة لأبي زبيد الطائي واسمه حرملة بن المنذر بن معدي كرب، يرثي بها أخاه لأمه. (*)
[ 363 ]
في الإختيار وحال السعة، ولا ينبغي أن يحمل قوله: يا بن أم على هذا، وقياس من أجاز ذلك أن تكون فتحة الإبن نصبة، والفتحة في أم ليست كالتي في عشر من خمسة عشر، ولكن مثل الفتحة التي في الميم من يا بنت عما. قال الزجاج: ومن قرأ ابن أم بالكسر، فإنه أضافه إلى نفسه بعد أن جعله إسما واحدا اللغة: الأسف: الغضب الذي فيه تأسف على فوت ما سلف. والأسف: الحزن والتلهف أيضا. ويقال: خلفه يخلفه بما يحب، وبما يكره إذا عمل خلفه ذلك العمل. والعجلة: التقدم بالشئ قبل وقته. والسرعة: عمله في أول وقته، ولذلك صارت العجلة مذمومة. ويقال: عجلته أي: سبقته، وأعجلته، استحثثته، والشماتة سرور العدو بسوء العاقبة، يقال: شمت به شماتة، وأشمته إشماتا عرضه لتلك الحال. الاعراب: (غضبان): منصوب على الحال: وهو فعلان مونثه فعلى، نحو غضبان وغضبى، ولا ينصرف لأن فيه الألف والنون المضارعتين لألفي التأنيث في حمراء. المعنى: ثم أخبر سبحانه عما فعله موسى عليه السلام، حين رجع من مناجاة ربه، ورأى عكوف قومه على عبادة العجل، فقال: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي: حزينا عن ابن عباس. وقيل: الأسف الشديد: الغضب، عن أبي الدرداء. وقيل: معنى الغضب والأسف واحد، وإنما كررها للتأكيد واختلاف اللفظين، كما قال الشاعر: (متى أدن منه ينأ عني ويبعد،، عن أبي مسلم. وقيل: معناه غضبان على قومه إذ عبدوا العجل أسفا، حزينا، متلهفا على ما فاته من مناجاة ربه. (قال بئسما خلفتموني من بعدي) أي: بئسما عملتم خلفي، وبئس الفعل فعلكم بعد ذهابي إلى ميقات ربي. (أعجلتم أمر ربكم) أي: ميعاد ربكم، فلم تصبروا له، عن ابن عباس ونحو هذا قال الحسن. وعد ربكم الذي وعدني من الأربعين ليلة، وذلك أنهم قدروا أنه قد مات لما لم يأت على رأس ثلاثين ليلة. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم، عن الكلبي، وقيل: معناه استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته، فلما لم تنالوه، عدلتم إلى عبادة غيره،
[ 364 ]
عن أبي علي الجبائي. (وألقى الألواح) معناه أنه ألقاها لما دخله من شدة الغضب والجزع على عبادة قومه العجل، عن ابن عباس. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يرحم الله أخي موسى عليه السلام، ليس المخبر كالمعاين، لقد أخبره الله بفتنة قومه، وقد عرف أن ما أخبره ربه حق، وأنه على ذلك لمتمسك بما في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم، فغضب وألقى الألواح) وقد تقدم ذكر ما قيل في الألواح (وأخذ برأس أخيه) يعني هارون. (يجره إليه) قيل في معناه وجوه أحدها: إن موسى عليه السلام إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم، مفكرا فيما كان منهم، كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب، وشدة الفكر، فيقبض على لحيته، ويعض على شفته. فأجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه، فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند حالة الغضب وشدة الفكر، عن أبي علي الجبائي. وهذا من الأمور التي تختلف أحكامها بالعادات، فيكون ما هو إكرام في موضع، استخفافا في غيره، ويكون ما هو استخفاف في موضع، إكراما في آخر. وثانيها: إنه عليه السلام أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه، لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والإرتداد، فصدر ذلك منه للتألم بضلالهم، وإعلامهم عظم الحال عنده، لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال، ذكره الشيخ المفيد أبو عبد الله بن النعمان وثالثها: إنه إنما جره إلى نفسه، ليناجيه ويستبرئ حال القوم منه، ولهذا أظهر هارون براءة نفسه. ولما أظهر هارون براءته دعا له ولنفسه ورابعها: إنه لما رأى بهارون مثل ما به من الجزع والقلق، أخذ برأسه متوجعا له، مسكنا فكرة هارون أن يظن الجهال ذلك استخفافا، فأظهر براءته، ودعا له موسى إزالة للتهمة وخامسها: إنه أنكر على هارون ما بينه في طه من قوله (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) الآية، عن أبي مسلم. (قال) يعني قال هارون (ابن أم) قال الحسن: والله لقد كان أخاه لأبيه وأمه، إلا أنه إنما نسبه إلى الأم، لأن ذكر الأم أبلغ في الإستعطاف (إن القوم استضعفوني) يعني إن القوم الذين تركتني بين أظهرهم، اتخذوني ضعيفا (وكادوا يقتلونني) أي: هموا بقتلي، وقرب أن يقتلوني لشدة إنكاري عليهم (فلا تشمت بي
[ 365 ]
الأعداء) أي: لا تسرهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم (ولا تجعلني مع القوم الظالمين) أي: لا تجعلني مع عبدة العجل، ومن جملتهم، في إظهار الغضب والموجدة علي (1). (قال) موسى حين تبين له ما نبهه هارون عليه من خوف التهمة، ودخول الشبهة على القوم (رب اغفر لي ولأخي) وهذا على وجه الإنقطاع إلى الله سبحانه، والتقرب إليه، لا أنه كان وقع منه، أو من أخيه، قبيح، كبير أو صغير، يحتاج أن يستغفر منه، فإن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شئ من القبيح. وقيل: إنه عليه السلام بين بهذا لبني اسرائيل، أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه، وإنما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه، عند شدة غضبه على غيره، عن الجبائي (وأدخلنا في رحمتك) أي: نعمتك وجنتك (وأنت أرحم الراحمين) ظاهر المعنى: وإنما يذكر في آخر الدعاء لبيان شدة الرجاء من جهته، فإن الإبتداء بالنعمة يوجب الإتمام، وسعة الرحمة تقتضي الزيادة فيها، فيقال أرحم الراحمين لاستدعاء الرحمة من جهته، كما يقال أجود الأجودين لاستدعاء الجود من قبله. إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين 152 والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وإمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم 153 ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون 154 اللغة: النول: اللحوق، وأصله مد اليد إلى الشئ الذي يبلغه، ومنه قولهم: نولك أن تفعل كذا، أي: ينبغي أن تفعله، فإنه يلحقك خيره. وسكت أي: سكن. والسكوت هو الإمساك عن الكلام بهيئة منافية بسببه، وهو تسكين آلة الكلام. وإنما قيل: سكت الغضب، توسعا ومجازا، لأنه لما كان بفورته دالا على ما في نفس المغضوب عليه، كان بمنزلة الناطق بذلك، فإذا سكنت تلك الفورة، كان بمنزلة الساكت عما كان متكلما به، فالسكوت في هذا الموضع أحسن من (1) الموجدة: الغضب. (*)
[ 366 ]
السكون، لتضمنه معنى سكوته عن المعاتبة مع سكون غضبه. الاعراب: قال: (لربهم يرهبون)، ولا يجوز يرهبون لربهم، لأنه إذا تقدم المفعول، ضعف عمل الفعل فيه، فصار بمنزلة ما لا يتعدى في دخول اللام عليه. وقيل: إنه إذا كان بمعنى من أجله، جاز دخول اللام عليه، تقدم أو تأخر كما قال تعالى (ردف لكم) المعنى: ثم أوعدهم سبحانه فقال: (إن الذين اتخذوا العجل) فيه حذف، أي: اتخذوه إلها، أو معبودا من دون الله. (سينالهم غضب) أي: سيلحقهم على عبادتهم إياه عقوبة (من ربهم). وإنما ذكر الغضب مع الوعيد بالنار، لأنه أبلغ في الزجر عن القبيح. (وذلة في الحياة الدنيا) يعني: صغر النفس والمهانة، قال الزجاج: والذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم. وقيل: إن الذلة أخذ الجزية، وأخذ الجزية لم يقع فيمن عبد العجل، وإنما أراد استسلامهم للقتل، (وكذلك نجزي المفترين) أي: مثل هذا الوعيد، والعذاب، والغضب، نجزي الكاذبين والمتخرصين. وإنما سموا مفترين، لأنهم عبدوا عجلا، وقالوا: إنه إله، فكانوا كاذبين. ثم عطف سبحانه على ذلك بقوله (والذين عملوا السيئات) أي: الشرك والمعاصي. (ثم تابوا من بعدها وآمنوا) أي: واستأنفوا عمل الإيمان. وقيل: معناه تابوا وآمنوا بأن الله قابل للتوبة (إن ربك) يا محمد (من بعدها) أي: من بعد التوبة. وقيل: من بعد السيئات. (لغفور) لذنوبهم (رحيم) بهم (ولما سكت) أي. سكن (عن موسى الغضب) وقيل في معناه: زالت فورة غضبه، ولم يزل الغضب، لأن توبتهم لم تخلص. وقيل: معناه زال غضبه، لأنهم تابوا (أخذ الألواح) التي كانت فيها التوراة (وفي نسختها) أي: وفيما نسخ فيها وكتب، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: وفي نسختها التي كتبت، ونسخت منها (هدى) أي: دلالة وبيان لما يحتاج إليه من أمور الدين (ورحمة) أي نعمة ومنفعة (للذين هم لربهم يرهبون) أي: يخشون ربهم. فلا يعصونه، ويعملون بما فيها. وفي الآية دلالة على أنه يجوز إلقاء التوراة للغضب الذي يظهر بإلقائها، ثم أخذها للحكمة التي فيها من غير أن يكون إلقاؤها رغبة عنها.
[ 367 ]
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بهامن تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين 155. اللغة: الإختيار: إرادة ما هو خير، يقال: خيره بين أمرين فاختار أحدهما. والإختيار والإيثار بمعنى واحد، والفتنة: الكشف والإختبار، وقال المسيب بن علس: إذ تستبيك بأصلتي ناعم قامت لتفتنه بغير قناع (1) أي: لتكشفه وتبرزه. الاعراب: (واختار موسى): تقديره اختار موسى من قومه، فحذف من فوصل الفعل فنصبه، وإنما حذف من لدلالة الفعل عليه، مع إيجاز اللفظ. قال الفرزدق: ومنا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع (2) وقال غيلان: وأنت الذي اخترت المذاهب كلها بوهبين إذ ردت علي الأباعر (3) وقال آخر: فقلت له: اخترها قلوصا سمينة، ونابا علينا مثل نابك في الحيا (4) المعنى: ثم أخبر تعالى عن اختيار موسى من قومه، عند خروجه إلى ميقات (1) السبي: الأسر. وأصلت الجبين: واسعه، والياء للمبالغة. والناعم: اللين الملمس. (2) الزعازع: شدائد الدهر. وقوله: (الرجال) بالنصب أي: من الرجال. (3) وهبين: موضع أي: اخترتك من بين من يذهب إلى هذا الموضع. (4) القلوص من الإبل: الشابة. الناب: الناقة المسنة. الحيا: الخصب. (*)
[ 368 ]
ربه، فقال: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) واختلف في سبب اختياره إياهم ووقته، فقيل: إنه اختارهم حين خرح إلى الميقات ليكلمه الله سبحانه، بحضرتهم، ويعطيه التوراة، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل، لما لم يثقوا بخبره أن الله سبحانه يكلمه، فلما حضروا الميقات وسمعوا كلامه تعالى، سألوا الرؤية، فأصابتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله تعالى، فابتدأ سبحانه بحديث الميقات، ثم اعترض حديث العجل، فلما تم، عاد إلى بقية القصة، وهذا الميقات هو الميعاد الأول الذي تقدم ذكره، عن أبي علي الجبائي، وأبي مسلم، وجماعة من المفسرين، وهو الصحيح، ورواه علي بن إبراهيم، في تفسيره. وقيل: إنه اختارهم بعد الميقات الأول للميقات الثاني بعد عبادة العجل، ليعتذروا من ذلك. (فلما) سمعوا كلام الله قالوا: أرنا الله جهرة ف (أخذتهم الرجفة) وهي الرعدة والحركة الشديدة، حتى كادت ان تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت، فبكى، ودعا، وخاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين، إذا عاد إليهم، ولم يصدقوه بأنهم ماتوا، عن السدي، والحسن، وقال ابن عباس: إن السبعين الذين قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا، فاختارهم وبرز بهم ليدعو ربهم، فكان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا، ولا تعطيه أحدا بعدنا ! فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة. ورووا عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: (إنما اخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل أخيه هارون، وذلك أن موسى، وهارون، وشبر، وشبير، ابني هارون، انطلقوا إلى سفح جبل، فنام هارون على سرير، فتوفاه الله، فلما مات، دفنه موسى عليه السلام، فلما رجع إلى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون ؟ قال: توفاه الله. فقالوا: لا بل أنت قتلته، حسدتنا على خلقه ولينه، قال: فاختاروا من شئتم. فاختاروا منهم سبعين رجلا، وذهب بهم، فلما انتهوا إلى القبر، قال موسى: يا هارون أقتلت أم مت ؟ فقال هارون: ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله. فقالوا: لن نعصي بعد اليوم، فأخذتهم الرجفة وصعقوا).
[ 369 ]
وقيل: إنهم ماتوا ثم أحياهم الله، وجعلهم أنبياء، وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة، أخذتهم الرعدة، فقلقلوا ورجفوا، حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وتنقض ظهورهم. فلما رأى ذلك موسى رحمهم، وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا وزراءه على الخير، سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا، وبكى، وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة والرعدة، فسكنوا واطمأنوا، وسمعوا كلام ربهم (قال) أي: قال موسى (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) أي: لو شئت أهلكت هؤلاء السبعين من قبل هذا الموقف، وأهلكتني معهم، فالآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) معناه النفي، وإن كان بصورة الإنكار، والمعنى: إنك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فبهذا نسألك رفع المحنة بالإهلاك عنا، وما فعله السفهاء هو عبادة العجل، ظن موسى أنهم أهلكوا لأجل عبادة بني إسرائيل العجل، فهم السفهاء. وقيل: هو سؤال الرؤية عن جماعة من المفسرين (إن هي إلا فتنتك) معناه: إن الرجفة إلا اختبارك، وابتلاؤك، ومحنتك، أي: تشديدك التعبد والتكليف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، عن سعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع، ومثله قوله: (أولا يرون انهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) يعني بذلك الأمراض والأسقام التي شدد الله بها التعبد على عباده، وإنما سمي ذلك فتنة، لأنه يشتد الصبر عليها، ومثله (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) أي: لا ينالهم شدائد الدنيا. وقيل: إن المراد إن هي إلا عذابك، عن ابن عباس. وقد سمى الله العذاب فتنة في قوله (يوم هم على النار يفتنون) أي: يعذبون، فكأنه قال ليس هذا الإهلاك إلا عذابك لهم بما فعلوه من الكفر، وعبادة العجل، أو سؤالهم الرؤية. (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) أي: تصيب بهذه الرجفة من تشاء، وتصرفها عمن تشاء، عن ابن عباس. وتقديره: تهلك بها من تشاء، وتنجي من تشاء. وقيل معناه: تضل بترك الصبر على فتنتك، وترك الرضاء بها من تشاء، عن نيل ثوابك، ودخول جنتك، وتهدي بالرضا بها، والصبر عليها، من تشاء (أنت ولينا) معناه: أنت ناصرنا والأولى بنا، تحوطنا وتحفظنا (فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) أي: خير الساترين على عباده، والمتجاوزين لهم عن جرمهم.
[ 370 ]
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الأخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون 156. القراءة: في الشواذ قراءة الحسن، وعمرو الأسواري: (من أساء)، والقراءة المشهورة: (من أشاء) والوجه فيه ظاهر. المعنى: هذا تمام ما قاله موسى في دعائه (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) سأل الله سبحانه أن يكتب لهم الحسنة في الدنيا، وهي النعمة، وإنما سميت النعمة حسنة، وإن كانت الحسنة اسم الطاعة لله لأمرين: أحدهما: إن النعمة تتقبلها النفس، كما أن الطاعة يتقبلها العقل، والآخر: إنها ثمرة الطاعة لله، وإنما ذكر بلفظ الكتابة، ولم يقل: واجعل لنا، أو أوجب لنا، لأن الكتابة أثبت وأدوم، يقال: كتب رزق فلان في الديوان، فيدل ذلك على دوامه وثبوته على مرور الأزمان (وفي الآخرة) معناه واكتب لنا في الآخرة حسنة، أيضا، كما في قوله (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة). وقيل: الحسنة في الدنيا: الثناء الجميل، وفي الآخرة: الرفعة. وقيل: هي في الدنيا: التوفيق للأعمال الصالحة، وفي الآخرة: المغفرة، والجنة (إنا هدنا إليك) أي: رجعنا بتوبتنا إليك، والهود، الرجوع. (قال) الله. تعالى مجيبا لموسى عليه السلام (عذابي أصيب به من أشاء) ممن عصاني، واستحقه بعصيانه، وإنما علقه بالمشيئة، لجواز الغفران في العقل (ورحمتي وسعت كل شئ) قال الحسن، وقتادة: إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. وقال عطية العوفي: وسعت كل شئ، ولكن لا تجب إلا للذين يتقون، وذلك أن الكافر يرزق، ويدفع عنه بالمؤمن، لسعة رحمة الله للمؤمن، فيعيش فيها، فإذا صار في الآخرة، وجبت للمؤمنين خاصة، كالمستضئ بنار غيره، إذا ذهب صاحب السراج بسراجه. وقيل: معناه أنها تسع كل شئ إن دخلوها، فلو دخل الجميع فيها لوسعتهم، إلا أن فيهم من لا يدخل فيها لضلاله. وفي الحديث: (إن النبي عليه السلام قام في الصلاة، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا ! فلما سلم رسول الله عليه السلام
[ 371 ]
قال للأعرابي: لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله عز وجل)، أورده البخاري في الصحيح. (فسأكتبها للذين يتقون) أي: فسأوجب رحمتي للذين يتقون الشرك أي: يجتنبونه. وقيل: يجتنبون الكبائر، والمعاصي (ويؤتون الزكاة) أي: يخرجون زكاة أموالهم، لأنه من أشق الفرائض. وقيل: معناه ويطيعون الله ورسوله، عن ابن عباس، والحسن، وإنما ذهبا إلى تزكية النفس، وتطهيرها (والذين هم بآياتنا يؤمنون) أي: بحججنا وبيناتنا يصدقون. وروي عن ابن عباس، وقتادة، وابن جريج: إنها لما نزلت (ورحمتي وسعت كل شئ) قال إبليس: أنا من ذلك الشئ، فنزعها الله من إبليس بقوله: (فسأكتبها للذين يتقون) إلى آخر الآية فقال اليهود والنصارى: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها منهم، وجعلها لهذه الأمة بقوله (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) الآية. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين إمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون 157. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: (آصارهم) على الجمع. والباقون: (إصرهم) على التوحيد. الحجة: قال أبو علي: الإصر: مصدر يقع على الكثير مع إفراد لفظه، يدل على ذلك قوله (إصرهم) فأضيف وهو مفرد إلى الكثرة، ولا يجمع. وقال: (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) وقال: (ينظرون من طرف خفي ولا يرتد إليهم طرفهم) فالوجه الإفراد، كما أفرد في غير هذا الموضع، وجمعه ابن عامر كأنه أراد ضروبا من المآثم مختلفة، فجمع، لاختلافها، والمصادر تجمع إذا اختلف ضروبها، وإذا
[ 372 ]
كانوا قد جمعوا ما يكون ضربا واحدا، كقوله: هل من حلوم لأقوام فينذرهم (1) ما جرب الناس من عضي وتضريسي فإن يجمع ما يختلف من المآثم أجدر، ويقوي ذلك قوله (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) والثقل: مصدر كالشبع، والصغر، والكبر. اللغة: قال الزجاج: اختلف أهل اللغة في معنى قوله (عزروه)، وفي قولهم عزرت فلانا، أعزره، وأعزره عزرا. فقيل: معناه رددته. وقيل: معناه أعنته. وقيل: معناه لمته. ويقال: عزرته بالتشديد: نصرته. ويقال: منعت منه. فمعنى عزروه: منعوا أعداءه من الكفر به. وقيل: نصروه. والمعنى قريب لأن منع الأعداء منه: نصرته، ومعنى عزرت فلانا: إذا ضربته ضربا دون الحد، أنه يمنعه بضربه إياه من معاودته مثل عمله. ويجوز أن يكون من عزرته: أي: رددته، معناه: فعلت به ما يرده عن المعصية. الاعراب: قال الزجاج قوله: (يأمرهم بالمعروف) يجوز أن يكون على تقدير يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف، ويجوز أن يكون (يأمرهم بالمعروف) مستأنفا. قال أبو علي: لا وجه لقوله: (يجدونه مكتوبا) أنه يأمرهم إن كان يعني أن ذلك مراد، لأنه لا شئ يدل على حذفه، ولأنا لم نعلمهم حذفوا هذا في شئ، وتفسيره أن وجدت هنا هو المتعدي إلى مفعولين، ومكتوبا مفعول ثان، والمعنى: يجدون ذكره مكتوبا عندهم في التوراة، أو اسمه. فالمفعول الأول قام مقام المضاف إليه، وإنما قلنا ذلك لأن المكتوب هو الإسم، أو الذكر. والمفعول الثاني في هذا الباب يجب أن يكون الأول في المعنى. قال: فأما قوله (يأمرهم بالمعروف): فهو عندي تفسير لما كتب، كما أن قوله: (لهم مغفرة وأجر عظيم) تفسير لوعدهم، وكما أن قوله (خلقه من تراب) تفسير للمثل. فإن قلت: لم لا تجعله حالا من المفعول الأول ؟ فلأن ذلك ممتنع في المعنى، ألا ترى أن المعنى إذا كان يجدون ذكره، أو اسمه مكتوبا، لم يجز أن يكون (يأمرهم) حالا منه، لأن الإسم والذكر لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمى، ولا يجوز أن يكون مما في مكتوب من الضمير، لأن الضمير هو المفعول (1) حلوم جمع حلم. (*)
[ 373 ]
الأول في المعنى. المعنى: ثم وصف سبحانه، الذين يتقون بصفة أخرى، فقال: (الذين يتبعون الرسول النبي) أي: يؤمنون به، ويعتقدون بنبوته، يعني نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الأمي) ذكر في معناه أقوال أحدها أنه الذي لا يكتب ولا يقرأ وثانيها: إنه منسوب إلى الأمة، والمعنى أنه على جبلة الأمة قبل استفادة الكتابة. وقيل: إن المراد بالأمة العرب، لأنها لم تكن تحسن الكتابة وثالثها: إنه منسوب إلى الأم، والمعنى إنه على ما ولدته أمه قبل تعلم الكتابة ورابعها: إنه منسوب إلى أم القرى، وهي مكة، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) معناه: يجدون نعتة وصفته ونبوته، مكتوبا في الكتابين، لأنه مكتوب في التوراة، في السفر الخامس: (إني سأقيم لهم نبيا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به) وفيها أيضا مكتوب: (وأما ابن الأمة، فقد باركت عليه جدا جدا، وسيلد اثني عشر عظيما وأؤخره لأمة عظيمة) وفيها أيضا (أتانا الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران). وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها: (نعطيكم فارقليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله). وفيه أيضا قول المسيح للحواريين: (أنا أذهب، وسيأتيكم الفارقليط روح الحق، الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنه نذيركم بجميع الحق، ويخبركم بالأمور المزمعة، ويمدحني ويشهد لي) وفيه أيضا: (إنه إذا جاء فند أهل العالم) (1). (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) يجوز أن يكون هذا مكتوبا في التوراة والإنجيل، ويكون موصولا بما قبله، وبيانا لمن يكتب له رحمة الولاية والمحبة، ويجوز أن يكون ابتداء من قول الله تعالى مدحا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعروف: الحق، والمنكر: الباطل، لأن الحق معروف الصحة في العقول، والباطل منكر الصحة في العقول. وقيل: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة الأرحام، والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام، عن ابن عباس. وهذا القول داخل في القول الأول (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) معناه: يبيح لهم (1) فنده: كذبه، وخطأ رأيه، وجهله. (*)
[ 374 ]
المستلذات الحسنة، ويحرم عليهم القبائح، وما تعافه الأنفس. وقيل: يحل لهم ما اكتسبوه من وجه طيب، ويحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث. وقيل: يحل لهم ما حرمه عليهم رهابينهم وأحبارهم، وما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر، والسوائب، وغيرها، ويحرم عليهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر معها. (ويضع عنهم إصرهم) أي: ثقلهم. شبه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل، وذلك أن الله سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، وجعل توبة هذه الأمة الندم بالقلب، حرمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن. وقيل: الإصر: هو العهد الذي كان سبحانه أخذه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، ويجمع المعنيين قول الزجاج: الإصر: ما عقدته من عقد ثقيل. (والأغلال التي كانت عليهم) معناه: ويضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم، وجعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق، للزومها، كما يقال هذا طوق في عنقك. وقيل: يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة، وقرض ما يصيبه البول من أجسادهم، وما أشبه ذلك، من تحريم السبت، وتحريم العروق، والشحوم، وقطع الأعضاء الخاطئة، ووجوب القصاص دون الدية، عن أكثر المفسرين. (فالذين آمنوا به) أي: بهذا النبي، وصدقوه في نبوته (وعزروه) أي: عظموه، ووقروه، ومنعوا عنه أعداءه (ونصروه) عليهم (واتبعوا النور) معناه القرآن الذي هو نور في القلوب، كما أن الضياء نور في العيون، ويهتدي به الخلق في أمور الدين، كما يهتدون بالنور في أمور الدنيا (الذي أنزل معه) أي: أنزل عليه، وقد يقوم مع مقام على كما يقوم على مقام مع. وقيل: معناه أنزل في زمانه، وعلى عهده. ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: أي الخلق أعجب إيمانا ؟ قالوا: الملائكة. فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون ؟ قالوا: فالنبيون. قال: النبيون يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون ؟ قالوا: فنحن يا نبي الله. قال: أنا فيكم، فما لكم لا تؤمنون ؟ إنما هم قوم يكونون بعدكم، يجدون كتابا في ورق، فيؤمنون به، فهو معنى قوله (واتبعوا النور الذي أنزل معه). (أولئك هم المفلحون) أي:
[ 375 ]
الظافرون بالمراد، الناجون من العقاب، الفائزون بالثواب. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذ ي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون 158. الاعراب: (جميعا): نصب على الحال، من ضمير المخاطب الذي عمل حرف الإضافة فيه، والعامل في الحال معنى الفعل في (رسول الله)، إلا أنه لا يجوز أن يتقدم على حرف الإضافة، لأنه قد صار بمنزلة العامل. المعنى: ثم أمر الله سبحانه، نبينا، أن يخاطب جميع الخلق من العرب والعجم، فقال: (قل يا أيها الناس إني رسول الله) أرسلني (إليكم جميعا) أدعوكم إلى توحيده وطاعته، واتباعي فيما أؤديه إليكم، وإنما ذكر جميعا للتأكيد، وليعلم أنه مبعوث إلى الكافة (الذي له ملك السماوات والأرض) معناه: الذي له التصرف في السماوات والأرض، من غير دافع، ومنازع (لا إله) أي: لا معبود (إلا هو) ولا شريك له في الإلهية (يحيي) الأموات (ويميت) الأحياء لا يقدر أحد على الإحياء والإماتة، سواه لأنه لو قدر أحد على الإماتة، لقدر على الإحياء، فإن من شأن القادر على الشئ، أن يكون قادرا على ضده (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله) يعني لم يأمركم بالإيمان حتى آمن هو أولا، وعليه زيادة التكليف من أداء الرسالة، وبيان الشرائع، والقيام بالدعوة (وكلماته) أي: يؤمن بكلماته من الكتب المتقدمة، والوحي، والقرآن (واتبعوه لعلكم تهتدون) أي: لكي تهتدوا إلى الثواب والجنة. ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون 1 59 وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إ ذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من
[ 376 ]
طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 160. اللغة: قال الأزهري: السبط: الفرقة، لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، وقد جمع فقيل أسباط، واشتقاقها من سبط: وهو شجر، والواحدة سبطة. ورجل سبط الشعر، وامرأة سبطة، وقد سبط شعره سبوطة، وهو الذي لا جعودة فيه. ورجل سبط الأصابع: طويلها. وسبط الكف: سمحها. ومطر سبط وسبط. متدارك. وسباطته: سعته. والسبط في كلام العرب خاصة: الأولاد. قال الزجاج: قال بعضهم السبط: القرن الذي يجئ بعد قرن، والصحيح أن الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، فولد كل ولد من أولاد يعقوب، سبط، وولد كل ولد من أولاد إسماعيل قبيلة، وإنما سموا هؤلاء بالقبائل، وهؤلاء بالأسباط، ليفصل بين ولد إسماعيل، وولد إسحاق عليهما السلام. ومعنى القبيلة: الجماعة، ويقال للشجرة: لها قبائل، وكذلك الأسباط من السبط، كأنه جعل إسحاق بمنزلة شجرة، وجعل إسماعيل بمنزلة شجرة، وكذلك يفعل النسابون في النسب، يجعلون الوالد بمنزلة شجرة، وأولاده بمنزلة أغصانها، ويقال: طوبى لفرع فلان وفلان من شجرة صالحة، فهذا معنى الأسباط، والسبط. الاعراب: (اثنتي عشرة أسباطا): يعني اثنتي عشرة فرقة، فحذف المميز، ولذلك أنث. (أسباطا) بدل من (اثنتي عشرة)، تقديره: وفرقناهم أسباطا، وجعلناهم أسباطا، ويجوز كسر الشين في (عشرة)، وهو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثاب. (وأمما): نعت الأسباط. المعنى: ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل، فقال سبحانه: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) أي: جماعة يدعون إلى الحق، ويرشدون إليه (وبه يعدلون) أي: وبالحق يحكمون، ويعدلون في حكمهم. واختلف في هذه الأمة من هم على أقوال أحدها: إنهم قوم من وراء الصين، وبينهم وبين الصين واد جار من الرمل، لم يغيروا، ولم يبدلوا، عن ابن عباس، والسدي، والربيع، والضحاك، وعطاء، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. قالوا: وليس لأحد منهم مال دون
[ 377 ]
صاحبه، يمطرون بالليل، ويصحون بالنهار، ويزرعون، لا يصل إليهم منا أحد، ولا منهم إلينا. وهم على الحق. قال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل، لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا وكانوا اثنتي عشرة سبطا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا من الأرض، فساروا فيه سنة ونصف سنة، حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلتنا، وقيل: إن جبرائيل انطلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج إليهم، فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة، فآمنوا به، وصدقوه، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، ويتركوا السبت، وأمرهم بالصلاة والزكاة، ولم يكن نزلت فريضة غيرهما ففعلوا، قال ابن عباس: وذلك قوله: (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) يعني عيسى بن مريم يخرجون معه. وروى اصحابنا أنهم يخرجون مع، قائم آل محمد. وروي أن ذا القرنين رآهم، وقال: لو أمرت بالمقام لسرني أن أقيم بين أظهركم وثانيها: إنهم قوم من بني إسرائيل، تمسكوا بالحق، وبشريعة موسى عليه السلام، في وقت ضلالة القوم، وقتلهم انبياءهم، وكان ذلك قبل نسخ شريعتهم بشريعة عيسى عليه السلام، فيكون تقدير الآية: ومن قوم موسى أمة كانوا يهدون بالحق، عن أبي علي الجبائي، وأنكر القول الأول، وقال: لو كانوا باقين، لكانوا كافرين بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هذا بشئ، لأنه لا يمتنع أن يكون قوم لم يبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يحكم بكفرهم، ويمكن أن يكون بلغهم خبر النبوة وآمنوا وثالثها: إنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا، وغيرهما. وفي حديث أبي حمزة الثمالي، والحكم بن ظهير: (إن موسى عليه السلام لما أخذ الألواح، قال: رب إني لأجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني لأجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة، فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: رب اني لأجد في الألواح أمة كتبهم في صدورهم يقرأونها، فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني لأجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول، وبالكتاب الآخر، ويقاتلون الأعور الكذاب (1)، (1) أريد به الدجال. (*)
[ 378 ]
فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها، كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشرة أمثالها، وإن هم بسيئة، ولم يعملها لم يكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون، وهم المشفوع لهم، فاجعلهم أمتي ؟ قال: تلك أمة أحمد. قال موسى: رب اجعلني من أمة أحمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟). قال أبو حمزة: فأعطي موسى آيتين لم يعطوها يعني أمة أحمد. قال الله: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)، وقال: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) قال: فرضي موسى عليه السلام كل الرضا. وفي حديث غير أبي حمزة قال: إن النبي عليه السلام لما قرأ (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) هذه لكم، وقد أعطى الله قوم موسى مثلها (وقطعناهم اثنتي عشرة اسباطا أمما) أي: وفرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة أسباطا، يعني أولاد يعقوب عليهم السلام، فإنهم كانوا اثني عشر، وكان لكل واحد منهم أولاد ونسل، فصار كل فرقة منهم سبطا وأمة، وإنما جعلهم سبحانه أمما ليتميزوا في مشربهم ومطعمهم، ويرجع كل أمة منهم إلى رئيسهم، فيخف الأمر على موسى عليه السلام، ولا يقع بينهم اختلاف، وتباغض. (وأوحينا إلى موسى إذ استقاه قومه) أي: طلبوا منه السقيا (أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست) الإنبجاس: خروج الماء الجاري بقلة. والإنفجار: خروجه بكثرة، وكان يبتدئ الماء من الحجر بقلة، ثم يتسع حتى يصير إلى الكثرة، فلذلك ذكر ههنا الإنبجاس. وفي سورة البقرة: الإنفجار. والآية إلى آخرها مفسرة هناك، فلا معنى لإعادته وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين 161 فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون 162.
[ 379 ]
القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر، ويعقوب، وسهل: (تغفر) بالتاء وضمها وفتح الفاء. والباقون: (نغفر) بالنون وكسر الفاء. وقرأ أهل المدينة، ويعقوب، وسهل: (خطيئاتكم) على جمع السلامة، ورفع التاء. وقرأ ابن عامر: (خطيئتكم) بالتوحيد، ورفع التاء وقرأ أبو عمرو: (خطاياكم) بغير همز، وعلى جمع التكسير. والباقون: (خطيئاتكم) على جمع السلامة، وكسر التاء. الحجة: من قرأ (نغفر) بالنون فهو على (وإذ قيل لهم ادخلوا نغفر لكم) أي: إن دخلتم غفرنا، والتي في البقرة (نغفر) والنون هناك أحسن لقوله: (وإذ قلنا). وأما قراءة من قرأ (تغفر) بالتاء مضمومة فلأنه قد استند إليها (خطيئاتكم) وهو مؤنث، فأنث وبني الفعل للمفعول، وهو أشبه بقوله: (وإذ قيل لهم) وقد مضى تفسير مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة، فلا وجه لإعادته. وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون 163 وإذ قالت أمه منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون 164. القراءة: قرأ حفص: (معذرة) بالنصب. والباقون بالرفع. وروي في الشواذ عن شهر بن حوشب، وأبي نهيك (يعدون) عن الحسن (يسبتون) بضم الياء. الحجة: من قرأ (معذرة) بالرفع فتقديره موعظتنا معذرة، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ومن قرأ بالنصب فعلى معنى نعتذر معذرة. وقال سيبويه: لو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا وكذا، لنصب إلى معنى نعتذر. ومن قرأ (يعدون) أراد يعتدون، فأسكن التاء ليدغمها في الدال، ونقل فتحها إلى العين، فصار (يعدون). ومن قرأ (يسبتون) فمعناه: يدخلون في السبت، كما يقال
[ 380 ]
أشهرنا: دخلنا في الشهر، وأجمعنا: دخلنا في الجمعة. ومن فتح الياء أراد يفعلون السبت، ويقيمون عمل يوم السبت، فالسبت على هذا فعلهم. يقول: سبت يسبت سبتا: إذا عظم يوم السبت. اللغة: حيتان: جمع حوت، وأكثر ما يسمي العرب السمك: الحيتان والنينان. وعدا فلان، يعدو، عدوانا، وعداء، وعدوا وعدوا: ظلم، وأصله مجاوزة الحد. والشرع: أصله الظهور، ومنه الشرعة والشريعة، وهو الظاهر المستقيم من المذاهب، ومنه المشرعة والشريعة، لكونهما في مكان ظاهر من النهر، ومنه شراع السفينة لظهورها. والمعذرة، والعذر، والعذري، والعذرة، واحد: مصدر عذرته أعذره. والمعذر: الذي له عذر صحيح. والمعذر بالتشديد: الذي لا عذر له، وهو يريك أنه معذور، وهو المقصر. والمعتذر: يقال لمن له عذر، ولمن لا عذر له. وقولهم: من يعذرني معناه: من يقوم بعذري. الاعراب: (إذ يعدون): موضع (إذ) نصب على معنى سلهم عن عدوهم، أي: عن وقت ذلك. (إذ تأتيهم): في موضع نصب أيضا (يعدون) المعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان. (شرعا): نصب على الحال من (الحيتان)، وموضع الكاف من (كذلك نبلوهم): نصب بنبلوهم، ويحتمل أن يكون على (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك) أي: لا تأتيهم شرعا، فيكون الكاف في موضع نصب على الحال من (تأتيهم)، ويكون (نبلوهم) مستأنفا. والقول الأول أجود و (لم تعظون): أصله لما، ولكن هذه الألف تحذف مع حرف الجر، يقول مم، وفيم، وعلام، وعم. المعنى: ثم ابتدأ سبحانه بخبر آخر من أخبار بني إسرائيل، فقال مخاطبا لنبيه: (واسألهم) أي: استخبرهم يا محمد، وهو سؤال توبيخ وتقريع، لا سؤال استفهام (عن القرية التي كانت حاضرة البحر) أي: مجاورة البحر، وقريبة من البحر على شاطئ البحر، وهي إيلة عن ابن عباس. وقيل: هي مدين عنه أيضا. وقيل: طبرية عن الزهري (إذ يعدون في السبت) أي: يظلمون فيه بصيد السمك، ويتجاوزون الحد في أمر السبت (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) أي: ظاهرة على وجه الماء، عن ابن عباس. وقيل: متتابعة، عن الضحاك. وقيل: رافعة رؤوسها. قال الحسن: كانت تشرع إلى أبوابها مثل الكباش البيض،
[ 381 ]
لأنها كانت آمنة يومئذ. (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) أي: ويوم لا يكون السبت، كانت تغوص في الماء. واختلف في أنهم كيف اصطادوا، فقيل: إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت، حتى كان يقع فيها السمك، ثم كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد، وهذا تسبب محظور. وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس: اتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها، ولا يمكنها الخروج منها، فيأخذونها يوم الأحد، وقيل: إنهم اصطادوها وتناولوها باليد في يوم السبت، عن الحسن (كذلك نبلوهم) أي: مثل ذلك الإختبار الشديد نختبرهم (بما كانوا يفسقون) أي: بفسقهم وعصيانهم، وعلى المعنى الآخر لا تأتيهم الحيتان مثل ذلك الإتيان الذي كان منها يوم السبت، ثم استأنف فقال: نبلوهم. (وإذ قالت أمة) أي: جماعة (منهم) أي: من بني إسرائيل الذين لم يصطادوا، وكانوا ثلاث فرق: فرقة قانصة (1)، وفرقة ساكتة، وفرقة واعظة، فقال الساكتون للواعظين، والناهين: (لم تعظون قوما الله مهلكهم) أي: يهلكهم الله، ولم يقولوا ذلك كراهية لوعظهم، ولكن لأياسهم عن أن يقبل أولئك القوم الوعظ، فإن الأمر بالمعروف، إنما يجب عند عدم الأياس من القبول، عن الجبائي، ومعناه: ما ينفع الوعظ ممن لا يقبل، والله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم (أو معذبهم عذابا شديدا) في الآخرة (قالوا) أي: قال الواعظون في جوابهم: (معذرة إلى ربكم) معناه: موعظتنا إياهم معذرة إلى الله، وتأدية لفرضه في النهي عن المنكر، لئلا يقول لنا: لم لم تعظوهم (ولعلهم) بالوعظ (يتقون) ويرجعون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون 165 فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين 166. القراءة: قرأ أهل المدينة: (بعذاب بيس) بكسر الباء غير مهموز على وزن (1) القانصة: الصيادون. (*)
[ 382 ]
فعل. وقرأ ابن عامر: (بئس) مهموز على وزن فعل أيضا. وقرأ أبو بكر غير حماد (بيئس) على وزن فيعل. والباقون: (بئيس) على وزن فعيل. وروي في الشواذ عن ابن عباس (بيئس) على وزن فيعل، وعن زيد بن ثابت (بئس) على وزن فعل، وعن يحيى والسلمي بخلاف (بئس) وعن طلحة بن مصرف: (بيس) وروي أيضا عن نافع، وروي عن مجاهد: (بائس) على وزن فاعل، وعن الحسن: (بئس) بكسر الباء، وفتح السين. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (بئيس): فإنه يحتمل أمرين: أن يكون فعيلا من بؤس يبؤس إذا كان شديد البأس، فيكون مثل بعذاب شديد، وأن يكون مصدرا على فعيل، نحو النذير والنكير، وقولهم (عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض) (1) فوصف بالمصدر والتقدير بعذاب ذي بئيس، أي: ذي بؤس، ومن قرأ (بعذاب بئس): فإنه جعل (بئس) الذي هو فعل، اسما فوصف به، ومثل ذلك قوله: (إن الله ينهى عن قيل وقال) ومثله (مذ شب إلى دب، ومذ شب إلى دب) (2) فلما استعملت هذه الألفاظ أسماء وأفعالا، فكذلك (بئس) جعله اسما، بعد أن كان فعلا، فصار وصفا، ومن قرأ (بيئس) فإنه يكون وصفا مثل ضيغم وحيدر، وقال: ولا يجوز كسر العين منه، لأن فيعل بناء اختص به ما كان عينه ياء أو واوا، مثل: طيب وسيد، ولم يجئ مثل ضيغم، وقد جاء في المعتل فيعل. انشد سيبويه (ما بال عينك كالشعيب العين) (3) فينبغي أن يحمل (بيئس) ممن رواه، على الوهم، قال ابن جني: وإنما جاء في الهمز لمشابهتها حرفي العلة، وأما (بئس) على فعل، فإنه جاء على بئس الرجل بأسة، إذا شجع، فكأنه عذاب مقدم عليهم، غير متأخر عنهم، ويجوز أن يكون مقصورا من (بئيس) فيكون مثل أنق من أنيق. وأما (بيس) في وزن جيش، فكأنه أراد بئس فخفف الهمزة، فصارت بين بين، فلما قاربت الياء أسكنها طلبا للخفة، فصارت في اللفظ ياء، ونحو من ذلك قول ابن (1) قائله ذو الإصبع العدواني، وبعده (بغى بعض على بعض فلم يرعوا على بعض) يقول: هات عذرا فيما فعل بعضهم ببعض من التباعد، والتباغض، والقتل، ولم يرع بعضهم على بعض، بعد ما كانوا حية الأرض، التي يحذرها كل أحد. (2) أي: من لدن شببت إلى أن دببت على العصا. (3) الشعيب: السقاء. سقاء، عين: إذا سال ماؤه. وقيل: أريد بالعين: الجديد. (*)
[ 383 ]
ميادة: (وكان يوميذ لها حكمها) أراد يومئذ، فخفف. واما (بائس) فاسم الفاعل من (بئس)، وأنكر أبو حاتم قراءة الحسن: (بئس)، وقال: لو كان كذا لما كان بد معها من ما بئس ما، كنعم ما. اللغة: قال أبو زيد: يقال بؤس الرجل يبؤس بأسا إذا كان شديد البأس، وفي البؤس وهو الفقر بئس الرجل، يبأس، بؤسا (1)، وبأسا، والبأساء الإسم. والعتو، الخروج إلى أفحش الذنوب. والعاتي: المبالغ في المعاصي. والليل العاتي: الشديد الظلمة. والخاسئ: المطرود المبعد عن الخير: من خسأت الكلب: إذا أقصيته، فخسأ أي: بعد. المعنى: (فلما نسوا ما ذكروا به) أي: فلما ترك أهل هذه القرية ما ذكرهم الواعظون به، ولم ينتهوا عن ارتكاب المعصية بصيد السمك (أنجينا الذين ينهون عن السوء) أي: خلصنا الذين ينهون عن المعصية (وأخذنا الذين ظلموا) أنفسهم (بعذاب بئيس) أي: شديد (بما كانوا يفسقون) أي: بفسقهم وذلك العذاب لحقهم قبل ان مسخوا قردة، عن الجبائي. ولم يذكر حال الفرقة الثالثة، هل كانت من الناجية، أم من الهالكة. وروي عن ابن عباس فيهم ثلاثة أقوال أحدها أنه نجت الفرقتان، وهلكت الثالثة، وبه قال السدي. والثاني: إنه هلكت الفرقتان، ونجت الفرقة الناهية، وبه قال إبن زيد، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والثالث: التوقيف فيه روي عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس وبين يديه المصحف، وهو يبكي ويقرأ هذه الآية، ثم قال: قد علمت أن الله تعالى، أهلك الذين اخذوا الحيتان، وأنجى الذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم، ولم يواقعوا المعصية، وهذه حالنا، واختاره الجبائي. وقال الحسن: إنه نجا الفرقة الثالثة، لأنه ليس شئ أبلغ في الأمر بالمعروف والوعظ، من ذكر الوعيد، وهم قد ذكروا الوعيد، فقالوا: (الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) وقال: قتل المؤمن أعظم والله من أكل الحيتان (فلما عتوا عما نهوا عنه) أي: عن ترك ما نهوا عنه، يعني: لم يتركوا ما نهوا عنه، وتمردوا في الفساد والجرأة على المعصية، وأبوا (1) [ وبئسيا ]. (*)
[ 384 ]
أن يرجعوا عنها (قلنا لهم كونوا قردة) أي: جعلناهم قردة (خاسئين) مبعدين مطرودين، وإنما ذكر (كن) ليدل على أنه سبحانه لا يمتنع عليه شئ. وأجاز الزجاج أن يكون قيل لهم ذلك بكلام سمعوه، فيكون ذلك أبلغ في الآية النازلة بهم، وحكي ذلك عن أبي الهذيل، قال قتادة: صاروا قردة لها أذناب، تعاوي، بعد أن كانوا رجالا ونساء، وقيل: إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس، ثم هلكوا، ولم يتناسلوا عن ابن عباس، قال: ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام. وقيل: عاشوا سبعة أيام، ثم ماتوا، عن مقاتل. وقيل: إنهم توالدوا عن الحسن. وليس بالوجه، لأن من الصلوم أن القردة ليست من أولاد آدم، كما أن الكلاب ليست منهم، ووردت الرواية عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا وعقبا). القصة: قيل كانت هذه القصة في زمن داود عليه السلام. وعن ابن عباس قال: أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة، فتركوه، وأختاروا يوم السبت، فابتلوا به، وحرم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا، حتى لا يرى الماء من كثرتها، فمكثوا كذلك ما شاء الله لا يصيدون، ثم أتاهم الشيطان، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا الحياض والشبكات. فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد. وعن ابن زيد قال: أخذ رجل منهم حوتا، وربط في ذنبه خيطا، وشده إلى الساحل، ثم أخذه يوم الأحد وشواه، فلاموه على ذلك، فلما لم يأته العذاب أخذوا ذلك، وأكلوه، وباعوه، وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا، فصار الناس ثلاث فرق، على ما تقدم ذكره، فاعتزلتهم الفرقة الناهية، ولم تساكنهم، فأصبحوا يوما ولم يخرج من العاصية أحد، فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا، فكانت القردة تعرفهم، وهم لا يعرفونها، فجعلت تبكي، فإذا قالوا لهم: ألم ننهكم ؟ قالت برؤوسها أن نعم. قال قتادة: صارت الشبان قردة، والشيوخ خنازير. وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم 167 وقطعناهم في
[ 385 ]
الأرض إمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون 168. الاعراب: (ومنهم دون ذلك): دون في موضع الرفع بالإبتداء، ولكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية، ومثله على قول أبي الحسن: لقد تقطع بينكم، وهو في موضع الرفع، فجاء منصوبا لهذا المعنى، وكذلك في قوله: (يوم القيامة يفصل بينكم): بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، وإن شئت كان التقدير: ومنهم جماعة دون ذلك، فحذف الموصوف، وقامت صفته مقامه. المعنى: ثم خاطب سبحانه النبي فقال: (وإذ تأذن ربك) معناه: واذكر يا محمد إذ أذن وأعلم ربك، فإن تأذن وأذن بمعنى. وقيل: معناه: تألى ربك أي: أقسم القسم الذي يسمع بالأذن. وقيل معناه: قال ربك، عن ابن عباس (ليبعثن عليهم) أي: على اليهود (إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) أي: من يذيقهم ويوليهم شدة العذاب بالقتل، وأخذ الجزية منهم، والمعني به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند جميع المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهذا يدل على أن اليهود لا تكون لهم دولة إلى يوم القيامة، ولا عز. وأما معنى البعث هاهنا: فهو الأمر والإطلاق والمعونة. وقيل معناه: التخلية، وإن وقع على وجه المعصية، كقوله سبحانه (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) (ان ربك لسريع العقاب) لمن يستوجبه على الكفر والمعصية (وإنه لغفور رحيم) ظاهر المعنى. وإنما قال سريع العقاب وإن كان العقاب مؤخرا إلى يوم القيامة، لأن كل آت فهو قريب. وقيل معناه: سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا. (وقطعناهم في الأرض أمما) معناه وفرقناهم في البلاد فرقا مختلفة، وجماعات شتى، يعني اليهود، عن ابن عباس، ومجاهد، وإنما فرقهم بأن فرق دواعيهم حتى افترقوا في البلاد، وتفرقهم ذل لهم بمنزلة أخذ الجزية، لأنهم لا يتعاونون، ولا يتناصرون. وقيل: إنه فرقهم لما علم سبحانه من الصلاح لهم في دينهم، فصلح فريق، وعصى فريق، ثم أخبر سبحانه عنهم فقال (منهم الصالحون) أي: من هؤلاء الصالحون يعني من بني إسرائيل، وهم الذين يؤمنون بالله ورسله، ويطيعونه
[ 386 ]
(ومنهم دون ذلك) أي: دون الصالح في الدرجة والمنزلة، وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر دون بعض، وعملوا بعض المعاصي، وإنما وصفهم بما كانوا عليه قبل ارتدادهم وكفرهم، وذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى عليه السلام. وقيل معناه: منهم المؤمنون بمحمد وعيسى عليهما السلام، ومنهم الكافرون، عن عطاء، ومجاهد (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) معناه: اختبرناهم بالرخاء في العيش، والخفض في الدنيا، والدعة والسعة في الرزق، وبالشدائد في العيش، والمصائب في الأنفس والأموال، فكأنه قال: بلوناهم بالنعم والنقم، والرخاء والشدة، فإن فعل النعم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في ارتباطها، وفعل النقم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في كشفها (لعلهم يرجعون) أي: لكي يرجعوا إلى الله تعالى، وينيبوا إلى طاعته، وامتثال أمره، ومتى قيل: كيف يصح الرجوع إلى أمر لم يكونوا عليه قط ؟ فالقول فيه: إن الذاهب عن الشئ قد يقال له إرجع إليه، أي: صر إليه، كما أن من رأى غيره سالكا في المهالك، قد يقول له: إرجع إلى الطريق المستقيم، يريد به إخراجه عن المهالك. وقيل: إن معناه لعلهم يرجعون إلى ما عليه أصل الفطرة. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون 169 والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين 170. القراءة: قرأ أبو بكر: (يمسكون) بتسكين الميم. والباقون بفتحها وتشديد السين، وهما بمعنى واحد. وفي الشواذ قراءة السلمي: (وادارسوا ما فيه) أراد تدارسوا فأدغم. اللغة: قال الزجاج: يقال للقرن الذي يجئ في أثر قرن: خلف. والخلف: ما أخلف عليك بدلا مما ذهب منك. قال الفراء: يقال هو خلف صدق، وخلف سوء. قال لبيد:
[ 387 ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب (1) قال علي بن عيسى: وقد وضع أحدهما مكان الآخر، قال حسان: لنا القدم الأولى إليك، وخلقنا، لأولنا في طاعة الله، تابع والأغلب في الفتح أن يستعمل في المدح. والعرض: ما يعرض، ويقل لبثه، ومنه سمي العرض القائم بالجسم عرضا، لأنه يعرض في الوجود، ولا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام. والدرس: تكرير الشئ، ويقال درس الكتاب: إذا كرر قراءته. ودرس المنزل: إذا تكرر عليه مرور الأمطار والرياح حتى انمحى أثره وأمسك، ومسك، وتمسك، واستمسك بالشئ بمعنى واحد، أي: اعتصم به. الاعراب: (يأخذون عرض هذا الأدنى): في موضع النصب على الحال من الضمير في (ورثوا). وقوله: (ورثوا الكتاب): صفة (لخلف). و (درسوا ما فيه): عطف على (ورثوا). وقوله (ألم يؤخذ عليهم)، إلى قوله: (إلا الحق): إعتراض بين (ورثوا ودرسوا)، ولا يجوز الوقف من أول الآية إلا على قوله (ما فيه). وخبر (الذين يمسكون) قوله: (انا لا نضيع أجر المصلحين) منهم، فحذف منهم لدلالة الكلام عليه، كما في قوله السمن منوان بدرهم. ويحتمل إن يكون التقدير: لا نضيع أجرهم، لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب في المعنى. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، وتقديره: نعطيهم أجرهم، لأنا لا نضيع أجر المصلحين، فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول. المعنى: ثم ذكر سبحانه الأخلاف بعد ذكر الأسلاف، فقال: (فخلف من بعدهم خلف) معناه: فذهب أولئك، وقام مقامهم قوم آخرون، (ورثوا الكتاب)، يعني التوراة، فإن الميراث ما صار للباقي من جهة البادي. (يأخذون عرض هذا الأدنى) معناه ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه، عن ابن عباس. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وجميع متاع الدنيا عرض. وقيل: إنهم كانوا يرتشون ويحكمون بجور. وقيل: إنهم كانوا يرتشون ويحكمون بحق، وكل ذلك عرض (1) شبه أصحابه بجلد الأجرب في كونهم كلا عليه، كما أن جلد الأجرب من جهة حكه دائما فيه مشقة على صاحبه. (*)
[ 388 ]
خسيس، وأراد بقوله، (هذا الأدنى): هذا العاجل. وقيل: أراد عرض هذا العالم الأدنى، وهو الدار الفانية (ويقولون سيغفر لنا) وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وإصرارهم على الذنوب، إذا أشرف لهم شئ من الدنيا أخذوه، حلالا كان أو حراما، ويتمنون على الله المغفرة. (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) أي: وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه، وهذا دليل على إصرارهم، وأنهم تمنوا المغفرة مع الإصرار. وقيل معناه: وإن جاءهم حرام من الرشوة، وغيرها بعد ذلك، أخذوه واستحلوه، ولم يرتدعوا عنه، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد. وقيل معناه: لا يشبعهم شئ عن الحسن (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق) معناه: ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في الأحكام، القائلين سيغفر لنا إذا عوتبوا على ذلك الميثاق في التوراة، أن لا يكذبوا على الله تعالى، ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى عليه السلام في التوراة من الوعد، والوعيد، وغير ذلك، وليس فيها ميعاد المغفرة مع الإصرار (ودرسوا ما فيه) أي: وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك. وقيل: إنه معطوف على قوله (ورثوا الكتاب) والمعنى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه، فضيعوه، ويركوا العمل به. (والدار الآخرة خير للذين يتقون) معناه: ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة من النعيم والثواب، للعاملين بطاعته، خير للذين يجتنبون معاصي الله (أفلا تعقلون) من قرأ بالياء، فمعناه: أفلا يعقل هذه الطائفة. ومن قرأ بالتاء فمعناه: قل لهم أفلا تعقلون أن الأمر على ما أخبر الله به (والذين يمسكون بالكتاب) أي: يتمسكون به. والكتاب: التوراة، أي: لا يحرفونه، ولا يكتمونه، عن مجاهد، وابن زيد. وقيل: الكتاب القرآن، والمتمسك به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن عطا (وأقاموا الصلاة): إنما خص الصلاة بالذكر لجلالة موقعها، أو شدة تأكدها (إنا لا نضيع أجر المصلحين) أي: لا نضيع جزاء عملهم، ونثيبهم على ما يستحقونه. وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما إتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون 171. اللغة: النتق: قلع الشئ من الأصل، وكل شئ قلعته، ثم رميت به، فقد
[ 389 ]
نتقته، ومنه قيل للمرأة الكثيرة الأولاد: ناتق: لأنها ترمي بالأولاد رميا، هذا قول أبي عبيدة. وقيل: أصل النتق الرفع، ومنه إمرأة ناتق لرفعها الأولاد، ونتقت المرأة فهي ناتق ومنتاق: إذا كثر ولدها، وهو قول ابن الأعرابي. وقيل: أصله الجذب، يقال نتقت الغرب (1) من البئر: جذبته، عن أبي مسلم. والظلة: كلما أظلك أي سترك من سقف، أو سحابة، أو جناح حائط. المعنى: عاد الكلام إلى قوم موسى عليه السلام فقال سبحانه: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) معناه: واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من أصله فرفعناه فوق بني إسرائيل، وكان عسكر موسى عليه السلام فرسخا في فرسخ، فرفع الله الجبل فوق جميعهم (كأنه ظلة) أي: غمامة. وقيل: سقيفة، عن عطا (وظنوا أنه واقع بهم) أي: علموا وأيقنوا عن الحسن. وقيل معناه: على ظاهره من الظن أي: قوي في نفوسهم ذلك، عن الرماني، والجبائي (خذوا) أي: وقلنا لهم خذوا (ما آتيناكم بقوة) أي: خذوا ما ألزمناكم من أحكام كتابنا وفرائضه، فاقبلوه بجد واجتهاد منكم، في كل أوان، من غير تقصير، ولا توان (واذكروا ما فيه) من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه (لعلكم تتقون) أي: لكي تتقوا ربكم، وتخافوا عقابه. وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة البقرة مشروحا. وإذ أخذ ربك من بني إدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على إنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين 172 أو تقولوا إنما أشرك إباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون 173 وكذلك نفصل الأيات ولعلهم يرجعون 174. القراءة: قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة: (ذريتهم) على التوحيد. والباقون: (ذرياتهم) على الجمع. وقرأ أبو عمرو: (أن يقولوا)، (أو يقولوا) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي: الذرية قد يكون جمعا، وقد يكون واحدا، فمما جاء (1) الغرب: الدلو العظيمة. (*)
[ 390 ]
فيه جمعا قوله: (وكنا ذرية من بعدهم) و (ذرية من حملنا مع نوح). فمن أفرد جعله جمعا فاستغنى عن جمعه لوقوعه على الجمع، ومما جاء فيه واحدا قوله: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) ثم قال: (إن الله يبشرك بيحيى) وهذا مثل قوله: (رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث آل يعقوب). وأما قراءة أبي عمرو: (ان يقولوا) بالياء، فلأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة. ومن قرأ بالتاء فلأنه جرى في الكلام خطاب أيضا فقال: (ألست بربكم). وكلا الوجهين حسن، لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى. الاعراب: (من ظهورهم): بدل من قوله: (من بني آدم)، والمعنى: أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم، وقد ذكرنا الذرية وما قيل في تقدير وزنها واشتقاقها فيما تقدم، وقوله: (أن تقولوا) تقديره كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، وقد مضى الكلام في أمثاله. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم، عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب، جمعا بين دلائل السمع والعقل، وإبلاغا في إقامة الحجة، فقال: (وإذ أخذ ربك) أي: واذكر لهم يا محمد، إذ أخرج ربك (من بني آدم من ظهورهم، أي: من ظهور بني آدم (ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى): إختلف العلماء من العام والخاص في معنى هذه الآية، وفي هذا الإخراج والإشهاد، على وجوه أحدها: إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه، كهيئة الذر، فعرضهم على آدم، وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم، أن يعبدوني، ولا يشركوا بي شيئا، وعلي أرزاقهم، ثم قال لهم: ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا. فقال للملائكة: اشهدوا. فقالوا: شهدنا. وقيل: إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء، يسمعون خطابه ويفهمونه، ثم ردهم إلى صلب آدم، والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت، وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى، ومن كفر وجحد، فقد تغير عن الفطرة الأولى، عن جماعة من المفسرين، ورووا في ذلك آثارا بعضها مرفوعة، وبعضها موقوفة، ويجعلونها تأويلا للآية. ورد المحققون هذا التأويل وقالوا: إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأنه
[ 391 ]
تعالى قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ولم يقل من آدم، وقال، (من ظهورهم)، ولم يقل من ظهره، وقال: (ذريتهم)، ولم يقل ذريته، ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنهم نشأوا على دينهم، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون، فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه، وأيضا فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم، لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء، أو لم يجعلهم كذلك، فإن لم يجعلهم عقلاء، فلا يصح أن يعرفوا التوحيد، وأن يفهموا خطاب الله تعالى، وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق، فيجب أن يتذكروا ذلك، ولا ينسوه، لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه، إلا أن يكون ذاكرا له، فيجب أن نذكر نحن الميثاق، ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير، والجم الغفير من العقلاء، شيئا كانوا عرفوه وميزوه، حتى لا يذكره واحد منهم، وإن طال العهد، ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا، حتى يقول أهل الجنة لأهل النار: (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) ولو جاز أن ينسوا ذلك مع هذه الكثرة، لجاز أن يكون الله تعالى، قد كلف الخلق فيما مضى، ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم، ونسوا ذلك، وذلك يؤدي إلى التجاهل، وإلى صحة مذهب التناسخية. وحكي عن علي بن عيسى، عن أبي بكر بن الأخشيد أنه جوز أن يكون خبر الذر صحيحا، غير أنه قال: ليس تأويل الآية على ذلك، ويكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة، في شكر النعمة، والإقرار لله تعالى بالربوبية، كما روي أنهم ولدوا على الفطرة. وحكي أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري وأصحابه، كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر. وثانيها: إن المراد بالآية أن الله سبحانه، أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم، ثم رقاهم درجة بعد درجة، وعلقة، ثم مضغه، ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا، ثم حيا مكلفا، وأراهم آثار صنعه، ومكنهم من معرفة دلائله، حتى كأنه أشهدهم. وقال لهم: ألست بربكم ؟ فقالوا: بلي. هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم: دلهم بخلقه على توحيده، وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك، لما جعل في عقولهم من الأدلة على وحدانيته، وركب فيهم من عجائب
[ 392 ]
خلقه، وغرائب صنعته، وفي غيرهم، فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم، فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله، وتعذر امتناعهم منه، بمنزلة المعترف، المقر، وإن لم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة، ونظير ذلك قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) وإن لم يكن منه سبحانه قول، ولا منهما جواب. ومثله قوله تعالى: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ومعلوم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم، لكنه لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه، فكأنهم اعترفوا به، ومثله في الشعر: وقالت له العينان: سمعا وطاعة، وحدرتا كالدر لما يثقب وكما يقول القائل: جوارحي تشهد بنعمتك. وكما روي عن بعض الخطباء من قوله: (سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وأينع ثمارك، فإن لم تجبك حوارا (1)، أجابتك اعتبارا) ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم، ونظمهم، ونثرهم، وهو قول الرماني، وأبي مسلم، وابن الأخشيد. وثالثها: إنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم، خلقهم وأكمل عقولهم، وقررهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته، وبما يجب من طاعته، فأقروا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به، لئلا يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين) أو يقولوا: (إنما أشرك آباؤنا من قبل) فقلدناهم في ذلك، فنبه سبحانه على أنه لا يعاقب من له عذر، رحمة منه لخلقه، وكرما، وهذا يكون في قوم خاص من بني آدم، ولا يدخل جميعهم فيه، لأن المؤمن لا يدخل فيه، لأنه بين أن هؤلاء المأخوذ ميثاقهم، كان لهم سلف في الشرك، ولأن ولد آدم لصلبه لم يؤخذوا من ظهور بني آدم، فقد خرجوا من ذلك، وهذا اختيار الجبائي، والقاضي، وقوله (شهدنا) حكاية عن قول الملائكة، إنهم يقولون ذلك أي: شهدنا لئلا تقولوا، ذكره الأزهري عن بعضهم وقال: إن قوله: (قالوا بلى) تمام الكلام، وهذا خلاف الظاهر، وما عليه المفسرون، لأن الكل قالوا شهدنا من قول من قال بلى، وإن اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر لها ذكر في الآية، فيبعد أن يكون إخبارا عنهم (أن تقولوا يوم القيامة) معناه لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم (1) الحوار - بالفتح ويكسر -: مراجعة الكلام. (*)
[ 393 ]
القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين) لم نتنبه عليه، ولم تقم لنا حجة به، ولم تكمل عقولنا فنفكر فيه (أو تقولوا) أي: أو يقول قوم منهم: (إنما أشرك آباؤنا من قبل) حين بلغوا وعقلوا (وكنا ذرية من بعدهم) أي: أطفالا لا نعقل، ولا نصلح للفكرة والنظر والتدبر، وعلى التأويل الأخير فمعناه: إني إنما قررتكم بهذا، لتواظبوا على طاعتي، وتشكروا نعمتي، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين عما أخذ الله من الميثاق على لسان الأنبياء، وتقولوا (إنما أشرك آباؤنا من قبل) فنشؤنا على شركهم احتجاجا بالتقليد، وتعويلا عليه أي: فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتكم به من معرفتي، وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ومعناه: ولأن لا تقولوا أفتهلكنا لما فعل آباؤنا من الشرك ؟ وتقديره: إنا لا نهلككم بما فعلوه، وإنما نهلككم بفعلكم أنتم (وكذلك نفصل الآيات) معناه: إنا كما بينا لكم هذه الآيات، كذلك نفصلها للعباد، ونبينها لهم، وتفصيل الآيات: تمييزها، ليتمكن من الإستدلال بكل واحدة منها (ولعلهم يرجعون) أي: ليرجعوا إلى الحق من الباطل. واتل عليهم نبأالذئ اتيناه إياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين 175 ولو شئنا لرفعنا بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بأياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون 176 ساء مثلا القوم الذين كذبوا بأياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون 177 من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون 178. اللغة: النبأ: الخبر عن الأمر العظيم، ومنه اشتقاق النبوة، نبأه الله: أي جعله نبيا. وأخلد إلى كذا، وخلد إليه، سكن إليه، وأخلد: أكثر، وأصله اللزوم على الدوام. ورجل مخلد: إذا أبطأ عنه الشيب. وأخلد إلى الأرض: لصق بها. قال مالك بن نويرة. بأنباء حق من قبائل مالك، وعمرو بن يربوع، أقاموا فأخلدوا
[ 394 ]
اللهث: أن يدلع الكلب لسانه من العطش. واللهاث: حر العطش. وفي حديث سعيد بن جبير في المرأة اللهثى، إنما تفطر في رمضان. وقيل: هو النفس الشديد من شدة الإعياء. الاعراب: نصب (مثلا): لأنه تفسير الضمير في (ساء) التي هي بمعنى بئس، فيكون فعلا ماضيا غير متصرف، وتقديره: ساء المثل مثلا. وفي الكلام حذف آخر، وتقديره: ساء المثل مثلا مثل القوم، ثم حذف المثل الأول لدلالة المنصوب عليه، وحذف الثاني لقيام المضاف إليه مقامه، ولأن المعنى مفهوم. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ عليهم قصة أخرى من أخبار بني إسرائيل فقال: (واتل) أي: واقرأ (عليهم) يا محمد (نبأ الذي آتيناه) أي: خبر الذي أعطيناه (آياتنا) أي: حججنا وبيناتنا (فانسلخ منها) أي: فخرج من العلم بها بالجهل، كالشئ الذي ينسلخ من جلده (فأتبعه الشيطان) أي: تبعه، وتبع واتبع، وأتبع بمعنى. وقيل: معناه: لحقه الشيطان وأدركه حتى أضله (فكان من الغاوين) أي: من الهالكين، وقيل: من الخائبين، عن الجبائي. واختلف في المعني به. فقيل: هو بلعام بن باعور، عن ابن عباس، وابن مسعود، وكان رجلا على دين موسى عليه السلام، وكان في المدينة التي قصدها موسى، وكانوا كفارا، وكان عنده اسم الله الأعظم، وكان إذا دعا الله تعالى به أجابه. وقيل: هو بلعم بن باعورا، من بني هاب بن لوط، عن أبي حمزة الثمالي، ومسروق. قال أبو حمزة، وبلغنا أيضا، والله أعلم، أنه امية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وأبي روق، وكانت قصته أنه قرأ الكتب، وعلم أن الله سبحانه مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا ان يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حسده، ومر على قتلى بدر، فسأل عنهم، فقيل: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبينا ما قتل أقرباءه، واستنشد رسول الله أخته شعره بعد موته، فأنشدته: لك الحمد، والنعماء، والفضل، ربنا ولا شئ أعلى منك جدا، وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي فيها.
[ 395 ]
وقف الناس للحساب جميعا فشقي معذب وسعيد والتي فيها: عند ذي العرش تعرضون عليه يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمن وهو رحيم إنه كان وعده مأتيا رب إن تعف فالمعافاة ظني أو تعاقب فلم تعاقب بريا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آمن شعره وكفر قلبه، وأنزل الله فيه قوله (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه) الآية. وقيل: إنه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي الفاسق، وكان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، فقدم المدينة، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا الذي جئت به ؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم. قال: فأنا عليها. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لست عليها، ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا ! فخرج إلى أهل الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح، ثم أتى قيصر، وأتى بجند ليخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة، فمات بالشام طريدا وحيدا، عن سعيد بن المسيب. وقيل: المعني به منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم، ويكون معنى (فانسلخ منها): أعرض عن آيات الله وتركها، (فأتبعه الشيطان) أي: خذله الله، وخلى بينه وبين الشيطان، عن الحسن، وابن كيسان. وقيل: إنه مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله، عن قتادة. وقال أبو جعفر عليه السلام: الأصل في ذلك بلعم، ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة. وقيل أيضا في الآيات التي أوتيها أقوال أخر منها: إن المراد بها المعجزات الدالة على صدق الأنبياء، فلم يقبلها، وعري عنها، يعني فرعون. عن أبي مسلم، فكأنه قال أتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى، فلم يقبلها. ومنها: إن الآيات: الإيمان والهدى والدين، عن الحسن، ومنها: إنها النبوة، عن مجاهد، وهذا لا يجوز لأن الأنبياء منزهون عن ذلك، فإنهم حجج الله على خلقه. (ولو شئنا لرفعناه بها) أي: بتلك الآيات، والهاء في (رفعناه) يعود إلى الذي أتاه الله بآياته فانسلخ منها، معناه: ولو شئنا لرفعنا منزلته بإيمانه ومعرفته، قبل
[ 396 ]
أن يكفر، ولكن بقيناه ليزداد الإيمان، فكفر عن الجبائي. وقيل معناه: ولو شئنا لحلنا بينه وبين ما اختاره من المعصية، وهذا إخبار عن كمال قدرته، عن البلخي، والزجاج (ولكنه أخلد إلى الأرض) أي: ركن إلى الدنيا، ومال إليها، عن سعيد بن جبير، والسدي، ومعناه: ولكنه مال إلى الدنيا بإيثار الراحة والدعة في لذة (واتبع هواه) أي: وانقاد لهواه في الركون إلى الدنيا، واختيارها على الآخرة. ثم ضرب له مثلا فقال (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) معناه: فصفته كصفة الكلب، إن طردته، وشددت عليه، يخرج لسانه من فمه، وإن تركته ولم تطرده، يخرج لسانه من فمه أيضا، وتحمل عليه: من الحملة لا من الحمل، والمعنى: إن واعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال في كل حال، كما أن كل شئ يلهث، فإنما يلهث في حال الإعياء والكلال، الا الكلب فإنه يلهث في كل حال، ومثله قوله سبحانه: (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون). وقيل: إنما شبهه بالكلب في الخسة، وقصور الهمة، وسقوط المنزلة، ثم وصف الكلب باللهث على عادة العرب في تشبيههم الشئ بالشئ، ثم يأخذون في وصف المشبه به، وإن لم يكن ذلك الوصف في المشبه، وذلك يكثر في كلامهم، عن أبي مسلم. وقيل: شبهه بالكلب إذا أخرج لسانه لإيذائه الناس بلهاثه. حملت عليه، أو تركته، يقال لمن آذى الناس بلسانه: فلان أخرج لسانه من الفم مثل الكلب، ولهثه في هذا الموضع: صياحه ونباحه. وقيل: إن هذا مثل للذي يقرأ القرآن فلا يعمل به، عن مجاهد. (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) معناه: ذلك صفة الذين يكذبون بآيات الله، قال ابن عباس: يريد أهل مكة، كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه، كذبوه فلم يهتدوا لما تركوا، ولم يهتدوا لما دعوا بالرسول والكتاب (فاقصص القصص) أي: فاقصص عليهم أخبار الماضين (لعلهم يتفكرون) فيعتبرون ولا يفعلون مثل فعلهم حتى لا يحل بهم ما حل بهم. ثم وصف الله تعالى بهذا المثل الذي ضربه وذكره بأنه (ساء مثلا) أي: بئس مثلا (القوم الذين كذبوا بآياتنا) ومعناه بئست الصفة المضروب فيها المثل، أو قبح حال المضروب فيه، لأن المثل حسن، وحكمة، وصواب، وإنما القبيح صفتهم (وأنفسهم كانوا يظلمون) أي: وإنما نقصوا بذلك أنفسهم، ولم ينقصوا شيئا لأن
[ 397 ]
عقاب ما يفعلونه من المعاصي، يحل بهم، والله سبحانه لا يضره كفرهم ومعصيتهم، كما لا ينفعه إيمانهم وطاعتهم. (من يهد الله فهو المهتدي) كتبت ههنا بالياء ليس في القرآن غيره بالياء، وأثبت الياء ههنا في اللفظ جميع القراء، ومعناه من يهده الله إلى نيل الثواب، كما يهدي المؤمن إلى ذلك، وإلى دخول الجنة، فهو المهتدي للإيمان والخير، عن الجبائي (ومن يضلل) أي: ومن يضلله الله عن طريق الجنة، وعن نيل الثواب، عقوبة على كفره وفسقه. (فأولئك هم الخاسرون) خسروا الجنة ونعيمها، وخسروا أنفسهم والإنتفاع بها. وقيل: المهتدي هو الذي هداه الله فقبل الهداية، وأجاب إليها. والذي أضله الله هو الذي اختار الضلالة فخلى الله بينه وبين ما اختاره، ولم يمنعه منه بالجبر، عن البلخي. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون 179 ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون 180 وممن خلقنا أمه يهدون بالحق وبه يعدلون 181. القراءة: قرأ حمزة: (يلحدون) بفتح الياء والحاء، حيث كان، ووافقه الكسائي، وخلف في النحل. والباقون: (يلحدون) بضم الياء، وكسر الحاء. الحجة: قال أبو الحسن: لحد وألحد لغتان، وألحد في الكلام أكثر قال الشاعر (ليس الإمام بالشحيح الملحد) وفي القرآن (ومن يرد فيه بإلحاد). اللغة: الذرء، والإنشاء، والإحداث، والخلق، نظائر. قال علي بن عيسى: الإسم: كلمة تدل على المعنى دلالة الإشارة، والفعل: كلمة تدل على المعنى دلالة الإفادة، والصفة: كلمة مأخوذة للمذكور من أصل من الأصول لتجري عليه تابعة له. والإلحاد: العدول عن الإستقامة، والإنحراف عنها، ومنه اللحد الذي يحفر في
[ 398 ]
جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه. وروى أبو عبيدة عن الأحمر: لحدت جزت وملت، وألحدت: ما ريت وجادلت. أبو عبيدة: لحدت للميت، وألحدت، بمعنى واحد. الاعراب: اللام في قوله (لجهنم): لام العاقبة، كما في قوله: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا)، لانما التقطوه ليكون لهم قرة عين، كما قالت امرأة فرعون (قرة عين لي ولك)، ومثله قول الشاعر: وأم سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدة وقول الآخر: وللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن وقول الآخر: أموالنا لذوي الميراث نجمعها، ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقول الآخر: يا أم وجرة بعد الوجد، واعترفي، فكل والدة للموت ما تلد قال علي بن عيسى: هي لام الإضافة، تذكر مرة على معنى العلة، ومرة على معنى شبه العلة. المعنى: لما بين سبحانه أمر الكفار، وضرب لهم الأمثال، عقبه ببيان حالهم في المصير والمال، فقال: (ولقد ذرأنا) أي: خلقنا (لجهنم كثيرا من الجن والإنس) يعني: خلقناهم على أن عاقبتهم المصير إلى جهنم بكفرهم وإنكارهم، وسوء اختيارهم، ويدل على هذا المعنى قوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فأخبر أنه خلقهم للعبادة، فلا يجوز أن يكون خلقهم للنار. وقوله: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) في نظائر لذلك لا تحصى، والمراد في الآية كل من علم الله تعالى، أنه لا يؤمن، ويصير إلى النار. (لهم قلوب لا يفقهون بها) الحق لأنهم لا يتدبرون أدلة الله تعالى، وبيناته
[ 399 ]
(ولهم أعين لا يبصرون بها) الرشد (ولهم آذان لا يسمعون بها) الوعظ لأنهم يعرضون عن جميع ذلك، إعراض من ليست له آلة الإدراك. وقد مر تفسيره في سورة البقرة، عند قوله: (صم بكم عمي) الآية: (أولئك كالأنعام) أي: هؤلاء الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستدلون بها على وحدانيته، وصدق أنبيائه، أشباه الأنعام والبهائم التي لا تفقه، ولا تعلم (بل هم أضل) من البهائم، فإنها إذا زجرت انزجرت، وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت، وهؤلاء لكفرهم وعتوهم، لا يهتدون إلى شئ من الخيرات، مع ما ركب الله فيهم من العقول الدالة على الرشاد، الصارفة عن الفساد. ولم يذكر (بل) ههنا للرجوع عن الأول. ولكن للإضراب عنه مع بقائه. وقيل: إنما قال (بل هم أضل) من الأنعام، لأن الأنعام لم تعط آلة المعرفة والتمييز فلا تلحقها المذمة، وهؤلاء أعطوا آلة المعرفة والتمييز فضيعوها، ولم ينتفعوا بها، ولأن الأنعام وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية، وهؤلاء عصاة، فهم أسوأ حالا منها (أولئك هم الغافلون) عن آياتي وحججي، وعن الإستدلال والإعتبار بتدبرها، والتفكر فيها، دون البهائم التي هي مسخرة مصرفة. وقيل: الغافلون عما بحل بهم في الآخرة من العذاب (ولله الأسماء الحسنى) أخبر سبحانه أن له الأسماء الحسنى، لحسن معانيها، مثل: الجواد، والرحيم، والرازق، والكريم. ويقال: إن جميع أسمائه داخلة فيه، وإنها كلها حسنة متضمنة لمعان حسنة، فمنها ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم، والقادر، والحي، والإله، والقديم، والسميع، والبصير. ومنها ما هي صفات فعله كالخالق، والرازق، والمبدع، والمحي، والمميت. ومنها ما يفيد التنزيه، ونفي صفات النقص عنه كالغني، والواحد، والقدوس، ونحو ذلك. وقيل: المراد بالحسنى: ما مالت إليه النفوس من ذكر العفو والرحمة، دون السخط والنقمة (فادعوه بها) أي: بهذه الأسماء الحسنى، ودعاؤه بها أن يقال: يا الله ! يا رحمن ! يا رحيم ! ! يا خالق السماوات والأرض ! وكل إسم لله سبحانه، فهو صفة مفيدة، لأن اللقب لا يجوز عليه، فإنه بمنزلة الإشارة إلى الحاضر. وقد ورد في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين إسما، مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة، إنه وتريحب الوتر) أورده مسلم في الصحيح. (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) أي: دعوا الذين يعدلون بأسماء الله تعالى عما هي عليه، فيسمون بها أصنامهم، ويغيرونها بالزيادة والنقصان، فاشتقوا اللات من الله، والعزى
[ 400 ]
من العزيز، ومنات من المنان، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: إن معنى (يلحدون في أسمائه): يصفونه بما لا يليق به، ويسمونه بما لا يجوز تسميته به. وهذا الوجه أعم فائدة، ويدخل فيه قول الجبائي أراد تسميتهم المسيح بأنه أبن الله، وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى، إلا بما سمى به نفسه. (سيجزون ما كانوا يعملون) في الآخرة. وقيل: في الدنيا والآخرة (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق): أخبر سبحانه من جملة من خلقه جماعة وعصبة، يدعون الناس إلى توحيد الله تعالى، وإلى دينه، وهو الحق يرشدونهم إليه (وبه يعدلون) أي: وبالحق يحكمون. وروى ابن جريج، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (هي لأمتي بالحق يأخذون، وبالحق يعطون. وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها، (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). وقال الربيع بن أنس: قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية، فقال: إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم. وروى العياشي بإسناده عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، أنه قال: (والذي نفسي بيده، لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا فرقة واحدة (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجو) وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: (نحن هم). النظم: قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان أحدهما: إنه لما بين في الآية المتقدمة، حال قوم من الكفار، يغفلون عن الحق، بين في هذه الآية أن من جملة ما خلق من يهدي إلى دينه بالحق، ويحكم بالعدل. والآخر: إنه يتصل بقوله (ذرأنا) فكأنه قال: خلقنا قوما صفتهم كذا وكذا، وقوما صفتهم كذا. والذين كذبوا بأياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 182 وأملي لهم إن كيدي متين 183 أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين 184 أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون 185 من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون 186.
[ 401 ]
القراءة: قرأ أهل العراق: (ويذرهم) بالياء والجزم، كوفي، غير عاصم. والباقون: (ونذرهم) بالنون والرفع. الحجة: من قرأ بالنون فالتقدير وإنا نذرهم. ومن قرأ بالياء رده إلى اسم الله تعالى، أي: وهو يذرهم، ويكون مقطوعا عن الأول على الوجهين، ولم يكن جوابا. ومن جزمه فإنه عطفه على موضع الفاء وما بعده من قوله (فلا هادي له) ومثله في الحمل على الموضع، قوله: فأصدق وأكن، لأنه لو لم يلحق الفاء، لقيل لولا أخرتني أصدق، لأن معنى لولا أخرتني: أخرني أصدق، ومثله قول الشاعر: أنى سلكت فإنني لك ناصح، وعلى انتقاصك في الحياة وازدد وقول أبي داود: فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم، وأستدرج نويا (1) حمل أستدرج على موضع الفاء المحذوفة من قوله فلعلي أصالحكم، وموضعه جزم. اللغة: الإستدراج: أصله من الدرجة، وهو أن يؤحذ قليلا قليلا، ولا يباغت، كما يرتقي الراقي الدرجة، فيتدرج شيئا بعد شئ، حتى يصل إلى العلو. وقيل: أصله من الدرج الذي يطوى، فكأنه يطوى منزلة بعد منزلة، كما يطوى الدرج. ويقال: درج القوم إذا مات بعضهم في أثر بعض والإملاء: التأخير والإملال: من الملي. يقال: مضى عليه ملي من الدهر، وملاوة من الدهر بضم الميم، وفتحها، وكسرها، أي: قطعة منه. وأصل الإملاء: الإستمرار على العمل من غير لبث، من أمليت الكتاب. ومنه الملاة للفلاة ذات الحر والسراب، لاستطالة المكث فيه. والمتين: القوي والشديد، وأصله من المتن: وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب، وهما متنان. والكيد والمكر، واحد. والجنة: الجنون، وأصله الستر. والملكوت: هو الملك الأعظم للمالك الذي ليس بمملوك. المعنى: لما ذكر سبحانه المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، الهادين بالحق، ذكر بعده (1) النوي: الصاحب الذي نيته نيتك. (*)
[ 402 ]
المكذبين بآياته، فقال: (والذين كذبوا بآياتنا) التي هي القرآن، والمعجزات الدالة على صدق النبي عليه السلام، وكفروا بها (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة كما قال سبحانه: (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها) وقال: (فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون). وقيل: يجوز أن يريد عذاب الآخرة، أي: نقربهم إليه درجة درجة إلى أن يقعوا فيه، وقيل: هو من المدرجة وهي الطريق ودرج: إذا مشى سريعا، أي: سنأخذهم من حيث لا يعلمون أي طريق سلكوا، فإن الطريق كلها علي، ومرجع الجميع إلي، ولا يغلبني غالب، ولا يسبقني سابق، ولا يفوتني هارب. وقيل: إنه من الدرج، أي: سنطويهم في الهلاك، ونرفعهم عن وجه الأرض. يقال: طويت فلانا، وطويت أمر فلان: إذا تركته وهجرته. وقيل: معناه كلما جددوا خطيئة، جددنا لهم نعمة، عن الضحاك، ولا يصح قول من قال: إن معناه نستدرجهم إلى الكفر والضلال، لأن الآية وردت في الكفار، وتضمنت أنه يستدرجهم في المستقبل، فإن السين تختص المستقبل، ولأنه جعل الإستدراج جزاء على كفرهم وعقوبة، فلا بد من أن يريد معنى آخر غير الكفر. وقوله: (وأملي لهم) معناه: وأمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة، فإنهم لا يفوتونني، ولا يفوتني عذابهم، (إن كيدي متين) أي: عذابي قوي منيع، لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، وسماه كيدا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون. وقيل: أراد إن جزاء كيدهم متين، والقول هو الأول (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) معناه: أو لم يتفكروا هؤلاء الكفار، والمكذبون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبنبوته، في أقواله وأفعاله، فيعلموا أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس بمجنون، إذ ليس في أقواله وأفعاله ما يدل على الجنون، وتم الكلام عند قوله: (أو لم يتفكروا) ثم ابتدأ، فقال: (ما بصاحبهم من جنة) أي: ليس به جنون، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صعد الصفا، وكان يدعو قريشا، فخذا فخذا، إلى توحيد الله، ويخوفهم عذاب الله، فقال المشركون: إن صاحبهم قد جن، بات ليلا يصوت إلى الصباح، فأنزل الله هذه الآية، عن الحسن، وقتادة (إن هو إلا نذير مبين) أي: ما هو الا معلم موضع المخافة، ليتقى، ولموضع الأمن ليجتبى، ومعنى مبين، بين أمره. وقيل: مبين لهم عن الله أمره فيهم. ثم قال (أو لم ينظروا) معناه: أو لم يتفكروا (في ملكوت السموات والأرض) وعجيب صنعهما، فينظروا فيها نظر المستدل المعتبر، فيعترفوا بأن لهما
[ 403 ]
خالقا مالكا، ويستدلوا بذلك عليه (وما خلق الله من شئ) أي: وينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام، فإن في كل شئ خلق الله عز وجل، دلالة واضحة على إثباته وتوحيده (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) أي: أو لم يتفكروا وينظروا في أن عسى أن يكون قد قرب أجلهم، وهو أجل موتهم، فيدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم، مما يصيرون إليه بعد الموت، من أمور الآخرة، ويزهدوا في الدنيا، وفيما يطلبونه من فخرها، وشرفها، وعزها. ومعناه: لعل أجلهم قريب وهم لا يعلمون (فبأي حديث بعده) أي: بعد القرآن (يؤمنون) مع وضوح الدلالة على أنه كلام الله المعجز، إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورة مثله، وسماه حديثا، لأنه محدث غير قديم. (من يضلل الله فلا هادي له) قد ذكرنا معناه (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) معناه: ونتركهم في ضلالتهم يتحيرون. والعمه في القلب، كالعمى في العين. يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون 187. اللغة: أيان: معناه متى، وهو سؤال عن الزمان على وجه الظرف للفعل، قال الشاعر: أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها أبانا (1) والساعة ههنا: الساعة التي يموت فيها الخلق. والإرساء: الإثبات، ومرسيها: مثبتها، ورسا الشئ، يرسو، فهو راس: إذا ثبت. وأرساه غيره. والحفي: المستقصي في السؤال. وأحفى فلان بفلان في المسألة: إذا أكثر عليه وألح، قال الأعشى: فإن تسألي عني فيارب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا (2) ومنه أحفى شاربه: إذا استقصى أخذه. وحفيت الدابة، تحفى، حفى، (1) الآبان: الوقت. (2) قوله به: أي بذلك الموضع. (*)
[ 404 ]
مقصورا: إذا كثر عليها ألم المشي. والحفاء ممدودا: المشي بغير نعل. الاعراب: (الكاف) في (يسئلونك): المفعول الأول. و (عن الساعة): في موضع المفعول الثاني. و (أيان مرساها) يتعلق بمدلول السؤال. والتقدير: قائلين أيان مرساها. (مرساها): في موضع رفع بالإبتداء، و (أيان) خبره، و (بغتة): مصدر في موضع الحال من الضمير في (تأتيكم). النزول: قيل جاء قوم من اليهود، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبيا ؟ فنزلت الآية، عن ابن عباس، وقيل: قالت قريش: يا محمد ! متى الساعة، فنزلت الآية، عن قتادة. والحسن. المعنى: لما تقدم الوعيد بالساعة، سألوا عن وقتها، فقال تعالى: (يسئلونك) يا محمد (عن الساعة) وهي الساعة التي يموت فيها الخلق، عن الزجاج. وقيل: هي القيامة، وهو وقت قيام الناس في الحشر، عن أكثر المفسرين. وقيل: هو وقت فناء الخلق، عن الجبائي (أيان مرساها) أي: متى وقوعها، وكونها، عن الزجاج. وقيل: مرساها: منتهاها، عن ابن عباس. وقيل: قيامها، عن قتادة، والسدي (قل) يا محمد (إنما علمها عند ربي) أي: إنما علم وقت قيامها ومجيئها، عند الله تعالى، لم يطلع عليه أحد من خلقه، وإنما لم يخبر سبحانه بوقتها، ليكون العباد على حذر منه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية (لا يجليها لوقتها إلا هو) أي: لا يظهرها، ولا يكشف عن علمها، ولا يبين وقتها، إلا هو، فلا يعلم أحد سواه متى يكون قبل وقتها. وقيل: معناه: لا يأتي بها إلا هو، عن مجاهد (ثقلت في السموات والأرض) ذكر فيه وجوه أحدها: ثقل علمها على أهل السماوات والأرض، لأن من خفي عليه علم شئ، كان ثقيلا عليه، عن السدي وغيره، قال أبو علي الفارسي: أصل هذا قولهم أحطت به علما، أي: ذل لي فصرت لعلمي به غالبا عليه، فخف علي، ولم يثقل كما يثقل ما لا تعلمه عليك. وثانيها: إن معناه: عظمت على أهل السماوات والأرض صفتها، لما يكون فيها من انتثار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال، وغير ذلك، عن الحسن، وابن جريج. وثالثها: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض، لعظمها وشدتها، ولما فيها من المحاسبة والمجازاة، عن الجبائي، وأبي مسلم، وجماعة ورابعها: إن المراد نفس السماوات والأرض، أي: لا تطيق
[ 405 ]
السماوات والأرض حملها، لعظمها وشدتها، عن قتادة، والمعنى: إنها لو كانت أحياء لثقل عليها تلك الأحوال من انفطار السماوات، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وغيرها. (لا تأتيكم إلا بغتة) أي: فجأة لتكون أعظم وأهول (يسألونك كأنك حفي عنها) معناه يسألونك عنها، كأنك حفي بها، أي: عالم بها قد أكثرت المسألة عنها، عن مجاهد. والضحاك، وأصله من أحفيت في السؤال عن الشئ حتى علمته: أي: استقصيت فيه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: (كأنك حفي بها)، فعلى هذا يكون الجار والمجرور الذي هو (عنها) محذوفا، لدلالة الحال عليها، كما يكون في التقدير الأول، يكون الجار والمجرور الذي هو (بها) محذوفا للدلالة عليها أيضا، ألا ترى أنه إذا كان حفيا بها، فلا بد أن يسأل عنها، كما أنه إذأ سأل عنها، فليس ذلك إلا للحفاوة بها. وقيل فيه معنى آخر: وهو أن يكون تقديره يسألونك عنها، كأنك حفي بهم، أي: بار بهم فرح بسؤالهم، والحفاوة في المسألة هي البشاشة بالمسؤول عنه. وقيل معناه: كأنك معني بالسؤال عنها، فسألت عنها حتى علمتها، وعلى هذا فإن السؤال يوصل بعن، فلما وضع قوله (حفي) موضع السؤال، وصله بعن، وتقديره كأنك حفي بالمسألة عنها، أو تسأل عنها فتعلمها. (قل) يا محمد (إنما علمها عند الله) لا يعلمها إلا هو، وإنما أعاد سبحانه هذا القول، لأنه وصله بقوله (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقيل: أراد بالأول علم وقت قيامها، وبالثاني علم كيفيتها، وهيأتها، وتفصيل ما فيها، عن الجبائي قال: وهذا يدل على بطلان قول الرافضة إن الأئمة منصوص عليهم بأعيانهم إمام بعد إمام إلى يوم القيامة، لأنه لو كان كذلك، لوجب أن يعلم آخر الأئمة أن القيامة تقوم بعده، وذلك خلاف قوله (قل إنما علمها عند الله). وهذا ضعيف لأنه غير ممتنع أن يعلم آخر الأئمة أنه لا إمام بعده، وإن لم يعلم وقت قيام الساعة، لأنه لا يعلم وقت وفاته بعينه، هذا إذا قيل: إن الساعة وقت فناء الخلق، أو موتهم. وإذا قيل: إن الساعة عبارة عن وقت الحشر، فقد زالت الشبهة، لأنه إذا علم أنه يفنى الخلق بعده، لا يجب أن يعلم متى يحشر الخلق. على أنه قد وردت الرواية أن التكليف يزول عند موت آخر الأئمة، لظهور أشراط الساعة، وأمارات قيامها، نحو طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وغير ذلك، ومع هذا فيجوز أن لا يعلم وقت
[ 406 ]
قيام الساعة. قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون 188. النزول: قيل إن أهل مكة قالوا: يا محمد ! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتريه فتربح فيه، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت ؟ فأنزل الله هذه الآية. المعنى: (قل) يا محمد (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) أن يملكني إياه، فأملكه بتمليكه إياي (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) وهاهنا محذوف آخر وهو قوله ولا أعلم الغيب إلا ما شاء الله أن يعلمنيه، ولو كنت أعلم الغيب لادخرت من السنة المخصبة للسنة المجدبة، ولاشتريت وقت الرخص لأيام الغلاء. وقيل معناه: لاستكثرت من الأعمال الصالحة قبل اقتراب الأجل، ولم أشتغل بغيرها، ولاخترت الأفضل فالأفضل، عن مجاهد، وابن جريج. وقيل معناه: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب، لاستكثرت من الخير أي: لأجبت في كل ما أسأل عنه من الغيب في أمر الساعة وغيرها، عن الزجاج. (وما مسني السوء) أي: وما أصابني الضر والفقر. وقيل معناه: وما بي جنون كما تزعمون فيكون ابتداء. وقيل معناه: وما مسني التكذيب منكم، لأني إذا كنت عالما بكل شئ، أجبت عن كل ما أسأل عنه، فتصدقونني ولا تكذبونني. وقيل معناه: وما مسني سوء من جهة الأعداء لأني كنت أعلم ذلك فأتحرز منه (إن أنا إلا نذير) مخوف بالعذاب (وبشير) مبشر بالثواب (لقوم يؤمنون) خصهم بالذكر، لأنهم المنتفعون بذلك كقوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر) وإن كان ينذر غيرهم أيضا، وفي قوله (إلا ما شاء الله) دلالة على فساد مذهب المجبرة، لأن الأفعال كلها لو كانت مخلوقة لله، لما صح الإستثناء منها، لأن أحدا لا يملك عندهم شيئا، وفي قوله (لو كنت أعلم بالغيب لاستكثرت من الخير) دلالة على أن القدرة قبل الفعل، لأنها لو كانت مع الفعل، لما أمكنه الإستكثار من الخير إذا علم الغيب. النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما تقدم إجابة القوم بأنه لا يعلم الغيب،
[ 407 ]
عقبه بأن علم الغيب يختص به المالك للنفع والضر، وهو الله سبحانه، عن أبي مسلم. وقيل: إن الآية في معنى جواب سؤالهم أيضا، فكأنه قال إذا أنا لا أملك أن أسوق إلى نفسي نفعا، ولا أن أدفع عنها ضرا، فكيف أعلم الغيب ؟ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين 189 فلما ءاتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون 190 أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون 191 ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون 192 وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون 193. القراءة: قرأ أهل المدينة، وأبو بكر: (شركا) بكسر الشين، والتنوين على المصدر، لا على الجمع، وهو قراءة الأعرج، وعكرمة، والباقون: (شركاء) بضم الشين والمد على الجمع، وروي في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر: (فمرت به) خفيفة. وقرأ نافع: (لا يتبعوكم)، وفي الشعراء: (يتبعهم) بالتخفيف. والباقون: (يتبعوكم) بالتشديد. الحجة: من قرأ شركا: فإنه حذف المضاف، وتقديره جعلا له ذا شرك، أو ذوي شرك، فالقراءتان على هذا يؤولان إلى معنى واحد، فإن معنى (جعلا له شركاء): جعلا له ذوي شرك، والضمير في (له) يعود إلى اسم الله. ومن قرأ (فمرت به) خفيفة فإنه ينبغي أن يكون أصله التشديد. كقراءة الجماعة، إلا أنه حذفه تخفيفا لثقل التضعيف قالوا: مست يده أي: مسستها، وقال أبو زيد: خلا أن العتاق من المطايا أحسن به، فهن إليه شوس (1) (1) العتاق - ككتاب - النجيبات من الإبل. والمطايا: جمع مطية. الدابة السريعة. والشوس كقفل: جمع شوساء مؤنث أشوس: وهو الذي ينظر بمؤخر عينه. (*)
[ 408 ]
أي: أحسسن به. وقيل: إنه من المرية أي: شكت أحملت أم لا. وعن الحسن: شكت أغلام أم جارية، وروي أن عبد الله بن عمر قرأ: (فمارت به)، وهو من قولهم: ماريمور: إذا ذهب وجاء. وقرأ ابن عباس: (فاستمرت به)، ومعناه: مرت له مكلفة نفسها ذلك، لأن استفعل يأتي في أكثر الأمر بمعنى الطلب. ومن قرأ: (الا يتبعوكم) فإنه في المعنى مثل القراءة الأخرى. قال أبو زيد: رأيت القوم فأتبعتهم إتباعا أي: ذهبت معهم، واتبعتهم اتباعا إذا سبقوك فأسرعت نحوهم وتبعتهم مثل أتبعتهم في المعنى، اتبعهم تبعا. المعنى: لما تقدم ذكر الله تعالى، ذكر عقيبه ما يدل على وحدانيته، فقال: (هو الذي خلقكم) والخطاب لبني آدم (من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (وجعل) أي: وخلق (منها زوجها) يعني: حواء (ليسكن) آدم (إليها) ويأنس بها (فلما تغشاها) أي: فلما أصابها كما يصيب الرجل زوجته، يعني: وطأها، وجامعها (حملت حملا خفيفا) وهو الماء الذي حصل في رحمها، وكان خفيفا (فمرت به) أي: استمرت بالحمل على الخفة، تقوم وتقعد، وتجئ وتذهب، كما كانت من قبل، لم يمنعها ذلك الحمل عن شئ من التصرف. (فلما أثقلت) أي: صارت ذات ثقل، كما يقال أثمرت الشجرة: صارت ذات ثمر. وقيل معناه: دخلت في الثقل، كما يقال أصاف: دخل في الصيف، وأشتى: دخل في الشتاء. والمعنى: لما كبر الحمل في بطنها وتحرك، وصارت ثقيلة به. (دعوا الله ربهما) يعني: آدم وحواء، سألا الله تعالى عند كبر الولد في بطنها (لئن آتيتنا صالحا) أي: أعطيتنا ولدا صالحا، عن أبي مسلم. وقيل: نسلا صالحا، أي: معافى سليما، صحيح الخلقة، عن الجبائي. وقيل: بشرا سويا، عن ابن عباس. وقيل: غلاما ذكرا، عن الحسن (لنكونن من الشاكرين) لنعمتك علينا، قال الجبائي: وإنما قالا ذلك، لأنهما أرادا أن يكون لهما أولاد يؤنسونهما في الموضع الذي كانا فيه، لأنهما كانا فردين مستوحشين، وكان إذا غاب أحدهما عن الآخر، بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس، ويحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله (صالحا) مطيعا فاعلا للخير، مصلحا غير مفسد. (فلما آتاهما) الله (صالحا) كما التمساه. (جعلا له شركاء فيما آتاهما).
[ 409 ]
اختلف في من يرجع الضمير الذي في جعلا إليه على وجوه أحدها: إنه يرجع إلى النسل الصالح أي: المعافى في الخلق والبدن، لا في الدين، وإنما ثنى لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، يعني أن هذا النسل الذين هم ذكر وأنثى، جعلا له شركاء فيما أعطاهما من النعمة، فأضافا تلك النعم إلى الذين أتخذوهم آلهة مع الله تعالى، من الأصنام والأوثان، عن الجبائي. وثانيها: إنه يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء، عن الحسن، وقتادة، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله (خلقكم من نفس واحدة) خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، ولكل نفس زوج هو منها أي: من جنسها، كما قال سبحانه: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) فلما تغشى كل نفس زوجها (حملت حملا خفيفا) وهو ماء الفحل (فلما أثقلت) بمصير ذلك الماء لحما، ودما، وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا أي: ذكرا سويا. (لنكونن من الشاكرين)، وكانت عادتهم أن يئدوا البنات (1)، فلما آتاهما يعني الأب والأم، صالحا، جعلا له شركاء فيما آتاهما، لأنهم كانوا يسمون عبد العزى، وعبد اللات، وعبد منات، ثم رجعت الكناية إلى جميعهم في قوله (فتعالى الله عما يشركون) فالكناية في جميع ذلك غير متعلقة بآدم وحواء، ولو كانت متعلقة بهما، لقال عما يشركان. وقال أبو مسلم: تقدير الآية هو الذي خلقكم، والخطاب لجميع الخلق من نفس واحدة، يعني: آدم، وجعل من ذلك النفس زوجها، وهي حواء، ثم انقضى حديث آدم وحواء، وخص بالذكر المشركين من أولاد آدم، الذين سألوا ما سألوا، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم، قال: ويجوز أن يذكر العموم، ثم يخص البعض بالذكر، ومثله كثير في الكلام: قال الله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر) حتى إذا كنتم في الفلك (وجرين بهم بريح طيبة) فخاطب الجماعة بالتسيير، ثم خص راكب البحر بالذكر، وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة البشر، بأنهم مخلوقون من آدم وحواء، ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل، فلما أعطاه إياه، إدعى له شركاء في عطيته، قال: وجائز أن يكون عنى بقوله (هو الذي خلقكم من نفس واحدة): المشركين خصوصا، إذا كان كل واحد من بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها، (1) وأد البنت: دفنها في التراب وهي حية. (*)
[ 410 ]
وذكر قريبا من قول الأصم، قال: وقد يجئ مثله في التنزيل وغيره. قال سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) والمعنى: فاجلدوا كل واحد منهم. وثالثها: إن الضمير يرجع إلى آدم وحواء عليهما السلام، ويكون التقدير في قوله (جعلا له شركاء) جعل أولادهما له شركاء، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار جعلا وهذا مثل قوله سبحانه (إتخذتم العجل) (وإذ قتلتم نفسا) والتقدير: وإذ قتل أسلافكم نفسا، واتخذ أسلافكم العجل، فحذف المضاف، وعلى هذا الوجه تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره، راجعة إلى آدم وحواء، ويقويه قوله سبحانه: (فتعالى الله عما يشركون) ورابعها: ما روت العامة أنه يرجع إلى آدم وحواء، وأنهما جعلا لله شريكا في التسمية، وذلك أنهما أقاما زمانا لا يولد لهما، فمر بهما إبليس، ولم يعرفاه، فشكوا إليه، فقال لهما: إن أصلحت حالكما حتى يولد لكما ولد، أتسميانه باسمي ؟ قالا: نعم، وما اسمك ؟ قال: الحرث. فولد لهم، فسمياه عبد الحرث، ذكره ابن فضال. وقيل: إن حواء حملت أول ما حملت، فأتاها إبليس في غير صورته، فقال لها: يا حواء يا حواء ! ما يؤمنك أن تكون في بطنك بهيمة ؟ فقالت لآدم: لقد أتاني آت، فأخبرني أن الذي في بطني بهيمة، وإني لأجد له ثقلا، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها فقال: إن سألت الله ان يجعله خلقا سويا مثلك، ويسهل عليك خروجه، أتسميه عبد الحرث ؟ ولم يزل بها، حتى غرها، فسمته عبد الحرث برضاء آدم، وكان اسم إبليس عند الملائكة الحارث. وهذا الوجه بعيد تأباه العقول، وتنكره، فإن البراهبن الساطعة التي لا يصح فيها الإحتمال، ولا يتطرق إليها المجاز والإتساع، قد دلت على عصمة الأنبياء عليهم السلام، فلا يجوز عليهم الشرك، والمعاصي، وطاعة الشيطان، فلو لم نعلم تأويل الآية، لعلمنا على الجملة أن لها وجها يطابق دلالة العقل، فكيف وقد ذكرنا الوجوه الصحيحة الواضحة في ذلك ؟ على أن الرواية الواردة في ذلك قد طعن العلماء في سندها بما هو مذكور في مواضعه، ولا نحتاج إلى إثباته، فإن الآية تقتضي أنهم أشركوا الأصنام التي تخلق، ولا تخلق لقوله (أيشركون ما لا يخلق شيئا
[ 411 ]
وهم يخلقون) وفي خبرهم أنهما أشركا إبليس اللعين فيما ولد لهما بأن سموه عبد الحرث، وليس في ظاهر الآية لإبليس ذكر. وحكى البلخي عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: لو صح الخبر لم يكن في ذلك إلا إشراكا في التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية، واختاره الطبري، وروى العياشي في تفسيره عنهم عليهم السلام: أنه كان شركهما شرك طاعة، ولم يكن شرك عبادة وقوله (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) توبيخ وتعنيف للمشركين، بأنهم يعبدون مع الله تعالى جمادا، لا يخلق شيئا من الأجسام، ولا ما يستحق به العبادة، وهم مع ذلك مخلوقون محدثون، ولهم خالق خلقهم، وإن خرج الكلام مخرج الإستفهام، ولفظة (ما) إنما تستعمل فيما لا يعقل، فدل ذلك على أن المراد بقوله (جعلا له شركاء) أنهم أشركوا الأصنام مع الله تعالى، لا ما ذكروه من إشراك إبليس وإنما قال: (وهم يخلقون): على لفظ العقلاء، وإن كانت الأصنام جمادا، لأنه أراد به الأصنام والعابدين لها جميعا، فغلب ما يعقل على ما لا يعقل. ويجوز أن يكون على أنهم يعظمونها تعظيم من يعقل، ويصورونها على صورة من يعقل، فكنى عنهم كما يكني عن العقلاء كقوله (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين). (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) أي: ويشركون به، ويعبدون من لا يستطيع نصر عابديه، ولا نصر نفسه، بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر، ومن هذه صورته فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلها معبودا (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) قيل معناه: وإن دعوتم الأصنام التي عبدوها إلى الهدى، فإنها لا تقبل الهدى، عن أبي علي الجبائي. بين بذلك ضعف أمرها، بأنها لا تهدي غيرها، ولا تهتدي بأنفسها، وإن دعيت إلى الهدى، وقيل معناه: إن دعوتم المشركين الذين أصروا على الكفر إلى دين الحق، لم يؤمنوا، وهو نظير قوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) عن الحسن (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) أي: سواء عليكم دعاؤهم، والسكوت عنهم، وإنما قال (أم أنتم صامتون) ولم يقل أم صمتم، فيكون في مقابل أدعوتموهم ليفيد الماضي والحال، فإن المقابلة كانت تدل على الماضي فحسب، وصورة اللفظ تدل على معنى الحال، ومثله قول الشاعر:
[ 412 ]
سواء عليك الفقر، أم بت ليلة * بأهل القباب من نمير بن عامر إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين 194 ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون 195. القراءة: قرأ أبو جعفر وحده: (يبطشون) ههنا وفي القصص، والدخان، بضم الطاء. والباقون بكسرها. وقرأ هشام ويعقوب: (كيدوني) بياء في الوقف والوصل، ووافقهما أبو جعفر، وأبو عمرو، واسماعيل في الوصل. والباقون بغير ياء في الحالين. وقرأ: (تنظروني) بالياء في الحالين، يعقوب. الحجة: بطش يبطش ويبطش والكسر أفصح. وقال أبو علي: الفواصل من الكلام التام تجري مجرى القوافي لاجتماعهما في أن الفاصلة آخر الآية، كما أن القافية آخر البيت، وقد ألزموا في القوافي حذف هذه الآيات، قال الأعشى: فهل يمنعني ارتياد البلاد * من حذر الموت أن يأتين (1) والياء التي هي لام كذلك، نحو قوله: يلمس الأحلاس في منزله * بيديه كاليهودي المصل (2) ومن أثبت فلأن الأصل الإثبات. المعنى: ثم أتم سبحانه الحجة على المشركين بقوله (إن الذين تدعون من دون الله) يعني: الأصنام، يريد تدعونهم آلهة (عباد أمثالكم) أي: مخلوقة أمثالكم عن الحسن. وقيل: مملوكون أمثالكم، عن الكلبي. وقيل: أمثالكم في التسخير أي: إنهم مسخرون مذللون لأمر الله، عن الأخفش. ولما كانت الأصنام غير ممتنعة (1) الإرتياد: طلب الشئ. (2) قيل: إن عادة اليهود أن يلبسوا حلسا حين يصلون، كالرداء يجعلونه على أكتافهم. (*)
[ 413 ]
مما يريد الله بها، كانت في معنى العباد، فإن التعبيد: التذليل. وطريق معبد: موطوء مسلوك، ومنه قوله (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) أي: ذللتهم واستخدمتهم ضروبا من الخدمة (فادعوهم) هذا الدعاء ليس الدعاء الأول، والمراد به فادعوهم في مهماتكم، ولكشف الأسواء عنكم (فليستجيبوا لكم) هذه لام الأمر على معنى التعجيز والتهجين، كما قال (هاتوا برهانكم). (إن كنتم صادقين) قال ابن عباس: معناه فاعبدوهم هل يثيبونكم، أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين، إن لكم عندها منفعة وثوابا، أو شفاعة ونصرة. ثم فضل سبحانه بني آدم عليهم، فقال (ألهم أرجل يمشون بها) أي: لهؤلاء الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم (أم لهم أيد يبطشون بها) أي: يأخذون بها في الدفع عنكم، ومعنى البطش: التناول والأخذ بشدة (أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) أي: ليس لهم هذه الحواس، ولكم هذه الحواس، فأنتم أفضل منهم، فلو دعوتم وعبدتم من له الحياة ومنافعها، للزمكم الذم واللوم بذلك، لأنها مخلوقة مربوبة، فكيف تعبدون من أنتم أفضل منه ؟ ثم زاد سبحانه في تهجينهم، فقال: (قل) يا محمد (ادعوا شركاءكم) أي: هذه الأوثان التي تزعمون أنها آلهة، وتشركونها في أموالكم، وتجعلون لها حظا من المواشي وغيرها، وتوجهون عبادتكم إليها إشراكا بالله لها (ثم كيدون) بأجمعكم (فلا تنظرون) أي: لا تؤخروني، ومعناه. إن معبودي ينصرني، ويدفع كيد الكائدين عني، ومعبودكم لا يقدر على نصركم، فإن قدرتم على ضر، فاجتمعوا أنتم مع أصنامكم، وتظاهروا على كيدي، ولا تمهلوني في الكيد والإضرار، فإن معبودي يدفع كيدكم عني. إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين 196 والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون 197 وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون 198. المعنى: ثم بين سبحانه بعد أن ناصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وحافظه، فأمره أن يقول للمشركين: (إن وليي) أي: ناصري وحافظي، ودافع شركم عني (الله الذي نزل الكتاب) أي: القرآن، يؤيدني بنصره، كما أنزله علي (وهو يتولى الصالحين)
[ 414 ]
أي: ينصر المطيعين له، المجتنبين معاصيه، تارة بالدفع عنهم، واخرى بالحجة (والذين تدعون من دونه) آلهة (لا يستطيعون نصركم) أي: لا يقدرون على أن ينصروكم، ولا أن يدفعوا عنكم (ولا أنفسهم ينصرون) كرر هذا لأن ما تقدم، فإنه على وجه التقريع والتوبيخ، وما ذكره هنا، فإنه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة، وصفة من لا يجوز له العبادة، فكأنه قال: إن من أعبده ينصرني ومن تعبدونه لا يقدر على نصركم، ولا على نصر نفسه (وإن تدعوهم) يعني: إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام (إلى الهدى) أي: إلى الرشد والمنافع، عن الجبائي، والفراء. وقيل: معناه وإن دعوتم المشركين إلى الدين، عن الحسن (لا يسمعوا) أي: لا يسمعوا دعاءكم وتراهم فاتحة أعينهم نحوكم على ما صورتموهم عليه من الصور. وقال الجبائي: جعل الله انفتاح عيونهم في مقابلتهم، نظرا منهم إليهم مجازا، لأن النظر، تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته، وذلك لا يتأتى في الجماد، ويقال تناظر الحائطان: إذا تقابلا. وقيل: معناه لا يقبلوا، ومنه سمع الله لمن حمده (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الحجة، يعني مشركي العرب، عن الحسن، ومجاهد، والسدي. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين 199 وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 200. اللغة: قد مر ما قيل في العفو عند قوله: (قل العفو) في سورة البقرة. والعرف: ضد النكر، ومثله المعروف والعارفة: وهو كل خصلة حميدة تعرف صوابها العقول، وتطمئن إليها النفوس، قال الشاعر: (لا يذهب العرف بين الله والناس) والنزغ: الإزعاج بالإغراء، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة، نزغه ينزغه نزغا. وقيل: النزغ الفساد، ومنه نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي: أفسد. قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة. المعنى: لما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بالدعاء إليه، وتبليغ رسالته، علمه محاسن الأفعال، ومكارم الأخلاق والخصال، فقال: (خذ العفو) أي: خذ يا محمد ما عفا من أموال الناس، أي: ما فضل من النفقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 415 ]
يأخذ الفضل من أموالهم، ليس فيها شئ موقت، ثم نزلت آية الزكاة، فصار منسوخا بها، فإن هذه السورة مكية، عن ابن عباس، والسدي، والضحاك. وقيل معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واقبل الميسور منها، عن مجاهد، والحسن، ومعناه: إنه أمره بالتساهل وترك الإستقصاء في القضاء، والإقتضاء، وهذا يكون في الحقوق الواجبة لله وللناس، وفي غيرها، وهو في معنى الخبر المرفوع: (أحب الله عبدا سمحا بائعا ومشتريا، قاضيا ومقتضيا). وقيل: هو العفو في قبول العذر من المعتذر، وترك المؤاخذة بالإساءة. وروي أنه لما نزلت هذه الآية، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جبرائيل عن ذلك، فقال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم أتاه فقال: يا محمد ! إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك (وأمر بالعرف) يعني بالمعروف، وهو كل ما حسن في العقل فعله، أو في الشرع، ولم يكن منكرا، ولا قبيحا عند العقلاء. وقيل: بكل خصلة حميدة (وأعرض عن الجاهلين) معناه: وأعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم، والإياس من قبولهم، ولا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك، فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر، ولا يقال هذه الآية منسوخة بآية القتال، لأنها عامة خص عنها الكافر الذي يجب قتله بدليل. قال ابن زيد: لما نزلت هده الآية، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يا رب والغضب ؟ فنزل قوله (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) ومعناه: يا محمد إن نالك من الشيطان وسوسة، ونخسة في القلب، بما يسول للإنسان، معناه: إن عرض. لك من الشيطان عارض، عن ابن عباس. وقيل معناه: وإن منعك الشيطان عن شئ مما أمرتك من هذه الأشياء (فاستعذ بالله) أي: سل الله عز اسمه أن يعيذك منه (إنه سميع) للمسموعات (عليم) بالخفيات. وقيل: سميع لدعائك، عليم بما عرض لك. وقيل: إن النزغ أول الوسوسة، والمس لا يكون إلا بعد التمكن ! ولذلك فضل الله سبحانه بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيره، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإما ينزغنك) وقال للناس: (إذا مسهم طائف من الشيطان). إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون 201 وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون 202 وإذا لم تأتهم بأية قالوا لو لا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي هذا بصائر من ربكم
[ 416 ]
وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 203. القراءة: قرأ أهل البصرة، وابن كثير، والكسائي: (طيف) بغير ألف، وهو قراءة النخعي، والأسود بن زيد. وقرأ الباقون (طائف) بالألف. وقرأ أهل المدينة: (يمدونهم) بضم الياء وكسر الميم، والباقون: بفتح الياء وضم الميم. وفي الشواذ، عن الجحدري: (يمادونهم). وعن عيسى بن عمر: (يقصرون) بفتح الياء وضم الصاد. الحجة: الطيف: مصدر طاف الخيال يطيف طيفا: إذا ألم به في المنام، فمعناه: إذا مسهم خطرة من الشيطان، ويكون الطائف بمعناه فطيف كالخطرة، وطائف كالخاطر، والطيف أكثر قال: ألا يا لقومي لطيف الخيا ل أرق من نازح ذي دلال (1) وقال الأعشى: وتصبح عن غب السرى، وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق (2) وقال أبو علي: عامة ما جاء في التنزيل فيما يحمد ويستحب، أمددت: على أفعلت كقوله: (إنما نمدهم به من مال وبنين) (وأمددناهم بفاكهة) و (أتمدونني بمال) وما كان بخلافه على مددت قال: (ونمدهم في طغيانهم) فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء، كما ذهب إليه الأكثر. والوجه في قراءة من قرأ (يمدونهم) أنه مثل (فبشرهم بعذاب أليم) (فسنيسره للعسرى) والله أعلم. ويمادونهم يفاعلونهم منه أي: يعاونونهم. وقصر يقصر لغة في أقصر يقصر، ويقال: أقصر عنه: إذا تركه عن قدرة، وقصر عنه: إذا ضعف عنه. اللغة: الممسوس: الذي به مس جن. والممسوس من المياه: ما نالته الأيدي. والإجتباء: إفتعال من الجباية، ونظيره الإصطفاء: وهو استخلاص الشئ للنفس. قال علي بن عيسى: أصله الإستخراج، ومنه الجباية: الخراج. وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض، والحوض جابية لجمعها الماء. قال الفراء: اجتبيت الكلام، واختلقته، وارتجلته: إذا افتعلته من قبل نفسك. قال أبو (1) أرقه: أسهره: والنازح: البعيد. (2) الأولق: الجنون. (*)
[ 417 ]
عبيدة: واخترعته مثل ذلك. قال أبو زيد: هذه الحروف تقولها العرب للكلام يبتدؤه الرجل، لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه. والبصائر: البراهين والحجج، جمع بصيرة. والبصائر أيضا: طرائق الدم، قال الأشعر الجعفي: راحوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأى (1) أو البصيرة: الترس، وجمعها بصائر، قال الزجاج: وجميع هذا معناه: ظهور الشئ وتبيانه. الاعراب: (إذا) الأولى: ظرف زمان، ويكون لها جواب بمنزلة الجزاء. و (إذا) الثانية: ظرف مكان بمعنى المفاجأة، كقولك خرجت فإذا زيد. المعنى: ثم ذكر سبحانه طريقة المتقين إذا عرضت لهم وساوس الشياطين، فقال: (إن الذين اتقوا) الله باجتناب معاصيه (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) قيل معناه: إذا وسوس إليهم الشيطان، وأغراهم بمعصيته، تذكروا ما عليهم من العقاب بذلك، فيجتنبونه ويتركونه، وهو معنى قول ابن عباس، والسدي، وقال الحسن: يعني إذا طاف عليهم الشيطان بوساوسه. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل الذي يغضب الغضبة، فيتذكر فيكظم غيظه، وبه قال مجاهد. وروي عنه أيضا أنه قال: هو الرجل يهم بالذنب، فيذكر الله فيتركه. وقيل: طائف غضب، وطيف جنون. وقيل: معناهما واحد (فإذا هم مبصرون) للرشد (وإخوانهم يمدونهم في الغي) معناه: وإخوان المشركين من شياطين الجن والإنس، يمدونهم في الضلال والمعاصي أي: يزيدونهم فيه، ويزينون لهم ما هم فيه. (ثم لا يقصرون) ثم لا يكفون يعني الشيطان عن استغوائهم، ولا يرحمونهم، عن مجاهد، وقتادة. وقيل معناه: وإخوان الشياطين من الكفار، يمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصر هؤلاء مع ذلك، كما يقصر الذين اتقوا، عن ابن عباس، والسدي، والجبائي. وقيل: معناه ثم لا يقصر الشياطين عن إغوائهم، ولا يقصرونهم عن ارتكاب الفواحش (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) معناه: إنك يا محمد إذا جئتهم بآية كذبوا بها، وإذا أبطأت عنهم يقترحونها، ويقولون: هلا (1) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 418 ]
جئتنا به من قبل نفسك، فليس كل ما تقوله وحي من السماء، عن قتادة، ومجاهد، والزجاج. وقيل معناه: إذا لم تأتهم بآية مقترحة قالوا: هلا اخترتها من قبل نفسك، فتسأل ربك أن يأتيك، عن ابن عباس، والجبائي، وأبي مسلم. (قل) يا محمد لهم (إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) أي: لست آتي بالآيات من عندي، وإنما يفعلها الله تعالى، ويظهرها على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك، لا بحسب اقتراح الخلق، وإنما أتبع الوحي ولا أتعداه، وليس لي أن أساله إنزال الآيات إلا بعد إذنه في السؤال. (هذا بصائر من ربكم) هذا القرآن دلائل ظاهرة، وحجج واضحة، وبراهين ساطعة، من ربكم، يبصر الإنسان بها أمور دينه (وهدى ورحمة) أي ودلالة تهدي إلى الرشد، ونعمة في الدين والدنيا (لقوم يؤمنون) خص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم من الكفار. وفي هذه الآية دلالة على أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقواله، تابعة للوحي، وأنه يجوز أن يعمل بالرأي والقياس. النظم: قيل إن هذه الآية، اتصلت بقوله (يسألونك عن الساعة) وتقديره ويسألونك عن الآيات، فإذا لم تأتهم بها، قالوا: لولا اجتبيتها عن أبي مسلم، وقيل: إتصلت بما قبلها من قوله (وإخوانهم يمدونهم) ومعناه: يبقون في الضلالة، وإذا لم تأتهم بآية يسألون عنها، فقالوا كذا. وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون 204 واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والأصال ولا تكن من الغافلين 205 إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون 206. اللغة: الإنصات: السكوت مع استماع. قال ابن الأعرابي: نصت وأنصت، وانتصت: استمع الحديث وسكت. وأنصته، وأنصت له وأنصت الرجل: سكت، وأنصته غيره، عن الأزهري. والآصال: جمع أصل. وأصل جمع أصيل. فالآصال: جمع الجمع، وتصغيره أصيلان على إبدال النون، ومعناه: العشيات،
[ 419 ]
وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. الاعراب: (تضرعا وخيفة): مصدران وضعا موضع الحال أي: متضرعين وخائفين (ودون الجهر): عطف عليه، فيجب أن يكون في موضع الحال أي: وغير رافعين أصواتكم، حتى يبلغ حد الجهر. المعنى: ثم أمر سبحانه بالإستماع للقرآن، عند قراءته، فقال: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا): إختلف في الوقت المأمور بالإنصات للقرآن والإستماع له، فقيل: إنه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتم به، إذا سمعت قراءته، عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والزهري. وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. قالوا: وكان المسلمون يتكلمون في صلاتهم، ويسلم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل، فقال لهم: كم صليتم ؟ أجابوه، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالإستماع. وقيل: إنه في الخطبة، أمروا بالإنصات والإستماع إلى الإمام يوم الجمعة. عن عطا، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم. وقيل: إنه في الخطبة والصلاة جميعا، عن الحسن، وجماعة. قال الشيخ أبو جعفر (قدس الله روحه): وأقوى الأقوال الأول، لأنه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا في حالة قراءة الإمام في الصلاة، فإن على المأموم الإنصات والإستماع، فأما خارج الصلاة، فلا خلاف أن الإنصات والإستماع غير واجب. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وغيرها قال: وذلك على وجه الإستحباب. وفي كتاب العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قرأ ابن الكوا خلف أمير المؤمنين عليه السلام: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فأنصت له أمير المؤمنين عليه السلام. وعن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: الرجل يقرأ القرآن، أيجب على من سمعه الإنصات له والإستماع ؟ قال: نعم إذا قرئ عندك القرآن، وجب عليك الإنصات والإستماع. قال الزجاج: يجوز أن يكون (فاستمعوا له وأنصتوا) أي: إعملوا بما فيه، ولا تجاوزوا، لأن معنى قول القائل سمع الله دعاءك: أجاب الله دعاءك، لأن الله سميع عليم. وقال الجبائي: إنها نزلت في ابتداء التبليغ، ليعلموا أو يتفهموا. وقال أحمد بن حنبل: أجمعت الأمة على أنها نزلت في الصلاة (لعلكم ترحمون) أي:
[ 420 ]
لترحموا بذلك، وباعتباركم به، واتعاظكم بمواعظه (واذكر ربك في نفسك) خطاب للنبي، عليه وآله السلام، والمراد به عام. وقيل: هو خطاب لمستمع القرآن، والمعنى: واذكر ربك في نفسك بالكلام من التسبيح، والتهليل، والتحميد. وروى زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: معناه إذا كنت خلف الإمام، تأتم به، فأنصت، وسبح في نفسك، يعني فيما لا يجهر الإمام فيه بالقراءة. وقيل معناه: واذكر نعمة ربك بالتفكر في نفسك. وقيل: أراد اذكره في نفسك بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى. (تضرعا وخيفة) يعني بتضرع وخوف، يعني: في الدعاء، فإن الدعاء بالتضرع والخوف من الله تعالى، أقرب إلى الإجابة، وإنما خص الذكر بالنفس لأنه أبعد من الرياء، عن الجبائي (ودون الجهر من القول) معناه: إرفعوا أصواتكم قليلا، ولا تجهروا بها جهارا بليغا، حتى يكون عدلا بين ذلك، كما قال: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها). وقيل: إنه أمر للإمام أن يرفع صوته في الصلاة بالقراءة مقدار ما يسمع من خلفه، عن ابن عباس. (بالغدو والآصال) أي: بالغدوات والعشيات، عن قتادة. والمراد به دوام الذكر، واتصاله. وقيل: إنما خص هذين الوقتين، لأنهما حال فراغ القلب عن طلب المعاش، فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب (ولا تكن من الغافلين) عما أمرتك به من الدعاء والذكر، وقيل: إن الآية متوجهة إلى من أمر بالإستماع للقرآن، والإنصات، وكانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالدعاء عند ذكر الجنة أو النار، عن ابن زيد، ومجاهد، وابن جريج. قال الجبائي: وفي الآية دليل على أن الذين يرفعون أصواتهم عند الدعاء، ويجهرون به مخطؤون، وعلى خلاف الصواب. ثم ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر، ويدعو إليه، فقال: (إن الذين عند ربك) وهم الملائكة، عن الحسن، وغيره (لا يستكبرون عن عبادته) معناه: إنهم مع جلالة قدرهم، وعلو أمرهم، يعبدون الله ويذكرونه. وفائدته: إنكم إن استكبرتم عن عبادته، فمن هو أعظم حالا منكم لا يستكبر عنها، وإنما قال: (عند ربك) تشريفا للملائكة بإضافتهم إلى نفسه، ولم يرد به قرب المكان تعالى الله عن ذلك، وتقدس. وقيل معناه: إنهم في المكان الذي شرفه الله تعالى، ولا يملك عليهم الحكم إلا الله تعالى، بخلاف البشر، كما يقال: عند الأمير كذا وكذا من الجند، والمراد أنهم في حكمه، وتحت أمره، وعند فلان كذا من المال، ولا يراد به أن ذلك
[ 421 ]
بحضرته. وقال الزجاج: من قرب من رحمة الله وفضله، فهو عند الله أي: هو قريب من فضله وإحسانه. (ويسبحونه) أي: ينزهونه عما لا يليق به (وله يسجدون) أي: يخضعون. وقيل: يصلون وقيل: يسجدون في الصلاة، عن الحسن. ولا خلاف أن ههنا سجدة، وهي أول سجدات القرآن. واختلف في سجدة التلاوة، هل هي واجبة: فعند أبي حنيفة واجبة، وعند الشافعي سنة مؤكدة، وإليه ذهب أصحابنا.
[ 422 ]
8 - سورة الأنفال مدنية وآياتها خمس وسبعون هي مدنية، عن ابن عباس، وقتادة غير سبع آيات، نزلت بمكة (وإذ يمكر بك الذين كفروا) إلى آخرهن. وقيل: نزلت بأسرها في غزاة بدر، عن الحسن، وعكرمة. عدد آيها: هي سبعون وسبع آيات شامي، وست حجازي بصري، وخمس كوفي. (اختلافها): ثلاث آيات (ثم يغلبون) بصري شامي مفعولا الأول غير الكوفي (بنصره وبالمؤمنين) غير البصري. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: من قرأ سورة الأنفال وبراءة، فأنا شفيع له، وشاهد يوم القيامة، أنه برئ من النفاق، وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان العرش وحملته يصلون عليه أيام حياته في الدنيا، وروى العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ الأنفال وبراءة، في كل شهر، لم يدخله نفاق أبدا، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حقا، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنة معهم، حتى يفرغ الناس من الحساب. وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: في سورة الأنفال جدع الأنوف (1). تفسيرها: لما قص الله سبحانه في سورة الأعراف قصص الأنبياء، وختمها بذكر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، إفتتح سورة الأنفال بذكره، ثم ذكر ما جرى بينه وبين قومه، فقال: (1) وذلك لاشتمالها لآية الخمس. (*)
[ 423 ]
بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين 1. القراءة: قرأ بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن الحسين، وأبو جعفر بن محمد بن علي الباقر، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وطلحة بن مصرف: (يسألونك الأنفال). الحجة: قال ابن جني: هذه القراءة بالنصب، مؤدية عن السبب للقراءة الاخرى التي هي (عن الأنفال)، وذلك أنهم إنما سألوه عنها تعرضا لطلبها، واستعلاما لحالها، هل يسوغ طلبها. وهذه القراءة بالنصب أصرح بالتماس الأنفال، وبيان عن الغرض في السؤال عنها. فإن قلت: هل يحسن حملها على حذف حرف الجر، كأنه قال: (يسألونك عن الأنفال)، فلما حذف نصب المفعول كقوله: (أمرتك الخير فافعل ما أمرت به) قيل: هذا شاذ إنما يحمله الشعر، فأما القرآن فيختار له أفصح اللغات، وإن كان قد جاء: (واختار موسى قومه) (واقعدوا لهم كل مرصد) فإن الأظهر ما قدمناه. اللغة: الأنفال: جمع نفل، والنفل: الزيادة على الشئ. يقال: نفلتك كذا إذا زدته. قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل، وبإذن الله ريثي وعجل (1) وقيل: النفل العطية، ونفلتك: أعطيتك. والنافلة: عطية التطوع من حيث لا يجب، ومنه نوافل الصلاة. والنوفل: الرجل الكثير العطية. المعنى: (يسألونك) أي: يسألك يا محمد جماعة من أصحابك (عن الأنفال): إختلف المفسرون في الأنفال ههنا، فقيل: هي الغنائم التي غنمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يوم بدر، وهو المروي عن عكرمة، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وقيل: هي أنفال السرايا، عن الحسن بن صالح بن (1) الريث: الإبطاء. (*)
[ 424 ]
حي. وقيل: هي ما شذ عن المشركين إلى المسلمس من عبد أو جارية من غير قتال، أو ما أشبه ذلك، عن عطا، وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة، يعمل به ما شاء. وقيل: هو ما سقط من المتاع بعد قسمته الغنائم، من الغرس، والزرع (1)، والرمح، عن ابن عباس في روأية أخرى، وروي عنه أيضا أنه سلب الرجل وفرسه، ينفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم به من شاء. وقيل: هي الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس، عن مجاهد في رواية أخرى. وصحت الرواية عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، أنهما قالا: إن الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، وكل أرض إنجلى أهلها عنها بغير قتال، ويسميها الفقهاء فيئا، وميراث من لا وارث له، وقطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب، والآجام، وبطون الأودية، والأرضون الموات، وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه. وقالا: هي لله وللرسول، وبعده لمن قام مقامه، فيصرفه حيث شاء من مصالح نفسه، ليس لأحد فيه شئ. وقالا: إن غنائم بدر كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة، فسألوه أن يعطيهم. وقد صح أن قراءة أهل البيت عليهم السلام: (يسألونك الأنفال) فقال الله تعالى (قل) يا محمد (الأنفال لله والرسول) وكذلك ابن مسعود، وغيره، إنما قرأوا كذلك على هذا التأويل. فعلى هذا، فقد اختلفوا في كيفية سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال هؤلاء: إن أصحابه سألوه أن يقسم غنيمة بدر بينهم، فأعلمهم الله سبحانه أن ذلك لله ولرسوله دونهم، وليس لهم في ذلك شئ. وروي ذلك أيضا عن ابن عباس، وابن جريج، والضحاك، وعكرمة، والحسن، واختاره الطبري، وقالوا: إن عن صلة، ومعناه يسألونك الأنفال أن تعطيهم، ويؤيد هذ القول قوله (فاتقوا الله) إلى آخر الآية. ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم هي منسوخة بآية الغنيمة، وهي قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) وقال بعضهم ليست بمنسوخة، وهو الصحيح، لأن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا تنافي بين هذه الآية، وآية الخمس. وقال آخرون: إنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن حكم الأنفال، وعلمها، فقالوا: لمن الأنفال ؟ وتقديره يسألونك عن الأنفال لمن هي، ولهذا جاء الجواب بقوله: (قل الأنفال لله والرسول). وقال آخرون: إنهم سألوه عن حال الغنائم وقسمتها، وأنها حلال أم حرام، (1) وفي بعض النسخ كنسخة التبيان (الفرس والدرع) مكان (الغرس والزرع). (*)
[ 425 ]
كما كانت حراما على من قبلهم، فبين لهم أنها حلال. واختلفوا أيضا في سبب سؤالهم: فقال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال يوم بدر: من جاء بكذا، فله كذا، ومن جاء بأسير، فله كذا، فتسارع الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما انقضى الحرب، طلب الشبان ما كان قد نفلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، فقال الشيوخ: كنا ردءا لكم، ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا، وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري، أخي بني سلمة، وبين سعد بن معاذ، كلام، فنزع الله تعالى الغنائم منهم، وجعلها لرسوله، يفعل بها ما يشاء، فقسمها بينهم بالسوية. وقال عبادة بن الصامت: إختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه بيننا على السواء، وكان ذلك في تقوى الله وطاعته، وصلاح ذات البين. وقال سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت سعيد بن العاص بن أمية، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستوهبته منه، فقال: (ليس هذا لي، ولا لك، إذهب فاطرحه في القبض) فطرحت ورجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سلبي، وقلت: عسى أن يعطي هذا لمن لم يبل بلائي ! فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول، وقد أنزل الله (يسألونك) الآية، فخفت أن يكون قد نزل في شئ، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا سعد ! إنك سألتني السيف، وليس لي، وإنه قد صار لي، فاذهب فخذه، فهو لك. وقال علي بن طلحة، عن ابن عباس: كانت الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة، ليس لأحد فيها شئ، وما أصاب سرايا المسلمين من شئ أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا، فهو غلول، فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها، فنزلت الآية. وقال ابن جريج: إختلف من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار في الغنيمة، فكانوا ثلاثا، فنزلت الآية، وملكها الله رسوله، يقسمها كما أراه الله. وقال مجاهد: هي الخمس، وذلك أن المهاجرين قالوا: لم يرفع منا هذا الخمس، ولم يخرج منا ؟ فقال الله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) يقسمانها كما شاءا، أو ينفلان منها ما شاءا، أو يرضخان منها ما شاءا، (فاتقوا الله) باتقاء معاصيه، واتباع ما يأمركم به، وما يأمركم به رسوله، واحذروا مخالفة أمرهما.
[ 426 ]
(وأصلحوا ذات بينكم) أي: وأصلحوا ما بينكم من الخصومة والمنازعة، وقوله: (ذات بينكم) كناية عن المنازعة والخصومة، والذات: هي الخلقة والبنية، يقال: فلان في ذاته صالح أي: في خلقته وبنيته، يعني أصلحوا نفس كل شئ بينكم، أو أصلحوا حال كل نفس بينكم. وقيل معناه: وأصلحوا حقيقة وصلكم، كقوله (لقد تقطع بينكم) أي: وصلكم، والمراد كونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله، وكذلك معنى: اللهم أصلح ذات البين أي: أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون، عن الزجاج. وهذا نهي من الله تعالى عن الإختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة يوم بدر، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي. (وأطيعوا الله ورسوله) أي: إقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها، عن الزجاج. ومعناه: وأطيعوهما فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه (إن كنتم مؤمنين) مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله، كما تدعون. وفي تفسير الكلبي: إن الخمس لم يكن مشروعا يومئذ، وإنما شرع يوم أحد، وفيه: إنه لما نزلت هذه الآية، عرف المسلمون أنه لا حق لهم في الغنيمة، وأنها لرسول الله، فقالوا: يا رسول الله سمعا وطاعة فاصنع ما شئت. فنزل قوله (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) أي: ما غنمتم بعد بدر. وروي أن رسول الله قسم غنائم بدر عن بواء أي: على سواء، ولم يخمس. إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون 2 الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون 3 أؤلئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. اللغة: الوجل، والخوف، والفزع، واحد. يقال: وجل، يوجل، وييجل، ويأجل بالألف، وييجل أربع لغات، حكاها سيبويه، وأجودها يوجل. قال الشاعر: لعمرك ما أدري، وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول والتوكل: هو الثقة بالله في كل ما يحتاج إليه. يقال: وكلت الأمر إلى فلان
[ 427 ]
إذا جعلت إليه القيام به. والوكيل: القائم بالأمر لغيره. الاعراب: (حقا): منصوب بما دلت عليه الجملة التي هي قوله (أولئك هم المؤمنون) والمعنى أحق ذلك حقا. المعنى: لما قال سبحانه: (إن كنتم مؤمنين) بين صفة المؤمنين بقوله (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي: خافت تعظيما له، وذلك إذا ذكر عندهم عقوبته، وعدله، ووعيده على المعاصي بالعقاب، واقتداره عليه، فأما إذا ذكرت نعمة الله علي عباده وإحسانه إليهم، وفضله ورحمته عليهم، وثوابه على الطاعات، اطمأنت قلوبهم، وسكنت نفوسهم إلى عفو الله تعالى، كما قال سبحانه: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) فلا تنافي بين الاثنين إذ وردتا في حالتين ووجه آخر، وهو أن المؤمن ينبغي أن يكون من صفته، أنه إذا نظر في نعم الله عليه، ومننه لديه، وعظيم مغفرته ورحمته، اطمأن قلبه، وحسن بالله ظنه، وإذا ذكر عظيم معاصيه بترك أوامره وارتكاب نواهيه، وجل قلبه، واضطربت نفسه. والوجل الخوف مع شدة الحزن، وإنما يستعمل على الغالب في القلب (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) معناه: وإذا قرئ عليهم القرآن، زادتهم آياته تبصرة ويقينا على يقين، عن الضحاك. وقيل: زادتهم تصديقا مع تصديقهم بما أنزل الله إليهم قبل ذلك، عن ابن عباس. والمعنى أنهم يصدقون بالأولى والثانية والثالثة، وكل ما يأتي من عند الله، فيزداد تصديقهم. (وعلى ربهم يتوكلون) أي: يفوضون أمورهم إلى الله فيما يخافونه من السوء في الدنيا. وقيل: فيما يرجونه من قبول أعمالهم في الآخرة (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) قد مر تفسيره في سورة البقرة، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر، لعظم شأنهما، وتأكيد أمرهما، وليكون داعيا إلى المواظبة على فعلهما (أولئك هم المؤمنون حقا) أي: هؤلاء المستجمعون لهذه الخصال، والحائزون لهذه الصفات، هم الذين استحقوا هذا الإسم على الحقيقة (لهم درجات عند ربهم) يعني درجات الجنة، يرتقونها بأعمالهم، عن عطاء. وقيل: لهم أعمال رفيعة، وفضائل استحقوها في أيام حياتهم، عن مجاهد (ومغفرة) لذنوبهم (ورزق كريم) أي: خطير كبير في الجنة. وقيل: كريم دائم كثير، لا يشوبه ضرر، ولا يعتريه كدر، ولا يخاف عليه فناء، ولا نقصان، ولا حساب، من قولهم: فلان
[ 428 ]
كريم، إذا كانت أخلاقه محمودة. واستدل من قال إن الإيمان يزيد وينقص، وإن أفعال الجوارح من الإيمان بهذه الآيات، فقال: إن الله تعالى نفى أن يكون المؤمن غير متصف بهذه الصفات بلفظة (إنما) فكأنه قال: لا يكون أحد مؤمنا إلا أن يكون بهذه الصفات. والجواب عنه: إن هذه الصفات خيار المؤمنين وأفاضلهم، فكأنه قال: إنما خيار المؤمنين من له هذه الأوصاف، وليس يمتنع أن يتفاضل المؤمنون في الطاعات، وإن لم يتفاضلوا في الإيمان، يدل على ذلك أن الإجماع حاصل على أن وجل القلب ليس بواجب، وإنما هو من المندوبات، وإن الصلاة قد تدخل فيها الفرائض والنوافل، والإنفاق كذلك، فعلمنا أن الإشارة بالآية إلى خيار المؤمنين وأماثلهم، لا تدل إذا على أن من كان دونهم في المنزلة خارج عن الإيمان، وقد قال ابن عباس: إنه سبحانه أراد بذلك أن المنافق لا يدخل قلبه خشية الله عند ذكره، وإن هذه الأوصاف المذكورة منتفية عنه. كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون 5 يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون 6 وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين 7 ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون 8. اللغة: المجادلة: المنازعة الذي يفتل بها عن مذهب إلى مذهب، سميت بذلك لشدته، وأصل الجدل: شدة الفتل، ومنه الأجدل. الصقر لشدته، وزمام جديل: شديد الفتل، وقيل: أصله من الجدالة: وهي الأرض. يقال: طعنه فجدله أي: أوقعه على الأرض، فكأن المتجادلين يريد كل واحد منهما أن يرمي بخصمه إلى الأرض، والسوق: الحث على المسير. والشوكة: الحد، يقال: ما أشد شوكة بني فلان، وفلان شاك في السلاح، وشائك، وشاك، من الشكة، وشاك: مخفف مثل قولهم كبش: صاف كثير الصوف، مثل صائف، قال الشاعر:
[ 429 ]
فتوهموني أنني أنا ذاكم شاك سلاحي في الحوادث معلم (1) وأصله من الشوك. ودابر الأمر: آخره. ودابر الرجل: عقبه. والحق: وقوع الشئ في موضعه الذي هو له، فإذا اعتقد شئ بضرورة، أو حجة، فهو حق، لأنه وقع موقعه الذي هو له. وعكسه الباطل. الاعراب: الكاف في قوله: (كما أخرجك ربك): يتعلق بما دل عليه قوله (قل الأنفال لله والرسول) لأن في هذا معنى نزعها من أيديهم بالحق، (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) وقيل: تقديره قل الأنفال ثابت لله والرسول ثبوتا، مثل ما أخرجك ربك أي: هذا كائن لا محالة، كما أن ذلك كان لا محالة. وقيل: إنه يتعلق بيجادلونك، وتقديره يجادلونك بالحق، كما كرهوا إخراجك من بيتك بالحق، وقيل إنه يعمل فيه معنى الحق بتقدير هذا الذكر الحق، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وقوله: (إنها لكم) في موضع نصب على البدل من (إحدى الطائفتين) وتقديره: يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم، ونظيره قوله (هل ينظرون إلى الساعة أن تأتيهم). المعنى: (كما أخرجك ربك من بيتك) يا محمد على التقدير الأول، قل الأنفال لله ينزعها عنكم مع كراهتكم ومشقة ذلك عليكم، لأنه أصلح لكم، كما أخرجك ربك من بيتك مع كراهة فريق من المؤمنين، ذلك لأن الخروج كان أصلح لكم من كونكم في بيتكم، والمراد بالبيت هنا: المدينة، يعني خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها إلى بدر، ويكون معنى (أخرجك ربك): دعاك إلى الخروج، وأمرك به، وحملك عليه، كما يقال أضربت زيدا عمروا فضربه. وأما على التقدير الثاني، وهو أن يكون اتصاله بما بعده، فيكون معناه يجادلونك في الحق، كارهين له، كما جادلوك يا محمد حين أخرجك ربك، كارهين للخروج. كرهوه كراهية طباع، فقال بعضهم: كيف نخرج ونحن قليل والعدو كثير ؟ وقال بعضهم: كيف نخرج على عمياء لا ندري إلى العير نخرج أم إلى القتال ؟ فشبه جدالهم بخروجهم، لأن القوم جادلوه بعد خروجهم، كما جادلوه عند الخروج، فقالوا: هلا أخبرتنا بالقتال فكنا نستعد لذلك ؟ فهذا هو جدالهم على تأويل مجاهد. (1) ورجل معلم: إذا علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها. (*)
[ 430 ]
وأما على التقدير الثالث فمعناه: إن هذا خير لكم كما أن إخراجك من بيتك على كراهية جماعة منكم خير لكم، وقريب منه ما جاء في حديث أبي حمزة الثمالي: فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك. وقوله: (بالحق) أي: بالوحي وذلك أن جبرائيل عليه السلام أتاه وأمره بالخروج. وقيل معناه: أخرجك ومعك الحق. وقيل معناه: أخرجك بالحق الذي وجب عليك، وهو الجهاد. (وإن فريقا من المؤمنين) أي: طائفة منهم (لكارهون) لذلك، للمشقة التي لحقتهم (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) معناه: يجادلونك فيما دعوتهم إليه، بعدما عرفوا صحته، وصدقك بما ظهر عليك من المعجزات، ومجادلتهم قولهم: هلا أخبرتنا بذلك ؟ وهم يعلمون أنك لا تأمرهم عن الله إلا بما هو حق وصواب، وكانوا يجادلونك فيه لشدته عليهم، يطلبون بذلك رخصة لهم في التخلف عنه، أو في تأخير الخروج إلى وقت آخر، وقيل معناه: يجادلونك في القتال يوم بدر، بعد ما تبين صوابه، وأنه مأمور به، عن ابن عباس. وقيل: بعدما تبين أنك يا محمد لا تصنع إلا ما أمرك الله به. (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدو لشدة القتال عليهم، حيث لم يكونوا مستعدين له، ولكراهتهم له من حيث الطبع، كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت، وهم يرونه عيانا، وينظرون إليه وإلى أسبابه (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) يعني: واذكروا واشكروا الله إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم إما العير وإما النفير (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) أي: تودون أن يكون لكم العير وصاحبها أبو سفيان بن حرب، لئلا تلحقكم مشقة دون النفير وهو الجيش من قريش. قال الحسن: كان المسلمون يريدون العير، ورسول الله يريد ذات الشوكة، كنى بالشوكة عن الحرب لما في الحرب من الشدة، عن قطرب، وقيل: ذات الشوكة: ذات السلاح. (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) معناه: والله أعلم بالمصالح منكم، فأراد أن يظهر الحق بلطفه، ويعز الإسلام، ويظفركم على وجوه قريش، ويهلكهم على أيديكم بكلماته السابقة، وعداته في قوله: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وأن جندنا لهم الغالبون) وقوله: (ليظهره على الدين كله ولو كره
[ 431 ]
المشركون) وقيل: بكلماته أي: بأمره لكم بالقتال (ويقطع دابر الكافرين) أي: يستأصلهم فلا يبقي منهم أحدا، يعني كفار العرب (ليحق الحق) أي: إنما يفعل ذلك ليظهر الإسلام (ويبطل الباطل) أي: الكفر بإهلاك أهله (ولو كره المجرمون) أي: الكافرون. وذكر البلخي، عن الحسن: ان قوله (وإذ يعدكم الله) الآية، نزلت قبل قوله (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) وهي في القراءة بعدها. قصة غزاة بدر: قال أصحاب السير، وذكر أبو حمزة، وعلي بن إبراهيم، في تفسيرهما، دخل حديث بعضهم في بعض: أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام، وفيها أموالهم وهي اللطيمة (1)، وفيها أربعون راكبا من قريش. فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال لعل الله أن ينفلكموها. فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم، ولم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقي كيدا، ولا حربا. فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان، والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم. فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد تعرض لعيرهم في أصحابه. فخرج ضمضم سريعا إلى مكة. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم، قبل مقدم ضمضم بن عمرو، بثلاث ليال، أن رجلا أقبل على بعير له ينادي: يا آل غالب ! اغدوا إلى مصارعكم. ثم وافى بجمله على أبي قبيس، فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل، فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة، فانتبهت فزعة من ذلك، وأخبرت العباس بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش ! وفشت الرؤيا فيهم، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال. هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى لننطرن ثلاثة أيام، فإن كان ما رأت حقا، وإلا لنكتبن كتابا بيننا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم ! فلما كان اليوم الثالث، أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب ! يا آل غالب ! اللطيمة اللطيمة ! العير العير ! أدركوا وما أراكم تدركون، إن محمدا، والصباة من أهل يثرب، قد خرجوا يتعرضون لعيركم ! فتهيأوا للخروج وما بقي أحد (1) اللطيمة: المسك. ونافجة المسك. وقيل: العير التي تحمل الطيب وبز التجار. (*)
[ 432 ]
من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش،، قالوا: من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. فلما كان بقرب بدر، أخذ عينا للقوم، فأخبره بهم وفي حديث أبي حمزة: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا عينا له على العير اسمه عدي، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره أين فارق العير، نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره بنفير المشركين من مكة، فاستشار أصحابه في طلب العير، وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله ! إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم تخرج على هيئة الحرب. وفي حديث أبي حمزة، قال أبو بكر: أنا عالم بهذا الطريق، فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر، يوم كذا وكذا، كأنا فرسا رهان. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس، ثم قام عمربن الخطاب، فقال مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس، ثم قام المقداد، فقال: يا رسول الله ! إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا، وشوك الهراس (1)، لخضناه معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكنا نقول: إمض لأمر ربك، فإنا معك مقاتلون ! فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا على قوله ذاك ثم قال: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا. فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو أن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنك أردتنا ؟ فقال: نعم. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما (1) الجمر: النار المتقدة. والغضا: شجر عظيم من الإثل واحدته غضاة، وخشبه من أصلب الخشب، ولهذا يكون قي فحمه صلابة، وهو حسن النار، وجمره يبقى زمانا طويلا لا ينطفئ. والهراس - كسحاب -: شجر شائك، (*)
[ 433 ]
جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعل الله عز وجل، أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: سيروا على بركة الله، فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وفلان، وفلان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، وخرج إلى بدر، وهو بئر، وفي حديث أبي حمزة الثمالي: بدر رجل من جهينة، والماء ماؤه، فإنما سمي الماء باسمه. وأقبلت قريش، وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء، فأخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا لهم: من أنتم ؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير ؟ قالوا: لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، فانفتل من صلاته وقال: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم ! فأتوه بهم، فقال لهم: من أنتم ؟ قالوا: يا محمد ! نحن عبيد قريش. قال: كم القوم ؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم. قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور ؟ قالوا: تسعة إلى عشرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا. وبلغ ذلك قريشا، ففزعوا وندموا على مسيرهم، ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام، فقال: أما ترى هذا البغي، والله ما أبصر موضع قدمي، خرجنا لنمنع عيرنا، وقد أفلتت، فجئنا بغيا وعدوانا، والله ما أفلح قوم بغوا قط، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف، ذهبت ولم نسر هذا المسير ! فقال له أبو البختري: إنك سيد من سادات قريش، فسر في الناس، وتحمل العير التي أصابها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي، فإنه حليفك. فقال له: علي ذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فصر إليه وأعلمه أني حملت العير ودم ابن الحضرمي، وهو حليفي، وعلي عقله. قال فقصدت خباءه، وأبلغته ذلث فقال: إن عتبة يتعصب لمحمد، فإنه من بني عبد مناف، وابنه معه، يريد أن يخذل بين الناس، ولا واللات والعزى، حتى نقحم عليهم يثرب، أو نأخذهم أسارى، فندخلهم مكة، وتتسامع العرب بذلك.
[ 434 ]
وكان أبو حذيفة بن عتبة، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو سفيان لما جاز بالعير، بعث إلى قريش: قد نجى الله عيركم، فارجعوا ودعوا محمدا والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا، فردوا القيان، فلحقهم الرسول في الجحفة فأراد عتبة أن يرجع، فأبى أبو جهل وبنو مخزوم، وردوا القيان من الجحفة قال: وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا وتضرعوا، فأنزل الله سبحانه: (إذ تستغيثون ربكم) وما بعده. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين 9 وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم 10 إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام 11 إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين إمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان 12 ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب 13 ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار. القراءة: قرأ أهل المدينة ويعقوب، (مردفين) بفتح الدال. والباقون: (مردفين) بكسر الدال، وقرأ أهل المدينة (يغشيكم) بضم الياء وسكون الغين (النعاس) بالنصب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (يغشاكم) بالألف وفتح الياء (النعاس) بالرفع. والباقون: (يغشيكم) بضم الياء وفتح الغين والتشديد، (النعاس) بالنصب. وفي الشواذ قراءة الشعبي (ما ليطهركم به) ما: بمعنى الذي. الحجة: قال أبو علي: مردفين يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون مردفين
[ 435 ]
مثلهم كما قالوا: أردفت زيدا خلفي، فيكون في الآية المفعول الثاني محذوفا والآخر: أن يكونوا جاؤوا خلفهم، تقول العرب: بنو فلان يردفوننا أي: يجيؤون بعدنا. وقال أبو عبيدة: مردفين جاؤوا بعد، وردفني وأردفني واحد. قال الشاعر: إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا وهذا الوجه كأنه أبين لقوله (إذ تستغيثون ربكم) إلى قوله (مردفين) أي: جائين بعد استغاثتكم ربكم وإمداده إياكم بهم. فمردفين على هذا صفة لألف. وقال الزجاج: معناه يأتون فرقة بعد فرقة، ومردفين على اردفوا الناس أي: انزلوا بعدهم، فيجوز على هذا أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ممدكم مردفين بألف من الملائكة. وقرأ في الشواذ: (مردفين) ومردفين، والأصل فيهما مرتدفين، فأدغم التاء في الدال، فلما التقى ساكنان، حرك الراء لالتقاء الساكنين، فضمت تارة إتباعا لضمة الميم، وكسرت تارة لأن الساكن يحرك بالكسر، ومن قرأ يغشيكم ويغشيكم فلأنه أشبه بما بعده من قوله (وينزل عليكم) فكما أنه مسند إلى اسم الله، فكذلك يغشي ويغشي. ومن قرأ (يغشاكم) فإنه أسند الفعل إلى النعاس، كما في قوله (أمنة نعاسا يغشى)، وأغشى وغشى معناهما واحد وقد جاء بهما التنزيل، قال سبحانه (فأغشيناهم) وقال: (فغشاها ما غشى) ومن قرأ (ما ليطهركم به) فإن (ما) ههنا موصولة، وصلتها حرف الجر بما بعده، فكأنه قال: ما للطهور، كقولك: كسوت الثوب الذي لدفع البرد. وهذه اللام في قراءة الجماعة (ماء ليطهركم به) هي لام المفعول له، وهي كقوله (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله) ويتعلق بنفس الفعل، واللام التي في قراءة من قرأ (ما ليطهركم به) أي: الذي للطهارة به، فمتعلقة بمحذوف، وفيها ضمير لتعلقها بالمحذوف. اللغة: الرعب: الخوف، يقال رعبه، أرعبه، رعبا، ورعبا، والرعب: انزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا: إذا قطعته مستطيلا. فالرعب: تقطع حال السرور بضده من انزعاج النفس بتوقع المكروه. ورعب السيل فهو راعب: إذا امتلأ منه الوادي لأنه انقطع إليه من كل جهة. والبنان: الأطراف من اليدين والرجلين، والواحد بنانة، ويقال للإصبع بنانة، وأصله اللزوم، وأصله من أبنت السحابة إبنانا: إذا لزمت، قال الشاعر:
[ 436 ]
ألا ليتني قطعت منه بنانه ولا قيته في البيت يقظان خادرا (1) الشقاق: العصيان، وأصله الإنفصال، يقال: شقه فانشق، وشاقه شقاقا: إذا صار في شق عدوه عليه، ومنه اشتقاق الكلام: لأنه انفصال الكلمة عما تحتمل في الأصل. الاعراب: العامل في (إذ) من قوله (إذ تستغيثون) قوله: ويبطل الباطل. وقيل: محذوف، وتقديره واذكروا إذ، فعلى الوجه الأول يكون متصلا بما قبله، وعلى الوجه الثاني يكون مستأنفا، والهاء في (جعله) عائدة إلى الإمداد، لأنه معتمد الكلام. وقيل: عائدة إلى الخبر بالمدد، لأن تقديم ذلك إليهم بشارة على الحقيقة. وقيل: عائدة إلى الإرداف و (أمنة): انتصب بأنه مفعول له، والعامل فيه يغشي (إذ يوحي): في موضع نصب على معنى (وما جعله الله إلا بشرى) في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون ذلك على تقدير واذكروا (إذ يغشيكم النعاس) و (إذ يوحي)، (ذلكم فذوقوه): تقديره لأمر ذلكم، فيكون خبر مبتدأ محذوف، كما قال الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم، وأكرومة الحيين خلو كما هيا (2) أي: هذه خولان، ويجوز أن يكون (ذلكم) منصوب الموضع، فيكون مثل قولهم زيدا فاضربه منصوبا بفعل يفسره الظاهر. وكم في (ذلكم) لا موضع له من الإعراب، لأنه حرف الخطاب، (وأن للكافرين): يحتمل أن يكون موضعه نصبا وجرا ورفعا، فالرفع بالعطف على (ذلكم) فكأنه قال الأمر ذلكم (وأن للكافرين عذاب النار) مع ذا، والنصب بالعطف على قوله (أنى معكم) ومعناه إذ يوحي ربكم أن للكافرين. والجر على أن يكون معطوفا على قوله (بأنهم شاقوا الله) والرفع أليق بالظاهر ويشاقق بإظهار التضعيف مع الجزم، لغة أهل الحجاز، وغيرهم يدغم. النزول: قال ابن عباس: لما كان يوم بدر، واصطف القوم للقتال، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره. واستغاث المسلمون، فنزلت الملائكة، ونزل قوله (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخره. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر إلى كثرة عدد (1) الخادر: الفاتر الكسلان، المتحير. (2) خولان: قبيلة من اليمن. الأكرومة: من الكرم كالأعجوبة من العجب. الخلو: الفارغ البال من الهموم. (*)
[ 437 ]
المشركين، وقلة عدد المسلمين، استقبل القبلة، وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله تعالى (إذ تستغيثون ربكم) الآية، عن عمر بن الخطاب، والسدي، وأبي صالح، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: ولما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجنه الليل، ألقى الله على أصحابه النعاس، وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل، لا يثبت فيه قدم، فأنزل الله عليهم المطر رذاذا (1) حتى لبد الأرض، وثبت أقدامهم، وكان المطر على قريش مثل العزالى (2)، وألقى الله في قلوبهم الرعب، كما قال الله تعالى (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). المعنى: ثم ذكر سبحانه ما آتى المسلمين من النصر، فقال (إذ تستغيثون ربكم) أي: تستجيرون بربكم يوم بدر، من أعدائكم، وتسألونه النصر عليهم، لقلتكم وكثرتهم، فلم يكن لكم مفزع إلا التضرع إليه، والدعاء له، في كشف الضر عنكم، والإستغاثة: طلب المعونة والغوث. وقيل: معناه: تستنصرونه، والفرق بين المستنصر والمستجير أن المستنصر طالب الظفر، والمستجير طالب الخلاص (فاستجاب لكم) والإستجابة هي العطية على موافقة المسألة، فمعناه: فأغاثكم وأجاب دعاءكم (أني ممدكم) أي: مرسل إليكم مددا لكم (بألف من الملائكة مردفين) أي: متبعين ألفا آخر من الملائكة، لأن مع كل واحد منهم ردفا له، عن الجبائي، وقيل: معناه: مترادفين متتابعين، وكانوا ألفا بعضهم في أثر بعض، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. وقيل: معناه: بألف من الملائكة جاؤوا على أثر المسلمين، عن أبي حاتم. (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم) معناه: وما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر، ولتسكن به قلوبكم، وتزول الوسوسة عنها، وإلا فملك واحد كاف للتدمير عليهم. كما فعل جبريل عليه السلام بقوم لوط، فأهلكهم بريشة واحدة، واختلف في أن الملائكة هل قاتلت يوم بدر أم لا، فقيل: ما قاتلت، ولكن شجعت وكثرت سواد المسلمين، وبشرت بالنصر، عن الجبائي. وقيل: إنها قاتلت، قال مجاهد: إنما أمدهم بألف مقاتل من الملائكة، فأما ما قاله سبحانه في (1) الرذاذ: المطر الضعيف. (2) العزالى جمع العزلاء وهو في المزادة الأسفل، وشبه اتساع المطر واندفاقه بها. (*)
[ 438 ]
آل عمران بثلاثة آلاف، وبخمسة آلاف، فإنه للبشارة، وقد ذكرنا هناك ما قيل فيه. وروي عن ابن مسعود انه سأله أبو جهل: من أين كان يأتينا الضرب، ولا نرى الشخص ؟ قال: من قبل الملائكة. فقال: هم غلبونا لا أنتم. وعن ابن عباس: إن الملائكة قاتلت يوم بدر وقتلت. (وما النصر إلا من عند الله) معناه: إنه لم يكن النصر من قبل الملائكة، وإنما كان من قبل الله، لأنهم عباده، ينصر بهم من يشاء، كما نصر بغيرهم، ويحتمل أن يكون المعنى: ما النصر بكثرة العدد، ولكن النصر من عند الله، ينصر من يشاء، قل العدد أم كثر (إن الله عزيز) لا يمنع عن مراده (حكيم) في أفعاله يجريها على ما تقتضيه الحكمة (إذ يغشيكم النعاس) قد ذكرنا تفسيره عند قوله (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) والنعاس: أول النوم قبل أن يثقل (أمنة) أي: أمانا (منه) أي: من العدو. وقيل: من الله، فإن الإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف، فآمنهم الله تعالى بزوال الرعب عن قلوبهم، كما يقال الخوف مسهر والأمن منيم. والأمنة: الدعة التي تنافي المخافة، وأيضا فإنه قواهم بالإستراحة على القتال من العدو. (وينزل عليكم من السماء ماء) أي مطرا (ليطهركم به) وذلك لأن المسلمين قد سبقهم الكفار إلى الماء، فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان، فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلون مع الجنابة والحدث، وتسوخ أقدامكم في الرمل، فمطرهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهروا به من الحدث، وتلبدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم. (ويذهب عنكم رجز الشيطان) أي: وسوسته بما مضى ذكره، عن ابن عباس. وقيل معناه: ويذهب عنكم وسوسته بقوله (ليس لكم بهؤلاء طاقة) عن ابن زيد. وقيل معناه: ويذهب عنكم الجنابة التي أصابتكم بالإحتلام (وليربط على قلوبكم) أي: وليشد على قلوبكم، ومعناه: يشجع قلوبكم، ويزيدكم قوة قلب، وسكون نفس، وثقة بالنصر (ويثبت به الأقدام) أي: أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل، عن ابن عباس، ومجاهد، وجماعة. وقيل: بالصبر وقوة القلب، عن أبي عبيدة. والهاء في (به) ترجع إلى الماء المنزل. وقيل: إلى ما تقدم من الربط على القلوب. (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) يعني الملائكة الذين أمد بهم
[ 439 ]
المسلمين أي: اني معكم بالمعونة والنصرة، كما يقال فلان مع فلان على فلان. والإيحاء: إلقاء المعنى على النفس من وجه يخفى، وقد يكون بنصب دليل يخفى إلا على من ألقى إليه من الملائكة (فثبتوا الذين آمنوا) يعني: بشروهم بالنصر، وكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول أبشروا فإن الله ناصركم، عن مقاتل. وقيل معناه: قاتلوا معهم المشركين، عن الحسن. وقيل: ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم، يقوون بها عن الزجاج (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) أي: الخوف من أوليائي. (فاضربوا فوق الأعناق) يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق. قال عطا: يريد كل هامة وجمجمة، وجائز أن يكون هذا أمرا للمؤمنين، وجائز أن يكون أمرا للملائكة، وهو الظاهر. قال ابن الأنباري: إن الملائكة حين أمرت بالقتال، لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس، فعلمهم الله تعالى (واضربوا منهم كل بنان) يعني الأطراف من اليدين والرجلين، عن ابن عباس، وابن جريج، والسدي، وقيل: يعني أطراف الأصابع اكتفى الله به عن جملة اليد والرجل، عن ابن الأنباري (لذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) معناه ذلك العذاب لهم، والأمر بضرب الأعناق والأطراف، وتمكين المسلمين منهم، بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله. قال ابن عباس: معناه حاربوا الله ورسوله. ثم أوعد المخالف فقال (ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) في الدنيا بالإهلاك، وفي الآخرة بالتخليد في النار (ذلكم فذوقوه) أي: هذا الذي أعددت لكم من الأمر والقتل في الدنيا، فذوقوه عاجلا (وأن للكافرين) آجلا في المعاد (عذاب النار) قال الحسن: ذلكم حكم الله فذوقوه في الدينا وإن لكم ولسائر الكافرين في الآخرة عذاب النار، ومعناه: كونوا للعذاب كالذائق للطعام، وهو طالب إدراك الطعم بتناول اليسير بالفم، لأن معظم العذاب بعده. تمام القصة: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عبأ أصحابه، فكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد،
[ 440 ]
وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس. وقيل: مائتا فرس. فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو جهل، ما هم إلا أكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد ! فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا أو مددا ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي، وكان فارسا شجاعا، فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع فقال: ليس لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون، ويتلمظون تلمظ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم. فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت ! فأنزل الله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنج لها) فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم، فخلوني والعرب وارجعوا، فقال عتبة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له أحمر، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجول بين العسكرين، وينهى عن القتال، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، وإن يطيعوه يرشدوا. وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش ! أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إن محمدا له إل وذمة (1)، وهو ابن عمكم، فخلوه والعرب، فإن يك صادقا، فأنتم أعلى عينا به، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره. فغاظ أبا جهل قوله وقال له: جبنت وانتفخ سحرك، فقال: يا مصفر استه ! مثلي يجبن، وستعلم قريش أينا ألأم وأجبن، وأينا المفسد لقومه. ولبس درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقال: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش. فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار، وانتسبوا لهم فقالوا: إرجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش. فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وكان له يومئذ سبعون سنة، فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم، ثم نظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: قم يا علي، وكان أصغر القوم، فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها، تريد ان تطفئ نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة، وقال لحمزة: (1) الإل: العهد. (*)
[ 441 ]
عليك بشيبة. وقال لعلي عليه السلام: عليك بالوليد. فمروا حتى انتهوا إلى القوم، فقالوا: أكفاء كرام، فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها (1)، فسقطا جميعا، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين علي عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال علي: لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي، فظننت أن السماء وقعت على الأرض، ثم اعتنق حمزة وشيبة، فقال المسلمون: يا علي أما ترى أن الكلب قد نهز عمك ؟ ! فحمل عليه علي عليه السلام، ثم قال: يا عم طأطئ رأسك، وكان حمزة أطول من شيبة، فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه علي، فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق، فأجهز عليه، وفي رواية أخرى أنه برز حمزة لعتبة وبرز عبيدة لشيبة، وبرز علي عليه السلام للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي عليه السلام الوليد، فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها، فاستنقذه حمزة وعلي، وحمل عبيدة حمزة وعلي، حتى أتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر، فقال: يا رسول الله ألست شهيدا ؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي. وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا، حتى ندخلهم مكة، فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها ! وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم، فقال لهم ! أنا جار لكم إدفعوا إلي رايتكم، فدفعوا إليه راية الميسرة، وكانت الراية مع بني عبد الدار، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأصحابه: غضوا أبصاركم، وعضوا على النواجذ. ورفع يده فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة لا تعبد، ثم أصابه الغشي، فسري عنه، وهو يسلت العرق عن وجهه (2)، فقال: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه من جسده. قبل أن يصل إليه السيف. قال ابن عباس: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي، حتى (1) أطن الساق: قطعها. (2) أي يمسحه عن وجهه. (*)
[ 442 ]
أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فبينا نحن هناك إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها جمجمة الخيل، فسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم (1)، ثم قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر: هذا جبرائيل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب، أورده البخاري في الصحيح. قال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب، يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان ابن حرث بن عبد المطلب، وقد قدم. فقال أبو لهب، هلم إلي يا ابن أخي فعندك الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي ! أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال: لا شئ والله، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شئ. قال أبو رافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته واحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه (1) حيزوم: اسم فرس جبرائيل أراد أقدم يا حيزوم. (*)
[ 443 ]
إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة، فقتله. ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه ؟ ! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة. قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه بالحجارة، حتى واروه. وروى مقسم، عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو، أخا بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي اليسر: كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك، ولا بعده، هيأته كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم، لقد أعانك عليه ملك كريم. يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار 15 ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير 16 فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم 17. اللغة: اللقاء: الإجتماع على وجه المقاربة، لأن الإجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة، فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحل الواحد. والزحف: الدنو قليلا قليلا. والتزاحف.: التداني يقال: زحف، يزحف، زحفا، وأزحفت للقوم: إذا دنوت لقتالهم، وثبت لهم. قال الليث، الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة، وجمعه زحوف. والتولية: جعل الشئ يلي غيره، يقال: ولاه دبره: إذا جعله يليه، فهو يتعدى إلى مفعولين، ومنه ولاه البلد: من ولاية الإمارة. وتولى هو: إذا قبل الولاية. وأولاه نعمة لأنه جعلها تليه. والتحرف: الزوال عن جهة
[ 444 ]
الإستواء إلى جهة الحرف، ومنه الإحتراف: وهو أن يقصد جهة الحرف لطلب الرزق والمحارف: المحدود عن جهة الرزق إلى جهة الحرف، ومنه حروف الهجاء، لأنها أطراف الكلمة، كحرف الجبل ونحوه: والتحيز: طلب حيز يتمكن فيه. والحيز: المكان الذي فيه الجوهر. والفئة: القطعة من الناس، وهي جماعة منقطعة عن غيرها. وذكر الفئة في هذا الموضع حسن جدا، وهو من فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته. الاعراب: (زحفا): نصب على المصدر، وهو في موضع الحال، لأن معناه متزاحفين مجتمعين. و (متحرفا) (متحيزا): منصوبان على الحال أيضا، ويجوز أن يكون النصب فيهما على الإستثناء أي: إلا أن يكون رجلا متحيزا، أو أن يكون منفردا، فينحاز ليكون مع المقاتلة، ويومئذ يجوز إعرابه وبناؤه، فالإعراب، لأنه متمكن أضيف على تقدير الإضافة الحقيقية كقولك: هذا يوم ذاك، وأما البناء فلأنه أضيف إلى مبني إضافة غير حقيقية، فأشبه الأسماء المركبة. المعنى: لما أمد الله سبحانه المسلمين بالملائكة، ووعدهم النصر والظفر بالكفار، نهاهم عقيبه عن الفرار، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا) قيل: إنه خطاب لأهل بدر، وقيل: هو عام (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) أي: متدانين لقتالكم. قال الزجاج: معناه إذا واقفتموهم للقتال (فلا تولوهم الأدبار) يعني: فلا تجعلوا ظهوركم مما يليهم، أي: فلا تنهزموا (ومن يولهم يومئذ دبره) أي: ومن يجعل ظهره إليهم يوم القتال، ووجهه إلى جهة الإنهزام، وأراد بقوله (يومئذ) ذلك الوقت، ولم يرد به بياض النهار خاصة دون الليل (إلا متحرفا لقتال) أي: إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول، عن الحسن. وقيل: معناه إلا منعطفا مستطردا كأنه يطلب عورة يمكنه إصابتها، فيتحرف عن وجهه، ويرى أنه يفر ثم يكر، والحرب كر وفر (أو متحيزا إلى فئة) أي منحازا منضما إلى جماعة من المسلمين، يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم (فقد باء بغضب من الله) أي: احتمل غضب الله واستحقه. وقيل: رجع بغضب من الله (ومأواه جهنم) أي: مرجعه إلى جهنم (وبئس المصير) وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص بيوم بدر خاصة، ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض، وهو قول أبي سعيد
[ 445 ]
الخدري، وابن عباس في رواية الكلبي، والحسن، وقتادة، والضحاك. ووردت الرواية عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فلقوا العدو، فجاض الناس جيضة (1)، وأتينا المدينة، فتخبأنا بها، وقلنا: يا رسول الله ! نحن الفرارون ! فقال: بل انتم العكارون (2)، وأنا فئتكم. وقيل: إنه عام في جميع الأوقات، وإن من فر من الزحف إذا لم يزيدوا على ضعفي المسلمين لحقه الوعيد عن ابن عباس وفي رواية أخرى، وهو قول الجبائي، وأبي مسلم. ثم نفى سبحانه أن يكون المسلمون قتلوا المشركين يوم بدر، فقال (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) وإنما نفى الفعل عمن هو فعله على الحقيقة، ونسبه إلى نفسه، وليس بفعل له من حيث كانت أفعاله تعالى كالسبب لهذا الفعل والمؤدي إليه من إقداره إياهم، ومعونته لهم، وتشجيع قلوبهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والمشركين حتى قتلوا. (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى): خطاب للنبي ذكر جماعة من المفسرين، كابن عباس وغيره، أن جبرائيل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي. فناوله كفا من حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه ! فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شئ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم. وقال قتادة وأنس: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: شاهت الوجوه ! فانهزموا. فعلى هذا إنما أضاف الرمي إلى نفسه، لأنه لا يقدر أحد غيره على مثله، فإنه من عجائب المعجزات (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) أي: ولينعم عليهم به نعمة حسنة، أي: فعل ذلك إنعاما على المؤمنين. والضمير في (منه) راجع إلى النصر أي: من ذلك النصر، ويجوز أن يكون راجعا إلى الله تعالى. (إن الله سميع) لدعائكم (عليم) بأفعالكم وضمائركم، وإنما يقال للنعمة (1) أي فروا. (2) العكار: من يحمل على العدو ثم يتخلف ثم يحمل كثيرا. (*)
[ 446 ]
بلاء، كما يقال للمضرة بلاء، لأن أصل البلاء: ما يظهر به الأمر من الشكر والصبر، فيبتلي سبحانه عباده أي: يختبرهم بالنعم، ليظهر شكرهم عليها، وبالمحن والشدائد، ليظهر عندها الصبر الموجب للأجر. والبلاء الحسن هاهنا هو النصر، والغنيمة، والأجر، والمثوبة. النظم: وقيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان أحدهما: إنه سبحانه لما أمرهم بالقتال في الآية المتقدمة، ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر، وقهر المشركين، إنما كان بنصرته ومعونته، تذكير للنعمة عن أبي مسلم والآخر: إنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا، وأنا فعلت كذا، نزلت الآية على وجه التنبيه لهم، لئلا يعجبوا بأعمالهم. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين 18 إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين 19 يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون 20 ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون 21. القراءة: قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو، ويعقوب، برواية روح: (موهن) بالتشديد غير منون، (كيد) بالجر على الإضافة. وقرأ الباقون: (موهن) بالتنوين والتخفيف، (كيد): بالنصب. وقرأ حفص عن عاصم: (موهن) بالتخفيف، (كيد) بالنصب. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر، وحفص: (وأن الله مع المؤمنين) بفتح الألف. والباقون بكسر الألف. الحجة: من قرأ (موهن) فإنه من أوهنته أي: جعلته واهنا، ومن شدد فإنه من وهنته، كما يقال: فرح وفرحته، وكلاهما حسن. ومن قرأ (وإن الله) بكسر الهمزة فإنه قطعه مما قبله، ويقويه أنهم زعموا أن في حرف عبد الله (1): (والله مع (1) أي في قراءة عبد الله بن مسعود.
[ 447 ]
المؤمنين). ومن فتح الهمزة فوجهه أن يكون على تقدير: ولأن الله مع المؤمنين أي: لذلك لن تغني عنكم فئتكم. اللغة: الإستفتاح: طلب الفتح وهو النصر الذي تفتح به بلاد العدو. والفتح أيضا: الحكم، ويقال للقاضي: الفتاح. وأصل الباب من. الفتح الذي هو ضد الإغلاق. والإنتهاء: ترك الفعل لأجل النهي عنه، يقال نهيته فانتهى، وأمرته فائتمر. الاعراب: (ذلكم): موضعه رفع، وكذلك (أن الله): في موضع رفع، والتقدير الأمر ذلكم، والأمر أن الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) ومن قال إن (ذلكم) مبتدأ، و (فذوقوه) خبره، فقد أخطأ، لأن ما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ، ولا يجوز زيد فمنطلق، ولا زيد فاضربه، إلا أن تضمر هذا، تريد هذا زيد فاضربه. المعنى: (ذلكم) إشارة إلى بلاء المؤمنين، خاطبهم سبحانه بعد أن أخبر عنهم، ومعناه الأمر ذلكم الإنعام، أو ذلكم الذي ذكرت (وأن الله موهن كيد الكافرين) بإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، قال ابن عباس: يقول إني قد أوهنت كيد عدوكم حتى قتلت جبابرتهم، وأسرت أشرافهم (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) قيل: إنه خطاب للمشركين، فإن أبا جهل قال يوم بدر حين التقى الفئتان: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف، فانصر عليه، عن الحسن، ومجاهد، والزهري، والضحاك، والسدي. وفي حديث أبي حمزة: قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم، ودين محمد الحديث، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك، فانصر أهله اليوم. وعلى هذا فيكون معناه إن تستنصروا لأهدى الفئتين، فقد جاءكم النصر أي: نصر محمد وأصحابه. وقيل: إنه خطاب للمؤمنين، عن عطا، وأبي علي الجبائي. ومعناه: إن تستنصروا على أعدائكم، فقد جاءكم النصر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الزجاج: ويجوز أن يكون معناه: إن تستحكموا وتستقضوا، فقد جاءكم القضاء والحكم من الله (وإن تنتهوا) أي: تمتنعوا من الكفر، وقتال الرسول والمؤمنين. (فهو خير لكم وإن تعودوا نعد) معناه: وإن تعودوا أيها المشركون إلى
[ 448 ]
قتال المسلمين، نعد بأن ننصرهم عليكم، ونأمرهم بقتالكم. (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا) أي: ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا (ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) بالنصر، والحفظ، يمكنهم منكم، وينصرهم عليكم، عن جماعة من المفسرين. وقيل: معناه وإن تنتهوا أيها المسلمون عما كان منكم في الغنائم وفي الأسارى، من مخالفة الرسول، فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى ذلك الصنيع نعد إلى الإنكار عليكم، وترك نصرتكم، ولن يغني عنكم حينئذ جمعكم شيئا، إذ منعناكم النصر، عن عطا والجبائي. ثم أمر سبحانه بالطاعة التي هي سبب النصرة فقال: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) خص المؤمنين بطاعة الله ورسوله، وإن كانت واجبة على غيرهم أيضا، لأنه لم يعتد بغيرهم لإعراضهم عما وجب عليهم. ويجوز أن يكون إنما خصهم إجلالا لقدرهم، ويدخل غيرهم فيه على طريق التبع (ولا تولوا عنه) أي: ولا تعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (وأنتم تسمعون) دعاءه لكم وأمره ونهيه إياكم، عن ابن عباس. وقيل معناه: وأنتم تسمعون الحجة الموجبة لطاعة الله، وطاعة الرسول، عن الحسن. (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) في الكلام حذف، ومعناه: ولا تكونوا كهم في قولهم هذا المنكر، فحذف المنهي عنه لدلالة الحال عليه، وفي ذلك غاية البلاغة. ومعنى قولهم (سمعنا وهم لا يسمعون) أنهم سمعوه سماع عالم قابل له، وليسوا كذلك. والسماع بمعنى القبول كما في قوله (سمع الله لمن حمده) وهؤلاء الكفار هم المنافقون، عن ابن اسحاق، ومقاتل، وابن جريج، والجبائي. وقيل: هم أهل الكتاب من اليهود، وقريظة، والنظير، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: إنهم مشركو العرب، لأنهم قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا، عن ابن زيد. إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون 22 ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون 23. القراءة: الشر: إظهار السوء الذي يبلغ من صاحبه، وهو نقيض الخير. وقيل: الشر: الضرر القبيح، والخير النفع الحسن. وقيل: الشر: الضرر الشديد،
[ 449 ]
والخير النفع الكثير. وهذا ليس بالوجه، لأنه قد يكون ضررا ما لا يكون شرا بأن يعقب خيرا، وأصل الشر: الإظهار من قوله: إذا قيل: أي الناس شر قبيلة ؟ أشارت كليب بالأكف الأصابع والدواب: جمع دابة: وهي ما دب على وجه الأرض، إلا أنه تختص في العرف بالخيل. المعنى: ثم ذم سبحانه الكفار فقال: (إن شر الدواب) أي: شر من دب على وجه الأرض من الحيوان (عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) يعني: هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق، ولا يتكلمون به، ولا يعتقدونه، ولا يقرون به، فكأنهم صم بكم لا يتفكرون أيضا فيما يسمعون، فكأنهم لم ينتفعوا بعقولهم أيضا، وصاروا كالدواب. وقال الباقر عليه السلام: نزلت الآية في بني عبد الدار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير، وحليف لهم يقال له سويبط. وقيل: نزلت الآية في النضر بن الحارث بن كلدة، من بني عبد الدار بن قصي. (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) معناه: ولو علم الله فيهم قبولا للهدى، وإقبالا على طلب الحق، لأسمعهم ما يذهبون عن استماعه، عن الحسن. وقيل معناه: لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا عنه. عن الزجاج. وقيل معناه: لأسمعهم قول قصي بن كلاب، فإنهم قالوا: أحي لنا قصي، إن كلاب ليشهد بنبوتك، عن الجبائي (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) أي: لأعرضوا. وفي هذا دلالة على أن الله تعالى لا يمنع أحدا من المكلفين اللطف، وإنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به. يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون 24 واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب.
[ 450 ]
القراءة: قرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وزيد بن ثابت، وأبو جعفر الباقر عليه السلام، والربيع بن أنس، وأبو العالية: (لتصيبن) والقراءة المشهورة: (لا تصيبن). الحجة: قال ابن جني: معنى هاتين القراءتين ضدان كما ترى، لأن إحداهما (لتصيبن الذين ظلموا) خاصة، والأخرى (لا تصيبنهم). ويمكن أن يكون حذفت الألف من (لا تصيبن) تخفيفا، واكتفي بالفتحة منها، كما قالوا: أم والله ليكونن كذا، فحذفوا ألف أما. وذهب أبو عثمان في قوله: يا أبت، بفتح التاء أنه أراد: يا أبتا، فحذف الألف تخفيفا، فإن قلت: فهل يجوز أن نحمله على أنه أراد لتصيبن، ثم أشبع الفتحة، فأنشا عنها ألفا، كقول عنترة: (ينباع من ذفرى غضوب جسرة) (1) أراد ينبع، ومثله قول ابن هرمة: فأنت من الغوائل حين ترمى، ومن ذم الرجال بمنتزاح (2) أي: بمنتزح. قيل: قوله تعالى فيما يليه (واعلموا أن الله شديد العقاب) أشبه بما ذكرناه، وأما الوجه في قوله: (لا تصيبن) فقد قال الزجاج: زعم بعض النحويين أن هذا الكلام جزاء خبر، وفيه طرف من النهي. فإذا قلت: أنزل عن الدابة لا تطرحك، أو لا تطرحنك، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي، والمعنى أنزل ان تنزل عنه لا تطرحك. فإذا أتيت بالنون الخفيفة أو الثقيلة كان أوكد للكلام، ومثله قوله تعالى (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان) والمعنى: إن تدخلوا لا يحطمنكم. ويجوز أن يكون نهيا بعد أمر، فيكون المعنى اتقوا فتنة ثم نهى بعده فقال (لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا) أي: لا تتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم معه العذاب، ويكون بمعنى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، أنها أمرت بالدخول، ثم نهتهم أن يحطمنهم سليمان، فقالت: لا يحطمنكم سليمان وجنوده، فلفظ النهي لسليمان، ومعناه للنمل، كما تقول: لا أرينك هاهنا. قال أبو علي: إنه حكى القول الأول على جهة احتمال الآية كاحتمالها للقول (1) تمامه. (زيافة مثل الفنيق المقرم) وذفرى: العظم الذي خلف الأذن، وهو أول ما يعرق من البعير. والغضوب العبوس من النوق. وناقة جسرة: طويلة ضخمة. (2) الغوائل جمع الغائلة: الداهية والفساد والشر. وأنت بمنتزح من كذا أي: ببعد منه. قاله في رثاء ابنه. (*)
[ 451 ]
الثاني، فأما القول الثاني، فقول أبي الحسن، ولا يصح عندنا إلا قول أبي الحسن، لأن قوله (لا تصيبن) لا يخلو إما أن يكون جواب شرط، ولا يجوز ذلك، لأن دخول النون فيه يكون لضرورة الشعر، كما أنشده سيبويه (ومهما تشأ منه فزارة تمنعن)، وإما أن يكون نهيا بعد أمر، فاستغنى عن استعمال حرف العطف معه، لاتصال الجملة الثانية بالأولى، كما مضى ذكر أمثاله من قوله: (ثلاثة رابعهم كلبهم)، (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وهذا هو الصحيح دون الأول، قال: ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، كما يستحيل أن يكون جواب الشرط بلفظ النهي، لأن جواب الأمر في الحقيقة جواب الشرط، ولا يجوز أيضا أن يكون اللفظ لفظ النهي، والمعنى معنى الجزاء، لأن الجزاء خبر، فحكمه أن يكون على ألفاظ الأخبار، وألفاظ الأخبار لا تجئ على لفظ الأمر، إلا فيما علمته من قولهم أكرم به. ومما يدل على أنه ليس بجزاء دخول النون فيه، والنون تدخل في الجزاء لما ذكرناه أنه خبر، ولا يجوز دخول النون في الخبر إلا في ضرورة الشعر نحو: ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات (1) المعنى: ثم أمر سبحانه بطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول، أي: أجيبوا الله والرسول فيما يأمرانكم به، فإجابة الله والرسول طاعتهما فيما يدعوان إليه (إذا دعاكم لما يحييكم) قيل فيه أقوال: أحدها: إن معناه: إذا دعاكم إلى الجهاد، واللام في معنى إلى. قال القتيبي، هو الشهادة، فإن الشهداء أحياء عند الله تعالى. وقال الجبائي: أي دعاكم إلى إحياء أمركم، وإعزاز دينكم، بجهاد عدوكم، مع نصر الله إياكم، وهو معنى قول الفراء وثانيها: إن معناه: إذا دعاكم إلى الإيمان، فإنه حياة القلب، والكفر: موته، عن السدي. وقيل: إلى الحق، عن مجاهد وثالثها: إن معناه: إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين، لأن الجهل موت، والعلم حياة، والقرآن سبب الحياة بالعلم، وفيه النجاة والعصمة، عن قتادة ورابعها: إن معناه: إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة، ونعيم الأبد، عن أبي مسلم. (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) أي: يحول بين المرء، وبين الإنتفاع (1) قوله أوفيت أي: أشرفت. والعلم. الجبل. (*)
[ 452 ]
بقلبه، بالموت، فلا يمكنه استدراك ما فات، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة، ودعوا التسويف، عن الجبائي، قال: وفيه حث على الطاعة قبل حلول المانع. وقيل معناه: إنه سبحانه أقرب إليه من قلبه. وهو نظير قوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فإن الحائل بين الشئ وغيره، أقرب إلى ذلك الشئ من ذلك الغير، عن الحسن وقتادة قالا: وفيه تحذير شديد. وقيل معناه: إنه سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال، كما جاء في الدعاء: (يا مقلب القلوب والأبصار) فكأنهم خافوا من الفتال، فأعلمهم سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا، بأن يحول بينهم وبين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف. وروى يونس بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنه يحول بين المرء وقلبه معناه: لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا، ولا يستيقن القلب أن الباطل حق أبدا. وروى هشام بن سالم عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: معناه يحوك بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق، أوردهما العياشي في تفسيره. وقال محمد بن إسحاق: معناه لا يستطيع القلب أن يكتم الله شيئا، وهذا في معنى قول الحسن. (وأنه إليه تحشرون) معناه: واعلموا أنكم تحشرون أي: تجمعون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) حذرهم الله تعالى من هذه الفتنة، وأمرهم أن يتقوها، فكأنه قال: إتقوا فتنة لا تقربوها فتصيبنكم، لأن قوله (لا تصيبن): نهي مسوق على الأمر، ولفظ النهي واقع على الفتنة، وهو في المعنى للمأمورين بالإتقاء كقوله (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) أي: إحذروا أن يدرككم الموت، قبل أن تسلموا. واختلف في معنى الفتنة هاهنا، فقيل: هي العذاب، أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة عن ابن عباس، والجبائي. وقيل: هي البلية التي يظهر باطن أمر الإنسان فيها، عن الحسن، قال: ونزلت في علي، وعمار، وطلحة، والزبير، وقد قال الزبير: لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها فخالفنا حتى أصابتنا خاصة. وقيل: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا، عن السدي. وقيل: هي الضلالة وافتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضا، عن ابن زيد. وقيل: هي الهرج الذي يركب الناس فيه بالظلم، ويدخل ضرره على كل أحد.
[ 453 ]
ثم اختلف في إصابة هذه الفتنة على قولين: أحدهما: إنها جارية على العموم، فتصيب الظالم وغير الظالم. أما الظالمون فمعذبون، وأما المؤمنون فممتحنون ممحصون، عن ابن عباس، وروي أنه سئل عنها فقال: أبهموا ما أبهم الله. والثاني: إنها تخص الظالم لأن الغرض منع الناس عن الظلم، وتقديره: واتقوا عذابا يصيب الظلمة خاصة. ويقويه قراءة من قرأ (لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) باللام، فإنه تفسيره على هذا المعنى، وقيل: إن (لا) في قوله (لا تصيبن) زائدة، ويجوز أن يقال: إن الألف في (لا) لإشباع الفتحة على ما تقدم ذكره. قال أبو مسلم: تقديره إحذروا أن يخص الظالم منكم بعذاب، أي: لا تظلموا فيأتيكم عذاب لا ينجو منه إلا من زال عنه اسم الظلم. (واعلموا أن الله شديد العقاب) لمن لم يتق المعاصي. وروى الثعلبي بإسناده عن حذيفة، أنه قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، يهلك فيها كل شجاع بطل، وكل راكب موضع، وكل خطيب مصقع (1). وفي حديث أبي أيوب الأنصاري: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لعمار: يا عمار ! إنه سيكون بعدي هنات، حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضا، وحتى يبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني، علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن سلك الناس كلهم واديا، وسلك علي واديا، فاسلك وادي علي، وخل عن الناس. يا عمار ! إن عليا لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى. يا عمار ! طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله، رواه السيد أبو طالب الهروي، بإسناده عن علقمة والأسود، قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري الخبر بطوله. وفي كتاب (شواهد التنزيل) للحاكم أبي القاسم الحسكاني: وحدثنا عنه أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني، قال حدثني محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد، قال: حدثنا محمد بن صالح العرزمي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية (واتقوا فتنة) قال: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنما جحد بنبوتي، ونبوة الأنبياء قبلي). (1) الراكب الموضع في الفتنة -: المسرع فيها. والمصقع - كمنبر -: البليغ. (*)
[ 454 ]
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فأواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون 26. اللغة: الذكر: ضد السهو، وهو إحضار المعنى للنفس. والإستضعاف: طلب ضعف الشئ بتهوين حاله. والتخطف: الأخذ بسرعة انتزاع، يقال تخطف، وخطف، واختطف. المعنى: ثم ذكر سبحانه حالتهم السالفة في القلة والضعف، وإنعامه عليهم بالنصر والتأييد والتكثير، فقال (واذكروا) معشر المهاجرين (إذ أنتم قليل) في العدد، وكانوا كذلك قبل الهجرة في ابتداء الإسلام (مستضعفون) يطلب ضعفكم بتوهين أمركم (في الأرض) أي: في مكة، عن ابن عباس، والحسن. (تخافون أن يتخطفكم الناس) أي: يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها. وقيل: إنه يعني بالناس كفار قريش، عن قتادة، وعكرمة، وقيل: فارس، والروم، عن وهب (فآواكم) أي: جعل لكم مأوى ترجعون إليه، يعني المدينة دار الهجرة. (وأيدكم بنصره، أي: قواكم. (ورزقكم من الطيبات) يعني: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم. وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة (لعلكم تشكرون) أي: لكي تشكروا، والمعنى: قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن، تلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة، فتشكروا عليها. يا أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون 27 واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم 28. اللغة: الخيانة: منع الحق الذي قد ضمن التأدية فيه، وهي ضد الأمانة. وأصلها أن تنقص من ائتمنك أمانته، قال زهير: بآرزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب، ولا خلاء (1) أي: لم ينقص من فراهتها. (1) الآرزة: الشديدة المجتمع بعضها إلى بعض. أراد انها مدمجة الفقار، متداخلته، وذلك أقوى لها. والقطاف مصدر القطوف من الدواب: البطئ. (*)
[ 455 ]
الاعراب: (وتخونوا) مجزوم على النهي، وتقديره ولا تخونوا عن الأخفش، وهو في معنى قول ابن عباس. وقيل: إنه نصب على الظرف، مثل قول الشاعر: لا تنه عن خلق، وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم وهو في معنى قول السدي. النزول: قال عطا: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي: كانوا يسمعون الشئ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال الكلبي، والزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات، وأريحاء من أرض الشام، فأبي أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله وولده كانت عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسام، فأتاهم، قالوا: ما ترى يا أبا لبابة أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرائيل عليه السلام، فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما، حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد. وقال: والله لا أذوق طعاما، ولا شرابا، حتى أموت، أو يتوب الله علي ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما، ولا شرابا، حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة ! قد تيب عليك. فقال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يجزئك الثلث أن تصدق به، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام. المعنى: ثم أمرهم الله سبحانه بترك الخيانة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا
[ 456 ]
تخونوا الله والرسول) أي: لا تخونوا الله بترك فرأئضه، والرسول بترك سننه وشرائعه، عن ابن عباس. وقيل: إن من ترك شيئا من الدين وضيعه، فقد خان الله ورسوله، عن الحسن (وتخونوا أماناتكم) يعني الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، يعني الفرائض التي يقول لا تنقصوها عن ابن عباس. وقيل. إنهم إذا خانوا الله والرسول، فقد خانوا أماناتهم، عن السدي (وأنتم تعلمون) ما في الخيانة من الذم والعقاب. وقيل: وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة (واعلموا) أي: وتحققوا وأيقنوا (أنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي: بلية عليكم، إبتلاكم الله تعالى بها، فإن أبا لبابة حمله على ما فعله ماله الذي كان في أيديهم، وأولاده الذين كانوا بين ظهرانيهم (وأن الله عنده أجر عظيم) لمن أطاعه، وخرج إلى الجهاد، ولم يخن الله ورسوله، وذلك خير من الأموال والأولاد. بين سبحانه بهذه الآية أنه يختبر خلقه بالأموال والأولاد، ليتبين الراضي بقسمه، ممن لا يرضى به، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن ليظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام في قوله: (لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله تعالى يقول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا. يا أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم 29. المعنى: (يا أيها الذين آمنوا) أي: يا أيها المؤمنون (إن تتقوا الله) أي: إن تتقوا عقاب الله باتقاء معاصيه، وأداء فرائضه (يجعل لكم فرقانا) أي: هداية ونورا في قلوبكم، تفرقون بها بين الحق والباطل، عن ابن جريج، وابن زيد. وقيل معناه: يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة، عن مجاهد. وقيل. يجعل لكم نجاة، عن السدي. وقيل: يجعل لكم فتحا ونصرا كما قال: (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، عن الفراء. وقيل: يجعل لكم عزا في الدنيا، وثوابا في الآخرة، وعقوبة وخذلانا لأعدائكم، وذلا وعقابا، كل ذلك يفرق بينكم وبينهم في
[ 457 ]
الدنيا والآخرة، عن الجبائي (ويكفر عنكم سيئاتكم) التي عملتموها (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله ذو الفضل العظيم) على خلقه بما أنعم عليهم من أنواع النعم، فإذا ابتدأهم بالفضل العظيم من غير استحقاق، كرما منه وجودا، فإنه لا يمنعهم ما استحقوه بطاعاتهم له. وقيل معناه: إذا ابتدأ بنعيم الدنيا من غير استحقاق، فعليه إتمام ذلك بنعيم الآخرة باستحقاق، وغير استحقاق. النظم: قيل: اتصلت الآية بأول السورة من الأمر بالجهاد، وتقديره: إن تتقوا الله، ولم تخالفوه فيما أمركم به من الجهاد، يجعل لكم فرقانا. وقيل: إنه لما أمر بالطاعة وترك الخيانة، بين بعده ما أعده لمن امتثل أمره في الدنيا، والآخرة. وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين 30. اللغة: المكر: الميل إلى جهة الشر في خفية. قال الأزهري: المكر من الناس خب وخداع، ومن الله جزاء. وأصل المكر: الإلتفاف، من قولهم جارية ممكورة، قال ذو الرمة: عجزاء ممكورة، خمصانة قلق عنها الوشاح، وتم الجسم والقصب (1) أي: ملتفة. والفرق بين المكر والغدر أن الغدر نقض العهد الذي يجب الوفاء به، والمكر قد يكون ابتداء من غير عقد. والإثبات: الحبس، يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، وأثبته في الحرب: إذا جرحه جراحة مثقلة. النزول: قال المفسرون إنها نزلت في قصة دار الندوة وذلك أن نفرا من قريش اجتمعوا فيها، وهي دار قصي بن كلاب، وتآمروا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل، فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فصوب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم ني صورة شيخ كبير من أهل (1) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 458 ]
نجد، وخطأ الأولين. فاتفقوا على هذا الرأي، وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرائيل عليه السلام، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إلى الغار، وأمر عليا عليه السلام فبات على فراشه، فلما أصبحوا وفتشوا عن الفراش، وجدوا عليا. وقد رد الله مكرهم فقالوا: أين محمد ؟ فقال: لا أدري. فاقتصوا أثره، وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الجبل، ومروا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثا، ثم قدم المدينة. المعنى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) أي: واذكر إذ يحتال الكفار في إبطال أمرك، ويدبرون في هلاكك، وهم مشركو العرب، منهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأمية بن خلف، وغيره. (ليثبتوك) أي: ليقيدوك ويثبتوك في الوثاق، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. وقيل: ليثبتوك في الحبس. ويسجنوك في بيت، عن عطا، والسدي. وقيل معناه: ليثخنوك بالجراحة والضرب، عن أبان بن تغلب، والجبائي، وأبو حاتم، وأنشد: فقلت: ويحك ماذا في صحيفتكم ؟ قالوا: الخليفة أمسى مثبتا وجعا (أو يقتلوك أو يخرجوك) من مكة إلى طرف من أطراف الأرض. وقيل: أو يخرجوك على بعير، ويطردونه حتى يذهب في وجهه (ويمكرون ويمكر الله) أي: ويدبرون في أمرك، ويدبر الله في أمرهم، عن أبي مسلم. وقيل: ويحتالون في أمرك من حيث لا تشعر، فأحل الله بهم ما أراد من عذابه من حيث لا يشعرون، عن الجبائي. وقيل: يمكرون، والله تعالى يجازيهم على مكرهم، كما قال سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (والله خير الماكرين) لأنه لا يمكر إلا ما هو حق وصواب، وهو إنزال المكروه بمن يستحقه. والعباد قد يمكرون مكرا هو ظلم وباطل، ومكرهم الذي هو عدل لا يبلغ في المنفعة للمؤمنين مبلغ مكر الله، فلذلك قال: (خير الماكرين) وقيل معناه: خير المجازين على المكر. النظم: الآية اتصلت بقوله (واذكروا إذ أنتم قليل) فتقديره: واذكروا تلك الحال، واذكروا ما مكر الكفار بمكة، عن أبي مسلم وغيره. وقيل: إنها تتصل بما قبلها من قوله (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) يعني: يجعل لكم نجاة كما جعل
[ 459 ]
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه النجاة من مكر مشركي قريش، فاذكروا ذلك. وإذا تتلى عليهم ءاياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين 31 وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم 32 وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون 33 وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون 34. الاعراب: (هو الحق): هو فصل لا محل له من الإعراب، ويسميه الكوفيون عمادا و (الحق): منصوب بأنه خبر كان، ويجوز فيه الرفع، ولكن لم يقرأ به. واللام في قوله (ليعذبهم): لام الجحد، وأصلها لام الإضافة، وإنما دخلت في النفي، ولم تدخل في الإيجاب، لتعلق الخبر بحرف النفي، كما دخلت الباء في خبر ما ولم تدخل في الإيجاب وموضع (أن) من قوله: (أن لا يعذبهم الله): نصب لأن تقديره: وما لهم في أن لا يعذبهم الله، أي شئ لهم في ذلك، لكن لما حذف الجار، عمل معنى الفعل الذي هو الإستقرار ونحوه، وإنما جاز الحذف مع إن، ولم يجز مع المصدر، لطول الكلام بالصلة اللازمة من الفعل والفاعل، وليس كذلك المصدر. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفار ومباهتتهم للحق، فقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) من القرآن (قالوا قد سمعنا) أي: أدركنا بآذاننا، فإن السماع إدراك الصوت بحاسة الأذن (لو نشاء لقلنا مثل هذا) إنما قالوا ذلك مع ظهور عجزهم عن الإتيان بسورة مثله بعد التحدي، عداوة وعنادا، وقد تحمل الإنسان شدة العداوة على أن يقول ما لا يعلم. وقيل: إنما قالوا ذلك لأنه لم ينقطع طمعهم من القدرة عليه في المستقبل، إذ القرآن كان مركبا من كلمات جارية على ألسنتهم، فطمعوا أن يأتي لهم في ذلك المستقبل، بخلاف صيرورة العصا حية، في أنه قد
[ 460 ]
انقطع طمعهم عن الإتيان بمثله، إذ جنس ذلك لم يكن في مقدورهم. (إن هذا إلا أساطير الأولين) معناه ما هذه إلا أحاديث الأولين تتلوها علينا، وكان قائل هذا النضر بن الحارث بن كلدة، وأسر يوم بدر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعقبة بن أبي معيط قال: يا علي ! علي بالنضر أبغيه، فأخذ علي بشعره، وكان رجلا جميلا له شعر، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ! أسألك بالرحم بيني وبينك إلا أجريتني كرجل من قريش، إن قتلتهم قتلتني، وإن فاديتهم فاديتني ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا رحم بيني وبينك، قطع الله الرحم بالإسلام، قدمه يا علي فاضرب عنقه. فضرب عنقه، ثم قال: يا علي ! علي بعقبة. فأحضر، فقال: يا محمد ألم تقل ! لا تصبر قريش ؟ أي لا يقتلون صبرا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وأنت من قريش، إنما أنت علج من أهل صفورية، والله لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له، قال: فمن للصبية ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: النار. ثم قال: حن قدح ليس منها. قال سعيد بن جبير: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ثلاثة نفر من قريش صبرا: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط (وإذ قالوا) أي: واذكر يا محمد إذ قالوا أي: قال هؤلاء الكفار (اللهم إن كان هذا) الذي جاء به محمد (هو الحق من عندك) دون ما نحن عليه (فأمطر علينا حجارة من السماء) كما أمطرته على قوم لوط (أو ائتنا بعذاب أليم) أي: شديد مؤلم، والقائل لذلك النضر بن الحارث أيضا، عن سعيد بن جبير، ومجاهد. وروي في الصحيحين أن هذا من قول أبي جهل. ويسأل هاهنا فيقال: لم طلبوا العذاب في الله بالحق، وإنما يطلب الخير والثواب والأجر ؟ والجواب: إنهم كانوا يعتقدون أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحق من الله، وإذا لم يكن حقا لم يصبهم شئ. ويقال: لم قال: أمطر من السماء، والإمطار لا يكون إلا من السماء ؟ وفي هذا جوابان أحدهما: إنه يجوز أن يكون إمطار الحجارة من مكان عال غير السماء والثاني: إنه على طريق البيان بمن. ثم قال سبحانه: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) ذكر سبحانه سبب إمهالهم ومعناه: وما كان الله يعذب أهل مكة بعذاب الإستئصال، وأنت مقيم بين أظهرهم لفضلك وحرمتك يا محمد، فإن الله تعالى بعثك رحمة للعالمين، فلا يعذبهم إلا بعد
[ 461 ]
أن يفعلوا ما يستحقون به سلب النعمة بإخراجك عنهم. قال ابن عباس: إن الله سبحانه لم يعذب قومه حتى أخرجوه منها (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) معناه: وما كان الله يعذبهم وفيهم بقية من المؤمنين بعد خروجك من مكة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة، بقيت فيها بقية من المؤمنين لم يهاجروا بعذر، وكانوا على عزم الهجرة، فرفع الله العذاب عن مشركي مكة، لحرمة استغفارهم، فلما خرجوا أذن الله في فتح مكة، عن ابن عباس، وعطية، والضحاك، واختاره الجبائي. وقيل معناه: وما يعذبهم الله بعذاب الإستئصال في الدنيا، وهم يقولون: غفرانك ربنا، وإنما يعذبهم على شركهم في الآخرة، عن ابن عباس، في رواية أخرى، ويزيد بن رومان، وأبي موسى، ومحمد بن مبشر. وفي تفسير علي بن إبراهيم: لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش: إني أقتل جميع ملوك الدنيا، وأجري الملك إليكم، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم. فقال أبو جهل: (اللهم إن كان هذا هو الحق) الآية حسدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: غفرانك اللهم ربنا، فأنزل الله (وما كان الله ليعذبهم) الآية. ولما هموا بقتل رسول الله، وأخرجوه من مكة، أنزل الله سبحانه: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الآية فعذبهم الله بالسيف يوم بدر، وقتلوا. وقيل معناه: إنهم لو استغفروا لم يعذبوا، وفي ذلك استدعاء إلى الإستغفار عن ابن عباس في رواية أخرى، والسدي، وقتادة، وابن زيد. قال مجاهد: وفي أصلابهم من يستغفر، وقال عكرمة: وهم يسلمون، فأراد بالإستغفار الإسلام. وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما، فدونكم الآخر، فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية. وروي ذلك عن قتادة أيضا (وما لهم ألا يعذبهم الله) معناه: ولم لا يعذبهم الله، وأي أمر يوجب ترك تعذيبهم (وهم يصدون عن المسجد الحرام) أي: يمنعون عن المسجد الحرام أولياءه، فحذف لأن ما بعده يدل عليه (وما كانوا أولياءه) أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام، وإن سعوا في عمارته (إن أولياؤه إلا المتقون
[ 462 ]
ولكن أكثرهم لا يعلمون) معناه: وما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون، عن الحسن، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: معناه وما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلا المتقون الذين يتركون معاصي الله ويجتنبونها. والأول أحسن. ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين وفي الأولى نفي تعذيبهم، وفي الثانية، إثبات ذلك ؟ وجوابه على ثلالة أوجه أحدها: إن المراد بالأول عذاب الإصطلام والإستئصال، كما فعل بالأمم الماضية، وبالثاني عذاب القتل بالسيف، والأسر، وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم والآخر: إنه أراد: وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة، ويريد بالأول عذاب الدنيا، عن الجبائي والثالث: إن الأول استدعاء للإستغفار يريد أنه لا يعذبهم دنيا ولا آخرة إذا استغفروا وتابوا، فإذا لم يفعلوا عذبوا. ثم بين أن استحقاقهم العذاب بصدهم الناس عن المسجد الحرام. وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون 35. القراءة: يروى في الشواذ عن عاصم: (وما كان صلاتهم) بالنصب (إلا مكاء وتصدية) بالرفع. وروي أيضا عن أبان بن تغلب. الحجة: قال ابن جني: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، وإنما جاءت منه أبيات شاذة، لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد بالباب، ولا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا، وإنما تريد واحدا من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في (مكاء وتصدية) جوازا قريبا، كأنه قال: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل، ولا يكون مثل قولك كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية، وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول ما كان إنسان خيرا منك، ولا تجيز كان إنسان خيرا منك. اللغة: المكاء: الصفير. والمكاء: طائر يكون بالحجاز له صفير بالتشديد، يقال: مكا، يمكو، مكاء، إذا صفر بفيه، قال عنترة:
[ 463 ]
وحليل غانية تركت مجدلا تمكو فريصته كشدق الاعلم (1) والتصدية: التصفيق وهو ضرب اليد على اليد، ومنه الصدى: صوت الجبل، ونحوه. المعنى: ثم وصف سبحانه صلاتهم، فقال: (وما كان صلاتهم عند البيت) يعني: هؤلاء المشركين الصادين عن المسجد الحرام (إلا مكاء وتصدية) قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون، وصلاتهم: معناه دعاؤهم، أي: يقيمون المكاء والتصدية مكان الدعاء والتسبيح. وقيل: أراد ليس لهم صلاة ولا عبادة، وإنما يحصل منهم ما هو ضرب من اللهو واللعب، فالمسلمون الذين يطيعون الله ويعبدونه عند هذا البيت، أحق بمنع المشركين منه. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه، فيصفران، ورجلان عن يساره يصفقان بأيديهما، فيخلطان عليه صلاته، فقتلهم الله جميعا ببدر، ولهم يقول ولبقية بني عبد الدار (فذوقوا العذاب) يعني: عذاب السيف يوم بدر، عن الحسن، والضحاك. وقيل: عذاب الآخرة. على هذا يكون في الكلام حذف أي: يقال لهم إذا عذبوا ذوقوا العذاب (بما كنتم تكفرون) بتوحيد الله. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون 36 ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون 37. اللغة: الحسرة: الغم بما انكشف من فوت استدراك الخطيئة، وأصله الكشف من قولهم حسر عن ذراعه، يحسر، حسرا. والتمييز: إخراج الشئ عما خالفه مما (1) الحليل: الزوج. الغانية: المرأة التي غنيت بحسنها وجمالها عن الزينة. جدله فتجدل. رماه بالأرض فارتمى شدق: طفطفة الفم من باطن الخدين. الأعلم. مشقوق الشفة العليا. يصف رجلا طعنه. (*)
[ 464 ]
ليس منه، وإلحاقه بما هو منه، يقال: ميزه، ويميزه، ومازه، ويميزه، فامتاز، وانماز. الأزهري. الركم. جمعك شيئا فوق شئ، حتى تجعله ركاما مركوما مرتكما، وهو المتراكب بعضه فوق بعض. النزول: قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاشهم من العرب، وفيهم يقول كعب بن مالك: فجئنا إلى موج من البحر وسطهم أحابيش منهم حاسر، ومقنع ثلاثة آلاف، ونحن بقية ثلاث مئين إن كثرنا فأربع عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا، أبو جهل بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحرث بن عامر بن نوفل، والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم واحد منهم عشر جزر، وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، عن الكلبي، والضحاك، ومقاتل. وقيل لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم (1) إلى مكة، مشى صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، في رجال من قريش، أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش ! إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال الذي أفلت، على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، رواه محمد بن إسحاق، عن رجاله. المعنى: ثم ذكر سبحانه إنفاق المشركين أموالهم في معصية الله تعالى، فقال: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم) في قتال الرسول والمؤمنين (ليصدوا عن سبيل الله) أي: ليمنعوا بذلك الناس عن دين الله الذي أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما قال: (ليصدوا)، وإن كانوا لم يقصدوا ذلك، من حيث لم يعلموا أن ذلك دين (1) أي منهزموهم. (*)
[ 465 ]
الله، لأن فعلهم ذلك كان صدا عن دين الله، وإن لم يقصدوا ذلك (فسينفقونها) معناه: فسيقع منهم الإنفاق لها (ثم تكون عليهم حسرة) معناه: ثم ينكشف لهم، ويظهر من ذلك الإنفاق، ما يكون حسرة عليهم، من حيث أنهم لا ينتفعون بذلك الإنفاق، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، بل يكون وبالا عليهم. (ثم يغلبون) في الحرب أي: يغلبهم المؤمنون. وفي هذا دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أخبر بالشئ قبل كونه، فوجد على ما أخبر به (والذين كفروا إلى جهنم يحسرون) أي: يجمعون إلى النار بعد تحسرهم في الدنيا، وقوع الظفر بهم، وقتلهم، وإنما أعاد قوله (والذين كفروا) لأن جماعة ممن أنفقوا أسلموا بعد، فخص منهم من مات على كفره بوعيد الآخرة (ليميز الله الخبيث من الطيب) معناه: ليميز الله نفقة الكافرين من نفقة المؤمنين (ويجعل الخبيث بعضه على بعض) أي: ويجعل نفقة المشركين بعضها فوق بعض (فيركمه) أي: فيجمعه (جميعا) في الآخرة (فيجعله في جهنم) فيعاقبهم به كما قال (يوم يحمى عليها في نار جهنم) الآية. وقيل معناه: ليميز الله الكافر من المؤمن في الدنيا بالغلبة، والنصر، والأسماء الحسنة، والأحكام المخصوصة، وفي الآخرة بالثواب والجنة، عن أبي مسلم. وقيل: بأن يجعل الكافر في جهنم، والمؤمن في الجنة، ويجعل الخبيث بعضه على بعض في جهنم، يضيقها عليهم فيركمه جميعا أي: يجمع الخبيث حتى يصير كالسحاب المركوم، بأن يكون بعضهم فوق بعض في النار مجتمعين فيها، فيجعله في جهنم أي: فيدخله جهنم (أولئك هم الخاسرون) قد خسروا أنفسهم لأنهم اشتروا بإنفاق الأموال في المعصية عذاب الله في الآخرة. قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين 38 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون يصير 39 وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير 40. اللغة: الإنتهاء: الإقلاع عن الشئ لأجل النهي، يقال: نهاه عن كذا
[ 466 ]
فانتهى. والسنة، والطريقة، والسيرة، نظائر قال: فلا تجز عن من سنة أنت سرتها، فأول راضي سنة من يسيرها والسلوف: التقدم. والتولي عن الدين: الذهاب عنه إلى خلافه. والتولي فيه هو الذهاب إلى جهة الحق ومتابعته. الاعراب: (وإن تولوا) شرط. وقوله: (فاعلموا أن الله مولاكم): أمر في موضع الجواب، وإنما جاز ذلك لأن فيه معنى الخبر، فكأنه قال: فواجب عليكم العلم بأن الله مولاكم. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام بدعائهم إلى التوبة والإيمان فقال: (قل) يا محمد (للذين كفروا إن ينتهوا) أي: يتوبوا عما هم عليه من الشرك، ويمتنعوا منه (يغفر لهم ما قد سلف) أي: ما قد مضى من ذنوبهم. وقيل معناه: إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة، يغفر لهم ما قد سلف من المعاقبة (وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) معناه: وإن يعودوا إلى القتال، وأصروا على الكفر، فقد مضت سنة الله في آبائكم وعادته في نصر المؤمنين، وكبت أعداء الدين، والأسر والإسترقاق، وإنما ذكر ذلك تحذيرا لهم، وأضاف السنة إليهم لأنها كانت تجري عليهم. وقال: (سنة من قد أرسلنا)، فأضاف السنة إلى الرسل، لأنها كانت تجري على أيديهم، ثم قال: (ولا تجد لسنتنا تحويلا): فأضاف إلى نفسه لأنه هو المجري لها (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة): هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار حتى لا تكون فتنة أي: شرك، عن ابن عباس، والحسن. ومعناه: حتى لا يكون كافر بغير عهد، لأن الكافر إذا كان بغير عهد، كان عزيزا في قومه، يدعو الناس إلى دينه، فتكون الفتنة في الدين. وقيل: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه. (ويكون الدين كله لله) أي: ويجتمع أهل الحق وأهل الباطل على الدين الحق فيما يعتقدونه ويعملون به أي: ويكون الدين حينئذ كله لله باجتماع الناس عليه. وروى زرارة، وغيره، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعد، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن
[ 467 ]
دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليل، حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض، كما قال الله تعالى: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) (فإن انتهوا) عن الكفر (فإن الله بما يعملون بصير) معناه: فإن رجعوا عن الكفر، وانتهوا عنه، فإن الله يجازيهم بأعمالهم مجازاة البصير بها، باطنها وظاهرها، لا يخفى عليه منها شئ (وإن تولوا) عن دين الله وطاعته (فاعلموا) أيها المؤمنون (أن الله مولاكم) أي. ناصركم، وسيدكم، وحافظكم. (نعم المولى) أي: نعم السيد والحافظ (ونعم النصير) هو ينصر المؤمنين ويعينهم على طاعته، ولا يخذل من هو ناصره. واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير 41. اللغة: الغنيمة: ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال، وهي هبة من الله تعالى للمسلمين. والفئ: ما أخذ بغير قتال، وهو قول عطاء، ومذهب الشافعي، وسفيان، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وقال قوم: الغنيمة والفئ واحد، وادعوا أن هذه الآية ناسخة للتي في الحشر من قوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الآية. واليتيم: الذي مات أبوه وهو صغير قبل البلوغ، وكل حيوان يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإنه من قبل أبيه. والمسكين: الذي تحل له الصدقة، وهو المحتاج الذي من شأنه أن تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني. وابن السبيل: المسافر المنقطع به في سفره، وإنما قيل ابن السبيل، لأن السبيل أخرجه إلى هذا المستقر، كما أخرجه أبوه إلى مستقره. الاعراب: (فأن لله خمسه): قيل في فتح أن قولان أحدهما: إن تقديره فعلى أن لله خمسه، ثم حذف حرف الجر والآخر: إنه عطف على أن الأولى، وحذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، وتقديره: إعلموا أنما غنمتم من شئ يجب قسمته، فاعلموا أن لله خمسه. المعنى: ثم بين سبحانه حكم الغنيمة، فقال سبحانه مخاطبا للمسلمين:
[ 468 ]
(واعلموا أنما غنمتم من شئ) أي: مما قل أو كثر (فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس، ومن يستحقه على أقوال: أحدها: ما ذهب إليه أصحابنا وهو أن الخمس يقسم على ستة أسهم: فسهم لله، وسهم للرسول، وهذان السهمان مع سهم ذي القربى للإمام القائم مقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسهم ليتامى آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، لا يشركهم في ذلك غيرهم، لأن الله سبحانه حرم عليهم الصدقات، لكونها أوساخ الناس، وعوضهم من ذلك الخمس. وروى ذلك الطبري، عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ومحمد بن علي الباقر عليهما السلام، وروي أيضا عن أبي العالية، والربيع، أنه يقسم على ستة أسهم، إلا أنهما قالا سهم للكعبة، والباقي لمن ذكره الله. وهذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب، ويقويه. والثاني: إن الخمس يقسم على خمسة أسهم، وإن سهم الله والرسول واحد، ويصرف هذا السهم إلى الكراع (1)، والسلاح، وهو المروي عن ابن عباس، وإبراهيم وقتادة وعطاء. والثالث: أن يقسم على أربعة أسهم: سهم ذي القربى لقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأسهم الثلاثة لمن ذكروا بعد ذلك من سائر المسلمين، وهو مذهب الشافعي. والرابع: إنه يقسم على ثلاثة أسهم لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته عندهم، لأن الأنبياء لا يورثون فيما يزعمون، وسهم ذي القربى قد سقط لأن أبا بكر وعمر لم يعطيا سهم ذي القربى، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليهما، وهو مذهب أبي حنيفة، وأهل العراق، ومنهم من قال: لو أعطى فقراء ذوي القربى سهما والآخرون ثلاثة أسهم جاز، ولو جعل ذوو القربى أسوة الفقراء، ولا يفرد لهم سهم جاز. واختلف في ذوي القري، فقيل: هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب، لأن هاشما لم يعقب إلا منه، عن ابن عباس، ومجاهد، وإليه ذهب أصحابنا. وقيل: هم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب بن عبد مناف، وهو مذهب الشافعي، وروي ذلك عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال أصحابنا: إن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب، وأرباح التجارات، وفي (1) الكراع: اسم لجميع الخيل. (*)
[ 469 ]
الكنوز، والمعادن، والغوص، وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية. فإن في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة. ونعود إلى تأويل الآية قوله: (فأن لله خمسه) قالوا: افتتح الكلام بالله على جهة التيمن والتبرك، لأن الأشياء كلها له، عز وجل، والمراد به مصروف إلى الجهات المقربة إلى الله تعالى، (وللرسول). قالوا: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سهم من خمسة أسهم، يصرفه في مؤنته، وما فضل من ذلك يصرفه إلى الكراع، والسلاح، والمصالح، ولذي القربى. قال بعضهم: سقط هذان السهمان بموت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذكرناه. قال الشافعي: يصرف سهم الرسول إلى الخيل والكراع في سبيل الله، وسهم ذي القربى لبني هاشم، وبني المطلب، يستحقونه بالإسم والنسب، فيشترك فيه الغني والفقير. وروي عن الحسن، وقتادة: إن سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربي للإمام القائم من بعده، ينفقه على نفسه، وعياله، ومصالح المسلمين، وهو مثل مذهبنا (واليتامى والمساكين وابن السبيل) قالوا: إن هذه الأسهم الثلاثة لجميع الناس، وإنه يقسم على كل فريق منهم بقدر حاجتهم، وقد بينا أن عندنا يختص باليتامى من بني هاشم، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم (إن كنتم آمنتم بالله) قال الزجاج: يجوز أن يكون (إن كنتم آمنتم) معلقة بقوله (فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) إن كنتم آمنتم بالله. (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) أي: فأيقنوا أن الله ناصركم إن كنتم قد شاهدتم من نصره ما قد شاهدتم، ويجوز أن يكون (إن كنتم آمنتم بالله): معناه إعلموا (أن ما غنمتم من شئ)، (فأن لله خمسه وللرسول) يأمران فيه بما يريدان (إن كنتم آمنتم بالله) فاقبلوا ما أمرتم به من الغنيمة، واعملوا به (وما أنزلنا على عبدنا) أي: وآمنتم بما أنزلنا على محمد من القرآن. وقيل: من النصر. وقيل: من الملائكة أي: علمتم أن ظفركم على عدوكم كان بنا (يوم الفرقان)، يعني: يوم بدر لأن الله تعالى فرق فيه بين المسلمين والمشركين بإعزاز هؤلاء وقمع أولئك (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وهم ثلاثمائة وبضعة عشر
[ 470 ]
رجلا، وجمع الكافرين وهم بين تسعمائة إلى ألف من صناديد قريش ورؤسائهم، فهزموهم وقتلوا منهم زيادة على السبعين، وأسروا منهم مثل ذلك، وكان يوم بدر يوم الجمعة، لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، من سنة اثنين من الهجرة، على رأس ثمانية عشر شهرا. وقيل: كان التاسع عشر من شهر رمضان، وقد روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (والله على كل شئ قدير) قد مر تفسيره في سورة البقرة، وفي (تفسير الثعلبي): قال المنهال بن عمرو: سألت علي بن الحسين عليهما السلام، وعبد الله بن محمد بن علي، عن الخمس، فقالا: هو لنا. فقلت لعلي: إن الله يقول (واليتامى والمساكين وابن السبيل) فقال: يتامانا ومساكيننا. وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس، يسأله عن موضع الخمس، فكتب إليه ابن عباس: أما الخمس فإنا نزعم أنه لنا، ويزعم قومنا أنه ليس لنا، فصبرنا. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله تعالى لما حرم علينا الصدقة، أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا حلال، والكرامة لنا حلال). إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم 42 إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور 43 وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور 44. القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (بالعدوة) بكسر العين. والباقون بضمها.
[ 471 ]
وقرأ نافع، وأبو بكر، عن عاصم، والبزي، عن ابن كثير: (حيي) بإظهار اليائين، والباقون (حي) بالإدغام. الحجة: الكسر والضم في (العدوة) لغتان. قال الراعي في الكسر: وعينان حم مآقيهما كما نظر العدوة الجؤذر (1) وقال أوس بن حجر في الضم: وفارس لا يحل الحي عدوته، ولوا سراعا، وما هموا بإقبال ومن أدغم (حي): فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى ردوا إذا أخبروا عن جماعة قالوا حييوا، فخففوا، وقد جاء مدغما نحو حيوا، قال: عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامة (2) ومن اختار الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه، وهو يحيا، فأجرى الماضي على شاكلة المستقبل. اللغة: العدوة: شفير الوادي، وللوادي عدوتان وهما جانباه. والجمع عدى وعدي. والدنيا: تأنيث الأدنى، من دنوت. والقصوى: تأنيث الأقصى. وما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو، فإن العرب تحوله إلى الياء، نحو الدنيا، والعليا، استثقلوا الواو مع ضم الأول، إلا أن أهل الحجاز، قالوا: القصوى، فأظهروا الواو، وهو نادر. وغيرهم يقولون القصيا والأقصى: الأبعد. والقصا: البعد. وقصوت منه أقصو أي: تباعدت. والركب: جمع راكب، مثل شارب وشرب، وصاحب وصحب. والعلو: قرار تحته قرار. والسفل: قرار فوقه قرار. والنوم: ضرب من السهو يزول معه معظم الحس. والمنام: موضع النوم، كالمضطجع: موضع الإضطجاع. والقلة: نقصان عن عدة، كما أن الكثرة، زيادة على عدة، والفشل: ضعف من فزع والفعل منه فشل يفشل. والتنازع: الإختلاف الذي يحاول كل واحد نزع صاحبه مما هو عليه. والسلامة: النجاة من الآفة. وأسلم (1) الحمة: السواد. والمآق جمع المؤق: مجرى الدمع من العين. والعدوة: المكان المرتفع. والجؤذر: بقر الوحش. (2) عي بأمره: لم يهتد لوجه مراده. (*)
[ 472 ]
الإنسان: دخل في السلامة. وأسلمه إسلاما: دفعه عن السلامة. وسلمه: إذا نجاه. واستلم الحجر: إذا طلب لمسه على السلامة. والصدر: الموضع الأجل، يكون فيه القلب. وصدر المجلس: أجله، لأنه موضع الرئيس. والإلتقاء: اجتماع الإتصال، لأن الإجتماع قد يكون في معنى من غير اتصال كاجتماع القوم في الدار، وإن لم يكن هناك اتصال. ويقال للعسكرين إذا تصافا: التقيا، لوقوع العين على العين. الاعراب: إنما نصب (أسفل): لأن تقديره بمكان أسفل، أو في مكان أسفل، فهو في موضمع جر، فهو غير منصرف. ويجوز أن يكون منصوبا على الظرف، على تقدير: والركب مكانا أسفل منكم. قال الزجاج: ويجوز أن ترفع (أسفل) على أنك تريد والركب أسفل منكم أي: أشد تسفلا. المعنى: ثم بين سبحانه نصرته للمسلمين ببدر، فقال سبحانه: (إذ أنتم) أيها المسلمون (بالعدوة الدنيا) قال ابن عباس: يريد والله قدير على نصركم وأنتم (1) أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة (وهم) يعني المشركين أصحاب النفير (بالعدوة القصوى) أي: نزول بالشفير الأقصى من المدينة (والركب) يعني: أبا سفيان وأصحابه، وهم العير (أسفل منكم) أي: في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر، قال الكلبي: كانوا على شط البحر بثلاثة أميال، فذكر الله سبحانه مقاربة الفئتين من غير ميعاد، وما كان المسلمون فيه من قلة الماء والرمل الذي تسوخ فيه الأرجل مع قلة العدد والعدة، وما كان المشركون فيه من كثرة العدد والعدة، ونزولهم على الماء، والعير أسفل منهم، وفيها أموالهم. ثم مع هذا كله نصر المسلمين عليهم، ليعلم أن النصر من عنده سبحانه (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) معناه: لو تواعدتم أيها المسلمون للإجتماع في الموضع الذي اجتمعتم فيه، ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم، لتأخرتم فنقضتم الميعاد عن ابن إسحاق. وقيل معناه: لاختلفتم بما يعرض من العوائق والقواطع، فذكر الميعاد لتأكيد أمره في الإتفاق، ولولا لطف الله مع ذلك، لوقع على الإختلاف، كما قال الشاعر: (1) [ أقلة ]. (*)
[ 473 ]
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) معناه: ولكن قدر الله تعالى التقاءكم، وجمع بينكم وبينهم على غير ميعاد منكم، ليقضي الله أمرا كان كائنا لا محالة، وهو إعزاز الدين وأهله، وإذلال الشرك وأهله ومعنى (ليقضي): ليظهر قضاءه، إذ الله تعالى قد قضى ما هو كائن. ومعنى قوله (مفعولا): أي واجبا كونه لا محالة، يقال للأمر الكائن لا محالة: هذا أمر مفروغ منه. وقيل معناه: ليتم أمرا كان في علمه مفعولا لا محالة، من إظهار الإسلام، وإعلاء كلمته على عبدة الأصنام. (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) أي: فعل ذلك ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليه بما رأى من المعجزات الباهرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حروبه وغيرها، ويعيش من عاش منهم، بعد قيام الحجة عليه. وقيل: إن البينة هي وعد الله من النصر للمؤمنين على الكافرين، صار ذلك حجة على الناس في صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما آتاهم به من عند الله. وقيل معناه: ليهلك من ضل بعد قيام الحجة عليه، فتكون حياة الكافر وبقاؤه هلاكا له، ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجة عليه، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. وقوله (عن بينة) يعني: بعد بيان. (وإن الله لسميع) لأقوالهم (عليم) بما في ضمائرهم، فهو يجازيهم بحسب ما يكون منهم (إذ يريكهم الله) العامل في إذ ما تقدم وتقديره أتاكم النصر إذ كنتم بشفير الوادي إذ يريكهم الله. وقيل: العامل فيه محذوف، وتقديره واذكر يا محمد إذ يريكهم الله: أي يريك الله يا محمد هؤلاء المشركين الذين قاتلوكم يوم بدر (في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر) معناه: يريكهم الله في نومك قليلا لتخبر المؤمنين بذلك، فيجترئ المؤمنون على قتالهم، وهذا قول أكثر المفسرين، وهذا جائز لأن الرويا في النوم هي تصور يتوهم معه الروية في اليقظة، ولا يكون إدراكا، ولا علما، بل كثير مما يراه الإنسان في نومه يكون تعبيره بالعكس مما رآه، كما يكون تعبير البكاء ضحكا. قال الرماني: ويجوز أن يري الله الشئ في المنام على خلاف ما هو به، لأن الرؤيا في المنام تخيل للمعنى من غير قطع، وان جامعه قطع من الإنسان على
[ 474 ]
المعنى، وإنما ذلك على مثل ما يخيل السراب ماء من غير قطع على أنه ماء، ولا يجوز أن يلهمه اعتقادا للشئ على خلاف ما هوبه، لأن ذلك يكون جهلا لا يجوز أن يفعله الله سبحانه. والرؤيا على أربعة اقسام: رؤيا من الله عز وجل، ولها تأويل ورؤيا من وساوس الشيطان. ورؤيا من غلبة الأخلاط. ورؤيا من الأفكار، وكلها أضغاث أحلام إلا الرؤيا من قبل الله سبحانه تعالى التي هي إلهام في المنام. ورؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه كانت بشارة له وللمؤمنين بالغلبة. وقال الحسن: معنى قوله: (في منامك) في موضع نومك أي: في عينك التي تنام بها. وليس من الرؤيا في النوم، وهو قول البلخي، وهذا بعيد لأنه خلاف الظاهر (ولو أراكهم كثيرا) على ما كانوا عليه، لجبنتم عن قتالهم، وضعفتم، ولتنازعتم في أمر القتال، فكان يقول بعضكم نقاتلهم، وبعض آخر يخالفونهم، ويقول بعضكم لبعض: تقدم أنت في القتال، ويتأخر هو بنفسه (ولكن الله سلم) أي: سلم المؤمنين عن الفشل، والتنازع، واختلاف الكلمة، واضطراب الأمر بلطفه لهم، وإحسانه إليهم، حتى بلغوا ما أرادوه من عدوهم (إنه عليم بذات الصدور) أي: بما في قلوبكم يعلم أنكم لو علمتم كثرة عدوكم، لرغبتم عن القتال (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) الكاف، والميم: كناية عن المؤمنين، والهاء، والميم كناية عن المشركين. أضاف الرؤيا في النوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا حقا، وأضاف رؤية العين إليهم. قلل الله المشركين في أعين المؤمنين، ليشتد بذلك طمعهم فيهم، وجرأتهم عليهم، وقلل المؤمنين في أعين المشركين، لئلا يتأهبوا لقتالهم، ولا يكترثوا بهم، فيظفر بهم المؤمنون، وذلك قوله تعالى (ويقللكم في أعينهم). وقد وردت الرواية عن ابن مسعود قال: قلت لرجل بجنبي: أتراهم سبعين رجلا. فقال: هم قريب من مائة. وقد روي أن أبا جهل كان يقول: خذوهم بالأيدي أخذا، ولا تقاتلوهم. ومتى قيل: كيف قللهم الله في أعينهم مع رؤيتهم لهم ؟ قالوا: فالقول إنه يجوز أن يكون ذلك لبعض الأسباب المانعة من الرؤية، إما بغبار، أو ما شاكله، فتخيلوهم بأعينهم قليلا من غير رؤية عن الصحة لجميعهم، وذلك لطف من ألطاف الله تعالى.
[ 475 ]
(ليقضي الله أمرا كان مفعولا) إنما كرره سبحانه مع ذكره في الآية الأولى، لتكرر الفائدة لأن المعنى في الآية الأولى: جمعكم من غير ميعاد، ليقضي أمرا مفعولا من الإلتقاء على تلك الصفة، والمعنى هنا: إنه قلل كل فريق في عين صاحبه، ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز الدين بجهادكم. وقيل: أراد بالأول: الوعد بالنصرة يوم بدر. وبالثاني: الإستمرار على النصر. وقيل: إنما كرر للتأكيد. وإنما قال. (كان مفعولا) والمعنى يكون مفعولا في المستقبل، لتحقيق كونه لا محالة، حتى صار بمنزلة ما قد كان لعلمه سبحانه أنه كائن لا محالة (وإلى الله ترجع الأمور) مر معناه. يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 45 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط 47. اللغة: الريح: الدولة قال عبيد بن الأبرص: كما حميناك يوم النعف من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد (1) أي: من عزة ودولة. والبطر: الخروج عن موجب النعمة من شكرها. وأصل البطر: الشق. ومنه البيطار: لأنه يشق اللحم بالمبضع. والرياء: إظهار الجميل ليرى مع إبطان القبيح. الاعراب: (فتفشلوا): منصوب بإضمار أن على معنى جواب النهي، ولذلك عطف عليه، (وتذهب)، (ويصدون) في محل النصب بالعطف على قوله (بطرا ورئاء الناس) وهما مصدران وضعا موضع الحال، والمعنى يبطرون ويراؤون، ويصدون، ولا يجوز أن يكون عطفا على (خرجوا) إذ لا يعطف مستقبل على ماض. (1) النعف: المكان المرتفع في اعتراض. وشطب. جبل في ديار بني أسد. (*)
[ 476 ]
المعنى: ثم أمر سبحانه بالقتال والثبات في الحرب، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) أي: جماعة كافرة (فاثبتوا) لقتالهم، ولا تنهزموا، وإنما أطلق الفئة، لأن من المعلوم أن المؤمن لا يقاتل الفئة الكافرة أو الباغية، فحذف للإيجاز (واذكروا الله كثيرا) مستعينين به على قتالهم، ومتوقعين النصر من قبله عليهم. وقيل معناه: واذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا، والثواب في الآخرة، ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال (لعلكم تفلحون) أي: لكي تفلحوا وتنجحوا بالنصر والظفر بهم، وبالثواب عند الله يوم القيامة. (وأطيعوا الله ورسوله) فيما يأمرانكم (ولا تنازعوا فتفشلوا) أي: لا تتنازعوا في لقاء العدو، ولا تختلفوا فيما بينكم، فتجبنوا عن عدوكم، وتضعفوا عن قتالهم (وتذهب ريحكم) معناه: تذهب صولتكم وقوتكم. وقال مجاهد: نصرتكم، وقال الأخفش: دولتكم. والريح هاهنا كناية عن نفاذ الأمر، وجريانه على المراد، تقول العرب: هبت ريح فلان: إذا جرى أمره على ما يريد. وركدت ريحه: إذا أدبر أمره. وقيل: إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله. عن قتادة وابن زيد ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). (واصبروا) على قتال الأعداء (إن الله مع الصابرين) بالنصر والمعونة (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا) أي: بطرين يعني قريشا خرجوا من مكة ليحموا عيرهم، فخرجوا معهم بالقيان والمعازف، يشربون الخمور، وتعزف عليهم القيان (ورئاء الناس) قيل: إنهم كانوا يدينون بعبادة الأصنام فلما أظهروا التقرب بذلك إلى الناس، كانوا مرائين. وقيل: إنهم وردوا بدرا ليروا الناس أنهم لا يبالون بالمسلمين، وفي قلوبهم من الرعب ما فيه، فسمى الله سبحانه ذلك رئاء (ويصدون عن سبيل الله) أي: ويمنعون غيرهم عن دين الله (والله بما يعملون محيط) أي: عالم بأعمالهم، فيجازيهم عليها، ولا يخفى عليه منها شئ. القصة: قال ابن عباس: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش أن ارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم بها ثلاثا، وننحر الجزر ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح.
[ 477 ]
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب. المعنى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) دخلت الواو عطفا على حال المشركين في خروجهم بطرا ورئاء الناس، يعني وفي وقت تزيين الشيطان أعمالهم. وقيل: إنه يعني واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين أعمالهم أي: حسنها في نفوسهم، وذلك أن إبليس حسن لقريش مسيرهم إلى بدر لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) أي: لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم وقوتكم (وإني) مع ذلك (جار لكم) أي: ناصر لكم، ودافع عنكم السوء. وقيل معناه: وإني عاقد لكم الأمان من عدوكم من قوله: وهو يجير ولا يجار عليه (فلما تراءت الفئتان) أي: التقت الفرقتان (نكص على عقبيه) أي: رجع القهقرى منهزما وراءه (وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون) أي: رجعت عما كنت ضمنت لكم من الأمان والسلامة، لأني أرى من الملائكة الذين جاؤوا لنصر المسلمين ما لا ترون، وكان إبليس يعرف الملائكة وهم كانوا يعرفونه (إني أخاف الله) أي: أخاف عذاب الله على أيدي من أراهم (والله شديد العقاب) لا يطاق عقابه. وقيل معناه: إني أخاف أن يكون قد حل الوقت الذي أنظرت إليه، فإن الملائكة لا ينزلون إلا لقيام الساعة، أو للعقاب. وقال قتادة: كذب عدو الله ما به من مخافة، ولكنه علم أنه لا قوة له ولا منعة، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم. وعلى هذا فيكون قوله (أرى ما لا ترون) معناه: أعلم ما لا تعلمون، وأخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك. واختلف في ظهور الشيطان يوم بدر، كيف كان، فقيل: إن قريشا لما أجمعت المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب، وكاد ذلك أن يثنيهم، فجاء إبليس في جند من الشيطان، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي، وكان من أشراف كنانة فقال لهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) أي: مجير لكم من كنانة، كما قال الشاعر:
[ 478 ]
يا ظالمي أنى تروم ظلامتي، والله من كل الحوادث جاري فلما رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء، وعلم أنه لا طاقة لهم بهم، نكص على عقبيه عن ابن عباس، والسدي، والكلبي، وغيرهم. وقيل: إنه لما التقوا كان إبليس في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام، فنكص عل عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة أين أتخذلنا على هذه الحالة ؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون. فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب ! فدفع في صدر الحرث، وانطلق وانهرم الناس. فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتي بلغني هزيمتكم ! فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا ؟ فحلف لهم. فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان عن الكلبي، وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام. وقيل: إن إبليس لا يجوز أن يقدر على خلع صورته، ولبس صورة سراقة، ولكن الله تعالى جعل إبليس في صورة سراقة، علما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما فعل ذلك لأنه علم أنه لو لم يدع المشركين إنسان إلى قتال المسلمين، فإنهم لا يخرجون عن ديارهم حتى يقاتلهم المسلمون، لخوفهم من بني كنانة، فصوره بصورة سراقة، حتى تم المراد في إعزاز الدين، عن الجبائي، وجماعة. وقيل: إن إبليس لم يتصور في صورة الإنسان، وإنما قال ذلك لهم على وجه الوسوسة عن الحسن، واختاره البلخي. والأول هو المشهور في التفاسير. ورأيت في كلام الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن النعمان (رض): إنه يجوز أن يقدر الله تعالى الجن ومن جرى مجراهم على أن يجتمعوا ويعتمدوا ببعض جواهرهم على بعض، حتى يتمكن الناس من رؤيتهم، ويتشبهوا بغيرهم من أنواع الحيوان لأن أجسامهم من الرقة على ما يمكن ذلك فيها، وقد وجدنا الإنسان يجمع الهوا ويفرقه ويغير صور الأجسام الرخوة، ضروبا من التغيير، وأعيانها لم تزد ولم تنقص، وقد استفاض الخبر بأن إبليس تراءى لأهل دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد، وحضر يوم بدر في صورة سراقة وأن جبرائيل عليه السلام ظهر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة دحية الكلبي، قال: غير محال أيضا أن يغير الله تعالى صورهم، ويكشفها في بعض الأحوال، فيراهم الناس لضرب من الإمتحان.
[ 479 ]
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم 49 ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق 50 ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد 51. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: (إذ تتوفى) بتاءين. والباقون: (يتوفى) بالياء والتاء. الحجة: من قرأ بالتاء فلإسناد الفعل إلى الملائكة. ومن قرأ بالياء فلأن التأنيث غير حقيقي. الاعراب: العامل في (إذ) يجوز أن يكون الإبتداء، والتقدير: ذلك إذ يقول. ويجوز أن يكون التقدير أذكر إذ يقول، وجواب (لو) محذوف، وتقديره لرأيت منظرا عظيما، أو أمرا عجيبا. وحذف الجواب هنا أوجز وأبلغ، فإن ذكره يخص وجها واحدا، ومع الحذف الإحتمال لوجوه كثيرة، وموضع (بما قدمت أيديكم) يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما: الرفع بكونه خبر ذلك والثاني: النصب بأن يكون متصلا بمحذوف، وتقديره ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد، ويحتمل أن يكون محله نصبا بتقدير، وبأن الله، أوجرا على الخلاف فيه، ويحتمل أن يكون محله رفعا بتقدير وذلك أن الله كما تقول ذلك. المعنى: (إذ يقول المنافقون) هذا يتعلق بما قبله معناه: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم إذ يقول المنافقون، فلذلك حذف الواو وهم الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإيمان. (والذين في قلوبهم مرض) وهم الشاكون في الإسلام مع إظهارهم كلمة الإيمان. وقيل: إنهم فتية من قريش أسلموا بمكة، واحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش يوم بدر، وهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الفاكهة بن المغيرة، لما رأوا قلة المسلمين قالوا (غر هؤلاء دينهم) أي: غر المسلمون دينهم حتى خرجوا مع قلتهم لأجل دينهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم،
[ 480 ]
ولم يحسنوا النظر لأنفسهم حين اغتروا بقول رسولهم، فبين الله تعالى أنهم هم المغرورون بقوله. (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) معناه: ومن يسلم لأمر الله، ويثق به، ويرضى بفعله، وإن قل عددهم، فإن الله تعالى ينصرهم على أعدائهم، وهو عزيز لا يغلب، فكذلك لا يغلب من توكل عليه، وهو حكيم يضع الأمور مواضعها على ما تقتضيه الحكمة (ولو ترى) يا محمد (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) أي: يقبضون أرواحهم عند الموت (يضربون وجوههم وأدبارهم) يريد أستاءهم ولكن الله سبحانه كنى عنها، عن سعيد بن جبير، ومجاهد. وقيل: وجوههم: ما أقبل منهم، وأدبارهم: ما أدبر منهم. والمراد يضربون أجسادهم من قدامهم ومن خلفهم، والمراد به قتلى بدر، عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأكثر المفسرين. وقيل: معناه سيضربهم الملائكة عند الموت. قال الرماني، وهذا غلط لأنه الظاهر. وروى الحسن قال: إن رجلا قال: يا رسول الله ! إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك ضرب الملائكة. وروى مجاهد أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني حملت على رجل من المشركين، فذهبت لأضربه فندر (1)، فقال: سبقك إليه الملائكة. (وذوقوا عذاب الحريق) أي: ويقول الملائكة للكفار استخفافا بهم: وذوقوا عذاب الحريق بعد هذا في الآخرة. وقيل: إنه كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد، كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، فلذلك قوله: (وذوقوا عذاب الحريق). و (ذلك) أي: ذلك العقاب لكم (بما قدمت أيديكم) أي: بما قدمتم وفعلتم. وإنما أضاف إلى اليد على التغليب لأن أكثر الأفعال تكون باليد، والمراد بذلك: بجنايتكم الكفر والمعاصي (وأن الله ليس بظلام للعبيد) أي: لا يظلم عباده في عقوبتهم من حيث إنه إنما عاقبهم بجناياتهم على قدر استحقاقهم. وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في أنه يخلق الكفر، ثم يعذب عليه، وأنه يجوز أن يعذب من غير ذنب، وأن يأخذ بذنب غيره، لأن هذا (1) [ رأسه ] وندر الشئ: سقط. (*)
[ 481 ]
غاية الظلم، وقد بالغ عز اسمه في نفي الظلم عن نفسه، بقوله (ليس بظلام للعبيد). كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كفروا بأيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب 52 ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم 53 كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا ءال فرعون وكل كانوا ظالمين 54. اللغة: الدأب: العادة والطريقة، يقال: ما زال ذلك دأبه، ودينه، وديدنه. قال الزجاج: الدأب: إدامة الفعل دأب يدأب، في كذا: إذا دام عليه، وهو دائب بفعل كذا أي: يجزي فيه على عادة، قال خداش بن زهير. ومازال ذاك الدأب حتى تخاذلت هوازن، وارفضت سليم وعامر والتغيير: تصيير الشئ على خلاف ما كان بما لو شوهد لشوهد على خلاف ما كان. الاعراب: (كدأب): الكاف في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، كما يقول زيد خلفك فموضع خلفك: رفع بأنه خبر المبتدأ، ولفظه نصب بالإستقرار، وتقديره: دأبهم كدأب آل فرعون (لم يك): أصله يكون، فحذفت الواو للجزم، ثم حذفت النون استخفافا لكثرة الإستعمال، مع أنه لا يقع بالحذف إخلال بالمعنى، لأن كان ويكون أم الأفعال، ألا ترى أن كل فعل فيه معناها لأنك إذا قلت ضرب، فمعناه كان ضرب، ويضرب معناه: يكون يضرب، فلما قويت بأنها أم الأفعال وكثر استعمالها، احتمل الحذف، ولم يحتمل نظائرها ذلك مثل لم يصن. المعنى: ثم بين سبحانه أن حال هؤلاء الكفار كحال الذين من قبلهم، فقال: (كدأب آل فرعون) أي: عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كعادة آل فرعون (والذين من قبلهم) في الكفر بالرسل وما أنزل إليهم. وقيل: معناه عقوبة الله تعالى لهؤلاء الكفار كعقوبته لآل فرعون، وآل فرعون: أتباعه. والفرق بين آل
[ 482 ]
فرعون، وأصحاب فرعون أن الأصحاب مأخوذ من الصحبة، وكثر في الموافقة في المذهب، كما يقال أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، يراد به: الموافقة في المذهب، ولا يقال آل الشافعي، إلا لمن يرجعون إليه بالنسب الأوكد الأقرب. (كفروا بآيات الله) كما كفر هؤلاء (فأخذهم الله) أي: فعاقبهم الله (بذنوبهم إن الله قوي) أي: قادر لا يقدر أحد على منعه عن إحلال العقاب بما يريد (شديد العقاب) لمن استحقه. ولا يوصف الله سبحانه بأنه شديد، لأن الشديد هو المتداخل على صعوبة تفككه، وإنما وصف العقاب بالشدة دون نفسه، وشبه حال المشركين في تكذيبهم آيات الله بحال آل فرعون. لأن تعجيل العقاب لهؤلاء بالإهلاك، كتعجيله لأولئك بعذاب الإستئصال (ذلك) أي: ذلك الأخذ والعقاب لهم (بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) معناه: بأن الله لم يكن يزيل نعمة أنعمها على قوم، حتي يتغيروا هم عن أحوالهم المرضية إلى أحوال لا يجوز لهم أن يتغيروا إليها، وهو أن يستبدلوا المعصية بالطاعة، وكفران النعمة بشكرها، وقد يسلب الله تعالى النعمة على وجه المصلحة، لا على وجه العقاب، إمتحانا لمصلحة يعلمها في ذلك، ولكن لا يسلبها بفعل النقمة على وجه العقاب، إلا عمن استحق العقاب. قال السدي: النعمة التي أنعمها الله عليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنعم الله به على قريش، فكفروا به، وكذبوه، فنقله إلى الأنصار (وأن الله سميع) لأقوالهم (عليم) بضمائرهم وبكل شئ (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) أي: كعادتهم وطريقتهم في التكذيب بآيات الله عادة هؤلاء (كذبوا بآيات ربهم) أي: بحججه وبيناته (فأهلكناهم بذنوبهم) أي: استأصلناهم (وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) أي: كل هولاء المهلكين كانوا ظالمين لأنفسهم، فلم نعاقب فريقا منهم إلا عن استحقاق، وإنما كرر قوله (كدأب آل فرعون) لأنه أراد بالأول بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة، وفي الثاني: بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا، وقيل: إن في الأول تشبيه حالهم بحال أولئك في التكذيب. وفي الثاني: تشبيه حالهم بحالهم في الإستئصال. وقيل: إن الأول في أخذهم بالعذاب. والثاني: في كيفية العذاب. وقيل: إن آل فرعون كانوا على أحوال مختلفة في المعصية، فبين مشاركة هؤلاء إياهم في تلك الأحوال.
[ 483 ]
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون 55 الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون 56. الاعراب: (فهم لا يؤمنون) الفاء لعطف جملة على جملة، وهو في الصلة كأنه قال: كفروا مصممين على الكفر، فهم لا يؤمنون، وإنما حسن عطف جملة إسمية على جملة فعلية لما فيها من التأدية إلى معنى الحال، وذلك أن صبابتهم (1) في الكفر، وإصرارهم عليه، أدى إلى الحال في أنهم لا يؤمنون. وقوله (ثم ينقضون): عطف المستقبل على الماضي لأن الغرض أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة في مستقبل أوقاتهم بعد العهد إليهم. المعنى: ثم ذم سبحانه الكفار، فقال: (إن شر الدواب عند الله) أي: شر من يدب على وجه الأرض في معلوم الله، أو في حكم الله (الذين كفروا) واستمروا على كفرهم (فهم لا يؤمنون) هذا اخبار عن قوم من المشركين أنهم لا يؤمنون أبدا، فخرج المخبر على وفق الخبر، فماتوا مشركين. ثم وصفهم الله فقال (الذين عاهدت منهم) أي: من جملتهم والضمير العائد إلى (الذين) محذوف أي: الذين عاهدت منهم، أي: من المشركين. وقيل: إن من مزيدة، وإنما دخلت لأن معنى عاهدتم أخذت العهد منهم، وكما قال: (ردف لكم)، لأن معنى (ردف): قرب، فعومل بما يعامل به. وقيل معناه: عاهدت معهم، قال مجاهد: أراد به يهود بني قريظة، فإنهم كانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا يضروا به، ولا يمالئوا عليه عدوا، ثم مالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق، وأعانوهم عليه بالسلاح، وعاهدوا مرة بعد أخرى، فنقضوا فانتقم الله منهم (ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) أي: كلما عاهدتهم نقضوا العهد، ولم يفوا به (وهم لا يتقون) نقض العهد. وقيل: لا يتقون عذاب الله تعالى. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون 57 وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين 58. (1) الصبابة. الشوق، وقيل رقته، وقيل حرارته. وقيل رقة الهوى والولع الشديد بالشئ وفي التبيان (صلابتهم). (*)
[ 484 ]
اللغة: الثقف: الظفر والإدراك بسرعة. والتشريد: التفريق على اضطراب. والخيانة: نقض العهد فيما اؤتمن عليه. والنبذ: إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. والسواء: العدل، قال الراجز: فاضرب وجوه الغرر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء أي: إلى العدل، ومنه قيل للوسط سواء لاعتداله إلى الجهات، قال حسان: يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد أي: في وسطه. وقيل: عنى بقوله (على سواء): على استواء في العلم به. الاعراب: فإما تثقفن، وإما تخافن دخلت نون التأكيد لما دخلت (ما) ولو لم يدخل (ما) لما حسن دخول النون، لأن دخول (ما) كدخول القسم في أنه علامة تؤذن أنه من مواضع تأكيد المطلوب من التصديق لأن النون يدخل لتأكيد المطلوب فيما يدل على الطلب، وهي في ستة مواضع: النهي، والأمر، والإستفهام، والعرض، والقسم، والجزاء، مع ما. المعنى: ثم حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهود، فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فإما تثقفنهم في الحرب) معناه: فإما تصادفنهم في الحرب أي: إن ظفرت بهم وأدركتهم (فشرد بهم من خلفهم) أي: فنكل بهم تنكيلا، وأثر فيهم تأثيرا، يشرد بهم من بعدهم، ويطردهم، ويمنعهم من نقض العهد، بأن ينظروا فيهم، فيعتبروا بهم، فلا ينقضوا العهد، ويتفرقوا في البلاد، مخافة أن تعاملهم بمثل ما عاملتهم به، وأن يحل بهم ما حل بهم، وهذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والسدي. قال الزجاج معناه: إفعل بهم فعلا من القتل تفرق بهم من خلفهم. وقيل: إن معنى (شرد بهم): سمع بهم بلغة قريش، قال الشاعر: أطوف في النواطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم (1) (لعلهم يذكرون) أي: لكي يتذكروا ويتعظوا وينزجروا عن مثل ذلك (وإما (1) وفي اللسان الأباطح بدل النواطح. وحكيم رجل من بني سليم كانت قريش ولته الأخذ على أيدي السفهاء. (*)
[ 485 ]
تخافن من قوم خيانة) معناه: وإن خفت يا محمد من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فيه، لأن الخيانة إنما تكون بعد تقدم العهد، ولم يظهر منهم نقض العهد بعد (فانبذ إليهم على سواء) أي: فالق إليهم ما بينك وبينهم من العهد، وأعلمهم بأنك قد نقضت ما شرطت لهم، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء، ولا تبدأهم بالقتال من قبل أن تعلمهم بنقض العهد حتى لا ينسبوك إلى الغدر بهم، فهذا معنى قوله على سواء. وقيل: معنى قوله (على سواء) على عدل أي: إن كان بينك وبينهم عهد بغير مال، فأعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، وإن كان العهد على مال، فرد المال عليهم، ثم انقض العهد (إن الله لا يحب الخائنين) أي: بنقضهم معناه فلا تخنهم بأن تبدأهم بالقتال من غير إعلامهم بنقض العهد. قال الواقدي: هذه الآية نزلت في بني قينقاع وبهذه الآية سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم. ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون 59 وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون 60 وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم 61. القراءة: قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، وحفص: (ولا يحسبن) بالياء. والباقون بالتاء. وقرأ ابن عامر: (أنهم لا يعجزون) بالفتح. والباقون: (إنهم) بالكسر. وقرأ رويس عن يعقوب (ترهبون) بالتشديد. والباقون (ترهبون) بالتخفيف. وقرأ أبو بكر: (للسلم) بكسر السين. والباقون: بفتح السين. الحجة: من قرأ (لا تحسبن) بالتاء، (فالذين كفروا) المفعول الأول، و (سبقوا): جملة في موضع نصب بكونها المفعول الثاني. ومن قرأ (يحسبن) بالياء: فلا يخلو من أن يكون جعل (الذين كفروا) الفاعل، وهذا لا يجوز لأن (يحسبن) لا بد له من مفعولين، ولكنه محمول على أحد ثلاثة أشياء: إما أن يكون
[ 486 ]
فاعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديره ولا يحسبن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا سبقوا. وإما أن يكون تقديره على حذف إن كأنه قال لا يحسبن الذين كفروا إن سبقوا، فحذفت إن كما حذفتها في تأويل سيبويه في قوله: (أفغير الله تأمروني أعبد)، كأنه قال: أفغير عبادته تأمروني. قال الزجاج. ويقوي هذا الوجه، أنها في حرف ابن مسعود (أنهم سبقوا) وإذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك حسبت أن أقوم، وحسبت أقوم، على حذف أن، وإذا وجهته علي هذا فقد سد أن سبقوا مسد المفعولين، كما أن قوله (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا) كذلك، وإما أن يكون أضمر المفعول الأول، وتقديره ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا. ومن قرأ (إنهم لا يعجزون) بكسر الألف، يكون على الإستئناف، كما أن قوله ساء ما يحكمون منقطع من الجملة التي قبلها التي هي: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) ومن قرأ (إنهم لا يعجزون): جعله متعلقا بالجملة الأولى، وتقديره لا تحسبنهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون. ومن قرأ (ترهبون) فلأن رهب يرهب رهبة يعدى تارة بالهمزة، وتارة بالتشديد، فيقال رهبته وأرهبته، وأما السلم والسلم فلغتان ومعناهما الصلح. اللغة: السبق: تقدم الشئ على طالب اللحوق به. والإعجاز: إيجاد ما يعجز عنه والعجز: معنى عند أبي علي الجبائي، وأبي القسم البلخي، وليس بمعنى عند أبي هاشم وأصحابه، بل هو عدم القدرة، وذهب إليه المرتضى. والإعداد: إتخاذ الشئ لغيره مما يحتاج إليه في أمره. والإستطاعة: معنى ينطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاع المنع. والرباط: شد أيسر من العقد، يقال ربطه، يربطه، ربطا، ورابطه، مرابطة، ورباطا. والإرهاب: إزعاج النفس بالخوف. والجنوح: الميل ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه. ولا جناح عليه أي: لا ميل إلى مأثم. الاعراب: (لا يعجزون) فتح النون هو القراءة، ويجوز كسرها على معنى لا يعجزونني، ويحذف النون الأولى لاجتماع النونين، كما قال الشاعر: تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الغاليات إذا فليني يريد: فلينني، (وآخرين من دونهم) منصوب على تقدير: وترهبون آخرين، ويجوز أن يكون على تقدير وأعدوا لهم الآخرين، فيكون مجرورا عطفا على الهاء
[ 487 ]
والميم. المعنى: لما تقدم الأمر بقتال الكفار، عقبه سبحانه بوعد النصر، والأمر بالإعداد لقتالهم، فقال: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) معناه: ولا تحسبن يا محمد أعداءك الكافرين قد سبقوا أمر الله، وأعجزوه، وأنهم قد فاتوك، فإن الله سبحانه يظفرك بهم، كما وعدك، ويظهرك عليهم. والسبق والفوت بمعنى واحد. وقيل معناه: لا تحسبن من أفلت من هذه الحرب أنه قد يسبق إلى الحياة، عن الزجاج، والخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به غيره. وقيل: إنه إنما قاله تطييبا لقلبه في الهاربين، كما طيب قلبه في المقتولين والمأسورين. وعلى القراءة بالياء، فالمعنى لا يحسبن الكافرون أنفسهم سابقين، أوح لا يحسبن الكافرون أنهم سابقون. (إنهم لا يعجزون) أي: لا يعجزون الله، ولا يفوتونه حتى لا يبعثهم الله يوم القيامة عن الحسن. وقيل معناه: لا يعجزونك عن الجبائي (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) هذا أمر منه سبحانه بأن يعدوا السلاح قبل لقاء العدو، ومعناه وأعدوا للمشركين ما قدرتم عليه مما يتقوى به على القتال من الرجال وآلات الحرب. وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن القوة الرمي، وعلى هذا فيكون معناه أنه من القوة. وقيل: إن القوة اتفاق الكلمة، والثقة بالله تعالى، والرغبة في ثوابه. وقيل: القوة الحصون، عن عكرمة. (ومن رباط الخيل) أي: ومن ربطها واقتنائها للغزو، وهي من أقوى عدد الجهاد. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ارتبطوا الخيل، فإن ظهورها لكم عز، وأجوافها كنز، وقيل: إن القوة ذكور الخيل، والرباط: الإناث منها، عن الحسن، وعكرمة (ترهبون به) أي: تخوفون بما تعدونه لهم (عدو الله وعدوكم) يعني مشركي مكة، وكفار العرب (وآخرين من دونهم) أي: وترهبون كفارا اخرين دون هؤلاء. واختلفوا في الآخرين فقيل: إنهم بنو قريظة، عن مجاهد. وقيل: هم أهل فارس عن السدي. وقيل: هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنهم أعداؤهم، وهم أعداؤهم، عن الحسن، وابن زيد (لا تعلمونهم) معناه: لا تعرفونهم لأنهم يصلون ويصومون، ويقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويختلطون بالمؤمنين (الله
[ 488 ]
يعلمهم) أي: يعرفهم لأنه المطلع على الأسرار. وقيل: هم الجن وهو اختيار الطبري قال: لأن الأعداء دخل فيه جميع المتظاهرين بالعداوة فلم يبق إلا من لا يشاهد (وما تنفقوا من شئ في سبيل الله) أي: في الجهاد، وفي طاعة الله (يوف إليكم) أي يوفر عليكم ثوابه في الآخرة (وأنتم لا تظلمون) أي لا تنقصون شيئا منه. (وإن جنحوا للسلم) أي: مالوا إلى الصلح، وترك الحرب (فاجنح لها) أي: مل إليها واقبلها منهم، وإنما أنث لأن السلم بمعنى المسالمة (وتوكل على الله) أي: فوض أمرك إلى الله (إنه هو السميع العليم) لا تخفى عليه خافية. وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله (أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وقوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) الآية، عن الحسن، وقتادة، وقيل: إنها ليست بمنسوخة، لأنها في الموادعة لأهل الكتاب، والأخرى لعباد الأوثان، وهذا هو الصحيح، لأن قوله (أقتلوا المشركين) والآية الأخرى نزلتا في سنة تسع في سورة براءة، وصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد نجران بعدها. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين 62 وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم 63 اللغة: الخدع والخديعة: إظهار المحبوب في الأمر مع إبطان المكروه. والتأييد: التمكين من الفعل على أتم ما يصح فيه. والأيد: القوة. والتأليف: الجمع على تشاكل، واختلف في التأليف فأثبته بعضهم معنى، ونفاه بعضهم، والصحيح أنه معنى يحل محلين، ولا يحصل من فعلنا إلا متولدا. المعنى: ثم خاطب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وإن يريدوا أن يخدعوك) معناه وإن يرد الذين يطلبون منك الصلح، أن يخدعوك في الصلح، بأن يقصدوا بالتماس الصلح دفع أصحابك، والكف عن القتال، حتى يقووا فيبدأوكم بالقتال من غير استعداد منكم (فإن حسبك الله) أي: فإن الذي يتولى كفايتك الله (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) أي: هو الذي قواك بالنصر من عنده، وأيدك
[ 489 ]
بالمؤمنين الذين ينصرونك على أعدائك (وألف بين قلوبهم) وأراد بالمؤمنين الأنصار، وهم الأوس، والخزرج، عن أبي جعفر عليه السلام، والسدي، وأكثر المفسرين، وأراد بتأليف القلوب ما كان بين الأوس والخزرج من المعاداة والقتال، فإنه لم يكن حيان من العرب بينهما من العداوة، مثل ما كان بين هذين الحيين، فألف الله بين قلوبهم، حتى صاروا متوادين متحابين، ببركة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: أراد كل متحابين في الله، عن مجاهد. (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) أي: لم يمكنك جمع قلوبهم على الإلفه، وإزالة ضغائن الجاهلية. (ولكن الله ألف بينهم) بأن لطف لهم بحسن تدبيره. وبالإسلام الذي هداهم إليه (إنه عزيز حكيم) لا يمتنع عليه شئ يريد فعله، ولا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، قال الزجاج: وهذا من الآيات العظام، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، بحيث لو لطم الرجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته، فألف الإيمان بين قلوبهم، حتى قاتل الرجل أباه، وأخاه، وابنه، فأعلم الله سبحانه، أن هذا ما تولاه منهم إلا هو. يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين 64 يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون 65 الئن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين. القراءة: (إن يكن منكم مائة) بالياء، فيهما كوفي، والأول بالتاء بصري (ضعفا) بفتح الضاد كوفي الا الكسائي. والباقون بضم الضاد، ولكنهم سكنوا العين، إلا أبا جعفر، فإنه قرأ (ضعفاء)، على وزن فعلاء. الحجة: من قرأ بالياء فإنه أراد به المذكر يدلك على ذلك قوله تعالى (يغلبوا)
[ 490 ]
وقرأ أبو عمرو (وإن تكن منكم مائة صابرة) بالتاء، كما أنث صفة المائة، وهي قوله (صابرة) كذلك أنث الفعل. ومن قرأ الجميع بالتاء يحمله على اللفظ، فاللفظ مؤنث والضعف والضعف، لغتان: كالفقر والفقر. اللغة: الإتباع: موافقة الداعي فيما يدعو إليه من أجل دعائه. والتحريض، والحض، والحث، بمعنى وهو الترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه، وضده التقتير، والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه من ضد ما ينبغي أن يكون عليه، وضده الجزع، قال: فإن تصبرا فالصبر خير مغبة، وإن تجزعا فالأمر ما تريان والتخفيف: رفع المشقة بالخفة، والخفة: نقيض الثقل. والخفة، والسهولة بمعنى. والضعف: نقصان القوة، وهو من الضعف، لأنه ذهاب ضعف القوة. الاعراب: موضع (من اتبعك): رفع على معنى (حسبك الله) وأتباعك من المؤمنين، ويحتمل أن يكون نصبا بمعنى ويكفي من اتبعك على التأويل، لأن الكاف في (حسبك) في موضع جر بالإضافة، لكنه مفعول به في المعنى، فعطف على المعنى، ومثله قوله تعالى: (إنا منجوك وأهلك)، وقال الشاعر: إذا كانت الهيجاء، وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند (1) (الآن) مبني مع الألف واللام، لأنه خرج عن التمكن بشبه الحرف، قال الزجاج: (عشرون) لا يجوز إلا بكسر العين، وزعم أهل اللغة أنه كسر أوله كما كسر أول اثنين، لأن عشرين من عشرة مثل اثنين من واحد، ويدل عليه فتحهم ثلاثين كفتح ثلاثة، وكسرهم تسعين ككسر تسعة. المعنى: ثم أمر سبحانه بقتال الكفار، وحث عليه بقوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) أي: كافيك الله، ويكفيك متبعوك من المؤمنين. وقال الحسن: معناه الله حسبك، وحسب من اتبعك من المؤمنين أي: يكفيك ويكفيهم. قال الكلبي: نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال (يا أيها النبي حرض المؤمنين) أي: إبعث المؤمنين (على القتال) ورغبهم فيه بسائر (1) المهند: السيف المطبوع من حديد الهند. (*)
[ 491 ]
أسباب التحريض والترغيب من ذكر الثواب الموعود على القتال، وبيان ما وعد الله لهم من النصر، والظفر، واغتنام الأموال (إن يكن منكم عشرون صابرون) على القتال (يغلبوا مأتين) من العدو (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) واللفظ لفظ الخبر، والمراد به الأمر، ويدل على ذلك قوله فيما بعد: (الآن خفف الله عنكم)، لأن التخفيف لا يكون إلا بعد التكليف. (بأنهم قوم لا يفقهون) معناه: ذلك النصر من الله تعالى لكم، على الكفار، والخذلان للكفار، بأنكم تفقهون أمر الله تعالى، وتصدقونه فيما وعدكم من الثواب، فيدعوكم ذلك إلى الصبر على القتال، والجد فيه، والكفار لا يفقهون أمر الله تعالى، ولا يصدقونه فيما وعدكم من الثواب، ولما علم الله تعالى أن ذلك يشق عليهم، تغيرت المصلحة في ذلك فقال: (الآن خفف الله عنكم) الحكم في الجهاد من وجوب قتال العشرة على الواحد، وثبات الواحد للعشرة (وعلم أن فيكم ضعفا) أراد به ضعف البصيرة والعزيمة، ولم يرد ضعف البدن، فإن الذين أسلموا في الإبتداء لم يكونوا كلهم أقوياء البدن، بل كان فيهم القوي والضعيف، ولكن كانوا أقوياء البصيرة واليقين، ولما كثر المسلمون واختلط بهم من كان أضعف يقينا وبصيرة نزل (الآن خفف الله عنكم). (فإن يكن منكم مائة صابرة) على القتال (يغلبوا مائتين) من العدو (وإن يكن منكم ألف) صابرة (يغلبوا ألفين) منهم (بإذن الله) أي: بعلم الله. وقيل: بأمره. فأمر الله تعالى الواحد بأن يثبت لاثنين، وتضمن النصرة له عليهما، وإنما لم يفصل، ولم يأمر، من كان قوي البصيرة، بأن يثبت لعشرة، ومن كان ضعيف البصيرة بأن يثبت لاثنين، لأنهم كانوا يشهدون القتال مختلطين، فكان لا يمكن التمييز بينهم، ولو نص على من كان ضعيف البصيرة كان فيه إيحاشهم، وانكسار قلوبهم، وزيادة ضعفهم. (والله مع الصابرين) أي: معونة الله مع الصابرين، ومعناه: والله معين الصابرين. وقيل: إن هذه الآية نزلت بعد الآية الأولى بمدة، وإن قرن بينهما في المصحف، وهي ناسخة للأولى، والمعتبر في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة، وقال الحسن، إن التغليظ كان على أهل بدر، ثم جاءت الرخصة.
[ 492 ]
ما كان لنبي إن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الأخرة والله عزيز حكيم 67 لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم 68 فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم 69. القراءة: قرأ أبو جعفر: (أن تكون له) بالتاء (أسارى). وقرأ أهل الكوفة (1) (أن تكون له) بالتاء، (أسرى). والباقون: (أن يكون له) بالياء (أسرى). الحجة: من قرأ بالتاء فلأن الجمع مؤنث. ومن قرأ بالياء فلأنهم مذكورون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل. قال أبو علي: والأسرى أقيس من الأسارى، لأن أسير فعيل بمعنى مفعول، وذلك يجمع على فعلى، نحو جريح وجرحى، وقتيل وقتلى، واستمر هذا الجمع في الباب، وكثر حتى شبه به غيره، مما ليس منه، ولكن لموافقته مثل: مرضى، وهلكى، وموتى، وذلك أن هذه أمور ابتلوا بها، وأدخلوا فيها، وهم لها كارهون، فصار لذلك مشبها بفعيل في قول الخليل، وإنما قالوا: أسارى على التشبيه بكسالى، كما قالوا: كسلى على التشبيه بأسرى. وقال الأزهري: الأسارى جمع الأسرى، فهو جمع الجمع. اللغة: الأسر: الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الآخذ له. وفلان مأسور أي: مشدود، وكانوا يشدون الأسير بالقد، والإثخان في الأرض: تغليظ الحال بكثرة القتل، والثخن، والغلظ، والكثافة نظائر. وقد أثخنه المرض: إذا اشتدت قوته عليه، وأثخنه الجراح، والعرض: متاع الدنيا سماه عرضا، لقلة لبثه. والفرق بين الحلال والمباح أن الحلال من حل العقد في التحريم، والمباح: من التوسعة في الفعل، وإن اجتمعا في الحل والطيب المستلذ، وشبه الحلال به، فسمي طيبا، واللذة: نيل المشتهى. الاعراب: الفاء في (فكلوا) دخلت للجزاء، المعنى: لقد أحللت لكم (1) وفي نسخة التبيان (أهل البصرة) مكان (أهل الكوفة). (*)
[ 493 ]
الغذاء، فكلوا و (حلالا طيبا): منصوب على الحال. المعنى: (ما كان لنبي) أي: ليس له ولا في عهد الله إليه (أن يكون له أسرى) من المشركين ليفديهم، أو يمن عليهم (حتى يثخن في الأرض) أي: حتى يبالغ في قتل المشركين وقهرهم، ليرتدع بهم من وراؤهم. وقال أبو مسلم: الإثخان: الغلبة على البلدان، والتذليل لأهلها، يعني حتى يتمكن في الأرض (تريدون عرض الدنيا) هذا خطاب لمن دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى في أول وقته، ورغبوا في الحرب للغنيمة، قال الحسن، وابن عباس: يريد يوم بدر، ويقول أخذتم الفداء من الأسرى في أول وقعة كانت لكم من قبل أن تثخنوا في الأرض، وعرض الدنيا: مال الدنيا، لأنه بمعرض الزوال. (والله يريد الآخرة) أي: تريدون عاجل الحظ من عرض الدنيا، والله يريد لكم ثواب الآخرة (والله عزيز) لا يغلب أنصاره، فاعملوا ما يريده منكم لينصركم (حكيم) يجري أفعاله على ما توجبه الحكمة. فصل سبحانه بين إرادة نفسه، وإرادة عباده، ولو كان ما أرادوه على ما قاله المجبرة لم يصح هذ التفصيل. (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) قيل في معناه أقوال أحدها: لولا ما مضى من حكم الله أن لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لم يبين لكم أن لا تأخذوا الفداء، لعذبكم بأخذ الفداء، عن ابن جريج وثانيها: لولا أن الله حكم لكم إباحة الغنائم والفداء في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لمسكم فيما استحللتم قبل الإباحة عذاب عظيم، فإن الغنائم لم تحل لأحد قبلكم، عن ابن عباس وثالثها: لولا كتاب من الله سبق، وهو القرآن، فآمنتم به، واستوجبتم بالإيمان به الغفران، لمسكم العذاب، عن الجبائي، قال: والمراد به الصغائر ورابعها: إن الكتاب الذي سبق قوله: (وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم) والمعنى: لولا ما كتب الله في القرآن أو في اللوح المحفوظ، أنه لا يعذبكم، والنبي بين أظهركم لعذبكم. (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) هذه إباحة منه سبحانه للمؤمنين، أن يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين (واتقوا الله) باتقاء معاصيه (إن الله غفور رحيم). القصة: كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم علي بن أبي
[ 494 ]
طالب عليه السلام، سبعة وعشرين، وكان الأسرى أيضا سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال منهم: سعد بن خيثمة، وكان من النقباء من الأوس. وعن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا، أربعة من قريش، وسبعة من الأنصار. وقيل: ثمانية، وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلا، وعن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، والناس محبوسون بالوثاق، بات ساهرا أول الليلة، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: سمعت أنين عمي العباس في وثاقه، فأطلقوه. فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عبيدة السلماني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر في أسارى إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدتهم، وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ونتقوى به على عدونا، وليستشهد منا بعدتهم. قال عبيدة: طلبوا الخيرتين كلتيهما. فقتل منهم يوم أحد سبعون. وفي كتاب علي بن إبراهيم: لما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، خافت الأنصار ان يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك أتجذ أصلهم (1) ؟ فخذ يا رسول الله منهم الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فلما طلبوا إليه، وسألوه نزلت الآية: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) الآيات، فأطلق لهم ذلك، وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، وأقله ألف درهم، فبعثت قريش بالفداء أولا فأولا، فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها، وكان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك القلائد، قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها ! فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرط أن يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به، فعاهده على ذلك، ووفى له. (1) جذه: قطعه مستأصلا. (*)
[ 495 ]
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله ! هذا أول حرب لقينا فيه المشركين، والإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال. وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ! كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم، ومكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان أضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر ! وقال أبو بكر: أهلك وقومك استأن بهم واستبقهم، وخذ منهم فدية، فيكون لنا قوة على الكفار ! قال ابن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم غير عمر وسعد بن معاذ. وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية، والأوقية أربعون مثقالا، إلا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك غنيمة، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا، فقال: ليس معي شئ، فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أم الفضل، وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك، وللفضل، وعبد الله، وقثم ؟ فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال: الله تعالى. فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد إلا الله تعالى. القراءة: قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو: (من الأسارى). والباقون: (من الأسرى). وقد ذكرنا الفرق بين الأسرى والأسارى، فيما قبل. المعنى: ثم خاطب الله سبحانه نبيه، فقال: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم) من الأسارى: إنما ذكر الأيدي لأن من كان في وثاقهم، فهو بمنزلة من يكون في أيديهم لاستيلائهم عليه (من الأسرى) يعني أسراء بدر الذين أخذ منهم الفداء (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) أي: إسلاما وإخلاصا، أو رغبة في الإيمان، وصحة نية (يؤتكم خيرا) أي: يعطيكم خيرا (مما أخذ منكم) من الفداء، إما في الدنيا والآخرة، وإما في الآخرة (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله غفور) للذنوب
[ 496 ]
(رحيم). روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: نزلت هذه الآية في وفي أصحابي، كان معي عشرون أوقية ذهبا، فأخذت مني، فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا، كل منهم يضرب بمال كثير، وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم، مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما صلى يومئذ حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحثي، فأخذ، فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة (وإن يريدوا خيانتك) معناه: وإن يريد الذين أطلقتهم من الأسارى خيانتك، بأن يعدوا حربا لك، أو ينصروا عدوا عليك (فقد خانوا الله من قبل) بأن خرجوا إلى بدر، وقاتلوا مع المشركين. وقيل: بأن أشركوا بالله، وأضافوا إليه ما لا يليق به (فأمكن منهم) أي: فأمكنك منهم يوم بدر، بأن غلبوا، وأسروا، وسيمكنك منهم ثانيا إن خانوك (والله عليم حكيم) معناه: عليم بما يقولونه، وبما في نفوسهم، وبجميع الأشياء، حكيم فيما يفعله. إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير 72. القراءة: قرأ حمزة (ولايتهم) بكسر الواو، وهو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثاب. والباقون: (ولايتهم) بفتح الواو. الحجة: قال الزجاج: من قرأ بالفتح فلأن الولاية من النصرة والنسب بفتح الواو، والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة، ليفصل بين المعنيين. وقد يجوز كسر الواو لأن في تولي بعض القوم بعضا، جنسا من الصناعة والعمل، وكل من كان من جنس الصناعة، فمكسور نحو الخياطة والصياغة، وقال أبو عبيدة، وأبو الحسن (من
[ 497 ]
ولايتهم) مصدر المولى، وأما في السلطان فالولاية بكسر الواو، وهي في الاخرى لغة. اللغة: الهجرة، والمهاجرة: فراق الوطن إلى غيره من البلاد، وأصله من الهجر: ضد الوصل. والجهاد: تحمل المشاق في قتال أعداء الدين من جهده الأمر جهدا، والإيواء: ضم الإنسان غيره إليه، بإنزاله عنده، وتقريبه له، آواه يؤويه إيواء وأوى يأوي أويا وأويت معناه: رجعت إلى المأوى. والولاية: عقد النصرة للموافقة في الديانة. النزول: قيل: نزلت الآية في الميراث، وكانوا يتوارثون بالهجرة، فجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار، دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر، ولم يرث، من أجل أنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) فنسخت هذه الآية، وصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين، ولا يتوارث أهل ملتين، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي. المعنى: ثم ختم سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين، وقطع موالاة الكافرين، فقال: (إن الذين آمنوا) بالله ورسوله، وبما يجب الإيمان به (وهاجروا) من مكة إلى المدينة، (وجاهدوا) وقاتلوا العدو (بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) أي: في طاعة لله، وإعزاز دينه (والذين آووا) الرسول والمهاجرين بالمدينة أي: جعلوا لهم مأوى، وأسكنوهم منازلهم، يعني الأنصار (ونصروا) أي: ونصروهم بعد الإيواء على أعدائهم، وبذلوا المهج في نصرتهم، (أولئك بعضهم أولياء بعض) أي: هؤلاء بعضهم أولى ببعض في النصرة، وإن لم يكن بينهم قرابة من أقربائهم من الكفار. وقيل: في التوارث، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي. وقيل: في التناصر والتعاون والموالاة في الدين، عن الأصم. وقيل: في نفوذ أمان بعضهم على بعض، فإن واحدا من المسلمين لو أمن إنسانا، نفذ أمانه على سائر المسلمين (والذين آمنوا ولم يهاجروا) إلى المدينة (ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) أي: ما لكم من ميراثهم من شئ حتى يهاجروا، فحينئذ يحصل بينكم التوارث، فإن الميراث كان منقطعا في ذلك الوقت بين المهاجرين وغير المهاجرين.
[ 498 ]
وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى. وقيل: معناه ما لكم من موالاتهم ونصرتهم من شئ، أي: ليس عليكم نصرتهم (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) معناه: وإن طلبوا يعني المؤمنين الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفار، وإعانتهم في الدين، فعليكم النصر والمعونة لهم، وليس عليكم نصرتهم في غير الدين (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) معناه الا أن يطلبوا منكم النصرة لهم على قوم من المشركين، بينكم وبينهم أمان وعهد يجب الوفاء به، ولا تنصروهم عليهم لما فيه من نقض العهد (والله بما تعملون بصير) أي: بأعمالهم، عليم لا يخفى عليه شئ منها. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير 73 والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم 74 والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم 75. اللغة: الفتنة: أصلها الإمتحان، ثم تستعمل في أشياء منها الكفر، والشرك، وذلك نحو قوله تعالى (والفتنة أكبر من القتل) (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، ومنها: العذاب نحو قوله تعالى: (جعل فتنة الناس كعذاب الله) وقوله (ذوقوا فتنتكم) يعني عذابكم بالتحريق بالنار ومنها المعذرة في نحو قوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم) أي: معذرتهم، ومنها القتل في نحو قوله (إن خفتم أن يفتنكم) أي: يقتلكم وقوله: (على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم) ومنها الهرج والإبتلاء على أثر البلاء في نحو قوله (وهم لا يفتنون) (ولقد فتنا الذين من قبلهم) وهذا التفصيل مأخوذ من قول الصادق عليه السلام. والكريم: فاعل الكرم. والكرم: الجود العظيم، والشرف، قال: تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (1) (1) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 499 ]
والرزق الكريم: العظيم الواسع. الاعراب: قوله (فعليكم النصر) ويجوز في العربية فعليكم النصر على قولك عليك زيدا، ولم يقرأ بها. المعنى: ثم ذكر سبحانه وتعالى حكم الكافرين فقال (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم أنصار بعض، عن ابن إسحاق، وقتادة. وقيل: معناه بعضهم أولى ببعض في الميراث، عن ابن عباس، وأبي مالك (إلا تفعلوه) وتقديره الا تفعلوا ما أمرتم به في الآية الأولى، والثانية، ومخرجه مخرج الخبر، والمراد به الأمر، وتقديره: إلا تفعلوا ما أمرتم به من التناصر والتعاون والتبرؤ من الكفار (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) على المؤمنين الذين لم يهاجروا، ويريد بالفتنة هنا: المحنة بالميل إلى الضلال. وبالفساد الكبير: ضعف الإيمان. وقيل: إن الفتنة هي الكفر، لأن المسلمين إذا والوهم تجرؤوا على المسلمين، ودعوهم إلى الكفر، وهذا يوجب التبروء منهم، والفساد الكبير: سفك الدماء، عن الحسن. وقيل معناه: وإن لم تعلقوا التوارث بالهجرة، ولم تقطعوه بعدمها، أدى إلى فتنة في الأرض باختلاف الكلمة، وفساد عظيم بتقوية الخارج عن الجماعة، عن ابن عباس، وابن زيد. ثم عاد سبحانه إلى ذكر المهاجرين والأنصار، ومدحهم، والثناء عليهم، فقال: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) أي: صدقوا الله ورسوله، وهاجروا من ديارهم، وأوطانهم، يعني من مكة إلى المدينة، وجاهدوا مع ذلك في إعلاء دين الله (والذين آووا ونصروا) أي: ضموهم إليهم، ونصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أولئك هم المؤمنون حقا) أي: أولئك الذين حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة، بخلاف من أقام بدار الشرك، وقيل معناه: إن الله حقق إيمانهم بالبشارة التي بشرهم بها، ولم يكن لمن لم يهاجر، ولم ينصر مثل هذا. واختلفوا في أن الهجرة هل تصح في هذا الزمان أم لا ؟ فقيل: لا تصح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح) ولأن الهجرة الإنتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، وليس يقع مثل هذا في هذا الزمان، لاتساع بلاد الإسلام، إلا أن يكون نادرا لا يعتد به. وقيل: إن هجرة الأعراب إلى الأمصار باقية إلى يوم القيامة عن الحسن، والأقوى أن يكون حكم الهجرة باقيا لأن من أسلم في دار الحرب، ثم هاجر
[ 500 ]
إلى دار الإسلام، كان مهاجرا، وكان الحسن يمنع أن يتزوج المهاجر إلى أعرابية، وروي عن عمر بن الخطاب انه قال: لا تنكحوا أهل مكة، فإنهم أعراب، وإنما سمي الجهاد سبيل الله، لأنه الطريق إلى ثواب الله في دار كرامته. (لهم مغفرة ورزق كريم) لا يشوبه ما ينغصه. وقيل الرزق الكريم هاهنا: طعام الجنة، لأنه لا يستحيل في أجوافهم نجوا، بل يصير كالمسك ريحا (والذين آمنوا من بعد) أي: من بعد فتح مكة، عن الحسن، وقيل معناه: آمنوا من بعد إيمانكم (وهاجروا) بعد هجرتكم (وجاهدوا معكم) أيها المؤمنون (فأولئك منكم) أي: مؤمنون مثلكم من جملتكم، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم، إلى دار الإسلام، كان مهاجرا، وكان الحسن يمنع أن يتزوج المهاجر إلى أعرابية، وروي عن عمر بن الخطاب انه قال: لا تنكحوا أهل مكة، فإنهم أعراب، وإنما سمي الجهاد سبيل الله، لأنه الطريق إلى ثواب الله في دار كرامته. (لهم مغفرة ورزق كريم) لا يشوبه ما ينغصه. وقيل الرزق الكريم هاهنا: طعام الجنة، لأنه لا يستحيل في أجوافهم نجوا، بل يصير كالمسك ريحا (والذين آمنوا من بعد) أي: من بعد فتح مكة، عن الحسن، وقيل معناه: آمنوا من بعد إيمانكم (وهاجروا) بعد هجرتكم (وجاهدوا معكم) أيها المؤمنون (فأولئك منكم) أي: مؤمنون مثلكم من جملتكم، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم، وموارثتهم، ونصرتهم، وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) معناه. وذوو الأرحام والقرابة بعضهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم، عن ابن عباس، والحسن، وجماعة المفسرين، وقالوا: صار ذلك نسخا لما قبله من التوارث بالمعاقدة، والهجرة، وغير ذلك من الأسباب، فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان آخى بين المهاجرين والأنصار (في كتاب الله) أي: في حكم الله، عن الزجاج. وقيل: في اللوح المحفوظ كما في قوله: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) وقيل: في القرآن، وفي قوله (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) دلالة على أن من كان أقرب إلى الميت في النسب، كان أولى بالميراث سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم، أو عصبة، أو غير ذي عصبة، ومن وافقنا في توريث ذوي الأرحام، يستثني أصحاب الفرائض، والعصبة من الآية، وذلك خلاف الظاهر (إن الله بكل شئ عليم) ظاهر المعنى، وأكثر هذه السورة في قصة بدر. تم المجلد الرابع من التفسير وهو الموسوم بكتاب مجمع البيان لعلوم القرآن