تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 5
[ 1 ]
مجمع البيان 5
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء الخامس منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب: 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه - 1995 م مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت. شارع المطار. قرب كلية الهندسة. ملك الاعلمي. ص. ب 7120 الهاتف: 833447 - 833453
[ 5 ]
سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة وهي مدنية كلها، وقال بعضهم: غير آيتين (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إل آخر السورة نزلت سنة تسع من الهجرة، وفتحت مكة سنة ثمان، وحج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حجة الوداع سنة عشر. وقال قتادة، ومجاهد: وهى آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالمدينة عدد آيها: هي مائة وتسع وعشرون آية كوفي، وثلاثون في الباقين. إختلافها: ثلاث آيات (برئ من المشركين) بصري، (عذابا أليما): شامي. (وعاد وثمود): حجازي. أسماؤها عشرة: سورة (براءة) سميت بذلك، لأنها مفتتحة بها، ونزلت بإظهار البراءة من الكفار. (التوبة): سميت بذلك لكثرة ما فيها من التوبة، كقوله (ويتوب الله على من يشاء)، (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) (ثم تاب عليهم ليتوبوا. (الفاضحة): عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس، سورة التوبة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل حتى خشينا أن لا يبقى منهم أحد إلا ذكر. وسميت بذلك لأنها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم. (المبعثرة): عن ابن عباس أيضا سماها بذلك، لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين، أي تبحث عنها. (المقشقشة): عن ابن عباس سماها بذلك، لأنها تبرئ من آمن بها من النفاق والشرك، لما فيها من الدعاء إلى الإخلاص. وفي الحديث: كان يقال لسورتي (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله احد) المقشقشتان سميتا بذلك لأنهما تبرئان من الشرك والنفاق، يقال قشقشه: إذا برأه، وتقشقش المريض من علته: إذا أفاق وبرئ منها. (البحوث): عن أبي أيوب الأنصاري سماها بذلك، لأنها تتضمن ذكر المنافقين، والبحث عن سرائرهم. (المدمدمة): عن سفيان بن عيينة: أي المهلكة، ومنه قوله: (فدمدم عليهم
[ 6 ]
ربهم). (الحافرة). عن الحسن، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسترونه. (المثيرة): عن قتادة، لأنها أثارت مخازيهم ومقابحهم. (سورة العذاب): عن حذيفة بن اليمان، لأنها نزلت بعذاب الكفار. وروى عاصم بن زر بن حبيش، عن حذيفة، قال: يسمونها سورة التوبة، وهي سورة العذاب، فهذه عشرة أسماء. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من قرأ سورة الأنفال وبراءة، فأنا شفيع له. الخبر بتمامه، وقد مضى ذكره مع ما في معناه، في أول (الأنفال) وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: الأنفال، والبراءة واحد. وروي ذلك عن سعيد بن المسيب. وروى الثعلبي بإسناده عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: ما نزل علي القرآن إلا آية آية، وحرفا حرفا خلا سورة (البراءة)، و (قل هو الله أحد)، فإنهما نزلتا علي، ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة، كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيرا. علة ترك التسمية، في أولها قراءة، وكتابة: للعلماء والمفسرين فيه أقوال: أحدها: أنها ضمت إلى الأنفال بالمقاربة، فصارتا كسورة واحدة، إذ الأولى في ذكر العهود، والثانية في رفع العهود، عن أبي بن كعب. وثانيها: أنه لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة، لأن بسم الله للأمان والرحمة، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف، عن علي عليه السلام، وسفيان بن عيينة، إختاره أبو العباس المبرد. وثالثها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة، وهي من المئين، وإلى الأنفال، وهي من المثاني، فجعلتموهما في السبع الطوال، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تنزل عليه الآيات، فيدعو بعض من يكتب له، فيقول له: ضع هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل من القرآن بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبين أنها منها، فوضعناهما في السبع الطوال، ولم نكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وكانتا تدعيان القرينتين. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الأنفال، بإيجاب البراءة عن الكفار، إفتتح هذه السورة بأنه تعالى ورسوله بريئان منهم، كما أمر المسلمين بالبراءة منهم، فقال:
[ 7 ]
(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين (2). اللغة: معنى البراءة: إنقطاع العصمة، يقال: برأ يبرأ براءة، وتبرأ تبرؤا، وأبرأه إبراء. والسيح: السير على مهل، يقال ساح يسيح سيحا وسياحة وسيوحا وسيحانا، والإعجاز: إيجاد العجز. والعجز: ضد القدرة عند من أثبته معنى. والإخزاء: الإذلال بما فيه الفضيحة والعار. والخزي: النكال الفاضح.. الاعراب: براءة: ترتفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هذه الآيات براءة. ويحتمل أن يكون مبتدأ، وخبره في الظرف، وهو قوله (إلى الذين) وجاز أن يكون المبتدأ نكرة، لأنها موصوفة، والأول أجود، لأنه يدل على حضور المدرك، كما تقول لمن تراه حاضرا: حسن والله، أي هذا حسن.. المعنى: (براءة من الله): أي هذه براءة من الله. (ورسوله): أي انقطاع للعصمة، ورفع للأمان، وخروج من العهود. (إلى الذين عاهدتم من المشركين): الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللمسلمين، والمعنى: تبرؤوا ممن كان بينكم وبينهم عهد من المشركين، فإن الله ورسوله بريئان منهم. قال الزجاج معناه: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود، والوفاء لهم بهما، إذ نكثوا، وإذا قيل: كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، العهد ؟ فالقول فيه: إنه يجوز أن ينقض ذلك على أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون العهد مشروطا بأن يبقى إلى أن يرفعه الله تعالى بوحي. وإما أن يكون قد ظهر من المشركين خيانة ونقض، فأمر الله سبحانه بأن ينبذ إليهم عهدهم. وإما أن يكون مؤجلا إلى مدة، فتنقضى المدة، وينتقض العهد. وقد وردت الرواية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، شرط عليهم ما ذكرناه. وروي أيضا أن المشركين كانوا قد نقضوا العهد أو هموا بذلك، فأمره الله سبحانه أن ينقض عهودهم.. ثم خاطب الله سبحانه المشركين فقال: (فسيحوا في الأرض) أي: سيروا في الأرض على وجه المهل، وتصرفوا في حوائجكم آمنين من السيف (أربعة أشهر)، فإذا انقضت هذه المدة، ولم تسلموا، إنقطعت العصمة عن دمائكم وأموالكم.
[ 8 ]
(واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي: غير فائتين عن الله، كما يفوت ما يعجز عنه، لأنكم حيث كنتم في سلطان الله وملكه. (وأن الله مخزي الكافرين) أي: مذلهم ومهينهم. واختلف في هذه الأشهر الأربعة، فقيل: كان ابتداؤها يوم النحر إلى العاشر من شهر ربيع الآخر، عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إنما ابتداء أجلهم الأشهر الأربعة، من أول شوال إلى آخر المحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، عن ابن عباس، والزهري. قال الفراء: كانت المدة إلى آخر المحرم، لأنه كان فيهم من كانت مدته خمسين ليلة، وهو من لم يكن له عهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الله له ذلك. وقيل: إن من كان له عهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أكثر من أربعة أشهر، حط إلى أربعة أشهر، ومن كان له عهد أقل منها، رفع إليها، عن الحسن، وابن إسحاق، قيل: كان ابتداء الأشهر الأربعة يوم النحر، لعشرين من ذي القعد إلى عشرين من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة، وفيها حجة الوداع، وكان سبب ذلك النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، على ما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى، عن الجبائي. القصة: أجمع المفسرون، ونقلة الأخبار، أنه لما نزلت (براءة)، دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أبي بكر، ثم أخذها منه، ودفعها إلى علي بن أبي طالب عليه السلام. واختلفوا في تفصيل ذلك، فقيل: إنه بعثه، وأمره أن يقرأ عشر آيات من أول هذه السورة، وأن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ثم بعث عليا خلفه ليأخذها ويقرأها على الناس. فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، العضباء، حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة، فأخذها منه. وقيل إن أبا بكر رجع فقال: هل نزل في شئ ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا إلا خيرا، ولكن لا يؤدي عني إلا أنا، أو رجل مني. وقيل: إنه قرأ علي (براءة) على الناس، وكان أبو بكر أميرا على الموسم، عن الحسن وقتادة، وقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم، أخذها من أبي بكر قبل الخروج، ودفعها إلي علي عليه السلام، وقال: لا يبلغ عني، إلا أنا، أو رجل مني، عن عروة بن الزبير، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة. وروى أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولاه أيضا الموسم، وأنه حين أخذ (البراءة)
[ 9 ]
من أبي بكر، رجع أبو بكر. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن سماك بن حرب، عن أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعث ب (براءة) مع أبي بكر إلى أهل مكة، فلما بلغ ذا الحليفة، بعث إليه فرده، وقال: لا يذهب بهذا إلا رجل من أهل بيتي ! فبعث عليا عليه السلام. وروى الشعبي عن محرز بن أبي هريرة، عن أبي هريرة، قال: كنت أنادي مع علي حين أذن المشركين. فكان إذا صحل صوته (1) فيما ينادي، دعوت مكانه، قال: فقلت يا أبت أي شئ كنتم تقولون ؟ قال: كنا نقول: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل البيت إلا مؤمن، ومن كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مدة، فإن أجله إلى أربعة أشهر، فإذا انقضت الأربعة الأشهر، فإن الله برئ من المشركين ورسوله. وروى عاصم بن حميد عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: خطب على عليه السلام الناس، واخترط سيفه فقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته، ومن لم يكن له مدة، فمدته أربعة أشهر، وكان خطب يوم النحر، وكانت عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر وقال: يوم النحر، يوم الحج الأكبر. وذكر أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن زيد بن نفيع، قال: سألنا عليا عليه السلام: بأي شئ بعثت في ذي الحجة ؟ قال: بعثت بأربعة: لا يدخل الكعبة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عهد، فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد، فأجله أربعة أشهر. وروى أنه عليه السلام، قام عند جمرة العقبة وقال: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم بأن لا يدخل البيت كافر، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله، فله عهده إلى أربعة أشهر، ومن لا عهد له فله مدة بقية الأشهر الحرم، وقرأ عليهم سورة (براءة). وقيل: قرأ عليهم ثلاث عشرة آية من أول (براءة). وروي أنه عليه السلام، لما نادى فيهم إن الله برئ من المشركين، أي من كل (1) صحل صوته: بح وخشن. (*)
[ 10 ]
مشرك، قال المشركون: نحن نتبرأ من عهدك، وعهد ابن عمك. ثم لما كانت السنة المقبلة، وهي سنة عشر، حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حجة الوداع، وقفل (1) إلى المدينة، ومكث بقية ذي الحجة الحرام، والمحرم، وصفر، وليالي من شهر ربيع الأول، حتى لحق بالله، عز وجل. (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4). القراءة: قرأ يعقوب برواية روح وزيد: (ورسوله) بالنصب، وهي قراءة الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو. وقرأ سائر القراء: (ورسوله) بالرفع. وفي الشواذ قراءة عكرمة، وعطا: (لم ينقضوكم) بالضاد المعجمة. الحجة: من قرأ (ورسوله) بالرفع، فإنه على الإبتداء، وخبره محذوف، ويدل عليه ما تقدمه، وتقديره ورسوله أيضا برئ منهم، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر في (برئ). وحسن العطف عليه، وإن كان غير مؤكد، لأن قوله (من المشركين) قام مقام التوكيد. وذكر سيبويه وجها ثالثا، وهو: أن يكون معطوفا على موضع أن، وهذا وهم منه، لأن (أن) المفتوحة مع ما بعدها في تأويل المصدر، فقد تغيرت عن حكم المبتدأ، وصارت في حكم ليت، ولعل، وكأن، في إحداثها معنى يفارق المبتدأ، فكما لا يجوز العطف على مواضعهن، فكذا لا يجوز العطف على موضع (أن). وإنما يجوز العطف على موضع (إن) المكسورة، كما قال الشاعر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب (2) (1) أي رجع. (2) قائله ضابي بن الحارث البرجمي قالها حين حبسه عثمان بالمدينة لجرم اقترفه. وقيار: إسم فرس وقيل غلامه. (*)
[ 11 ]
ولعل سيبويه توهم أنها مكسورة، فحمل على موضعها، فقد قرأ في الشواذ (إن الله برئ) بالكسر، فلعله تاؤل على هذه القراءة. ومن نصب عطفه على اسم الله تعالى، وعلى هذا فيكون خبره محذوفا أيضا. ومن قرأ (لم ينقضوكم): فمعناه لم ينقضوا أموركم، وعهودكم. اللغة: الأذان الإعلام، يقال: أذنته بكذا فأذن، أي أعلمته فعلم. وقيل: إن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن، ومعناه أوقعه في أذنه. وتأذن: بمعنى آذن، كما يقال تيقن وأيقن، والمدة، والزمان، والحين: نظائر، وأصله من مددت الشئ مدا، فكأنه زمان طويل الفسحة. والمدة عند المتكلمين: إسم للمعدود من حركات الفلك، وهو محدث. الاعراب: (وأذان): عطف على (براءة) عن الزجاج. وقيل: إن تقديره عليكم أذان، لأن فيه معنى الأمر، فيكون مبتدأ، وخبره محذوف، عن علي بن عيسى. ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر قوله (أن الله برئ) على حذف الباء، كأنه قال بأن الله. وعلى الوجهين الأولين، يكون موضع (أن) نصبا على أنه مفعول له، وقوله: (الذين عاهدتم) في موضع نصب على الإستثناء. (وبشر): معطوف على معنى الأذان، أي أذن وبشر، عن أبي مسلم. المعنى: ثم بين سبحانه أنه يجب إعلام المشركين ببراءة منهم، لئلا ينسبوا المسلمين إلى الغدر، فقال (وأذان من الله ورسوله إلى الناس) معناه: وإعلام، وفيه معنى الأمر أي: أذنوا، الناس، يعني أهل العهد. وقيل: المراد بالناس المؤمن والمشرك، لأن الكل داخلون في هذا الإعلام. وقوله: (إلى الناس) أي للناس، يقال هذا إعلام لك، وإليك. (يوم الحج الأكبر) فيه ثلاثة أقوال أحدها: إنه يوم عرفة، من عمر، وسعيد بن المسيب، وعطا، وطاووس، ومجاهد، وروي ذلك عن علي عليه السلام. ورواه المسور بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال عطا: الحج الأكبر: الذي فيه الوقوف، والحج الأصغر: الذي ليس فيه وقوف، وهو العمرة وثانيها: إنه يوم النحر، عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن زيد، والنخعي، ومجاهد، والشعبي، والسدي، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ورواه ابن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الحسن: وسمي الحج الأكبر، لأنه حج فيه المشركون والمسلمون، ولم يحج بعدها مشرك. وثالثها: إنه جميع أيام
[ 12 ]
الحج، عن مجاهد أيضا، وسفيان، فمعناه أيام الحج كلها، كما يقال يوم الجمل، ويوم صفين ويوم بعاث (1): يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب، دامت أياما. (أن الله برئ من المشركين) أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف، (ورسوله) معناه: ورسوله أيضا برئ منه. وقيل: إن البراءة الأولى لنقض العهد، والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان، فليس بتكرار. (فإن تبتم فهو خير لكم) معناه: فإن تبتم في هذه المدة أيها المشركون، ورجعتم عن الشرك إلى توحيد الله، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك، لأنكم تنجون به من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة (وإن توليتم) عن الإيمان، وصبرتم على الكفر، (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) أي: لا تعجزونه عن تعذيبكم، ولا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، وفي هذا إعلام بأن الإمهال ليس بعجز، وإنما هو لإظهار الحجة والمصلحة، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة، فقال: (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) أي: أخبرهم مكان البشارة بعذاب موجع، وهو عذاب النار في الآخرة. (إلا الذين عاهدتم من المشركين) قال الفراء: إستثنى الله تعالى من براءته، وبراءة رسوله، من المشركين قوما من بني كنانة، وبني ضمرة، كان قد بقي من أجلهم تسعة أشهر، أمر بإتمامها لهم، لأنهم لم يظاهروا على المؤمنين، ولم ينقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ابن عباس: عنى به كل من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عهد قبل (براءة)، وينبغي أن يكون ابن عباس أراد بذلك من كان بينه وبينه عقد هدنة، ولم يتعرض له بعداوة، ولا ظاهر عليه عدوا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صالح أهل هجر، وأهل البحرين، وإيلة، ودومة الجندل، وله عهود بالصلح والجزية، ولم ينبذ إليهم بنقض عهد، ولا حاربهم بعد، وكانوا أهل ذمة إلى أن مضى لسبيله صلى الله عليه وآله وسلم، ووفى لهم بذلك من بعده، (ثم لم ينقصوكم شيئا) معناه: لم ينقصوكم من شروط العهد شيئا. وقيل: معناه لم يضروكم شيئا، (ولم يظاهروا (1) قال القلقشندي: يوم بعاث كان بين الأوس والخزرج (إنتهى) وقيل: سمي بذلك، لأن الأوس طلبوا من الخزرج أن يوقفوا الحرب، فطلب الخزرج منهم رهائن، فبعثوا بأربعين غلاما منهم، ففرقهم الخزرج في دورهم. وقال الحموي: بعاث موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية. (*)
[ 13 ]
عليكم أحدا) أي لم يعاونوا عليكم أيها المؤمنون أحدا من أعدائكم، (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) أي: إلى انقضاء مدتهم التي وقعت المعاهدة بينكم إليها (إن الله يحب المتقين) لنقض العهود. (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلو سبيلهم إن الله غفور رحيم (5) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)). اللغة: الإنسلاخ: خروج الشئ مما لابسه، وأصله من سلخ الشاة، وهو نزع الجلد عنها. وسلخنا شهر كذا، نسلخه، سلخا، وسلوخا. والحصر: المنع من الخروج عن محيط. والحصر، والحبس، والأسر، نظائر. والمرصد: الطريق، ومثله المرقب، والمربأ. ورصده يرصده رصدا. الاعراب: قال أبو الحسن الأخفش: قوله (كل مرصد) المعنى: على كل مرصد، فحذفت (على) وأنشد: نغالي اللحم للأضياف نيا، ونرخصه إذا نضج القدور (1) المعنى: نغالي باللحم فحذفت الباء، قال الزجاج: (كل مرصد) ظرف، كقولك ذهبت مذهبا، وذهبت طريقا، وذهبت كل طريق، قال أبو علي: لا يحتاج في هذا إلى تقدير (على) إذا كان المرصد إسما للمكان، كما إنك إذا قلت: ذهبت مذهبا، ودخلت مدخلا، إذا جعلت المذهب والمدخل إسمين للمكان، لم يحتج إلى (على) ولا إلى تقدير حرف جر، إلا أن أبا الحسن ذهب إلى أن المرصد إسم للطريق، وإذا كان إسما للطريق، كان مخصوصا، وإذا كان مخصوصا، وجب أن لا (1) الني: اللحم الذي لم ينضج، وأصله نئ، فترك الهمز، وقلب ياءا. يقول: نشتري اللحم غاليا، ثم نبذله، ونطعمه، إذا نضج في قدورنا. (*)
[ 14 ]
يصل الفعل الذي لا يتعدى إليه إلا بحرف جر، نحو: قعدت على الطريق، إلا أن يجئ في ذلك اتساع، نحو ما حكاه سيبويه، من قولهم: ذهبت الشام، ودخلت البيت. وقد غلط أبو إسحاق الزجاج قي قوله (كل مرصد) ظرف، كقولك ذهبت مذهبا، وذهبت طريقا، في أن جعل الطريق ظرفا كالمذهب، وليس الطريق بظرف لأنه مكان مخصوص. وقد نص سيبويه على اختصاصه، ألا ترى أنه حمل قول ساعدة: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب (1) على أنه قد حذف منه الحرف اتساعا، كما حذف من ذهبت الشام، وإذا أثبت ذلك، فالمرصد مثله أيضا في الإختصاص، وأن لا يكون ظرفا إذا كان إسما للطريق. وقوله (أحد): فإعرابه أنه مرفوع بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، المعنى وإن استجارك أحد. قال الزجاج: ومن زعم أنه يرفع أحدا بالإبتداء، فقد أخطأ، لأن إن الجزاء لا يتخطى ما يرفع بالإبتداء ويعمل فيما بعده، فلو أظهرت المستقبل، لقلت إن أحد يقم أكرمه، ولا يجوز إن أحد يقم زيد يقم، لا يجوز أن يرفع زيد بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، ويجزم، وإنما جاز في (إن) لأن (إن) يلزمها الفعل، وجواب الجزاء يكون بالفعل وغيره، ولا يجوز أن تضمر وتجزم بعد المبتدأ، لأنك تقول هاهنا: إن تأتني، فزيد يقوم، فالموضع موضع ابتداء. قال أبو علي: إعلم أن جواب الشرط، وإن كان بغير الفعل، فالأصل فيه الفعل، والفاء، وإذا، واقعان موقع الفعل، بدلالة أن قوله (ويذرهم) على قراءة من قرأ بالجزم، فمحمول على الموضع من قوله (فلا هادي له). وأما قول أبي إسحاق لا يجوز أن تضمر وتجزم بعد المبتدأ، ولعمري أنه لا يجوز أن يضمر الفعل فيرفع الإسم الذي يرتفع بالإبتداء بالفعل المضمر في نحو قولك إن تأتني فزيد يقوم، لأن الجزم لا يقع بعد المبتدأ، ولكن لا يمتنع أن يقع الجزم بعد الفاعل في الجزاء، كما يقع في الشرط، لأن الجزاء موضع فعل، كما أن الشرط موضع فعل. فالمسألة التي منع أبو إسحاق إجازتها جائزة لا إشكال في (1) رمح لدن لين المهزة. وعسل الثعلب: مضى مسرعا واضطرب في عدوه وهز رأسه يصف الشاعر رمحه باللدونة. قال في اللسان ويروى (لذ). (*)
[ 15 ]
جوازها، وهي قوله: إن يقم أحد زيد يقم، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك. قال الزجاج: وإنما يجوز الفصل في باب إن، لأن إن أم الجزاء، ولا يزول عنه إلى غيره، فأما أخواتها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر، قال: فمتى واغل ينبهم يحيو ه وتعطف عليه كأس الساقي (1) المعنى: ثم بين سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدة فقال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)، قيل: هي الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد، عن جماعة. وقيل: هي الأشهر الأربعة التي حرم القتال فيها، وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين، على ما ذكرناه من اختلاف المفسرين فيها، وعلى هذا فمنهم من قال: معناه فإذا انسلخ إلأشهر بانسلاخ المحرم، لأن المشركين من كان منهم لهم عهد، أمهلوا أربعة أشهر من حين نزلت (براءة)، ونزلت في شوال، ومن لا عهد لهم، فأجلهم من يوم نزول النداء، وهو يوم عرفة، أو يوم النحر، إلى تمام الأشهر الحرم، وهي بقية ذي الحجة، والمحرم كله، فيكون ذلك خمسين يوما. فإذا انقضت هذه الخمسون يوما، انقضى الأجلان، وحل قتالهم سواء كان لهم عهد خاص، أو عام. ومنهم من قال: معناه إذا انسلخ الأشهر الأربعة التي هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر، إذ حرمنا فيها دماء المشركين، وجعلنا لهم أن يسيحوا فيها آمنين. (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: فضعوا السيف فيهم حيث كانوا في الأشهر الحرم، وغيرها، في الحل، أو في الحرم، وهذا ناسخ لكل آية وردت في الصلح، والإعراض عنهم. (وخذوهم) قيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم، واقتلوهم. وقيل: ليس فيه تقديم وتأخير، وتقديره فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين. وقوله (واحصروهم) معناه: واحبسوهم، واسترقوهم، أو فادوهم بمال. وقيل: وامنعوهم دخول مكة، والتصرف في بلاد الإسلام. (1) الواغل: الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه إليه: يصف قومه بالجود. (*)
[ 16 ]
(واقعدوا لهم كل مرصد) أي: بكل طريق، وبكل مكان تظنون أنهم يمرون فيه، وضيقوا المسالك عليهم، لتمكنوا من أخذهم. وقوله: (لهم) معناه لقتلهم وأسرهم. (فإن تابوا) أي: رجعوا من الكفر، وانقادوا للشرع (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي: قبلوا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لأن عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة وأداء الزكاة، فثبت أن المراد به القبول. (فخلوا سبيلهم) أي: دعوهم يتصرفون في بلاد الإسلام، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. وقيل: معناه فخلوا سبيلهم إلى البيت أي: دعوهم يحجوا معكم. (إن الله غفور رحيم). واستدلوا بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمدا، يجب قتله، لأن الله تعالى أوجب الإمتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا، ويقيموا الصلاة، فإذا لم يقيموها وجب قتلهم (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) معناه: وإن طلب أحد من المشركين، الذين أمرتك بقتالهم، منك الأمان من القتل، بعد الأشهر الأربعة، ليسمع دعوتك واحتجاجك عليه بالقرآن، فأمنه، وبين له ما يريد، وأمهله حتى يسمع كلام الله ويتدبره. وإنما خص كلام الله لأن معظم الأدلة فيه. (ثم أبلغه مأمنه) معناه: فإن دخل في الإسلام، نال خير الدارين، وإن لم يدخل في الإسلام، فلا تقتله، فتكون قد غدرت به، ولكن أوصله إلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله. (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) أي ذلك الأمان لهم بأنهم قوم لا يعلمون الإيمان والدلائل، فآمنهم حتى يسمعوا، ويتدبروا، ويعلموا. وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: المعارف ضرورية، وفي الآية دلالة على أن المتلو والمسموع كلام الله، لأن الشرع والعرب، جعلا الحكاية كعين المحكى، يقال هذا كلام سيبويه، وشعر امرئ القيس. ومن ظن أن الحكاية تفارق المحكي، لأجل هذا الظاهر، فقد غلط، لأن المراد ما ذكرناه. (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبا قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
[ 17 ]
القراءة: في الشواذ قراءة عكرمة: (ايلا) بياء بعد الهمزة. الحجة: يمكن أن يكون أراد إلا كقراءة الجماعة، إلا أنه أبدل اللام الأولى ياءا، لثقل الإدغام، ولكسر الهمزة، كما قالو دينار وقيراط، والأصل دنار وقراط، لقولهم دنانير وقراريط، وقد جاء مع التضعيف وحده، قال: يا ليتما أمنا شالت نعامتها أيما إلى جنة، أيما إلى نار (1) اللغة: الظهور: العلو بالغلبة، وأصله خروج الشئ إلى حيث يصح أن يدرك الرقبة، والإنتظار، والمراقبة، والمراعاة، والمحافظة، نظائر. والرقيب: الحافظ. والإل: العهد، مأخوذ من الأليل وهو البريق. يقال أل يؤل ألا: إذا لمع. والآلة: الحربة للمعانها. وأذن مؤللة: مشبهة للحربة في تحديدها، قال الشاعر: وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب والإل: القرابة. قال حسان: لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام (2) المعنى: لما أمر سبحانه بنبذ العهد إلى المشركين، بين أن العلة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر، وأمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر، فقال: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) أي: كيف يكون لهؤلاء عهد صحيح مع إضمارهم الغدر والنكث ! وهذا يكون على التعجب، أو على الجحد، ويدل عليه ما روي أن في قراءة عبد الله: (كيف يكون عهد عند الله ولا ذمة) فأدخل الكلام (لا) لأن معنى الأول جحد أي: لا يكون لهم عهد. وقيل: معناه كيف يأمر الله ورسوله بالكف عن دماء المشركين، ثم استثنى سبحانه، فقال: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) أي: فإن لهم عهدا عند الله، لأنهم لم يضمروا الغدر بك، والخيانة لك. (1) قائله نحيت الخدري يهجو أمه، وكان شريرا أو عاقا لها. وشالت: من شالت الناقة ذنبها أي: رفعته. والنعامة: باطن القدم. وذلك كناية عن موتها. (2) السقب: ولد الناقة ساعة يولد. والرأل: ولد النعام. يقول: ان قرابتك من قريش كقرابة ولد الناقة لرأل النعام أي لست منهم في نسب. (*)
[ 18 ]
واختلف في هؤلاء من هم، فقيل: هم قريش، عن ابن عباس. وقيل: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله يوم الحديبية، فلم يستقيموا، ونقضوا العهد بأن أعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر، عن قتادة، وابن زيد. وقيل: هم من قبائل بكر: بنو خزيمة، وبنو مدلج، وبنر ضمرة، وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن له نقض إلى مدته. وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد، وبعد فتح مكة. (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) معناه: فما استقاموا لكم على العهد، أي: ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة، فكونوا معهم كذلك. (إن الله يحب المتقين) للنكث والغدر (كيف وإن يظهروا عليكم): هاهنا حذف، وتقديره: كيف يكون لهم عهد، وكيف لا تقتلونهم، وإنما حذفه لأن ما قبله من قوله: (كيف يكون للمشركين عهد) يدل على ذلك، ومثله قول الشاعر يرثي أخا له قد مات: وخبر تماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وقليب (1) أي: فكيف مات، وليس بقرية ؟ ومثله قول الحطيئة: فكيف ولم أعلمهم حدلوكم على معظم، ولا أديمكم قدوا (2) أي: وكيف تلومونني على مدح قوم، وتذمونهم ؟ فاستغنى عن ذكر ذلك، لأنه جرى في القصيدة ما يدل على ما أضمره. ومعناه: كيف يكون لهؤلاء عهد عند الله، وعند رسوله، وهم بحال أن يظهروا عليكم، ويظفروا بكم، ويغلبوكم (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) أي: لا يحفظوا، ولا يراعوا فيكم قرابة، ولا عهدا. والإل: القرابة، عن ابن عباس، والضحاك. والعهد، عن مجاهد، والسدي، والجوار، (هامش) * (1) قائله كعب بن سعد الغنوي. والهضبة: الجبل. الرابية. (2) حدل حدلا وحدولا: جار وظلم. وفي التبيان: (خذلوكم) بمعجمتين. (وقد الأديم) قيل ههنا كناية عن هتك العرض. (*)
[ 19 ]
عن الحسن، والحلف، عن قتادة، واليمين، عن أبي عبيدة. وقيل: أن الإل اسم الله تعالى، عن مجاهد، وروى أن أبا بكر قرئ عليه كلام مسيلمة، فقال: لم يخرج هذا من إل، فأين يذهب بكم ؟ ومن قال إن الإل هو العهد، قال: جمع بينه وبين الذمة، وإن كان بمعناه، لاختلاف معنى اللفظين، كما قال: (وألفى قولها كذبا ومينا) وقال: (متى أدن منه ينأ عني، ويبعد). (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) معناه: يتكلمون بكلام الموالين لكم لترضوا عنهم، وتأبى قلوبهم إلا العداوة، والغدر، ونقض العهد. (وأكثرهم فاسقون) أي متمردون في الكفر والشرك، عن ابن الأخشيد. وقال الجبائي: أراد كلهم فاسقون، لكنه وضع الخصوص موضع العموم. وقال القاضي: معناه أكثرهم خارجون عن طريق الوفاء بالعهد، وأراد بذلك رؤساءهم. (اشتروا بأيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولائك هم المعتدون (10) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الأيات لقوم يعلمون (11) وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13). القراءة: قرأ أهل الكوفة والشام: (أئمة الكفر) بهمزتين. وقرأ الباقون: (أيمة) بهمزة واحدة، وياء بعدها. وقرأ ابن عامر: (لا إيمان) بكسر الهمزة، ورواه ابن عقدة بإسناده، عن عريف بن الوضاح الجعفي، عن جعفر بن محمد عليهما السلام. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي: أئمة أصله أفعلة، واحدها إمام، فإذا جمعته على
[ 20 ]
أفعلة ففيه همزة هي فاء الفعل، ويزيد عليها همزة أفعلة الزائدة، فيجتمع همزتان، واجتماع الهمزتين في كلمة لا يستعمل بحقيقتهما. قال الزجاج: أصله أئممة، ولكن الميمين لما اجتمعتا ادغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة، فصارت أئمة، فأبدل النحويون من الهمزة المكسورة الياء، قال: ومن قال هذا أوم من هذا (1): كان أصله أأم، فجعلها واوا مفتوحة، كما قالوا في جمع آدم أوادم. قال أبو علي: ومن جمع بين الهمزتين في (أئمة)، فحجته أن سيبويه قال: زعموا أن ابن أبي إسحاق، كان يحقق الهمزتين في اناس معه، وقد يتكلم ببعضه العرب، وهو ردئ، ووجهه من القياس أن تقول إن الهمزة حرف من حروف الحلق، كالعين وغيره، وقد جمع بينهما في نحو كعاعة وكع يكع، فكما جاز اجتماع العينين، جاز اجتماع الهمزتين. قال علي بن عيسى: إنما جاز اجتماع الهمزتين هنا، لئلا يجتمع على الكلمة تغيران: الإدغام والقلب، مع خفة التحقيق لأجل ما بعده من السكون، وعلى هذا تقول: هذا أءم من هذا، بهمزتين. قال: وإنما قلبت الهمزة من أئمة (2) دون حركة ما قبلها، لأن الحركة إنما نقلت من الميم إلى الهمزة، لبيان زنة الكلمة، فلو ذهبت بقلبها على ما قبلها، لكنت مناقضا للغرض فيها. وأما قوله (لا أيمان لهم): فمن فتح الهمزة قال: هو أشبه بالموضع، فقد قال نكثوا أيمانهم، ومن كسرها جعله مصدر آمنته إيمانا، خلاف خوفته، ولا يريد مصدرا من الذي هو صدق، فيكون تكرارا لدلالة ما تقدم من قوله (فقاتلوا أئمة الكفر) على أن أهل الكفر لا إيمان لهم. اللغة: الأيمان: جمع يمين، وهو القسم. والطعن: الإعتماد بالعيب، وأصله الطعن بالرمح. والإمام: هو المتقدم للأتباع، فالإمام في الخير مهتد هاد، وفي الشر ضال مضل. والهم: مقارنة الفعل بالعزم من غير إيقاع له، وقد ذموا بهذا الهم، ففيه دليل على العزم، وقد يستعمل الهم على مقارنة العزم. والبدء: فعل الشئ من قبل غيره، وهو فعل الشئ أولا. والمرة: فعل لم يتكرر، وهي الفعلة من المر. والمرة، والدفعة، والكرة، نظائر. المعنى: ثم بين سبحانه خصال القوم فقال: (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا (1) أي أحسن إمامة منه. (2) [ على حركتها ]. (*)
[ 21 ]
فصدوا عن سبيله) ومعناه: أعرضوا عن دين الله، وصدوا الناس عنه بشئ يسير نالوه من الدنيا، وأصل الإشتراء: استبدال ما كان من المتاع بالثمن، ونقيضه البيع: وهو العقد على تسليم المتاع بالثمن. ومعنى الفاء هنا أن اشتراءهم هذا أداهم إلى الصد عن الإسلام، وهذا ورد في قوم من العرب جمعهم أبو سفيان على طعامه ليستميلهم على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن مجاهد. وقيل: ورد في اليهود الذين كانوا يأخذون الرشا من العوام على الحكم بالباطل، عن الجبائي. (إنهم ساء ما كانوا يعملون) أي: بئس العمل عملهم. (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) سبق معناه. والفائدة في الإعادة أن الأول في صفة الناقضين للعهد، والثاني في صفة الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. وقيل: إنما كرر تأكيدا. (وأولئك هم المعتدون) أي: المجاوزون الحد في الكفر والطغيان. (فإن تابوا) أي: ندموا على ما كان منهم من الشرك، وعزموا على ترك العود إليه، وقبلوا الإسلام، (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي: قبلوهما وأدوهما عند لزومهما، (فإخوانكم في الدين) أي: فهم إخوانكم في الدين، فعاملوهم معاملة إخوانكم من المؤمنين. (ونفصل الآيات) أي: نبينها، ونميزها بخاصة لكل واحدة منها تتميز بها من غيرها، حتى يظهر مدلولها على أتم ما يكون من الظهور فيها (لقوم يعلمون) ذلك، ويتبينونه دون الجهال الذين لا يتفكرون. (وإن نكثوا) أي: نقضوا (أيمانهم) أي: عهودهم، وما حلفوا عليه (من بعد عهدهم) أي: من بعد أن عقدوه (وطعنوا في دينكم) أي: عابوه، وقدحوا فيه (فقاتلوا أئمة الكفر) أي: رؤساء الكفر والضلالة، وخصهم بالأمر بقتالهم، لأنهم يضلون أتباعهم. قال الحسن: وأراد به جماعة الكفار، وكل كافر إمام لنفسه في الكفر، ولغيره في الدعاء إليه. وقال ابن عباس، وقتادة: أراد به رؤساء قريش مثل الحرث بن هشام، وأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد، وكان حذيفة بن اليمان يقول: لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقال مجاهد: هم أهل فارس والروم. وقرأ علي عليه السلام، هذه الآية يوم البصرة، ثم قال: أما والله ! لقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لي: يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة، والفئة الباغية، والفئة المارقة ! (إنهم لا أيمان لهم) من قرأ بفتح الهمزة فمعناه أنهم لا يحفظون العهد واليمين، كما يقال: فلان لا عهد له،
[ 22 ]
أي: لا وفاء له بالعهد. ومن قرأ بالكسر فمعناه: لا تؤمنوهم بعد نكثهم العهد، ويحتمل أن يكون معناه أنهم إذا آمنوا إنسانا لا يفون به، ويحتمل أن يكون معناه أنهم كفروا فلا إيمان لهم. (لعلهم ينتهون) معناه: قاتلوهم لينتهوا عن الكفر، فإنهم لا ينتهون عنه بدون القتال. وقيل: معناه ليكن قصدكم في قتالكم انتهاؤهم عن الشرك. فإن قيل: كيف نفى بقوله (لا أيمان لهم) ما أثبته بقوله (وان نكثوا أيمانهم) ؟ قيل له: إن الأيمان التي اثبتها، هي ما حلفوا بها، وعقدوا عليها، وإنما نفاها من بعد، لأنهم لم يفوا بها، ولم يتمسكوا بموجبها (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول): الالف للإستفهام، والمراد به التحضيض والإيجاب، ومعناه: هلا تقاتلونهم، وقد نقضوا عهودهم التي عقدوها. واختلف في هؤلاء، فقيل: هم اليهود الذين نقضوا العهد، وخرجوا مع الأحزاب، وهموا بإخراج الرسول من المدينة، كما أخرجه المشركون من مكة، عن الجبائي، والقاضي. وقيل: هم مشركو قريش، وأهل مكة (وهم بدءوكم أول مرة) أي: بدءوكم بنقض العهد، عن ابن إسحاق والجبائي. وقيل: بدءوكم بقتال حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خزاعة، عن الزجاج. وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بدر، وقالوا حين سلم العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا، ومن معه (أتخشونهم) أي: أتخافون أن ينالكم من قتالكم مكروه، لفظه استفهام والمراد به تشجيع المؤمنين، وفي ذلك غاية الفصاحة، لأنه جمع بين التقريع والتشجيع. (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) المعنى: لا تخشوهم، ولا تتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم، فإنه سبحانه أحق أن تخافوا عقابه في ترك أمره بقتالهم، إن كنتم مصدقين بعقاب الله وثوابه، أي: إن كنتم مؤمنين فخشية الله أحق بكم من خشية غيره، والله أعلم وأحكم. (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15). القراءة: في الشواذ قراءة الأعرج، وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد: (ويتوب الله) بالنصب، ورويت عن أبي عمرو أيضا.
[ 23 ]
الحجة: قال ابن جني: إذا نصب فالتوبة داخلة في جواب الشرط، وإذا رفع فهو استئناف، وتقديره في النصب، إن تقاتلوهم تكن هذه الأشياء كلها التي أحدها التوبة من الله على من يشاء، والوجه قراءة الجماعة على الإستئناف، لأنه تم الكلام على قوله: (ويذهب غيظ قلوبهم) ثم استأنف فقال (ويتوب الله على من يشاء) لأن التوبة منه سبحانه على من يشاء، ليست مسببة عن قتالهم. المعنى: ثم أكد سبحانه ما تقدم بأن أمر المسلمين بقتالهم، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم، فقال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) قتلا وأسرا (ويخزهم) أي: ويذلهم (وينصركم عليهم) أي: ويعنكم أيها المؤمنون عليهم، (ويشف صدور قوم مؤمنين) يعني: صدور بني خزاعة الذين بيت عليهم بنو بكر، عن مجاهد، والسدي، لأنهم كانوا حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ويذهب غيظ قلوبهم) معناه: ويكون ذلك النصر شفاء لقلوب المؤمنين التي امتلأت غيظا لكثرة ما نالهم من الأذى من جهتهم، ثم استأنف سبحانه، فقال: (ويتوب الله على من يشاء) أي: ويقبل توبة من تاب منهم مع فرط تعديهم، رحمة وفضلا (والله عليم حكيم): عليم بتوبتهم إذا تابوا، حكيم في أمركم بقتالهم إذا نكثوا قبل أن يتوبوا ويرجعوا، لأن أفعاله كلها صواب وحكمة، وفي هذا دلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأنه وافق خبره المخبر. النظم: والوجه في اتصال قوله (ويتوب الله على من يشاء) بما قبله شيئان: أحدهما: البشارة بأن فيهم من يتوب ويرجع عن الكفر إلى الإيمان. والآخر: بيان أنه ليس في قتالهم اقتطاع لأحد منهم عن التوبة. (أم حستم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون (16). اللغة: الحسبان: قوة المعنى في النفس، من غير قطع، وهو مشتق من الحساب لدخوله فيما يحتسب به. والترك: ضد ينافي الفعل المبتدأ في محل القدرة عليه، ويستعمل بمعنى أن لا يفعل، كقوله: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون). والوليجة: الدخيلة في القوم من غيرهم. والبطانة، مثله. وليجة الرجل: من يختص بدخلة أمره دون الناس، الواحد والجمع فيه سواء، وكل شئ دخل في شئ
[ 24 ]
ليس منه، فهو وليجة، قال طرفة: فإن القوافي يتلجن موالجا تضايق عنه أن تولجه الإبر الاعراب: أم: حرف عطف، يعطف به الإستفهام و (ام حسبتم): معطوف على ما تقدم من قوله (الا تقاتلون) وهو من الإستفهام المعترض في وسط الكلام، فجعل بأم ليفرق بينه وبين الإستفهام المبتدأ لما يفعل نفي الفعل مع تقريب لوقوعه، ولم يفعل نفي الفعل بعد إطماع في وقوعه. المعنى: ثم نبه سبحانه على جلالة موقع الجهاد، فقال: (أم حسبتم أن تتركوا) معناه: أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا من دون أن تكلفوا الجهاد في سبيل الله مع الإخلاص (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) معناه: ولما يظهر ما علم الله منكم، فذكر نفي العلم، والمراد نفي المعلوم تأكيدا للنفي، وإلا فإن الله عز اسمه عالم بما يكون قبل أن كان، وبما لا يكون لو كان، كيف كان يكون، وتقديره: أظننتم أن تتركوا، ولم تجاهدوا (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) أي: ولم يعلم الله الذين لم يتخذوا سوى الله، وسوى رسوله، والمؤمنين، بطانة وأولياء يوالونهم، ويفشون إليهم أسرارهم. وقال الجبائي: هو أن يكونوا منافقين، وهو قول الحسن. وفي هذه دلالة على تحريم موالاة الكفار والفساق، والالف بهم. (والله خبير بما تعملون) أي: عليم بأعمالكم، فيجازيكم عليها. النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: انه لما تقدم الأمر بالقتال، عطف عليه بهذا الشرط، وهو الإخلاص في الجهاد على وجه قطع العصمة، ليظهر الظفر، ويستحق الثواب. (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون (17) إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وءاتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسا أولئك أن يكونوا من المهتدين (18). القراءة: قرأ أهل البصرة وابن كثير: (مسجد الله) على الواحد، وهو قراءة
[ 25 ]
ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والباقون: (مساجد الله). الحجة: حجة من أفرد أنه عنى به المسجد الحرام، وحجة من جمع أنه عنى به المسجد الحرام وغيره من المساجد، ويحتمل أن يكون أراد المسجد الحرام، وإنما جمع لأن كل موضع منه مسجد يسجد عليه، فيكون القراءتان بمعنى. اللغة: الأصل في المسجد: هو موضع السجود في العرف، ويعبر به عن البيت المهيأ لصلاة الجماعة فيه. والعمارة: أن يجدد منه ما استرم من الأبنية، ومنه اعتمر إذا زار، لأنه يجدد بالزيارة ما استرم من الحال. المعنى: لما أمر الله سبحانه بقتال المشركين، وقطع العصمة والموالاة عنهم، أمر بمنعهم عن المساجد، فقال: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) معناه: لا ينبغي للمشركين أن يكونوا قواما على عمارة مساجد الله، ومتولين لأمرها، وينبغي أن يعمرها المسلمون. وقيل: إن المراد بذلك المسجد الحرام خاصة. وقيل: هي عامة في جميع المساجد. (شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي: حال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، أو مع شهادتهم. واختلف في العمارة للمسجد فقيل: هي بدخوله ونزوله، كما يقال فلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه، لأن المسجد تكون عمارته بطاعة الله، وعبادته وقيل: هي باستصلاحه، ورم ما استرم منه، لأنه إنما يعمر للعبادة، عن الجبائي. وقيل: هي بأن يكونوا من أهله، أي: لا ينبغي أن يترك المشركون فيكونوا أهل المسجد الحرام، عن الحسن. واختلف في شهادتهم على أنفسهم بالكفر كيف هي، فقيل: هي أن النصراني يسأل ما أنت ؟ فيقول: أنا نصراني. واليهودي يقول: أنا يهودي، وكذلك المشرك إذا سئل ما دينك ؟ يقول: مشرك، لا يقولها أحد غير العرب، عن السدي. وقيل: معناه أن كلامهم يدل على كفرهم، كما يقال كلام فلان يدل على بطلان دعواه، عن الحسن. وقيل: هي قولهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). وقيل: شهادتهم سجودهم لأصنامهم مع إقرارهم بأنها مخلوقة، عن ابن عباس. ومعناه: أنهم يشهدون على أنفسهم بأفعالهم وأحوالهم، ومن أظهر شيئا وبينه، يقال قد شهد به. (أولئك حبطت أعمالهم) التي هي من جنس الطاعة من المؤمنين أي: بطلت لأنهم أوقعوها على الوجه الذي لا يستحق لأجله الثواب عليها عند الله (وفي النار هم خالدون) أي: مقيمون مؤبدون (إنما يعمر مساجد الله)
[ 26 ]
ولفظة إنما لاثبات المذكور، ونفي ما عداه، فمعناه: لا يعمر مساجد الله بزيارتها، وإقامة العبادات فيها، أو ببنائها ورم المسترم منها إلا (من آمن بالله واليوم الآخر) أي: من أقر بوحدانية الله، واعترف بالقيامة، (وأقام الصلاة) بحدودها، (وآتى الزكاة) أي: أعطاها إن وجبت عليه إلى مستحقها، (ولم يخش إلا الله) أي: لم يخف سوى الله أحدا من المخلوقين، وهذا راجع إلى قوله (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه) أي: إن خشيتموهم فقد ساويتموهم في الإشراك، كما قال: (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله) الآية (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) إلى الجنة، ونيل ثوابها، لأن عسى من الله واجبة، عن ابن عباس، والحسن، وفي ذكر الصلاة، والزكاة، وغير ذلك، بعد ذكر الإيمان بالله، دلالة على أن الإيمان لا يتناول أفعال الجوارح، إذ لو تناولها لما جاز عطف ما دخل فيه عليه. ومن قال. إن المراد فيه التفصيل، وزيادة البيان، فقد ترك الظاهر. (* أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الأخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين (19) الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولائك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22). القراءة: في قراءة محمد بن علي الباقر عليه السلام، وابن الزبير، وأبي وجرة السواري، وأبي جعفر السعدي القارئ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) وقرأ الضحاك (سقاية الحاج) بالضم (وعمرة المسجد). الحجة: أما سقاة: فهو جمع ساق. وعمرة: جمع عامر. وأما سقاية: فقد قال ابن جني فيه نظر ووجهه أن يكون جمعا جاء على فعال كعرق وعراق، ورخل ورخال (1)، وظئر وظؤار، وتوم وتوام، وبرئ وبراء، وانسان وأناس. ثم أنث كما يؤنث من الجموع أشياء نحو: حجارة، وعيورة (2) وكأن من عدل عن قراءة الجماعة (1) الرخل: الأنثى من أولاد الضأن. (2) عيورة جمع العير: الحمار وحشيا، أو أهليا، وقد غلب على الوحشي. (*)
[ 27 ]
(سقاية الحاج وعمارة المسجد) إلى هذا، إنما هرب من أن يقابل الحدث بالجواهر، وذلك أن من آمن جوهر وسقاية وعمارة مصدران، فلا بد إذن من حذف المضاف، أي: أجعلتم هذين الفعلين كفعل من آمن بالله، فلما رأى أنه لا بد من حذف المضاف قرأ: سقاة وعمرة، على ما مضى. اللغة: السقاية: آلة تتخذ لسقي الماء. والسقاية: مصدر كالسقي أيضا. وقيل: إنهم كانوا يسقون الحجيج الماء والشراب، وبيت البئر سقاية أيضا. والبشارة: الدلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه، كما يقال بشرته، أبشره، بشرى. ورضوان: هو معنى يستحق بالإحسان، ويدعو إلى الحمد على ما كان، ويضاد سخط العصيان. والنعيم: مشتق من النعمة، وهي اللين. فأما النعمة: بكسر النون، فهي منفعة يستحق بها الشكر، لأنها كنعمة العيش. وأبدا: للزمان المستقبل من غير آخر، كما أن قط للماضي. يقال: ما رأيته قط، ولا أراه أبدا، وجمع الأبد: آباد، وأبود. يقال: لا أفعل ذلك أبد الأبيد، وأبد الآبدين. وتأبد المنزل: أتى عليه. والأوابد: الوحش، سميت بذلك لطول أعمارها. وقيل: لم يمت وحشي حتف أنفه، وإنما يموت بآفة والآبدة: الداهية. النزول: قيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وبيدي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، وقال علي عليه السلام: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، عن الحسن، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي. وقيل: إن عليا عليه السلام قال للعباس: يا عم ! ألا تهاجر، وألا تلحق برسول الله ؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام، وأسقي حاج بيت الله ؟ فنزلت: (أجعلتم سقاية الحاج) عن ابن سيرين، ومرة الهمداني. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني: بإسناده عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران، إذا مر بهما علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: بماذا تتفاخران ؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاج. وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه السلام، استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا ! فقالا: وما أوتيت يا علي ؟ قال: ضربت خراطيمكما
[ 28 ]
بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله ! فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي ؟ فقال: ادعوا لي عليا، فدعي له، فقال: ما حملك على ما استقبلت به عمك ؟ فقال يا رسول الله ! صدمته بالحق، فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض ! فنزل جبرائيل عليه السلام، فقال: يا محمد ! إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول أتل عليهم: (أجعلتم سقاية الحاج) الآيات. فقال العباس: إنا قد رضينا ثلاث مرات. وفي تفسير أبي حمزة أن العباس لما أسر يوم بدر، أقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار، فعيروه بالكفر، وقطيعة الرحم، فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا ؟ قالوا: وهل لكم من محاسن ؟ قال: نعم والله لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني (1). فأنزل الله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا) إلى آخر الآيات. المعنى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله) هذا استفهام معناه الإنكار أي: لا تجعلوا، وفيه حذف يدل الكلام عليه، وتقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج، وأهل عمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله، حتى يكون مقابلة الشخص، أو يكون تقديره: أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن بالله. حتى تكون مقابلة الفعل بالفعل. وسقاية الحاج: سقيهم الشراب. قال الحسن: وكان نبيذ زبيب يسقون الحاج في الموسم، بين الله سبحانه أنه لا يقابل هذه الأشياء بالإيمان بالله (واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) وبالجهاد في سبيله، فإنه لا مساواة بين الأمرين (لا يستوون عند الله) في الفضل والثواب. (والله لا يهدي) إلى طريق ثوابه (القوم الظالمين) كما يهدي إليه من كان عارفا به، فاعلا لطاعته، مجتنبا لمعصيته. ثم ابتدأ سبحانه فقال (الذين آمنوا) أي: صدقوا، واعترفوا بوحدانية الله، (وهاجروا) أوطانهم التي هي دار الكفر إلى دار الإسلام، (وجاهدوا في سبيل الله) أي: تحملوا المشاق في ملاقاة أعداء الدين، (بأموالهم وأنفسهم اعظم درجة عند الله) من غيرهم من المؤمنين الذين لم يفعلوا هذه الأشياء، (وأولئك هم الفائزون) (1) العاني: الأسير، وكل من ذل، واستكان، وخضع. (*)
[ 29 ]
أي: الظافرون بالبغية. (يبشرهم ربهم) برحمة في الدنيا على ألسنة الرسل، وبما بين في كتبه من الثواب الموعود على الجهاد (برحمة منه ورضوان) في الآخرة، (وجنات لهم فيها نعيم مقيم) أي: دائم لا يزول ولا ينقطع. (خالدين فيها أبدا) أي: دائمين فيها مع كون النعيم مقيما لهم (إن الله عنده أجر) أي: جزاء على العمل (عظيم) أي: كثير متضاعف لا يبلغه نعمة غيره. من الخلق. (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولائك هم الظالمون (23) قل إن كان أآباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24). القراءة: قرأ أبو بكر عن عاصم: (وعشيراتكم) على الجمع. والباقون: (وعشيرتكم) على التوحيد. الحجة: من أفرد: فلأن العشيرة يقع على الجمع. وقال أبو الحسن، العرب لا تجمع العشيرة عشيرات، وإنما تقول عشائر، ومن جمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. اللغة: الإستحباب: طلب المحبة، ويجوز أن يكون استحب بمعنى أحب، كما أن استجاب يكون بمعنى أجاب، فيكون كأنه طلب محبة، فوقع له. والعشيرة: الجماعة ترجع إلى عقد واحد، كالعشرة، ومنه المعاشرة. والإقتراف: اقتطاع الشئ من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها، والقرف: القشر. والتربص: التثبت في الشئ حتى يجئ وقته. والتربص، و التثبت، والتنظر، والتوقف، نظائر، ونقيضه: التعجل. النزول: روي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام: أنها نزلت في حاطب بن
[ 30 ]
أبي بلتعة، حيث كتب إلى قريش يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد فتح مكة. المعنى: ثم نهى الله سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين، وإن كانوا في النسب الأقربين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) وهذا في أمر الدين، فأما في أمر الدنيا فلا بأس بمجالستهم ومعاشرتهم، لقوله سبحانه: (وصاحبهما في الدنيا معروفا) قال ابن عباس: لما أمر الله تعالى المؤمنين بالهجرة، وأرادوا الهجرة، فمنهم من تعلقت به زوجته، ومنهم من تعلق به أبواه وأولاده، فكانوا يمنعونهم من الهجرة، فيتركون الهجرة لأجلهم، فبين سبحانه ان أمر الدين مقدم على النسب، وإذا وجب قطع قرابة الأبوين فالأجنبي أولى (إن استحبوا الكفر على الإيمان) أي: إن اختاروا الكفر، وآثروه على الإيمان. قال الحسن: من تولى الشرك فهو مشرك، وهذا إذا كان راضيا بشركه (ومن يتولهم منكم) فترك طاعة الله لأجلهم، وأطلعهم على أسرار المسلمين (فأولئك هم الظالمون) نفوسهم، والباخسون حقها من الثواب، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها، لأن موضعها أهل الإيمان. (قل) يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام (إن كان آباؤكم) الذين ولدوكم، (وأبناؤكم) الذين ولدتموهم، وهم الأولاد الذكور، (وإخوانكم) في النسب، (وأزواجكم) اللاتي عقدتم عليهن عقدة النكاح، (وعشيرتكم) أي: وأقاربكم، (وأموال اقترفتموها) أي اكتسبتموها، واقتطعتموها، وجمعتموها، (وتجارة تخشون كسادها) أي: تخشون أنها تكسد إذا اشتغلتم بطاعة الله تعالى، والجهاد، (ومساكن ترضونها) أي: مساكن اخترتموها لأنفسكم، ويعجبكم المقام فيها (أحب إليكم) أي: آثر في نفوسكم، وأقرب إلى قلوبكم (من الله ورسوله) أي: من طاعة الله، وطاعة رسوله، (وجهاد في سبيله) أي: ومن والجهاد في سبيل الله (فتربصوا) أي: انتظروا (حتى يأتي الله بأمره) أي: بحكمه فيكم. وقيل: بعقوبتكم على إختياركم هذه الأشياء على الجهاد، وطاعة الله، إما عاجلا، وإما آجلا، وفيه وعيد شديد، عن الحسن، والجبائي. وقيل: بفتح مكة، عن مجاهد. وقال بعضهم: وهذا لا يصح لأن سورة (براءة) نزلت بعد فتح مكة، (والله لا يهدي القوم الفاسقين) مضى تفسيره. (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم
[ 31 ]
كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء والله غفور رحيم (27). اللغة: الموطن: الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وهو مفعل من الوطن. واستوطن بالمكان: إذا اتخذه وطنا. وحنين: اسم واد بين مكة والطائف. والإعجاب: السرور بما يتعجب منه. والعجب: السرور بالنفس. والرحب: السعة في المكان، وضده الضيق. وقولهم مرحبا: معناه أتيت سعة. والسكينة: الطمأنينة والأمنة، وهي فعيلة من السكون، قال الشاعر: لله قبر عالها ماذا أجن لقد أجن سكينة ووقارا (1) والجنود: الجموع التي تصلح للحروب. الاعراب: مواطن: لا ينصرف لأنه جمع ليس على مثال الآحاد. ويوم حنين أي: وفي يوم حنين، عطف على مواطن أي: ونصركم في يوم حنين، وإنما صرف حنينا لأنه اسم لمذكر، وهو واد، ولو ترك صرفه على أنه اسم للبقعة، لجاز قال الشاعر: نصروا نبيهم، وشدوا أزرهم بحنين يوم تواكل الأبطال (2) وما: في قوله: (بما رحبت) مصدرية أي: برحبها، وسعتها. المعنى: لقا تقدم أمر المؤمنين بالقتال، ذكرهم بعده بما أتاهم من النصر، حالا بعد حال، فقال: (لقد نصركم الله قي مواطن كثيرة) اللام: للقسم، فكأنه سبحانه قسم بأنه نصر المؤمنين أي: أعانهم على أعدائهم في مواضع كثيرة، على (1) عال الشئ فلانا: غلبه وثقل عليه. وفي التبيان (غالها) بالغين المعجمة: ومعناه أهلكها. وأجن بمعنى ستر. (2) قائله حسان بن ثابت، وفي الديوان، واللسان، ومعجم البلدان: (أزره) مكان (أزرهم) وهو الظاهر. وتواكل الأبطال أي: ضعفهم واتكالهم على غيرهم. (*)
[ 32 ]
ضعفهم وقلة عددهم، حثا لهم على الانقطاع إليه، ومفارقة الأهلين والأقربين في طاعته. وورد عن الصادقين عليهم السلام أنهم قالوا: كانت المواطن ثمانين موطنا. وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة، فنذر أن يتصدق بمال كثير إن شفاه الله، فلما عوفي سأل العلماء عن حد المال الكثير، فأختلفت أقوالهم، فأشير عليه أن يسأل أبا الحسن، علي بن محمد بن علي بن موسى عليه السلام، وقد كان حبسه (1) في داره، فأمر أن يكتب إليه، فكتب يتصدق بثمانين درهما، ثم سألوه عن العلة في ذلك، فقرأ هذه الآية، وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين موطنا. (ويوم حنين) أي: وفي يوم حنين (إذ أعجبتكم كثرتكم) أي: سرتكم، وصرتم معجبين بكثرتكم. قال قتادة: وكان سبب انهزام المسلمين يوم حنين، ان بعضهم قال حين رأى كثرة المسلمين: لن نغلب اليوم عن قلة ! فانهزموا بعد ساعة، وكانوا اثني عشر ألفا. وقيل: إنهم كانوا عشرة آلاف. وقيل: ثمانية آلاف. والأول أصح وأكثر في الرواية (فلم تغن عنكم شيئا) أي: فلم يدفع عنكم كثرتكم سوءا، (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) أي: برحبتها. والباء بمعنى مع، والمعنى: ضاقت عليكم الأرض مع سعتها، كما يقال اخرج بنا إلى موضع كذا أي: معنا، والمراد: لم تجدوا من الأرض موضعا للفرار إليه، (ثم وليتم مدبرين) أي: وليتم عن عدوكم منهزمين، وتقديره وليتموهم أدباركم، وانهزمتم (ثم أنزل الله سكينته) أي: رحمته التي تسكن إليها النفس، ويزول معها الخوف (على رسوله وعلى المؤمنين) حين رجعوا إليهم وقاتلوهم. وقيل: على المؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله، علي والعباس في نفر من بني هاشم، عن الضحاك بن مزاحم. وروى الحسن بن علي بن فضال: عن أبي الحسن الرضا أنه قال: السكينة ريح من الجنة تخرج طيبة، لها صورة كصورة وجه الإنسان، فتكون مع الأنبياء. أورده العياشي مسندا. (وأنزل جنودا لم تروها) أراد به جنودا من الملائكة. وقيل: إن الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين وتشجيعهم، ولم يباشروا القتال يومئذ، ولم (1) وفي نسخة مخطوطة (وقد كان حينئذ). (*)
[ 33 ]
يقاتلوا إلا يوم بدر خاصة، عن الجبائي. (وعذب الذين كفروا) بالقتل، والأسر، وسلب الأموال، والأولاد، (وذلك جزاء الكافرين) أي: وذلك العذاب جزاء الكافرين على كفرهم، (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء): ذكر سبحانه ثم في ثلاثة مواضع متقاربة الأول. (ثم وليتم مدبرين) عطف على ما قبله من الفعل، وهو قوله (ضاقت عليكم) والثاني: (ثم أنزل الله سكينته) عطف على (وليتم مدبرين). والثالث: (ثم يتوب الله) عطف على (أنزل)، وإنما حسن عطف المستقبل على الماضي، لأن يشاكله، فإن الأول تذكير بنعمة الله، والثاني وعد بنعمة الله. والمعنى ثم يقبل الله توبة من تاب عن الشرك، ورجع إلى طاعة الله والإسلام، وندم على ما فعل من القبيح. ويجوز أن يريد: ثم يقبل الله توبة من انهزم من بعد هزيمته. ويجوز أن يريد: يقبل توبتهم عن اعجابهم بالكثرة، وإنما علقه بالمشيئة لأن قبول التوبة تفضل من الله، ولو كان واجبا على ما قاله أهل الوعيد لما جاز تعليقه بالمشيئة، كما لا يجوز تعليق الثواب على الطاعة بالمشيئة، ومن خالف في ذلك قال: إنما علقها بالمشيئة لأن منهم من له لطف يصلح به، ويتوب ويؤمن عنده، ومنهم من لا لطف له منه (والله غفور) أي: ستار للذنوب (رحيم) بعباده. القصة: ذكر أهل التفسير، وأصحاب السير، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى (حنين) لقتال هوازن وثقيف، في آخر شهر رمضان، أو في شوال، من سنة ثمان من الهجرة. وفد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري، وساقوا معهم أموالهم، ونساءهم، وذراريهم، ونزلوا بأوطاس (1). وقال: وكان دريد بن الصمة في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من الكبر، فقال: بأي واد أنتم ؟ قالوا: بأوطاس (1). قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس، ولا سهل دهس (2)، مالي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وخوار البقر، وثغاء الشاة، وبكاء الصبيان ؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم، وأموالهم، ونساءهم، ليقاتل كل منهم عن أهله وماله. فقال دريد: راعي ضأن ورب الكعبة. (1) أوطاس: واد بديار هوازن، جنوبي مكة بنحو ثلاث مراحل، وهي من النوادر التي جاء بلفظ الجمع الواحد. (2) الحزن - بالفتح: المكان الغليظ الخشن. والضرس: الأكمة الخشنة الغليظة الخشن كأنها مضرسة. والدهس: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملا.
[ 34 ]
ثم قال: ائتوني بمالك. فلما جاءه قال: يا مالك ! إنك أصبحت رئيس قومك، وهذا يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، والق الرجال على متون الخيل، فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه وفرسه، فإن كانت لك لحق بك من ورائك، وإن كانت عليك، لا تكون فضحت في أهلك وعيالك. فقال له مالك: إنك قد كبرت، وذهب علمك وعقلك، وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواءه الأكبر، ودفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وكل من دخل مكة براية، أمره أن يحملها، وخرج بعد أن أقام بمكة خمسة عشر يوما، وبعث إلى صفوان بن أمية، فاستعار منه مائة درع، فقال صفوان: عارية أم غصب ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: عارية مضمونة، مؤداة. فأعاره صفوان مائة درع، وخرج معه، وخرج من مسلمة الفتح ألفا رجل. وكان عليه السلام دخل مكة في عشرة آلاف رجل، وخرج منها في اثني عشر الفا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف، وهو يقول لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم، واكمنوا في شعاب هذا الوادي، وفي الشجر، فإذا كان في غبش الصبح (1)، فاحملوا حملة رجل واحد، فهدوا القوم، فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب. ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه الغداة، انحدر في وادي حنين، فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، وانهزمت بنو سليم، وكانوا على المقدمة، وانهزم ما وراءهم، وخلى الله تعالى بينهم وبين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم، وبقي علي عليه السلام ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل. ومر المنهزمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يلوون على شئ، وكان العباس بن عبد المطلب آخذا بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفضل عن يمينه، وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب عن يساره، ونوفل بن الحرث، وربيعة بن الحرث، في تسعة من بني هاشم، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن. وقتل يومئذ، وفي ذلك يقول العباس: (1) الغبش: ظلمة آخر الليل. وقيل: هو مما يلي الصبح. (*)
[ 35 ]
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة، وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا (1) وقولي إذا ما الفضل كر بسيفه على القوم أخرى يا بني ليرجعوا (2) وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه لما ناله في الله لا يتوجع (3) ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزيمة القوم عنه، قال للعباس، وكان جهوريا صيتا: اصعد هذا الظرب (4) فناد: يا معشر المهاجرين والأنصار ! يا أصحاب سورة البقرة ! يا أهل بيعة الشجرة ! إلى اين تفرون ؟ هذا رسول الله. فلما سمع المسلمون صوت العباس، تراجعوا وقالوا: لبيك لبيك. وتبادر الأنصار خاصة، وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآن حمي الوطيس (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ونزل النصر من عند الله تعالى، وانهزمت هوازن هزيمة قبيحة، فمروا في كل وجه ولم يزل المسلمون في آثارهم. ومر مالك بن عوف، فدخل حصن الطائف، وقتل منهم زهاء مائة رجل، واغنم الله المسلمين أموالهم ونساءهم، وأمر رسول الله بالذراري والأموال أن تحدر إلى الجعرانة، وولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي، ومضى صلى الله عليه وآله وسلم في أثر القوم، فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف، فحاصر أهل الطائف بقية الشهر. فلما دخل ذو القعدة انصرف، وأتى الجعرانة، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس. قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين، يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله، لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم، جعلنا نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، يعني رسول الله، فتلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه إرجعوا. فرجعنا، وركبوا أكتافنا فكانوا إياها - يعني الملائكة - قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين، وأنا أريد أن اقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، وكانا قد قتلا يوم أحد، فأطلع الله رسوله على ما في نفسي، (1) اقشعوا أي: تفرقوا. (2) أي: اضرب ضربة أخرى يرجع القوم على أدبارهم. (3) الحمام: الموت. (4) الظرب: التل الصغير. (*)
[ 36 ]
فالتفت إلي، وضرب في صدري، وقال: أعيذك بالله يا شيبة ! فأرعدت فرائصي، فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله اطلعك على ما في نفسي. وقسم رسول الله الغنائم بالجعرانة وكان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاء ما لا يدري عدته. قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله للمتألفين من قريش من سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله: إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك، وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي. فقال رسول الله: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فجمعهم، فخرج رسول الله، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار ! أو لم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة. فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: الا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ فقالوا: وما نقول ؟ وبماذا نجيبك ؟ المن لله ولرسوله. فقال رسول الله: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فآمناك، ومخذولا فنصرناك. فقالوا: المن لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة (1) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفسي بيده ! لو أن الناس سلكوا شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار. ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وابناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسما. ثم تفرقوا. وقال أنس بن مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا، فنادى يوم أوطاس: (1) اللعاعة: مقلة خضراء ناعمة، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها. (*)
[ 37 ]
ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبر أن بحيضة، ثم أقبلت وفود هوازن، وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة مسلمين، فقام خطيبهم، وقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك، وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو انا ملكنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر (1)، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير الكفولين، ثم انشد أبياتا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أي الأمرين أحب إليكم، السبي أو الأموال ؟ قالوا: يا رسول الله ! خيرتنا بين الحسب، وبين الأموال، والحسب أحب الينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين، وأشفع لكم، فكلموهم واظهروا إسلامكم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهاجرة، قاموا فتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رددت الذي لبني هاشم، والذي بيدي عليهم، فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل، ومن كره أن يعطي فليأخذ الفداء، وعلي فداؤهم. فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس، سألوا الفداء، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مالك بن عوف، وقال: إن جئتني مسلما، رددت إليك أهلك ومالك، ولك عندي مائة ناقة، فخرج إليه من الطائف، فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، واستعمله على من أسلم من قومه. (يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم (28). القراءة: في الشواذ قراءة ابن السميفع: (أنجاس) على الجمع، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: (وإن خفتم عائلة): (1) وابن أبي شمر هو الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام من العرب والنعمان بن منذر ملك العراق من العرب. (*)
[ 38 ]
الحجة: قال ابن جني: هذا من المصادر التي جاءت على فاعلة، كالعاقبة، والعافية، واللاغية. اللغة: كل مستقذر نجس، يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، وقوم نجس، لأنه مصدر. وإذا استعملت هذه اللفطة مع الرجس، قيل: رجس نجس بكسر النون. والعيلة: الفقر، تقول: عال يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل المعنى: لما تقدم النهي عن ولاية المشركين، أزال سبحانه ولايتهم عن المسجد الحرام، وحظر عليهم دخوله، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) معناه: إن الكافرين أنجاس، (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) أي: فامنعوهم عن المسجد الحرام. قيل: المراد به منعهم من دخول الحرم، عن عطا قال: والحرم كله مسجد وقبلة، والعام الذي أشار إليه هو سنة تسع، الذي نادى فيه علي عليه السلام بالبراءة، وقال: لا يحجن بعد هذا العام مشرك. وقيل: المراد به منعهم من دخول المسجد الحرام على طريق الولاية للموسم والعمرة. وقيل: منعوا من الدخول أصلا في المسجد، ومنعوا من حضور الموسم، ودخول الحرم، عن الجبائي. واختلف في نجاسة الكافر، فقال قوم من الفقهاء: إن الكافر نجس العين، وظاهر الآية يدل على ذلك. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: إمنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: (إنما المشركون نجس) الآية. وعن الحسن قال: لا تصافحوا المشركين، فمن صافحهم فليتوضأ. وهذا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا من أن من صافح الكافر، ويده رطبة، وجب أن يغسل يده، وإن كانت أيديهما يابستين مسحهما بالحائط. وقال آخرون: إنما سماهم الله نجسا لخبث اعتقادهم، وأفعالهم، وأقوالهم، وأجازوا للذمي دخول المساجد قالوا: إنما يمنعون من دخول مكة للحج. قال قتادة: سماهم نجسا لأنهم يجنبون، ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد، لأن الجنب لا يجوز له دخول المسجد. (وإن خفتم عيلة) أي: فقرا وحاجة، وكانوا قد خافوا انقطاع المتاجر بمنع
[ 39 ]
المشركين عن دخول الحرم (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) أي: فسوف يغنيكم الله من جهة أخرى إن شاء أن يغنيكم، بأن يرغب الناس من أهل الآفاق في حمل الميرة اليكم، رحمة منه، ونعمة عليكم. قال مقاتل: أسلم أهل نجدة، وصنعاء وجرش، من اليمن، وحملوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله تعالى ما كانوا يتخوفون. وقيل: معناه يغنيكم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب. وقيل: بالمطر والنبات. وقيل: بإباحة الغنائم. وإذا سئل عن معنى المشيئة في قوله: (إن شاء)، فالقول فيه: إن الله تعالى قد علم أن منهم من يبقى إلى وقت فتح البلاد، واغتنام أموال الأكاسرة، فيستغني، ومنهم من لا يبقى إلى ذلك الوقت، فلهذا علقه بالمشيئة. وقيل: إنما علقه بالمشيئة ليرغب الإنسان إلى الله تعالى في طلب الغنى منه، وليعلم أن الغنى لا يكون بالاجتهاد. (إن الله عليم) بالمصالح، وتدبير العباد، وبكل شئ (حكيم) فيما يأمر، وينهي. (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29). اللغة: الدين في الأصل: الطاعة، قال زهير: لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو، وحالت بيننا فدك (1) والجزية: فعلة من جزى يجزي، مثل القعدة والجلسة، وهي عطية مخصوصة، وجزاء لهم على تمسكهم بالكفر، عقوبة لهم، عن علي بن عيسى، والصغار، والذل، والنكال: الذي يصغر قدر صاحبه، يقال صغر، يصغر، صغارا، فهو صاغر. الاعراب: (عن يد): في موضع نصب على الحال أي: نقدا، كما يقال باعه يدا بيد. (1) الجو: الأرض المطمئنة. واسم اليمامة، وجواب الشرط في قوله (لئن حللت) في شعر بعده وهو: ليأتينك مني منطق قذع * باق كما دنس القبطية الودك، ومنطق قذع: فاحش. (*)
[ 40 ]
النزول: قيل: هذه الآية نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرب الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، عن مجاهد. وقيل: هي على العموم. المعنى: ثم بين الله سبحانه، ان من الكفار من يجوز تبقيته بالجزية، فقال (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) يعني: الذين لا يعترفون بتوحيد الله، ولا يقرون بالبعث والنشور. وهذا يدل على صحة ما يذهب أصحابنا إليه، من أنه لا يجوز أن يكون في جملة الكفار من هو عارف بالله، وإن أقر باللسان، وإنما يكونون معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم، لأنه صريح في أن أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية، لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ومن قال إنه يجوز أن يكونوا عارفين بالله، قال: إن الآية خرجت مخرج الذم لهم، لأنهم بمنزلة من لا يقر به في عظم الجرم. قال الجبائي: لأنهم يضيفون إليه ما لا يليق به، فكأنهم لا يعرفونه، وإنما جمعت هذه الأوصاف لهم، ولم يذكروا بالكفار من أهل الكتاب، للتحريض على قتالهم، لما هم عليه من صفات الذم التي توجب البراءة منهم، والعداوة لهم. (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) موسى وعيسى عليهما السلام، من كتمان نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: يعني ما حرمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (ولا يدينون دين الحق) وقيل: الحق ههنا هو الله تعالى، أي: دين الله، والعمل بما في التوراة من اتباع نبينا عليه السلام، وقيل: الحق هو الله، ودينه الإسلام، عن قتادة. وقيل: معناه ولا يطيعون الله طاعة أهل الإسلام، عن أبي عبيدة. وقيل: معناه لا يعترفون بالإسلام الذي هو الدين الحق. (من الذين أوتوا الكتاب) وصف الذين ذكرهم بأنهم من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وقال أصحابنا: إن المجوس حكمهم حكم اليهود، والنصارى. (حتى يعطوا الجزية عن يد) أي نقدا من يده إلى يد من يدفعه إليه، من غير نائب، كما يقال كلمته فما بفم. وقيل: معناه عن قدرة لكم عليهم وقهر لهم، كما يقال كان اليد لفلان. وقيل: يد لكم عليهم، ونعمة تسدونها إليهم، بقبول الجزية منهم (وهم صاغرون) أي: ذليلون مقهورون، يجرون إلى الموضع الذي يقبض منهم فيه بالعنف، حتى يؤدوها. وقيل: هو أن يعطوا الجزية قائمين والآخذ جالس، عن عكرمة.
[ 41 ]
(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31). القراءة: قرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وسهل (عزير) منونا. والباقون: (عزير ابن الله) بغير تنوين. وقرأ عاصم وحده: (يضاهئون) بالهمزة. وقرأ الباقون: (يضاهون) بغير الهمزة. الحجة: قال أبو علي: من نون (عزيرا) جعله مبتدأ، وجعل (ابنا) خبره، وإذا كان كذلك فلا بد من اثبات التنوين في حال السعة والاختيار، لأن عزيرا ونحوه، ينصرف، عجميا كان أو عربيا. وأما من حذف التنوين فإنه حذفه على وجهين: أحدهما: أنه جعل الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، كما جعلهما كذلك في قوله: لا رجل ظريف، وحذف التنوين، ولم يحرك لالتقاء الساكنين ؟ كما يحرك في زيد العاقل، لأن الساكنين كأنهما التقيا في تضاعيف كلمة واحدة، فحذف الأول منهما، ولم يحرك لكثرة الإستعمال. ولا يجوز اثبات التنوين في هذا الباب إذا كان صفة، وان كان الأصل، لأنهم جعلوا من الأصول المرفوضة، كما أن اظهار الأول من المثلين في نحو ظنوا لا يجوز في الكلام. فإذا كانا بمنزلة اسم مفرد، والمفرد لا يكون جملة مستقلة بنفسها مفيدة في هذا النحو، فلا بد من اضمار جزء آخر يقدر انضمامه إليه، ليتم جملة، ويجعله الظاهر إما مبتدأ، أو خبر مبتدأ، فيكون التقدير صاحبنا، أو نسيبنا، أو نبينا، عزير ابن الله، ان قدرت المضمر المبتدأ. وان قدرت بعكس ذلك جاز. فهذا أحد الوجهين. والوجه الآخر: أن لا تجعلهما اسما واحدا، ولكن يجعل الأول من الإسمين المبتدأ، والآخر الخبر، فيكون المعنى فيه على هذا، كالمعني في اثبات التنوين،
[ 42 ]
وتكون القراءتان متفقتين، إلا أنك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين. وعلى هذا ما يروى من قراءة بعضهم (أحد الله الصمد)، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقد جاء ذلك في الشعر كثيرا، قال الشاعر: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع (1) وقال: (وحاتم الطائي وهاب المثي) (2) فأما (يضاهئون) فقد قال الزجاج: أصل المضاهاة المشابهة، والأكثر ترك الهمزة. واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض، ومعناها أنها قد اشبهت الرجال في أنه لا ثدي لها، وكذلك إذا لم تحض. وضهياء: فعلاء، الهمزة زائدة كما زيدت في شمأل، وغرقئ البيض. ولا نعلم الهمزة زيدت غير أول الا في هذه الأشياء. ويجوز أن يكون فعيلا، وان كانت بنية ليس لها في الكلام نظير. قال أبو علي: ليس قوله: يضاهئون من امرأة ضهياء، لأن هذه الهمزة زائدة غير أصلية، وليس بفعيل لأنه لو كان إياه، لكان مكسور الصدر، وإنما أدخله في هذا ما رامه من اشتقاق (يضاهئون). وقد يجوز ان تجئ الكلمة من غير مشتقة، وذلك أكثر من أن يحصى. اللغة: الحبر: العالم الذي صنعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها، وهو الحبر والحبر بفتح الحاء وكسرها. والرهبان: جمع الراهب، وهو الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية، وقد كثر استعماله على متنسكي النصارى. المعنى: ثم حكى الله سبحانه عن اليهود والنصارى أقوالهم الشنيعة، فقال: (وقالت اليهود عزير ابن الله). وقال ابن عباس: القائل لذلك جماعة منهم جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشأس بن قيس، ومالك بن الضيف، فقالوا ذلك. قيل: وإنما قال ذلك جماعة منهم من قبل، وقد انقرضوا، وان عزيرا أملى التوراة من ظهر قلبه، وقد علمه جبرائيل عليه السلام فقالوا: إنه ابن الله، إلا أن الله تعالى، أضاف ذلك إلى جميعهم، وإن كانوا لا يقولون ذلك اليوم، كما (1) قائله حميد الامجي، وقبله (شربت المدام فلم أقلع * وعوتبت فيها فلم أسمع) وأمج: موضع بين مكة والمدينة. (2) وقبله (حيدة خالي ولقيط وعلي) قائلته امرأة من بني عقيل، تفخر بأخوالها من اليمن. (*)
[ 43 ]
يقال: ان الخوارج يقولون بتعذيب أطفال المشركين، وإنما يقوله الأزارقة منهم خاصة (1). ويدل على أن هذا مذهب اليهود أنهم لم ينكروا ذلك لما سمعوا هذه الآية، مع شدة حرصهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) معناه: إنهم اخترعوا ذلك القول بأفواههم، لم يأتهم به كتاب، ولا رسول، وليس عليه حجة، ولا برهان، ولا له صحة. وقيل: إنه لم يذكر القول مقرونا بالأفواه، إلا إذا كان ذلك القول زورا كقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) (يضاهئون): يشابهون عن ابن عباس. وقيل: يوافقون، عن الحسن (قول الذين كفروا) يعني عباد الأوثان في عبادتهم اللات، والعزى، ومناة الثالثة الاخرى، عن ابن عباس، ومجاهد، والفراء. وقيل: في عبادتهم الملائكة، وقولهم إنهم بنات الله (من قبل) أي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالت النصارى: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، عن قتادة، والسدي. وقيل: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، عن الحسن (قاتلهم الله) أي: لعنهم الله، عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: المقاتلة أصلها من القتل، فإذا أخبر عن الله بها، كانت بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله، فهو بمنزلة المقتول الهالك (أنى يؤفكون) اي: كيف يصرفون عن الحق إلى الإفك الذي هو الكذب، فكأنه قال: لأي داع مالوا إلى ذلك القول. (اتخذوا أحبارهم) أي: علماءهم (ورهبانهم) أي: عبادهم (أربابا من دون الله). روي عن أبي جعفر، وابي عبد الله عليهما السلام، انهما قالا: أما والله ! ما صاموا ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي إطرح هذا الوثن من عنقك ! قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) حتى فرغ منها، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم ! فقال: أليس يحرمون (1) قال الجوهري: الأزارقة: صنف من الخوارج تنسب إلى نافع بن الأزرق. (*)
[ 44 ]
ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قال: فقلت بلى. قال: فتلك عبادتهم. (والمسيح ابن مريم) أي: اتخذوا المسيح إلها من دون الله. (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) أي: معبودا واحدا هو الله تعالى (لا إله إلا هو) أي: لا تحق العبادة إلا له، ولا يستحق العبادة سواه (سبحانه) تنزيها له (عما يشركون) اي: عن شركهم، وعما يقولونه، وعما لا يليق به. (يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33) اللغة: الإطفاء: إذهاب نور النار، ثم استعمل في إذهاب كل نور. والأفواه: جمع فم وأصله فوه، فحذفت الهاء وأبدلت من الواو ميم، لأنه حرف صحيح من مخرج الواو، مشاكل لها. والإباء: الإمتناع مما طلب من المعنى. قال الشاعر (وإن أرادوا ظلمنا أبينا) أي: منعنا من الظلم. الاعراب: قوله: (إلا أن يتم نوره) إنما دخلت (إلا) لأن في (أبيت) ضربا من الجحد، تقول: أبيت أن أفعل كذا، فيكون معناه لم أفعل كذا، قال الشاعر: وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها إبنا قال الزجاج: في الآية حذف تقديره يأبى الله كل شئ إلا إتمام نوره، قال: ولا يكون الإيجاب جحدا، ولو جاز ذلك على ما يكون فيه طرف من الجحد، لجاز كرهت إلا أخاك، مثل أبيت، إلا أن أبيت الحذف مستعمل معها. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى أنهم (يريدون أن يطفئوا نور الله) وهو القرآن والإسلام، عن أكثر المفسرين. وقيل: نور الله الدلالة والبرهان لأنهما يهتدى بهما، كما يهتدى بالأنوار، عن الجبائي. قال: ولما سمى سبحانه الحجج والبراهين أنوارا، سمى معارضتهم لذلك إطفاء، ثم قال: (بأفواههم) لأن الإطفاء يكون بالأفواه وهو النفخ، وهذا من عجيب البيان، مع ما
[ 45 ]
فيه من تصغير شأنهم، وتضعيف كيدهم، لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة. (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) معناه ويمنع الله إلا أن يظهر أمر القرآن، وأمر الإسلام، وحجته على التمام. وأصل الإباء: المنع والامتناع دون الكراهية على ما ادعته المحبرة، ولهذا تقول العرب: فلان يأبى الضيم، وهو أبي الضيم، ولا مدحة في كراهية الضيم، لأنه يستوي فيه القوي والضعيف، وإنما المدحة في الامتناع أو المنع منه (ولو كره الكافرون) أي: على كره من الكافرين. (هو الذي أرسل رسوله) محمدا، وحمله الرسالات التي يؤديها إلى أمته (بالهدى) أي: بالحجج، والبينات، والدلائل، والبراهين (ودين الحق) وهو الإسلام، وما تضمنه من الشرائع التي يستحق عليها الجزاء بالثواب، وكل دين سواه باطل يستحق به العقاب (ليظهره على الدين كله) معناه: ليعلي دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة، والغلبة، والقهر لها، حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلا مغلوبا، ولا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجة، وهم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة. وأما الظهور بالغلبة فهو أن كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك، ولحقهم قهر من جهتهم. وقيل: أراد عند نزول عيسى بن مريم، لا يبقى أهل دين إلا اسلم، أو أدى الجزية، عن الضحاك. وقال أبو جعفر عليه السلام: إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد، فلا يبقى أحد إلا أقر بمحمد، وهو قول السدي. وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام، وسيكون ذلك ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك. وقال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر، ولا وبر، إلا أدخله الله كلمة الإسلام، إما بعز عزيز، وإما بذل ذليل. إما يعزهم فيجعلهم الله من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له. وقيل: إن الهاء في (ليظهره) عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي: ليعلمه الله الأديان كلها حتى لا يخفى عليه شئ منها، عن ابن عباس (ولو كره المشركون) أي: وإن كرهوا هذا الدين، فإن الله يظهره رغما لهم. (* يا أيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون
[ 46 ]
أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35). اللغة: الكنز: في الأصل هو الشئ الذي جمع بعضه إلى بعض، ويقال للشئ المجتمع: مكتنز، وناقة كناز اللحم: مجتمعة. قال نفطويه: سمي الذهب ذهبا، لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت الفضة فضة، لأنها تنفض أي: تتفرق فلا تبقى. وحسبك بالإسمين دلالة على فنائهما. والإحماء جعل الشئ حارا في الإحساس، وهو فوق الإسخان، وضده التبريد. يقال حمي، يحمي، حمى وأحماه: غيره. والكي: إلصاق الشئ الحار بالعضو من البدن. الاعراب: (الذين يكنزون): موضعه نصب، لأنه معطوف على اسم إن، ويكون المعنى وان الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يأكلونها، ويجوز أن يكون رفعا على الإستئناف. وذكر في قوله: (ولا ينفقونها) وجوه (أحدها): إنه أراد لا ينفقون الكنوز، فرجع الضمير إلى ما دل عليه الكلام. (والثاني): إنه لما ذكر الذهب والفضة، دل على الأموال، فكأنه قال: ولا ينفقون الأموال. (والثالث): إن الذهب مؤنث، وهو جمع واحده ذهبة، وهذا الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، يذكر ويؤنث، ثم لما اجتمعا في التأنيث، وكان كل واحد منهما يؤخذ عن صاحبه في الزكاة على قول جمهور العلماء، جعلهما كالشئ الواحد، ورد الضمير اليهما بلفظ التأنيث. (والرابع): انه اكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز، ورد الضمير إلى الفضة، لأنها أقرب إليه، كما قال حسان: إن شرخ الشباب، والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا (1) وقد مر ذكر أمثاله فيما مضى. المعنى: ثم بين سبحانه حال الأحبار والرهبان فقال: (يا أيها الذين أمنوا إن (1) شرخ الشباب: أوله وقوته ونضارته، وقوله: (ما لم يعاص) أي: ما لم يعص. (*)
[ 47 ]
كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) أي يأخذون الرشى على الحكم، عن الحسن، والجبائي، وأكل المال بالباطل: تملكه من الجهات التي يحرم منها أخذه الا أنه لما كان معظم التصرف والتملك للأكل، وضع الأكل موضع ذلك. وقيل: إن معناه يأكلون متاع أموال الناس من الطعام، فكأنهم يأكلون الأموال لأنها ثمن المأكول، كما قال الشاعر: ذر الآكلين الماء لوما، فما أرى ينالون خيرا بعد أكلهم الماء أي: ثمن الماء. (ويصدون عن سبيل الله) أي: يمنعون غيرهم عن اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها، وعن اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) أي: يجمعون المال، ولا يؤدون زكاته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز، وان كان ظاهرا، وكل مال أديت زكاته، فليس بكنز، وإن كان مدفونا في الأرض، وبه قال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والسدي. قال الجبائي: وهو إجماع. وروي عن علي عليه السلام: ما زاد على أربعة آلاف، فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤد، وما دونها فهو نفقة. وتقدير الآية: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل الله: ويكنزون الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فحذف المعطوف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه، في قوله: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) وتقديره: والذاكرات الله. وأكثر المفسرين على أن قوله (والذين يكنزون) على الإستئناف، وان المراد بذلك مانعو الزكاة من هذه الأمة. وقيل: إنه معطوف على ما قبله والأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين (فبشرهم بعذاب اليم) أي: أخبرهم بعذاب موجع. وروى سالم بن أبي الجعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية قال: تبا للذهب، تبا للفضة - يكررها ثلاثا - فشق ذلك على أصحابه فسأله عمر، فقال: يا رسول الله ! أي المال نتخذ ؟ فقال: لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة مؤمنة، تعين أحدكم على دينه. (يوم يحمى عليها في نار جهنم) أي: يوقد على الكنوز، أو على الذهب والفضة في نار جهنم، حتى تصير نارا (فتكوى بها) أي: بتلك الكنوز المحماة،
[ 48 ]
والأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها (جباههم وجنوبهم وظهورهم) وإنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن. وكان أبو ذر الغفاري يقول: بشر الكانزين بكي في الجباه، وكي في الجنوب، وكي في الظهور، حتى يلتقي الحر في أجوافهم. وفي هذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي، لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل. وقيل: إنما خصت هذه المواضع بالعذاب، لأن الجبهة محل الوسم لظهورها، والجنب محل الألم، والظهر محل الحدود وقيل: لأن الجبهة محل السجود، فلم تقم فيه بحقه، والجنب يقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده، والظهر محمل الأوزار. قال: يحملون أوزارهم على ظهورهم عن الماوردي. وقيل: لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته، وزوى عينيه، وطوى عنه كشحه، وولاه ظهره عن أبي بكر الوراق. (هذا ما كنزتم لأنفسكم) أي: يقال لهم في حال الكي، أو بعده: هذا جزاء ما كنزتم، وجمعتم المال، ولم تؤدوا حق الله عنها، وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم (فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي: فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون، أي، تجمعون وتمنعون حق الله منه، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد له مال، ولا يؤدي زكاته، إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى به جبهته، وجنباه، وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار. أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ترك كنزا، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان (1)، يتبعه ويقول: ويلك ما أنت ؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده، فيقصمها، ثم يتبعه سائر جسده. وروى الثعلبي: بإسناده عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ظل الكعبة، فلما رأني قد أقبلت قال: هم الأخسرون ورب الكعبة ! هم الأخسرون ورب الكعبة ! قال: فدخلني غم، وجعلت أتنفس، وقلت: هذا شئ حدث في ! قال، قلت: من هم فداك أبي وأمي، قال: الأكثرون إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا، عن يمينه، وشماله، ومن (1) زبيبتان: نقطتان سوداوان فوق عيني الحية. (*)
[ 49 ]
خلفه، وقليل ما هم. وروي عن أبي ذر أنه قال: من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة. (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36). القراءة: قرأ أبو جعفر (اثنا عشر) و (أحد عشر) و (تسعة عشر) بسكون العين. والباقون: بفتحها. الحجة: الوجه في ذلك: إن الإسمين لما جعلا كالإسم الواحد، وبني الأول منهما لأنه كصدر الإسم والثاني منهما، لتضمنه معنى واو العطف، جعل تسكين أول الثاني دليلا على أنهما قد صارا كالإسم الواحد. اللغة والاعراب: كافة: بمعنى الإحاطة، مأخوذ من كافة الشئ، وهي حرفه، وإذا انتهى الشئ إلى ذلك كف عن الزيادة وأصل الكف: المنع، ومنه المكفوف: وهو الممنوع البصر. وكافة: نصب على المصدر، ولا يدخل عليها الألف واللام، لأنه من المصادر التي لا تتصرف لوقوعه موقع معا وجميعا بمعنى المصدر الذي في موضع الحال المؤكدة، فهو في لزوم النكرة، نظير أجمعين في لزوم المعرفة، هذا قول الفراء. وقال الزجاج: كافة تنصب على الحال، وهو مصدر على فاعله، كالعافية والعاقبة، وهو في موضع قاتلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتلهم، ولا يثنى ولا يجمع، فلا يقال قاتلوهم كافات، ولا كافين، كما أنك إذا قلت: قاتلوهم عامه، لم تثن ولم تجمع، وكذلك خاصة، هذا مذهب النحويين. المعنى: لما ذكر الله سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال، من غير إخراج الزكاة وغيرها، من حقوق الله منه، اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله، وهو الظلم في الأشهر الحرم الذي يؤدي إلى مثل حاله، أو شر منه في المنقلب، فقال: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) أي: عدد شهور السنة في حكم الله وتقديره اثنا عشر شهرا. وإنما تعبد الله المسلمين أن يجعلوا سنيهم على اثني عشر
[ 50 ]
شهرا، ليوافق ذلك عدد الأهلة، ومنازل القمر، دون ما دان به أهل الكتاب. والشهر: مأخوذ من شهرة الأمر لحاجة الناس إليه في معاملاتهم، ومحل ديونهم، وحجهم، وصومهم، وغير ذلك من مصالحهم المتعلقة بالشهور، وقوله: (في كتاب الله) معناه: فيما كتب الله في اللوح المحفوظ، وفي الكتب المنزلة على أنبيائه. وقيل: في القرآن. وقيل: في حكمه وقضائه، عن أبي مسلم. وقوله: (يوم خلق السماوات والأرض) متصل بقوله (عند الله) والعامل فيهما الإستقرار. وإنما قال ذلك لأنه يوم خلق السماوات والأرض أجرى فيها الشمس والقمر، وبمسيرهما تكون الشهور والأيام، وبهما تعرف الشهور. (منها أربعة حرم) أي: من هذه الإثني عشر شهرا، أربعة أشهر حرم، ثلاثة منها سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد: وهو رجب. ومعنى حرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها، وكانت العرب تعظمها حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها. وإنما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حرمة من بعض، لما علم من المصلحة في الكف عن الظلم فيها، لعظم منزلتها، ولأنه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا، لانطفاء النائرة، وانكسار الحمية في تلك المدة، فإن الأشياء تجر إلى أشكالها. وشهور السنة المحرم: سمي بذلك، لتحريم القتال فيه. وصفر: سمي بذلك، لأن مكة تصفر من الناس فيه أي: تخلو. وقيل: لأنه وقع وباء فيه، فاصفرت وجوههم. وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه صفرت فيه أوطابهم عن اللبن (1) وشهرا ربيع: سميا بذلك لإنبات الأرض وإمراعها فيهما. وقيل: لارتباع القوم أي: إقامتهم وجماديان: سميتا بذلك لجمود الماء فيهما. ورجب: سمي بذلك لأنهم كانوا يرجبونه أي: يعظمونه يقال رجبته ورجبته بالتخفيف والتشديد، قال الكميت: ولا غيرهم أبغي لنفسي جنة، ولا غيرهم ممن أجل وأرجب وقيل سمي بذلك لترك القتال فيه من قولهم رجل أرجب إذا كان أقطع لا يمكنه العمل. (1) الوطب: سقاء اللبن وهو جلد الجذع فما فوقه. وصفر الوطب عن اللبن أي: خلا. (*)
[ 51 ]
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن في الجنة نهرا يقال له رجب، ماؤه أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب، شرب منه. وشعبان: سمي بذلك، لتشعب القبائل فيه عن أبي عمرو. وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما سمي شعبان، لأنه يشعب فيه خير كثير لرمضان. وشهر رمضان: سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب. وقيل: سمي بذلك، لشدة الحر. وقيل: ان رمضان من أسماء الله. وشوال: سمي بذلك، لأن القبائل كانت تشول فيه اي: تبرح عن أمكنتها. وقيل لشولان النوق أذنابها فيه. ذو القعدة: سمي بذلك لقعودهم فيه عن القتال. وذو الحجة: لقضاء الحج فيه. (ذلك الدين القيم) أي: ذلك الحساب المستقيم الصحيح، لا ما كانت العرب تفعله من النسئ، ومنه قوله: الكيس من دان نفسه أي: حاسبها. وسمي الحساب دينا: لوجوب الدوام عليه، ولزومه كلزوم الدين والعبادة. وقيل: معناه ذلك القضاء المستقيم الحق، عن الكلبي. وقيل: معناه ذلك الدين تعبد به فهو اللازم. (فلا تظلموا فيهن) أي في هذه الشهور كلها، عن ابن عباس. وقيل: في هذه الأشهر الحرم الأربعة، عن قتادة، واختاره الفراء قال: لأنه لو أراد الإثني عشر شهرا لقال فيها (أنفسكم) بترك أوامر الله، وارتكاب نواهيه، وإذا عاد الضمير إلى جميع الشهور، فإنه يكون نهيا عن الظلم في جميع العمر، وإذا عاد إلى الأشهر الحرم، ففائدة التخصيص أن الطاعة فيها أعظم ثوابا، والمعصية أعظم عقابا، وذلك حكم الله في جميع الأوقات الشريفة، والبقاع المقدسة. (وقاتلوا المشركين كافة) أي: قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين (كما يقاتلونكم كافة) أي: جميعا كذلك، فتكون كافة حالا عن المسلمين، ويجوز أن تكون حالا من المشركين أي: قاتلوا المشركين جميعا، ولا تمسكوا منهم بعهد ولا ذمة، إلا من كان من أهل الجزية وأعطاها عن صغار، والظاهر هو الأول. وقيل: معناه قاتلوهم خلفا بعد سلف، كما أنه يخلف بعضهم بعضا في قتالكم، عن الأصم (واعلموا أن الله مع المتقين) بالنصرة والولاية. وفي هذه الآية دلالة على أن الإعتبار في السنين بالشهور القمرية لا بالشمسية، والأحكام الشرعية معلقة بها، وذلك لما علم الله سبحانه فيه من المصلحة، ولسهولة معرفة ذلك على الخاص والعام.
[ 52 ]
(إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونة عاما ويحرمونه، عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين (37). القراءة: قرأ أبو جعفر: (النسئ) بالتشديد من غير همزة، وقرأ جعفر بن محمد عليهما السلام، والزهري: (النسي) مخففا في وزن الهدي بغير همز، وروي مثل ذلك أيضا عن شبل، عن ابن كثير. والباقون: (النسئ) بالمد، والهمز، وقرأ (يضل) بضم الياء، وفتح الضاد أهل الكوفة، غير ابي بكر. وقرأ (يضل) بضم الياء، وكسر الضاد أوقية، من طريق ابن مقسم، عن أبي عمرو، ورويس عن يعقوب. والباقون: (يضل) بفتح الياء، وكسر الضاد. الحجة: قال أبو علي: النسئ: مصدر، كالنذير، والنكير، وعذير الحي، ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، كما قاله بعض الناس، لأنه إن حمل على ذلك كان معناه: إنما المؤخر زيادة في الكفر، والمؤخر: الشهر، وليس الشهر نفسه بزيادة في الكفر، وإنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، ليست له تلك الحرمة. فأما نفس الشهر، فلا. وأما ما روي من (النسي) بالياء: فذلك يكون على إبدال الياء من الهمزة، ولا أعلمها لغة في التأخير كما إن أرجيت لغة في أرجأت. وما روي من (النسي) بتشديد الياء: فعلى تخفيف الهمزة وليس هذا القلب مثل القلب في النسي بالياء لأن النسي بتشديد الياء: على وزن فعيل، تخفيف قياسي، كما أن مقروة في مقروءة تخفيف قياسي، وليس النسئ كذلك. وذكر ابن جني فيه ثلاثة أوجه احدها: أن يكون أراد النسئ، ثم خفف بأن أبدلت الهمزة ياء كما قال الشاعر: (أهبي التراب فوقه إهبايا) (1)، أراد إهباء والثاني: أن يكون فعلا من نسيت، لأن الشئ إذا أخر فكأنه نسي. والثالث: وفي الصيغة أن يكون اراد النسئ على فعيل، ثم خفف وأدغم، فصار النسي، ثم قصر فعيلا بحذف يائه، فصار نسى ثم أسكن عين فعل فصار نسي، كما قيل في سميح سمح، وفي رطيب رطب، وفي جديب جدب فأما قوله: يضل فليس في يضل إشكال، ولا في يضل (1) أهبى الغبار: أثاره. (*)
[ 53 ]
لأن المضل لغيره ضال بفعله إضلال غيره، فأما يضل: فالمعنى فيه أن كبراءهم وأشرافهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور. وقرئ في الشواذ (يضل) بفتح الياء والضاد، وهذه لغة أعني: ضللت أضل. اللغة: قال أبو زيد: نسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك، والمصدر النسئ يقال: نسأت الإبل عن الحوض أنساها نساء: إذأ اخرتها عنه. والمواطأة: الموافقة يقال واطأ في الشعر إذا قال بيتين على قافية واحدة، وأوطأ مثله. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر السنة والشهر، عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسئ فقال: (إنما النسئ زيادة في الكفر) يعني: تأخير الأشهر الحرم عما رتبها الله سبحانه عليه، وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة، وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية، لا يغزون فيها (1)، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه ويستحلون المحرم، فيمكثون بذلك زمانا، ثم يزول التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة. قال ابن عباس: ومعنى قوله (زيادة في الكفر): انهم كانوا أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله. قال الفراء: والذي كان يقوم به رجل من كنانة، يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب، ولا أخاب، ولا يرد لي قضاء ! فيقولون: نعم صدقت، أنسئنا شهرا، أو أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، وأحل المحرم، فيفعل ذلك. والذي كان ينسأها حين جاء الإسلام، جنادة بن عوف بن أمية الكناني، قال ابن عباس: وأول من سن النسئ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، وقال أبو مسلم بن أسلم: بل رجل من بني كنانة، يقال له القلمس، كان يقول: إني قد نسأت المحرم العام، وهما العام صفران، فإذا كان العام القابل قضينا فجعلنا هما محرمين، قال شاعرهم (وما ناسئ الشهر القلمس)، وقال الكميت: ونحن الناسؤن على معد شهور الحل نجعلها حراما (1) وفي بعض النسخ (لا يغيرون فيها). (*)
[ 54 ]
وقال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل (حجة الوداع) في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام القابل (حجة الوداع)، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر في خطبته: (ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان) أراد عليه السلام: الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة، وبطل النسئ. (يضل به الذين كفروا) أي: يضل بهذا النسئ الذين كفروا. ومن قرأ بضم الباء فمعناه: يضلون به غيرهم، وإضلالهم أنهم فعلوا ذلك ليحللوا للناس الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها، وأوجب الحج في بعضها، فيستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه. وجوزوا ذلك عليه حتى ضلوا باتباعهم. (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) أي: يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا إلى القتال فيه، ويجعلون الشهر الحلال حراما، ويقولون شهر بشهر. وإذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك (ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله) معناه: انهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال، إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم، ليكون موافقة في العدد، وذلك المواطأة (زين لهم سوء أعمالهم) أي: زينت لهم أنفسهم، أو زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، عن الحسن. وقيل: معناه استحسنوا ذلك بهواهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) مر تفسيره. (يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الأخرة فما متاع الحياة الدنيا في الأخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما
[ 55 ]
ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير (39). اللغة: النفر: الخروج إلى الشئ لأمر هيج عليه، ومنه نفور الدابة، يقال نفرت الدابة نفورا، ونفر إلى الثغر نفرا ونفيرا، والتثاقل: تعاطي إظهار ثقل النفس، ومثله التباطؤ، وضده التسرع. والمتاع: الإنتفاع بما يظهر للحواس، ومنه قولهم: تمتع بالرياض والمناظر الحسان، ويقال للأشياء التي لها أثمان متاع تشبيها به. والإستبدال: جعل أحد الشيئين بدل الآخر، مع الطلب له. الاعراب: اثاقلتم: إفاعلتم، وأصله تفاعلتم، أدغمت التاء في الثاء لمناسبتها لها، ثم أدخلت ألف الوصل ليمكن الابتداء بها، ومثله إداركوا، واتابع في قول الشاعر: تولي الضجيع إذا ما اشتاقها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل (1) النزول: قالوا: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من (الطائف)، أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان إدراك الثمار، فأحبوا المقام في المسكن والمال، وشق عليهم الخروج إلى القتال، وكان عليه السلام قلما خرج في غزوة إلا كنى عنها وورى بغيرها إلا (غزوة تبوك)، لبعد شقتها، وكثرة العدو، ليتأهب الناس، فأخبرهم بالذي يريد، فلما علم الله سبحانه تثاقل الناس، أنزل الآية. المعنى: ثم عاتب سبحانه المؤمنين في التثاقل عن الجهاد، فقال: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم) أي: إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لكم (انفروا في سبيل الله) أي: اخرجوا إلى مجاهدة المشركين، وهو ههنا (غزوة تبوك)، عن الحسن، ومجاهد (اثاقلتم إلى الأرض) أي: تثاقلتم وملتم إلى الأقامة في الأرض التي أنتم عليها. قال الجبائي: هذا الاستبطاء مخصوص بنفر من المؤمنين، لأن جميعهم لم يتثاقلوا عن الجهاد، فهو عموم أريد به الخصوص بدليل (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) هذا استفهام يراد به الإنكار، ومعناه: آثرتم الحياة الدنيا الفانية (1) أوليته خيرا أي: أعطيت. والخصر: البارد. وأراد منه ريقها. والقبل: جمع القبلة. (*)
[ 56 ]
على الحياة في الآخرة الباقية في النعيم الدائم (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) أي: فما فوائد الدنيا ومقاصدها في فوائد الآخرة ومقاصدها إلا قليل، لانقطاع هذه، ودوام تلك. ثم عقبه سبحانه بالتهديد والوعيد فقال: (إلا تنفروا يعذبكم الله عذابا أليما) ومعناه: إن لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول، وتقعدوا عنه، يعذبكم الله عذابا اليما مؤلما في الآخرة. وقيل: في الدنيا (ويستبدل) بكم (قوما غيركم) لا يتخلفون عن الجهاد. وقيل: هم أبناء فارس، عن سعيد بن جبير. وقيل: هم أهل اليمن، عن أبي روق. وقيل: هم الذين أسلموا بعد نزول هذه الآية، عن الجبائي (ولا تضروه شيئا) أي: ولا تضروا الله بهذا القعود شيئا، لأنه غني لنفسه، لا يحتاج إلى شئ، عن الحسن، وأبي علي. وقيل: معناه ولا تضروا الرسول شيئا، لأن الله عصمه من جميع الناس، وينصره بالملائكة، أو بقوم آخرين من المؤمنين. (والله على كل شئ قدير) فهو القادر على الاستبدال بكم، وعلى غير ذلك من الأشياء. قال الزجاج: وهذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد. (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصحابه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40). القراءة: قرأ يعقوب وحده كلمة (الله): بالنصب. والباقون: بالرفع. الحجة: من نصب عطفه على قوله (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا) ومن رفع إستأنف، وهو أبلغ لأنه يفيد أن كلمة الله هي العليا على كل حال. الاعراب: ثاني إثنين: نصب على الحال، وللعرب في هذا مذهبان أحدهما: قولهم هذا ثاني إثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة، أي: أحد
[ 57 ]
إثنين، وأحد ثلاثة، وأحد أربعة، وأحد خمسة. والآخر: قولهم ثالث إثنين، وخامس أربعة: بمعنى أنه ثلث إثنين، وخمس أربعة. فالأول إضافة حقيقية محضة، والثاني إضافة غير محضة، إذ هو في تقدير الإنفصال، إذ هما في الغار بدل من قوله (إذ أخرجه الذين كفروا) وضع أحد الزمانين في موضع الآخر لتقاربهما. المعنى: ثم أعلمهم الله سبحانه، أنهم إن تركوا نصرة رسوله، لم يضره ذلك شيئا، كما لم يضره قلة ناصريه، حين كان بمكة، وهم به الكفار، فتولى الله نصره فقال: (إلا تنصروه فقد نصره الله) معناه: إن لم تنصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على قتال العدو، فقد فعل الله به النصر (إذ أخرجه الذين كفروا) من مكة، فخرج يريد المدينة (ثاني اثنين) يعني أنه كان هو وأبو بكر (إذ هما في الغار) ليس معهما ثالث أي: وهو أحد اثنين، ومعناه فقد نصره الله منفردا من كل شئ، إلا من أبي بكر، والغار: الثقب العظيم في الجبل، وأراد به هنا (غار ثور) وهو جبل بمكة (إذ يقول لصاحبه) أي: إذ يقول الرسول لأبي بكر (لا تحزن) أي: لا تخف (إن الله معنا) يريد أنه مطلع علينا، عالم بحالنا، فهو يحفظنا وينصرنا. قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر الغار، أرسل الله زوجا من حمام، حتى باضا في أسفل الثقب، والعنكبوت حتى تنسج بيتا، فلما جاء سراقه بن مالك في طلبهما، فرأى بيض الحمام، وبيت العنكبوت، قال: لو دخله أحد لانكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أعم أبصارهم ! فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار، وقال أبو بكر لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا. وروى علي بن إبراهيم بن هاشم قال: كان رجل من خزاعة فيهم، يقال له أبو كرز، فما زال يقفو أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى وقف بهم باب الغار، فقال لهم: هذه قدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هي والله أخت القدم التي في المقام، وقال: هذه قدم أبي قحافة، أو ابنه وقال: ما جازوا هذا المكان، إما أن يكونوا قد صعدوا في السماء، أو دخلوا في الأرض. وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس، فوقف على باب الغار، ونزل رجل من قريش، فبال على باب الغار، فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول الله ؟ ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم.
[ 58 ]
(فأنزل الله سكينته عليه) يعني: على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي: ألقى في قلبه ما سكن به، وعلم أنهم غير واصلين إليه، عن الزجاج (وأيده) أي: قواه ونصره (بجنود لم تروها) أي: بملائكة يضربون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه، عن الزجاج. وقيل: معناه قواه بملائكة يدعون الله تعالى له، عن ابن عباس. وقيل: معناه وأعانه بالملائكة يوم بدر، وأخبر الله سبحانه أنه صرف عنه كيد أعدائه، وهو في الغار، ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر، عن مجاهد، والكلبي. وقال بعضهم يجوز أن تكون الهاء التي في (عليه)، راجعة إلى أبي بكر، وهذا بعيد لأن الضمائر قبل هذا وبعده تعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلا خلاف وذلك في قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله)، وفي قوله: (إذ أخرجه)، وقوله: (لصاحبه) وقوله، فيما بعد: (وأيده) فكيف يتخللها ضمير عائد إلى غيره، هذا وقد قال سبحانه في هذه السورة: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) وقال في سورة الفتح: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) وقد ذكرت الشيعة في تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في هذه الآية بالسكينة، كلاما رأينا الإضراب عن ذكره أحرى، لئلا ينسبنا ناسب إلى شئ. (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) معناه أن الله سبحانه جعل كلمتهم نازلة دنية، وأراد به أنه سفل وعيدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتخويفهم إياه، وأبطله بأن نصره عليهم، فعبر عن ذلك بأنه جعل كلمتهم السفلى، لا أنه خلق كلمتهم (وكلمة الله هي العليا) أي: هي المرتفعة المنصورة بغير جعل جاعل، لأنها لا يجوز إن تدعو إلى خلاف الحكمة. وقيل: إن كلمة الكفار كلمة الشرك، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، وهي قوله (لا إله إلا الله) فمعناه: جعل كلمة الكفار السفلى، بأن جعلهم أذلة أسفلين، وأعلى كلمة الله، بأن أعز الإسلام والمسلمين (والله عزيز) في انتقامه من أهل الشرك (حكيم) في تدبيره. (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41) لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت، عليهم الشقة وسيحلفون بالله لوا استطعنا لخرجنا
[ 59 ]
معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42) عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43) القراءة: في الشواذ قراءة الأعمش (لو استطعنا) بضم الواو، وقد مضى الكلام فيه أوائل سورة البقرة. اللغة: القاصد: السهل المقصد عن غير طول، لأنه مما يقصد لسهولته، وسمي العدل قصدا لأنه مما ينبغي أن يقصد. والشقة: القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها، ويحتمل أن يكون من الشق الذي هو الناحية من الجبل، ويحتمل أن يكون من المشقة. والشقة: السفر والمسافة، وقريش يضمون الشين، وقيس يكسرونها، وقريش يضمون العين من بعدت، وقيس يكسرونها. المعنى: ثم أمر سبحانه بالجهاد، وبين تأكيد وجوبه على العباد فقال (انفروا) أي: اخرجوا إلى الغزو (خفافا وثقالا) أي: شبانا وشيوخا، عن الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم. وقيل: نشاطا وغير نشاط، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل، عن الحكم. وقيل: أغنياء وفقراء عن أبي صالح. وقيل: أراد بالخفاف: أهل العسرة من المال، وقلة العيال، وبالثقال: أهل الميسرة في المال، وكثرة العيال، عن الفراء. وقيل: معناه ركبانا ومشاة، عن أبي عمرو، وعطية العوفي. وقيل: ذا صنعة وغير ذي صنعة عن ابن زيد. وقيل: عزابا ومتأهلين، عن يمان. والوجه أن يحمل على الجميع، فيقال: معناه اخرجوا إلى الجهاد خف عليكم أو شق على أي حالة كنتم، لأن أحوال الإنسان لا تخلو من أحد هذه الإشياء (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله): وهذا يدل على أن الجهاد بالنفس والمال واجب على من استطاع بهما، ومن لم يستطع على الوجهين، فعليه أن يجاهد بما استطاع (ذلكم خير لكم) معناه أن الخروج والجهاد بالنفس والمال خير لكم من التثاقل وترك الجهاد إلى مباح (إن كنتم تعلمون) أن الله عز اسمه صادق في وعده ووعيده. وقيل: معناه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير، قال السدي: لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى بقوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) الآية.
[ 60 ]
(لو كان عرضا قريبا) معناه: لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة (وسفرا قاصدا) أي: قريبا هينا. وقيل: قاصدا أي ذا قصد نحو تامر ولابن (1)، عن المبرد. وقيل: سهلا متوسطا غير شاق (لاتبعوك) طمعا في المال (ولكن بعدت عليهم الشقة) أي: المسافة، يعني غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام. (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) معناه: إن هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم عن الجهاد، ويحلفون لو استطعنا، وقدرنا، وتمكنا من الخروج، لخرجنا معكم. ثم أخبر سبحانه أنهم (يهلكون أنفسهم) بما أسروه من الشرك. وقيل: باليمين الكاذبة، والعذر الباطل، لما يستحقون عليها من العقاب (والله يعلم إنهم لكاذبون) في هذا الاعتذار والحلف. وفي هذه دلالة على صحة نبوة نبينا، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أخبر أنهم سيحلفون قبل وقوعه، فحلفوا، وكان مخبره على ما أخبر به، وفيه أيضا دلالة واضحة على أن القدرة قبل الفعل، لأن هؤلاء لا يخلو إما أن يكونوا مستطيعين من الخروج، قادرين عليه، ولم يخرجوا، أو لم يكونوا قادرين عليه، وإنما حلفوا لو أنهم قدروا في المستقبل لخرجوا، فإن كان الأول فقد ثبت أن القدرة قبل الفعل، وإن كان الثاني فقد كذبهم الله تعالى في ذلك، وبين أنه لو فعل لهم الاستطاعة لما خرجوا. وفي ذلك أيضا وجوب تقدم القدرة على المقدور، فإن حملوا الإستطاعة على وجود الآلة، وعدة السفر، فقد تركوا الظاهر من غير ضرورة، فإن حقيقة الإستطاعة القدرة على أنه لو كان عدم الآلة والعدة عذرا في التأخر، فعدم القدرة أصلا أحرى وأولى أن يكون عذرا فيه. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بما فيه بعض العتاب في إذنه لمن استأذنه في التأخر عن الخروج معه إلى تبوك فقال (عفا الله عنك لم أذنت لهم) في التخلف عنك، قال قتادة، وعمروبن ميمون: إثنان فعلهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يؤمر بهما: اذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون، وهذا من لطيف المعاتبة، بدأه بالعفو قبل العتاب، وهل كان هذا الإذن قبيحا أم لا ؟ قال الجبائي: (1) أي ذو تمر، وذو لبن. (*)
[ 61 ]
كان قبيحا، ووقع صغيرا، لأنه لا يقال في المباح لم فعلته، وهذا غير صحيح لأنه يجوز أن يقال فيما غيره أفضل منه لم فعلته، كما يقول القائل لغيره، إذا رآه يعاتب أخا له، لم عاتبته وكلمته بما يشق عليه. وإن كان يجوز له معاتبته بما يشق عليه، وكيف يكون إذنه لهم قبيحا، وقد قال سبحانه في موضع آخر: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم). وقيل: معناه أدام الله لك العفو، لم أذنت لهؤلاء في الخروج، لأنهم استأذنوا فيه تملقا، ولو خرجوا لأرادوا الخبال والفساد، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك من سريرتهم، عن أبي مسلم (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) أي: حتى تعرف من له العذر منهم في التخلف، ومن لا عذر له، فيكون إذنك لمن أذنت له على علم. قال ابن عباس: وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يعرف المنافقين يومئذ. وقيل: إنه عليه السلام إنما خيرهم بين الظعن والإقامة، متوعدا لهم، ولم يأذن، فاغتنم القوم ذلك. وفي هذا إخبار من الله سبحانه أنه كان الأولى أن يلزمهم الخروج معه، حتى إذا لم يخرجوا، أظهر نفاقهم، لأنه متى أذن لهم ثم تأخروا، لم يعلم ألنقاق كان تأخرهم أم لغيره، وكان الذين استأذنوه مناففين، ومنهم جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وهما من الأنصار. (لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الأخرأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44) إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الأخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45). المعنى: ثم بين سبحانه حال المؤمنين والمنافقين في الاستئذان، فقال: (لا يستأذنك) أي: لا يطلب منك الإذن في القعود عن الجهاد معك بالمعاذير الفاسدة. وقيل: معناه لا يستأذنك في الخروج، لأنه مستغن عنه بدعائك إلى ذلك، بل يتأهب له، عن أبي مسلم. (الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) والمعنى: في أن يجاهدوا فحذف في فافضى الفعل (والله عليم بالمتقين) قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في القعود عن الجهاد، وعذر للمؤمنين في قوله (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) والمعنى: أنه لم يخرجهم من صفة المتقين إلا لأنه علم أنهم ليسوا منهم (إنما يستأذنك) في التأخر عن الجهاد
[ 62 ]
والتخلف عن القتال معك. وقيل: في الخروج لأن المنافق إنما يستأذنك في الخروج تملقا، ولا يتأهب كما يتأهب المؤمنون، عن أبي مسلم (الذين لا يؤمنون بالله) أي: لا يصدقون به (واليوم الآخر) يعني: بالبعث والنشور (وارتابت قلوبهم) أي: إضطربت وشكت (فهم في ريبهم يترددون) فهم في شكهم يذهبون ويرجعون، والتردد هو التصرف بالذهاب والرجوع مرات متقاربة، مثل التحير. وأراد به المنافقين أي: يتوقعون الإذن لشكهم في دين الله، وفيما وعد المجاهدين، ولو أنهم كانوا مخلصين لوثقوا بالنصر، وبثواب الله، فبادروا إلى الجهاد، ولم يستأذنوك فيه. (* ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47) لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48) اللغة: العدة، والأهبة، والآلة، نظائر. والإنبعاث: الإنطلاق بسرعة في الأمر، وفلان لا ينبعث في الحاجة أي: ليس له نفاذ فيها. والتثبيط: التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه، ومثله التربيث. والخبال: الفساد. والخبال: الموت. والخبال: الإضطراب في الرأي. والخبل، بسكون الباء وفتحها: الجنون. والخبل: فساد الأعضاء، قال: أبني لبينى لستم بيد إلا يدا مخبولة العضد (1) والإيضاع: الإسراع في السير، قال امرؤ القيس: أرانا موضعين لحتم غيب، ونسخر بالطعام، وبالشراب (2) (1) لبينى: اسم ابنة إبليس واسم ابنة لقيس. (2) قوله موضعين أي: مسرعين، ويريد بقوله لحتم غيب: الموت. والسحر: الغداء. يقول: لنسرع إلى الموت، وقد غيب عنا وقته، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب. (*)
[ 63 ]
وربما قالوا للراكب وضع بغير ألف، ووضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا، وأوضعتها إيضاعا قال: ياليتني فيها جذع أخب فيها وأضع (1) خلالكم: أي بينكم، مشتق من التخلل. وفي الحديث تراصوا بين الصفوف لا يتخللكم الشياطين كأنها بنات حذف (2). والتقليب: تصريف الشئ بجعل أعلاه أسفله، ورجل حول قلب: كأنه يقلب الآراء في الأمور، ويحولها. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء المنافقين، فقال: (ولو أرادوا الخروج) مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نصرة له، أو رغبة في جهاد الكفار، كما أراد المؤمنون ذلك، (لأعدوا له عدة) أي: لاستعدوا للخروج عدة، وهي ما يعد لأمر يحدث قبل وقوعه. والمراد: لأخذوا أهبة الحرب من الكراع والسلاح، لأن إمارة من أراد أمرا أن يتأهب له قبل حدوثه. (ولكن كره الله انبعاثهم) معناه ولكن كره الله خروجهم إلى الغزو، ولعلمه أنهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة بين المسلمين، وكانوا عيونا للمشركين، وكان الضرر في خروجهم أكثر من الفائدة (فثبطهم) عن الخروج الذي عزموا عليه، لا عن الخروج الذي أمرهم به، لأن الأول كفر، والثاني طاعة، ولا ينبغي أن يقال كيف كره انبعاثهم بعدما أمر به في الآية الأولى ؟ لأنه إنما أمر بذلك على وجه الذب عن الدين، ونية الجهاد، وكره ذلك على نية التضريب والفساد، فقد كره غير ما أمر به. ومعنى ثبطهم: بطأ بهم، وخذلهم لما يعلم منهم من الفساد. (وقيل اقعدوا مع القاعدين) أي: وقيل لهم: اقعدوا مع النساء والصبيان، ويحتمل أن يكون القائلون لهم ذلك أصحابهم الذين نهوهم عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، للجهاد. ويحتمل أن يكون ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم على وجه التهديد والوعيد، لا على وجه الإذن. ويجوز أن يكون أيضا على وجه الإذن لهم في القعود الذي عاتبه الله تعالى عليه، إذ كان الأولى أن لا يأذن لهم ليظهر للناس نفاقهم. قال أبو مسلم: هذا يدل على أن الاستئذان كان في الخروج، وأن الأذن من (1) قائله دريد بن صمة قاله في (وقعة حنين). والجذع: الشاب. والخب والوضع: ضربان من السير. (2) الحذف: الغنم الصغار الحجازية. (*)
[ 64 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لهم كان في الخروج، لأنه إذا كره الله سبحانه خروجهم، وأراد قعودهم، وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في قعودهم، فلا عتب عليه، ولكنهم استأذنوا في الخروج تملقا، وإرادة للفساد، فأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لهم فيه، ولم يعلم ضمائرهم، فعلم الله تعالى ذلك من نياتهم، ومنعهم من الخروج، إذ كره خروجهم. ثم بين سبحانه وجه الحكمة في كراهية انبعاثهم، وتثبيطهم عن الخروج، فقال (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) معناه: لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الجهاد، ما زادوكم بخروجهم إلا شرا وفسادا. وقيل: غدرا ومكرا، عن الضحاك. وقيل: يريد عجزا وجبنا، عن ابن عباس أي: إنهم كانوا يجبنونكم عن لقاء العدو بتهويل الأمر عليكم. (ولأوضعوا خلالكم) أي: لأسرعوا في الدخول بينكم بالتضريب، والإفساد، والنميمة. يريد ولسعوا فيما بينكم بالتفريق بين المسلمين. ويكون تقديره ولأعدوا الإبل وسطكم. وقيل: معناه لأوضعوا إبلهم خلالكم، يتخلل الراكب الرجلين حتى يدخل بينهما فيقول ما لا ينبغي. (يبغونكم الفتنة) بعدو الإبل وسطكم، ومعنى يبغونكم: يبغون لكم أو فيكم أي: يطلبون لكم المحنة باختلاف الكلمة والفرقة. وقيل: معناه يبغونكم أن تكونوا مشركين. والفتنة: الشرك، عن الحسن. وقيل: معناه يخوفونكم بالعدو، ويخبرونكم أنكم منهزمون، وأن عدوكم سيظهر عليكم، عن الضحاك (وفيكم سماعون لهم) أي: وفيكم عيون للمنافقين ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، عن مجاهد، وابن زيد. وقيل: معناه وفيكم قائلون منهم عند سماع قولهم، يريد ضعفة المسلمين، عن قتادة، وابن إسحاق، وجماعة (والله عليم بالظالمين) أي: بهؤلاء المنافقين الذين ظلموا أنفسهم لما أضمروا عليه من الفساد، منهم عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، وأوس بن قبطي. ثم أقسم الله سبحانه فقال (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) الفتنة: اسم يقع على كل سوء وشر، والمعنى: لقد طلب هؤلاء المنافقون اختلاف كلمتكم، وتشتيت أهوائكم، وافتراق آرائكم، من قبل غزوة تبوك أي: في يوم أحد، حين انصرف عبد الله بن أبي بأصحابه، وخذل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فصرف الله سبحانه عن المسلمين فتنتهم. وقيل: أراد بالفتنة صرف الناس عن الإيمان، وإلقاء الشبهة إلى ضعفاء المسلمين، عن الحسن. وقيل: أراد بالفتنة الفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في غزوة تبوك
[ 65 ]
ليلة العقبة، وكانوا إثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على الثنية ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن سعيد بن جبير، وابن جريح. (وقلبوا لك الأمور) أي: احتالوا في توهين أمرك، وإيقاع الاختلاف بين المؤمنين، وفي قتلك، بكل ما أمكنهم فيه، فلم يقدروا عليه. وقيل: انهم كانوا يريدون في كيده وجها من التدبير، فإذا لم يتم ذلك فيه، تركوه وطلبوا المكيدة في غيره، فهذا تقليب الأمور، عن أبي مسلم (حتى جاء الحق) معناه حتى جاء النصر والظفر الذي وعده الله به (وظهر أمر الله) أي: دينه وهو الإسلام، على الكفار على رغمهم (وهم كارهون) أي: في حال كراهيتهم لذلك فهي جملة في موضع الحال. (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49) إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51) قل هل تربصون بنآ إلآ إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52). القراءة: القراءة المشهورة: (لن يصيبنا). وقرأ طلحة بن مصرف: (قل هل يصيبنا) وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. النزول: قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما استنفر الناس إلى تبوك، قال: إنفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر (1). فقام جد بن قيس، أخو بني سلمة من بني (1) قال الجزري: وفي الحديث (اغزوا تغنموا بنات الأصفر) بعني الروم، لأن أباهم الأول كان أصفر اللون، وهو روم بن عيصو بن اسحاق بن إبراهيم. (*)
[ 66 ]
الخزرج، فقال: يا رسول الله ! إئذن لي، ولا تفتني ببنات الأصفر، فإني أخاف أن افتتن بهن. فقال: قد أذنت لك. فأنزل الله تعالى (ومنهم من يقول ائذن لي) الآيات، عن ابن عباس، ومجاهد. فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لبني سلمة: من سيدكم ؟ قالوا: جد بن قيس غير أنه بخيل جبان ! فقال عليه السلام: وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور. فقال في ذلك حسان بن ثابت: وقال رسول الله، والقول لاحق، بمن قال منا: من تعدون سيدا فقلنا له: جد بن قيس على الذي نبخله فينا، وإن كان أنكدا فقال: وأي الداء أدوى من الذي رميتم به جدا، وإن كان أمجدا وسود بشر بن البراء لجوده، وحق لبشر ذي الندا أن يسودا إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله، وقال: خذوه إنه عائد غدا المعنى: (ومنهم) أي: ومن المنافقين (من يقول ائذن لي) في القعود عن الجهاد (ولا تفتني) ببنات الأصفر، عن ابن عباس، ومجاهد. قال الفراء: سميت الروم أصفر لأن حبشيا غلب على ناحية الروم، وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم، وسواد الحبشة، فكن صفرا لعسا (1). وقيل: معناه لا تؤثمني أي: لا توقعني في الإثم بالعصيان لمخالفة أمرك بالخروج إلى الجهاد، وذلك غير متيسر لي، عن الحسن، وقتادة، والجبائي، والزجاج (ألا في الفتنة سقطوا) معناه: ألا في العصيان والكفر وقعوا بمخالفتهم أمرك في الخروج والجهاد. وقيل: معناه لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر. ألا قد سقطوا في حر أعظم من ذلك وهو حر نار جهنم، عن أبي مسلم، ويدل عليه قوله (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا). (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي: ستحيط بهم فلا مخلص لهم منها (إن تصبك حسنة تسؤهم) هذا خطاب من الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: إن تنلك نعمة من الله، وفتح وغنيمة يحزن المنافقون (وإن تصبك مصيبة) معناه: وإن تصبك شدة، ونكبة، وآفة في النفس، أو المال (يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) أي: أخذنا حذرنا، واحترزنا بالقعود من قبل هذه المصيبة، عن مجاهد. ومعناه: أخذنا (1) أي يضرب لونهن إلى السواد. (*)
[ 67 ]
أمرنا من مواضع الهلكة، فسلمنا مما وقعوا فيه. (ويتولوا وهم فرحون) أي: رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة (قل) يا محمد لهم (لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا) أي: كل ما يصيبنا من خير أو شر فهو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ في أمرنا، وليس على ما تظنون وتتوهمون من إهمالنا من غير أن يرجع أمرنا إلى تدبير، عن الحسن. وقيل: معناه لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا في القرآن من النصر الذي وعدنا، وأنا نظفر بالأعداء فتكون النصرة حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضا، أي: فقد كتب الله لنا ما يصيبنا، وعلمنا ما لنا فيه من الحظ، عن الزجاج، والجبائي. (هو مولانا) أي: هو مالكنا ونحن عبيده. وقيل: هو ولينا وناصرنا، يحفظنا ويتولى حياطتنا، ودفع الضرر عنا. (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين بالتوكل عليه، والرضا بتدبيره وتقديره، فليتوكل على الله المؤمنون (قل) يا محمد لهؤلاء المنافقين: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) معناه: هل تنتظرون لنا إلا احدى الخصلتين الحميدتين، والنعمتين العظيمتين: إما الغلبة والغنيمة في العاجل، وإما الشهادة مع الثواب الدائم في الآجل، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وغيرهم. و (هل) وإن كان حرف الاستفهام، فمعناه هنا التقريع بالتربص المؤدي صاحبه إلى كل ما كرهه من خيبة، وفوز خصمه، ومن هلاكه ونجاة خصمه، ومن شقوته وسعادة خصمه (ونحن نتربص بكم) أي: ونحن نتوقع بكم (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) أي: يوقع الله بكم عذابا من عنده، يهلككم به، أو بأن ينصرنا عليكم، فيقتلكم بأيدينا (فتربصوا) صورته صورة الأمر، والمراد به التهديد كقوله (إعملوا ما شئتم) لأنه لو كان أمرا لهم، لكانوا في تربصهم بالمؤمنين القتل مطيعين الله (إنا معكم متربصون) أي: منتظرون إما الشهادة والجنة، وإما الغنيمة والأجر لنا، وإما البقاء في الذل والخزي، وإما الموت أو القتل مع المصير إلى النار لكم. وهذه الآية تفسير لقوله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وقيل: معناه فتربصوا هلاكنا فإنا متربصون هلاككم. وقيل: تربصوا مواعيد الشيطان في إبطال دين الله، ونحن متربصون مواعيد الله في إظهار دينه، ونصرة نبيه، واستئصال مخالفيه.
[ 68 ]
(قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53) وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلآ أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54) فلا تعجبك أموالهم ولآ أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (أن يقبل) بالياء. والباقون: بالتاء. الحجة: وجه القراءة بالتاء أن الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ، ووجه الياء ان التأنيث ليس بحقيقي، فجاز أن يذكر كما جاء (فمن جاءه موعظة). اللغة: الطوع: الإنقياد بإرادة لم يحمل عليها. والكره: فعل الشئ بكراهة حمل عليها. والمنع: أمر يضاد الفعل وينافيه، وهو على وجهين منع أن يفعل، ومنع أن يفعل به، فهؤلاء منعوا من أن يفعل بهم قبول نفقتهم. والزهق: الخروج بصعوبة، وأصله الهلاك، وكل هالك زاهق زهق يزهق زهوقا. والزاهق من الدواب: السمين الشديد السمن، لأنه هالك بثقل بدنه في السير، والكر والفر. وزهق فلان بين أيدي القوم: إذا ذهب سابقا لهم حتى يهلك منهم. والإعجاب: السرور بما يتعجب منه، يقال: أعجبني حديثه أي: سرني. الاعراب: أنفقوا طوعا أو كرها: لفظ أمر ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى إن أنفقتم طائعين أو مكرهين، لن يتقبل منكم، ومثله من الشعر قول كثير: أسيئي بنا، أو أحسني لا ملومة لدينا، ولا مقلية إن تقلت (1) فلم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها إن أساءت أو أحسنت، فهو على عهدها، فكأنه قال إن أحسنت أو أسأت فلا تلامي. قال الزجاج: فإن قال قائل: كيف يكون الأمر في معنى الخبر ؟ قيل له إذا كان في الكلام دليل عليه جاز، كما يكون لفظ الخبر في معنى الأمر والدعاء، كقولك: غفر الله لزيد، ورحمه الله، ومعناه: اللهم (1) القلا: البغض. وتقلى أي تبغض. وفي الشعر التفات من الخطاب إلى الغيبة. (*)
[ 69 ]
اغفر له وارحمه وقوله (أن تقبل) في موضع نصب، وتقديره من أن تقبل، و (أنهم كفروا بالله) في موضع رفع، المعنى: ما منعهم من قبول نفقاتهم إلا كفرهم، ويجوز أن يكون التقدير: وما منعهم الله منه إلا لأنهم كفروا. المعنى: ثم بين سبحانه أن هؤلاء المنافقين لا ينتفعون بما ينفقونه مع إقامتهم على الكفر، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء (أنفقوا طوعا أو كرها) أي: طائعين، أومكرهين (لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) معناه: وإنما لم يتقبل منكم لأنكم كنتم متمردين عن طاعة الله، والله سبحانه إنما يتقبل من المؤمنين المخلصين (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) أي: وما يمنع هؤلاء المنافقين أن يثابوا على نفقاتهم إلا كفرهم بالله وبرسوله، وذلك مما يحبط الأعمال، ويمنع من استحقاق الثواب عليها (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) أي: متثاقلين، والمعنى: لم يؤدوها على الوجه الذي أمروا أن يؤدوها على ذلك الوجه (ولا ينفقون إلا وهم كارهون) لذلك، لأنهم إنما يصلون وينفقون للرياء والتستر بالإسلام، لا لابتغاء مرضاة الله تعالى. وفي هذا دلالة على أن الكفار مخاطبون بالشرائع لأنه سبحانه ذمهم على ترك الصلاة والزكاة، ولولا وجوبهما عليهم لم يذموا بتركهما. (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد جميع المؤمنين. وقيل: يريد لا تعجبك أيها السامع، أي: لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين، وكثرة أولادهم، ولا تنظر إليهم بعين الإعجاب (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) قد ذكر في معناه وجوه أحدها: إن فيه تقديما وتأخيرا أي: لا يسرك أموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، عن ابن عباس، وقتادة. فيكون الظرف على هذا متعلقا بأموالهم وأولادهم، ومثله قوله تعالى (فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) والتقدير فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم وثانيها: إن معناه: إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا بالتشديد عليهم في التكليف، وأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو، فيؤدونها على كره منهم ومشقة، إذ لا يرجون به ثوابا في الآخرة، فيكون ذلك عذابا لهم، عن الحسن، والبلخي. وثالثها: إن معناه: إنما يريد الله ليعذبهم بحفظها والمصائب فيها مع حرمان المنفعة بها، عن ابن زيد. ورابعها: إن معناه:
[ 70 ]
إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا، أي: بسبي الأولاد، وغنيمة الأموال عند تمكن المؤمنين من أخذها، وغنمها، فيتحسرون عليها، فيكون ذلك جزاء على كفرهم عن الجبائي. وخامسها: إن المراد يعذبهم بجمعها وحفظها وحبها، والبخل بها، والحزن عليها، وكل هذا عذاب، وكذلك خروجهم عنها بالموت لأنهم يفارقونها، ولا يدرون إلى ماذا يصيرون، واللام في قوله (ليعذبهم) يحتمل أن يكون بمعنى أن، ويحتمل أن يكون لام العاقبة. والتقدير إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم. (وتزهق أنفسهم) أي: تهلك وتذهب بالموت (وهم كافرون) جملة في موضع الحال أي: حال كونهم كافرين، والإرادة تعلقت بزهوق أنفسهم، لا بالكفر، وهذا كما تقول أريد أن أضربه وهو عاص، فالإرادة تعلقت بالضرب، لا بالعصيان. (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57) القراءة: قرأ يعقوب وسهل: (أو مدخلا) بفتح الميم، وسكون الدال، وهو قراءة ابن أبي إسحاق، والحسن. والباقون: (مدخلا) وفي الشواذ قراءة مسلمة بن محارب: (ومدخلا) بضم الميم وسكون الدال. وقراءة الأعرج: (مدخلا) بتشديد الدال والخاء. وقرأ أنس: (وهم يجمزون) رواه الأعمش عنه. الحجة: أما قوله (مدخلا) في القراءة المشهورة، فأصله مدتخلا، لكن التاء تبدل بعد الدال دالا، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه أحد أخف ومن قرأ (مدخلا) فهو من دخل يدخل مدخلا. ومن قرأ (مدخلا): فهو من أدخلته مدخلا قال: الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا ومن قرأ (مدخلا) بتشديد الدال والخاء: جعله متدخلا، ثم أدغم التاء في الدال. وفي رواية الأعمش أنه سمع أنسا يقرأ (يجمزون) فقال: وما يجمزون ؟ قال: يجمزون، ويجمحون، ويشتدون، واحد. اللغة: الفرق: إنزعاج النفس بتوقع الضرر، وأصله من مفارقة الأموال حال
[ 71 ]
الإنزعاج. والملجأ: الموضع الذي يتحصن فيه، ومثله المعقل، والموئل، والمعتصم، والمعتمد. والمغارات: جمع مغارة مفعلة من غار الشئ في الشئ يغور: إذا دخل منه في موضع يستره. والغار: النقب في الجبل. والمدخل: المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه، وهو مفتعل. والجماح: مضي المار مسرعا على وجهه لا يرده شئ عنه، وقيل: هو المشي بين الشيئين، قال مهلهل: لقد جمحت جماحا في دمائهم حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا والجموح: الراكب هواه قال: خلعت عذاري جامحا ما يردني عن البيض أمثال الدمى زجر زاجر (1) المعنى: ثم أظهر سبحانه سرا من أسرار القوم فقال (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) أي: يقسم هؤلاء المنافقون إنهم لمن جملتكم أيها المؤمنون أي: مؤمنون أمثالكم (وما هم منكم) أي: ليسوا مؤمنين بالله كما أنتم كذلك (ولكنهم قوم يفرقون) أي يخافون القتل والأسر إن لم يظهروا الإيمان (لو يجدون ملجأ) أي: لو يجد هؤلاء المنافقون حرزا، عن ابن عباس. وقيل: حصنا، عن قتادة (أو مغارات) أي: غيرانا في الجبال، عن ابن عباس. وقيل: سراديب، عن عطا (أو مدخلا) أي: موضع دخول يأوون إليه، عن الضحاك. وقيل: نفقا كنفق اليربوع، عن ابن زيد. وقيل: أسرابا في الأرض، عن ابن عباس، وأبي جعفر عليه السلام. وقيل: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن (لولوا إليه) أي: لعدلوا إليه. وقيل: لأعرضوا عنكم إليه (وهم يجمحون) أي: يسرعون في الذهاب إليه. ومعنى الآية: إنهم من خبث دخلتهم، وسوء سريرتهم، وحرصهم على إظهار ما في نفوسهم من النفاق والكفر، لو أصابوا شيئا من هذه الأشياء، لآووا إليه ليجاهروا بما يضمرونه، وأعرضوا عنك. (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها (1) العذار: ما سال من اللجام على خد الفرس، ويقال للشاب المنهمك في العي: خلع عذاره أي: اتبع هواه وما يبالي بشئ كالفرس بلا لجام. والدمى جمع الدمية: الصورة ويكنى بها عن المرأة. (*)
[ 72 ]
إذا هم يسخطون (58) ولو أنهم رضوا مآ ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون (59). القراءة: قرأ يعقوب: (يلمزك) بضم الميم، وهي قراءة الحسن، والأعرج. والباقون: بكسر الميم. اللغة: يقال لمزت الرجل ألمزه، وألمزه: إذا عبته، وكذلك همزته، قال الشاعر: إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه (1) وقيل: الهمز العيب بكسر العين وغمزها أي: يكسر عينه (2) إذا غاب. واللمز: العيب على وجه المسارة. وقيل لأعرابي: أتهمز الفارة ؟ قال: الهر يهمزها، فأوقع الهمز على الأكل. والهمز: كاللمز. النزول: عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقسم قسما، وقال ابن عباس: كانت غنائم هوازن يوم حنين، إذ جاءه ابن أبي ذي الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج، فقال: أعدل يا رسول الله ! فقال: ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فأضرب عنقه ! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعه فإن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في رصافه (3)، فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في نصله، فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود في إحدى ثدييه، أو قال في إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة، تدردر، يخرجون على فترة من الناس. وفي حديث آخر: فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فنزلت (ومنهم من يلمزك) الآية. قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني سمعت هذا من (1) كاشره: ضحك في وجهه، وباسطه. (2) وفي نسخة مطبوعة (يكثر عليه). (3) القذذ: ريش السهم. والرصاف: العقب الذي يلوى على مدخل النصل. (*)
[ 73 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد أن عليا عليه السلام حين قتلهم، وأنا معه، جئ بالرجل على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رواه الثعلبي بإسناده في تفسيره. وقال الكلبي: نزلت في (المؤلفة قلوبهم) وهم المنافقون قال رجل منهم يقال له ابن الجواظ: لم يقسم بالسوية، فأنزل الله الآية. وقال الحسن: أتاه رجل وهو يقسم فقال: ألست تزعم أن الله تعالى أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ؟ قال: بلى. قال: فما لك تضعها في رعاة الغنم ؟ قال: إن نبي الله موسى عليه السلام كان راعي غنم، فلما ولى الرجل، قال عليه السلام: إحذروا هذا. وقال ابن زيد: قال المنافقون ما يعطيها محمد إلا من أحب، ولا يؤثر بها إلا هواه، فنزلت الآية. المعنى: ثم أخبر سبحانه عنهم فقال (ومنهم) أي: ومن هؤلاء المنافقين (من يلمزك في الصدقات) أي: يعيبك، ويطعن عليك في أمر الصدقات (فإن أعطوا منها) أي: من تلك الصدقات (رضوا) وأقروا بالعدل (وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) أي: يغضبون ويعيبون. وقال أبو عبد الله عليه السلام: أهل هذه الآية أكثر من ثلثي الناس (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) معناه: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين طلبوا منك الصدقات، وعابوك بها، رضوا بما أعطاهم الله ورسوله (وقالوا) مع ذلك (حسبنا الله) أي: كفانا الله أو كافينا الله (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) أي: سيعطينا الله من فضله وإنعامه، ويعطينا رسوله مثل ذلك، وقالوا (إنا إلى الله راغبون) في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن أموال الناس. وقيل: يعني راغبون إليه فيما يعطينا من الثواب، ويصرف عنا من العذاب، وجواب (لو) محذوف وتقديره لكان خيرا لهم، وأعود عليهم، وحذف الجواب في مثل هذا الموضع أبلغ على ما تقدم بيانه. (* إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60). الاعراب: قال الزجاج: (فريضة) منصوب على التوكيد، لأن قوله (إنما
[ 74 ]
الصدقات لهؤلاء) كقولك فرض الله الصدقات لهؤلاء. المعنى: ثم بين سبحانه لمن الصدقات فقال (إنما الصدقات للفقراء والمسكين) ومعناه: ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال إلا لهؤلاء. واختلف في الفرق بين الفقير والمسكين على قولين أحدهما: إنهما صنف واحد، وإنما ذكر الصنفان تأكيدا للأمر، وهو قول أبي علي الجبائي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد فقالا فيمن قال ثلث مالي للفقراء والمساكين، وفلان، إن لفلان نصف الثلث، ونصفه الآخر للفقراء والمساكين، لأنهما صنف واحد. و (الآخر): وهو قول الأكثرين انهما صنفان، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، فإنه قال في المسألة المذكورة إن لفلان ثلث الثلث، وثلثي الثلث للفقراء والمساكين. ثم اختلف هؤلاء على أقوال: فقيل: إن الفقير: هو المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل، عن ابن عباس، والحسن، والزهري، ومجاهد، ذهبوا إلى أن المسكين مشتق من المسكنة بالمسألة، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: إن الفقير الذي يسأل، والمسكين الذي لا يسأل. وجاء في الحديث ما يدل على ذلك: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: ليس المسكين الذي يرده الأكلة والأكلتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنيا فيغنيه، ولا يسأل الناس شيئا، ولا يفطن به فيتصدق عليه. وقيل: الفقير هو الزمن المحتاج، والمسكين: هو الصحيح المحتاج، عن قتادة. وقيل: الفقراء المهاجرون، والمساكين: غير المهاجرين، عن الضحاك، وإبراهيم. ثم اختلفوا من وجه آخر، فقيل: إن الفقير أسوأ حالا من المسكين، فإن الفقير هو الذي لا شئ له، والمسكين الذي له بلغة من العيش لا تكفيه، وإليه ذهب الشافعي، وابن الأنباري، واحتجا بقوله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) وبأن الفقير مشتق من فقار الظهر، فكأن الحاجة قد كسرت فقار ظهره. وقيل: إن المسكين أسوأ حالا من الفقير الذي له بلغة من العيش، والمسكين: الذي لا شئ له، وهو قول أبي حنيفة، والقتيبي، وابن دريد، وأئمة اللغة، وأنشد يونس: أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد (1) (1) قائله الراعي يمدح عبد الملك بن مروان، ويشكر إليه سعاته. وفي نسخة مخطوطة كنسخة = (*)
[ 75 ]
فسماه فقيرا، وجعل له حلوبة. وأجابوا عن السفينة بأنها كانت مشتركة بين جماعة، ولكل واحد منهم الشئ اليسير. وأيضا فإنه يجوز أن يكون سماهم مساكين على وجه الرحمة، كما جاء في الحديث: (مساكين أهل النار) وقال الشاعر: مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر وقيل: إنهم كانوا يعملون عليها فأضيفت إليهم (والعاملين عليها) يعني سعاة الزكاة وجباتها (والمؤلفة قلوبهم) وكان هؤلاء قوما من الأشراف في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يعطيهم سهما من الزكاة ليتألفهم به على الإسلام، ويستعين بهم على قتال العدو. ثم اختلف في هذا السهم هل هو ثابت بعد النبي أم لا ؟ فقيل: هو ثابت في كل زمان، عن الشافعي، واختاره الجبائي، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، إلا أنه قال: من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألفهم على ذلك به. وقيل: إن ذلك كان خاصا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سقط بعده، لأن الله سبحانه أعز الإسلام، وقهر الشرك، عن الحسن، والشعبي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. (وفي الرقاب) يعني في فك الرقاب من العتق، وأراد به المكاتبين. وأجاز أصحابنا أن يشترى منه عبد مؤمن، إذا كان في شدة، ويعتق، ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومالك (والغارمين): وهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف يقضى عنهم الديون (وفي سبيل الله): وهو الجهاد بلا خلاف، ويدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين، وهو قول ابن عمر، وعطا، وهو اختيار البلخي، وجعفر بن مبشر، قالوا: يبنى منه المساجد، والقناطر، وغير ذلك (وابن السبيل): وهو المسافر المنقطع به، يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في بلده ذا يسار، وإنما سمي ابن السبيل للزومه الطريق، فنسب إليه كما قال الشاعر: أنا ابن الحرب ربتني وليدا إلى أن شبت واكتهلت لداتي (1) = التبيان (أنا الفقير). والحلوبة: الناقة التي تحلب، ويقال: حلوبة فلان وفق عياله أي: لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه. والسبد: كناية عن القليل. (1) الوليد: المولود حين يولد. ولدات جمع اللدة، الترب: وهو الذي ولد معك، أو تربى معك. (*)
[ 76 ]
وقيل: هو الضيف، عن قتادة (فريضة من الله) أي: مقدرة واجبة قدرها الله وحتمها (والله عليم) بحاجة خلقه (حكيم) فيما فرض عليهم وأوجب من إخراج الصدقات، وغير ذلك. (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61) يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (62) ألم يعلموا أنه ومن يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63). القراءة: قرأ عاصم في رواية الأعمش، والبرجمي، عن أبي بكر: (قل أذن خير لكم) بالضم والتنوين فيهما، وهو قراءة الحسن، وقتادة، وعيسى بن عمر، وغيرهم. وقرأ الباقون: (أذن خير لكم) بالإضافة. وقرأ نافع: (أذن خير) ساكنة الذال في كل القرآن. وقرأ حمزة وحده: (ورحمة للذين آمنوا) بالجر. والباقون: (ورحمة) بالرفع. الحجة: قال أبو علي: أذن في الآية إذا خففت أو ثقلت، فإنه يجوز أن يطلق على الجملة، وإن كانت عبارة عن جارحة منها، كما قال الخليل في الناب من الإبل، انه سميت به لمكان الناب البازل فسميت الجملة كلها به. وقالوا للرئيس: هو عين القوم، وللربيئة (1) هو عينهم، ويجوز فيه شئ آخر، وهو ان الاسم يجري عليه كالوصف لو، لوجود معنى ذلك الاسم فيه كقول جرير: تبدو فتبدي جمالا زانه خفر إذا ترارأت السود العناكيب (2) فأجرى العناكيب وصفا عليهن يريد: أنهن من الحقارة والدمامة كالعناكيب. وقال آخر: (1) الربيئة: الطليعة، وهو الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، والتأنيث باعتبار العين. (2) الخفر: شدة الحيا. (*)
[ 77 ]
فلولا الله، والمهر المفدى، لإبت وأنت غربال الإهاب (1) فجعله غربالا لكثرة الخروق فيه من آثار الطعن، وكذلك قوله: (هو أذن) أجرى على الجملة اسم الجارحة، لما أراد به من كثرة استعماله لها في الإصغاء بها. ويجوز أن يكون فعلا من أذن يأذن أذنا إذا استمع، ومنه قوله تعالى (وأذنت لربها) أي: استمعت، وقوله (ائذن لي) أي: استمع لي. وفي الحديث: (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) فعلى هذا يكون معناه: إنه كثير الاستماع مثل أنف وسجح. قال أبو زيد: رجل أذن إذا كان يصدق بكل ما يسمع. وقوله: (أذن خير لكم) بالإضافة وهو الأكثر في القراءة، فمعناه: إنه أذن خير أي: مستمع خير وصلاح لكم، ومصغ إليه لا مستمع شر وفساد. من قرأ (أذن خير لكم) قال الزجاج: معناه من يستمع منكم فيكون قريبا منكم قابلا للعذر، خير لكم. قال أبو علي: ومن رفع (ورحمة) كان المعنى هو أذن خير لكم، ورحمة، جعله الرحمة لكثرة هذا المعنى فيه، وعلى هذا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ويجوز أن يقدر حذف المضاف من المصدر. وأما الجر في (رحمة) فعلى العطف على (خير) كأنه أذن خير ورحمة. فإن قلت فيكون أذن رحمة ؟ فإن هذا لا يمتنع، لأن الاذن في معنى مستمع في الأقوال الثلاثة التي تقدمت، فكأنه مستمع رحمة، فجاز هذا كما جاز مستمع خير، ألا ترى أن الرحمة من الخير. فإن قلت: فهلا استغنى بشمول الخير للرحمة وغيرها عن تقدير عطف الرحمة عليه ؟ فالقول فيه: إن ذلك لا يمتنع كما لا يمتنع (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ثم خص فقال: (خلق الإنسان) وان كان قوله (خلق) يعم الإنسان وغيره، فكذلك الرحمة إذا كانت من الخير، لم يمتنع ان تعطف فتخصص الرحمة بالذكر من ضروب الخير لغلبة من ذلك في وصفه كثرته، كما خصص الإنسان بالذكر، وان كان الخلق قد عمه وغيره، والبعد بين الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف، ألا ترى أن من قرأ (وقيله يا رب) إنما يحمله على (وعنده علم الساعة) وعلم قيله. اللغة: الفرق بين الأحق والأصلح: إن الأحق قد يكون من غير صفات الفعل، (1) الأوب: الرجوع والإهاب: الجلد. (*)
[ 78 ]
كقولك زيد أحق بالمال. والأصلح: لا يقع هذا الموقع، لأنه من صفات الفعل. وتقول الله أحق بأن يطاع، ولا تقول أصلح. والمحادة: مجاوزة الحد بالمشاقة وهي والمخالفة، والمجانبة، والمعاداة، نظائر، وأصله المنع. والمحادة: ما يعتري الإنسان من النزق، لأنه يمنعه من الواجب. والخزي: الهوان، وما يستحيي منه. الاعراب: أذن خير: خبر مبتدأ محذوف، ومن لم يضف جعل خيرا صفة لأذن، واللام في قوله (يؤمن للمؤمنين) على حد اللام في قوله: (ردف لكم) أو على المعنى، لأن معنى يؤمن: يصدق، فعدى باللام كما عدى مصدقا به في نحو قوله: (مصدقا لما بين يديه) وقيل: إنما دخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق، وإيمان الأمان. قوله: (فأن له نار جهنم) يحتمل أن يكون العامل في أن أحد أمرين: إما أن يكون على تقدير حذف الجار على معنى فلأن له نار جهنم، أو فبأن له نار جهنم، وإما أن يكون أعاد ان الأولى على التكرير للتوكيد، بسبب طول الكلام، عن الزجاج. وأقول: إن هذا على مذهب أبي الحسن، وأبي علي الفارسي، يرتفع قوله: ان له نار جهنم، بظرف مضمر محذوف من هذا الموضع، لطول الكلام، وتقديره فله أن له نار جهنم، والمعنى: فله وجوب نار جهنم. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: فأمره أو وشأنه، أن له نار جهنم. ولا يجوز أن يرتفع بفعل مضمر، لأن الفعل لا يقع بعد الفاء في جواب الشرط، وإنما يدخل الفاء في جواب الشرط، إذا كان مبتدأ، أو خبرا، أو جملة فعلية غير خبرية، نحو قوله: (فقولي إني نذرت) هذا مذهب سيبويه. قال الزجاج: ولو قرئ فإن له بكسر الهمزة على وجه الاستئناف، لكان جائزا، فيكون كقولك فله نار جهنم، غير أنه لم يرأ به أحد. النزول: قيل نزلت في جماعة من المنافقين، منهم الجلاس بن سويد، وشأس بن قيس، ومخشى بن حمير، ورفاعة بن عبد المنذر، وغيرهم، قالوا ما لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغ محمدا ما تقولون، فيوقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول، فإن محمد أذن سامعة، فأنزل الله الآية. وقيل: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن
[ 79 ]
الحرث، وكان رجلا أدلم، أحمر العينين، أسفع الخدين (1)، مشوه الخلقة، وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل. فقال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه، نقول ما شئنا، ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن ينظر إلى الشيطان، فلينظر إلى نبتل بن الحرث، عن محمد بن أسحاق، وغيره. وقوله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) الآية، قيل: إنها نزلت في رهط من المنافقين، تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم، ويعتلون ويحلفون، فنزلت الآية، مقاتل، والكلبي. وقيل: في جلاس بن سويد وغيره من المنافقين، قالوا: لئن كان ما يقول محمد حقا، فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فقال: والله ! إنما يقول محمد حق، وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كذاب، فنزلت الآية، عن قتادة، والسدي. المعنى: ثم رجع سبحانه إلى ذكر المنافقين، فقال: (ومنهم) أي: ومن هؤلاء المنافقين (الذين يؤذون النبي) والأذى قد يكون بالفعل، وقد يكون بالقول، وهو هنا بالقول. (ويقولون هو أذن) معناه: إنه يستمع إلى ما يقال له، ويصغي إليه، ويقبله. (قل) يا محمد (أذن خير لكم) أي: هو أذن خير، يستمع إلى ما هو خير لكم، وهو الوحي. وقيل: معناه هو يسمع الخير، ويعمل به، ومن قرأ (أذن خير لكم) فمعناه: قل كونه أذنا أصلح لكم، لأنه يقبل عذركم، ويستمع إليكم، ولو لم يقبل عذركم لكان شرا لكم، فكيف تعيبونه بما هو خير لكم وأصلح ؟ (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) معناه: إنه لا يضره كونه أذنا، فإنه أذن خير، فلا يقبل إلا الخبر الصادق من الله، ويصدق المؤمنين أيضا فيما يخبرونه، ويقبل منهم دون المنافقين، عن ابن عباس، فإيمانه للمؤمنين تصديقه لهم على هذا القول. وقيل: يؤمن للمؤمنين أي: يؤمنهم فيما يلقي إليهم من الأمان، ولا يؤمن للمنافقين بل يكونون على خوف، وان حلفوا (ورحمة للذين آمنوا منكم) أي: وهو (1) الأسفع: أسود اللون إلى حمرة. (*)
[ 80 ]
رحمة لهم لأنهم إنما نالوا الإيمان بهدايته، ودعائه إياهم. (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) في الآخرة (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) أخبر سبحانه أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله ان الذي بلغكم عنهم باطل، اعتذارا اليكم، وطلبا لمرضاتكم. (والله ورسوله أحق أن يرضوه) أي: والله ورسوله أحق وأولى بأن يطلبوا مرضاتهما (ان كانوا مؤمنين) مصدقين بالله، مقرين بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وتقديره: والله أحق أن يرضوه، ورسوله احق أن يرضوه، فحذف للتخفيف، ولدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر: نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض. ثم قال سبحانه على وجه التقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين: (ألم يعلموا) أي: وما يعلموا (أنه من يحادد الله ورسوله) أي: من تجاوز حدود الله التي أمر المكلفين ألا يتجاوزوها، وإنما قال: (ألم يعلموا) لمن لا يعلم على وجه الاستبطاء لهم، والتخلف عن عمله أي: هلا علموا بعد أن مكنوا من عمله. وقيل: هو أمر بالعلم أي يجب أن يعلموا بهذا الخبر، وبالدلائل. وقيل: معناه ألم يخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، عن الجبائي (فأن له نار جهنم خالدا فيها) أي: دائما (ذلك الخزي) أي: الهوان والذل (العظيم). (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون (64) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66). القراءة: قرأ عاصم: (أن نعف ونعذب) فيهما بالنون: (طائفة) بالنصب. وقرأ الباقون: (أن يعف) بالياء وضمها وفتح الفاء (تعذب) بالتاء وضمها (طائفة) بالرفع.
[ 81 ]
الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (ان نعف) قوله (ثم عفونا عنكم)، ومن قرأ: (أن يعف) فالمعنى معنى نعف. وأما (تعذب) بالتاء فلأن الفعل في اللفظ مسند إلى مؤنث ظاهر. اللغة: الحذر: إعداد ما ينفي الضرر، ورجل حذر، متيقظ متحرز، ورجل حذريان: كثير الحذر، شديد الفزع. والمنافق: الذي يظهر من الإيمان خلاف ما يبطنه من الكفر، مشتق من نافقاء اليربوع، لأنه يخفي بابا، ويظهر بابا، ليكون إذا أتي من أحدهما، خرج من الآخر. والخوض: دخول القدم فيما كان مائعا من الماء والطين، ثم كثر حتى استعمل في غيره. واللعب: فعل ما فيه سقوط المنزلة لتعجل اللذة، كفعل الصبي، ولذلك قالوا: ملاعب الأسنة أي إنه لشجاعته يقدم على الأسنة كفعل الصبي الذي لا يفكر في عاقبة أمره. والإعتذار: إظهار ما يقتضي العذر. والإجرام: الإنقطاع عن الحق إلى الباطل، يقال جرم الثمر: إذا صرمه، وتجرمت السنة تصرمت. النزول: قيل: نزلت في إثني عشر رجلا، وقفوا على العقبة، ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وأمره أن يرسل إليهم، ويضرب وجوه رواحلهم، وعمار كان يقود دابة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم وحذيفة يسوقها، فقال لحذيفة: إضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم. فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم ؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم. فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، عن ابن كيسان. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام مثله إلا أنه قال: أئتمروا بينهم ليقتلوه، وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول إنا كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن نقتله. وقيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات ! فأطلع الله نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فقال: إحبسوا علي الركب. فدعاهم، فقال لهم: قلتم كذا وكذا ؟ فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، وحلفوا على ذلك، فنزلت الآية: (ولئن سألتم ليقولن) (الخ)، عن الحسن، وقتادة. وقيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة، وكان بين يديه أربعة
[ 82 ]
نفر، أو ثلاثة، يستهزؤون ويضحكون، وأحدهم يضحك ولا يتكلم، فنزل جبريل، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فدعا عمار بن ياسر، وقال: إن هؤلاء يستهزؤون بى و بالقرآن، أخبرني جبرائيل بذلك، ولئن سألتهم ليقولن كنا نتحدث بحديث الركب. فاتبعهم عمار، وقال لهم: مم تضحكون ؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب. فقال عمار: صدق الله ورسوله، احترقتم أحرقكم الله. فأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون، فأنزل الله تعالى الآيات، عن لكلبي، وعلي بن إبراهيم، وأبي حمزة. وقيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت اكذب لسانا، ولا أجبن عند اللقاء من هؤلاء - يعني رسول الله وأصحابه - فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق. وأراد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فجاء وقد سبقه الوحي. فجاء الرجل معتذرا، وقال: إنما كنا نخوض ونلعب، ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر، وزيد بن أسلم، ومحمد بن كعب. وقيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد ان ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يدريه ما الغيب ! فنزلت الآية، عن مجاهد. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي، ورهطه، عن الضحاك. المعنى: ثم أخبر سبحانه عنهم فقال (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) فيه قولان أحدهما: إنه إخبار بأنهم يخافون أن يفشوا سرائرهم، ويحذرون ذلك، عن الحسن، ومجاهد، والجبائي، وأكثر المفسرين. والمعنى: إنهم يحذرون من أن ينزل الله عليهم أي: على النبي والمؤمنين، سورة تخبر عما في قلوبهم من النفاق والشرك. وقد قيل: ان ذلك الحذر إنما أظهره على وجه الاستهزاء، لا على سبيل التصديق، لأنهم حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينطق في كل شئ، عن الوحي، قال بعضهم لبعض: إحذروا ألا ينزل وحي فيكم، يتناجون بذلك، ويضحكون، عن أبي مسلم. وقيل: إنهم كانوا يخافون أن يكون عليه السلام، صادقا، فينزل عليه الوحي، فيفتضحون، عن الجبائي. وقيل: إنهم كانوا يقولون القول فيما بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، عن مجاهد. والثاني: إن هذا اللفظ لفظه الخبر، ومعناه الأمر، فهو كقولك: ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تخبرهم بما في قلوبهم من النفاق، وحسن ذلك لأن موضع الكلام على التهديد (قل استهزءوا) معناه: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين: استهزءوا أي: اطلبوا الهزء، وهو وعيد بلفظ الأمر (إن الله مخرج ما تحذرون) أي: مظهر ما
[ 83 ]
تحذرون من ظهوره. والمعنى: إن الله يبين لنبيه باطن حالكم، ونفاقكم (ولئن سألتهم) عن طعنهم في الدين، واستهزائهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالمسلمين (ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) واللام للتأكيد والقسم، ومعناه لقالوا كنا نخوض خوض الركب في الطريق، لا على طريق الجد، ولكن على طريق اللعب واللهو، فكان عذرهم أشد من جرمهم. (قل) يا محمد (أبالله وآياته) أي: حججه، وبيناته، وكتابه (ورسوله) محمد صلى الله عليه وآله وسلم (كنتم تستهزئون) ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهؤلاء المنافقين (لا تعتذروا) بالمعاذير الكاذبة (قد كفرتم بعد إيمانكم) أي: فإنكم بما فعلتموه قد كفرتم بعد أن كنتم مظهرين الإيمان الذي يحكم لمن أظهره بأنه مؤمن، ولا يجوز أن يكونوا مؤمنين على الحقيقة، مستحقين للثواب، ثم يرتدون على ما تقرر بالدليل. وذكر في غير هذا الموضع، أن المؤمن لا يجوز أن يكفر. (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) أي: كافرين مصرين على النفاق. هذا إخبار منه سبحانه، انه إن عفا عن قوم منهم إذا تابوا، يعذب طائفة أخرى لم يتوبوا، وأقاموا على النفاق. والطائفة: اسم للجماعة على الحقيقة، لأنه اسم لما يطيف بغيره، ويحيط به، وقد سمي الواحد طائفة على معنى أنها نفس طائفة، وقد ورد القرآن بذلك في قوله (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فقد ورد في الآثار عن أئمتنا عليهم السلام: إن أقل من يحذر عذابهما واحد من المؤمنين فصاعدا. وروي أن هاتين الطائفتين كانوا ثلالة نفر، فهذا اثنان وضحك واحد، وهو الذي تاب من نفاقه، واسمه مخشى بن حمير، فعفا الله عنه. (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أمولا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من
[ 84 ]
قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولائك حبطت أعمالهم في الدينا والأخرة وأولائك هم الخاسرون (69) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70) اللغة: الإستمتاع: طلب المتعة، وهي فعل ما فيه اللذة من المأكل، والمشرب، والمناكح. والخلاف: النصيب. سواء كان عاجلا أو آجلا. وقال الزجاج: النصيب الذي هو عند صاحبه وافر الحظ. والمؤتفكات. جمع مؤتفكة قد ائتفكت بهم الأرض أي: انقلبت. الاعراب: موضع الكاف من قوله (كالذين من قبلكم) نصب أي: وعدكم الله على الكفر به، كما وعد الذين من قبلكم. والكاف في قوله (كما استمتع) و (كالذي خاضوا): نصب بأنه صفة لمصدر محذوف، وتقديره استمتعتم استمتاعا، مثل استمتاعهم، وخضتم خوضا مثل خوضهم، قال جامع العلوم النحوي البصير: كالذي خاضوا تقديره على قياس قول سيبويه كالذي خاضوا فيه، فحذف في، فصار كالذي خاضوا، ثم حذف الهاء، وهو على قول يونس والأخفش: الذي مصدري، والتقدير كالخوض الذي خاضوا فيه، ومثل هذا اختلافهم في قوله (ذلك الذي يبشر الله عباده) على قول سيبويه تقديره: يبشر الله به على قول يونس والأخفش ذلك تبشير الله عباده. المعنى: ثم ذكر سبحانه أحوال أهل النفاق، فقال: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) أي: بعضهم من جملة بعض، وبعضهم مضاف إلى بعض في الإجتماع على النفاق والشرك، كما تقول أنا من فلان وفلان مني، أي: أمرنا واحد، وكلمتنا واحدة. وقيل: معناه بعضهم على دين بعض، عن الكلبي. وقيل: بعضهم من بعض على لحوق مقت الله بهم جميعا، عن أبي مسلم (يأمرون بالمنكر) أي: بالشرك والمعاصي (وينهون عن المعروف) أي: عن الأفعال
[ 85 ]
الحسنة التي أمر الله بها، وحث عليها (ويقبضون أيديهم) أي: يمسكون أموالهم عن إنفاقها في طاعة الله ومرضاته، عن الحسن، وقتادة، وقيل: معناه يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله، عن الجبائي (نسوا الله فنسيهم) أي: تركوا طاعته فتركهم في النار، وترك رحمتهم وإثابتهم، عن الأصم. وقيل: معناه جعلوا الله كالمنسي، حيث لم يتفكروا في أن لهم صانعا يثيبهم، ويعاقبهم، ليمنعهم ذلك عن الكفر والأفعال القبيحة، فجعلهم سبحانه في حكم المنسي عن الثواب، وذكر ذلك لازدواج الكلام، لأن النسيان لا يجوز عليه تعالى. (إن المنافقين هم الفاسقون) أي: الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله، وعن طاعته. وقيل: الفاسقون: المترددون في الشرك (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) أخبر سبحانه أنه وعد الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، النار، وكذلك الكفار، وإنما فصل النفاق من الكفر، وإن كان النفاق كفرا، ليبين الوعيد على كل واحد من الصنفين. (خالدين فيها) أي: دائمين فيها (هي حسبهم) معناه. نار جهنم، والعقاب فيها كفاية ذنوبهم، كما يقول عذبتك حسب ما فعلت، وحسب فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله (ولعنهم الله) أي: أبعدهم من جنته وخيره (ولهم عذاب مقيم) أي: دائم لا يزول. (كالذين من قبلكم) أي: وعدكم على النفاق والإستهزاء، كما وعد الذين من قبلكم من الكفار الذين فعلوا مثل فعلكم، عن الزجاج، والجبائي. وقيل: معناه فعلكم كفعل الذين من قبلكم من كفار الأمم الخالية (كانوا أشد منكم قوة) في أبدانهم (وأكثر أموالا وأولادا) فلم ينفعهم ذلك شيئا، وحل بهم عذاب الله تعالى (فاستمتعوا بخلاقهم) أي: بنصيبهم وحظهم من الدنيا، بأن صرفوها في شهواتهم المحرمة عليهم، وفيما نهاهم الله عنه، ثم اهلكوا (فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) أي: فاستمتعتم أنتم أيضا بحظكم في الدنيا، كما استمتعوا هم (وخضتم كالذي خاضوا) أي وخضتم في الكفر والاستهزاء بالمؤمنين، كما خاض الأولون. (أولئك الذين حبطت أعمالهم) التي تقع طاعة من المؤمنين مثل الإنفاق في وجوه الخير، وصلة الرحم، وغيرها (في الدنيا والآخرة) إذ لم يستحقوا عليها ثوابا في الآخرة، ولا تعظيما وتبجيلا في الدنيا، لكفرهم، وشركهم (وأولئك هم
[ 86 ]
الخاسررن) خسروا أنفسهم وأهلكوها بفعل المعاصي المؤدية إلى الهلاك. ووردت الرواية، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة كالذين من قبلكم، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده ! لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه. وروي مثل ذلك عن أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم، ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب، لدخلتموه ! قالوا: يا رسول الله ! كما صنعت فارس، والروم، وأهل الكتاب ؟ قال: فهل الناس إلا هم ؟ وقال عبد الله بن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل، سمتا وهديا (1)، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة (2)، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا. وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم، شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قلنا: وكيف ؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه. أورد ذلك جميعا الثعلبي في تفسيره. ثم قال سبحانه (ألم يأتهم) أي: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين وصفهم (نبأ الذين من قبلهم) أي: خبر من كان قبلهم (قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين): ذكر سبحانه الأمم الماضية، والقرون السالفة، وانه سبحانه أهلكها، ودمر عليها، لتكذيبها رسلها، لئلا يأمنوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، فأهلك سبحانه قوم نوح بالغرق، وعادا قوم هود بالريح الصرصر، وثمود قوم صالح بالرجفة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة، وهلاك نمرود، وأصحاب مدين وهي البلدة التي فيها قوم شعيب بعذاب يوم الظلة. وقيل: ان مدين اسم نسبت البلد إليه وقد مر ذكره. (والمؤتفكات) أي: المنقلبات، وهي ثلاث قرى، كان فيها قوم لوط، ولذلك جمعها بالألف والتاء، عن الحسن، وقتادة. وقال في موضع آخر. (والمؤتفكة أهوى) فجاء بها على طريق الجنس، أهلكهم الله بالخسف، وقلب المدينة عليهم (أتتهم رسلهم بالبينات) أي: بالحجج والمعجزات (فما كان الله (1) السمت: الهيئة. والهدي: السيرة والطريقة. (2) القذة: ربش السهم. قال ابن الأثير في معنى الحديث: يضرب مثلا للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان. (*)
[ 87 ]
ليظلمهم) أي: ما يظلمهم الله بإهلاكهم، (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي: ولكن عاقبهم باستحقاق إذ كذبوا رسل الله كما فعلتم، فأهلكهم بكفرهم وعصيانهم. (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72) يا أيها النتى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (73). اللغة: العدن، والإقامة، والخلود، نظائر، ومنه المعدن، وقال الأعشى: فإن يستضيفوا إلى حكمه يضافوا إلى راجح قد عدن (1) والرضوان: مصدر رضي يرضى رضى ورضوانا. والجهاد: ممارسة الأمر الشاق وأصله من الجهد. المعنى: لما ذكر الله تعالى المنافقين، ووصفهم بقبيح خصالهم. اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين، ويصفهم بضد أوصافهم، ليتصل الكلام بما قبله إتصال النقيض بالنقيض، فقال: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم أنصار بعض، يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته، حتى أن المرأة تهئ أسباب السفر لزوجها إذا خرج. وتحفظ غيبة زوجها، وهم يد واحدة على من سواهم (يأمرون بالمعروف) وهو ما أوجب الله فعله، أو رغب فيه عقلا أو شرعا (وينهون عن المنكر) وهو ما نهى الله عن فعله، وزهد فيه، عقلا أو شرعا. (ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) أي: يداومون على فعل الصلاة، وإخراج الزكاة من أموالهم، ووضعها حيث أمر الله تعالى بوضعها فيه، (1) وفي اللسان: يضافوا إلى عادل قد وزن، واستضاف إلى فلان: لجأ إليه، وأضاف إليه: مال ودنا. (*)
[ 88 ]
ويمتثلون طاعة الله ورسوله، ويتبعون إراداتهما ورضاهما (أولئك سيرحمهم الله) أي: الذين هذه صفتهم يرحمهم الله في الآخرة (إن الله عزيز حكيم) أي: قادر على الرحمة والعذاب، واضع كل واحد منهما موضعه. وفي الآية دلالة على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من فروض الأعيان، لأنه جعلهما من صفات جميع المؤمنين، ولم يخص قوما منهم دون قوم (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) أي: من تحت أشجارها الأنهار، والماء فيها (خالدين فيها ومساكن طيبة) يطيب العيش فيها، بناها الله تعالى من اللآلئ، والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، لا أذى فيها، ولا وصب (1)، ولا نصب، عن الحسن (في جنات عدن) أي: في جنات إقامة وخلد. وقيل: هي بطنان الجنة، أي: وسطها، عن ابن مسعود. وقيل: هي مدينة في الجنة، وفيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم، والجنان حولها، عن الضحاك. وقيل: إن عدنا أعلى درجة في الجنة. وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله، عز وجل، حتى ينزلها أهلها الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، ومن شاء الله. وفيها قصور الدر، واليواقيت، والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش، فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض، عن مقاتل، والكلبي. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: عدن دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غيرثلالة: النبيين، والصديقين، والشهداء، يقول الله، عز وجل: طوبى لمن دخلك (ورضوان من الله أكبر) رفع على الإبتداء، أي: ورضا الله تعالى عنهم أكبر من ذلك كله. قال الجبائي: إنما صار الرضوان أكبر من الثواب، لأنه لا يوجد شئ منه إلا بالرضوان، وهو الداعي إليه، الموجب له. وقال الحسن: لأن ما يصل إلى القلب من السرور برضوان الله، أكبر من جميع ذلك، وإنما رفع رضوان لأنه استأنفه للتعظيم، كما يقول القائل أعطيتك ووصلتك، ثم يقول وحسن رأيي فيك، ورضاي عنك، خير من جميع ذلك. (ذلك هو الفوز العظيم) أي: ذلك النعيم الذي وصفت، هو النجاح العظيم الذي لا شئ أعظم منه. ثم أمر سبحانه بالجهاد، فقال: (يا أيها الني جاهد (1) الوصب: المرض، والتعب، والوجع الدائم. (*)
[ 89 ]
الكفار) بالسيف، والقتال (والمنافقين): واختلفوا في كيفية جهاد المنافقين فقيل: إن جهادهم باللسان، والوعظ، والتخويف. عن الجبائي. وقيل: جهادهم بإقامة الحدود عليهم، وكان نصيبهم من الحدود أكثر. وقيل: هو بالأنواع الثلاثة بحسب الإمكان، يريد باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم (1)، عن ابن مسعود. وروي في قراءة أهل البيت: جاهد الكفار بالمنافقين، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقاتل المنافقين، وإنما كان يتألفهم، لأن المنافقين لا يظهرون الكفر، وعلم الله تعالى بكفرهم لا يبيح قتلهم، إذا كانوا يظهرون الإيمان (وأغلظ عليهم) ومعناه: وأسمعهم الكلام الغليظ الشديد، ولا ترق عليهم (ومأواهم جهنم) أي: منزلهم، ومقامهم، ومسكنهم، جهنم، يريد مأوى الفريقين (وبئس المصير) أي: بئس المرجع والمأوى. (ويحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلآ أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والأخرة وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير (74). اللغة: الهم: مقارنة الفعل بتقليبه في النفس، تقول: هم بالشئ، يهم، هما، وليس الهم من العزم في شئ، إلا أن يبلغ نهاية القوة في النفس. والنيل: لحوق الأمر، يقال: نال ما اشتهى، أو تمنى، أي: أدركه. ونقم منه شيئا أي: أنكر، قال: ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا والفضل: الزيادة في الخير على مقدار ما. وأما التفضل: فهو الزيادة من الخير الذي كان للقادر عليه أن يفعله، وأن لا يفعله. (1) اكفهر: عبس. (*)
[ 90 ]
النزول: اختلف في من نزلت فيه هذه الآية، فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في ظل شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني الشيطان. فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا. فأنزل الله هذه الآية، عن ابن عباس. وقيل: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض، سبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدين. فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ فحلفوا بالله ما قالوا شيئا من ذلك، عن الضحاك. وقيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب ذات يوم بتبوك، وذكر المنافقين فسماهم رجسا، وعابهم، فقال الجلاس: والله لئن كان محمد صادقا فيما يقول، فنحن شر من الحمير ! فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله ! إن محمدا لصادق، وأنتم شر من الحمير ! فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، أتاه عامر بن قيس، فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله. فأمرهما رسول الله أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس عند المنبر، فحلف بالله ما قال، ثم قام عامر، فحلف بالله لقد قاله. ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون: آمين. فنزل جبرائيل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) فقام الجلاس، فقال: يارسول الله ! أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قال لك، لقد قلته، وأنا أستغفر الله، وأتوب إليه. فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه، عن الكلبي، ومحمد بن اسحاق، ومجاهد. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، عن قتادة. وقيل: نزلت في أهل العقبة، فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عقبة عند مرجعهم من تبوك، وأرادوا أن يقطعوا انساع راحلته (1)، ثم ينخسوا به، فأطلعه الله تعالى على ذلك، وكان من (1) الانساع جمع النسع: حبل طويل تشد به الرحال. (*)
[ 91 ]
جملة معجزاته، لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك، إلا بوحي من الله تعالى. فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في العقبة، وعمار وحذيفة معه، أحدهما يقود ناقته، والآخر يسوقها، وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي. وكان الذي هموا بقتله اثني عشر رجلا، أو خمسة عشر رجلا، على الخلاف فيه عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسماهم بأسمائهم، واحدا واحدا، عن الزجاج، والواقدي، والكلبي. والقصة مشروحة في كتاب الواقدي. وقال الباقر عليه السلام: كانت ثمانية منهم من قريش، وأربعة من العرب. المعنى: ثم أظهر سبحانه أسرار المنافقين، فقال: (يحلفون بالله ما قالوا) يعني: أنهم حلفوا كاذبين ما قالوا ما حكي عنهم. ثم حقق عليهم ذلك وأقسم سبحانه بأنهم قالوا ذلك، لأن اللام في (ولقد قالوا) لام القسم و (كلمة الكفر) كل كلمة فيها جحد لنعم الله تعالى، وكانوا يطعنون في الإسلام (وكفروا بعد إسلامهم) أي: بعد إظهار إسلامهم، يعني ظهر كفرهم بعد أن كان باطنا. (وهموا بما لم ينالوا) قيل: فيه ثلاثة أقوال أحدها: إنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة، والتنفير بناقته، عن الكلبي، ومجاهد، وغيرهما وثانيها: إنهم هموا بإخراج الرسول من المدينة، فلم يبلغوا ذلك، عن قتادة، والسدي وثالثها: إنهم هموا بالفساد والتضريب بين أصحابه، ولم ينالوا ذلك، عن الجبائي (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) معناه: إنهم عملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النعمة أن نقموها، وبيانه أنهم نقموا فيما ليس بموضع للنقمة، فإنه لم يكن للمسلمين ذنب ينقمونه منهم، بل الله تعالى أباح لهم الغنائم، وأغناهم بذلك، فقابلوا النعمة بالكفران، وكان من حقهم أن يقابلوها بالشكر. وقد مر هذا المعنى عند قوله (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) الآية في سورة المائدة، وإنما لم يقل من فضلهما، لأنه لا يجمع بين اسم الله واسم غيره في الكناية، تعظيما لله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سمعه يقول: (من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى): بئس خطيب القوم أنت ! فقال كيف أقول يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال قل: (ومن يعص الله ورسوله) وهكذا القول في قوله سبحانه (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وقيل إنما لم يقل: من فضلهما، لأن فضل الله سبحانه منه، وفضل رسول الله من فضل الله (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) أي: فإن يتب هؤلاء المنافقون،
[ 92 ]
ويرجعوا إلى الحق، يكن ذلك خيرا لهم في الدنيا والآخرة، فإنهم ينالون بذلك رضا الله ورسوله والجنة، (وإن يتولوا) أي: يعرضوا عن الرجوع إلى الحق، وسلوك الطريق المستقيم (يعذبهم الله عذابا أليما) مؤلما (في الدنيا) بما ينالهم من الحسرة، والغم، وسوء الذكر (و) في (الآخرة) بعذاب النار (وما لهم في الأرض) أي ليس لهم في الأرض (من ولي) أي: محب (ولا نصير) ينصرهم، ويدفع عنهم عذاب الله. (* ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلمآ ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78). اللغة: المعاهدة: هي أن تقول: علي عهد الله لأفعلن كذا، فإنه يكون بذلك قد عقد على نفسه وجوب ما ذكره، لأن الله تعالى قد حكم بذلك وقدر وجوب عليه في الشرع. والبخل: منع السائل لشدة الإعطاء، ثم صار في الشرع لمنع الواجب، لأن من منع الزكاة فهو بخيل. قال الرماني: لا يجوز أن يكون البخل منع الواجب لمشقة الإعطاء، كما قال زهير: إن البخيل ملوم حيث كان ول * كن الجواد على علاته هرم (1) قال: لأنه يلزم على ذلك أن يكون الجود هو بذل الواجب من غير مشقة، الإعطاء، وكان من قضى دينا عليه يكون جوادا، لأنه أدى الواجب من غير مشقة، وإنما قال زهير ما قاله، لأن البخل صفة نقص. قال: ومن منع ما لا يضره بذله، ولا ينفعه منعه، مما تدعو إليه الحكمة، فهو بخيل، لأنه لا يقع المنع على هذه الصفة، إلا لشدة في النفس، وإن لم يرجع إلى ضر إذ الشدة من غير ضر معقولة كما (1) قوله علاته أي: على كل حال. وهرم: صاحب زهير، وهو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري، من بني هرة بن عوف. (*)
[ 93 ]
يصفون الجورة بأنها لئيمة لأجل الشدة. وأعقبه، وأورثه، وأداه، نظائر، وقد يكون أعقبه بمعنى جازاه، قال النابغة: فمن أطاع فأعقبة بطاعته كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم، ولا تقعد على ضمد (1) والنجوى: الكلام الخفي، يقال: ناجيته، وتناجوا، وانتجوا، وفلان نجي فلان، والجمع أنجية، قال: إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية (2) وأصله من النجوى: وهو البعد، كأن المتناجين قد تباعدا من غيرهما. وقيل: هو من النجوة: أي المكان المرتفع الذي لا يصل إليه السيل، فكأنهما رجعا حديثهما إلى حيث لا يصل إليه غيرهما. الاعراب. معنى (لما) معنى إذا، لأن (لما) الغالب عليها الجزاء، وهي اسم يقع في جواب متى، يقال: متى كان كذا ؟ فيقول السامع: لما كان كذا، ولما ولولا يكونان لما مضى، بخلاف إن وإذا، فإنهما لما يستقبل، الا أن لولا على تقدير نفي وجوب الثاني لانتفاء الأول، ولما يدل على وقوع الثاني لوقوع الأول. (فلما آتاهم من فضله) المفعول الثاني محذوف، تقديره فلما آتاهم ما تمنوه من فضله، (لنصدقن) أصله: لنتصدقن، أدغمت التاء في الصاد. النزول: قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الأنصار، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أدع الله أن يرزقني مالا. فقال: يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه، أما لك في رسول الله أسوة حسنة ؟ والذي نفسي بيده ! لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة، لسارت، ثم أتاه بعد ذلك فقال: يارسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. قال: فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، (1) الظلوم: الظالم، والضمد: الحقد أي: عاقبه بمقدار يتنبه منه، لا بمقدار شفاء الغيظ، والحقد. (2) قائله سحيم بن وثيل اليربوعي. والأرشية جمع الرشاء: الحبل عموما، أو حبل الدلو، وخبر إن في بيت بعده، وهو قوله (هناك أوصيني ولا تومي بيه). (*)
[ 94 ]
فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها، ثم كثرت نموا حتى تباعد عن المدينة، فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه المصدق ليأخذ الصدقة، فأبى وبخل وقال: ما هذه إلا أخت الجزية ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! وأنزل الله الآيات، عن أبي أمامة الباهلي وروى ذلك مرفوعا. وقيل: إن ثعلبة أتى مجلسا من الأنصار، فأشهدهم فقال: لئن أتاني الله من فضله تصدقت منه، وآتيت كل ذي حق حقه، ووصلت منه القرابة. فإبتلاه الله، فمات ابن عم له، فورثه مالا، ولم يف بما قال. فنزلت، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. وقيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف، قالا: لئن رزقنا الله مالا، لنصدقن. فلما رزقهما الله المال، بخلا به، عن الحسن، ومجاهد. وقيل: نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، عن الضحاك. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام، فأبطأ عليه، وجهد لذلك جهدا شديدا، فحلف لئن آتاه الله ذلك المال، ليصدقن. فآتاه الله تعالى ذلك، فلم يفعل، عن الكلبي. المعنى: ثم أخبر سبحانه عنهم، فقال: (ومنهم) أي: من جملة المنافقين الذين تقدم ذكرهم (من عاهد الله لئن آتانا من فضله) أي: لئن أعطانا من رزقه (لنصدقن) أي: لنتصدقن على الفقراء (ولنكونن من الصالحين) بإنفاقه في طاعة الله، وصلة الرحم، ومؤاساة أهل الحاجة (فلما آتاهم من فضله) أي أعطاهم ما اقترحوه، ورزقهم ما تمنوه من الأموال (بخلوا به) أي: شحت نفوسهم عن الوفاء بالعهد، ومنعوا حق الله منه (وتولوا) عن فعل ما أمرهم الله به (وهم معرضعون) عن دين الله تعالى. (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم) أي: فأورثهم بخلهم بما أوجبوا الله تعالى على أنفسهم النفاق في قلوبهم، وأداهم إلى ذلك، عن الحسن، كأنهم حصلوا على النفاق بسبب البخل، وهذا كمن يقول لابنه أعقبك صحبة فلان ترك التعلم. وقيل: معناه أعقبهم الله بذلك حرمان التوبة، كما حرم إبليس، عن مجاهد. وأراد بذلك أنه
[ 95 ]
دلنا على أنه لا يتوب، كما دلنا من حال إبليس على أنه لا يتوب، لأنه سلب عنه قدرة التوبة (إلى يوم يلقونه) أي: يلقون جزاء البخل. فذكر البخل وأراد به جزاءه كقوله سبحانه (أعمالهم كرماد اشتدت به الريح) وعلى القول الثاني فمعناه: إلى يوم يلقون الله أي: اليوم الذي لا يملك فيه النفع والضر، الا الله تعالى. وهذا اخبار من الله تعالى عن هؤلاء المنافقين، أنهم يموتون على النفاق، وكان ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خرج مخبره على وفق خبره (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) بين سبحانه أن هذا إنما أصابهم بفعلهم السئ، وهو إخلافهم الوعد، وكذبهم (ألم يعلموا) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون (أن الله يعلم سرهم) أي ما يخفون في أنفسهم (ونجواهم) ما يتناجون به بينهم. وهذا استفهام يراد به التوبيخ. المعنى: إنه يجب عليهم أن يعلموا ذلك (وأن الله علام الغيوب) جمع غيب: وهو كل ما غاب عن الأجسام. ومعناه يعلم كل ما غاب عن العباد، وعن إدراكهم، من موجود، أو معدوم، من كل وجه يصح أن يعلم منه، لأن علام صيغة مبالغة وفي قوله (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم) الآية، دلالة على أن بعض المعاصي قد يدعو إلى بعض بأنهم لما تهاونوا بأداء هذا الحق، دعاهم ذلك إلى الثبات على النفاق إلى الممات، وكذلك يدعو بعض الطاعات إلى بعض، وعلى ذلك ترتيب الشرائع، وفيه دلالة على أن الإخلاف، والخيانة، والكذب، من أخلاق أهل النفاق وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (للمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان). (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم (79) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدى القوم الفاسقين (80). اللغة: المطوع: أصله المتطوع، أدغمت التاء في الطاء، لأنها من مخرجها، والطاء أفضل منها، بالإستعلاء والإطباق. والتطوع، كل فعل يستحق المدح بفعله، ولا يستحق الذم بتركه، ونظيره النافلة، والفضيلة، والجهد، والجهد، بمعنى،
[ 96 ]
وهو الحمل على النفس بما يشق. وقيل: بينهما فرق والجهد بالفتح في العمل، وبالضم في القوت، عن الشعبي. وقيل الجهد بالفتح: المشقة، وبالضم الطاعة، عن القتيبي. الاعراب: يجوز أن يكون موضع (الذين يلمزون) جرا بأن يكون بدلا من الهاء والميم في قوله: (ومنهم من عاهد الله) ويحتمل أن يكون رفعا على الابتداء، وخبره (سخر الله منهم)، وهذا أولى، وقوله: (في الصدقات) من صلة (يلمزون)، ولا يكون من صلة (المطوعين) لأنه فضل بينهما. قوله: (من المؤمنين) (والذين لا يجدون) عطف على (الذين يلمزون). المعنى: ثم وصفهم الله بصفة أخرى، فقال: (الذين يلمزون) أي: يعيبون (المطوعين) المتطوعين بالصدقة (من المؤمنين)، ويطعنون عليهم (في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) أي: ويعيبون الذين لا يجدون إلا طاقتهم، فيتصدقون بالقليل. قيل: اتاه عبد الرحمن بن عوف بصرة من دراهم تملأ الكف، وأتاه عقبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر، وقال: يا رسول الله ! عملت في النخل بصاعين، فصاعا تركته لأهلي، وصاعا اقرضته ربي. وجاء زيد بن أسلم بصدقة، فقال معتب بن قشير، وعبد الله بن نبتل: إن عبد الرحمن رجل يحب الريا ويبتغي الذكر بذلك، وان الله غني عن الصاع من التمر، فعابوا المكثر بالريا، والمقل بالإقلال. (فيسخرون منهم) أي: فيستهزؤون منهم (سخر الله منهم) أي: جازاهم جزاء سخريتهم حيث صاروا إلى النار (ولهم عذاب أليم) أي: موجع مؤلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل فقيل: يا رسول الله ! أي الصدقة أفضل ؟ قال جهد المقل (1) (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) صيغته صيغة الأمر، والمراد به المبالغة في الأياس من المغفرة، بأنه لو طلبها طلب المأمور بها، أو تركها ترك المنهي عنها، لكان ذلك سواء في أن الله تعالى لا يفعلها، كما قال سبحانه في موضع آخر: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم). (ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) الوجه في تعليق الاستغفار (1) أي قدر ما يحتمله حال القليل المال. قاله الجزري في (النهاية). (*)
[ 97 ]
بسبعين مرة، المبالغة لا العدد المخصوص، ويجري ذلك مجرى قول القائل: (لو قلت لي ألف مرة ما قبلت) والمراد أني لا أقبل منك، فكذلك الآية. والمراد بذلك فيها نفي الغفران جملة. وقيل: ان العرب تبالغ بالسبعة والسبعين، ولهذا قيل للأسد السبع، لأنهم تأولوا فيه لقوته أنها ضوعفت له سبع مرات. وأما ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: والله لأزيدن عن السبعين، فإنه خبر واحد لا يعول عليه، ولا يتضمن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر للكفار، وذلك غير جائز بالاجماع. وقد روي أنه قال: لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرة غفر لهم لفعلت. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو أن يكون لهم لطف يصلحون به، فعزم على الاستغفار لهم. فلما بين الله عز اسمه أنه ليس لهم لطف ترك ذلك ويحتمل أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يعلم بكفرهم ونفاقهم. ويحتمل أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يخبر بأن الكافر لا يغفر له، أو قبل أن يمنع منه، ويجوز أن يكون استغفاره لهم واقعا بشرط التوبة من الكفر، فمنعه الله منه، وأخبره بأنهم لا يؤمنون أبدا، فلا فائدة في الإستغفار لهم، والله أعلم بحقيقة الأمر (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) معناه: إن حرمان المغفرة لهم بكفرهم بالله ورسوله (والله لا يهدي القوم الفاسقين) مر معناه. (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون (82) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83). اللغة: المخلف: المتروك خلف من مضى، ومثله المؤخر عمن مضى. والفرح: ضد الغم، وهو لذة في القلب بنيل المشتهى، ومثله السرور. وقال البصريون من المعتزلة: إن السرور والغم يرجعان إلى الإعتقاد، فالسرور: اعتقاد
[ 98 ]
وصول منفعة إليه في المستقبل، أو دفع ضرر مظنون عنه، أو معلوم، والغم: اعتقاد وصول ضرر إليه في المستقبل، أو فوت منفعة عنه، وإليه ذهب المرتضى، قدس الله روحه. والخلاف: مصدر خالفته مخالفة، وخلافا. وزعم أبو عبيدة أن معناه بعد، وانشد: عقب الربيع خلافهم، فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا والشواطب: النساء يقددن الأديم بعد ما يقدرنه. والخالف: كل من تأخر عن الشاخص. والمتخلف بمعناه. والضحك: حال تفتح وانبساط يظهر في وجه الإنسان عن تعجب مع فرح. والبكاء: حال تقبض يظهر عن غم في الوجه مع جري الدموع على الخد. الاعراب: (خلاف) نصب على المصدر بمعنى المفعول له إذا جعلته بمعنى المخالفة، وإذا جعلته بمعنى خلف، فهو نصب على الظرف (فليضحكوا): إنما سكنت لام الأمر، ولم تسكن لام الإضافة، لأنها تؤذن بعملها للجر المناسب لها، فلذلك الزمت الحركة، مع أن العوامل في الأسماء، أقوى من العوامل في الأفعال. (جزاء) نصب على المصدر أي: يجزون جزاء على أفعالهم التي اكتسبوها. المعنى: ثم أخبر سبحانه أن جماعة من المنافقين الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخرجهم معه إلى تبوك (1)، استأذنوه في التأخر، فأذن لهم، فرحوا بقعودهم، فقال: (فرح المخلفون بمقعدهم) أي: بقعودهم عن الجهاد (خلاف رسول الله) أي: بعده. وقيل: معناه لمخالفتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ظاهر المعنى (وقالوا) أي: قالوا للمسلمين ليصدوكم عن الغزو (لا تنفروا في الحر) أي: لا تخرجوا إلى الغزو سراعا في هذا الحر. وقيل: بل معناه قال بعضهم لبعض ذلك، طلبا للراحة والدعة، وعدولا عن تحمل المشاق في طاعة الله، ومرضاته. (قل) يا محمد لهم (نار جهنم) التي وجبت لهم بالتخلف عن أمر الله تعالى (أشد حرا) من هذا الحر، فهي أولى بالاحتراز والحذر عنها، إذ لا يعتد بهذا الحر في جنب ذلك الحر (لو كانوا يفقهون) أوامر الله تعالى، ووعده ووعيده، (1) [ لما ]. (*)
[ 99 ]
(فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) هذا تهديد لهم في صورة الأمر أي: فليضحك هؤلاء المنافقون في الدنيا قليلا، لأن ذلك يفنى، وإن دام إلى الموت، ولأن الضحك في الدنيا قليل لكثرة أحزانها وهمومها، وليبكوا كثيرا في الآخرة، لأن ذلك يوم مقداره خمسون ألف سنة، وهم فيه يبكون، فصار بكاؤهم كثيرا. (جزاء بما كانوا يكسبون) من الكفر، والنفاق، والتخلف، بغير عذر عن الجهاد، قال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا، فلا يرقأ لهم دمع، ولا يكتحلون بنوم. وروى انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا (فإن رجعك الله) يا محمد أي فإن ردك الله من غزوتك هذه، وسفرك هذا، (إلى طائفة منهم) أي من المنافقين الذين تخلفوا عنك، وعن الخروج معك (فاستأذنوك للخروج) معك إلى غزوة أخرى (فقل لن تخرجوا معي أبدا) إلى غزوة (ولن تقاتلوا معي عدوا) ثم بين سبحانه سبب ذلك فقال (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) أي عن غزوة تبوك. (فاقعدوا مع الخالفين) في كل غزوة. واختلف في المراد بالخالفين، فقيل: معناه مع النساء والصبيان، عن الحسن، والضحاك. وقيل: مع الرجال الذين تخلفوا من غير عذر، عن ابن عباس. وقيل: مع المخالفين. قال الفراء: يقال عبد خالف، وصاحب خالف، إذا كان مخالفا. وقيل: مع الخساس والأدنياء، يقال: فلان خالفة أهله إذا كان أدونهم. وقيل: مع أهل الفساد من قولهم: خلف الرجل على أهله يخلف خلوفا: إذا فسد. ونبيذ خالف أي: فاسد. وخلف فم الصائم: إذا تغيرت ريحه. وقيل: مع المرضى والزمنى، وكل من تأخر لنقص، عن الجبائي. (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85). الاعراب: (مات): جملة في موضع جر صفة (لأحد)، وتقديره على أحد ميت منهم. و (ابدا): منصوب، لأنه ظرف لقوله (تصل) وإنما كسران من قوله
[ 100 ]
(إنهم كفروا) وان كان في موضع التعليل لتحقيق الإخبار بأنهم على الصفة التي ذكرها. المعنى: ثم نهى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عليهم، فقال: (ولا تصل) يا محمد (على أحد منهم) أي: من المنافقين (مات أبدا) أي: بعد موته فإنه عليه السلام، كان يصلي عليهم، ويجري عليهم أحكام المسلمين (ولا تقم على قبره) أي: لا تقف على قبره للدعاء فإنه عليه السلام كان إذا صلى على ميت، يقف على قبره ساعة، ويدعو له، فنهاه الله تعالى عن الصلاة على المنافقين، والوقوف على قبورهم، والدعاء لهم. ثم بين سبحانه سبب الأمرين، فقال: (إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) فما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك على منافق، حتى قبض. وفي هذه الآية دلالة على أن القيام على القبر للدعاء، عبادة مشروعة، ولولا ذلك لم يخص سبحانه بالنهي عنه الكافر. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على عبد الله بن أبي، وألبسه قميصه قبل أن ينهى عن الصلاة على المنافقين، عن ابن عباس، وجابر، وقتادة. وقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي عليه، فأخذ جبرائيل بثوبه، وتلا عليه: (ولا تصل على أحد منهم) الآية، عن أنس، والحسن. وروي أنه قيل لرسول الله: لم وجهت بقميصك إليه يكفن فيه، وهو كافر ؟ فقال: إن قميصي لن تغني عنه من الله شيئا، وإني أؤمل من الله أن يدخل بهذا السبب في الإسلام خلق كثير. فروي أنه اسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الإستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذكره الزجاج، قال: والأكثر في الرواية أنه لم يصل عليه. (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به الأمة (إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا) بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم، وبما يأخذها منهم المسلمون على وجه الغنيمة، وبما يشق عليهم من إخراجها في الزكاة والإنفاق في سبيل الله، مع اعتقادهم بطلان لإسلام، فيشد عليهم فيكون ذلك عذابا لهم (وتزهق أنفسهم) أي: تهلك بالموت (وهم كافرون) أي: في حال كفرهم. وقد مضى تفسير مثل هده الآية، وإنما كرر للتذكير في موطنين، مع بعد أحدهما عن الآخر، ويجوز أن يكون الآيتان في فريقين من المنافقين، فيكون كما
[ 101 ]
يقول القائل: لا تعجبك حال زيد، ولا تعجبك حال عمرو، عن الجبائي. (وإذا أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87) لكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89). اللغة: قال الزجاج: الخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد، ويجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال. والخالف والخالفة: الذي هو غير نجيب، ولم يأت في فاعل فواعل، صفة إلا في حرفين قالوا فارس وفوارس، وهالك وهوالك. والطبع والختم بمعنى واحد. والخيرات: المنافع التي تسكن النفس إليها، وترتاح لها من النساء الحسان، وغيرهن من نعيم الجنان، واحدها خيرة قال الشاعر: ولقد طعنت مجامع الربلات ربلات هند خيرة الملكات (1) وقال المبرد: الخيرات: الجواري الفاضلات، جمع خيرة. وقيل: يجوز أن يكون خيرة بالتشديد فخففت نحو هين وهين. والإعداد. جعل الشئ مهيئا لغيره، وأصله من العدد، لأنه قد عدد الله جميع ما يحتاج إلى تقديمه له من الأمور، ومثله اتخاذ الأعتاد. الاعراب: (أن آمنوا) في موضع نصب بحذف حرف الجر، على تقدير بأن آمنوا أي: بالإيمان، ولا يجوز الحذف مع صريح المصدر. المعنى: ثم بين سبحانه تمام أخبار المنافقين، فقال: (وإذا أنزلت سورة) من القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أن آمنوا بالله) أي: بأن آمنوا، وهو خطاب (1) الربلات جمع الربلة: كل لحمة غليظة وقيل هي باطن الفخذ. (*)
[ 102 ]
للمؤمنين، وأمر لهم، بأن يدوموا على الإيمان، ويتمسكوا به في مستقبل الأوقات، ويدخل فيه المنافق، ويتناوله الأمر بأن يستأنف الإيمان، ويترك النفاق (وجاهدوا مع رسوله) أي: اخرجوا إلى الجهاد معه، فكأنه قال: آمنوا أنتم وادعوا إلى الإيمان غيركم (استأذنك) أي: طلب الإذن منك في القعود (أولوا الطول) أي: أولو المال، والقدرة، والغنى، عن ابن عباس، وغيره (منهم) أي: من المنافقين. (وقالوا ذرنا) أي: دعنا (نكن مع القاعدين) أي: المتخلفين عن الجهاد من النساء والصبيان، وإنما لحق هؤلاء الذم لأنهم أقوى على الجهاد (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) أي: رضوا لنفوسهم أن يقعدوا مع النساء، والصبيان، والمرضى، والمقعدين (وطبع على قلوبهم) ذكرنا معنى الطبع فيما تقدم، قال الحسن: هؤلاء قوم قد بلغوا الحد الذي من بلغه مات قلبه (فهم لا يفقهون) أوامر الله ونواهيه، ولا يتدبرون الأدلة. ثم مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فقال سبحانه: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم) ينفقونها في سبيل الله ومرضاته (وأنفسهم) يقاتلون الكفار. ثم أخبر سبحانه عما أعد لهم من الجزاء على انقيادهم لله ورسوله فقال (وأولئك لهم الخيرات) من الجنة ونعيمها. وقيل: الخيرات: المنافع والمدح والتعظيم في الدنيا، والثواب والجنة في الآخرة (وأولئك هم المفلحون) أي: الظافرون بالوصول إلى البغية (أعد الله لهم) أي: هيأ وخلق لهم (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) مضى تفسيره في غير موضع (ذلك) إشارة إلى ما تقدم ذكره (الفوز العظيم) والفوز: النجاة من الهلكة إلى حال النعمة، وسميت المهلكة مفازة، تفاؤلا لها بالنجاة، وإنما وصفه بالعظيم، لأنه حاصل على وجه الدوام، وبالإعزاز، والإجلال، والإكرام. (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90). القراءة: قرأ يعقوب وقتيبة: (المعذرون) بسكون العين، وتخفيف الذال، وهي قراءة ابن عباس، والضحاك، ومجاهد. والباقون: بفتح العين، وتشديد الذال.
[ 103 ]
الحجة: من قرأ بالتخفيف: أراد الذين يأتون بالعذر. ومن قرأ بالتشديد: احتمل أمرين أحدهما: أن يكون المراد المتعذرون كان لهم عذر، أو لم يكن، وإنما أدغم التاء في الذال لقرب مخرجهما والثاني: إنه أراد المقصرون من التعذير، فالمعذر: المقصر الذي يريك أنه معذور ولا عذر له. والمعذر: المبالغ الذي له عذر. والمعتذر: يقال لمن عذر، ولمن لا عذر له، قال لبيد: (ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر) أي: أتى بعذر. المعنى: لما تقدم حديث المخلفين، صنف الله تعالى الأعراب منهم صنفين، فقال سبحانه: (وجاء المعذرون من الأعراب) أي: المقصرون الذي يعتذرون، وليس لهم عذر، عن أكثر المفسرين. وقيل: هم المعتذرون الذين لهم عذر، وهم نفر من بني غفار، عن ابن عباس قال: ويدل عليه قوله (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) فعطف الكاذبين عليهم، فدل ذلك على أن الأولين في اعتذارهم صادقون. وقيل: معناه الذين يتصورون بصورة أهل العذر، وليسوا كذلك (ليؤذن لهم) في التخلف، عن الجبائي (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) أي: وقعدت طائفة من المنافقين من غير أن اعتذروا، وهم الذين كذبوا فيما كانوا يظهرونه من الإيمان (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) قال أبو عمرو بن العلافي هذه: الآية: كلا الفريقين كان مسيئا، جاء قوم فعذروا، وجنح آخرون فقعدوا، يريد أن قوما تكلفوا عذرا بالباطل، وتخلف آخرون من غير تكلف عذر، وإظهار علة، جرأة على الله، ورسوله. (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لآ أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) * إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93)).
[ 104 ]
اللغة: النصح: إخلاص العمل من الغش. والحمل: إعطاء المركوب من فرس، أو بعير، أو غير ذلك. تقول حمله، يحمله، حملا: إذا اعطاه ما يحمل عليه، قال: ألا فتى عنده خفان يحملني عليهما، إنني شيخ على سفر. والفيض: الجري عن امتلاء، من قولهم: فاض الإناء بما فيه. والحزن: ألم في القلب بفوت أمر، مأخوذ من حزن الأرض: وهي الأرض الغليظة المسلك. الاعراب: (حزنا): نصب لأنه مفعول له، أي: يبكون للحزن. (لا يجدوا) منصوب بأن وموضع أن (لا يجدوا) نصب تقديره لأن لا يجدوا، حذف الجار، فوصل الفعل. النزول: قيل: إن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن زائدة، وهو ابن أم مكتوم، وكان ضرير البصر، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله ! إني شيخ ضرير، خفيف الحال، نحيف الجسم، وليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله الآية، عن الضحاك، وقيل: نزلت في عائد بن عمرو وأصحابه، عن قتادة. والآية الثانية نزلت في البكائين، وهم سبعة نفر منهم: عبد الرحمن بن كعب، وعتبة بن زيد، وعمرو بن غنمة، وهؤلاء من بني النجار، وسالم بن عمير، وهرم بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن عوف، وعبد الله بن معقل، من مزينة، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله ! احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، عن أبي حمزة الثمالي. وقيل: نزلت في سبعة نفر من قبائل شتى، أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: إحملنا على الخفاف، والبغال، عن محمد بن كعب، وابن إسحاق. وقيل: كانوا جماعة من مزينة، عن مجاهد. وقيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار، فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطلب رجلين، ويامين بن كعب النضري ثلاثة، عن الواقدي، قال: وكان الناس بتبوك مع رسول، الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين الفا، منهم عشرة آلاف فارس. المعنى: ثم ذكر سبحانه أهل العذر، فقال: (ليس على الضعفاء) وهم الذين قوتهم ناقصة بالزمانة والعجز، عن ابن عباس. وقيل: هم الذين لا يقدرون على
[ 105 ]
الخروج (ولا على المرضى) وهم أصحاب العلل المانعة من الخروج (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) يعني من ليست معه نفقة الخروج، وآلة السفر (حرج) أي: ضيق وجناح في التخلف، وترك الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا نصحوا لله ورسوله) بأن يخلصوا العمل من الغش. ثم قال سبحانه: (ما على المحسنين من سبيل) أي: ليس على من فعل الحسن الجميل في التخلف عن الجهاد طريق للتقريع في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وقيل: هو عام في كل محسن والإحسان: هو إيصال النفع إلى الغير، لينتفع به من تعريه من وجوه القبح، ويصح أن يحسن الإنسان إلى نفسه، ويحمد على ذلك، وهو إذا فعل الأفعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب (والله غفور) أي: ساتر على ذوي الأعذار بقبول العذر منهم (رحيم) بهم لا يلزمهم ما فوق طاقتهم. ثم عطف عليه، فقال: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) أي: ولا على الذين إذا جاءوك يسألونك مركبا يركبونه، فيخرجون معك إلى الجهاد، إذ ليس معهم من الأموال والظهر ما يمكنهم الخروج به في سبيل الله (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) أي: لا أجد مركبا تركبونه، ولا ما أسوي به أمركم (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا الا يجدوا ما ينفقون) أي: رجعوا عنك، وأعينهم تسيل بالدمع، لحزنهم أن لا يجدوا ما يركبونه من الدواب، وينفقونه في الطريق، ليخرجوا معكم، ولحرصهم على الخروج. المعنى: وليس على هؤلاء أيضا حرج في التخلف عن الجهاد، وليس عليهم سبيل للذم والعقاب (إنما السبيل) والطريق بالعقاب، والحرج (على الذين يستأذنونك وهم أغنياء) أي: يطلبون الإذن منك يا محمد في المقام، وهم مع ذلك أغنياء، متمكنون من الجهاد في سبيل الله (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) من النساء، والصبيان، ومن لا حراك به (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) قد تقدم بيانه. (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى
[ 106 ]
عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96). النزول: قيل: نزلت الآيات في جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا، ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة راجعا من تبوك قال: لا تجالسوهم، ولا تكلموهم، عن ابن عباس. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي، حلف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتخلف عنه بعدها، وطلب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرضى عنه، عن مقاتل. المعنى: ثم أخبر الله سبحانه عن هؤلاء القوم الذين تأخروا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يعتذرون اليكم) من تأخرهم عنكم بالأباطيل والكذب، (إذا رجعتم إليهم) أي: إذا انصرفتم إلى المدينة من غزوة تبوك (قل) يا محمد (لا تعتذروا لن نؤمن لكم) أي: لسنا نصدقكم على ما تقولون (قد نبأنا الله من أخباركم) أي: قد أخبرنا الله وأعلمنا من أخباركم، وحقيقة أمركم ما علمنا به كذبكم. وقيل: إنه أراد به قوله سبحانه (لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا) الآية. (وسيرى الله عملكم ورسوله) أي: سيعلم الله فيما بعد، ورسوله، عملكم، هل تتوبون من نفاقكم ؟ أم تقيمون عليه ؟ وقيل: معناه سيعلم الله أعمالكم وعزائمكم في المستقبل، ويظهر ذلك لرسوله، فيعلمه الرسول بإعلامه إياه، فيصير كالشئ المرئي، لأن أظهر ما يكون الشئ أن يكون مرئيا، كما علم ذلك في الماضي، فأعلم به الرسول (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة) أي: ترجعون بعد الموت إلى الله سبحانه الذي يعلم ما غاب وما حضر، وما يخفى عليه السر والعلانية. (فينبئكم بما كنتم تعملون) أي: يخبركم بأعمالكم كلها، حسنها وقبيحها،
[ 107 ]
فيجازيكم عليها أجمع (سيحلفون بالله لكم) أي سيقسم هؤلاء المنافقون والمتخلفون فيما يعتذرون به اليكم أيها المؤمنون (إذا انقلبتم إليهم) أنهم إنما تخلقوا العذر (لتعرضوا عنهم) أي: لتصفحوا عن جرمهم، ولا توبخوهم، ولا تعنفوهم. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين فقال: (فأعرضوا عنهم) أي: إعراض رد وإنكار، وتكذيب، ومقت. ثم بين عن سبب الإعراض فقال: (انهم رجس) أي: نجس، ومعناه إنهم كالشئ المنتن الذي يجب الإجتناب عنه، فاجتنبوهم كما تجتنب الأنجاس (ومأواهم جهنم) أي: مصيرهم، ومآلهم، ومستقرهم، جهنم (جزاء بما كانوا يكسبون) أي: مكافاة على ما كانوا يكسبونه من المعاصي. (يحلفون لكم لترضوا عنهم) أي: طلبا لمرضاتكم عنهم أيها المؤمنون (فإن ترضوا عنهم) لجهلكم بحالهم (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) الخارجين من طاعته إلى معصيته، لعلمه بحالهم، ومعناه: إنه لا ينفعهم رضاكم عنهم، مع سخط الله عليهم، وارتفاع رضاه عنهم، وإنما قال سبحانه ذلك لئلا يتوهم أنه إذا رضي المؤمنون، فقد رضي الله، والمراد بذلك أنه إذا كان الله لا يرضى عنهم، فينبغي لكم أيضا أن لا ترضوا عنهم. وفي هذا دلالة على أن من طلب بفعله رضا الناس، ولم يطلب رضا الله سبحانه، فإن الله يسخط الناس عليه، كما جاء في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس. (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوآئر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الأخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألآ إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله
[ 108 ]
غفور رحيم (99). القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو (دائرة السوء) بضم السين. وفي سورة الفتح مثله. والباقون: بفتح السين. وقرأ ورش، وإسماعيل، عن نافع (قربة) بضم الراء. والباقون: (قربة) بسكون الراء. الحجة: قال أبو علي: الدائرة لا تخلو، إما أن تكون صفة، أو بمنزلة العاقبة، والعاقبة والصفة أكثر في الكلام، فينبغي أن يحمل عليها. فالمعنى عليها أنها خلة تحيط بالانسان حتى لا يكون له منها مخلص، وأضيفت إلى السوء، أو إلى السوء على الوجهين، على وجه التأكيد، والزيادة في التبيين، ولو لم تضف لعلم هذا المعنى منها، كما أن نحو قوله شمس النهار كذلك. والسوء: الرداءة والفساد، وهو خلاف الصدق الذي في قولك ثوب صدق، وليس الصدق من صدق اللسان، كما أن السوء ليس من سؤته في المعنى، وإن كان اللفظ واحدا، يدلك على ذلك أنك أضفته إلى ما لا يجوز عليه الصدق والكذب في الأخبار. وأما دائرة السوء بالضمة، فكقولك: دائرة الهزيمة، ودائرة البلاء، فاجتمعا في جواز إضافة الدائرة اليهما، من حيث أريد بكل واحد منهما الرداءة والفساد. فمن قال دائرة السوء فتقديره الإضافة إلى الرداءة والفساد. ومن قال: دائرة السوء، فتقديره دائرة الضرر والمكروه، من قولهم: سؤته مساءة ومسائية. والمعنيان متقاربان، قال أبو الحسن: دائرة السوء كما تقول رجل السوء، وأنشد: وكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم (1) وأما قوله: قربة، فالأصل حركة الراء، والإسكان للتخفيف، كما في الرسل، والكتب، والأذن، والطنب. وأما قربات: فينبغي أن يثقل لأنه إذا ثقل ما أصله التخفيف نحو الظلمات والغرفات، فإن تقر الحركة الثانية في الكلمة الواحدة أجدر. ومثل قولهم: قربة وقربة، يسرة ويسرة، هدنة وهدنة، حكاه محمد بن يزيد. اللغة: رجل عربي: إذا كان من العرب، وإن سكن البلاد، ورجل أعرابي: (1) قائله الفرزدق يذم صاحبه بالجفاء فإن الذئاب (على ما حكى عن الدميري) إن اجتمعت على انسان، وأدمى الإنسان واحدا منها، وثب الباقون على المدمى فمزقوه، وتركوا الانسان. (*)
[ 109 ]
إذا كان ساكنا في البادية. والعرب صنفان: عدنانية وقحطانية، والفضل للعدنانية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأجدر: مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال، وهو أصله وأساسه. والمغرم: الغرم، وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم الأمر، ومنه قوله: (إن عذابها كان غراما) أي: لازما. وحب غرام: أي لازم. والغريم: يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر. وغرمته كذا أي: ألزمته إياه في ماله. والتربص: الإنتظار، ومنه التربص بالطعام لزيادة الأسعار، وأصله التمسك بالشئ لعاقبة. والدوائر: جمع دائرة، هي من حوادث الدهر. وقيل: الحال المنقلبة عن النعمة إلى البلية. والدائرة: الدولة. والقربة: هي طلب الثواب، والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة. الاعراب: (أجدر أن لا يعلموا) إن: في موضع نصب، لأن الباء محذوفة. والمعنى: أجدر بترك العلم، تقول: أنت جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، أي: هذا الفعل ميسر لك. وإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بأن، وإن أثبت الباء صلح بأن وغيرها، تقول: أنت جدير بأن تقوم، وجدير بالقيام، وإنما صلح مع أن الحذف لأن أن يدل على الإستقبال، فكأنهما عوض من المحذوف. (وصلوات الرسول) عطف على قوله (ما ينفق)، وموضعه نصب، وتقديره: ويتخذ النفقة (وصلوات الرسول) ويتخذ قربات. وقيل: (صلوات) معطوف على (قربات) على معنى يطلبون بالإنفاق قربة الله، وصلوات الرسول، عن الجبائي. المعنى: لما تقدم ذكر المنافقين، بين سبحانه أن الأعراب منهم أشد في ذلك وأكثر جهلا، فقال: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) يريد: الأعراب الذين كانوا حول المدينة، وإنما كان كفرهم أشد، لأنهم أقسى وأجفى من أهل المدن، وهم أيضا أبعد من سماع التنزيل، وإنذار الرسل، عن الزجاج. ومعناه أن سكان البوادي إذا كانوا كفارا، أو منافقين، فهم أشد كفرا من أهل الحضر، لبعدهم عن مواضع العلم، واستماع الحجج، ومشاهدة المعجزات، وبركات الوحي. (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) أي: وهم أحرى وأولى بأن لا يعلموا حدود الله في الفرائض والسنن، والحلال والحرام (والله عليم) بأحوالهم (حكيم) فيما يحكم به عليهم. (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) أي: ومن منافقي الأعراب من يعد ما
[ 110 ]
ينفق في الجهاد، وفي سبيل الخير، مغرما لحقه، لأنه لا يرجو به ثوابا (ويتربص بكم الدوائر) أي: وينتظر بكم الدوائر أي: صروف الزمان، وحوادث الأيام، والعواقب المذمومة. قال الزجاج، والفراء: كانوا يتربصون بهم الموت، أو القتل، فكانوا ينتظرون موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليرجعوا إلى دين المشركين. وأكثر ما يستعمل الدائرة في زوال النعمة إلى الشدة، والعافية إلى البلاء، ويقولون كانت الدائرة عليهم، وكانت الدائرة لهم. ثم رد سبحانه ذلك عليهم، فقال: (عليهم دائرة السوء) أي: على هؤلاء المنافقين دائرة البلاء، يعني أن ما ينتظرون بكم هؤلاء حق بهم، وهم المغبون أبدا (والله سميع) لمقالاتهم (عليم) بنياتهم لا يخفى عليه شئ من حالاتهم، بين سبحانه من الأعراب المؤمنين، فقال: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ومنهم من يرجع إلى سلامه الإعتقاد في التصديق بالله، وبالقيامة، والجنة والنار (ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) أي: ويريد بنفقته في الجهاد، وغير ذلك من أعمال البر. قربات: جمع قربة، وهي الطاعة أي: طاعات عند الله، وتعظيم أمره، ورعاية حقه. وقيل: معناه يتقرب إلى الله بإنفاقه، ويطلب بذلك ثوابه، ورضاه. (وصلوات الرسول) أي: دعاؤه بالخير والبركة عن قتادة. وقيل: استغفاره، عن ابن عباس، والحسن، ومعناه: إنه يرغب في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إنها قربة لهم) معناه: ألا إن صلوات الرسول قربة لهم، تقربهم إلى ثواب الله، ويجوز أن يكون المعنى: إن نفقتهم قربة لهم إلى الله (سيدخلهم الله في رحمته) هذا وعد منه سبحانه بأن يرحمهم، ويدخلهم الجنة. وفيه مبالغة بأن الرحمة غمرتهم ووسعتهم (إن الله غفور) لذنوبهم، (رحيم) بأهل طاعته، وهما من ألفاظ المبالغة في الوصف بالمغفرة، والرحمة. (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100). القراءة: قرأ يعقوب: (والأنصار) بالرفع، وهي قراءة عمر بن الخطاب،
[ 111 ]
والحسن، وقتادة، والقراءة المشهورة: (والأنصار) بالجر. وقرأ ابن كثير وحده (من تحتها) بزيادة (من) وكذلك هو في مصاحف مكة. وقرأ الباقون (تحتها) بغير (من)، وعليه سائر المصاحف، والمعنى واحد. الحجة: من قرأ بالرفع، عطفه على قوله (السابقون). ومن قرأ بالجر، عطفه على (المهاجرين). وأما قوله: (والذين اتبعوهم بإحسان) فيجوز أن يكون معطوفا على (الأنصار) في رفعه وجره، ويجوز أن يكون معطوفا على (السابقون) وأن يكون معطوفا على (الأنصار) أولى لقربه منه. الاعراب: السابقون: مبتدأ، والأولون: صفته من المهاجرين تبيين لهم، والذين اتبعوهم: إن حملته على (السابقون) كان مرفوعا، وان حملته على (الأنصار) كان مجرورا. وخبر الأسماء كلها (رضي الله عنهم ورضوا عنه) واعد لهم: عطف على (رضي) فالوقف على قوله (خالدين فيها ابدا). النزول: قيل: نزلت هذه الآية فيمن صلى إلى القبلتين، عن سعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وقتادة. وقيل: نزلت فيمن بايع بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، عن الشعبي، قال: ومن أسلم بعد ذلك وهاجر، فليس من المهاجرين الأولين. وقيل: هم أهل بدر، عن عطاء بن رياح. وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، عن الجبائي. المعنى: لما تقدم ذكر المنافقين والكفار، عقبه سبحانه بذكر السابقين إلى الإيمان، فقال: (والسابقون الأولون) أي: السابقون إلى الإيمان، وإلى الطاعات. وإنما مدحهم بالسبق لأن السابق إلى الشئ يتبعه غيره، فيكون متبوعا، وغيره تابع له، فهو إمام فيه، وداع له إلى الخير بسبقه إليه، وكذلك من سبق إلى الشر يكون أسوأ حالا لهذه لعلة (من المهاجرين) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وإلى الحبشة (والأنصار) أي: ومن الأنصار الذين سبقوا نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام. ومن قرأ (والأنصار) بالرفع، لم يجعلهم من السابقين، وجعل السبق للمهاجرين خاصة (والذين اتبعوهم بإحسان) أي: بأفعال الخير، والدخول في الإسلام بعدهم، وسلوك منهاجهم، ويدخل في ذلك من يجئ بعدهم إلى يوم القيامة.
[ 112 ]
(رضي الله عنهم ورضوا عنه) أخبر سبحانه أنه رضي عنهم أفعالهم، ورضوا عن الله سبحانه، لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم، وإيمانهم به، ويقينهم (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) أي: يبقون ببقاء الله منعمين (ذلك الفوز العظيم) أي: الفلاح العظيم الذي يصغر في جنبه كل نعيم. وفي هذه الآية دلالة على فضل السابقين، ومزيتهم على غيرهم، لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين، فمنها: مفارقة العشائر والأقربين، ومنها: مباينة المألوف من الدين، ومنها: نصرة الإسلام، وقلة العدد، وكثرة العدو، ومنها: السبق إلى الإيمان، والدعاء إليه. واختلف في أول من أسلم من المهاجرين، فقيل: ان أول من آمن خديجة بنت خويلد، ثم علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو قول ابن عباس، وجابربن عبد الله، وأنس، وزيد بن أرقم، ومجاهد، وقتادة، وابن إسحاق، وغيرهم. قال انس: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين، وصلى علي عليه السلام، وأسلم يوم الثلاثاء. وقال مجاهد، وابن إسحاق: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخذه من أبي طالب، وضمه إلى نفسه يربيه في حجره، وكان معه حتى بعث نبيا. وقال الكلبي: إنه أسلم وله تسع سنين. وقيل: اثنتا عشرة سنة، عن أبي الأسود. قال السيد أبو طالب الهروي: وهو الصحيح. وفي تفسير الثعلبي: روى إسماعيل بن أياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف، قال: كنت امرأ تاجرا، فقدمت مكة أيام الحج، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، وكان العباس لي صديقا، وكان يختلف إلى اليمن، يشتري العطر، فيبيعه أيام الموسم. فبينما أنا والعباس بمنى، إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء، فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام، فقام عن يمينه، فلم يلبث أن جاءت امرأة، فقامت خلفهما. فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا، فسجدا معه. فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فقلت: يا عباس ! أمر عظيم ! فقال: أمر عظيم ! فقلت: ويحك ما هذا ؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أن الله بعثه رسولا، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد وزوجة محمد، تابعاه على دينه. وأيم الله !
[ 113 ]
ما على ظهر الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء ! فقال عفيف الكندي بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعا. وروي أن أبا طالب قال لعلي عليه السلام: أي بني ! ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ قال: يا أبه آمنت بالله ورسوله، وصدقته فيما جاء به، وصليت معه لله. فقال له: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعو إلا إلى خير فالزمه. وروى عبد الله بن موسى، عن العلاء بن صالح، عن المنهال بن عمرو، عن عبادة بن عبد الله، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي الا كذاب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين. وفي مسند السيد أبي طالب الهروي مرفوعا إلى أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلت الملائكة علي، وعلى علي، سبع سنين، وذلك أنه لم يصل فيها أحد غيري وغيره. وقيل: إن أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر، عن إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم بعدها زيد بن حارثة، عن الزهري، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده مرفوعا إلى عبد الرحمن بن عوف، في قوله سبحانه: (والسابقون الأولون) قال: هم عشرة من قريش، أولهم إسلاما علي بن أبي طالب عليه السلام. (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101) وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102). اللغة: حول الشئ المحيط به، من حال يحول: إذا دار بالإنقلاب، ومنه الحول للسنة، والمحالة، لأنها تدور في المحور والمرد: أصله الملاسة، ومنه صرح ممرد أي مملس. والأمرد: الذي لا شعر على وجهه. والمرداء: الرملة التي لا تنبت شيئا، ذكره علي بن عيسى. وقيل: أصله الظهور. والمارد: الذي ظهر شره. وشجرة مرداء: إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها. ورجل أمرد: لظهور مكان
[ 114 ]
الشعر منه، عن ابن عرفة. ومرد الرجل، يمرد، مرودا: إذا عتا وخرج من الطاعة واعيا خبثا، ومنه شيطان مارد ومريد. وفي المثل: (تمرد مارد وعز الأبلق) وهما حصنان. الاعراب: (ومن أهل المدينة مردوا) أي: قوم مردوا، فحذف الموصوف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ففصل بين الصفة والموصوف بالظرف. (وآخرون اعترفوا): معطوف على قوله: (من الأعراب منافقون) وكذلك وآخرون مرجون، وإن شئت قدرت: ومنهم آخرون. المعنى: ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين، فقال سبحانه: (وممن حولكم) أي: ومن جملة من حولكم، يعني: حول مدينتكم (من الأعراب) وهم الذين يسكنون البدو إذا كانوا مطبوعين على العربية (منافقون) يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر. وقيل: إنهم جهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة (ومن أهل المدينة) أيضا منافقون، وإنما حذف لدلالة الأول عليه (مردوا على النفاق) أي: مرنوا على النفاق، وتجرؤوا عليه، عن الفراء. وقيل: معناه أقاموا عليه لم يتوبوا منه، كما تاب غيرهم، عن ابن زيد، وأبان بن تغلب. وقيل: معناه لجوا فيه، وأبوا غيره، عن أبن إسحاق. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره وممن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة أيضا، مثل ذلك، عن الزجاج (لا تعلمهم) يا محمد أي: لا تعرفهم (نحن نعلمهم) أي: نعرفهم (سنعذبهم مرتين) فيه أقوال أحدها: إن معناه نعذبهم في الدنيا بالفضيحة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر رجالا منهم، وأخرجهم من المسجد يوم الجمعة في خطبته، وقال: اخرجوا فإنكم منافقون، ويعذبهم في القبر، عن ابن عباس، والسدي، والكلبي. وقيل مرة في الدنيا بالسبي والقتل، ومرة في الآخرة بعذاب القبر، عن مجاهد. وروى حصيف عنه: عذبوا بالجوع مرتين. وقيل إحداهما أخذ الزكاة منهم، والأخرى عذاب القبر عن الحسن. وقيل: احداهما غيظهم من أهل الإسلام، والأخرى عذاب القبر، عن ابن إسحاق. وقيل: إن الأولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر. وقيل: إن الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر، عن ابن عباس، وكل ذلك
[ 115 ]
محتمل. غير أنا نعلم أن المرتين معا قبل أن يردوا إلى عذاب النار. (ثم يردون إلى عذاب عظيم) أي: يرجعون يوم القيامة إلى عذاب مؤبد في النار (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) يعني: من أهل المدينة، أو من الأعراب آخرون أقروا بذنوبهم، وليس براجع إلى المنافقين. والإعتراف: الإقرار بالشئ عن معرفة (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) يعني: إنهم يفعلون أفعالا جميلة، ويفعلون أفعالا سيئة قبيحة، والتقدير: وعملا آخر سيئا (عسى الله أن يتوب عليهم) قال المفسرون: عسى من الله واجبه، وإنما قال: عسى، حتى يكونوا بين طمع وإشفاق، فيكون ذلك أبعد من الإتكال على العفو وإهمال التوبة وفي هذا دلالة على بطلان القول بالإحباط، لأنه لو صح الإحباط لكان أحد العملين إذا طرأ على الآخر أحبطه وأبطله، فلم يجتمعا، فلا يكون لقوله: (خلطوا) معنى. وقال بعض التابعين: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية، وقد يستعمل لفظ الخلط في الجمع من غير امتزاج، يقال: خلط الدراهم والدنانير. وقيل: إنه يجري مجرى قولهم: استوى الماء والخشبة أي: مع الخشبة. وقيل: إن (خلط) بالتخفيف في الخير، (وخلط) بالتشديد في الشر (إن الله غفور رحيم) هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة، أي: لأنه غفور رحيم. النزول: قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأوس بن حذام، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عند مخرجه إلى تبوك، فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه، أيقنوا بالهلاك، وأوثقوا أنفسهم بسواري (1) المسجد، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحلهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن اؤمر فيهم بأمر، فلما نزل (عسى الله أن يتوب عليهم) عمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إليهم، فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله، فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها، وتصدق بها عنا. قال عليه السلام: ما أمرت فيها. فنزل (خذ من أموالهم صدقة) الآيات. (1) جمع السارية: بمعنى الاسطوانة. (*)
[ 116 ]
وقيل: إنهم كانوا عشرة رهط، منهم أبو لبابة، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقيل: كانوا ثمانية منهم أبو لبابة، وهلال، وكردم، وأبو قيس، عن سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. وقيل: كانوا سبعة، عن قتادة. وقيل: كانوا خمسة. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: أنها نزلت في أبي لبابة، ولم يذكر غيره معه، وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة، حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح، وبه قال مجاهد. وقيل: نزلت فيه خاصة، جن تأخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية على ما تقدم ذكره عن الزهري، ثم قال أبو لباب: يا رسول الله ! إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأنا انخلع من مالي كله ! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث. وفي جميع الأقوال أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال: (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ أموالهم. (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم (103) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (104) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون (105). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: (أن صلاتك) وفي هود (أصلاتك) على التوحيد. وقرأ الباقون (أن صلواتك، أصلواتك) على الجمع. الحجة: قال أبو علي: الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الأعشى في الخمر: وقابلها الريح في دنها، وصلى على دنها، وارتسم (1) فكان معنى صل عليهم: أدع لهم، فإن دعاءك لهم تسكن إليه نفوسهم، (1) الدن: راقود أصغر من الحب. وارتسم الرجل: كبر ودعا. (*)
[ 117 ]
وتطيب به. فأما قولهم: صلى الله على رسوله وملائكته، فلا يقال فيه أنه دعاء لهم من الله تعالى، كما لا يقال في نحو: (ويل للمطففين) ونحوه أنه دعاء عليهم، ولكن المعني فيه أن هؤلاء ممن يستحق عندكم أن يقال فيهم هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله: (بل عجبت) ويسخرون فيمن ضم الياء، وهذا مذهب سيبويه، فإذا كانت الصلاة مصدرا، وقع على الجمع والمفرد على لفظ واحد، كصوت الحمير فإذا أختلف، جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه، كما قال: (إن أنكر الأصوات). فأما من زعم أن الصلاة أولى لأن الصلاة للكثرة، والصلوات للقليل، فلم يكن قوله متجها لأن الجمع بالتاء قد يقع على الكثير، كما يقع على القليل، كقوله: (وهم في الغرفات آمنون)، وقوله: (إن المسلمين والمسلمات)، وقوله: (إن المصدقين والمصدقات)، فقد يقع هذا الجمع على الكثير، كما يقع على القليل. الاعراب: قوله (تطهرهم) إنما ارتفع لأحد أمرين: إما أن يكون صفة لصدقة، ويكون التاء للتأنيث، ويكون قوله (بها) للتبيين، ويكون التقدير صدقة مطهرة. وإما أن يكون التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتقدير: فإنك تطهرهم بها، فتكون صفة لصدقة أيضا، ويكون الضمير في (بها) للصدقة الموصوفة. وأما (وتزكيهم) فلا يكون إلا للخطاب. وقيل: ان (تطهرهم)، يجوز أن يكون على الاستئناف، وحمله على الإتصال أولى. المعنى: ثم خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره بأخذ الصدقة من أموالهم، تطهيرا لهم، وتكفيرا لسيئاتهم، فقال: (خذ) يا محمد (من أموالهم) أدخل (من) للتبعيض، لأنه لم يجب أن يصدق بالجميع، وإنما قال: (من أموالهم)، ولم يقل من مالهم، حتى يشتمل على أجناس المال كلها. وهذا يدل على وجوب الأخذ من سائر أموال المسلمين، لاستوائهم في أحكام الدين، إلا ما خصه الدليل. (صدقة): قيل أراد بها الأمر بأن يأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين، تشديدا للتكليف، وليست بالصدقة المفروضة، بل هي على سبيل الكفارة للذنوب التي أصابوها، عن الحسن، وغيره. وقيل: أراد بها الزكاة المفروضة عن الجبائي، وأكثر أهل التفسير، وهو الظاهر لأن حمله على الخصوص بغير دليل، لا وجه له، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم، ومن
[ 118 ]
الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، ومن الإبل إذا بلغت خمسا، ومن البقر إذا بلغت ثلاثين، ومن الغنم إذا بلغت أربعين، ومن الغلات والثمار إذا بلغت خمسة، أو ستة. (تطهرهم وتزكيهم بها) معناه: تطهرهم تلك الصدقة عن دنس الذنوب، وتزكيهم أنت بها أي: تنسبهم إلى الزكاة، وتدعو لهم بما يصيرون به أزكياء. وقيل: معناه تطهرهم أنت، وتزكيهم أنت بها، فيكون كلا الفعلين مضافا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وصل عليهم) هذا أمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة، ومعناه: أدع لهم بقبول صدقاتهم، كما يقول الداعي: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صل عليهم. وقال عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، فأتاه ابن أبي أوفى بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى، أورده البخاري، ومسلم في الصحيح. (إن صلاتك سكن لهم) أي: إن دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه. وقيل: رحمة لهم، عن ابن عباس. وقيل: وقار وطمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، عن قتادة والكلبي. وقيل: تثبيت لهم عن أبي عبيدة (والله سميع عليم) يسمع دعاءك لهم، ويعلم ما يكون منهم في الصدقات. (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) إستفهام يراد به التنبيه على ما يجب أن يعلم، فالمخاطب إذا رجع إلى نفسه، وفكر فيما نبه عليه، علم وجوبه، وإنما وجب أن يعلم أن الله يقبل التوبة، لأنه إذا علم ذلك، كان ذلك داعيا إلى فعل التوبة، والتمسك بها، والمسارعة إليها. وما هذه صورته يجب العلم به ليحصل به الفوز بالثواب، والخلاص من العقاب. والسبب فيه أنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يأخذ من أموالهم ما يكون كفارة لذنولهم، إمتنع من ذلك انتظارا لإذن من الله سبحانه فيه، فبين الله أنه ليس قبول التوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن ذلك إلى الله، عز اسمه، فإنه الذي يقبلها. (ويأخذ الصدقات) أي: يتقبلها، ويضمن الجزاء عليها. قال الجبائي: جعل الله أخذ النبي والمؤمنين للصدقات، أخذا من الله على وجه التشبيه والمجاز، من حيث كان بأمره. وقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: إن الصدقة تقع في
[ 119 ]
يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل. والمراد بذلك أنها تنزل هذا التنزيل ترغيبا للعباد في فعلها، وذاك يرجع إلى تضمن الجزاء عليها (وأن الله هو التواب الرحيم) عطف على ما قبله، ولذلك فتح (أن) وقد مر تفسيره (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون): هذا أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول للمكلفين: اعملوا ما أمركم الله به، عمل من يعلم أنه مجازى على فعله، فإن الله سيرى عملكم، وإنما أدخل سين الاستقبال، لأن ما لم يحدث لا يتعلق به الرؤية، فكأنه قال: كل ما تعملونه يراه الله تعالى. وقيل: أراد بالرؤية هاهنا العلم الذي هو المعرفة، ولذلك عداه إلى مفعول واحد، أي: يعلم الله تعالى ذلك فيجازيكم عليه، ويراه رسوله أي: يعلمه فيشهد لكم بذلك عند الله تعالى، ويراه المؤمنون: قيل: أراد بالمؤمنين الشهداء. وقيل: أراد بهم الملائكة الذين هم الحفظة الذين يكتبون الأعمال. وروى أصحابنا: إن أعمال الأمة تعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كل إثنين وخميس، فيعرفها، وكذلك تعرض على أئمة الهدى عليهم السلام فيعرفونها، وهم المعنيون بقوله: (والمؤمنون) وإنما قال (سيرى الله) مع أنه سبحانه عالم بالأشياء قبل وجودها، لأن المراد بذلك أنه سيعلمها موجودة بعد أن علمها معدومة، وكونه عالما بأنها ستوجد، هو كونه عالما بوجودها إذا وجدت، لا يتجدد حال له بذلك (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة) أي: سترجعون إلى الله الذي يعلم السر، والعلانية. (فينبئكم) أي: يخبركم (بما كنتم تعملون)، ويجازيكم عليه. (وءاخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106). القراءة: قرأ أهل المدينة، والكوفة، غير أبي بكر: (مرجون) بغير همز. والباقون: (مرجؤن) بالهمز. الحجة: قال الأزهري: الإرجاء يهمز ولا يهمز، أرجأت الأمر، وأرجيته: أخرته، وأرجأت الحامل: دنت لأن يخرج ولدها، فهي مرجئ ومرجئة، وأرجت بغير همز أيضا. النزول: قال مجاهد، وقتادة: نزلت الآية في هلال بن أمية الواقفي،
[ 120 ]
ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهم من الأوس والخزرج، وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه، وإنما تخلف توانيا عن الإستعداد، حتى فاته، المسير، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله ما لي من عذر، ولم يعتذر إليه بالكذب، فقال عليه السلام: صدقت، فمر حتى يقضي الله فيك. وجاء الآخران فقالا مثل ذلك، وصدقا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأقاموا على ذلك خمسين ليلة، وبنى كعب خيمة على سلع (1) يكون فيها وحده، وقال في ذلك: أبعد دور بني القين الكرام، وما شادوا علي، بنيت البيت من سعف (2) ثم نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل، وهو قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) الآية. فأصبح المسلمون يبتدرونهم ويبشرونهم. قال كعب: فجئت إلى رسول الله في المسجد، وكان عليه السلام إذا سر يستبشر، كأن وجهه فلقة قمر، فقال لي ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم طلع عليك شرقه منذ ولدتك أمك ! قال كعب فقلت: أمن عند الله. أم من عندك يا رسول الله ؟ فقال: من عند الله. وتصدق كعب بثلث ماله شكرا لله على توبته. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما قبله من قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) فقال: (وآخرون مرجون لأمر الله) أي: مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) لفظة (إما) وقوع أحد الشيئين، والله سبحانه عالم بما يصير إليه أمرهم، ولكنه سبحانه خاطب العباد بما عندهم، ومعناه: ولكن كان أمرهم عندكم على هذا أي: على الخوف والرجاء. وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة، لأنه سبحانه بين أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء قبل توبتهم، فعفا عنهم، ويدل أيضا على أن قبول التوبة تفضل من الله سبحانه، لأنه لو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة (والله عليم) بما يؤول إليه حالهم (حكيم) فيما يفعله بهم. (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين (1) السلع: جبل بالمدينة. (2) شاد البناء: رفعه. والسعف: جريد النخل. (*)
[ 121 ]
وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أرادنآ إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم الذى بنواريبة في قلوبهم إلآ أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110). القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر: (الذين اتخذوا) بغير واو. والباقون: بالواو. وقرأ نافع، وابن عامر: (أسس) بضم الألف (بنيانه) بالرفع في الموضعين. وقرأ الباقون: (أسس بنيانه) فيهما. وفي الشواذ قراءة نصر بن عاصم: (أسس بنيانه) على وزن فعل. وقراءة نصربن علي (أساس بنيانه). وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحماد، ويحيى، عن أبي بكر، وخلف: (جرف) بالتخفيف. والباقون: (جرف) بالتثقيل. وقرأ يعقوب، وسهل: (إلى أن) على أنه حرف الجر، وهو قراءة الحسن، وقتادة، والجحدري، وجماعة، ورواه البرقي، عن أبي عبد الله. وقرأ الباقون: (إلا أن) مشددة اللام. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، وحفص، وسهل، ورويس، عن يعقوب: (تقطع) بفتح التاء والتشديد. وقرأ روح: (تقطع) بضم التاء مخففا. وقرأ الباقون: (تقطع) بضم التاء مشددا. الحجة: من أثبت الواو في (الذين) عطفه على ما تقدم، والتقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، ومن حذف الواو ابتدأ الكلام وأضمر الخبر بعده، كما أضمر في قوله: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) إلى قوله (والباد)، والمعنى فيه ينتقم منهم، أو يعذبهم، ونحو ذلك. وحسن الحذف في الموضعين لطول الكلام بالمبتدأ، وصلته، ويجوز أن يكون على أن تضمر (ومنهم)، فيكون تقديره،: ومنهم الذين اتخذوا كما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله (وأما
[ 122 ]
الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي: فيقال لهم: أكفرتم، ولا يجوز أن يكون الذين بدلا من قوله (وآخرون مرجون) لأن المرجئين لأمر الله غير الذين اتخذوا مسجدا ضرارا، فلا يجوز أن يبدلوا منهم. ومن قرأ (أسس بنيانه): بنى الفعل للفاعل كما أضاف البنيان إليه في قوله (بنيانه) فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والباني والمؤسس واحد. ومن بنى الفعل للمفعول به، لم يبعد أن يكون في المعنى كالأول، لأنه إذا أسس بنيانه فيولي ذلك غيره بأمره كان كبنائه هو له. فأما من قرأ: (أسس بنيانه) بالرفع في الموضعين، وأساس بنيانه بالإضافة، فإنهما بمعنى واحد، وجمع الأس: أساس، كقفل وأقفال، وجمع الأساس: آساس وأسس. وأما الجرف: فالأصل فيه ضم العين، والإسكان تخفيف، ومثله الشغل والشغل، والطنب والطنب. ومن قرأ: (إلا أن تقطع قلوبهم): فمعناه تبلى وتتقطع بالبلى، أي: لا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدا (1). ومن قرأ (تقطع): بضم التاء، فهو في المعنى مثل لأول، إلا أن الفعل أضيف إلى القطع المبلي للقلوب بالموت. وفي الأول أسند إلى القلوب، لما كانت هي البالية، وهذا مثل مات زيد، وسقط الحائط، ونحو ذلك، مما أسند فيه الفعل إلى من حدث فيه، وإن لم يكن منه وتقطع، يسند الفعل فيه إلى المقطع المبلى، وإن لم يذكر في اللفظ، فأسند الفعل الذي هو لغير القلوب في الحقيقة إلى القلوب. ومن قرأ (إلى أن تقطع): فإنه جعله على الغاية، وزعموا أن في حرف إلى حتى الممات، وهذا يدل على أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان، وأخذوا به من الكفر. اللغة: الضرار: هو طلب الضرر ومحاولته، كما أن الشقاق محاولة ما يشق، يقال: ضاره مضارة وضرار. والإرصاد: الإرتقاب، تقول رصده يرصده رصدا، وأرصد له إرصادا. قال الكسائي: رصدته: رقبته، وأرصدته: أعددته. والبنيان: مصدر. قال أبو علي: وهو جمع على حد شعيرة وشعير، لأنهم قالوا بنيانة في الواحد، قال أوس: كبنيانة القري موضع رحلها، وآثار نسعيها من الدف أبلق (2) (1) ثلجت نفسه بالشئ: اطمأنت. (2) القرى: مجرى الماء. والنسع: حبل عريض طويل تشد به الرحال. والدف: الجنب من كل شئ. (*)
[ 123 ]
وجاء بناء المصدر على هذا المثال في غير هذا الحرف، نحو الغفران، وليس بنيان جمع بناء، لأن فعلانا إذا كان جمعا نحو كثبان وقضبان، لم تلحقه تاء التأنيث وقال أبو زيد: يقال بنيت أبني بنيا وبنيانا وبناء وبنية، وجمعها البنى، قال: بنى السماء فسواها ببنيتها، ولم تمد بأطناب، ولا عمد فالبناء والبنية مصدران. ومن ثم قوبل به الفراش في قوله (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) فالبناء لما كان رفعا للمبني، قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء. والتقوى: خصلة من الطاعة، يحترز بها من العقوبة. والتقى: صفة مدح لا تطلق إلا على مستحق الثواب. وواو تقوى: مبدلة من الياء، لأنها من وقيت، وإنما أبدلت للفرق بين الاسم والصفة في الأبنية، مثل خزيا، وشفا جرف: الشئ وشفيره. وجرفه: نهايته في المساحة، ويثنى شفوان. وجرف الوادي: جانبه الذي ينحفر بالماء أصله، وهو من الجرف. والإجتراف: هو اقتلاع الشئ من أصله. وهار الجرف، يهور هورا فهو هائر وتهور وانهار، ويقال أيضا: هار يهار، وهار أصله هائر، وهو من المقلوب، كما يقال: لاث الشئ به: إذا دار، فهو لاث، والأصل لائث. وكما قالوا: شاكي السلاح أي: شائك، قال: فتعرفوني إنني أنا ذاكم شاك سلاحي في الحوادث معلم وكما قال العجاج (لاث به الأشاء والعبري) (1) أي: مطيف. وقال أبو علي: والهمز من عائر منقلبة عن الواو، لأنهم قالوا: تهور البناء: إذا تساقط وتداعى. وفي الحديث ساء الليلة حتى انهار الليل، ثم سار حتى تهور. فهذا في الليل كالمثل والتشبيه بالبناء. والإنهيال، والإنهيار، يتقاربان في المعنى، كما يتقاربان في اللفظ. الاعراب: قد ذكرنا إعراب قوله (والذين اتخذوا في الحجة) ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره (لا تقم فيه أبدا) كما تقول والذي يدعوك إلى الغي فلا تسمع الدعاء، وتقديره فلا تسمع دعاءه، وكذلك التقدير في الآية (لا تقم في مسجدهم أبدا) فحذف للاختصار، ويجوز أن يكون خبر الذين قوله (أفمن أسس بنيانه) أي أفمن أسس بنيانه من هؤلاء، أم من أسس من الذين اتخذوا ضرارا، منصوب على أنه (1) الأشاء: صغار النخل. والعبري: السدر. (*)
[ 124 ]
مفعول له، وكذلك ما بعده. والمعنى: إتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد، فلما حذف اللام أفضى الفعل، فنصب. ويجوز أن يكون مصدرا محمولا على المعنى، لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى، معناه: ضاروا به ضرارا من أول يوم دخلت من في الزمان، والأصل منذ ومذ، هذا الأكثر استعمالا في الزمان، ومن جائز دخولها أيضا، لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومنه قول زهير: لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج، ومن شهر (1) ويروى من دهر، وقد قيل: إن المعنى من مر حجج، ومن مر شهر، وأن تقوم في موضع نصب أي: أحق بأن تقوم فيه، وفيه منصوب الموضع بقوله (تقوم) وفيه من قوله (فيه رجال) في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ مقدم عليه، والمبتدأ (رجال) ولا يجوز أن يكون مرفوع الموضع بكونه وصفا لمسجد، بل هو على الاستئناف والوقف التام على قوله: (أحق أن تقوم فيه) ثم استؤنف الكلام فقيل: (فيه رجال)، وإنما قلنا ذلك، لأنك لو جعلت الظرف الذي هو (فيه) وصفا لمسجد، لكنت فصلت بين النكرة وصفتها، بالخبر الذي هو أحق. وقوله (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) قال أبو علي: القول فيه أنه يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البانيين، ويجوز أن يكون بين البنائين، فإذا عادلت بين البانيين، كان المعنى المؤسس بنيانه متقيا خير، أم المؤسس بنيانه غير متق، لأن قوله (على شفا جرف) يدل على أن بانيه غير متق لله تعالى، ولا خاش له، ويجوز أن يقدر حذف المضاف كأنه قال: أبناء من أسس بنيانه متقيا خير، أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف. والبنيان: مصدر أوقع على المبنى مثل الخلق إذا عنيت به المخلوق، وضرب الأمير إذا عنيت به المضروب، وكذلك نسج اليمن، يدلك على ذلك أنه لا يخلو من أن يراد به إسم الحدث، أو إسم العين، فلا يجوز أن يكون الحدث، لأنه إنما يؤسس المبنى الذي هو عين، ويبين ذلك أيضا قوله (على شفا جرف) والحدث لا يعلو شفا جرف، والجار في قوله (على تقوى من الله) وقوله (على شفا جرف هار) في موضع نصب على الحال، تقديره أفمن أسس بنيانه متقيا، خيرا، أم من أسس (1) قنة الحجر: موضع. وأقوين أي: أقفرن من أقوت الدار: خلت من ساكنيها. وحجج جمع حجة: السنة. وفي شرح الأشموني (أقوين مذ حجج ومذ دهر) ولمحمد محيي الدين في شرحه كلام طويل فراجع ج 3: 309 - 311. (*)
[ 125 ]
بنيانه غير متق أو معاقبا على بنائه. وفاعل إنهار البنيان أي إنهار البنيان بالباني في نار جهنم، لأنه معصية وفعل لما كرهه الله تعالى، من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين. ومن أمال (هار) فقد أحسن لما في الراء من التكرير، فكأنك لفظت براءين مكسورتين، وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة، ومن لم يمل فلأن ترك الإمالة هو الأصل وقوله (إلا أن تقطع قلوبهم): موضع (أن تقطع) نصب تقديره إلا على تقطع قلوبهم، غير أن حرف الإضافة يحذف مع أن، ولا يحذف مع المصدر، ومعنى (إلا) ههنا (حتى) لأنه استثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منته إليه فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على هذا المعنى. النزول: قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يأتيهم، فأتاهم وصلى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقن من بني غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجدا، فنصلي فيه، ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا إثني عشر رجلا، وقيل: خمسة عشر رجلا، منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحرث. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، فلما فرغوا منه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله ! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة، والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا، وتدعو بالبركة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلينا لكم فيه. فلما انصرف رسول الله من تبوك، نزلت عليه الآية في شأن المسجد. المعنى: ثم ذكر سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجدا، للتفريق بين المسلمين، وطلب الغوائل للمؤمنين، فقال: (والذين اتخذوا مسجدا) والمسجد: موضع السجود في الأصل، وصار بالعرف إسما لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة، فالاسم عرفي فيه معنى اللغة (ضرارا) أي مضارة، يعني الضرر بأهل مسجد قباء، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ليقل الجمع فيه (وكفرا) أي: ولإقامة الكفر فيه. وقيل: أراد أنه كان اتخاذهم ذلك كفرا بالله. وقيل: ليكفروا فيه بالطعن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإسلام. (وتفريقا بين المؤمنين) أي: لاختلاف الكلمة، وإبطال الإلفة، وتفريق
[ 126 ]
الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: أرصدوا ذلك المسجد، واتخذوه، وأعدوا لأبي عامر الراهب، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل، وكان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المدينة، حسده، وحزب عليه الأحزاب، ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف، لحق بالشام، وخرج إلى الروم، وتنصر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أحد، وكان جنبا فغسلته الملائكة، وسمى رسول الله صلى الله عليه وآله مسلم، أبا عامر الفاسق. وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدوا، وابنوا مسجدا، فإني أذهب إلى قيصر، وآتي من عنده بجنود، وأخرج محمدا من المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم. (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) معناه: أن هؤلاء يحلفون كاذبين: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى، من التوسعة على أهل الضعف، والعلة من المسلمين، فأطلع الله نبيه على فساد طويتهم (1)، وخبث سريرتهم، فقال: (والله يشهد أنهم لكاذبون) وكفى لمن يشهد الله سبحانه بكذبه خزيا، فوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عند قدومه من تبوك، عاصم بن عوف العجلاني، ومالك بن الدخشم، وكان مالك من بني عمرو بن عوف، فقال لهما: إنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، وحرقاه. وروي أنه بعث عمار بن ياسر ووحشيا، فحرقاه، وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف. ثم نهى الله سبحانه أن يقوم في هذا المسجد، فقال: (لا تقم فيه أبدا) أي لا تصل فيه أبدا، يقال فلان يقوم بالليل أي: يصلي، ثم أقسم فقال (لمسجد) أي: والله لمسجد (أسس على التقوى) أي: بني أصله على تقوى الله، وطاعته (من أول يوم) أي: منذ أول يوم وضع أساسه، عن المبرد (أحق أن تقوم فيه) أي: أولى بأن تصلي فيه. واختلف في هذا المسجد، فقيل: هو مسجد قباء، عن ابن عباس، والحسن، وعروة بن الزبير. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن زيد بن (1) الطوية: النية والضمير. (*)
[ 127 ]
ثابت، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري. وروى هو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هو مسجدي هذا. وقيل: هو كل مسجد بني للإسلام، وأريد به وجه الله، عن أبي مسلم. ثم وصف المسجد وأهله فقال: (فيه) أي: في هذا المسجد الذي أسس على التقوى (رجال يحبون أن يتطهروا) أي: يحبون أن يصلوا لله تعالى، متطهرين بأبلغ الطهارة. وقيل: يحبون أن يتطهروا من الذنوب، عن الحسن. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط والبول، وهو المروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال لأهل قباء: ماذا تفعلون في طهركم، فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء ؟ قالوا: نغسل أثر الغائط، فقال: أنزل الله فيكم (والله يحب المطهرين) أي: المتطهرين. ثم قرر سبحانه الفرق بين المسجدين فقال: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار) قد مضى بيانه، والمراد أن الله تعالى شبه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته، فكما أن من بنى على جانب هذا النهر، فإنه ينهار بناؤه في الماء، ولا يثبت، فكذلك بناء هؤلاء، ينهار ويسقط في نار جهنم، يعني: أنه لا يستوي عمل المتقي، وعمل المنافق، فإن عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم، مبني على أصل صحيح ثابت، وعمل المنافق ليس بثابت، وهو واه ساقط، والألف في قوله (أفمن) ألف استفهام يراد به الإنكار ههنا، وليس معنى (خير) في الآية، أفضل، بل هو كما يقال: هذا خير، وهذا شر، وقال الشاعر: والخير، والشر: مقرونان في قرن فالخير متبع، والشر محذور وأما قوله: (وافعلوا الخير) فإن معناه: وافعلوا الأفضل وقوله (فانهار به في نار جهنم) أي: يوقعه ذلك البناء في نار جهنم (والله لا يهدي القوم الظالمين) مر بيانه. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: رأيت المسجد الذي بنى ضرارا، يخرج منه الدخان (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) أي: لا يزال بناء المبني الذي بنوه، شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار إسلامهم، وثباتا على النفاق. وقيل: إن معناه حزازة في قلوبهم. وقيل: حسرة في قلوبهم يترددون فيها (إلا أن
[ 128 ]
تقطع قلوبهم) معناه: إلا أن يموتوا. والمراد بالآية أنهم لا ينزعون عن الخطيئة، ولا يتوبون حتى يموتوا على نفاقهم وكفرهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان، وأخذوا به من الكفر. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (والله عليم) أي: عالم بنيتهم في بناء مسجد الضرار (حكيم) في أمره بنقضه، والمنع من الصلاة فيه. (* إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (111) التاءبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (فيقتلون) بضم الياء، (ويقتلون) بفتح الياء. والباقون: (فيقتلون) بفتح الياء، (ويقتلون) بضمها. وفي قراءة أبي وعبد الله بن مسعود، والأعمش: (التائبين العابدين) بالياء إلى آخرها، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام. الحجة: قال أبو علي: من قرأ: (فيقتلون ويقتلون) فقدم الفعل المسند إلى الفاعل، فلأنهم يقتلون أولا في سبيل الله، ويقتلون ولا يقتلون، إذا قتلوا. ومن قدم الفعل المسند إلى المفعول به، جاز أن يكون في المعنى مثل الأول، لأن المعطوف بالواو، يجوز أن يراد به التقديم، فإن لم يقدر فيه التقديم، كان المعنى في قوله (فيقتلون) بعد قوله (يقتلون) بقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل. وأما الرفع في قوله (التائبون العابدون): فعلى القطع والاستئناف أي: هم التائبون، ولكون على المدح. وقيل: إنه رفع على الابتداء، وخبره محذوف بعد قوله (والحافظون لحدود الله) أي: لهم الجنة أيضا، عن الزجاج. وقيل إنه رفع على البدل من الضمير في (يقاتلون) أي: يقاتل التائبون. وأما (التائبين
[ 129 ]
والعابدين) فيحتمل أن يكون جرا، وأن يكون نصبا، أما الجر فعلى أن يكون وصفا للمؤمنين أي: من المؤمنين التائبين، وأما النصب فعلى إضمار فعل بمعنى المدح، كأنه قال أعني وأمدح التائبين. اللغة: السائح: من ساح في الأرض يسيح سيحا: إذا استمر في الذهاب، ومنه السيح: الماء الجاري، ومن ذلك يسمى الصائم سائحا، لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى. الاعراب: (وعدا) نصب على المصدر، لأن قوله (اشترى) يدل على أنه وعد، ومثله (صنع الله الذي اتقن كل شئ)، و (فطرة الله التي فطر الناس عليها). المعنى: لما تقدم ذكر المؤمنين والمنافقين، عقب سبحانه بالترغيب في الجهاد، فقال: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) حقيقة الإشتراء لا تجوز على الله تعالى، لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه، وهو عز إسمه مالك الأشياء كلها، لكنه مثل قوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) في أنه ذكر لفظ الشراء والقرض تلطفا، لتأكيد الجزاء، ولما كان سبحانه ضمن الثواب على نفسه، عبر عن ذلك بالاشتراء، وجعل الثواب ثمنا، والطاعات مثمنا، على ضرب من المجاز، وأخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد في سبيل الله، وأموالهم أيضا ينفقونها ابتغاء مرضاة الله، على أن يكون في مقابلة ذلك الجنة. وروي عن الأعمش أنه قرأ: بالجنة، وهي قراءة عمر بن الخطاب. والجهاد قد يكون بالسيف، وقد يكون باللسان، وربما كان جهاد السان أبلغ، لأن سبيل الله دينه، والدعاء إلى الدين يكون أولا باللسان، والسيف تابع له، ولأن إقامة الدليل على صحة المدلول، أولى، وإيضاح الحق وبيانه أحرى، وذلك لا يكون إلا باللسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي ! لئن يهدي الله على يديك نسمة، خير مما طلعت عليه الشمس). وإنما ذكر سبحانه شراء النفس والمال، لأن العبادات على ضربين: بدنية ومالية، ولا ثالث لهما. ويروى أن الله سبحانه تاجر المؤمنين، فأغلى لهم الثمن،
[ 130 ]
فجعل ثمنهم الجنة. وكان الصادق عليه السلام يقول: أيا من ليست له همة ! إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها، وأنشد الأصمعي للصادق عليه السلام. أثامن بالنفس النفيسة ربها فليس لهافي الخلق كلهم ثمن بها نشتري الجنات إن أنا بعتها بشئ سواها إن ذلكم غبن إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها فقد ذهب الدنيا، وقد ذهب الثمن (يقاتلون في سبيل الله): هذا بيان للغرض الذي لأجله اشتراهم (فيقتلون) المشركين (ويقتلون) أي: ويقتلهم المشركون، يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا. ومن قرأ (فيقتلون ويقتلون): فهو المختار عن الحسن، لأنه يكون تسليم النفس إلى المشتري أقرب، والبائع إنما يستحق الثمن بتسليم المبيع (وعدا عليه حقا) معناه: إن إيجاب الجنة لهم وعد على الله حق لا شك فيه، وتقديره وعدهم الله الجنة على نفسه وعدا حقا، أي: صدقا واجبا، لا خلف فيه (فيه التوراة والإنجيل والقرآن) وهذا يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال وعدوا عليه الجنة، عن الزجاج (ومن أوفى بعهده من الله) معناه: لا أحد أوفى بعهده من الله، لأنه يفي، ولا يخلف بحال (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) فافرحوا بهذه المبايعة، حتى ترى آثار السرور في وجوهكم، بسبب هذه المبايعة، لأنكم بعتم الشئ من مالكه، وأخذتم ثمنه، ولأنكم بعتم فانيا بباق وزائلا بدائم. (وذلك هو الفوز العظيم) أي: ذلك الشراء والبيع، الظفر الكبير الذي لا يقاربه شئ. ثم وصف الله سبحانه المؤمنين الذين اشترى منهم الأنفس والأموال، بأوصاف، فقال: (التائبون) أي: الراجعون إلى طاعة الله، والمنقطعون إليه، النادمون على ما فعلوه من القبائح (العابدون) أي: الذين يعبدون الله وحده، ويتذللون له بطاعته في أوامره ونواهيه. وقيل: هم الذين أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم، فعبدوا الله في السراء والضراء، عن الحسن، وقتادة (الحامدون) أي: الذين يحمدون الله على كل حال، عن الحسن. وقيل: هم الشاكرون لنعم الله على وجه الإخلاص له (السائحون) أي: الصائمون عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد. وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: سياحة أمتي الصيام. وقيل: هم الذين يسيحون في الأرض، فيعتبرون بعجائب الله تعالى. وقيل: هم طلبة العلم
[ 131 ]
يسيحون في الأرض لطلبه، عن عكرمة (الراكعون الساجدون) أي: المؤدون للصلاة المفروضة التي فيها الركوع والسجود. (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) أدخل الواو هنا، لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر، فكأنهما شئ واحد، ولأنه قرن النهي عن المنكر بالأمر بالمعروف في أكثر المواضع، فأدخل الواو ليدل على المقارنة. (والحافظون لحدود الله) أي: والقائمون بطاعة الله، عن ابن عباس، يعني: الذين يؤدون فرائض الله وأوامره، ويجتنبون نواهيه، لأن حدود الله أوامره ونواهيه، وإنما أدخل الواو لأنه جاء وهو أقرب إلى المعطوف (وبشر المؤمنين) هذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يبشر المصدقين بالله، المعترفين بنبوته، بالثواب الجزيل، والمنزلة الرفيعة، خاصة، إذا جمعوا هذه الأوصاف. وقد روى أصحابنا أن هذه صفات الأئمة المعصومين عليهم السلام، لأنه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها وكمالها غيرهم. ولقي الزهري علي بن الحسين عليه السلام، في طريق الحج، فقال له: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت إلى الحج، والله سبحانه يقول (إن الله اشترى من المؤمنين) الآية ؟ فقال عليه السلام له: أتم الآية الأخرى (التائبون العابدون) إلى آخرها، ثم قال: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج. (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربا من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114). اللغة: أصل الأواه: من التأوه، وهو التوجع والتحزن، يقال: تأوه تأوها، وأوه تأويها، قال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين (1) (1) وفي اللسان: قيل: ويروى (تهوه هاهة الرجل الحزين). وتأوه أصله تتأوه، وقيل: إنه وضع الاسم موضع المصدر، أي: تأوه تأوه الرجل. (*)
[ 132 ]
ولو جاء منه فعل مصرفا، لكان آه يؤوه أوها، مثل قال يقول قولا، والعرب تقول: أوه من كذا، بكسر الواو، وتسكين الهاء، قال: فأوه بذكراها إذا ما ذكرتها، ومن بعد أرض دونها، وسماء والعامة تقول: أوه، وفيه خمس لغات: أوه بسكون الواو وكسر الهاء، وأو، وآه بالتنوين، وأوه، وأوه. المعنى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ومعناه: ليس للنبي والمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر، والذين لا يوحدونه، ولا يقرون بإلهيته (ولو كانوا أولي قربى) أي: ولو كان الذين يطلبون لهم المغفرة أقرب الناس إليهم (من بعد ما بين لهم أنهم أصحاب الجحيم) أي: من بعد أن يعلموا أنهم كفار مستحقون للخلود في النار. وفي تفسير الحسن: إن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وبين أنه لا ينبغي لنبي، ولا مؤمن، أن يدعو لكافر، ويستغفر له وقوله: (ما كان للنبي) أبلغ من أن يقول لا ينبغي للنبي، لأنه يدل على قبحه، وأن الحكمة تمنع منه، ولو قال لا ينبغي، لم يدل على أن الحكمة تمنع منه، وإنما كان يدل على أنه لا ينبغي أن يختاره، ومعناه: لم يجعل الله في دينه، ولا في حكمه أن يستغفرون للمشركين، ولو دعتهم رقة القرابة، وشفقة الرحم إلى الاستغفار لهم بعد ما ظهر (أن لهم عذابا عظيما) ثم بين سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا سواء كان أباه الذي ولده، أو جده لأمه، أو عمه على ما رواه أصحابنا، فقال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) أي: لم يكن استغفاره له إلا صادرا عن موعدة وعدها إياه. واختلف في صاحب هذه الموعدة: هل هو إبراهيم وأبوه، فقيل: إن الموعده كانت من الأب، وعد بها إبراهيم، أنه يؤمن إن استغفر له لذلك (فلما تبين له أنه عدو لله) ولا يفي بما وعد (تبرأ منه) وترك الدعاء له، وهو المروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، إلا أنهم قالوا: إنما تبين عداوته لما مات على كفره. وقيل: إن الموعدة كانت من إبراهيم قال لأبيه: إني استغفر لك ما دمت حيا، وكان يستغفر له
[ 133 ]
مقيدا بشرط الإيمان، فلما آيس من إيمانه تبرأ منه وهذا يوافق قراءة الحسن: إلا عن موعدة وعدها أباه، ويقويه قوله: إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شئ. (إن إبراهيم لأواه) أي: دعاء كثير الدعاء والبكاء، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: الأواه، الرحيم بعباد الله، عن الحسن وقتادة. وقيل: هو الذي إذا ذكر النار قال: أوه، عن كعب. وقيل: الأواه المؤمن بلغة الحبشة، عن ابن عباس. وقيل: الأواه الموقن المستيقن، عن مجاهد، وعكرمة. وقيل: الأواه العفيف عن النخعي. وقيل: هو الراجع عن كل ما يكره الله عز وجل، عن عطا. وقيل: هو الخاشع المتضرع، رواه عبد الله بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو المسبح الكثير الذكر لله سبحانه، عن عقبة بن عامر. وقيل: هو المتأوه شفقا وفرقا، المتضرع يقينا بالإجابة، ولزوما للطاعة، عن أبي عبيدة. وقال الزجاج: وقد انتظم قول أبي عبيدة أكثر ما روي في الأواه (حليم) يقال بلغ من حلم إبراهيم عليه السلام أن رجلا قد أذاه وشتمه، فقال له: هداك الله. وقيل: الحليم السيد، عن ابن عباس، وأصله أنه الصبور على الأذى، الصفوح عن الذنب. النظم: لما تقدم ذكر الكفار والمنافقين، والمنع من موالاتهم، والصلاة عليهم، والقيام على قبرهم للدعاء لهم، نهي عن دعائهم بعد موتهم. ولما نهى الله النبي والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين، ذكر قصة إبراهيم وعذره في الاستغفار لأبيه. وأما قوله (إن إبراهيم لأواه حليم): فإنما اتصل بما قبله، بأنه إذا كان له صفة الرأفة والرحمة، يكون في دعائه أخلص، وعلى خلاص أقربائه من العذاب أحرص، ومع ذلك تبرأ منه لما يئس من فلاحه. (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم (115) إن الله له ملك السماوات والأرض يحى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (116). النزول: قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض،
[ 134 ]
فقال المسلمون: يا رسول الله ! إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض، ما منزلتهم ؟ فنزل (وما كان الله ليضل قوما) الآية، عن الحسن. المعنى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم) أي: وما كان الله ليحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم (حتى يبين لهم ما يتقون) من الأمر بالطاعة، والنهى عن المعصية، فلا يتقون، فعند ذلك يحكم بضلالتهم. وقيل: وما كان الله ليعذب قوما فيضلهم عن الثواب، والكرامة، وطريق الجنة، بعد إذ هداهم، ودعاهم إلى الإيمان، حتى يبين لهم ما يستحقون به الثواب والعقاب، من الطاعة والمعصية. وقيل: لما نسخ بعض الشرائع، وقد غاب أناس وهم يعملون بالأمر الأول، إذ لم يعلموا بالأمر الثاني، مثل تحويل القبلة، وغير ذلك، وقد مات الأولون على الحكم الأول، سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن ذلك، فأنزل الله الآية، وبين أنه لا يعذب هؤلاء على التوجه إلى القبلة الأولى، حتى يسمعوا بالنسخ، ولا يعملوا بالناسخ، فحينئذ يعذبهم عن الكلبي. (إن الله بكل شئ عليم): يعلم جميع المعلومات حتى لا يشذ شئ منها عنه، لكونه عالما لنفسه (إن الله له ملك السموات والأرض) الملك: اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير (يحيي ويميت) أي: يحيي الجماد، ويميت الحيوان (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) أي: ليس لكم سواه حافظ يحفظكم، وولي يتولى أمركم، ولا ناصر ينصركم، ويدفع العذاب عنكم. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إن الله سبحانه لما حرم على المؤمنين أن يستغفروا للمشركين، بين سبحانه أنه لا يأخذهم بذلك، إلا بعد أن يدلهم على تحريمه، عن مجاهد. ووجه اتصال الآية الثانية بما قبلها: الحض على ما تقدم ذكره من جهاد المشركين ملوكهم وغير ملوكهم، لأنهم عبيد من له ملك السماوات والأرض، يأمرهم بما يشاء، ويدبرهم على ما يشاء، عن علي بن عيسى. (لقد تاب الله عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117) وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت
[ 135 ]
عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلآ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118). القراءة: قرأ حمزة، وحفص، عن عاصم: (يريغ) بالياء، وهي قراءة الأعمش. والباقون: (تزيغ) بالتاء. والقراءة المشهورة: (الذين خلفوا) وقرأ علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وأبو جعفر محمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام وأبو عبد الرحمن السلمي: (خالفوا) وقرأ عكرمة، وزر بن حبيش، وعمرو بن عبيد: (خلفوا) بفتح الخاء واللام خفيفة. الحجة: قال أبو علي: يجوز أن يكون فاعل (كاد) أحد ثلاثة أشياء الأول: أن تضمر فيها القصة، والحديث، ويكون (تزيغ) الخبر، وجاز ذلك فيها وإن كان الأصل في إضمار القصة إنما هو في الإبتداء، لأن الخبر لازم لكاد، فأشبه العوامل الداخلة على الإبتداء، للزوم الخبر له قال: ولا يجوز ذلك في (عسى) لأن (عسى) قد يكون فاعله المفرد في كثير من الأمر، فلا يلزمه الخبر كقوله (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) فإذا كان كذلك، لم يحتمل الضمير الذي يحتمله (كاد) كما لم يحتمله سائر الأفعال التي تسند إلى فاعليها مما لا يدخل على المبتدأ. والثاني: أن يضمر في (كاد) ذكر مما تقدم لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمهاجرون والأنصار قبيلا واحدا، وفريقا واحدا، جاز أن يضمر في (كاد) ما دل عليه ما تقدم ذكره من القبيل، والحزب، والفريق، ونحو ذلك، من الأسماء المفردة الدالة على الجمع. وقال منهم: فحمله على المعنى مثل قوله: (آمن بالله واليوم الآخر) ثم قال: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فكذلك فاعل كاد على هذا الوجه. الثالث: أن يكون فاعل كاد القلوب، وتقديره من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ولكنه قدم تزيغ كما تقدم خبر كان، وجاز تقديمه، وإن كان فيه ذكر من القلوب، ولم يمتنع من حيث يمتنع الإضمار قبل الذكر، لما كان النية به التأخير، كما لم يمتنع ضرب غلامه زيد، لما كان التقدير به التأخير.
[ 136 ]
فأما من قرأ: (يزيغ) بالياء، فيجوز أن يكون قد ذهب إلى أن في (كاد) ضمير الحديث، فيرتفع قلوب بيزيغ، فذكر، وإن كان فاعله مؤنثا، لتقدم الفعل. ومن قرأ (تزيغ) بالتاء، جاز أن يكون ذهب إلى أن القلوب مرتفعة بكاد، وجاز أن يكون الفعل المسند إلى القصة، أو الحديث، يؤنث إذا كان في الجملة التي يفسرها مؤنث كقوله (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) وجاز تأنيث هي التي هي ضمير القصة، لذكر الأبصار المؤنثة في الجملة التي هي التفسير، فكذلك يؤنث الذي في كاد لذكر المؤنث في الجملة المفسرة، فتقول: كادت، وتدغم التاء التي هي علامة التأنيث في تاء تزيغ وتزيغ على هذا للقلوب، وهي مرتفعة به، ويجوز إلحاق التاء بكاد من وجه آخر، وهي أن ترفع قلوب فريق بكاد، فتلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسندا إلى مؤنث. ومن قرأ (خلفوا): فتأويله أقاموا ولم يبرحوا. ومن قرأ (خالفوا) فمعناه: عائد إلى ذلك لأنهم إذا خالفوهم، فأقاموا، فقد خلفوا هناك. اللغة: الزيغ: ميل القلب عن الحق، ومنه قوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وزاغت الشمس إذا مالت، وزاغ عن الطريق: جاز وعدل. والتخليف: تأخير الشئ عمن مضى. فأما تأخير الشئ عنك في المكان، فليس بتخليف، وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه، يقال خلفه أي: جعله خلفه، فهو مخلف. ورحبت البلاد: إذا اتسعت. والرحب: السعة، ومنه مرحبا أي: رحبت بلادك وأهلت. والضيق: ضد السعة. والظن: هنا بمعنى اليقين، كما في قول دريد بن الصمة: فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد (1) النزول: نزلت الآية الأولى في غزاة تبوك، وما لحق المسلمين فيها من العسرة، حتى هم قوم بالرجوع، ثم تداركهم لطف الله سبحانه. قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، والإهالة (1) المدجج: اللابس السلاح. والسراة: الأسد. وسراة القوم: سادتهم. والمسرد: الدرع. وقد مر في ج 1 أيضا. (*)
[ 137 ]
السنخة (1). وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم، أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء، كذلك حتى يأتي على آخرهم، فلا يبقى من التمرة إلا النواة. قالوا: وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة، تخلف إلى أن مضى من مسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أيام، ثم دخل يوما على امرأتين له، في يوم حار، في عريشين لهما، قد رتبتاهما، وبردتا الماء، وهيأتا له الطعام، فقام على العريشين، وقال: سبحان الله ! رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، في الفتح والريح والحر والقر يحمل سلاحه على عاتقه، وأبو خيثمة في ظلال باردة، وطعام مهيأ، وامرأتين حسناوين، ما هذا بالنصف ! ثم قال: والله لا أكلم واحدة منكما كلمة، ولا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأناخ ناضحه، واشتد عليه، وتزود، وارتحل وامرأتاه تكلمانه، ولا يكلمهما، ثم سار حتى إذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا خيثمة أولى لك. فلما دنا، قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله. فأناخ راحلته، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه السلام: أولى لك. فحدثه الحديث، فقال له خيرا، ودعا له، وهو الذي زاغ قلبه للمقام، ثم ثبته الله. وأما الآية الثانية: فإنها نزلت في شأن كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخرجوا معه، لا عن نفاق، ولكن عن توان، ثم ندموا. فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، جاؤوا إليه، واعتذروا، فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم، فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلن له: يا رسول الله ! نعتزلهم ؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم المدينة، فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام، ولا يكلمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس، ولا يكلمنا أحد منهم، فهلا نتهاجر نحن أيضا ! فتفرقوا، ولم يتجمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوما، يتضرعون إلى الله تعالى، ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم، وأنزل فيهم هذه الآية. (1) ساس الطعام: وقع فيه السوس، وهو دود يأكل الحب. والمدود: الطعام الذي صار فيه الدود، وكل شئ من الأدهان مما يؤتدم به إهالة. وقيل: الدسم الجامد. والسنخة: المتغيرة الريح. (*)
[ 138 ]
المعنى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) أقسم الله تعالى في هذه الآيه، لأن لام (لقد) لام القسم، بأنه سبحانه قبل توبتهم وطاعاتهم، وإنما ذكر اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفتاحا للكلام، وتحسينا له، ولأنه سبب توبتهم، وإلا فلم يكن منه ما يوجب التوبة. وقد روي عن الرضا علي بن موسى عليه السلام، أنه قرأ: (لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار) (الذين اتبعوه) في الخروج معه إلى تبوك (في ساعة العسرة) وهي صعوبة الأمر. قال جابر: يعني عسرة الزاد، وعسرة الظهر، وعسرة الماء. والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل زمان. وقال عمر بن الخطاب: أصابنا حر شديد، وعطش، فأمطر الله سبحانه السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعشنا بذلك (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) عن الجهاد، فهموا بالإنصراف من غزاتهم، من غير أمر، فعصمهم الله تعالى من ذلك، حتى مضوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثم تاب عليهم) من بعد ذلك الزيغ، ولم يرد بالزيغ هاهنا الزيغ عن الإيمان (إنه بهم رؤوف رحيم) تداركهم برحمته، والرأفة أعظم من الرحمة (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) قال مجاهد: معناه خلفوا عن قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبتهم من المنافقين، كما قال سبحانه فيما مضى: (وآخرون مرجون لأمر الله أما يعذبهم وإما يتوب عليهم) وقال الحسن، وقتادة: معناه خلفوا عن غزوة تبوك لما تخلفوا هم. واما قراءة أهل البيت عليهم السلام: (خالفوا) فإنهم قالوا: لو كانوا خلفوا لما توجه عليهم العتب، ولكنهم خالفوا. (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) أي: برحبها، وما هاهنا مصدرية ومعناه: ضاقت عليهم الأرض مع اتساعها، وهذه صفة من بلغ غاية الندم حتى كأنه لا يجد لنفسه مذهبا، وذلك بأن النبي أمر الناس بأن لا يجالسوهم، ولا يكلموهم كما مر ذكره، لأنه كان نزلت توبة الناس، ولم تنزل توبتهم، ولم يكن ذلك على معنى رد توبتهم، لأنهم كانوا مأمورين بالتوبة، ولا يجوز في الحكمة رد توبة من يتوب في وقت التوبة، ولكن الله سبحانه أراد بذلك تشديد المحنة عليهم في تأخير انزال توبتهم، وأراد بذلك استصلاحهم، واستصلاح غيرهم، لئلا يعودو إلى مثله. (وضاقت عليهم أنفسهم): هذه عبارة عن المبالغة في الغم، حتى كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه. وقيل: معنى ضيق أنفسهم: ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) أي: وأيقنوا أنه لا
[ 139 ]
يعصمهم من الله موضع يعتصمون به ويلجأون إليه غيره تعالى، ومعناه: علموا أنه لا معتصم من الله إلا به، وأن لا ينجيهم من عذاب الله إلا التوبة. (ثم تاب عليهم ليتوبوا) أي: ثم سهل الله عليهم التوبة حتى تابوا. وقيل: ليتوبوا أي: ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية. وقيل: معناه ثم تاب على الثلاثة، وأنزل توبتهم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم، لعلمهم بأن الله سبحانه قابل التوبة. قال الحسن: أما والله ما سفكوا من دم، ولا أخذوا من مال، ولا قطعوا من رحم، ولكن المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتخلف هؤلاء، وكان أحدهم تخلف بسبب ضيعة له، والآخر لأهله، والآخر طلبا للراحة، ثم ندموا وتابوا، فقبل الله توبتهم (إن الله هو التواب) أي: الكثير القبول للتوبة (الرحيم) بعباده. النظم: اتصلت الآية الاولى بقوله: (التائبون) الآية، اثنى الله سبحانه عليهم هناك، وبين في هذه الآية قبول توبتهم، ورضاه عنهم باتباعهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة العسرة، عن أبي مسلم. وقيل: إنه سبحانه لما ذكر أن له ملك السماوات والأرض، ولا ناصر لأحد دونه، بين عقيبه رحمته بالمؤمنين، ورأفته بهم، في قبول توبتهم. (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)). القراءة: في مصحف عبد الله، وقراءة ابن عباس: (من الصادقين) وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. اللغة: الصادق: هو القائل بالحق، العامل به، لأنه صفة مدح، ولا يطلق إلا على من يستحق المدح على صدقه. المعنى: ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين المصدقين بالله، المقرين بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي: اتقوا معاصي الله واجتنبوها (وكونوا مع الصادقين) الذين يصدقون في أخبارهم، ولا يكذبون، ومعناه: كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله وأفعاله، وصاحبوهم ورافقوهم، كقولك أنا مع فلان في هذه المسألة أي: أقتدي به فيها. وقد وصف الله الصادقين في سورة البقرة بقوله (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) إلى قوله (أولئك الذين صدقوا
[ 140 ]
وأولئك هم المتقون) فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء الصادقين المتقين. وقيل: المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله في كتابه وهو قوله: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه)، يعني حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب. (ومنهم من ينتظر) يعني علي بن أبي طالب عليه السلام. وروى الكلبي: عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كونوا مع الصادقين، مع علي وأصحابه. وروى جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله (وكونوا مع الصادقين) قال. مع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: مع النبيين والصديقين في الجنة بالعمل الصالح في الدنيا، عن الضحاك. وقيل: مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، عن نافع. وقيل: مع الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتخلفوا عنه، عن ابن عباس. وقيل: ان معنى (مع) هنا معنى (من) فكأنه أمر بالكون من جملة الصادقين، ويعضده قراءة من قرأ (من الصادقين) والمعنيان متقاربان هنا، لأن (مع) للمصاحبة، و (من) للتبعيض، فإذا كان من جملتهم، فهو معهم وبعضهم. وقال ابن مسعود: لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه، ثم لا ينجز له، اقرأوا إن شئتم هذه الآية، هل ترون في الكذب رخصة ؟ (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121). اللغة: الرغبة: طلب المنفعة، يقال: رغب فيه: إذا طلب المنفعة به، ورغب عنه: إذا طلب المنفعة بتركه. والظمأ: شدة العطش. والنصب: التعب، ومثله الوصب، قال النابغة:
[ 141 ]
كليني لهم يا أقيمة ناصب وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1) والمخمصة: المجاعة، وأصله ضمور البطن للمجاعة. ورجل خميص البطن، وامرأة خمصانة: ضامرة البطن. والموطئ: الأرض. والغيظ: انتقاض الطبع بما يرى مما يسوؤه يقال: غاظه، يغيظه. المعنى: لما قص الله سبحانه قصة الذين تأخروا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك، ثم اعتذارهم عن ذلك، وتوبتهم منه، وأنه قبل توبة من ندم على ما كان منه لرأفته بهم، ورحمته عليهم، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم، والإزراء على ما كانوا فعلوه، فقال: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ظاهره خبر، ومعناه نهي، مثل قوله: (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي: ما كان يجوز، وما كان يحل لأهل مدينة الرسول، ومن حولهم من سكان البوادي، ان يتخلفوا عنه في غزاة تبوك وغيرها، بغير عذر. وقيل: انه مزينة، وجهينة، وأشجع، وغفار، وأسلم. (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) أي: ما كان يجوز لهم، ولجميع المؤمنين أن يطلبوا نفع نفوسهم بتوقيتها دون نفسه، وهذه فريضة ألزمهم الله إياها لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما دعاهم إليه من الهدى الذي اهتدوا به، وخرجوا من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. وقيل: معناه ولا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة، ورسول الله في الحر والمشقة. يقال: رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي: ترفعت عنه، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (ذلك) أي: ذلك النهي لهم، والزجر عن التخلف (بأنهم لا يصيبهم ظمأ) أي: عطش (ولا نصب) أي: ولا تعب في أبدانهم (ولا مخمصة في سبيل الله) أي: ولا مجاعة وهي شدة الجوع في طاعة الله (ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار) أي: لا يضعون أقدامهم موضعا يغيظ الكفار وطؤهم إياه، يعني دار الحرب، فإن الإنسان يغيظه ويغضبه أن يطأ غيره موضعه (ولا ينالون من عدو نيلا) أي: ولا يصيبون من المشركين أمرا، من قتل، أو جراحة، أو مال، أو أمر يغمهم، ويغيظهم (إلا كتب لهم به عمل صالح) وطاعة رفيعة (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي: الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي يستحق بها المدح (1) الشعر في جامع الشواهد. (*)
[ 142 ]
والثواب. وفي هذا تحريض على الجهاد وأعمال الخير. (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) أي: ولا ينفقون في الجهاد، ولا في غيره من سبل الخير والمعروف ؟ نفقة قليلة ولا كثيرة، يريدون بذلك اعزاز دين الله، ونفع المسلمين، والتقرب بذلك إلى الله تعالى (ولا يقطعون واديا) أي: ولا يجاوزون واديا (إلا كتب لهم) ثواب ذلك (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) أي: يكتب طاعاتهم ليجزيهم عليها بقدر استحقاقهم، ويزيدهم من فضله حتى يصير الثواب أحسن وأكثر من عملهم. وقيل: ان الأحسن من صفة فعلهم، لأن الأعمال على وجوه: واجب، ومندوب، ومباح. وإنما يجازي على الواجب والمندوب، دون المباح، فيقع الجزاء على أحسن الأعمال. وقيل: معناه ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون. قال ابن عباس: يرضيهم بالثواب، ويدخلهم الجنة بغير حساب. والآيتان تدلان على وجوب الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحظر التخلف عنه، وقد اختلف في ذلك، فقيل: المراد بذلك جميع من دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد، وهو الصحيح. وقيل: المراد به أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب. ثم اختلف فيه من وجه آخر فقيل: إنه خاص في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس لأحد أن يتخلف عنه في الجهاد إلا لعذر. فأما غيره من الأئمة فيجوز التخلف عنه، عن قتادة. وقيل: ان ذلك لأول هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله، عن الأوزاعي، وابن المبارك. وقيل: إن هذا كان في ابتداء الإسلام، وفي أهله قلة، فأما الآن وقد كثر الإسلام وأهله، فإنه منسوخ بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) الآية، عن ابن زيد. وهذا هو الأقوى، لأنه لا خلاف أن الجهاد من فروض الكفايات، فلو لزم كل أحد، لصار من فروض الأعيان. (* وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122) يا أيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعملوا أن الله مع المتقين (123) وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول
[ 143 ]
أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125). اللغة: التفقه: تعلم الفقه. والفقه: العلم بالشئ. وفي حديث سلمان أنه قال لامرأة فقهت أي: علمت وفهمت. فأما فقهت، بضم القاف: فمعناه صارت فقيهة. وقد اختص في العرف بعلم الأحكام الشرعية، فيقال لكل عالم بها فقيه. وقيل: الفقه: فهم المعاني المستنبطة، ولذلك لا يقال الله سبحانه فقيه. والحذر، تجنب الشئ بما فيه من المضرة. قال الزجاج. يقال غلظة وغلظة وغلظة ثلاث لغات. قال أبو الحسن: قراءة الناس بالكسر، وهي العربية، والمراد بالمرض في الآية: الشك، فإنه فساد في القلب يحتاج إلى العلاج، كما أن الفساد في البدن يحتاج إلى مداواة. ومرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر، ودواؤه أعز، وأطباؤه أقل. الاعراب: (لولا نفر) بمعنى هلا نفر، وهي للتحضيض إذا دخلت على الفعل، فإذا دخلت على الإسم، فمعناها امتناع الشئ لأجل وجود غيره، (ليتفقهوا) أي: ليتفقه باقوهم لأنه إذا نفر طائفة منهم تفقه من بقي منهم، وإن شئت فمعناه ليتفقه كلهم، لأنه من نفر منهم إذا رجع استعلم من بقي، فصار كلهم فقهاء. (وهم يستبشرون): جملة في موضع الحال، وكذلك قوله: (وهم كافرون). النزول: قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج غازيا، لم يتخلف عنه إلا المنافقون والمعذرون. فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين، وبين نفاقهم في غزاة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزاة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سرية أبدا ! فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسرايا إلى الغزو، نفر المسلمون جميعا، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! وحده، فأنزل الله سبحانه (وما كان المؤمنون لينفروا) الآية عن ابن عباس، في رواية الكلبي. وقيل: انها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا وخصبا، ودعوا من وجدوا من الناس على الهدى، فقال الناس: وما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم، وجئتمونا.
[ 144 ]
فوجدوا في أنفسهم في ذلك حرجا، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية، عن مجاهد. المعنى: لما تقدم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب، وتأنيب من تخلف عنه بأبلغ أسباب التأنيب، بين في هذه الآية موضع الرخصة في تأخر من تأخر عنه، فقال سبحانه: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)، وهذا نفي معناه النهي أي: ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم، ويتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فريدا وحيدا. وقيل: معناه ليس عليهم أن ينفروا كلهم من بلادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتعلموا الدين، ويضيعوا ما وراءهم، ويخلوا ديارهم، عن الجبائي. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) اختلف في معناه على وجوه أحدها: ان معناه فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة، ليتفقهوا في الدين، يعني الفرقة القاعدين، يتعلمون القرآن، والسنن، والفرائض، والأحكام، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن، وتعلمه القاعدون، قالوا لهم إذا رجعوا إليهم: إن الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه. فتتعلمه السرايا فذلك قوله (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) أي: وليعلموهم القرآن، ويخوفوهم به إذا رجعوا إليهم (لعلهم يحذرون) فلا يعملون بخلافه، عن ابن عباس، في رواية الوالبي، وقتادة، والضحاك، وقال الباقر عليه السلام: كان هذا حين كثر الناس، فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة، وتقيم طائفة للتفقه، وان يكون الغزو نوبا. وثانيها: إن التفقه والإنذار يرجعان إلى الفرقة النافرة، وحثها الله تعالى على التفقه، لترجع إلى المتخلفة فتحذرها، ومعنى (ليتفقهوا في الدين): ليتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين، ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصر الله النبي، والمؤمنين، ويخبروهم أنهم لا يدان لهم بقتال النبي والمؤمنين، لعلهم يحذرون أن يقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار، عن الحسن، وأبي مسلم. قال أبو مسلم. اجتمع للنافرة ثواب الجهاد، والتفقه في الدين، وإنذار قومهم. وثالثها: إن التفقه راجع إلى النافرة، والتقدير ما كان لجميع المؤمنين أن ينفروا
[ 145 ]
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويخلوا ديارهم، ولكن لينفر إليه من كل ناحية طائفة، لتسمع كلامه، وتتعلم الدين منه، ثم ترجع إلى قومها، فتبين لهم ذلك، وتنذرهم، عن الجبائي قال: والمراد بالنفر هنا: الخروج لطلب العلم، وإنما سمي ذلك نفرا لما فيه من مجاهدة أعداء الدين. قال القاضي أبو عاصم: وفي هذا دليل على اختصاص الغربة بالتفقه، وأن الإنسان يتفقه في الغربة ما لا يمكنه ذلك في الوطن. ثم بين سبحانه ما يجب تقديمه، ففال: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) أي: قاتلوا من قرب منكم من الكفار، الأقرب منهم فالأقرب، في النسب والدار. وقال الحسن: كان هذا قبل الأمر بقتال المشركين كافة. وقال غيره: هذا الحكم قائم الآن لأنه لا ينبغي لأهل كل بلد ان يخرجوا إلى قتال الأبعد، ويدعوا الأقرب والأدنى، لأن ذلك يؤدي إلى الضرر، وربما يمنعهم ذلك عن المضي في وجهتهم، إلا أن يكون بينهم وبين الأقرب موادعة، فلا بأس حينئذ بمجاوزة الأقرب إلى الأبعد، على ما يراه المتولي لأمور المسلمين. ولو قال سبحانه: قاتلوا الأبعد فالأبعد، لكان لا يصح، لأنه لا حد للأبعد يبتدئ منه، كما للأقرب، وفي هذا دلالة على أنه يجب على أهل كل ثغر الدفاع عن أنفسهم إذا خافوا على بيضة الإسلام، وإن لم يكن هناك إمام عادل. وقال ابن عباس: أمروا أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوهم، مثل قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك. وقال ابن عمر: إنهم الروم، لأنهم سكان الشام، والشام أقرب إلى المدينة من العراق، وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم، والترك، والديلم: تلا هذه الآية (وليجدوا فيكم غلظة) أي: شجاعة، عن ابن عباس. وقيل: شدة، عن مجاهد. وقيل: صبرا على الجهاد، عن الحسن. والمعنى: وليحسوا منكم بضد اللين، وخلاف الرقة، وهو العنف والشدة، ليكون زجرا لهم. (واعلموا أن الله مع المتقين) عن الشرك أي: معينهم وناصرهم، ومن كان الله ناصره لم يغلبه أحد، فأما إذا نصره سبحانه بالحجة، فإنه يجوز أن يغلب بالحرب لضرب من المحنة، وشدة التكليف. ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين، فقال سبحانه: (وإذا ما أنزلت سورة) في القرآن (فمنهم) أي: من المنافقين (من يقول) على وجه الإنكار أي: يقول بعضهم لبعض (أيكم زادته هذه) السورة (إيمانا) وقيل: معناه يقول المنافقون للمؤمنين الذين في إيمانهم ضعف: أيكم زادته
[ 146 ]
هذه السورة إيمانا أي: يقينا وبصيرة. (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) معناه: فأما المؤمنون المخلصون فزادتهم تصديقا بالفرائض مع ايمانهم بالله، عن ابن عباس. ووجه زيادة الإيمان أنهم كانوا مؤمنين بما قد نزل من قبل، وآمنوا بما أنزل الآن (وهم يستبشرون) أي: يسرون ويبشر بعضهم بعضا، قد تهللت وجوههم، وفرحوا بنزولها. (وأما الذين في قلوبهم مرض) أي: شك ونفاق (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) أي: نفاقا وكفرا إلى نفاقهم، وكفرهم، لأنهم يشكون في هذه السورة، كما شكوا فيما تقدمها من السور، فذلك هو الزيادة. وسمي الكفر رجسا على وجه الذم له، وانه يجب تجنبه كما يجب تجنب الأرجاس، وأضاف الزيادة إلى السورة، لأنهم يزدادون عندها رجسا، ومثله: كفى بالسلامة داء، وقول الشاعر: (وحسبك داء أن تصح وتسلما). (وماتوا وهم كافرون) أي: وأداهم شكهم فيما أنزل الله تعالى من السور، إلى أن ماتوا على كفرهم، وآبوا شر مآب. (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبى الله لآ إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)). القراءة: قرأ: (أولا ترون) بالتاء، حمزة، ويعقوب، وهي قراءة أبي. والقراءة المشهورة (من أنفسكم) بضم الفاء. وقرأ ابن عباس، وابن علية، وابن محيصن، والزهري: (من أنفسكم) بفتح الفاء، وقيل: إنها قراءة فاطمة عليها السلام. الحجة: من قرأ بالتاء: فهو خطاب للمؤمنين. ومن قرأ بالياء: فهو تقريع للمنافقين بالإعراض عما يجب أن لا يعرضوا عنه، من التوبة والإقلاع عما هم عليه
[ 147 ]
من النفاق. ومن قرأ (من أنفسكم) بفتح الفاء: فمعناه من أشرفكم، ومن خياركم، يقال هذا أنفس المتاع أي: أجوده وخياره، واشتقاقه من النفس، وهي أشرف ما في الإنسان. اللغة: العزيز: الشديد. والعزيز في صفات الله تعالى معناه: المنيع القادر الذي لا يتعذر عليه فعل ما يريده. والعزة: امتناع الشئ بما يتعذر معه ما يحاول منه، وهو على ثلاثة أوجه: امتناع الشئ بالقدرة، أو بالقلة، أو بالصعوبة. والعنت: لقاء الشدة والأذى الذي يضيق به الصدر. وعنت الدابة يعنت عنتا: إذا حدث في قوائمه كسر بعد جبر لا يمكنه معه الجري، فكأنه شق عليه الجري. وأكمة عنوت: شاقة المصعد. وحسبي الله أي: كافي الله، وهو من الحساب لأنه تعالى يعطي بحسب الكفاية التي تغني عن غيره، ويزيد من نعمه ما لا يبلغ إلى حد ونهاية، إذ نعمه دائمة، ومننه متواترة متظاهرة. والتوكل: تفويض الأمر إلى الله على الثقة بحسن تدبيره وكفايته. الاعراب: (أولا يرون) الواو للعطف، دخلت عليها همزة الإستفهام. ويحتمل الرؤية أن تكون المتعدية إلى مفعولين، وأن تكون من رؤية العين. فإذا كانت المتعدية إلى المفعولين يسدان مسدهما، وإن كانت من رؤية العين يكون أبلغ. (ما عنتم) ما: مصدرية، وتقديره عزيز عليه عنتكم، فهو في موضع رفع بعزيز. وقوله (لا إله إلا هو): جملة في موضع الحال، وتقديره حسبي الله مستحقا لإخلاص العبادة، والإقرار بالوحدانية. وجر القراء كلهم (العظيم) على أنه صفة العرش، ولو قرئ بالرفع على أن يكون صفة لرب العرش، لجاز. المعنى: ثم نبه سبحانه على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر لما ينبغي أن ينظروا ويتدبروا فيه، فقال (أولا يرون) أي: أولا يعلم هؤلاء المنافقون. وقيل: معناه أولا يبصرون (أنهم يفتنون) أي: يمتحنون (في كل عام مرة أو مرتين) أي: دفعة أو دفعتين بالأمراض والأوجاع، وهو رائد الموت (ثم لا يتوبون) أي: لا يرجعون عن كفرهم (ولا هم يذكرون) أي: لا يتذكرون نعم الله عليهم. وقيل: يمتحنون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يرون من نصرة الله رسوله، وما ينال أعداؤه من القتل والسبي، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: بالقحط والجوع، عن مجاهد. وقيل: بهتك أستارهم، وما يظهر من خبث سرائرهم، عن مقاتل. وقيل:
[ 148 ]
بالبلاء والجلاء، ومنع القطر، وذهاب الثمار، عن الضحاك. (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) معناه: وإذا انزلت سورة من القرآن، وهم حضور عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كرهوا ما يسمعونه، ونظر بعضهم إلى بعض، نظرا يؤمنون به (هل يراكم من أحد)، وإنما يفعلون ذلك، لأنهم منافقون يحذرون أن يعلم بهم، فكأنهم يقول بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد، ثم يقومون فينصرفون، وإنما يفعلون ذلك مخافة أن تنزل آية تفضحهم، وكانوا لا يقولون ذلك بألسنتهم، ولكن ينظرون نطر من يقول لغيره ذلك القول، فكأنه يقول ذلك. وقيل: معناه إن المنافقين كان ينظر بعضهم إلى بعض نظر تعنت وطعن في القرآن، ثم يقولون: هل يرانا أحد من المسلمين، فإذا تحقق لهم أنه لا يراهم أحد من المسلمين، بالغوا فيه، وإن علموا أنهم يراهم واحد منهم، كفوا عنه. (ثم انصرفوا) أي: انصرفوا عن المجلس. وقيل: انصرفوا عن الإيمان به (صرف الله قلوبهم) عن الفوائد التي يستفيدها المؤمنون والسرور بها، وحرموا الاستبشار بتلك الحال. وقيل: معناه صرف الله قلوبهم عن رحمته وثوابه، عقوبة لهم على انصرافهم عن الإيمان بالقرآن، وعن مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: إنه على وجه الدعاء عليهم أي: خذلهم الله باستحقاقهم ذلك، ودعاء الله على عباده وعيد لهم، وإخبار بلحاق العذاب بهم، عن أبي مسلم (بأنهم قوم لا يفقهون) أي: ذلك بسبب أنهم لا يفقهون مراد الله بخطابه، لأنهم لا ينظرون فيه. ثم خاطب الله سبحانه جميع الخلق، وأكد خطابه بالقسم فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) عنى بالرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، أي: جاءكم رسول من جنسكم من البشر، ثم من العرب، ثم من بني إسماعيل، عن السدي وقيل: إن الخطاب للعرب، وليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله فيهم نسب، عن ابن عباس. وقيل: معناه إنه من نكاح لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية، عن الصادق عليه السلام. وروى ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شئ، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام. وإنما من الله عليهم بكونه منهم، لأنهم عرفوا مولده، ومنشأه، وشاهدوه صغيرا وكبيرا، وعرفوا حاله في صدقه وأمانته، ولم يعثروا على شئ يوجب نقصا فيه، فبالحري أن يكونوا أقرب إلى القبول منه، والإنقياد له.
[ 149 ]
(عزيز عليه ما عنتم) معناه: شديد عليه عنتكم أي: ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان. وقيل: معناه شديد عليه ما أثمتم، عن الكلبي، والضحاك. وقيل: ما أعنتكم وضركم، عن القتيبي. وقيل: ما هلكتم عليه، عن ابن الأنباري (حريص عليكم) معناه: حريص على من لم يؤمن أن يؤمن، عن الحسن، وقتادة. (بالمؤمنين رؤوف رحيم) قيل: هما واحد. والرأفة. شدة الرحمة. وقيل: رؤوف بالمطيعين منهم، رحيم بالمذنبين. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بأوليائه، رؤوف لمن رآه رحيم بمن لم يره. وقال بعض السلف: لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وقال: (ان الله بالناس لرؤوف رحيم) (فإن تولوا) أي: ذهبوا عن الحق، واتباع الرسول، وما يأمرهم به، وأعرضوا عن قبوله. وقيل: معناه فإن تولوا عنك، وعن الإقرار بنبوتك. (فقل حسي الله) أي: كافي الله فإنه القادر على كل شئ (لا إله إلا هو عليه توكلت) وبه وثقت، وعليه اعتمدت، وأموري إليه فوضت (وهو رب العرش العظيم) خص العرش بالذكر تفخيما لشأنه، ولأنه إذا كان رب العرش مع عظمه كان رب ما دونه في العظم. وقيل: إن العرش عبارة عن الملك والسلطان، فمعناه: رب الملك العظيم في السماوات والأرض، عن أبي مسلم. وقيل: إن هذه الآية آخر آية نزلت من السماء، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة. وقال قتادة: آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة.
[ 150 ]
10 - سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة هي مكية في قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس، وقتادة إلا ثلاث آيات، نزلت بالمدينة. (فإن كنت في شك مما أنزلنا بك) إلى آخرهن. وقال ابن المبارك إلا (ومنهم من يؤمن به) الآية فإنها نزلت في اليهود بالمدينة. عدد آيها: مائة وتسع آيات عند الجميع في غير الشامي، فإنه يقول: وعشر آيات. اختلافها: ثلاث آيات: مخلصين له الدين، وشفاء لما في الصدور شامي، من الشاكرين غير الشامي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس، وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، كان يوم القيامة من المقربين. تفسيرها: لما ختم الله سورة البراءة بذكر الرسول افتتح هذه السورة بذكره، وما أنزل عليه من القرآن، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم (1) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين (2)).
[ 151 ]
القراة: قرأ (الر) بإمالة الراء: أبو عمرو، وأهل الكوفة، غير عاصم، إلا يحيى (1). وقرأ الباقون بالتفخيم. وقرأ (لساحر) بالألف: ابن كثير، وأهل الكوفة. وقرأ الباقون: (لسحر) بكسر السين، وبغير الف الحجة: قال أبو علي: من أمال فقال رايا فلأنها أسماء لما تلفظ بها من الأصوات المنقطعة في مخارج الحروف، كما أن غاق اسم للصوت الذي يصوته الغراب، فجازت الإمالة فيها من حيث كانت اسما، ولم تكن كالحروف التي يمتنع فيها الإمالة نحو ما، ولا، وما أشبههما من الحروف. فإن قلت: إن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين، وإنما يكون على هذه الصفة الحروف نحو ما ولا ؟ فالقول: إن هذه الأسماء لا يمتنع أن تكون على حرفين: أحدهما حرف لين لأن التنوين لا يلحقها فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها أن تبقى على حرف واحد، فإذا أمن ذلك لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، الا ترى أنهم قد قالوا: هذا شاة، فجاء على حرفين أحدهما حرف لين لما أمن لحاق التنوين له، لاتصال علامة التأنيث به، وكذلك قولك: رأيت رجلا ذا مال، لاتصال المضاف إليه به، وكذلك قولهم: كسرت فاز يد، قال: ويدل على قول من قال (لسحر) قوله سبحانه: (قالوا هذا سحر وانا به كافرون)، ويدل على ساحر قوله: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) وقد تقدم قوله: (أوحينا إلى رجل منهم) فمن قرأ ساحر: أراد الرجل، ومن قرأ سحر: أراد الذي أوحي سحر اللغة: الآية: العلامة التي تنبئ عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة ، والقرآن مفصل بالآيات، مضمن بالحكم النافية للشبهات. والحكيم ههنا بمعنى المحكم: فعيل بمعنى مفعل، قال الاعشى: وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها (2) وأنشد أبو عبيدة لأبي ذؤيب: (1) أي إلا في روايته يحيى عن عاصم فإن في روايته عنه أمال أيضا بخلاف رواية غيره عن عاصم (2) يعنى قصيدة غريبة محكمة. (*)
[ 152 ]
يواعدني عكاظ لننزلنه، ولم يشعر إذا أني خليف (1) أي: مخلف من أخلفته الوعد. وقيل: هو بمعنى الحاكم، ودليله قوله: (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) قال الازهري: القدم: الشئ الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حتى تقدم عليه. وقيل: القدم المقدم كالنقض والقبض. قال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف، وقال العجاج: ذل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم وقال الأزهري: فلان يمشي اليقدمية والتقدمية: إذا تقدم في الشرف. وقال أبو عبيدة، والكسائي كل سابق في خير أو شر، فهو عند العرب قدم. ويقال لفلان قدم في الإسلام، وهو مؤنث يقال قدم حسنة، قال حسان لنا القدم العليا (2) إليك، وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع وقال ذو الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر (3) الاعراب: أضيفت آيات إلى الكتاب لأنها أبعاض الكتاب، كما أن سوره أبعاضه و (أن أوحينا) في موضع رفع بأنه اسم كان. و (عجبا) خبره، واللام في قوله (للناس) يتعلق بمحذوف كان صفة لعجب، فلما تقدم صار حالا كقوله (لعزة موحشا طلل قديم) وإن شئت كان ظرفا لكان. و (أن أنذر) في موضع نصب تقديره أوحينا بأن أنذر، فحذف الجار فوصل الفعل. و (أن لهم قدم صدق) كذلك موضعه نصب بقوله: (وبشر). ولو قرئ إن لهم بالكسر لكان جائزا، لأن البشارة في معنى القول، إلا أنه لم يقرأ به، وأضيف قدم إلى صدق كما يقال مسجد الجامع المعنى: (الر) قد مضى الكلام في معاني الحروف المعجمة المذكورة في أوائل السور من قبل (تلك آيات الكتاب الحكيم) معناه: إن الآيات التي جرى ذكرها، أو الآيات التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هي آيات القرآن المحكم من (1) وفي اللسان (ترا عدنا الربيق * لننزلنه ولم تشعراه). (2) وفي ديوانه (لنا القدم الأولى) ولعله الظاهر. (3) العادي: الشئ القديم تنسب إلى عاد. وطم الماء كثر وغلب. (*)
[ 153 ]
الباطل الممنوع من الفساد، لا كذب فيه ولا اختلاف. وقيل: تلك آي هذه السور، آيات الكتاب الحكيم أي: اللوح المحفوظ، وسماه محكما، لأنه ناطق بالحكمة. وقيل: لأنه جمع العلوم والحكمة. وقيل: إنما وصف الكتاب بالحكيم لأنه دليل على الحق، كالناطق بالحكمة، ولأنه يؤدي إلى المعرفة التي تميز بها طريق الهلاك من طريق النجاة (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) هذه ألف استفهام المراد به الإنكار، وقيل: إن المراد بالناس هنا أهل مكة. قالوا: نعجب أن الله سبحانه لم يجد رسولا يرسله إلى الناس، إلا يتيم أبي طالب، أو التقدير أكان إيحاؤنا إلى رجل من الناس بأن ينذرهم عجبا، ومعناه: لماذا تعجبون ان أوحينا إلى رجل منهم، وليس هذا موضع التعجب، بل هو الذي كان يجب فعله عند كل العقلاء، فإن الله تعالى لما أكمل لعباده عقولهم، وكلفهم معرفته، وأداء شكره وعلم أنهم لا يصلحون، ولا يقومون بذلك إلا بداع يدعوهم إليه، ومنبه ينبههم عليه، وجب في الحكمة أن يفعل ذلك ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله بعث، وما الذي أوحى إليه، فقال: (أن أنذر الناس) أي: أخبرهم بالعذاب وخوفهم به (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) أي: عرفهم ما فيه الشرف والخلود في نعيم الجنة على وجه الإكرام والإجلال لصالح الأعمال. وقيل: إن لهم قدم صدق أي: أجرا حسنا، ومنزلة رفيعة، بما قدموا من أعمالهم، عن ابن عباس، وروي عنه أيضا أن المعنى سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، ويؤيده قوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) الآية. وقيل: هو تقديم الله تعالى إياهم في البعث يوم القيامة بيانه قوله عليه السلام: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة. وقيل: إن القدم اسم للحسنى من العبد. واليد اسم للحسنى من السيد، للفرق بين السيد والعبد. وقيل: إن معنى قدم صدق شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم يوم القيامة، عن أبي سعيد الخدري، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) يعنون النبي، أي: قالوا هذا ساحر مظهر للسحر، وما أتى به سحر بين على اختلاف القراءتين. والسحر: فعل يخفي وجه الحيلة فيه، حتى يتوهم أنه معجز، وهذا يدل على عجزهم عن معارضة القرآن، ولذلك عدلوا إلى وصفه بالسحر.
[ 154 ]
(إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4) القراءة: قرأ أبو جعفر المدني: (إنه يبدأ) بفتح الهمزة، وهو قراءة الأعمش. والباقون: بكسرها. الحجة: من قرأ انه فتقديره، وعد الله حقا، لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده أي: من قدر على هذا الأمر العظيم، فإنه غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت كان تقديره: وعد الله وعدا حقا، انه يبدأ الخلق، فيكون في محل النصب بالفعل الناصب لقوله وعدا قال ابن جني ولا يجوز أن يكون ان منصوبة الموضع بنفس وعدا، لأنه قد وصف بقوله حقا، والصفة إذا جرت على موصوفها آذنت بتمامه، وانقضاء أجزائه، ولا يكون تاما إذا كان ما بعد الصفة من صلته. فأما قول الحطيئة أزمعت يأسا مبينا من نوالكم، ولن ترى طاردا للحر كاليأس (1) فإن قوله: من نوالكم، ليس من صلة يأس، بل يتعلق بفعل يدل عليه قوله يأسا مبينا، فكأنه قال فيما بعد يئست من نوالكم، وقال الفراء: من فتح جعله مفعول حقا، كما في قول الشاعر أحقا عباد الله أن لست زائرا بثينة، أو يلقى الثريا رقيبها (2) اللغة: القسط: العدل، ومنه القسط: النصيب والقسط بفتح القاف: الحور والقسط بفتح القاف والسين: اعوجاج في الرجلين. والحميم: الماء الذي أسخن (1) أزمع الأمر: ثبت عليه. والنوال: العطاء. (2) رقيب الثريا من النجوم: الإكليل، فإذا طلعت الثريا عشاء غاب الإكليل، وبالعكس. ورقيب النجم: الذي يغيب بطلوعه. وبثينة: اسم امرأة. (*)
[ 155 ]
بالنار أشد إسخان، قال المرقش الأصغر: في كل يوم لها مقطرة فيها كباء معد، وحميم (1) الاعراب: جميعا: نصب على الحال. وعد الله: منصوب على المصدر، لأن قوله إليه مرجعكم معناه: الوعد بالرجوع. وحقا: منصوب على أحق ذلك حقا، عن الزجاج، وأضيف المصدر في قوله وعد الله إلى الفاعل، لما لم يذكر الفعل، كما في قول كعب بن زهير: تسعى الوشاة جنابيها (2)، وقيلهم: إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول أي: ويقولون قيلهم. المعنى: (إن ربكم) أي: خالقكم ومنشئكم، ومالك تدبيركم وتصريفكم، من أمره ونهيه، والذي يجب عليكم عبادته (الله الذي خلق السماوات والأرض) أي: اخترعهما وأنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة، وبدائع الحكمة (في ستة أيام) بلا زيادة ونقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة. والوجه فيه ان في ذلك مصلحة للملائكة، وعبرة لهم ولغيرهم إذا أخبروا عن ذلك. وكذلك تصريف الإنسان حالا بعد حال، وإخراج الثمار والأزهار شيئا بعد شئ، مع قدرته على ذلك في أقل من لمح البصر، لأن ذلك أبعد من توهم الإنفاق فيه (ثم استوى على العرش) مر تفسيره في سورة الأعراف. وقيل: إن العرش المذكور هنا هو السماوات والأرض، لأنهن من بنائه. والعرش: البناء. وأما العرش المعظم الذي تعبد الله سبحانه الملائكة بالحفوف به، والإعظام له، وعناه بقوله (الذين يحملون العرش ومن حوله) فهو غير هذا. وقيل: إن (ثم) هنا بمعنى الواو. وقيل: إن (ثم) دخل على التدبير، وتقديره أي ثم استوى عليه بإنشاء التدبير من جهته، كما يستوي الملك على سرير ملكه بالإستيلاء على تدبيره، فإن تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش، ولهذا ترفع الأيدي في دعاء الحوائج نحو العرش. (1) الكباء: ضرب من العود الذي يتبخر به. وفي اللسان في مادة كبأ (كل عشاء لها مقطرة * ذات كباء معد وحميم). (2) قيل يعني حوالى المعشوقة. (*)
[ 156 ]
(يدبر الأمر) أي: يقدر وينفذه على وجهه، ويرتبه على مراتبه على أحكام عواقبه، وهو مأخوذ من الدبور (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) إنما قال هذا وإن لم يجر ذكر للشفعاء لأن الكفار كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله، فبين سبحانه أن الشفيع إنما يشفع عنده، إذا أذن له قي الشفاعة، وإذا كانت الأصنام لا تعقل، فكيف تكون شافعة مع أنه لا يشفع عنده أحد من الملائكة والنبيين إلا بإذنه وأمره. (ذلكم الله ربكم) أي: إن الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم (فاعبدوه) وحده لأنه لا إله لكم سواه، ولا يستحق هذه الصفات غيره، ولا تعبدوا الأصنام (أفلا تذكرون) حثهم سبحانه على التذكر والتفكر فيما أخبرهم به، وعلى تعرف صحته (إليه مرجعكم جميعا) المرجع يحتمل معنيين أحدهما: أن يكونا بمعنى المصدر الذي هو الرجوع. والآخر: أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي: إليه موضع رجوعكم يكون إذا شاء (وعد الله حقا) أي: وعد الله تعالى ذلك عباده، وعدا حقا صدقا (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده) أي: يبتدئ الخلق ابتداء، ثم يعيدهم بعد موتهم (ليجزي الذين) آمنوا وعملوا الصالحات) أي: ليؤتيهم جزاء أعمالهم (بالقسط) أي: بالعدل، لا ينقص من أجورهم شيئا (والذين كفروا لهم شراب من حميم) أي: ماء حار قد انتهى حره في النار (وعذاب اليم) وجيع (بما كانوا يكفرون) أي: جزاء على كفرهم. النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أنه قال: أكان للناس عجبا ؟ قالوا: وكيف لا نعجب، ولا علم لنا بالمرسل ؟ فقال: إن ربكم الله، ويجوز أن يكون على أنه لما قال أكان للناس عجبا، وكان هذا حكما على الله سبحانه، فكأنه قال: أفتحكمون عليه وهو ربكم. قال الأصم: ويحتمل أن يكون هذا ابتداء خطاب للخلق جميعا، احتج الله بها على عباده بما بين من بدائع صنعه في السماوات والأرض، وفي أنفسهم. (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق إلا بالحق يفصل الأيات لقوم يعلمون (5) إن في اختلاف اليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لأيات
[ 157 ]
لقوم يتقون (6). القراءة: قرأ أهل البصرة، وابن كثير، وحفص، والعجلي: (يفصل) بالياء. والباقون: (نفصل) بالنون. الحجته: من قرأ بالياء: فلأنه تقدم ذكر الله سبحانه، فأضمره في الفعل. ومن قرأ بالنون فمثل قوله (تلك آيات الله نتلوها). اللغة: الجعل: إيجاد ما به يكون الشئ على صفة لم يكن عليها. والضياء: يجوز أن يكون جمع ضوء، كسوط وسياط، وحوض وحياض، ويجوز أن يكون مصدر ضاء يضوء ضياء وضوءا، مثل عاذ يعوذ عياذا وعوذا، وقام يقوم قياما، وعلى أي الوجهين كان، فالمضاف محذوف، وتقديره: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذانور. ويكون جعل النور والضياء لكثرة ذلك فيهما. والاختلاف: ذهاب كل واحد من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الليل والنهار: ذهاب أحدهما في جهة الضياء، والآخر في جهة الظلام. والليل: عبارة عن وقت غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني. وليل ليلة، مثل تمر وتمرة. والنهار: عبارة عن اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والنهار واليوم بمعنى واحد، إلا أن في النهار فائدة اتساع الضياء المعنى: ثم زاد سبحانه في الإحتجاج للتوحيد، فقال: (هو الذي جعل الشمس ضياء) بالنهار (والقمر نورا) بالليل، والضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور، وفيه صفة زائدة على النور (وقدره منازل) أي: وقدر القمر منازل معلومة (لتعلموا) به وبمنازله (عدد السنين والحساب) وأول الشهر وآخره، وانقضاء كل سنة وكميتها، وجعل الشمس والقمر آيتين من آيات الله تعالى، وفيهما أعظم الدلالات على وحدانيته تعالى من وجوه كثيرة: منها خلقهما وخلق الضياء والنور فيهما، ودورانهما، وقربهما وبعدهما، ومشارقهما ومغاربهما، وكسوفهما، وفي بث الشمس الشعاع في العالم، وتأثيرها في الحر والبرد، وإخراج النبات، وطبخ الثمار، وفي تمام القمر وسط الشهر، ونقصانه في الطرفين، ليتميز أول الشهر وآخره من الوسط، كل واحد من ذلك نعمة عظيمة من الله سبحانه على خلقه، ولذلك قال: (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) لأن في ذلك منافع للخلق في دينهم ودنياهم
[ 158 ]
ودلائل على وحدانية الله وقدرته، وكونه عالما لم يزل، ولا يزال (يفصل الآيات) أي: يشرحها ويبينها، آية آية (لقوم يعلمون) فيعطون كل آية حظها من التأمل والتدبر، وقيل: إن المعنى في قوله (وقدره منازل) التثنية أي: قدر الشمس والقمر منازل، غير أنه وحده للإيجاز اكتفاء بالمعلوم كما مر ذكر أمثاله فيما تقدم، وكما في قول الشاعر. رماني بأمر كنت منه، ووالدي بريئا، ومن جول الطوي رماني (1) فإن الشمس تقطع المنازل في كل سنة، والقمر يقطعها في كل شهر، فإنما يتم الحساب وتعلم الشهور، والسنون والشتاء والصيف، بمقاديرهما، ومجاريهما، في تداويرهما (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض) أي: فعله فيهما على ما يقتضيه الحكمة في السماوات من الأفلاك، والكواكب السيارة، وغير السيارة، وفي الأرض من الحيوان والنبات والجماد، وأنواع الأرزاق، والنعم (لآيات) أي: حججا ودلالات على وحدانية الله (لقوم يتقون) معاصي الله، ويخافون عقابه. وخصهم بالذكر لاختصاصهم بالإنتفاع بها. (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) إن الذين ءامنو وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) دعواهم فيها سبحانك اللهم تحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)). القراءة: في الشواذ قراءة ابن محيصن، ويعقوب ان الحمد لله. الحجة: وهذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة ان الحمد لله، إنما هو على أن (أن) مخففة من الثقيلة، كما في قوله: في فتية كسيوف الهند، قد علموا: أن هالك كل من يحفى، وينتعل (1) الشعر في جامع الشواهد وقد مر في ج 1: بمعناه أيضا. (*)
[ 159 ]
فيكون على تقدير انه الحمد لله، ولا يجوز أن تكون (أن) هنا زائدة، كما في قوله: ويوما توافينا بوجه مقسم كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم (1) أي كظبية. اللغة: الغفلة، والسهو من النظائر: وهو ذهاب المعنى عن النفس، ونقيضه اليقظة والدعوى: قول يدعى به إلي أمر. والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، ولذلك يسمون الملك التحية قال: (من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية) (2) وهو مأخوذ من قولهم: أحياك الله حياة طيبة. المعنى: ثم إنه سبحانه أوعد الغافلين عن الأدلة المتقدمة، المكذبين بالمعاد، فقال: (إن الذين لا يرجون لقاءنا) أي: لقاء جزائنا، ومعناه: لا يطمعون في ثوابنا، وأضافه إلى نفسه تعظيما له، ويحتمل أن يكون المعنى: لا يخافون عقابنا، كما يكون الرجاء بمعنى الخوف، كما في قول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، وخالفها في بيت نوب عواسل (3) جعل سبحانه ملاقاة ما لا يقدر عليه إلا هو، ملاقاة له، كما جعل إتيان ملائكته إتيانا له في قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) تفخيما للأمر (ورضوا بالحياة الدنيا) أي: متعوا بها واختاروها، فلا يعملون إلا لها، ولا يجتهدون إلا لأجلها، مع سرعة فنائها، ولا يرجون ما وراءها. (واطمأنوا بها) أي: وسكنوا إلى الدنيا بأنفسهم، وركنوا إليها بقلوبهم (والذين هم عن آياتنا غافلون) أي: ذاهبون عن تأملها، فلا يعتبرون بها (أولئك مأواهم النار) أي: مستقرهم النار (بما كانوا (1) قائله باعث بن صريم اليشكري، وقيل هو لكعب بن أرقم اليشكري. يصف امرأة حسنة الوجه، فشبهها بظبية مخصبة. والمقسم: بمعنى المحسن ويقال: رجل مقسم الوجه أي: جميل كله. والعاطية: التي تتناول أطراف الشجر مرتعية. والوارق: المورق. والسلم: شجر. (2) قائله زهير بن جناب الكلبى، وقبله: (وتركتم أولاد سادات زنادكم ورية) وفي الشعر كلام طويل، ذكره في (اللسان) في مادة (حيا) فراجع. (3) لم يرج أي: لم يخف، ولم يبال. وخالفها أي: دخل عليها وأخذ عسلها. ويروى فحالفها بالمهملة. وهو بمعنى لزمها. والنوب: النحل وقد مر في ج 2 أيضا. (*)
[ 160 ]
يكسبون) من المعاصي. ثم وعد سبحانه المؤمنين بعد ما أوعد الكافرين، فقال: (إن الذين آمنوا) أي: صدقوا بالله ورسله (وعملوا الصالحات) أي: وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة (يهديهم ربهم بإيمانهم) إلى الجنة (تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) أي: تجري بين أيديهم الأنهار، وهم يرونها من علو، كما قال سبحانه: (قد جعل ربك تحتك سريا) ومعلوم أنه لم يجعل السري الذي هو الجدول تحتها، وهي قاعدة عليه، وإنما أراد أنه جعله بين يديها. وقيل: معناه من تحت بساتينهم، وأسرتهم، وقصورهم، عن الجبائي. وقوله: (بإيمانهم) يعني به: جزاء على إيمانهم. (دعواهم فيها) أي: دعاء المؤمنين في الجنة، وذكرهم فيها أن يقولوا: (سبحانك اللهم) يقولون ذلك لا على وجه العبادة، لأنه ليس هناك تكليف، بل يلتذون بالتسبيح. وقيل: إنهم إذا مر بهم الطير في الهواء يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم الطير فيقع مشويا بين أيديهم، وإذا قضوا منه الشهوة، قالوا: الحمد لله رب العالمين، فيطير الطير حيا كما كان. فيكون مفتتح كلامهم في كل شئ التسبيح، ومختتم كلامهم التحميد، فيكون التسبيح في الجنة بدل التسمية في الدنيا، عن ابن جريج (وتحيتهم فيها سلام) أي: تحيتهم من الله سبحانه في الجنة سلام. وقيل: معناه تحية بعضهم لبعض فيها، أو تحية الملائكة لهم فيها سلام، يقولون: سلام عليك أي: سلمتم من الآفات والمكاره التي ابتلى بها أهل النار. وقد ذكرنا معنى قوله (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وليس المراد أن ذلك يكون آخر كلامهم، حتى لا يتكلموا بعده بشئ، بل المراد أنهم يجعلون هذا آخر كلامهم في كل ما ذكروه، عن الحسن، والجبائي. (* ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون (11) وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يد عنآ إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12)).
[ 161 ]
القراءة: قرأ ابن عامر، ويعقوب: (لقضي) بفتح القاف (أجلهم) منصوب. والباقون: (لقضي) على ما ضم يسم فاعله (أجلهم) بالرفع. الحجة: قال أبو علي: اللام في قوله (لقضي إليهم) جواب (لو) في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) والمعنى والله أعلم: ولو يعجل الله للناس دعاء الشر أي ما يدعون به من الشر على أنفسهم في حال ضجر، أو بطر، استعجاله إياهم بدعاء الخير، فأضاف المصدر إلى المفعول، فحذف الفاعل، كقوله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) في حذف ضمير الفاعل، والتقدير: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالا مثل استعجالهم بالخير، لقضي إليهم أجلهم. قال أبو عبيدة: لقضي إليهم أجلهم: معناه لفرغ من أجلهم، وأنشد لأبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما داود، أو صنع السوابغ تبع (1) ومثل ما أنشده قول الآخر: قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق (2) والمعنى: لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة للحياة. وإذا انتهت مدتهم المضروبة للحياة هلكوا. وهذا قريب من قوله: (ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا) وقالوا للميت: مقضي، كأنه قضى إذا مات، وقضى فعل. التقدير استوفى أجله، وفرغ منه، قال ذو الرمة: إذا الشخص فيها هزه الآل، أغمضت عليه كإغماض المقضي هجو لها (3) المعنى: أغمضت هجول هذه البلاد علي الشخص الذي فيها، فلم ير لغرقه في الآل، كإغماض المقضي، وهو الميت. وأما ما يتعلق به الجار من قوله (لقضي إليهم)، فكأنه لما كان معنى قضى فرغ، وكان قولهم فرغ يتعدى بهذا الحرف في قوله: (1) وفي اللسان مادة تبع: (وعليها ماذيتان قضاهما). (2) غادره: تركه، والبوائق جمع البائقة. الداهية. وفي اللسان (موائج) وهو معناه أيضا. والاكمام جمع الكم - بالكسر - وعاء الطلع، وغطاء النور. وبالفارسية (غلاف شكوفه). (3) الآل: السراب. والهجول جصع الهجل: المطمئن من الأرض. (*)
[ 162 ]
الآن فقد فرغت إلى نمير فهذا حين صرت لهم عذابا وفي التنزيل: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) امكن أن يكون الفعل يعدى باللام، كما يعدى بإلى وباللام في قوله: (بأن ربك أوحى لها). فلما كان معنى قضى فرغ تعلق بها إلى كذلك تعلق بقضي، ووجه قراءة ابن عامر لقضى إليهم اجلهم على اسناد الفعل إلى الفاعل، ان الذكر قد تقدم في قوله (ولو يعجل الله للناس) فقال لقضى على هذا، ومن حجته في ذلك قوله: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) فهذا الأجل الذي في هذه الآية، هو الأجل المضروب للمحيا، كما أن الأجل في قوله لقضي إليهم أجلهم، كذلك. فكما أسند الفعل في الأجل المضروب للحياة إلى الفاعل في قوله ثم قضى أجلا عند الجميع، كذلك اسنده ابن عامر في قوله (لقضى إليهم أجلهم) إلى الفاعل، ولم يسنده إلى الفعل المبنى للمفعول. ويدل على ان الأجل في قوله: (ثم قضى أجلا) اجل المحيا أن قوله: (وأجل مسمى عنده) أجل البعث يبين ذلك قوله: (ثم انتم تمترون) أي: انتم ايها المشركون تشكون في البعث، ومن قرأ: لقضي، فبنى الفعل للمفعول به، فلأنه في المعنى، مثل قول من بنى الفعل للفاعل. الاعراب: قوله: (لجنبه) في موضع نصب على الحال، تقديره دعانا منبطحا لجنبه، أو دعانا قائما. ويجوز ان يكون تقديره إذا مس الإنسان الضر لجنبه، أو مسه قاعدا، أو مسه قائما، دعانا. وموضع (الكاف) من (كذلك): نصب على مفعول ما لم يسم فاعله أي: زين للمسرفين عملهم مثل ذلك. المعنى: ثم عاد الكلام إلى ذكر المائلين إلى الدنيا، المطمئنين إليها، الغافلين عن الآخرة، فقال: (ولو يعجل الله للناس الشر) أي: إجابة دعوتهم في الشر، إذا دعوا به على أنفسهم وأهاليهم، عند الغيظ والضجر، واستعجلوه مثل قول الإنسان رفعني الله من بينكم، وقوله لولده: اللهم العنه، ولا تبارك فيه (استعجالهم بالخير) أي: كما يعجل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوها (لقضي إليهم أجلهم) أي: لفرغ من إهلاكهم، ولكن الله تعالى لا يعجل لهم الهلاك، بل يمهلهم حتى يتوبوا. وقيل: معناه ولو يعجل الله للناس العقاب الذي استحقوه بالمعاصي، كما يستعجلونهم خير الدنيا، وربما أجيبوا إلى ما سألوه إذا اقتضت المصلحة ذلك، لفنوا، لأن بنية الإنسان في الدنيا لا تحتمل عقاب الآخرة، بل لا
[ 163 ]
تحتمل ما دونه، والله سبحانه يوصله إليهم في وقته. وسمي العقاب شرا من جهة المشقة والأذى الذي فيه، وفائدته انه لو تعجلت العقاب، لزال التكليف، ولا يزول التكليف إلا بالموت. وإذا عوجلوا بالموت لم يبق أحد. (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) أي: فندع الذين لا يخافون البعث والحساب، يتحيرون في كفرهم، وعدولهم عن الحق إلى الباطل، وتمردهم في الظلم. والعمه: شدة الحيرة. ثم أخبر سبحانه عن قلة صبر الإنسان على الضرر، والشدائد: فقال: (وإذا مس الإنسان الضر) أي المشقة، والبلاء، والمحنة من محن الدنيا (دعانا لجنبه) أي: دعانا لكشفه مضطجعا (أو قاعدا أو قائما) أي: على أي حال كان عليها، واجتهد في الدعاء، وسؤال العافية. وليس غرضه بذلك نيل ثواب الآخرة، وإنما غرضه زوال ما هو من الألم والشدة. وقيل: ان تقديره وإذا مس الإنسان الضر مضطجعا، أو قاعدا، أو قائما، دعانا لكشفه، وفيه تقديم وتأخير. (فلما كشفنا عنه ضره) أي: فلما أزلنا عنه ذلك الضرر، ووهبنا له العافية (مر) أي: استمر على طريقته الأولى، معرضا عن شكرنا (كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي: كأن لم يدعنا قط لكشف ضره، ولم يسألنا إزالة الألم عنه (كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) أي: كما زين لهم الشيطان وأقرانهم الغواة، ترك الدعاء عند الرخاء، زينوا للمسرفين أي: للمشركين عملهم، عن الحسن. ويحتمل أن يكون زين المسرفون بعضهم لبعض، وإن لم يضف التزيين إليهم، فهو كقولهم فلان معجب بنفسه. وقد حث الله سبحانه بهذه الآية الذين منحوا الرخاء بعد الشدة، والعافية بعد البلية، على أن يتذكروا حسن صنع الله إليهم، وجزيل نعمته عليهم، ويشكروه على ذلك ويسألوه إدامة ذلك لديهم، ونبه بذلك على وجوب الصبر عند المحنة احتسابا للأجر، وابتغاء للثواب والذخر. (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنو كذلك نجزى القوم المجرمين (13) ثم جعلناكم خلآئف في
[ 164 ]
الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون (14). اللغة: القرون: جمع قرن، وهو أهل عصر سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض، ومنه قرن الشاة، لمقارنته آخر بإزائه. والقرن بكسر القاف: هو المقاوم لقرينه في الشدة. الاعراب: موضع كيف: نصب بقوله (تعملون) وتقديره لننظر أخيرا تعملون، أم شرا، ولا يجوز أن يكون معمول (ننظر) لأن ما قبل الإستفهام، لا يعمل في ما بعده. المعنى: ثم أخبر سبحانه عما نزل بالأمم الماضية من المثلات، وحذر هذه الأمة عن مثل مصارعهم، فقال: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) بأنواع العذاب (لما ظلموا) أنفسهم بأن أشركوا وعصوا (وجاءتهم رسلهم بالبينات) أي: بالمعجزات الظاهرة، والدلالات الواضحة (وما كانوا ليؤمنوا) هذا إخبار بأن هذه الأمم إنما أهلكوا لما كانوا في المعلوم انهم لو بقوا لم يكونوا يؤمنون بالرسل الذين أتوهم، والكتب التي جاءوهم بها، واستدل أبو علي الجبايي بهذا على أن تبقية الكافر واجبة، إذا كان المعلوم من حاله، أنه يؤمن فيما بعد (كذلك نجزي القوم المجرمين) أي: كذلك نعذب القوم المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا بعد قيام الحجة عليهم، وعلمنا أنهم لا يؤمنون، ولا يصلحون. (ثم جعلناكم) يا أمة محمد (خلائف في الأرض من بعدهم) أي: من بعد القرون التي أهلكناهم، ومعناه: أسكناكم الأرض خلفهم (لننظر كيف تعملون) أي: لنرى عملكم أين يقع من عمل أولئك، أتقتدون بهم فتستحقون من العقاب مثل ما استحقوه، أم تؤمنون فتستحقون الثواب. وإنما قال (لننظر) ليدل على أنه سبحانه يعامل العبد معاملة المختبر الذي لا يعلم الشئ، فيجازيه على ما يظهر منه، دون ما قد علم أنه يفعله، مظاهرة في العدل، والنظر في الحقيقة لا يجوز على الله تعالى، لأنه إنما يكون بالقلب، وهو التفكر، وبالعين وهو تقليب الحدقة نحو المرئي، التماسا لرؤيته مع سلامة الحاسة. وأحد هذين لا يجوز عليه سبحانه، وإنما يستعمل ذلك في صفاته على وجه المجاز والاتساع، فإن النظر إنما هو لطلب العلم، وهو سبحانه يعامل عباده معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه.
[ 165 ]
(وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبد له من تلقآى نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم (15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولآ أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بأياته إنه لا يفلح المجرمون (17). القراءة: في رواية أبي ربيعة، عن البزي، عن ابن كثير: (ولأدراكم)، فجعلها لاما دخلت على (أدراكم). وأمال في (ادراكم، وادراك) في جميع القرآن أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف. وروي في الشواذ عن ابن عباس والحسن: (ولا ادريكم به). الحجة: قال أبو علي: حكى سيبويه دريته ودريت به، والأكثر في الاستعمال بالباء. ويبين ذلك قوله: (ولا أدراكم) ولو جاء على اللغة الأخرى، لكان (ولا ادراكموه). وقال: الدرية كالفطنة والشعرة، وهي مصادر يراد بها ضروب من العلم. أما الدراية فكالهداية والدلالة، فكأن الدراية التأني، والتعمل لعلم الشئ. وعلى هذا المعنى ما تصرف من هذه الكلمة، أنشد أبو زيد: فإن غزالك الذي كنت تدري إذا شئت ليث خادر بين أشبل (1) وتدري: أي تختل، ومنه الدرية في قول أكثر الناس: الختل الذي يستتر به الصائد من الوحش، كأنه يختل به، وداريت الرجل: لاينته وخاتلته، وإذا كان الحرف على هذا، فالداري في وصف القديم سبحانه لا يسوغ. فأما قول الراجز (لا هم لا أدري وأنت الداري) (2) فلا يكون حجة في جواز ذلك، لأنه استجاز ذلك لما تقدم من قوله لا أدري، كما جاز: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) و (ان (1) الأشبل جمع الشبل. ولد الأسد. (2) وبعده (كل امرئ منك على مقدار). (*)
[ 166 ]
تسخروا منا فإنا نسخر منكم)، وأيضا فإن الأعراب يذكرون أشياء يمتنع جوازها كما قالوا: لا هم إن كنت الذي بعهدي ولم تغيرك الأمور بعدي وقال الآخر (لو خافك الله عليه حرمه) (1) فأما الهمزة على ما حكي عن الحسن وغيره، فلا وجه له، لأن الدرء: الدفع. قال ابن جني: يجوز أن يكون لها وجه، وإن كان فيه ضعف صنعة، وهو أن يكون أراد، ولا أدريتكم به، ثم قلبت الياء الفا لانفتاح ما قبلها، وإن كانت ساكنة كقولهم في ييأس يا أس، وفي ييبس يابس. وقال قطرب: إن لغة عقيل في أعطيتك ان يقولوا أعطاتك، ثم همز الألف على لغة من قال في الباز البأز، وفي العالم والخاتم والنابل: العألم والخأتم والنأبل، ومن قرأ ولأذريكم به، فمعناه ولأعلمكم الله تعالى به، فيكون نفيا للتلاوة، واثباتا للعلم، وعلى قراءة الجماعة يكون نفيا للأمرين جميعا. اللغة: التلقاء: جهة مقابلة الشئ، إلا أنه قد يستعمل ظرفا، فيقال: هو تلقاءه، كما يقال هو حذاءه وقبالته وتجاهه وإزاءه. والعمر بفتح العين، وسكون الميم، والعمر بضمهما: البقاء. وإذا استعمل في القسم، فالفتح لا غير. النزول: قيل: نزلت في خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن مغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن. عامر بن هاشم، قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى، ومناة وهبل، وليس فيه عيبها، أو بدله تكلم به من تلقاء نفسك، عن مقاتل. وقيل: نزلت في المستهزئين قالوا: يا محمد ! ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسلكه، عن الكلبى. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش، فقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) المنزلة في القرآن (بينات) أي: واضحات في الحلال والحرام، وسائر الشرائع، وهي نصب على الحال (قال الذين لا يرجون لقاءنا) أي: لا يؤمنون بالبعث والنشور، فلا يخشون عقابنا، ولا يطعمون في ثوابنا (ائت بقرآن غير هذا) (1) والشاهد في إسناد التغير إلى الله تعالى في البيت الأول، والخوف إليه في الشعر الثاني فليس كل ما قاله العرب متبعا، بل هو حجة في ما يتعلق باللغة. (*)
[ 167 ]
الذي تتلوه علينا، (أو بدله) فاجعله على خلاف ما تقرؤه. والفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يكون معه، وتبديله لا يكون إلا برفعه. وقيل: معنى قوله بدله: غير أحكامه من الحلال أو الحرام، أرادوا بذلك زوال الحظر عنهم، وسقوط الأمر منهم، وأن يخلي بينهم وبين ما يريدونه. (قل) يا محمد (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) أي: من جهة نفسي، وناحية نفسي، ولأنه معجز فلا أقدر على الإتيان بمثله (إن اتبع إلا ما يوحى إلي) أي: ما أتبع إلا الذي أوحى إلي (إني أخاف إن عصيت ربي) في اتباع غيره (عذاب يوم عظيم) أي: يوم القيامة. ومن استدل، بهذه الآية على أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز، فقد أبعد، لأنه إذا نسخ القرآن بالسنة، وما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يقوله بالوحي من الله فلم ينسخ القرآن، ولم يبدله من قبله نفسه، بل يكون تبديله من قبل الله تعالى، ولكن لا يكون قرآنا، ويؤيد ذلك قوله (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). (قل) يا محمد (لو شاء الله ما تلوته عليكم) معناه: لو شاء إلله ما تلوت هذا القرآن عليكم، بأن كان لا ينزله علي (ولا أدراكم به) أي: ولا أعلمكم الله به، بأن لا ينزله علي، فلا أقرأه عليكم، فلا تعلمونه (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) أي: فقد مكثت وأقمت بينكم دهرا طويلا من قبل إنزال القرآن، فلم أقرأه عليكم، فلا تعلمونه، ولا ادعيت نبوة حتى أكرمني الله تعالى به (أفلا تعقلون) أي: أفلا تتفكرون فيه بعقولكم، فتعلموا أن المصلحة فيما أنزله الله تعالى دون ما تقرؤونه. قال علي بن عيسى: العقل هو العلم الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب، والناس يتفاضلون فيه بالأمر المتفاوت، فبعضهم أعقل من بعض إذا كان أقدر على الاستدلال من بعض (فمن أظلم ممن افترى على الله) أي: لا أحد أظلم ممن اخترع على الله (كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) أي: المشركون، عن الحسن. فإن قيل: أليس من ادعى الربوبية أعظم ظلما من المدعي للنبوة ؟ قلنا: إن المراد بقوله (من افترى على الله كذبا) من كفر بالله تعالى، فقد دخل فيه من ادعى الربوبية، وغيره من أنواع الكفار، فكأنه قال لا أحد أظلم من الكافر. (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون
[ 168 ]
هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18) وما كان الناس إلآ أمته واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون (19) ويقولون لو لآ أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتطروا إنى معكم من المنتظرين (20). القراءة: قرأ (تشركون) بالتاء أهل الكوفة، غير عاصم، وكذلك في (النحل) في موضعين، وفي (الروم). والباقون كل ذلك بالياء. الحجة: من قرأ بالتاء فلقوله (أتنبئون الله) ومن قرأ بالياء: احتمل وجهين: أحدهما: على قل كأنه قيل له قل أنت سبحانه وتعالى عما يشركون. والوجه الآخر: أن يكون هو سبحانه نزه نفسه عما أقروه فقال ذلك. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار، فقال: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) أي: ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا يضرهم إن تركوا عبادتها، ولا ينفعهم إن عبدوها. فإن قيل: كيف ذمهم على عبادة الصنم الذي لا ينفع ولا يضر، مع أنه لو نفع وضر لكان لا يجوز أيضا عبادته ؟ قلنا: عبادة من لا يقدر على أصول النعم وإن قدر على النفع والضر، إذا كان قبيحا، فمن لا يقدر على النفع والضر أصلا من الجماد، تكون عبادته أقبح وأشنع، فلذلك خصه بالذكر. (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا: إنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله، وإن الله أذن لنا في عبادتها، وانه سيشفعها فينا في الآخرة، وتوهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله سبحانه من قصده تعالى بالعبادة، فجمعوا بين قبيح القول، وقبيح الفعل، وقبيح التوهم. وقيل: معناه هؤلاء شفعاوءنا في الدنيا لإصلاح معاشها، عن الحسن، قال: لأنهم كانوا يقرون بالبعث بدلالة قوله (واقسموا بالله) جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقول لهم على وجه الإلزام: أتخبرون الله بما لا يعلم من حسن عبادة الأصنام، وكونها شافعة، لأن
[ 169 ]
ذلك لو كان صحيحا، لكان تعالى به عالما، ففي نفي علمه بذلك نفي المعلوم. ومعناه: إنه ليس في السماوات، ولا الأرض، إله غير لله، ولا أحد يشفع لكم يوم القيامة. وقيل: معناه أتخبرون الله بشريك، أو شفيع لا يعلم شيئا، كما قال: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض) فكذلك وصفهم بأنهم لا يعلمون في السماوات والأرض شيئا (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي: تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في استحقاق العبادة. (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) فيه أقوال. أحدها: إن الناس كانوا جميعا على الحق، وعلى دين واحد، فاختلفوا في الدين الذي كانوا مجتمعين عليه، ثم قيل: إنهم اختلفوا على عهد آدم وولده، عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد، والجبائي، وأبي مسلم. ومتى اختلفوا ؟ قيل: عند قتل أحد ابنيه أخاه. وقيل: اختلفوا بعد موت آدم عليه السلام، لأنهم كانوا على شرع واحد، ودين واحد إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون، ثم اختلفوا، عن أبي روق. وقيل: كانوا على ملة الإسلام من لدن إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين إبراهيم، وعبد الصنم في العرب، عن عطاء. يدل على صحة هذه الأقوال قراءة عبد الله: وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى، فاختلفوا عنه. وثانيها: إن الناس كانوا أمة واحدة مجتمعة على الشرك والكفر، عن ابن عباس، والحسن، والكلبي، وجماعة، ثم اختلف هؤلاء، فقيل: كانت أمة كافرة على عهد إبراهيم، ثم اختلفوا فتفرقوا، فمنهم مؤمن، ومنهم كافر، عن الكلبي. وقيل: كانت كذلك منذ وفاة آدم إلى زمن نوح، عن الحسن. وقيل: أراد به العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم كانوا مشركين إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فآمن به قوم، وبقي آخرون على الشرك. وسئل علي عليه السلام عن هذا فقيل: كيف يجوز أن يطبق أهل عصر على الكفر حتى لا يوجد مؤمن يشهد عليهم، والله تعالى يقول (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) ؟ وأجيبوا عن ذلك: بأنه يجوز أن يكون أهل كل عصر، وإن لم يخل عن مؤمنين، يشهدون عليهم، فربما يقلون في عصر، وإنما يتبع الاسم الأعم، وعلى هذا يقال دار الإسلام، ودار الكفر. وفي تفسير الحسن: وما كان الناس إلى مبعث
[ 170 ]
نوح، إلا ملة واحدة كافرة إلا الخاصة، فإن الأرض لا تخلو من أن يكون لله تعالى فيها حجة. وثالثها: إن الناس خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان. (ولولا كلمة سبقت من ربك) من أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة، إنعاما عليهم في التأني بهم (لقضي بينهم) أي: فصل بينهم (فيما فيه يختلفون) بأن يهلك العصاة، وينجي المؤمنين، لكنه أخرهم إلى يوم القيامة، تفضلا منه إليهم، وزيادة في الإنعام عليهم. ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار، فقال: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه) أي: هلا أنزل على محمد آية من ربه، تضطر الخلق إلى المعرفته بصدقه، فلا يحتاجون معها إلى النظر والإستدلال ولم يطلبوا معجزة تدل على صدقه لأنه، قد أتاهم بالمعجزات الدالة على نبوته، وإنما لم يلجئهم الله إلى ما التمسوه، لأن التكليف يمنع من الاضطرار إلى المعرفة فإن الغرض بالتكليف التعريض للثواب، ولو كانت المعرفة ضرورة لما استحقوا ثوابا، فكيف وكأن يكون ذلك ناقضا للغرض ؟ (فقل إنما الغيب لله) معناه: فقل يا محمد: إن الذي يعلم الغيب، ويعلم مصالح الأمور قبل كونها، هو الله العالم لنفسه، يعلم الأشياء قبل كونها، وبعد كونها، لا تخفى عليه خافية، فيعلم ما في إنزاله صلاح فينزله، ويعلم ما ليس في إنزاله صلاح فلا ينزله، ولذلك لا يفعل الآية التي اقترحوها في هذا الوقت، لما في ذلك من حسن تدبير. (فانتظروا) أي: فانتظروا عقاب الله تعالى بالقهر والقتل في الدنيا، والعقاب في الآخرة. (إني معكم من المنتظرين) لأن الله تعالى وعدني النصرة عليكم. وقيل: معناه فانتظروا إذلال الكافرين، فإني منتظر إعزاز المؤمنين. (وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في ءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون (21) هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن
[ 171 ]
أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23). القراءة: قرأ روح، وزيد، عن يعقوب، وسهل: (يمكرون) بالياء. والباقون: بالتاء. وقرأ: (ينشركم) بالنون والشين، من النشر، أبو جعفر، وابن عامر. والباقون: (يسيركم) بالسين والياء من التسيير وقرأ حفص وحده (متاع) بالنصب. والباقون بالرفع. الحجة: من قرأ يمكرون بالياء فلقوله: (إذا لهم مكر في آياتنا). ومن قرأ بالتاء فللخطاب أي: قل لهم يا محمد إن رسل الله يكتبون ما تمكرون. ومن قرأ (يسيركم) يقويه قوله: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، وقوله: (قل سيروا في الأرض) ويقال سار الدابة، وسرته، وسيرته قال: (فلا تجز عن من سنة أنت سرتها) (1)، وقال لبيد: فبنيان حرب أن تبوء بحربة، وقد يقبل الضيم الذليل المسير ومن قرأ (ينشركم) فحجته قوله: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)، وقوله: (وما بث فيهما من دابة) والبث: التفريق، والنشر في المعنى. وأما متاع الحياة الدنيا: فقد قال الزجاج من رفع فعلى وجهين أحدهما: أن يكون متاع الحياة الدنيا خبرا لقوله (بغيكم) والآخر: أن يكون خبر المبتدأ (على أنفسكم)، و (متاع الحياة)، على إضمار هو. ومن نصب فعلى المصدر أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. قال أبو علي: قوله (على أنفسكم) يحتمل تأويلين أحدهما: أن يكون متعلقا بالمصدر، لأن فعله يتعدى بهذا الحرف، ألا ترى إلى قوله: (بغى بعضنا على بعض) ثم بغي عليه. وإذا كان الجار من صلة المصدر، كان الخبر (متاع الحياة الدنيا) فيكون معناه: بغى بعضكم على بعض متاع الحياة في الدنيا. وليس ما يقرب إلى الله، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف، فيكون خبرا للمصدر، وفيه ذكر يعود (1) قائله خالد ابن اخت أبي ذؤيب وبعده: (فأول راض سنة من يسيرها). (*)
[ 172 ]
إليه، فيكون كقولك: الصلاة في المسجد، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، ومفعوله محذوفا، والمعنى: إنما بغى بعضكم على بعض بما يدل على أنفسكم، ويكون كقوله: (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله). ومن نصب: احتمل النصب وجهين: أحدهما: أن يكون على من صلة المصدر، ويكون الناصب لمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفا، وحسن حذفه لطول الكلام، ولأن بغيكم يدل على تبغون، فيحسن الحذف لذلك، وهذا الخبر لو أظهرته لكان يكون مكروه، أو مذموم، أو منهي عنه، ونحو ذلك. والآخر: أن يكون (على أنفسكم) خبر المبتدأ، فيكون (متاع) منصوبا على وجهين أحدهما: تمتعون متاعا، فيدل انتصاب المصدر عليه. والآخر: أن يضمر تبغون لأن ما يجري مجرى ذكره قد تقدم، كأنه لو أظهره لكان تبغون متاع الحياة الدنيا، فيكون مفعولا له ولا يجوز أن يتعلق المصدر بالمصدر في قوله: (إنما بغيكم) وقد جعلت (على) خبرا لقوله (إنما بغيكم) لفصلك بين الصلة والموصول. اللغة: التسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير الممدود. والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد إلى بلد، ومنه البر لاتساع الخير به. والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه (1). والفلك: السفن، وسميت فلكا لدورانها في الماء، وأصله الدور، ومنه فلكة المغزل. وتفلك ثدي الجارية: إذا استدار. والفلك: يكون جمعا وواحدا، وهو ههنا جمع. والعاصف: الريح الشديدة، وعصفت الريح فهي عاصف، وعاصفة، قال: حتى إذا عصفت ريح مزعزعة فيها قطار، ورعد صوته زجل (2) الاعراب: جواب إذا الأولى في إذا الثانية، وإنما جعل إذا جوابا، لكونها بمعنى الجملة، لما فيها من معنى المفاجأة، وهي ظرف مكان وهو كقوله (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) ومعناه: إن تصبهم سيئة قنطوا، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا وجرين بهم ابتداء الكلام خطاب، وبعد ذلك إخبار عن (1) أي جانباه (2) قطار ككتاب جمع القطر - بالفتح -: المطر. (*)
[ 173 ]
غائب، لأن كل من أقام الغائب مقام من يخاطبه، جاز له أن يرده إلى الغائب، قال كثير: أسيئي بنا، أو أحسني لا ملومة لدينا، ولا مقلية إن تقلت (1) وقال عنترة: شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنة مخرم (2) وقوله: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون) المعنى، فلما أنجاهم بغوا. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم، فقال: (وإذا أذقنا الناس رحمة) يريد بالناس الكفار، فهو عموم يراد به الخصوص (من بعد ضراء مستهم) أي: راحة ورخاء بعد شدة وبلاء، وحقيقة الذوق فيما له طعم يوجد إنما يكون طعمه بالفم، وإنما قال أذقناهم الرحمة على طريق البلاغة، لشدة إدراك الحاسة إياها (إذا لهم مكر في آياتنا) أي: فهم يحتالون لدفع آياتنا بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة، أو تخليط في مناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. وقال مجاهد: مكرهم إستهزاؤهم وتكذيبهم. (قل) يا محمد لهم (الله أسرع مكرا) أي: أقدر جزاء على المكر، ومعناه أن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر أي أوقع في حقه. وقيل: إن مكره سبحانه إنزاله العقوبة بهم من حيث لا يشعرون. (إن رسلنا) يعني الملائكة الحفظة (يكتبون ما تمكرون) أي ما تدبرون من سوء التدبير. وفي هذا غاية الزجر والتهديد من وجهين أحدهما أنه يحفظ مكرهم والآخر أنه أقدر على جزائهم وأسرع فيه. ثم امتن الله سبحانه على خلقه، بأن عدد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال، فقال (هو الذي يسيركم في البر والبحر) أي: يمكنكم من المسير في البر والبحر، بما هيأ لكم من آلات السير، وهي خلق الدواب وتسخيرها لكم لتركبوها في البر، وتحملوا عليها أثقالكم، وهيأ السفن في البحر، وإرسال الرياح المختلفة التي تجري بالسفن في الجهات المختلفة. (1) مضى البيت بمعناه في هذا الجزء. (2) هذا على رواية أبي عبيدة، لكن في رواية الزوزني والخطيب، ومعلقته، هكذا: (حلت بأرض الزائرين فأصبت عسرا. انتهى) شطت أي: جاوزت. والزائر على رواية الزوزني: بمعنى العدو، من زأر الأسد. شبه توعدهم وتهددهم بزئر الأسد. (*)
[ 174 ]
(حتى إذا كنتم في الفلك) خص الخطاب براكب البحر أي: إذا كنتم راكبي السفن في البحر (وجرين بهم) أي: وجرت السفن بالناس لما ركبوها، عدل عن الخطاب إلى الإخبار عن الغائب، تصرفا في الكلام. على أنه يجوز أن يكون خطابا لمن كان في تلك الحال، وإخبارا لغيرهم من الناس (بريح طيبة) أي: بريح لينة يستطيبونها. (وفرحوا بها) أي: سروا بتلك الريح لأنها تبلغهم متصودهم، عن أبي مسلم. وقيل: فرحوا بالسفينة حيث حملتهم وأمتعتهم (جاءتها ريح عاصف) أي: جاءت للسفينة ريح عاصف، شديدة الهبوب الهائلة (وجاءهم الموج من كل مكان) من البحر. والموج: إضطراب البحر، ومعناه. وجاء راكبي البحر الأمواج العظيمة من جميع الوجوه. (وظنوا أنهم أحيط بهم) أي: أيقنوا أنهم دنوا من الهلاك. وقيل: غلب على ظنهم أنهم سيهلكون لما أحاط بهم من الأمواج (دعوا الله) عند هذه الشدائد والأهوال، والتجأوا إليه ليكشف ذلك عنهم (مخلصين له الدين) أي: على وجه الإخلاص في الإعتقاد، ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم بأنها لا تنفعهم ههنا شيئا، وقالوا: (لئن أنجيتنا) يا رب (من هذه) الشدة (لنكونن من الشاكرين) أي: من جملة من يشكرك على نعمك. وقوله: (جاءتها ريح عاصف) جواب قوله: (إذا كنتم في الفلك). وقوله: (دعوا الله) جواب قوله (وظنوا أنهم أحيط بهم). (فلما أنجاهم) أي: خلصهم الله تعالى من تلك المحن (إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) أي: يعملون فيها بالمعاصي والفساد، ويشتغلون بالظلم على الأنبياء، وعلى المسلمين (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) أي: بغي بعضكم على بعض، وما ينالونه به متاع في الدنيا، وإنما تأتونه لحبكم العاجلة، وإيثارها على ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات. وقد مر بيانه من قبل. (ثم إلينا مرجعكم) في الآخرة (فننبئكم بما كنتم تعملون) أي: نخبركم بأعمالكم، لأنا أثبتناها عليكم، وهي كلمة تهديد ووعيد. النظم: قيل إنما اتصل قوله (هو الذي يسيركم) الآية، بما قبله، لأنه تفسير لبعض ما أجمل في الآية المتقدمة التي هي قوله: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد
[ 175 ]
ضراء) مستهم، عن أبي مسلم. وقيل: إنه يتصل بما تقدم في السورة من دلائل التوحيد، فكأنه قال: إلهكم الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وهو الذي يسيركم. (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الأيات لقوم يتفكرون (24) والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم (25). القراءة: في الشواذ قراءة الأعرج، والشعبي، وأبي العالية، ونصر بن عاصم، والحسن بخلاف (وأزينت). وقراءة أبي عثمان: (وازيأنت). الحجة: أما (إزينت) فأصله تزينت، فأدغمت التاء في الزاي، وسكنت الزاي، فاجتلبت لها ألف الوصل. وأما (أزينت) فإنه على أفعلت أي: جاءت بالزينة. وإزينت أجود في العربية لأن أزينت الأجود فيه أزانت مثل أقال وأباع. وأما أزيأنت فوزنه افعالت، وأصله أزيانت مثل ادهامت واسوادت، إلا أنه كره إلتقاء الساكنين، فحركت الألف، فانقلبت همزة، كقول كثير: وللأرض أما سودها فتجللت بياضا، وأما بيضها فادهأمت (1) اللغة: الزخرف: كمال حسن الشئ، ويقال زخرفته أي: حسنته، ومنه زخرفت الجنة لأهلها أي: زينت بأحسن الألوان. وغني بالمكان: أقام به. والمغاني: المنازل. قال النابغة: غنيت بذلك إذ هم لك جيرة (2) منها بعطف رسالة وتودد (1) تجلل بالثوب: تغطى. والدهمة: السواد. (2) الجيرة جمع الجار. (*)
[ 176 ]
والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله. والداعي إلى الفعل: خلاف الصارف عنه والفرق بين الدعاء والأمر أن في الأمر ترغيبا في الفعل، وزجرا عن تركه، وله صيغة تنبئ عنه. والدعاء ليس كذلك، وكلاهما طلب. وأيضا فإن الأمر يقتضي أن يكون المأمور دون الأمر في الرتبة، والدعاء يقتضي أن يكون فوقه. المعنى: لما تقدم ما يوجب الترغيب في الآخرة، والتزهيد في الدنيا، عقبه سبحانه بذكر صفة الدارين، فقال: (إنما مثل الحياة الدنيا) أي: صفة الحياة الدنيا، أو شبه الحياة الدنيا في سرعة فنائها وزوالها (كماء أنزلناه من السماء) وهو المطر (فاختلط به) أي: بذلك المطر (نبات الأرض) لأن المطر يدخل في خلل النبات، فيختلط به. وقيل: معناه فاختلط بسببه بعض النبات بالبعض، فاختلط ما يأكل الناس بما يأكل الأنعام، وما يقتات بما يتفكه. ثم فصل ذلك فقال: (مما يأكل الناس) كالحبوب، والثمار، والبقول (والأنعام) كالحشيش وسائر أنواع المراعي. وقد قيل في المشبه والمشبه به في الآية أقوال: أحدها أنه تعالى شبه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثم الإنقطاع وثانيها أنه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به، ثم المصير إلى الزوال، عن الجبائي، وأبي مسلم وثالثها أنه تعالى شبه الحياة الدنيا بحياة مقدرة على هذه الأوصاف. (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وبهجتها بأنواع الألوان، وأجناس النبات، وغير ذلك (وازينت) أي: تزينت في عين رائيها (وظن أهلها) أي: مالكها (أنهم قادرون عليها) أي: على الانتفاع بها، ومعناه: بلغت المبلغ الذي ظن أهلها أنهم يحصدونها، ويقدرون على غلتها، أو إدامتها (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) أي: أتاها عذابنا من برد أو برد. وقيل: معناه أتاها حكمنا وقضاؤنا بإهلاكها، وإتلافها. (فجعلناها حصيدا) أي: محصودة، ومعناه: مقطوعة، مقلوعة، ذاهبة، يابسة (كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تقم على تلك الصفة بالأمس. ومعناه: كأن لم تكن، ولم توجد من قبل. (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) أي: مثل ذلك نميز الآيات لقوم يتفكرون فيها، فيعتبرون بها.
[ 177 ]
ولما بين سبحانه أن الدنيا تنقطع وتفنى بالموت، كما يفنى هذا النبات بفنون الآفات، ونبه على التوقع لزوالها، والتحرز عن الاغترار بأحوالها، رغب عقيبه في الآخرة، فقال: (والله يدعو إلى دار السلام) قيل إن السلام وهو الله تعالى، فإن الله تعالى يدعو إلى داره، وداره الجنة، عن الحسن، وقتادة. وقيل: دار السلام الدار التي يسلم فيها من الآفات، عن الجبائي. والسلام والسلامة واحد مثل الرضاع والرضاعة، قال: تحيا بالسلامة أم بكر، وهل لك بعد رهطك من سلام وقيل: سميت الجنة دار السلام، لأن أهلها يسلم بعضهم على بعضي، والملائكة تسلم عليهم، ويسلم ربهم عليهم، فلا يسمعون إلا سلاما، ولا يرون إلا سلاما، ويعضده قوله: (تحيتهم فيها سلام) وما أشبهه (ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) قيل: يهدي من يشاء إلى الإيمان والدين الحق، بالتوفيق، والتيسير، والإلطاف. وقال الجبائي: يريد به نصب الأدلة لجميع المكلفين دون الأطفال والمجانين. وقيل: معناه يهدي من يشاء في الآخرة إلى طريق الجنة الذي يسلكه المؤمنون، ويعدل عنه الكافرون إلى النار. (* للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنمآ أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27). القراءة: قرأ ابن كثير، والكسائي، ويعقوب، وسهل (قطعا) ساكنة الطاء. والباقون: (قطعا) بفتحها. الحجة: القطع: جمع قطعة من الليل. والقطع: الجزء من الليل الذي فيه ظلمة. اللغة: الرهق: لحاق الأمر، ومنه راهق الغلام: إذا لحق بالرجال. ورهقه في الحرب: أدركه. قال الأزهري: الرهق إسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان
[ 178 ]
على ما لا يطيقه، ومنه سأرهقه صعودا. والكسب: إجتلاب النفع، والجزاء، والمكافأة. والقتر: الغبار. والقترة: الغبرة. والقتار: الدخان، ومنه الإقتار في المعيشة. الاعراب: (جزاء سيئة) في ارتفاعه وجهان أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبره بمثلها على زيادة الباء في قول أبي الحسن، لأنه وجد في مكان آخر: (وجزاء سيئة سيئة مثلها). ويجوز أن يكون الباء متعلقة بخبر محذوف تقديره جزاء سيئة كائن بمثلها، كما تقول: إنما أنا بك وأمري بيدك، وما أشبه ذلك والآخر: أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره استقر لهم جزاء سيئة بمثلها، ثم حذف استقر فبقي لهم جزاء سيئة بمثلها، ثم حذف لهم لدلالة الكلام على أن هذا مستقر لهم، ويجوز أن يكون (جزاء سيئة) مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره لهم جزاء سيئة بمثلها، أو جزاء سيئة بمثلها كائن، هذا قد أجازه أبو الفتح، وقوله (وترهقهم) عطف على كسبوا، وجاز أن يفصل بينهما بقوله (جزاء سيئة) بمثلها لأنه من الاعتراض الذي يبين الأول، ويسدده، ويثبته مظلما. قال أبو علي: إن أجريته على (قطع) ساكنة الطاء، فيحتمل نصبه على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة لقطع على قياس قوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) وصفت الكتاب بالمفرد، بعد ما وصفته بالجملة، وأجريته على النكرة والآخر: أن يكون حالا من الذكر الذي في الظرف يعني قوله (من الليل). وإن أجريته على (قطع) مفتوحة الطاء لم يكن صفة له، ولا حالا من الذكر الذي في قوله (من الليل). ولكن يكون حالا من الليل. والعامل في الحال ما يتعلق به من الليل، وهو الفعل المختزل، ومثل ذلك في إرادة الوصف بالسواد قول الشاعر: ودوية مثل السماء اعتسفتها، وقد صبغ الليل الحصى بسواد (1) أي: سودتها الظلمة. وقال غيره: يجوز أن يكون مظلما صفة لقطع على قول الشاعر: لو أن مدحة حي تنشرن أحدا أحيى أباكن يا ليلى الأماديح (1) الدوية: المفازة. واعتسف الطريق: ركبه على غير هداية. ولا دراية. (*)
[ 179 ]
المعنى: ثم بين سبحانه أهل دار السلام، فقال: (للذين أحسنوا الحسنى) ومعناه: للذين أحسنوا العمل، وأطاعوا الله تعالى في الدنيا، جزاء لهم على ذلك الحالة الحسنى، والمنزلة الحسنى، وهي الحالة الجامعة للذات والنعيم على أكمل ما يكون، وأفضل ما يمكن، وهو تأنيث الأحسن (وزيادة) ذكر في ذلك وجوه أحدها: إن الحسنى الثواب المستحق والزيادة التفضل على قدر المستحق على طاعاتهم من الثواب، وهي المضاعفة المذكورة في قوله (فله عشر) أمثالها عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة وثانيها: الزيادة هي إن ما أعطاهم الله تعالى من النعم في الدنيا، لا يحاسبهم به في الآخرة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. وثالثها: إن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب، عن علي عليه السلام. وقيل: الزيادة ما يأتيهم في كل وقت من فضل الله مجددا ورابعها: إن الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وروي ذلك عن أبي بكر، وأبي موسى الأشعري، وغيرهما. وقد بين الله سبحانه الزيادة في موضع آخر بقوله (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم) من فضله (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) أي: لا يلحق وجوههم سواد، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: غبار ولا ذلة أي: هوان. وقيل: كآبة وكسوف، عن قتادة. وروى الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عين ترقرقت بمائها إلا حرم الله ذلك الجسد على النار، فإن فاضت من خشية الله، لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة. (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) مر معناه (والذين كسبوا السيئات) أي: اكتسبوها وارتكبوها (جزاء سيئة بمثلها) أي: لهم جزاء كل سيئة بمثلها، يعني يجزون بمثل أعمالهم أي قدر ما يستحق عليها من غير زيادة، لأن الزيادة على قدر المستحق من العقاب ظلم، وليس كذلك الزيادة على قدر المستحق من الثواب، لأن ذلك تفضل يحسن فعله ابتداء، فالمثل هنا مقدار المستحق من غير زيادة، لا نقصان. (وترهقهم ذلة) أي: يلحقهم هوان وذل، لأن العقاب يقارنه الإهانة والإذلال. (ما لهم من الله من عاصم) أي: ما لهم من حافظ ومانع يدفع عقاب الله عنهم (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) أي: كأنما ألبست وجوههم ظلمة الليل، والمراد: وصف وجوههم بالسواد كقوله سبحانه: (ويوم القيامة ترى
[ 180 ]
الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة). (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ظاهر المراد. (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (28) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) هنا لك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30). القراءة: قرأ: (تتلو) بالتاء أهل الكوفة، غير عاصم، وروح، وزيد، عن يعقوب. والباقون: (تبلو) بالباء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (تبلو) فمعناه: تختبر من قولهم البلاء، ثم الثناء أي: الاختبار للمثنى عليه ينبغي أن يكون قبل الثناء، ليكون الثناء عن علم، بقدر ما يوجبه. ومعنى إختبارها ما أسلفت أنه إن قدم خيرا أو شرا، جوزي عليه، كما قال: (فمن يعلم مثقال ذرة) إلى آخره. (ومن عمل صالحا فلنفسه)، وغير ذلك من الآي. ومن قرأ (تتلو): فإنه من التلاوة التي هي القراءة دليله قوله: (فأولئك يقرأون كتابهم) وقوله: (إقرأ كتابك) ويكون (تتلو) تتبع من قولهم تلا الفريضة النفل: إذا أتبعها النفل قال: على ظهر عادي كأن أرومه رجال يتلون الصلاة قيام (1) فيكون المعنى: تتبع كل نفس ما أسلفت من حسنة، أو سيئة، قال: قد جعلت دلوي تستتليني ولا أحب تبع القرين أي: تستتبعني من ثقلها. اللغة: التنزيل: التفريق، مأخوذة من قولهم: زلت الشئ عن مكانه أزيله وزيلته للكثرة من هذا: إذا نحيته عن مكانه. وزايلت فلانا: إذا فارقته هنا لك أي: في ذلك المكان، وهو ظرف. فهنا للقريب، وهنا لك للبعيد، وهناك لما بينهما، (1) العادي: الشئ القديم نسب إلى عاد. والأروم: الأعلام. وقيل: هي قبور عاد. (*)
[ 181 ]
قال زهير: هنا لك إن يستخبلوا المال يخبلوا، وإن يسألوا يعطوا، وإن ييسروا يغلوا (1) والإسلاف: تقديم أمر لما بعده، فمن أسلف الطاعة لله جوزي بالثواب، ومن أسلف المعصية جوزي بالعقاب. الاعراب: (جميعا): نصب على الحال (مكانكم) قال الزجاج: هو منصوب على الأمر والمعنى انتظروا مكانكم حتى يفصل بينكم. والعرب تتوعد فتقول: (مكانك وانتظرني) وهي كلمة جرت على الوعيد. وأقول: إن الصحيح عند المحققين: أن مكانك ودونك من أسماء الأفعال فيكون مكانكم ههنا: إسما لألزموا مبنيا على الفتح، وليس بمنصوب نصب الظروف وكم: لا محل له من الإعراب، إذ هو حرف الخطاب. و (أنتم): رفع تأكيد للضمير في (مكانكم) و (شركاؤكم) عطف عليه. وهذا كما تقول في قولهم عليك زيدا أن الكاف حرف الخطاب لا محل له من الإعراب. و (على) ههنا: إسم الفعل، وليس بحرف. و (كفى بالله شهيدا) قال الزجاج: شهيدا منصوب على التمييز إن شئت، وإن شئت على الحال. (إن كنا) إن بمنزلة ما النفي أي: ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين قاله الزجاج، وأقول: الصحيح أن (إن) هذه: هي المخففة من الثقيلة، وإذا كانت مخففة من الثقيلة يلزمها اللام ليفرق بينها وبين النافية، والتقدير إنا كنا على عبادتكم غافلين. و (هنالك): منصوب بتبلو، إلا أنه غير متمكن، واللام زائدة كسرت لالتقاء الساكنين. المعنى: ولما تقدم ذكر الجزاء، بين سبحانه وقت الجزاء، فقال: (ويوم نحشرهم جميعا) أي: نحشر الخلائق أجمعين أي: نجمعهم من كل أوب إلى الموقف (ثم نقول للذين أشركوا) في عبادتهم مع الله غيره، وفي أموالهم فقالوا هذا لله وهذا لشركائنا (مكانكم أنتم وشركاؤكم) أي: اثبتوا والزموا مكانكم أنتم مع (1) الإخبال. أن يعطى الرجل البعير أو الناقة ليركبها، ويجتز وبرها، وينتفع بألبانها، ثم يردها. والإستخبال: الإستعارة. وقوله (ييسروا) من اليسر، وهو القمار. و (يغلوا) أي يأتون بجزور سمين، أو أنهم يغالوا أي: يكثروا. يصف قوما بالجود. (*)
[ 182 ]
شركائكم، يعني الأوثان، فقد صحبتموهم في الدنيا، فاصحبوهم في المحشر. وقيل: معناه اثبتوا حتى تسألوا كقوله: (وقفوهم انهم مسؤولون). (فزيلنا بينهم) أي: فميزنا وفرقنا بينهم في المسألة، فسألنا المشركين على حدة: لما عبدتم الأصنام ؟ وسألنا الأصنام على حدة: لما عبدتم ؟ وبأي سبب عبدتم ؟ وهذا سؤال تقريع وتبكيت، عن الحسن، ومثله (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) وقيل: معناه فزيلنا بينهم وبين الأوثان، فتبرأ منهم الشركاء، وانقطعت أسبابهم. (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) أي: يحييهم الله وينطقهم، فقالوا: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، عن مجاهد. وقيل: إن شركاءهم من كانوا يعبدونهم من الشياطين. وقيل: هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، وفي كيفية جحدهم لعبادتهم إياه قولان أحدهما: إنهم يقولون ذلك على وجه إهانتهم بالرد عليهم أي: ما اعتذرنا بذلك لكم والآخر: إن المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا، ولم يرد أنهم لم يعبدوهم أصلا، لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة، لكونهم ملجئين إلى ترك القبيح، عن الجبائي. وهذه الآية نظير قوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) الآية (فكفى بالله شهيدا) أي: فاصلا للحكم (بيننا وبينكم) أيها المشركون (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) مر معناه، وهذا إذا كان المراد به الملائكة، فإنهم عما ادعوه غافلون، لأنهم لم يشعروا بذلك ولا أمروا به. وإن كان المراد الأصنام، فلم يكن لها حس، ولا علم. وهذا غاية في إلزام الحجة، إختاروا للعبادة من لم يدعهم إليها، ولم يشعر بها (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) أي: في ذلك المكان، وفي تلك الحال، وفي ذلك الوقت، تجرب وتعلم كل نفس ما قدمت من خير أو شر، وترى جزاءه على القراءة بالتاء معناه: تقرأ كل نفس جزاء عملها، وجزاء ما قدمته. (وردوا إلى الله مولاهم الحق) أي: وردوا إلى جزاء الله، وإلى الموضع الذي لا يملك أحد فيه الحكم إلا الله الذي هو مالكهم، وسيدهم، وخالقهم، والحق: صفة لله تعالى، وهو القديم الدائم الذي لا يفنى، وما سواه يبطل. وقيل: الحق هو الذي يكون معنى اللفظ حاصلا له على الحقيقة. فالله، جل جلاله، وهو الحق، لأن معنى الإلهية حاصل له على الحقيقة (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي: بطل وهلك عنهم ما كانوا يدعونه بافترائهم من الشركاء مع الله تعالى.
[ 183 ]
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذالكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33). القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر: (كلمات) ههنا وفي آخرها على الجمع، وكذلك في سورة المؤمن. والباقون: على التوحيد. الحجة: قال أبو علي: من قرأ على التوحيد إحتمل وجهين أحدهما: أن يكون جعل ما أوعد به الفاسقون كلمة، وإن كانت في الحقيقة كلمات، لأنهم قد يسمون القصيدة كلمة، والخطبة كلمة والآخر: أن يكون (كلمة ربك) التي يراد بها الجنس، قد أوقعت على بعض الجنس، كما أوقع اسم الجنس على بعضه في قوله: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل) وقول الشاعر: (ببطن شريان يعوي عنده الذيب) (1). فأما من جمع: فإنه جعل الكلم التي توعدوا بها كل واحدة منها كلمة، ثم جمع فقال (كلمات) وكلاهما وجه. الاعراب: كذلك حقت: الكاف في موضع نصب أي: مثل أفعالهم جازاهم ربك وقوله (انهم لا يؤمنون) بدل من كلمة (ربك) أي: حقيق عليهم أنهم لا يؤمنون. ويجوز أن يكون على تقدير حقت عليهم الكلمة، لأنهم لا يؤمنون، ويكون الكلمة ما وعدوا به من العقاب. المعنى: ثم قرر سبحانه أدلة التوحيد والبعث عليهم، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (من يرزقكم) أي: من يخلق لكم الأرزاق (من السماء) بإنزال المطر والغيث (و) من (الأرض) بإخراج النبات، وأنواع الثمار. والرزق: في اللغة هو العطاء الجاري، يقال رزق السلطان الجند، إلا أن كل رزق فإن الله هو الرزاق به، (1) قائلته جنوب أخت عمرو ذى الكلب ترثي أخاها، وقبله: أبلغ هذيلا، وأبلغ من يبلغها عني حديثا، وبعض القول تكذيب وشريان - بالكسر -: موضع بعينه، أو واد. (*)
[ 184 ]
لأنه لو لم يطلقه على يد ذلك الإنسان، لم يجئ منه شئ، فلا يطلق اسم الرزاق إلا على الله تعالى. ويقيد في غيره كما لا يطلق إسم الرب إلا عليه، ويقيد في غيره، فيقال رب الدار، ورب الضيعة، ولا يجوز أن يخلق الله حيوانا يريد تبقيته إلا ويرزقه، لأنه إذا أراد بقاءه فلا بد له من الغذاء (أمن يملك السمع والأبصار) معناه: أم من يملك أن يعطيكم الأسماع، والأبصار، فيقويها وينورها، ولو شاء لسلب نورها وحسها. (ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) قيل: معناه ومن يخرج الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان. وقيل: معناه ومن يخرج الحيوان من بطن أمه إذا ماتت أمه، ويخرج غير التام، ولا البالغ حد الكمال من الحي. وقيل: معناه ومن يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن (ومن يدبر الأمر) أي: ومن الذي يدبر جميع الأمور في السماء والأرض على ما توجبه الحكمة (فسيقولون الله) أي: فسيعترفون بأن الله تعالى يفعل هذه الأشياء، وان الأصنام لا تقدر عليها. (فقل أفلا تتقون) أي: فقل لهم عند اعترافهم بذلك: أفلا تتقون عقابه في عبادة الأصنام. وفي الآية دلالة على التوحيد، وعلى حسن المحاجة في الدين لأنه سبحانه حاج به المشركين. وفيها دلالة على أنهم كانوا يقرون بالخالق، وإن كانوا مشركين، فإن جمهور العقلاء يقرون بالصانع سوى جماعة قليلة من ملحدة الفلاسفة، ومن أقر بالصانع على هذا صنفان: موحد يعتقد أن الصانع واحد لا يستحق العبادة غيره، ومشرك، وهم ضربان: فضرب جعلوا لله شريكا في ملكه، يضاده ويناوئه، وهم الثنوية والمجوس، ثم اختلفوا فمنهم يثبت لله شريكا قديما كالمانوية، ومنهم من يثبت شريكا محدثا كالمجوس. وضرب آخر لا يجعل لله شريكا في حكمه وملكه، ولكن يجعل له شريكا في العبادة، يكون متوسطا بينه وبين الصانع، وهم أصحاب المتوسطات. ثم اختلفوا: فمنهم من جعل الوسائط من الأجسام العلوية كالنجوم والشمس والقمر. ومنهم من جعل المتوسط من الأجسام السفلية كالأصنام ونحوها، تعالى الله عما يقول الزائغون عن سبيله علوا كبيرا (فذلكم الله) ذلك إشارة إلى إسم الله تعالى الذي وصفه في الآية الأولى بأنه الذي يرزق الخلق، ويخرج الحي من الميت،
[ 185 ]
ويخرج الميت من الحي. والكاف والميم للمخاطبين، وهم جميع الخلق. أخبر سبحانه أن الذي يفعل هذه الأشياء (ربكم الحق) الذي خلقكم، ومعبودكم الذي له معنى الإلهية ويحق له العبادة دون غيره من الأصنام والأوثان. (فماذا بعد الحق إلا الضلال) إستفهام يراد به التقرير على موضع الحجة، إذ لا يجد المجيب محيدا عن الإقرار به إلا بذكر ما لا يلتفت إليه. والمراد به ليس بعد الذهاب عن الحق إلا الوقوع في الضلال، لأنه ليس بينهما واسطة، فإذا ثبت أن عبادة ما سواه باطل وضلال (فأنى تصرفون) أي: فكيف تعدلون عن عبادته مع وضوح الدلالة على أنه لا معبود سواه (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم (لا يؤمنون) معناه: إن الوعيد من الله تعالى للكفار بالنار في الصحة، كالقول بأنه ليس بعد الحق إلا الضلال. وقيل: إن معناه مثل انصرافهم عن الإيمان، وجبت العقوبة لهم أي: جازاهم ربهم بمثل ما فعلوا من الإنصراف. وهذا في قوم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، ومعناه: سبق علم ربك في هؤلاء أنهم لا يؤمنون وقيل معنى قوله: (أنهم لا يؤمنون) (1) أو لأنهم لا يؤمنون أي: وجبت العقوبة عليهم لذلك. (قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (أمن لا يهدي) ساكنة الهاء، خفيفة الدال. وقرأ أهل المدينة، غير ورش: (يهدي) ساكنة الهاء مشددة الدال. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وروح، وزيد، عن يعقوب: (يهدي) بفتح الياء والهاء، وتشديد الدال، إلا أن أبا عمرو أشار إلى فتحة الهاء من غير إشباع. وقرأ عاصم، غير حماد، ويحيى، ورويس، عن يعقوب: (يهدي) بفتح الياء، وكسر (1) [ بأنهم لا يؤمنون ]. (*)
[ 186 ]
الهاء، وتشديد الدال. وقرأ حماد، ويحيى، عن أبي بكر، عن عاصم (يهدي) بكسر الياء، والهاء، والتشديد. الحجة: قوله (يهدي ويهدي ويهدي ويهدي) أصل جميعها: يهتدي يفتعل، وإن اختلفت ألفاظها، أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها، فإنهما من حيز واحد. ثم اختلفوا في تحريك الهاء: فمن قرأ (يهدي) ألقى حركة الحرف المدغم، وهو التاء على الهاء، ومن قرأ (يهدي) بكسر الهاء فإنه حرك الهاء بالكسر لالتقاء الساكنين. ومن سكن الهاء جمع بين الساكنين، ومن أشم الهاء ولم يسكن فالإشمام في حكم التحريك. ومن كسر الياء مع الهاء اتبع الياء بما بعدها من الكسرة، وهو ردي لثقل الكسرفي الياء. الاعراب: قوله (فمالكم كيف تحكمون): ما مبتدأ، ولكم خبره، وكيف: منصوب بقوله (تحكمون). (لا يغني من الحق شيئا) يجوز أن يكون قوله (شيئا) مفعول يغني، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي: لا يغني من الحق غناء، وكذا قيل: في قوله (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) قالوا: هو مفعول تجزي. وقالوا: هو مصدر أي جزاء، وكذلك قوله (ولا تشركوا به شيئا) قالوا: هو مفعول تشركوا، وقالوا: هو مصدر أي لا تشركوا به إشراكا، وكذلك قوله (يعبدونني ولا يشركون بي شيئا). المعنى: ثم احتج سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين (هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده) أي: هل من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء لله في العبادة. وقيل: الذين جعلتموهم شركاء في أموالكم كما قال وهذا لشركائنا من يبدء الخلق بالإنشاء بعد أن لم يكن، وهو النشأة الأولى، ثم يعيده في النشأة الثانية (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) معناه: فإن قالوا ليس من شركائنا من يقدر عليه، أو سكتوا، فقل أنت لهم: الله هو الذي يبدأ الخلق بأن ينشئه على غير مثال، ثم يفنيه ثم يعيده يوم القيامة (فأنى تؤفكون) أي: كيف تصرفون عن الحق، وتقلبون عن الإيمان. ثم استأنف الحجاج، فقال سبحانه: (قل) يا محمد (هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) أي: هل من هذه الأصنام من يهدي الناس إلى الرشد، وما فيه
[ 187 ]
الصلاح والنجاة والخير، بدلالة ينصبها، وحجة يظهرها، فلابد من أن يجيبوا بلا (قل) أنت لهم (الله) هو الذي (يهدي للحق) إلى طريق الرشاد. يقال: هديت إلى الحق، وهديت للحق، بمعنى واحد (أفمن يهدي إلى الحق) معناه: أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والرشد (أحق أن يتبع) أمره، ونهيه. (أم من لا يهدي) أحدا (إلا أن يهدى) أو لا يهتدي هو إلا أن يهدى، والأصنام لا تهتدي، ولا تهدي أحدا، وإن هديت لأنها موات من حجارة ونحوها، ولكن الكلام نزل على أنها إن هديت إهتدت، لأنهم لما اتخذوها آلهة، عبر عنها كما يعبر عمن يعقل، ووصفت بصفة من يعقل، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، ألا ترى إلى قوله سبحانه: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون)، وقوله: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) وإنما هن موات ألا ترى أنه قال: (فادعوهم فليستجيبوا لكم ألهم أرجل يمشون بها) الآية وكذلك قوله: (وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم) فأجرى عليه اللفظ كما يجري على من يعلم، وعلى هذا فقوله (إلا أن يهدى) إلا بمنزلة حتى، فكأنه قال أمن لا يهتدي حتى يهدى، أم من لا يعلم حتى يعلم، ومن لا يستدل على شئ حتى يدل عليه، وإن كان لو دل أو علم لم يستدل ولم يعلم، ولو هدى لم يهتد بين الله سبحانه بذلك جهلهم، وقلة تمييزهم في تسويتهم من لا يعلم، ولا يقدر بالله القادر والعالم. وقال البلخي: لا يهدي، ولا يهتدي، بمعنى واحد. يقال: هديته فهدى أي: اهتدى. وقيل: إن المراد بذلك الملائكة والجن، لأنهم يهتدون إذا هدوا. وقيل: المراد به الرؤسا والمضلون الذين يدعون إلى الكفر. وقيل: إن المعنى في قوله: (لا يهدي إلا أن يهدى)، لا يتحرك، إلا أن يحرك، ولا ينتقل إلا أن ينقل، كقول الشاعر: (حيث تهدي ساقه قدمه) (1) أي: يحمل. وقيل: معناه إلا أن يركب الله فيه آلة التمييز والهداية، ويرزقه فهما وعقلا، فإن هدي حينئذ اهتدى. (فمالكم) قال الزجاج: هذا كلام تام، كأنه قال: أي شئ لكم في عبادة من لا يضر ولا ينفع (كيف تحكمون) هذا تعجيب من حالهم أي: كيف تقضون بأن (1) قائله طرفة، وهذا عجز بيت قبله (للفتى عقل يعيش به). (*)
[ 188 ]
هذه الأصنام آلهة، وأنها تستحق العبادة. وقيل: كيف تحكمون لأنفسكم بما لا توجبه الحجة، ولا تشهد بصحته الأدلة (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) أي: ليس يتبع أكثر هؤلاء الكفار إلا ظنا، الظن الذي لا يجدي شيئا من تقليد آبائهم ورؤسائهم (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) لأن الحق إنما ينتفع به من علمه حقا، وعرفه معرفة صحيحة، والظن يكون فيه تجويز أن يكون المظنون على خلاف ما ظن، فلا يكون مثل العلم (إن الله عليم بما يفعلون) من عبادة غير الله تعالى، فيجازيهم عليه، وفيه ضرب من التهديد. (وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40). اللغة: القرآن: عبارة عن هذا الكلام الذي هو في أعلى طبقات البلاغة، مع حسن النظام والجزالة، والتفصيل، والتقسيم، والتمييز، نظائر. وضده التلبيس، والتخليط، والسورة: جملة منزلة، محيطة بآيات الله كإحاطة سور البناء بالبناء. والاستطاعة: حالة للحي تنطاع بها الجوارح للفعل، وهي مأخوذة من الطوع. والقدرة مأخوذة من القدر، فهي معنى يمكن أن يوجد بها الفعل والا يوجد لتقصير قدره عن ذلك المعنى. الاعراب: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) أي لأن يفترى، ويجوز أن يكون المعنى: ما كان هذا القرآن افتراء، فيكون مصدرا في موضع نصب بأنه خبر كان، و (تصديق) عطف عليه أي: ولكن كان تصديق الذي بين يديه. (أم يقولون افتراه): أم هذه هي المنقطعة، وتقديره: بل أيقولون. و (كيف): في موضع نصب على أنه خبر كان.
[ 189 ]
المعنى: ثم رد الله سبحانه على الكفار قولهم: إئت بقرآن غير هذا، أو بدله. وقولهم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم افترى هذا القرآن فقال: (وما كان هذا القرآن أن يفترى) أي: افتراء (من دون الله) فأقام أن مع الفعل مقام المصدر، بل هو وحي من الله، ومتلقى منه (ولكن تصديق الذي بين يديه) من الكتب كما قال في موضع آخر (مصدقا لما بين يديه). وهذه شهادة من الله بأن القرآن صدق وشاهد لما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور، بأنها حق، ومن وجه آخر هو شاهد لها من حيث انه مصداق لها على ما تقدمت البشارة به فيها. وقيل: معناه تصديق الذي بين يديه في المستقبل من البعث والنشور، والحساب، والجزاء. (وتفصيل الكتاب) أي: تبيين المعاني المجملة في القرآن من الحلال، والحرام، والأحكام الشرعية. وقيل: معناه وبيان الأدلة التي تحتاجون إليها في أمور دينكم (لا ريب فيه من رب العالمين) أي: لا شك فيه أنه نازل من عند الله، وأنه معجز لا يقدر أحد على مثله، وهذا غاية في التحدي. (أم يقولون افتراه): هذا تقرير على موضع الحجة بعد مضي حجة أخرى، وتقديره: بل أيقولون افتراه هذا فألزمهم على الأصل الفاسد إمكان أن يأتوا بمثله و (قل) لهم (فأتوا بسورة مثله) أي: مثله في البلاغة لأنكم من أهل لسانه، فلو قدر على ذلك لقدرتم أنتم أيضا عليه، فإذا عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من كلام البشر، وأنه منزل من عند الله عز اسمه، وقيل: (بسورة مثله) أي: بسورة مثل سورة منه. وقال: (مثله) لأنه إنما التمس من هذا شبه الجنس. (وادعوا من استطعتم من دون الله) أي وادعوا من قدرتم عليه من دون الله، واستعينوا به للمعاضدة على المعارضة بسورة مثله (إن كنتم صادقين) في أن هذا القرآن مفترى من دون الله. وهذا أيضا غاية في التحدي والتعجيز. (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) أي: بما كذبوا، ولم يعلموه من جميع وجوهه، لأن في القرآن ما يعلم المراد منه بدليل، ويحتاج إلى الفكر فيه، والرجوع إلى الرسول في معرفة مراده، وذلك مثل المتشابه. فالكفار لما لم يعرفوا المراد بظاهره، كذبوا به. وقيل: معناه بل كذبوا بما لم يحيطوا علما بكيفية نظمه وترتيبه، وهذا كما أن الناس يعرفون الفاظ الشعر والخطب ومعانيها، ولا يمكنهم إبداعها
[ 190 ]
لجهلهم بنظمها وترتيبها. وقال الحسن: معناه بل كذبوا بالقرآن من غير علم ببطلانه. وقيل: معناه بل كذبوا بما في القرآن من الجنة والنار، والبعث والنشور، والثواب والعقاب. (ولما يأتهم تأويله) أي: لم يأتهم بعد حقيقة ما وعد في الكتاب مما يؤول إليه أمرهم من العقوبة. وقيل: معناه إن في القرآن أشياء لا يعلموه هم، ولا يمكنهم معرفته، إلا بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يرجعوا إليه، وكذبوا به فلم يأتهم تفسيره وتأويله. فيكون معنى الآية: بل كذبوا بما لم يدركوا علمه من القرآن، ولم يأتهم تفسيره، ولو راجعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلموه. وروي عن أبي عبيد الله عليه السلام أنه قال: إن الله خص هذه الأمة بآيتين من كتابه أن لا يقولوا إلا ما يعلمون، وأن لا يردوا ما لا يعلمون. ثم قرأ: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) الآية. وقرأ: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) الآية. وقيل: إن من هنا أخذ أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: (الناس اعداء ما جهلوا). وأخذ قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) من قوله، عز وجل: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) وأخذ قوله (تكلموا تعرفوا) من قوله: (ولتعرفنهم في لحن القول). (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي: مثل تكذيب هؤلاء، كذبت الأمم السالفة رسلها (فانظر) يا محمد (كيف كان عاقبة الظالمين) أي: كما كان عاقبة أولئك الهلاك، كذلك يكون عاقبة هؤلاء. ثم أخبر سبحانه أن من جملة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن، ونسبوه إلى الإفتراء، من سيؤمن به في المستقبل، ويصدق بأنه من عند الله، ومنهم من يموت على كفره، فقال: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به) وأراد سبحانه أنه إنما لا يهلكهم في الحال، لما يعلم في تبقيتهم من الصلاح. وقيل: معناه ومنهم من يؤمن بالقرآن في نفسه، ويعلم صحته، إلا أنه يعاند ويظهر من نفسه خلاف ما يعلمه، ومنهم من هو شاك فيه، فكأنه قال ومنهم معاندون، ومنهم شاكون (وربك أعلم بالمفسدين) أي: بمن يدوم على الفساد، ويعلم من يتوب. (وإن كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون (41) ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42)
[ 191 ]
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون (43) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44) المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وإن كذبوك) يا محمد، ولم يصدقوك، وردوا عليك قولك (فقل) لهم (لي عملي) فإن كنت كاذبا فوباله علي (ولكم عملكم) أي: ولكم جزاء عملكم (أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون) نظيره قوله (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة. وهذا وعيد لهم من الله تعالى كقوله: (اعملوا على مكانتكم) ونحوه. وقيل: ان هذه الآية منسوخة بآية القتال. وقيل إنه لا تنافي بين هذه الآية، وآية القتال، لأنها براءة ووعيد، وذلك لا ينافي الجهاد. (ومنهم من يستمعون اليك) معناه: ومن جملة هؤلاء الكفار، من يستمع إليك يا محمد، والإستماع: طلب السمع، فهم كانوا يطلبون السمع للرد لا للفهم، فلذلك لزمهم الذم، فإنهم إذا سمعوه على هذا الوجه، كأنهم صم لم يستمعوه، حيث لم ينتفعوا به (أفأنت تسمع الصم) هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يقدر على إسماع الصم (ولو كانوا لا يعقلون) قال الزجاج: معناه ولو كانوا جهالا. وهذا مثل قول الشاعر (أصم عما ساءه سميع). (ومنهم من ينظر إليك) أي: ومن جملتهم من ينظر إليك يا محمد، فلم يخبر بلفظ الجمع هنا، لأنه حمله على اللفظ وقال: (من يستمعون)، فأخبر بلفظ الجمع حملا على المعنى، أي: ينظر إلى أفعالك وأقوالك لا نظر الحقيقة والعبرة، بل نظر العادة، فلا ينتفع بنظره (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) أي: فكما أنك لا تقدر أن تبصر العمي فتنفعهم به، كذلك لا تقدر أن تنفع بما تأتي به من الأدلة من ينظر إليها، ولا يطلب الانتفاع بها. وقوله: (أفأنت) استفهام المراد به النفي. وقيل: إن معنى الآيتين ومنهم من يستمع إلى كلامك استماع الطعن والتعنت، وينظر إلى أدلتك نظر الطاعن القادح فيها، المكذب بها، الراد عليها، فلا تقدر أن تنفعهم بمثل هذا الإستماع، والنظر. (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) قد تمدح سبحانه
[ 192 ]
في هذه الآية بأنه لا يظلم أحدا من الناس شيئا بأن ينقص من حسناتهم وجزاء طاعاته، ولكنهم ينقصون أنفسهم، ويظلمونها بارتكاب ما نهى الله عنه من القبائح. والمعنى هنا: إن الله تعالى لا يمنع أحدا الانتفاع بما كلفهم الانتفاع به من القرآن والأدلة ولكنهم يظلمون أنفسهم بترك النظر فيه، والاستدال به، وتفويتهم أنفسهم الثواب عليها، وادخالهم عليها العقاب ففي الآية دلالة على أنه سبحانه لا يفعل الظلم، فبطل قول المجبرة في إضافة كل ظلم إلى خلقه، وإرادته. النظم: قيل في اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد والنبوات، فعاندوا وكذبوا، أمر فيما بعد بقطع العصمة عنهم، والوعيد لهم. وأما الآية الأخيرة وهي قوله: (إن الله لا يظلم الناس شيئا) فالوجه في اتصالها بما قبلها، أنها تتصل بقوله (فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين) يعنى أنهم استحقوا ذلك الهلاك والعذاب بأفعالهم وما ظلمناهم. وقيل: انها اتصلت بقوله: (ومنهم من يستمعون إليك ومنهم من ينظر إليك) فكأنه قال إن الله لا يمنعهم الإنتفاع بما كلفهم بل مكنهم، وبين لهم، وهداهم، وأزاح علتهم، ولكن ظلموا هم أنفسهم بترك الانتفاع به، عن الجبائي، وأبي مسلم، وقيل: إنه لما تقدم ذكر الوعد والوعيد، بين سبحانه أنه لا يظلمهم أي: لا ينقص من حسناتهم ولا يزيد في سيئاتهم. (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45) وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47) القراءة: قرأ حفص عن عاصم: (ويوم يحشرهم) بالياء. والباقون. بالنون. الحجة، والاعراب: قال أبو علي: يحتمل قوله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار). ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون صفة ليوم: والآخر: أن يكون صفة للمصدر المحذوف والثالث: أن يكون حالا من الضمير في نحشرهم فإذا جعلته صفة ليوم احتمل ضربين من التأويل: أحدهما: أن يكون قبله إلا ساعة،
[ 193 ]
فحذفت الكلمة لدلالة المعنى عليها، ومثل ذلك في حذف هذا النحو منه قوله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) أي: أمسكوهن قبله. وكذلك قوله: (يتربصن بأنفسهن) أي يتربصن بعدهم. ويجوز أن يكون المعنى كأن لم يلبثوا قبله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم حذفت الهاء من الصفة كقولك الناس رجلان: رجل اهنتم، ورجل أكرمتم. ومثل هذا في حذف المضاف، وإقامة الصفة المضاف إليه مقامه، قوله: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) وهو واقع بهم، التقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف. وان جعلته صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفناه وبمثله. وان جعلته حالا من الضمير المنصوب، لم يحتج إلى حذف شئ من اللفظ، لأن الذكر من الحال قد عاد إلى ذي الحال. والمعنى نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث إلا ساعة. وأما (يوم نحشرهم) فإنه يصلح أن يكون معمولا لأحد شيئين أحدهما: أن يكون معمول (يتعارفون) والآخر: أن يكون (يوم نحشرهم) لما دل عليه قوله (كأن لم يلبثوا) فإذا جعلته معمولا لقوله (يتعارفون) انتصب يوم على وجهين أحدهما: أن يكون ظرفا معناه يتعارفون في هذا اليوم والآخر: أن يكون على السعة على قوله: يا سارق الليلة أهل الدار. ومعنى (يتعارفون) يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون المعنى مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها، وحذف المفعول للدلالة عليه، كما حذف في مواضع كثيرة، وعدى تفاعل كما يعدي في قوله تخاطأت النبل أحشاءه، أو يكون أعمل الفعل الذي دل عليه (يتعارفون) ألا ترى أنه قد دل على يستعملون ويتعرفون، وتعرفوا مدة اللبث هاهنا كما تعرفوها في قوله (قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) والآخر في التعارف ما جاء من قوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) فتعارفهم يكون على أحد هذين الوجهين. فعلى هذا يكون قوله: (ويوم نحشرهم) معمول (يتعارفون). والآخر: أن يكون (يوم نحشرهم) معمول ما دل عليه قوله (كأن لم يلبثوا) ألا ترى أن المعنى تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمتنع المعنى من أن يعمل في الظرف وإن تقدم الظرف عليه كقولهم: أكل يوم لك ثوب. وإذا حملته على هذا لم يجز أن يكون صفة للمصدر، لأن الموصوف الذي هو
[ 194 ]
المصدر، موضعه بعد الفعل، تقديره يوم نحشرهم حشرا، كأن لم يلبثوه، أو لم يلبثوا قبله. والصفة لا يتقدم عليها ما تعمل فيه، ولا يجوز أيضا أن تجعله صفة ليوم على هذا، لأن الصفة لا تعمل في الموصوف. ألا ترى أن الصفة شرح للموصوف، كما أن الصلة لا تعمل في الموصول، لذلك فإن قلت: فإذا قدرت كأن لم يلبثوا على تقدير الحال من الضمير، هل يجوز أن يكون يوم معمولا له ؟ فإن ذلك لا يجوز، لأن العامل في الحال يحشر أو نحشر، وقد أضيف اليوم إليه، ولا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه، لأن ذلك يوجب تقديمه على المضاف. ألا ترى أنه لم يجز القتال زيدا حين يأتي. وإذا جعلت يتعارفون العامل في (يوم نحشرهم) لم يجز أن يكون صفة ليوم، على أنك كأنك وصفت اليوم بقوله (كأن لم يلبثوا) و (يتعارفون)، فوصفت يوم نحشرهم بجملتين، لم يجز أن يكون معمولا لقوله (يتعارفون)، لأن الصفة لا تعمل في الموصوف، وجاز وصف اليوم بالجمل، وإن أضيف، لأن الإضافة ليست بمحضة فلم تعرفه، ويدل على النون في نحشرهم قوله سبحانه: (وحشرناهم)، وقوله: (فجمعناهم جمعا ونحشره يوم القيامة أعمى) ويدل على الياء قوله: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) وكل واحد منهما يجري مجرى الآخر. المعنى: ثم بين سبحانه حالهم يوم الجمع، فقال: (ويوم يحشرهم) أي: يجمعهم من كل مكان إلى الموقف (كأن لم يلبثوا) في الدنيا (إلا ساعة من النهار) أي: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار، ومعناه: أنهم استقلوا أيام الدنيا، فإن المكث في الدنيا وإن طال، كان بمنزلة مكث ساعة في جنب الآخرة، عن الضحاك، وجماعة. وقيل: استقلوا أيام مقامهم في الدنيا لقلة انتفاعهم بأعمارهم فيها، فكأنهم لم يلبثوا إلا يوما فيها، لقلة فائدتها. وقيل: انهم استقلوا مدة لبثهم في القبور، عن ابن عباس. وقد دل الله سبحانه بذلك على أنه لا ينبغي لأحد أن يغتر بطول ما يأمله من البقاء في الدنيا، إذا كان عاقبته إلى الزوال. (يتعارفون بينهم) معناه: إن الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت، كما كانوا في الدنيا كذلك. وقيل: معناه يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر. قال الكلبي: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب، ويتبرأ بعضهم من بعض (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) أي بلقاء جزاء
[ 195 ]
الله (وما كانوا مهتدين) للحق. قال الحسن: معناه خسروا أنفسهم لأنهم لم يكونوا مهتدين في الدنيا، ولو كانوا مهتدين في الدنيا لم يخسروا أنفسهم. ومعناه: أنهم خسروا الدنيا حين صرفوها إلى المعاصي، وخسروا نعيم الآخرة حين فوتوها على أنفسهم بمعاصيهم. (وإما نرينك) يا محمد في حياتك (بعض الذي نعدهم) أي: نعد هؤلاء الكفار من العقوبة في الدنيا. قالوا: ومنها وقعة بدر (أو نتوفينك) أي: نميتنك قبل أن ينزل ذلك بهم، وينزل ذلك بهم بعد موتك (فإلينا مرجعهم) أي: إلى حكمنا مصيرهم في الآخرة، فلا يفوتوننا. وقيل: إن الله سبحانه وعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ينتقم له منهم إما في حياته، أو بعد وفاته، ولم يحده بوقت، فقال: إن ما وعدناه حقا لا محالة (ثم الله شهيد على ما يفعلون) أي: عليم بأفعالهم، حافظ لها، فهو يوفيهم عقاب معاصيهم. (ولكل أمة رسول) أي: لكل جماعة على طريقة واحدة، ودين واحد، كأمة محمد، وأمة موسى، وعيسى عليهم السلام، رسول بعثه الله إليهم، وحمله الرسالة التي يؤديها إليهم (فإذا جاء رسولهم) ههنا حذف وإضمار، والتقدير فإذا جاء رسولهم، وبلغ الرسالة، فكذبه قومه، وصدقه آخرون (قضي بينهم) فيهلك المكذبون، وينجو المؤمنون. وقيل: معناه فإذا جاء رسولهم يشهد عليهم يوم القيامة، عن مجاهد. وقيل: في الدنيا بما أذن الله له من الدعاء عليهم، قضى بينهم أي: فصل بينهم الأمر على الحتم (بالقسط) أي: بالعدل (وهم لا يظلمون) أي: لا ينقصون عن ثواب طاعاتهم، ولا يزدادون في عقاب سيئاتهم. (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لآ أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون (49) قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما يستعجل منه المجرمون (50) أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلئان وقد كنتم تستعجلون (51) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون بما كنتم تكسبون (52)
[ 196 ]
اللغة: الوعد: خبر بما يعطى من الخير، والوعيد: خبر بما يعطى من الشر، هذا إذا فصل. فإن أجمل وقع الوعد على الجميع، والنفع: هو اللذة، والسرور، وما أدى اليهما، أو إلى واحد منهما. والضرر: الألم والغم، وما أدى اليهما، أو إلى واحد منهما. والأجل: هو الوقت المضروب لوقوع أمر كأجل الدين، وأجل الإنسان. الاعراب: متى: سؤال عن الزمان، وأين: سؤال عن المكان. بياتا: منصوب على الظرف وقوله: (ماذا يستعجل): يجوز أن يكون (ما) في موضع رفع، وذلك إذا كان ذا بمعنى الذي. والمعنى ما الذي يستعجل منه المجرمون ؟ فيكون (ما) مبتدأ، والذي خبره. ويجوز أن يكون في موضع نصب، وذلك إذا جعلت (ما) و (ذا) اسما واحدا. والمعنى: أي شئ يستعجل منه المجرمون من العذاب، أو من الله ؟ فيكون مفعول (يستعجل) وجواب (إن أتاكم) محذوفا، وتقدير الكلام أرأيتم ماذا يستعجل من العذاب المجرمون ان أتاكم عذابه بياتا أو نهارا، أو وقع (إن أتاكم) في وسط الكلام موقع الإعتراض. ومعنى (ماذا يستعجل) ههنا: الإنكار، أي: ليس في العذاب شئ يستعجل به وجاء في صيغة الاستفهام لأنه لا جواب لصاحبه يصح له وقوله (ثم) دخلت ألف الإستفهام على (ثم) التي للعطف، لتدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى، مع أن للألف صدر الكلام، والعامل في (إذا) قوله (آمنتم به). وقوله: (الآن وقد كنتم به تستعجلون) تقديره الآن به تؤمنون. المعنى: لما وعد سبحانه المكذبين، بين عقيبه أنهم إذا استعجلوا ذلك على سبيل التكذيب والرد، فقال (ويقولون) أي: ويقول هؤلاء المشركون (متى هذا الوعد) الذي تعدنا به من البعث، وقيام الساعة. وقيل: من العذاب (إن كنتم صادقين) في ذلك (قل) يا محمد جوابا لهم (لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) أي: لا أقدر لنفسي على ضر أو نفع (إلا ما شاء الله) أن يملكني، أو يقدرني عليه، فكيف أقدر لكم ؟ لأني إذا لم أقدر على ذلك، كنت عن انزال العذاب، وعن معرفة وقته، أعجز، أو يكون معناه: إذا لم أملك لنفسي شيئا من ذلك، إلا ما ملكني إياه الله تعالى، فكيف أملك تقديم القيامة، وتعجيل العقوبة قبل الوقت المقدر له (لكل أمة أجل) أي: لكل أمة في عذابها على تكذيب الرسل، وقت معلوم (إذا جاء
[ 197 ]
أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فلا يتأخرون عن ذلك الوقت، ولا يتقدمون عليه، بل يهلكهم في ذلك الوقت بعينه. (قل) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستعجلين بالعذاب: (أرأيتم) أي: أعلمتم (إن أتاكم عذابه) أي: عذاب الله (بياتا) أي: ليلا (أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) وهذا استفهام معناه التقطيع والتهويل، كما يقول الإنسان لمن هو في أمر يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك ؟ وهذا جواب لقولهم: (متى هذا الوعد). وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام: يريد بذلك عذابا ينزل من السماء على فسقة أهل القبلة في آخر الزمان، ونعوذ بالله منه (أثم إذا ما وقع آمنتم به) هذا استفهام معناه الإنكار، وتقديره. أحين وقع بكم العذاب المقدر الموقت، آمنتم به أي بالله في وقت اليأس. وقيل: بالقرآن. وقيل: بالعذاب الذي كنتم تنكرونه، فيقال لكم (الآن) تؤمنون، وقد اضطررتم لحلوله (وقد كنتم به) أي: بالعذاب (تستعجلون) من قبل مكذبين مستهزئين. وقال الحسن: معناه ثم إنكم ستؤمنون به عند وقوع العذاب، فلا ينفعكم إيمانكم. ونظيره (الآن وقد عصيت قبل). (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد) أي: ثم يقال يوم القيامة للذين ظلموا أنفسهم: ذوقوا عذاب الدوام في الآخرة، بعد عذاب الدنيا (هل تجزون الا بما كنتم تكسبون) معناه: إنكم قد دعيتم وهديتم، وبين لكم الأدلة، وأزيحت عنكم العلة، فأبيتم إلا التمادي في الكفر، والانهماك في الغي، فذوقوا جزاء أعمالكم. وانما شبهوا بالذائق: وهو الذي يطلب الطعم بالفم، لأنه أشد احساسا. وقيل: لأنهم يتجرعون العذاب بدخوله أجوافهم. (* ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54) ألآ إن لله ما في السماوات والأرض ألآ إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحى ويميت وإليه
[ 198 ]
ترجعون (56). اللغة: الإستنباء: طلب النبأ الذى هو الخبر. والإقتداء: إيقاع الشئ بدل غيره لدفع المكروه به، يقال: فداه يفديه فدية، وفداه وافتداه افتداء. وفاداه مفاداة. الاعراب: (ألا): كلمة تستعمل في التنبيه، وأصلها (لا) دخل عليها حرف الاستفهام تقريرا وتذكيرا، فصارت تنبيها، وكسرت إن بعد (ألا) لأن (ألا) يستأنف ما بعدها، لينبه بها على معنى الابتداء، ولذلك وقع بعدها الأمر والدعاء، كقول امرئ القيس: (ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي). المعنى: (ويستنبئونك) يا محمد أي: يطلبون منك أن تخبرهم (أحق هو) أي: أحق ما جئت به من القرآن، والنبوة، والشريعة. وقيل ؟ أحق ما تعدنا من البعث، والقيامة، والعذاب، عن الجبائي. (قل) يا محمد (إي وربى أي: نعم وحق الله (إنه لحق) لا شك فيه (وما أنتم بمعجزين) أي: بسابقين فائتين. وهذا الاستخبار يحتمل أن يكون إنما وقع منهم على وجه التعريف والاستفهام، ويحتمل أن يكون وقع على وجه الإستهزاء (ولو أن لكل نفس ظلمت) أي: أشركت بالله، عن ابن عباس. وقيل: ظلمت بكل ما يسمى ظلما. (ما في الأرض) من الأموال (لافتدت به) من هول ما يلحقها من العذاب (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) أي أخفوا الندامة أي: أسر الندامة رؤساء الضلالة من الأتباع والسفلة. وقيل: أسروا الندامة أي أخلصوها. والندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن. وقيل: أسروا أي: أظهروا، عن أبي عبيدة، والجبائي. وقال الأزهري: وهذا غلط لأن ما يكون بمعنى الإظهار يكون بالشين المنقطة من فوق. (وقضي بينهم بالقسط) أي: فصل بينهم بالعدل، (وهم لا يظلمون) فيما يفعل بهم من العقاب، لأنهم جنوه على أنفسهم. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما أسروا الندامة وهم في النار، كراهية لشماتة الأعداء على أنفسهم (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) أي: له ملك السماوات والأرض وما فيهما، فلا يقدر أحد على منعه من إحلال العقاب بمملوكه المستحق له (ألا إن وعد الله) بإحلال العقاب بالمجرمين (حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) صحة ذلك لجهلهم به تعالى،
[ 199 ]
وبصحة ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هو يحيي) أي: يحيي الخلق بعد كونهم أمواتا (ويميت) أي: يميتهم بعد أن كانوا أحياء (وإليه ترجعون) يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم. قال الجبائي: وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يقدر على الحياة إلا الله تعالى، لأنه تعالى تمدح بكونه قادرا على الإحياء، والإماتة. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها أن قوله: (ويستنبئونك) عطف على (ويستعجلونك) المعنى أنهم يستعجلونك، ويقولون متى تكون القيامة والعذاب، أو يستخبرونك أحق ما تقول من كونه. ووجه اتصال قوله (ألا إن لله ما في السموات والأرض) بما قبله اتصال الإثبات بالنفي، وتقديره ليس للظالم ما يفتدي به، بل جميع الملك له تعالى. وقيل: انه يتصل بما قبله بمعنى أن من يملك السموات والأرض، يقدر على إيقاع ما توعد به. ووجه اتصال قوله (ألا إن وعد الله حق) بما قبله أنه إذا خلق السموات والأرض لا للعبث، بل لمنافع الخلق، فلا يجوز عليه خلف الوعد. وأيضا فإن منصفة الخالق أن يكون عالما لذاته، غنيا غير محتاج، والخلف كذب قبيح ولا بد للفعل من داع، والداعي إلى القبيح أما الجهل بقبحه، أو الحاجة إليه، فإذا لا يجوز الخلف عليه، إذ لا داعي له إليه. (يا أيها الناس قد جآئتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحو هو خير مما يجمعون (58). القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (فليفرحوا) بالياء، و (تجمعون) بالتاء. وقرأ يعقوب برواية رويس: (فلتفرحوا)، و (تجمعون) بالتاء فيهما جميعا، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بن كعب والحسن. وفي رواية زيد، عن يعقوب: (فلتفرحوا) بالتاء، و (يجمعون) بالياء، وروي ذلك عن ابن عباس، وقتادة وجماعة. والباقون بالياء فيهما جميعا. الحجة: قال أبو علي: قوله: (بفضل الله وبرحمته): الجار فيه يتعلق
[ 200 ]
بمضمر استغني عن ذكره لدلالة ما تقدم عليه، وهو قوله (قد جاءتكم موعظة من ربكم) كما أن قوله: (الآن وقد عصيت) قيل: يتعلق الظرف فيه بمضمر يدل عليه ما تقدم من الفعل، وكذلك قوله: (الآن وقد كنتم به تستعجلون). فأما قوله: (فبذلك فليفرحوا) فإن الجار في قوله: (فبذلك) يتعلق بفليفرحوا، لأن هذا الفعل اتصل بالباء. قال: وفرحوا بها. وقال: وفرحت بما قد كان من سيد يكما. فأما الفاء في قوله (فليفرحوا) فزيادة يدلك على ذلك أن المعنى فافرحوا بذلك، ومثل هذه الآية قول الشاعر: (وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي) فالفاء في قوله (فاجزعي) زيادة كما كانت الفاء في قوله (فليفرحوا) زيادة، ولا تكون الزيادة الأولى لأن الظرف إنما يتعلق باجزعي. فأما من قرأ (فلتفرحوا) بالتاء: فإنه اعتبر الخطاب الذي قبل وهو قوله: (قد جاءتكم موعظة) وزعموا أنها في حرف أبي (فافرحوا) قال أبو الحسن: وزعموا أنها لغة، وهي قليلة نحو لنضرب وأنت تخاطب. فأما من قرأ (هو خير مما تجمعون) بالتاء: فعلى أنه عنى المخاطبين والغيب جميعا إلا أنك غلبت المخاطبة على الغيبة. ومن قرأ بالياء كان المعنى فافرحوا بذلك أيها المؤمنون، أي: إفرحوا بفضل الله ورحمته، فإن ما أتاكموه من الموعطة شفاء لما في الصدور ثلج اليقين النفس بالإيمان، وسكون النفس إليه خير مما يجمعه غيركم من أعراض الدنيا ممن فقد هذه الحال التي حزتموها. المعنى: لما تقدم ذكر القرآن، وما فيه من الوعد والوعيد، عقبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن، وعظم محله في باب الأدلة، فقال: (يا أيها الناس) خطاب لجميع الخلق، وتنبيه لهم، ويقال: إنه خطاب لقريش (قد جاءتكم موعظة من ربكم) يعني القرآن، والموعظة: بيان ما تجب أن يحذر عنه، ويرغب فيه. وقيل: هي ما يدعو إلى الصلاح، ويزجر عن الفساد (وشفاء لما في الصدور) الشفاء: معنى كالدواء لإزالة الداء، فداء الجهل أضر من داء البدن، وعلاجه أعسر، وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل. والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في البدن، لشرف القلب. (وهدى) أي: ودلالة تؤدي إلى معرفة الحق (ورحمة للمؤمنين) أي: ونعمة لمن تمسك به، وعمل بما فيه، وخص المؤمنين بالذكر، وإن كان القرآن موعظة
[ 201 ]
ورحمة لجميع الخلق، لأنهم الذين انتفعوا به. وصف الله سبحانه القرآن في هذه الآية بأربع صفات: بالموعظة، والشفاء، لما في الصدور، وبالهدى، والرحمة. (قل بفضل الله وبرحمته) معناه: قل يا محمد بأفضال الله وبنعمته، فإنه يجوز إطلاق الفاضل على الله تعالى، فوضع الفضل في موضع الإفضال، كما وضع النبات في قوله: (والله أنبتكم من الأرض نباتا) في موضع الإنبات. وقيل: إن الفضل إلى الله بمعنى الملك، كما يضاف العبد إليه بأنه مالك له. (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) قال الزجاج: قوله (بذلك) بدل من قوله: (بفضل الله وبرحمته)، وهو يدل على أنه يعني به القرآن أي: فبذلك فليفرح الناس، لأنه خير لكم يا أصحاب محمد، مما يجمعه هؤلاء الكفار، من الأموال. ومعنى الآية: قل لهؤلاء الفرحين بالدنيا، المعتدين بها، الجامعين لها، إذا فرحتم بشئ، فافرحوا بفضل الله عليكم، ورحمته لكم، بإنزال هذا القرآن، وإرسال محمد إليكم، فإنكم تحصلون بهما نعيما دائما مقيما، هو خير لكم من هذه الدنيا الفانية. وقيل: فضل الله هو القرآن ورحمته الإسلام، عن أبي سعيد الخدري، والحسن. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من هداه الله للإسلام، وعلمه القرآن، ثم شكا الفاقة، كتب الله، عز وجل، الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثم تلا: (قل بفضل الله وبرحمته) الآية. وقيل: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن، عن قتادة، ومجاهد، وغيرهما. قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: فضل الله: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورحمته: علي بن أبي طالب عليه السلام، ورواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (قل أرءيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفرون (59) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60) وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولآ أصغر من ذلك ولآ أكبر إلا في كتاب مبين (61).
[ 202 ]
القراءة: قرأ الكسائي: (وما يعزب) بكسر الزاي هنا، وفي سبأ، وهو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثاب. وقرأ الباقون: بضم الزاي. وقرأ حمزة، وخلف، ويعقوب، وسهل: (ولا أصغر ولا أكبر) بالرفع. والباقون: بفتحها. الحجة: يعزب ويعزب لغتان صحيحتان. ومن فتح الزاي من أصغر وأكبر، فلأن أفعل في الموضعين في موضع جر على تقدير ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة، ولا مثقال أصغر من ذلك، ولا أكبر. وإنما فتح لأنه غير منصرف. وإنما منع الصرف لأن الفعل إذا اتصل به (من) كان صفة، وإذا كان صفة لم ينصرف في النكرة. ومن رفع حمله على موضع الجار والمجرور الذي هو من مثقال ذرة، فإنه في موضع رفع، كما كانا في قوله: (وكفى بالله) ويجوز رفعه من جهة أخرى على الابتداء، ويكون الخبر قوله: (إلا في كتاب مبين). اللغة: الشأن: اسم يقع على الأمر والحال، تقول: ما شأنك ؟ وما بالك ؟ وما حالك ؟ والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الإنصباب إليه، مأخوذ من فيض الإناء: إذا انصب الماء من جوانبه. ومنه قوله: (أفضتم من عرفات) أي تفرقتم كتفرق الماء الذي ينصب من الإناء. والعزوب: الذهاب عن المعلوم، وضده حضور المعنى للنفس. وتعزب: إذا انفرد عن أهله. الاعراب: (ما) في قوله (ما أنزل الله): في موضع نصب بأنزل، ويكون بمعنى أي في الاستفهام، ويحتمل أن يكون (ما) بمعنى الذي، فيكون نصبا برأيتم. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب كفار مكة، فقال: (قل) يا محمد لهم: (أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق) فجعله حلالا (فجعلتم منه حراما وحلالا) أي: جعلتم بعضه حراما، وبعضه حلالا، يعني ما حرموا من السائبة، والبحيرة، والوصيلة، ونحوها مما حرموا من زروعهم. وإنما قال (أنزل الله) لأن أرزاق العباد من المطر الذي ينزله الله (قل) يا محمد لهم (آلله اذن لكم أم على الله تفترون) ومعناه: إنه لم يأذن لكم في شئ من ذلك، بل أنتم تكذبون في ذلك على الله سبحانه. (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) معناه: أي شئ يظن
[ 203 ]
الذين يكذبون على الله أنه يصيبهم يوم القيامة على افترائهم على الله أي: لا ينبغي أن يظنوا أن يصيبهم على ذلك إلا العذاب الشديد، والعقاب الأليم (إن الله لذو فضل على الناس) بما فعل بهم من ضروب الإنعام (ولكن أكثرهم لا يشكرون) نعمه، ويجحدونها. وهذا الكلام خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب، وإن كان في صورة الاستفهام، وتقديره: أيؤديهم افتراؤهم الكذب إلى خير أم شر. وقيل: إن معنى قوله (لذو فضل على الناس) أنه لم يضيق عليهم بالتحريم كما ادعيتم ذلك عليه. وقيل: معناه إنه لذو فضل على خلقه بترك معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا، وإمهاله إياهم إلى يوم القيامة. ثم بين سبحانه أن إمهاله إياهم، ليس لجهل بحالهم، فقال: (وما تكون في شأن) أي: ما تكون أنت يا محمد في حال من الأحوال، وفي أمر من أمور الدين، من تبليغ الرسالة، وتعليم الشريعة، وغير ذلك (وما تتلوا منه من قرآن) أي: وما تقرأ من الله من قرآن. وقيل: من الكتاب من قرآن، والقرآن يقع على القليل والكثير منه. وقيل: إن الهاء تعود إلى الشأن أي: وما تتلو من الشأن من قرآن. (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) أي: ولا تعمل أنت وأمتك من عمل إلا كنا عالمين به، شاهدين عليكم به (إذ تفيضون فيه) أي: تدخلون فيه، وتخوضون فيه (وما يعزب عن ربك) أي: وما يبعد، وما يغيب عن علم ربك، ورؤيته، وقدرته (من مثقال ذرة) أي: وزن نملة صغيرة (في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك) من وزن نملة (ولا أكبر إلا في كتاب مبين) أي: في كتاب بينه الله فيه قبل أن خلقه، وهو اللوح المحفوظ. وقيل. أراد به كتاب الحفظة الذى كتبه الملائكة السفرة، وحفظوه. وقال الصادق عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا النظم: قيل في اتصال الآية الأولى بما قبلها: انها اتصلت بقوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) فإذا قرأوا أنه الرزاق قيل لهم: أجعلتم ما رزقكم بعضه حراما، وبعضه حلالا، عن أبي مسلم. وقيل: لما وصف القرآن بأنه هدى ورحمة، وأمرهم بالتمسك بما فيه، عقبه بذكر مخالفتهم لما جاء في القرآن، وتحريمهم ما أحل الله.
[ 204 ]
(ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين ءامنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64) ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65). اللغة: الخوف، والفزع، والجزع، نظائر: وهو إزعاج القلب لما يتوقع من المكروه، والأمن ضده. والحزن: غلظ الهم مأخوذ من الحزن: وهي الأرض الغليظة، والسرور ضده. والبشرى: الخبر مما يظهر سروره في بشرة الوجه، والبشارة مثلها. والعزة: شدة الغلبة من عزه يعزه إذا غلبه، ومنه قولهم: إذا عز أخوك فهن، يعني إذا غلبك ولم تقاومه، فلن له. وعز الشئ يعز بفتح العين: إذا اشتد، ويعز بكسرها: إذا صار عزيزا لا يوجد، فكأنه اشتد وجوده. الاعراب: (الذين آمنوا) يحتمل موضعه ثلاثة أوجه من الإعراب الأول: النصب على أنه صفة (أولياء الله) والثاني: الرفع على المدح. والثالث: الرفع على الابتداء، وخبره: (لهم البشرى) فإن جعلت (الذين آمنوا) صفة، لم تقف على (يحزنون) بل تقف على (يتقون) وإن جعلته مبتدأ، وقفت على (يحزنون) دون (يتقون) لأن (لهم البشرى) خبر (عنهم). والبشرى: يرتفع بالظرف على الأقوال الثلاثة. (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) كسرت أن للاستئناف بالتذكير لما ينفي الحزن. ولا يجوز أن يكون كسرت، لأنها وقعت بعد القول، لأنه يصير حكاية عنهم، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن لذلك، وهذا كفر. ويجوز فتحها على تقدير اللام، كأنه قال: ولا يحزنك قولهم لأن العزة لله جميعا. وقد غلط القتيبي في هذا، فزعم أن فتحها يكون كفرا، وليس الأمر كما ظنه، فإنها إذا كانت معمولة للقول، لم يجز، وإذا تعلقت بغير القول جاز، سواء فتحت أو كسرت. ومثل الفتح قول ذي الرمة: فما هجرتك النفس يامي أنها قلتك، ولكن قل منك نصيبها ولكنهم يا أملح الناس أولعوا بقول إذا ما جئت هذا جنيبها (1) (1) مي ومية: اسم امرأة. والقلى: البغض. والجنيب: بمعنى القرين. (*)
[ 205 ]
وقال القتيبي عند ذكر هذه المسألة: إذا قلت: هذا قاتل أخي،، بالتنوين، دل على أنه لم يقتل وإذا قلت: هذا قاتل أخي، بحذف التنوين، دل على أنه قتل. وهذا غلط باجماع من النحويين، لأن التنوين قد تحذف وأنت تريد الحال والاستقبال. قال الله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) يريد بالغا الكعبة. و (كل نفس ذائقة الموت) أي: ستذوق. المعنى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) بين سبحانه أن المطيعين لله الذين تولوا القيام بأمره، وتولاهم سبحانه بحفظه وحياطته، لا خوف عليهم يوم القيامة من العقاب. (ولا هم يحزنون) أي: لا يخافون. واختلف في أولياء الله فقيل: هم قوم ذكرهم الله بما هم عليه من سيماء الخير، والإخبات، عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل: هم المتحابون في الله، ذكر ذلك في خبر مرفوع. وقيل: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، وقد بينهم في الآية التي بعدها، عن ابن زيد. وقيل: انهم الذين أدوا فرائض الله، وأخذوا بسنن رسول الله، وتورعوا عن محارم الله، وزهدوا في عاجل هذه الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا الطيب من رزق الله لمعائشهم، لا يريدون به التفاخر والتكاثر، ثم أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فأولئك الذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا، ويثابون على ما قدموا منه لآخرتهم، وهو المروي عن علي بن الحسين عليه السلام. وقيل: هم الذين توالت أفعالهم على موافقة الحق. (الذين آمنوا) أي: صدقوا بالله، واعترفوا بوحدانيته (وكانوا يتقون) مع ذلك معاصيه (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فيه أقوال أحدها: إن البشرى في الحياة الدنيا، هي ما بشرهم الله تعالى به في القرآن على الأعمال الصالحة، ونظيره قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) وقوله: (يبشرهم ربهم برحمة منه) الآية، عن الزجاج والفراء وثانيها: ان البشارة في الحياة الدنيا بشارة الملائكة عليهم السلام للمؤمنين عند موتهم، بأن لا تخافوا، ولا تحزنوا، أبشروا بالجنة، عن قتادة، والزهري، والضحاك، والجبائي. وثالثها: إنها في الدنيا الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن لنفسه، أو ترى له، وفي الآخرة بالجنة، وهي ما يبشرهم الملائكة عند خروجهم من القبور، وفي القيامة، إلى أن يدخلوا الجنة، يبشرونهم بها حالا بعد حال، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وروي ذلك في حديث مرفوع
[ 206 ]
عن النبي: صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يا عقبة ! لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلا هذا الدين الذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقر به عينه، إلا أن يبلغ نفسه إلى هذه - واومى بيده إلى الوريد - الخبر بطوله، ثم قال: إن هذا في كتاب الله وقرأ: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) الآية. وقيل: إن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة في قبره، فيشاهد ما أعد له في الجنة قبل دخولها. (لا تبديل لكلمات الله) أي: لا خلف لما وعد الله تعالى به من الثواب، ولا خلاف في قوله بوضع كلمة أخرى مكانها بدلا منها، لأنها حق، والحق لا خلف فيه بوجه. (ذلك هو الفوز العظيم) أي: ذلك الذي سبق ذكره من البشارة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، هي النجاة العظيمة التي يصغر في جنبها كل شئ (ولا يحزنك قولهم): ظاهره النهي، والمراد به التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أقوالهم المؤذية، وهو مثل قولهم: لا رأيتك ههنا، أي: لا تكن ههنا، فمن كان ههنا رأيته، وكذلك المراد بالآية لا تعبأ بأذاهم فمن عبأ به آذاه أذاهم. (إن العزة لله جميعا) فيمنعهم منك بعزته، ويدفع أذاهم عنك بقدرته. وقيل: معناه لا يحزنك قولهم: إنك ساحر، أو مجنون، فسينصرك الله عليهم، وسيذلهم، وينتقم منهم لك، فإنه عزيز قادر عليه (هو السميع العليم) يسمع أقوالهم، ويعلم ضمائرهم فيجازيهم عليها، ويدفع عنك شرهم، ويرد كيدهم، وضرهم. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنه لما تقدم ذكر المؤمن والكافر بين عقيبه أن أولياءه لا خوف عليهم. وقيل: لما ذكر أنه يحصي أعمال خلقه، بشر من تولاه، وذكر ما أعد لهم. ووجه اتصال قوله: (لا يحزنك قولهم) بما تقدم، أنه يتصل بقوله. وان كذبوك (فلا يحزنك قولهم) وقل: (لي عملي ولكم عملكم). وقيل: إنه يتصل بما قبله، فكأنه قال: إذا كنت من أولياء الله، ومن أهل البشارة، فلا ينبغي أن تحزن بطعن من يطعن عليك. ووجه اتصال قوله: (هو السميع العليم) بما قبله: أنه يسمع قولهم، ويجازيهم، فلا يحزنك ذلك. (ألآ إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين
[ 207 ]
يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66) هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لأيات لقوم يسمعون (67). اللغة: الفرق بين الجعل والفعل: إن جعل الشئ يكون بإحداث غيره، كجعل الطين خزفا، ولا يكون فعله إلا بإحداثه. والفرق بين الجعل والتغيير: إن تغيير الشئ لا يكون إلا بتصييره على خلاف ما كان، وجعله يكون بتصييره على مثل ما كان، كجعل الإنسان نفسه ساكنا على استدامة الحال. وإنما قال: (والنهار مبصرا) وإنما يبصر فيه تشبيها ومجازا واستعارة في صفة الشئ بسببه على وجه المبالغة، كما يقال: سركاتم، وليل نائم. ومثله قول جرير: لقد لمتنا أم غيلان في السرى، ونمت وما ليل المطي بنائم وقال رؤبة: (قد نام ليلي، وتجلى همي). المعنى: لما سلى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ولا يحزنك قولهم) فإنهم لا يفوتونني، بين بعد ذلك ما يدل على صحته، فقال: (ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض) يعني العقلاء، وإذا كان له ملك العقلاء فما عداهم تابع لهم، وإنما خص لعقلاء تفخيما (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) يحتمل ما هاهنا وجهين (أحدهما): أن يكون بمعنى أي شئ، فكأنه قال: وأي شئ يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، تقبيحا لفعلهم. (والآخر): أن يكون نافية أي: وما يتبعون شركاء في الحقيقة. ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون (ما) بمعنى الذي، ويكون منصوبا بالعطف على (من). ويكون التقدير: والذي يتبع الأصنام الذين يدعونهم من دون الله شركاء، فحذف العائد من الصلة، و (شركاء) حال من ذلك المحذوف. وإن جعلت (ما) نفيا فقوله (شركاء) ينتصب بيدعونه، والعائد إلى (الذين) الواو في (يدعون)، ويكون قوله (إن يتبعون) مكررا لطول الكلام. وتقف في هذا القول على قوله (ومن في الأرض) وفي ذلك القول على قوله (شركاء). (إن يتبعون إلا الظن) أي: ليس يتبعون في اتخاذهم مع الله شركاء إلا
[ 208 ]
الظن، لتقليدهم أسلافهم في ذلك، أو لشبهة دخلت عليهم، بأنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى (وإن هم الا يخرصون) أي: وليسوا إلا كاذبين بهذا الإعتقاد والقول. (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) معناه: إن الذي يملك من في السموات، ومن في الأرض، هو الذي خلق لكم الليل لسكونكم، ولأن يزول التعب والكلال عنكم بالسكون فيه (والنهار مبصرا) أي: وجعل النهار مبصرا مضيئا، تبصرون فيه، وتهتدون به في حوائجكم بالإبصار (إن في ذلك لآيات) أي: لحججا ودلالات على توحيد الله سبحانه من حيث لا يقدر على ذلك غيره (لقوم يسمعون) الحجج، سماع تدبر، وتفهم، وتعقل. (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له، مافى السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70). الاعراب: (متاع): خبر مبتدأ محذوف، وتقديره ذاك، أو هو متاع. وقوله (لا يفلحون) وقف تام. ويجوز أن يكون (متاع) مبتدأ محذوف الخبر، وتقديره لهم متاع. المعنى ثم حكى الله سبحانه عن صنف من الكفار أنهم أضافوا إليه اتخاذ الولد، وهم طائفتان إحداهما: كفار قريش والعرب، فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله والأخرى: النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، فقال سبحانه (قالوا اتخذ الله ولدا) وإنما قال (قالوا)، وإن لم يكن سبق ذكرهم، لأنهم كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يعرفهم. وتصح الكناية عن المعلوم كما تصح عن المذكور (سبحانه) أي: تنزيها له عما قالوا (هو الغني) عن اتخاذ الولد. ثم بين سبحانه الوجه فيه فقال: (له ما في السموات وما في الأرض) ومعناه: إذا كان له ما في السموات وما في الأرض ملكا، وملكا، وخلقا، فهو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإنسان إنما يتخذ الولد ليتقوى به من ضعف، أو ليستغني به من فقر، والله سبحانه
[ 209 ]
منزه عن ذلك، وإذا استحال اتخاذ الولد حقيقة عليه سبحانه، استحال عليه اتخاذ الولد على وجه التبني. (إن عندكم من سلطان بهذا) أي: ما عندكم من حجة وبرهان بهذا (أتقولون على الله ما لا تعلمون) هذا توبيخ من الله سبحانه لهم على قولهم ذلك. ثم بين سبحانه الوعيد لهم على ذلك، فقال: (قل) يا محمد (إن الذين يفترون) أي: يكذبون (على الله الكذب) باتخاذ الولد، وغير ذلك (لا يفلحون) أي: لا يفوزون بشئ من الثواب. وأصل الافتراء من القطع، من فريت الأديم أي: قطعته. فمعناه يقطعون الكذب الذي يكذبون به على الله تعالى. وقوله: (متاع في الدنيا) معناه: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما قلائل، ثم تنقضي، وقوله: (ثم إلينا مرجعهم) أي: ثم إلى حكمنا مصيرهم (ثم نذيقهم العذاب الشديد) وهو عذاب النار (بما كانوا يكفرون) أي: بكفرهم. (* واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بأيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون (71) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف واغرقنا الذين كذبوا بأياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73). القراءة: قرأ يعقوب وحده (وشركاؤكم) بالرفع، وهو قراءة الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعيسى الثقفي. وقرأ الباقون: (وشركاءكم) بالنصب. وفي الشواذ قراءة الأعرج، وعاصم، والجحدري، والزهري: (فاجمعوا أمركم) مفتوحة الميم، موصولة الهمزة من جمع. الحجة: من قرأ فاجمعوا أمركم وشركاؤكم بالرفع: رفعه على العطف على الضمير في اجمعوا، وساغ عطفه على الضمير من غير توكيد، من أجل طول الكلام بقوله (أمركم) وإذا جاز في قوله سبحانه (ما أشركنا ولا آباؤنا) أن نكتفي من طول
[ 210 ]
الكلام بلا، وإن كانت بعد حرف العطف، كان الاكتفاء من التوكيد بما هو أطول من لا، وهو أيضا قبل الواو، كما أن التوكيد لو ظهر لكان قبلها أحرى. فلو قال قائل: قم وزيد، كان أقبح من أن يقول: قمت وزيد، وذلك لأن المعطوف عليه في قم وزيد، ضمير مستكن لا لفظ له، فهو أضعف من ضمير المخاطب، أو المتكلم، في قمت، لأن له لفظا وهو التاء. وقمت وزيد أضعف من قمنا وزيد، لأن (نا) من قمنا أتم لفظا من التاء في قمت. وأما شركاءكم بالنصب: فقد قيل فيه: إنه منصوب على إضمار فعل كأنه قيل: وادعوا شركاءكم قالوا وكذا هو في مصحف أبي. وقيل: تقديره فاجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم، لأن اجمعوا يدل عليه. وذهب المحققون إلى أنه مفعول معه، وتقديره مع شركائكم، كما أنشد سيبويه: فكونوا أنتم، وبني أبيكم، مكان الكليتين من الطحال (1) ويقال: أجمعت الأمر، وجمعت الأمر، وأجمعت على الأمر، أي: عزمت عليه. قال المؤرج: أجمعت الأمر: أفصح من أجمعت عليه. قال أبو الهيثم: أجمع أمره إذا جعله جمعا بعدما كان متفرقا، قال: (هل أغدون يوما وأمري مجمع) (2). اللغة: الغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن. والغمة، والكربة، والضغطة، والشدة، نظائر. ونقيضه الفرجة. وقيل: غمة مغطى تغطية: خبره مأخوذ من غم الهلال: إذا حال دون رؤيته غيم. المعنى: ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ عليهم أخبار نوح، فقال: (واتل عليهم نبأ نوح) أي: خبره (إذ قال لقومه) الذين بعث إليهم: (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) أي: شق وعظم عليكم إقامتي بين أظهركم (وتذكيري) أي: وعظي وتنبيهي إياكم (بآيات الله) أي: بحججه وبيناته على صحة التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وبطلان ما تدينون به. وفي الكلام حذف هو قوله: وعزمتم على قتلي وطردي من بين أظهركم (فعلى الله توكلت) جعله جواب الشرط مع أنه متوكل عليه في جميع أحواله، ليبين لهم أنه متوكل في هذا التفصيل، لما في اعلامه ذلك (1) والشاهد في قوله (وبني) فإنه منصوب على أنه مفعول معه، والواو بمعنى مع. (2) وقبله: (يا ليت شعري والمنى لا تنفع). (*)
[ 211 ]
من زجرهم عنه، لأن الله تعالى يكفيه أمرهم. ومعناه: فإلى الله فوضت أمري، وبه وثقت أن يكفيني أمركم (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) معناه: فاعزموا على أمركم مع شركائكم، واتفقوا على أمر واحد من قتلي وطردي، ولا تضطربوا فيه فتختلف أحوالكم فيما تلقونني به، وهذا تهديد في صورة الأمر. وقيل: معناه اعزموا على أمركم، وادعوا شركاءكم. فبين عليه السلام أنه لا يرتدع عن دعائهم، وعيب آلهتهم، مستعينا بالله عليهم، واثقا بأنه سبحانه يعصمه منهم. وقيل: أراد بالشركاء الأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله. وقيل: أراد من شاركهم في دينهم. (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) أي: لا يكن أمركم عليكم غما وحزنا، بأن ترددوا فيه. وقيل: معناه ليكن أمركم ظاهرا مكشوفا، ولا يكونن مغطى مبهما مستورا، من غممت الشئ، إذا سترته. وقيل: معناه لا تأتوه من غير أن تتشاوروا، ومن غير أن يجتمع رأيكم عليه، لأن من حاول أمرا من غير أن يعلم كيف يتأتى ذلك، كان أمره غمة عليه. (ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) أي: انهضوا إلي فاقتلوني، إن وجدتم إليه سبيلا، ولا تؤخروني، ولا تمهلوني، عن ابن عباس. وقيل: معنى اقضوا إلى: افعلوا ما تريدون، وادخلوا إلى، لأنه بمعنى افرغوا من جميع حيلكم، كما يقال: خرجت إليك من العهدة. وقيل: معناه توجهوا إلى. وروي عن بعضهم أنه قرأ (ثم افضوا إلي) أي: أسرعوا إلي من الفضاء، لأنه إذا صار إلى الفضاء، تمكن من الإسراع. وهذا كان من معجزات نوح عليه السلام لأنه كان وحيدا مع نفر يسير، وقد أخبر بأنهم لا يقدرون على قتله، وعلى أن ينزلوا به سوءا، لأن الله تعالى ناصره وحافظه عنهم. (فإن توليتم) أي: ذهبتم عن الحق واتباعه، ولم تقبلوه، ولم تنظروا فيه (فما سألتكم من أجر) أي: لا أطلب منكم أجرا على ما أؤديه إليكم من الله فيثتل ذلك عليكم. وقيل: معناه إن أعرضتم عن قبول قولي، لم يضرني، لأني لم أطلع فيما لكم، فيفوتني ذلك بتوليكم عني، وإنما يعود الضرر عليكم (إن أجري إلا على الله) أي: ما أجري إلا على الله في القيام بأداء الرسالة (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي: أمرني الله بأن أكون من المستسلمين لأمر الله بطاعته ثقة بأنها خير ما يكتسبه العباد. (فكذبوه) يعني أنهم كذبوا نوحا أي: نسبوه إلى الكذب فيما يذكره من أنه
[ 212 ]
نبي الله، وإن الله بعثه إليهم ليدعوهم إلى طاعته (فنجيناه ومن معه في الفلك) أي: في السفينة (وجعلناهم خلائف) أي: جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفاء لمن هلك بالغرق. وقيل: إنهم كانوا ثمانين نفسا. وقال البلخي: يجوز أن يكون أراد جعلناهم رؤساء في الأرض (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) أي: أهلكنا باقي أهل الأرض أجمع لتكذيبهم لنوح عليه السلام. (فانظر) أيها السامع (كيف كان عاقبة المنذرين) أي: المخوفين بالله وعذابه، أي كيف أهلكهم الله. (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين (74) ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملإيه بأياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77) قالوا جئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءابآءنا وتكون لكما الكبر ياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78). القراءة: روى حماد، ويحيى، عن أبي بكر، وزيد عن يعقوب: (ويكون لكما الكبرياء) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: الوجه في الياء ان تأنيث الكبرياء غير حقيقي، وقد فصل أيضا بينه وبين الفعل. ومن قرأ بالتاء فلأن لفظه لفظ التأنيث. اللغة: الإجرام: اكتساب السيئة، وأصله القطع. واللفت: الصرف عن الأمر، يقال: لفته يلفته لفتا، وامرأة لفوت: ذات زوج لها ولد من غيره، لأنها تلفت إلى ولدها عنقها. المعنى: ثم بين سبحانه قصة من بعثه بعد نوح، فقال: (ثم بعثنا من بعده) أي: من بعد نوح، وإهلاك قومه (رسلا) يريد إبراهيم، وهودا، وصالحا، ولوطا، وشعيبا (إلى قومهم) الذين كانوا فيهم بعد أن تناسلوا، وكثروا (فجاؤهم بالبينات) أي: فأتوهم بالبراهين والمعجزات الدالة على صدقهم، الشاهدة بنبوتهم
[ 213 ]
(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) أي لم يكونوا ليصدقوا، يعني أولئك الأقوام الذين بعث إليهم الرسل، بما كذبت به أوائلهم الذين هم قوم نوح أي: كانوا مثلهم في الكفر والعتو. وقيل: معناه لم يكن منهم من يؤمن من بعد هذه الآيات بما كذبوا به من قبلها، بل كانت الحالتان سواء عندهم قبل البينات وبعدها، عن أبي مسلم والبلخي (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) أي: نجعل على قلوب الظالمين لنفوسهم، الذين تعدوا حدود الله، سمة وعلامة على كفرهم، يلزمهم الذم بها، ويعرفهم بها الملائكة، كما فعلنا ذلك بقلوب هؤلاء الكفار. وقد مر معاني الطبع والختم، فيما تقدم (ثم بعثنا من بعدهم) أي: من الرسل، أو من بعد الأمم (موسى وهارون) عليهما السلام نبيين مرسلين (إلى فرعون وملائه) أي: ورؤساء قومه (بآياتنا) أي: بأدلتنا ومعجزاتنا (فاستكبروا) عن الانقياد لها، والإيمان بها (وكانوا قوما مجرمين) عاصين لربهم، مستحقين للعقاب الدائم (فلما جاءهم) أي. جاء قوم فرعون (الحق من عندنا) يعني: ما أتى به موسى من المعجزات والبراهين (قالوا إن هذا لسحر مبين) أي: ظاهر. (قال موسى) لهم (أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا) أي: أتقولون لمعجزاته سحر، والسحر باطل، والمعجز حق، وهما متضادان (ولا يفلح الساحرون) أي: لا يظفرون بحجة، ولا يأتون على ما يدعونه ببينة، وإنما هو تمويه على الضعفة (قالوا) يعني قال فرعون وقومه لموسى: (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا) أي: لتصرفنا عن ذلك (وتكون لكما الكبرياء) أي: الملك، عن مجاهد. وقيل: العظمة والسلطان، والأصل ان الكبرياء: استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب (في الأرض) أي: في أرض مصر. وقيل: أراد اسم الجنس، والمراد به الإنكار، وإن كان اللفظ لفظ الإستفهام، تعلقوا بالشبهة في أنهم على رأى آبائهم، وإن من دعاهم إلى خلافه، فظاهر أمره أنه يريد التأمر عليهم فلم يطيعوه وما نحن لكما بمؤمنين أي: بمصدقين فيما تدعيانه من النبوة (وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم (79) فلما جاء السحرة قال لهم موسى القوا مآ أنتم ملقون (80) فلمآ ألقوا موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره
[ 214 ]
المجرمون (82). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (بكل سحار) بالتشديد. والباقون: (ساحر) على وزن فاعل. وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو: (السحر) بقطع الألف ومدها على الاستفهام. والباقون: (السحر) موصولة على الخبر. الحجة: قد بينا الوجه في سحار وساحر في سورة الأعراف. وأما قوله (السحر) فإن (ما) في قوله (ما جئتم به) في موضع رفع بالابتداء، و (جئتم) في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، والكلام استفهام. و (السحر) بدل من (ما) المبتدأ، ولزم أن يلحق (السحر) الاستفهام، ليساوي المبدل منه في أنه استفهام. ألا ترى أنه ليس في قولك السحر استفهام ؟ وعلى هذا قالوا: كم مالك أعشرون، أم ثلاثون ؟ فجعلت العشرون والثلاثون بدلا من كم، وألحقت أم لأنك في قولك: كم درهما مالك ؟ مدع أن له مالا، كما أنك في قولك: أعشرون أم ثلاثون مالك ؟ مدع أحد الشيئين، ولا يلزم أن تضمر للسحر خبرا على هذا، لأنك إذا أبدلت من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبرا لما أبدلت منه في موضع خبر البدل. ومن قرأ: (ما جئتم به السحر) كان (ما) في قوله موصولا، و (جئتم به) الصلة، والهاء المجرورة عائدة على الموصول، وخبر المبتدأ الذي هو الموصول السحر. ومما يقوي هذا الوجه ما زعموا أنه في حرف عبد الله: (ما جئتم به سحر) فعلى هذا يكون تقديره الذي جئتم به السحر، وعلى الوجه الأول، وهو أن يكون (ما) استفهاما، فتقديره: أي شئ جئتم السحر. وأما وجه الإستفهام مع علم موسى أنه سحر، فإنه مثل قوله (أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) في أنه للتقرير. المعنى: (وقال فرعون) حكى الله سبحانه عن فرعون أنه حين أعجزه المعجزات التي ظهرت لموسى عليه السلام، ولم يكن له في دفعها حيلة، قال لقومه: (ائتوني بكل ساحر عليم) بالسحر بليغ في عمله، وإنما طلب فرعون كل ساحر، ليتعاونوا على دفع ما أتى به موسى، وحتى لا يفوته شئ من السحر بتأخر بعضهم. وإنما فعل ذلك للجهل بأن ما أتى به موسى من عند الله، وليس بسحر، وبعد ذلك علم أنه ليس بسحر، فعائد كما قال سبحانه (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب
[ 215 ]
السماوات والأرض بصائر) وقيل: إنه علم أنه ليس بسحر، ولكنه ظن أن السحر يقاربه مقاربة تشبيه. (فلما جاء السحرة) الذين طلبهم فرعون، وأمر بإحضارهم وموسى حاضر (قال لهم موسى القوا ما أنتم ملقون) وفي الكلام حذف يدل عليه الظاهر وتقديره فلما أتوه بالسحرة وبالحبال والعصي قال لهم موسى (ألقوا ما أنتم ملقون) أي: اطرحوا ما جئتم به. وقيل: معناه افعلوا ما أنتم فاعلون. وهذا ليس بأمر بالسحر، ولكنه قال ذلك على وجه التحدي والإلزام أي: من كان عنده ما يقاوم المعجزات، فليلقه. وقيل: إنه أمر على الحقيقة بالإلقاء ليظهر بطلانه، وإنما لم يقتصر على قوله (ألقوا) لأنه أراد ألقوا جميع ما أنتم ملقون في المستأنف، فلو اقتصر على (ألقوا) ما أفاد هذا المعنى. والإلقاء: إخراج الشئ عن اليد إلى جهة الأرض، ويشبه بذلك قولهم: ألقى عليه مسألة، وألقى عليه رداه (فلما ألقوا) أي: فلما ألقت السحرة سحرهم (قال موسى) لهم (ما جئتم به السحر) أي: الذي جئتم به من الحبال، والعصي، السحر. أدخل عليه الألف واللام للعهد، لأنهم لما قالوا لما أتى به موسى أنه سحر قال عليه السلام: ما جئتم به هو السحر، عن الفراء (إن الله سيبطله) أي: سيبطل هذا السحر الذي فعلتموه (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) معناه: إن الله لا يهيئ عمل من قصد إفساد الدين، ولا يمضيه ويبطله حتى يظهر الحق من الباطل، والمحق من المبطل. (ويحق الله الحق) أي: يظهر الله الحق، ويحققه، ويثبته، وينصر أهله. (بكلماته) قيل في معناه أقوال أحدها: إن معناه بوعد موسى عليه السلام، وكان وعده النصر، فأنجز وعده عن الحسن. وثانيها: إن معناه بكلامه الذي يتبين به معاني الآيات التي أتاها نبيه، عن الجبائي وثالثها: بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ، بأن ذلك سيكون (ولو كره المجرمون) ظهور الحق، وإبطال الباطل. وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى ينصر المحقين كلهم في حقهم، وذلك على وجهين أحدهما: بالحجة، فهذه النصرة مستمرة على كل حال والثاني: بالغلبة والقهر، وهذا يختلف بحسب المصلحة، لأن المصلحة قد تكون بالتخلية تارة، وبالحيلولة أخرى. (فما ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم أن
[ 216 ]
يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين (83) وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86). اللغة: الذرية: الجماعة من نسل القبيلة، وقد تقدم القول في أصلها، ووزنها، والفتنة: أصلها البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة، يقال: فتنت الذهب: إذا أحرقته بالنار ليظهر الخلاص. وقوله (يوم هم على النار يفتنون) أي: يحرقون لما فيه من إظهار حالهم في الضلال. وقوله: (والفتنة أشد من القتل) معناه: التعذيب للرد عن الدين لما فيه من إظهار النصرة أشد. الاعراب: (يا قوم): حذفت منه ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة منها، وهو في النداء أحسن من إثباتها، لقوة النداء على التغيير. والفاء في قوله (فقالوا): فاء العطف، وجواب الأمر، كما تقول: قال السائل كذا، فقال المجيب كذا. وإنما جازت الفاء في الجواب، ولم تجز الواو لأن الفاء تترتب من غير مهلة، فهي موافقة لمعنى وجوب الثاني بالأول، وليس كذلك الواو. المعنى: ثم بين سبحانه من آمن من قوم موسى عليه السلام فقال: (فما آمن لموسى) أي: لم يصدق موسى في ما ادعى من النبوة، مع ما أظهره من المعجزات الظاهرة (إلا ذرية من قومه) أي: أولاد من قوم فرعون. وقيل: أراد من قوم موسى عليه السلام، وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر. واختلف من قال بالأول، فقيل: إنهم قوم كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فاتبعوا أمهاتهم وأخوالهم، عن ابن عباس. وقيل: إنهم أناس يسير من قوم فرعون، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وجارية، وامرأة هي مشاطة امرأة فرعون، عن عطية، عن ابن عباس. وقيل: إنهم بعض أولاد القبط، لم يستجب آباءوهم موسى. واختلف من قال بالثاني، فقيل: هم جماعة من بني إسرائيل، أخذهم فرعون لتعلم السحر، وجعلهم من أصحابه، فآمنوا بموسى، عن الجبائي. وقيل: أراد مؤمني بني إسرائيل، وكانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب دخل مصر منهم باثنين وسبعين إنسانا، فتوالدوا حتى بلغوا ستمائة ألف، وإنما سماهم ذرية على وجه التصغير لضعفهم، عن
[ 217 ]
ابن عباس في رواية أخرى. وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء، وبقي الأبناء. (على خوف من فرعون) يعني آمنوا وهم خائفون من معرة فرعون (وملإيهم) ومن أشرافهم ورؤسائهم. قال الزجاج: وإنما جاز أن يقال (وملإيهم) لأن فرعون ذو أصحاب يأتمرون له. وقيل: إن الضمير في (ملإيهم) راجع إلى الذرية، لأن آباءهم كانوا من القبط، وكانوا يخافون قومهم من القبط أن يصرفوهم عن دينهم، ويعذبوهم. (أن يفتنهم) أي: يصرفهم عن الدين، يعني أن يمتحنهم لمحنة لا يمكنهم الصبر عليها، فينصرفون عن الدين. وكان جنود فرعون يعذبون بني إسرائيل، فكان خوفهم منه ومنهم. (وإن فرعون لعال في الأرض) أي: مستكبر باغ طاغ في أرض مصر ونواحيها (وإنه لمن المسرفين) أي: من المجاوزين الحد في العصيان، لأنه ادعى الربوبية، وأسرف في القتل، والظلم. والإسراف: التجاوز عن الحد في كل شئ (وقال موسى) لقومه الذين آمنوا به: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله) كما تظهرون (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) أي: فاسندوا أموركم إليه إن كنتم مسلمين على الحقيقة، وإنما أعاد قوله (إن كنتم مسلمين) بعد قوله (إن كنتم آمنتم بالله) ليتبين المعنى باجتماع الصفتين التصديق والانقياد أي: إن كنتم آمنتم بالله فاستسلموا لأمره، وفائدة الآية بيان وجوب التوكل على الله عند نزول الشدة، والتسليم لأمره ثقة بحسن تدبيره، وانقطاعا إليه (فقالوا على الله توكلنا) أخبر سبحانه عن حسن طاعتهم له، وأنهم قالوا: أسندنا أمورنا إلى الله واثقين (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) أي: لا تمكن الظالمين من ظلمنا بما يحملنا على إظهار الانصراف عن ديننا، عن مجاهد. وقيل: معناه ربنا لا تظهر علينا فرعون وقومه فيفتتن بنا الكفار، ويقولوا: لو كانوا على الحق لما ظفرنا عليهم، عن الحسن، وأبي مجاز. وروى زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أن معناه لا تسلطهم علينا فتفتنهم بنا. (ونجنا) وخلصنا (برحمتك من القوم الكافرين) أي: من قوم فرعون، واستعبادهم إيانا، وأخذهم جماعتنا بالأعمال الشاقة، والمهن الخسيسة. (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوء لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم
[ 218 ]
قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (87) وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون (89). القراءة: قرأ ابن عامر: (ولا تتبعان) خفيفة النون. والباقون: بالتشديد. الحجة: من قرأ بالنون الشديدة كسرها لوقوعها بعد ألف التثنية، فأشبهت نون الاثنين في رجلان، ولم يعتد بالنون الساكنة قبلها، لسكونها وخفتها، فصارت المكسورة كأنها وليت الألف. ومن قرأ بالتخفيف: فإنه يمكن أن يكون خفف الثقيلة للتضعيف، كما خففوا (رب، وإن)، ونحوهما، إلا أنه حذف الأولى من المثلين كما أبدلوا الأولى من المثلين في نحو قيراط، ودينار. ولزم ذلك في هذا الموضع لأن الحذف لو لحق الثانية، للزم التقاء الساكنين، والتقاء الساكنين على هذا الحد غير مأخوذ به عند العامة، وإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى الأمر، كقوله (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (ولا تضار والدة بولدها) أي: لا ينبغي ذلك، وإن شئت جعلته حالا من استقيما، والتقدير استقيما غير متبعين، ويدل على ذلك قول الشاعر: فلا أسقي، ولا يسقى شريبي، ويرويه إذا أوردت مائي (1) وكقول الفرزدق: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم، ولم تكثر القتلى بها حين سلت (2) اللغة: تبوءا أي: اتخذا، يقال: تبوأ لنفسه بيتا أي: اتخذه، وبوأت له بيتا (1) والشاهد في قوله (ويرويه) حيث أنه وقع حالا مع استغناء الحال عن الواو إذا كان فعلا مضارعا (2) شام السيف شيما: أغمده، والشاهد في قوله: (ولم تكثر القتلى) ووقوعه حالا أي: لم يغمدوها، والقتلى بها لم تكثر، وإنما يغمدونها بعد أن تكثر القتلى بها. (*)
[ 219 ]
أي: اتخذته له. ويقال ان تبوأ، وبوأ بمعنى، أي: اتخذ بيتا مثل بدل وتبدل، وخلص وتخلص. قال أبو علي: تبوأ فعل يتعدى إلى مفعولين، واللام في قوله (لقومكما) كالتي في قوله (ردف لكم) ويقوي ذلك قوله (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) فدخلت اللام على غير المطاوع، كما دخلت على المطاوع في قوله (تبوءا لقومكما). والطمس: محو الاثر، يقال طمست عينه أطمسها طمسا وطموسا، وطمست الريح آثار الديار. والطمس: تغير إلى الدثور والدروس. قال كعب بن زهير: من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول (1) الاعراب: مصر غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفت لخفتها كما تصرف هند لكان جائزا وترك الصرف أقيس وقوله (بيوتا) مفعول به وليس بظرف مكان لاختصاصه والبيوت هنا كالغرف في قوله تعالى (لنبوءنهم من الجنة غرفا فلا يؤمنوا) يحتمل وجهين من الاعراب النصب والجزم فأما النصب ففيه وجهان أحدهما: أن يكون على جواب صيغة الأمر بالفاء والآخر: أن يكون عطفا على ليضلوا أي ليضلوا فلا يؤمنوا وهذا قول المبرد وعلى هذا فيكون قوله (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) اعتراضا. وأما الجزم فيكون على وجه الدعاء عليهم، وتقديره فلا آمنوا، ومثله قول الأعشى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم المعنى (وأوحينا إلى موسى وأخيه) أي: أمرناهما (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) أي: اتخذا لمن آمن بكما بمصر يعني البلدة المعروفة بيوتا تسكنونها، وتأوون إليها. (واجعلوا بيوتكم قبلة) اختلف في ذلك، فقيل: لما دخل موسى مصر بعد ما أهلك الله فرعون، أمروا باتخاذ مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى، وأن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة أي: الكعبة، وكانت قبلتهم إلى الكعبة، عن الحسن. ونظيره: (في بيوت اذن الله أن ترفع) الآية. وقيل: إن فرعون أمر بتخريب مساجد (1) النضخ: شدة فور الماء والعرق. والذفرى: خلف الأذن، أراد أن ذفرى الناقة كثير النضخ بالعرق. والعرضة: المسافة التي تعرضت الناقة لقطعها. وطامس الأعلام أي: ليس فيها علامة يهتدى بها (*)
[ 220 ]
بني إسرائيل، ومنعهم من الصلاة، فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم، يصلون فيها خوفا من فرعون، وذلك قوله (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي: صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغيرهم. وقيل: معناه اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا، عن سعيد بن جبير. (وأقيموا الصلاة) أي: أديموها، وواظبوا على فعلها. (وبشر المؤمنين) بالجنة، وما وعد إلله تعالى من الثواب، وأنواع النعيم. والخطاب لموسى عليه السلام. عن أبي مسلم. وقيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه) أي: أعطيت فرعون وقومه (زينة) يتزينون بها من الحلي والثياب. وقيل: الزينة الجمال، وصحة البدن، وطول القامة، وحسن الصورة (وأموالا) يتعظمون بها (في الحياة الدنيا) وإنما أعطاهم الله تعالى ذلك للإنعام عليهم مع تعريه من وجود الإستفساد. (ربنا ليضلوا عن سبيلك): اللام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك، ولا يجوز أن يكون لام الغرض، لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال، ولا يريد أيضا منهم الضلال، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. وقيل: معناه لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذفت (لا) كقوله: (شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) أي لئلا تقولوا، وحذف ذلك لدلالة العقل عليه. وقيل: إنه لام الدعاء، والمعنى ابتلهم بالبقاء على ما هم عليه من الضلال. وإنما قال ذلك لعلمه بأنهم لا يؤمنون من طريق الوحي، وفائدته إظهار التبرؤ منهم كما يلعن إبليس. ويدل عليه أنه أعاد قوله (ربنا اطمس على أموالهم) فدل ذلك على أنه أراد به الدعاء عليهم، والمراد بالطمس على الأموال: تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قال مجاهد، وقتادة، وعامة أهل التفسير: صارت جميع أموالهم حجارة حتى السكر، والفانيذ (1) (واشدد على قلوبهم) معناه: ثبتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم، فيكون ذلك أشد عليهم. وقيل: معناه امتهم بعد سلب أموالهم، وأهلكهم. وقيل: إنه عبارة عن الخذلان والطبع (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) قد ذكرنا وجوهه. وقيل: معناه إنهم لا يؤمنون إيمان إلجاء حتى يروا العذاب، وهم مع ذلك لا يؤمنون إيمان اختيار أصلا. (1) الفانيذ: ضرب من الحلواء، فارسي معرب. (*)
[ 221 ]
ثم أخبر سبحانه أنه أجاب لهما الدعوة فقال: (قال) أي: قال الله تعالى لموسى وهارون (قد أجيبت دعوتكما) والداعي كان موسى عليه السلام، لأنه كان يدعو، وكان هارون يؤمن على دعائه، فسماهما داعيين، عن عكرمة، والربيع، وأبي العالية، وأكثر المفسرين، ولأن معنى التأمين: اللهم استجب هذا الدعاء (فاستقيما) أي: فاثبتا على ما أمرتما من دعاء الناس إلى الإيمان بالله تعالى، والإنذار والوعظ. قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) نهاهما سبحانه عن أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله، ولا يعرفه، ولا يعرف أنبياءه عليهم السلام (* وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لآ إله إلا الذئ امنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين (90) ءآلئان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون (92) القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (آمنت إنه) بكسر الألف. والباقون: (أنه) بالفتح. وروي عن أبي جعفر، ونافع: (الان) بإلقاء حركة الهمزة على اللام، وحذف الهمزة. وقرأ (ننجيك) خفيفة، قتيبة، ويعقوب، وسهل. والباقون: (ننجيك) بالتشديد. وفي الشواذ قراءة أبي بن كعب، ومحمد بن السميقع: (ننحيك) بالحاء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (آمنت أنه) بالفتح فلأن هذا الفعل يصل بحرف الجر في نحو (يؤمنون بالغيب)، فلما حذف حرف الجر، وصل الفعل إلى أن، فصار في موضع نصب أو جر على الخلاف في ذلك. ومن قرأ (آمنت إنه) بالكسر حمله على القول المضمر، كأنه قال آمنت وقلت إنه، وإضمار القول في هذا النحو كثير. وقال علي بن عيسى: من كسر (إنه) جعله بدلا من (آمنت) ومن فتح جعله معمول (آمنت). وأما (الآن): فإن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها
[ 222 ]
الهمزة فخففت الهمزة، كان في تخفيفها وجهان أحدهما: أن يلقي حركتها على اللام، وتقر همزة الوصل، فيقال الحمر (1)، وقد حكى ذلك سيبويه. وحكى أبو الحسن أن أناسا يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل، قال: فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة فبح لان منها بالذي أنت بائح (2) فأسكن (الحاء) لما كانت (اللام) متحركة. ولو لم يعتد بالحركة كما لم يعتد بها في الوجه الأول، لحرك الحاء بالكسر، كما يحرك في بح اليوم، وننجيك وننجيك: في معنى واحد أي: نلقيك على نجوة من الأرض، قال أوس بن حجر: فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح والقرواح: حيث لا ماء ولا شجر. ومن قرأ (ننحيك) بالحاء: فإنه نفعلك من الناحية أي: نجعلك في ناحية، ومنه نحيت الشئ فتنحى أي: باعدته فتباعد، فصار في ناحية، قال الحطيئة: تنحي فاجلسي مني بعيدا أراح الله منك العالمينا اللغة: المجاوزة: الخروج عن الحد من إحدى الجهات الأربع. والاتباع: طلب اللحاق بالأول اتبعه اتباعا وتبعه بمعنى. وحكى أبو عبيدة عن الكسائي أنه قال: إذا أريد أنه أتبعهم خيرا أو شرا، قالوا بقطع الهمزة، وإذا أريد به أنه اقتدى بهم، واتبع أثرهم، قالوا بتشديد التاء، ووصل الهمزة. والبغي: طلب الاستعلاء بغير حق. والعدو والعدوان: الظلم. والنجوة: الأرض التي لا يعلوها السيل، وأصلها من الإرتفاع. الاعراب: (بغيا وعدوا): مفعول له. وقيل: إنهما مصدران في موضع الحال، أي: في حال البغي والعدوان الآن، فصل بين الزمان الماضي والمستقبل مع أنه إشارة إلى الحاضر، ولهذا بني كما بني ذا. وعرف (الآن) بالألف واللام. وأمس يتضمن حرف التعريف، لأن ما مضى بمنزلة المضمر في المعنى، في أنه ليس (1) يعني في الأحمر. (2) قائله عنترة. الحقبة في الأصل يطلق على مدة معينة من الزمن والمراد منه هنا مجرد الزمن الطويل و (لان) أصله (الآن) و (بح) أمر من باح يبوح. (*)
[ 223 ]
له صورة والحاضر في معنى المصرح في صحة الصورة. والعامل في قوله (الآن) محذوف، وتقديره: الآن آمنت. المعنى: ثم بين سبحانه مآل آل فرعون وقومه، فقال (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي: عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين، بأن يبسنا لهم البحر، وفرقنا لهم الماء اثني عشر فرقا (فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا) أي: ليبغوا عليهم ويظلموهم، وذلك أن الله سبحانه لما أجاب دعاء موسى، أمره بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا، فخرج، وتبعهم فرعون وجنوده مشرقين، حتى انتهوا إلى البحر، وأمر الله سبحانه موسى عليه السلام فضرب البحر بعصاه، فانفلق اثني عشر فرقا، وصار لكل سبط طريق يابس، فارتفع بين كل طريقين الماء كالجبل، وصار في الماء شبه الخروق، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر، رأوا البحر بثلك الهيئة، فهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم، فجاء جبرائيل عليه السلام، على فرس وديق، وخاض البحر، وميكائيل يسوقهم، فلما شم أدهم فرعون ريح فرس جبريل عليه السلام، انسل خلفه في الماء، واقتحمت الخيول خلفه، فلما دخل آخرهم البحر، وهم أولهم أن يخرج، انطبق الماء عليهم. (حتى إذا أدركه الغرق) أي: وصل إليه الغرق وأيقن بالهلاك (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) وكان ذلك إيمان إلجاء، لا يستحق به الثواب، فلم ينفعه إيمانه (الآن) وقد عصيت قيل فيه إضمار أي: قيل له الآن آمنت حين لا ينفع الإيمان، ولا يقبل لأنه حال الإلجاء (وقد عصيت) بترك الإيمان في حال ما ينفعك الإيمان، فهلا آمنت (قبل) ذلك (وكنت من المفسدين) في الأرض بقتل المؤمنين، وادعاء الإلهية، وأنواع الكفر. واختلف في قائل هذا القول، فقيل: قاله جبريل عليه السلام. وقيل: ذلك كلام الله تعالى، قاله له على وجه الإهانة والتوبيخ، وكان ذلك معجزة لموسى عليه السلام. وروى علي بن إبراهيم بن هاشم: بإسناده عن الصادق عليه السلام، قال: ما أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا كئيبا حزينا، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون، فلما أمر الله سبحانه بنزول هذه الآية، نزل وهو ضاحك مستبشر، فقال له: حبيبي جبريل ما
[ 224 ]
أتيتني إلا وبينت الحزن في وجهك حتى الساعة ؟ قال: نعم يا محمد، لما غرق الله فرعون قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثم قلت له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) ثم خفت أن تلحقه الرحمة من عند الله فيعذبني على ما فعلت، فلما كان الآن، وأمرني أن أؤدي إليك ما قلته أنا لفرعون، آمنت وعلمت أن ذلك كان لله رضا (فاليوم ننجيك ببدنك) اختلف في معناه، فقال أكثر المفسرين: معناه لما أغرق الله فرعون وقومه، أنكر بعض بني إسرائيل غرق فرعون، وقالوا: هو أعظم شأنا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه، فذلك قوله (فاليوم ننجيك) أي: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع ببدنك أي: بجسدك من غير روح، وذلك أنه طفا عريانا. وقيل: معناه نخلصك من البحر، وأنت ميت، والبدن الدرع. قال ابن عباس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها، فالمعنى نرفعك فوق الماء بدرعك المشهورة، ليعرفوك بها (لتكون لمن خلفك آية) أي: لتكون نكالا لمن خلفك، فلا يقولوا مثل مقالتك، عن الكلبي. وقيل: إنه كان يدعي أنه رب، فبين الله أمره وأنه عبد، وفيه من الآية أنه غرق مع القوم، وأخرج هو من بينهم، وكان ذلك آية، عن الزجاج (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) يعني أن كثيرا من الناس عن التفكر في دلالاتنا، والتدبر لحججنا وبيناتنا، غافلون أي: ذاهبون. (ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (93). الاعراب: (المبوأ): يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون مكانا، ويكون المفعول الثاني من بوأت على هذا محذوفا كما حذف من قوله (وبوأكم في الأرض). ويجوز أن ينتصب (المبوأ) نصب المفعول به على الاتساع، وإن كان مصدرا، فقد أجاز ذلك سيبويه في قوله: أما الضرب فأنت ضارب. المعنى: ثم بين سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون، فقال: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) أخبر سبحانه عن نعمه عليهم بعد أن أنجاهم، وأهلك عدوهم، يقول: مكناهم مكانا محمودا، وهو بيت المقدس والشام. وإنما قال (مبوأ صدق) لأن فضل ذلك المنزل على غيره من المنازل، كفضل الصدق على الكذب.
[ 225 ]
وقيل: معناه أنزلناهم في موضع خصب وأمن، يصدق فيما يدل عليه من جلالة النعمة. وقال الحسن: يريد به مصر، وذلك أن موسى عبر ببني إسرائيل البحر ثانيا، ورجع إلى مصر، وتبوأ مساكن آل فرعون. وقال الضحاك: هو الشام ومصر (ورزقناهم من الطيبات) أي: مكناهم الأشياء اللذيذة. وهذا يدل على سعة أرزاق بني إسرائيل (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) معناه: فما اختلفوا في تصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني اليهود كانوا مقرين به قبل مبعثه حتى جاءهم العلم، وهو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس. وقال الفراء: العلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان معلوما عندهم بنعته، فلما جاءهم اختلفوا في تصديقه، فكفر به أكثرهم. وقيل: إن معناه فما اختلف بنو إسرائيل إلا من بعد ما جاءهم العلم بالحق على يد موسى وهارون، فإنهم كانوا مطبقين على الكفر قبل مجئ موسى، فلما جاءهم، آمن به بعضهم، وثبت على الكفر بعضهم، فصاروا مختلفين (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) هذا إخبار منه تعالى بأنه الذي تولى الحكم بينهم يوم القيامة، في الأمور التي يختلفون فيها، فإن مع بقاء التكليف لا يرتفع الخلاف. (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بئايات الله فتكون من الخاسرين (95) إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الأليم (97) القراءة: قد تقدم اختلاف القراء في (كلمة وكلمات)، والوجه في ذلك. اللغة: الإمتراء: طلب الشك مع ظهور الدليل، وهو من مري الضرع وهو مسحه ليدر، فلا معنى لمسحه بعد دروره بالحليب. الاعراب: (النون) في قوله: (فلا تكونن) نون التأكيد، وهي لا تدخل في غير الواجب، لأنك لا تقول أنت تكونن. ودخلت في القسم على هذا الوجه، لأنه يطلب بالقسم التصديق، وإنما بنى الفعل مع نون التأكيد، لأنها ركبت مع الفعل على
[ 226 ]
تقدير كلمتين، كل واحدة مركبة مع الأخرى، مع أن الأولى ساكنة، واقتضت حركة بناء، لالتقاء الساكنين، (ولو جاءتهم كل آية) قال الأخفش: أنث (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث، ولفظة (كل) للمذكر والمؤنث سواء. والرؤية في الآية: رؤية العين لأنها تعدت إلى مفعول واحد. والعذاب، وإن كان اليما، وهو لا يصح أن يرى، فإنه ترى أسبابه، فهو بمنزلة ما يرى. المعنى: ثم بين سبحانه صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فسئل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك): اختلف المفسرون في معناه على أقوال أولها: قال الزجاج: إن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها، وخوضهم فيها، وفي السورة ما يدل على بيانها، فإن الله سبحانه يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك الخطاب شامل للخلق، فالمعنى فإن كنتم في شك، فاسألوا. والدليل عليه قوله في آخر السورة (يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا اعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن اعبد الله الذي يتوفاكم) الآية. فأعلم الله سبحانه أن نبيه عليه السلام ليس في شك، ومثل هذا قوله (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) فقال طلقتم والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، وهذا مذهب الحسن، وابن عباس، واكثر اهل التأويل. وروي عن الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشك، ولم يسأل، وهو المروي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام وثانيها: إن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يشك، وعلم الله سبحانه أنه غير شاك، ولكن الكلام خرج مخرج التقرير والإفهام، كما يقول القائل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني، ولأبيه: إن كنت والدي فتعطف علي، ولولده: ان كنت ابني فبرني، يريد بذلك المبالغة، وربما خرجوا في المبالغة ما يستحيل كقولهم بكت السماء لموت فلان أي: لو كان تبكي سماء على ميت، لبكت عليه، وكذلك ههنا يكون المعنى: لو كنت ممن يشك فشككت. (فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك) عن الفراء، وغيره وثالثها: إن المعنى: فإن كنت أيها المخاطب، أو أيها السامع، في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون الخطاب لغيره ورابعها: ما ذكره الزجاج أنه يجوز أن يكون في معنى (ما) فيكون المعنى ما كنت في شك مما أنزلنا إليك، (فاسأل الذين يقرؤون الكتاب) أي: لسنا نريد بأمرك أن تسأل لأنك شاك، ولكن لتزداد
[ 227 ]
إيمانا كما قال إبراهيم عليه السلام حين قال له: (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) فالزيادة في التعريف ليست مما يبطل صحة العقيدة، وإنما أمر سبحانه بسؤال أهل الكتاب، مع جحد أكثرهم لنبوته، فيه قولان أحدهما: إنه أمره بأن يسأل مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وتميم الداري، واشباههم، عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك والآخر: إن المراد: سلهم عن صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبشر به في كتبهم، ثم انظر فيما وافق تلك الصفة. وهذا القول أقوى لأن هذه السورة مكية، وابن سلام، وغيره، إنما أسلموا بالمدينة. وقال الزهري: إن هذه الآية نزلت في السماء، فإن صح ذلك فقد كفي المؤونة. ورواه أصحابنا أيضا، عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل أيضا: إن المراد بالشك: الضيق والشدة بما يعانيه من نعتهم وأذاهم أي: ان ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك (فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك) كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، فاصبر كذلك (لقد جاءك الحق من ربك) يعني بالحق: القرآن، والإسلام (فلا تكونن من الممترين) أي: الشاكين (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله) أي من جملة من يجحد آيات الله، ولا يصدق بها (فتكون من الخاسرين) أي: فإنك ان فعلت ذلك كنت من الخاسرين، ولم يقل من الكافرين، لأن الإنسان قد علم شدة تحسره وتأسفه على خسران ماله، فكيف إذا خسر دينه ونفسه. (ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) معناه: إن الذين اخبر الله عنهم بغير شرط، أنهم لا يؤمنون، فنفى الإيمان عنهم، ولم ينف عنهم القدرة عليه، فإن نفي الفعل لا يكون نفيا للقدرة عليه، كما أن الله سبحانه نفى عن نفسه مغفرة المشركين، ولم يكن ذلك نفيا لقدرته على مغفرتهم. وقيل: معناه إن الذين وجب عليهم سخط ربك، عن قتادة. وقيل: معناه وجب عليهم وعيد ربك (ولو جاءتهم كل آية) أي: كل معجزة ودلالة مما يقترحونها (حتى يروا العذاب الأليم) الموجع، فيصيروا ملجأين إلى الإيمان. وفي هذا إعلام بأن هؤلاء الكفار لا لطف لهم في المعلوم، يؤمنون عنده إيمان اختيار. (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانهآ إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (98)
[ 228 ]
الاعراب: (لولا): بمعنى هلا، وهي تستعمل على وجهين أحدهما: التحضيض. والآخر: التأنيب، كقولك في التحضيض: هلا تأتي زيدا لحاجتك، وفي التأنيب: هلا امتنعت من الفساد الذي دعيت إليه. قال الشاعر: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (1) أي: هلا تعقرون الكمي، و (كانت قرية) كان هذه: هي التامة، لا تحتاج إلى خبر، و (آمنت فنفعها إيمانها) صفة لقرية، فإن الجمل قد تقوم مقام الصفة للنكرة، و (الاقوم يونس) استثناء متصل واقع على المعنى، لا على ظاهر اللفظ، فكأنه قال: هلا آمن أهل قرية، والجميع مشتركون في هذا العتاب. و (قوم يونس): مستثنى من الجميع، ومثل هذا الاستثناء في قوله تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) وقال الزجاج: إلا قوم يونس: إستثناء منقطع، وتقديره لكن قوم يونس لما آمنوا، ومثله قول النابغة. وقفت فيها أصيلالا أسائلها، عيت جوابا، وما بالربع من أحد إلا أواري لأياما أبينها، والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (2) وحكى الفراء في البيت (لا إن ما أبينها) وقال: جمع الشاعر بين ثلاثة أحرف في النفي: (لا)، و (ان)، و (ما)، وقرأ بعضهم،: (يونس، ويوسف) بكسر النون والسين، أراد أن يجعل الإسمين عربيين مشتقين من آسف، وآنس، وهو شاذ. المعنى: لما ذكر سبحانه أن إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب، وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونس قبل نزول العذاب، فقال: (فلولا كانت قرية آمنت (1) الشعر في (جامع الشواهد) قد مر أيضا. (2) وفي معلقته: (أصيلا كي اسائلها) في البيت الأول، ويروى (أصيلانا) وأصيلان تصغير الأصل - بضمتين - جمع الأصل: الوقت بعد العصر، وأصيلال على البدل، أبدلوا من النون لاما يقول: وقفت في هذه الدار عشية اسائلها عن أهلها أين ذهبوا، فلم تقدر على الجواب، ولم يكن فيها أحد يحسنه. والاواري: حيث تجلس الدواب وقوله لأيا: أي جهدا، والنؤي: نهر يحفر حول الأخبية، يجرى فيها الماء، فشبهه بالحوض. وقوله: (بالمظلومة الجلد) أي بالموضع الذي لا يحفر لصلابته، فجعلها مظلومة، لأنها حفرت في غير موضع حفر والشاهد في قوله: (الا اواري) بالنصب على الاستثناء المنقطع، لأنها من غير جنس الأحد. (*)
[ 229 ]
فنفعها إيمانها الا قوم يونس) قيل: ان معناه فهلا كان أهل قرية آمنوا في وقت ينفعهم إيمانهم. أعلم الله سبحانه أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب، ولا عند حضور الموت الذي لا يشك فيه، ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، عن الزجاج، قال: وقوم يونس لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب، فمثلهم مثل العليل الذي يتوب في مرضه، وهو يرجو العافية، ويخاف الموت. وقيل: ان معناه لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم، حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس، فهلا كانت القرى كلها هكذا، عن الحسن. وقيل: معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها، يريد بذلك لم يكن هذا معروفا لأمة من الأمم كفرت، ثم آمنت عند نزول العذاب، وكشف عنهم أي: لم أفعل هذا بأمة قط الا قوم يونس (لما آمنوا) عند نزول العذاب كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم وهو قوله: (كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا)، عن قتادة، وابن عباس، وفي رواية عطاء. وقيل: إنه أراد بقوله فلولا كانت قرية آمنت قوم ثمود، فإنه قد جاءهم العذاب يوما فيوما، كما جاء قوم يونس، الا أن قوم يونس استدركوا ذلك بالتوبة، وأولئك لم يستدركوا، فوصف أهل القرية بأنهم سوى قوم يونس، ليعرفهم به بعض التعريف، إذا كان اخبر عنهم على سبيل الإخبار عن النكرة، عن الجبائي، وهذا الذي ذكره، إنما كان يصح لو كان (الا قوم يونس) مرفوعا، فكان يكون صفة لقرية، أو بدلا منه على معنى هلا كان قوم قرية آمنوا الا قوم يونس، ولم يقرأ أحد من القراء بالرفع (ومتعناهم إلى حين) وهو وقت انقضاء آجالهم. القصة: وكان من قصة يونس على ما ذكره سعيد بن جبير، والسدي، ووهب، وغيرهم: إن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، وكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث إن لم يتوبوا، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبا، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة، فليس بشئ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل خرج يونس من بين اظهرهم، فلما اصبحوا يغشاهم العذاب قال وهب: أغامت السماء غيما أسود هائلا، يدخن دخانا شديدا، فهبط حتى غشي مدينتهم، واسودت سطوحهم. وقال ابن عباس: كان العذاب فوق
[ 230 ]
رؤوسهم قدر ثلثي ميل، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا نبيهم فلم يجدوه، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم، ونسائهم، وصبيانهم، ودوابهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحن بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها، واختلطت أصواتها بأصواتهم، وتضرعوا إلى الله، عز وجل، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس. فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم. قال عبد الله بن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن يرادوا المظالم بينهم حتى كان الرجل ليأتي الحجر، وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ويرده. وروي عن أبي مخلد أنه قال: لما غشي قوم يونس العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: لقد نزل بنا العذاب، فما ترى ؟ قال: قولوا: (يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت) فقالوها، فانكشف عنهم العذاب. وروي عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان فيهم رجل اسمه مليخا، عابد، وآخر اسمه روبيل عالم، وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول له: لا تدع عليهم، فإن الله يستجيب لك، ولا يحب هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد، فدعا عليهم، فأوحى الله تعالى إليه أنه يأتيهم العذاب في شهر كذا، في يوم كذا. فلما قرب الوقت، خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيهم. فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب، قال لهم العالم: افزعوا إلى الله فلعله يرحمكم، ويرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة، وفرقوا بين النساء والأولاد، وبين سائر الحيوان وأولادها، ثم ابكوا، وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب، وكان قد نزل بهم، وقرب منهم وفر يونس على وجهه مغاضبا، كما حكى الله تعالى عنه، حتى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت (1)، وأرادوا أن يدفعوها، فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه. فلما توسطوا البحر، بعث الله عليهم حوتا عظيما، فحبس عليهم السفينة، فتساهموا، فوقع من بينهم السهم على يونس، فأخرجوه فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت، ومر به في الماء، وقيل: ان الملاحين قالوا: نقترع، فمن (1) أي ملئت. (*)
[ 231 ]
أصابته القرعة ألقيناه في الماء، فإن هاهنا عبدا عاصيا آبقا. فوقعت القرعة سبع مرات على يونس، فقام وقال: أنا العبد الآبق، وألقى نفسه في الماء، فابتلعه الحوت، فأوحى الله إلى ذلك الحوت: لا تؤذشعرة منه، فإني جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعامك. فلبث في بطنه ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام. وقيل. أربعين يوما. وقد سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليا عليه السلام، عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه ؟ فقال له: يا يهودي ! هو الحوت الذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر (قلزم) حتى خرج إلى بحر (مصر)، ثم سار منها إلى بحر (طبرستان)، ثم خرج من (الدجلة). قال عبد الله بن مسعود ابتلع الحوت حوت آخر، فأهوى به إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة، (فنادى في الظلمات ان لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين) فاستجاب الله له، فأمر الحوت، فنبذه على ساحل البحر، وهو كالفرخ المتمعط. فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظل تحتها، ووكل الله به وعلا (1) يشرب من لبنها، فيبست الشجرة. فبكى عليها، فأوحى الله تعالى إليه تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن أهلكهم ؟ فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت ؟ قال: من قوم يونس. قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس. فأخبرهم الغلام، ورد الله عليه بدنه، ورجع إلى قومه، وآمنوا به. وقيل: إنه عليه السلام أرسل إلى قوم غير قومه الأولين. (ولو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100) القراءة: قرأ: (ونجعل) بالنون حماد، ويحيى عن أبي بكر. والباقون: بالياء. (1) الوعل: تيس الجبل. (*)
[ 232 ]
الحجة: من قرأ بالنون فإنه ابتداء بالإخبار عن الله. ومن قرأ بالياء فلأنه تقدم ذكر الله تعالى، فكنى عنه. اللغة: المشيئة، والإرادة، والإيثار، والإختيار، نظائر. وإنما يختلف عليها الإسم بحسب مواقعها على ما بين في موضعه. قال علي بن عيسى: النفس: خاصة الشئ التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشئ، ونفسه وذاته واحد، إلا أنه قد يؤكد بالنفس، ولا يؤكد بالذات. والنفس مأخوذة من النفاسة. الاعراب: (كلهم): تأكيد ل (من) و (جميعا): نصب على الحال. المعنى: لما تقدم ان إيمان الملجأ غير نافع، بين سبحانه أن ذلك لو كان ينفع، لأكره أهل الأرض عليه، فقال: (ولو شاء ربك) يا محمد (لآمن من في الأرض) أي: لآمن أهل الأرض (كلهم جميعا) ومعناه: الإخبار عن قدرة الله تعالى، وأنه يقدر علي أن يكره الخلق على الإيمان، كما قال: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) ولذلك قال بعد ذلك: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ومعناه: أن لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان، مع أنك لا تقدر عليه، لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريده، لأنه ينافي التكليف. وأراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم عنه. وفي هذا أيضا دلالة علي بطلان قول المجبرة، أنه تعالى لم يزل كان شائيا، ولأنه لا يوصف بالقدرة على أن يشاء، لأنه تعالى أخبر أنه لو شاء لقدر، لكنه لم يشأ، فلذلك لم يوجد. ولو كانت مشيئة أزلية لم يصح تعليقها بالشرط، فصح أن مشيئته فعلية. ألا ترى أنه لا يصح أن يقال: لو علم سبحانه، ولو قدر، كما صح أن يقال: لو شاء، ولو أراد. (وما كان لنفس أن تؤمن إلا باذن الله) معناه: إنه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإطلاق الله تعالى له في الإيمان، وتمكينه منه، ودعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك. وقيل: إن اذنه هاهنا أمره، كما قال: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم) عن الحسن والجبائي. وحقيقة الاذن: إطلاقه في الفعل بالأمر. وقد يكون الإذن بالاطلاق في الفعل برفع التبعة. وقيل: إن
[ 233 ]
اذنه هنا علمه أي: لا تؤمن نفس إلا بعلم الله، من قولهم: أذنت لكذا: إذا سمعته وعلمته. وآذنته: أعلمته، فيكون خيرا من علمه سبحانه لجميع الكائنات. ويجوز أن يكون بمعنى إعلام الله المكلفين بفضل الإيمان، وما يدعوهم إلى فعله، ويبعثهم عليه. (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) معناه: ويجعل العذاب على الذين لا يتفكرون حتى يعقلو، فكأنهم لا عقول لهم، عن قتادة، وابن زيد. وقيل: معناه ويجعل الكفر عليهم أي: يحكم عليهم بالكفر، ويذمهم عليه، عن الحسن. وقيل: الرجس: الغضب والسخط، عن ابن عباس. وقال الكسائي: الرجس: النتن، والرجز، والرجس واحد. قال أبو علي: وكان الرجس على ضربين أحدهما: أن يكون في معنى العذاب. والآخر: أن يكون بمعنى القذر والنجس، أي: يحكم بأنهم رجس، كما قال سبحانه: (إنما المشركون نجس). (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغنى الأيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين (102) ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين (103). القراءة: قرأ الكسائي برواية نصير، ويعقوب برواية روح، وزيد: (ثم ننجي رسلنا) خفيفة. وروي عن روح التشديد أيضا فيه. والباقون: (ننجي) بالتشديد. وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وسهل (ننجي المؤمنين) خفيفة. والباقون: (ننجي) بالتشديد. الحجة: حجة من قال (ننجي) قوله (فأنجاه الله من النار) وحجة من قال (ننجي) قوله: (ونجينا الذين آمنوا) وكلاهما حسن، قال الشاعر: ونجني ابن هند سابح ذو غلالة أجش هزيم، والرماح دوان (1) (1) الغلالة: شئ يلبسونه الفرس تحت السرج. والأجش: عظيم الصوت. والهزيم: سريع العدو. (*)
[ 234 ]
اللغة: النظر: طلب الشئ من جهة الفكر، كما يطلب ادراكه بالعين. والنذر: جمع نذير، وهو صاحب النذارة. والإنتظار: هو الثبات لتوقع ما يكون من الحال، تقول: انتظرني حتى ألحقك، ولو قلت توقعني لم تكن قد أمرته بالثبات. والمثل في الجنس: ما سد أحدهما مسد صاحبه فيما يرجع إلى ذاته. والمثل في غير الجنس: ما كان على معنى يقربه من غيره، كقربه من جنسه، كتشبيه أعمال الكفار بالسراب. والنجاة: مأخوذة من النجوة، وهي الإرتفاع عن الهلاك، وكذلك السلامة مأخوذة من إعطاء الشئ من غير نقيصة. أسلمته إليه: إذا أعطيته سالما من غير آفة. الاعراب: وجه التشبيه في (كذلك): أن نجاة من بقي من المؤمنين، كنجاة من مضى في أنه حق على الله، واجب لهم. ويحتمل أن يكون العامل في (كذلك) ننجي الأول، وتقديره: ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك الإنجاء. ويحتمل أن يكون العامل فيه (ننجي) الثاني، و (حقا) نصب على المصدر أي: يحق حقا. وقيل: انه نصب على الحال، وإن كان لفظه لفظ المصدر، عن أبي مسلم. قال جامع العلوم النحوي الضرير: ويجوز أن ينصب (حقا) بدلا من (كذلك). أو وصفا، ولا يجوز أن ينصب كذلك وحقا جميعا، بقوله: (ننجي رسلنا)، لأن الفعل الواحد لا يعمل في مصدرين، ولا في حالين، ولا في استثناءين، ولا في مفعولي معهما. وقد بين ذلك في موضعه، فإن جعلت (كذلك) من صلة (ننجي)، وجعلت (حقا) من صلة قوله (ننجي المؤمنين) أي: ننجي المؤمنين حقا، كان الوقف على كذلك. المعنى: ثم بين سبحانه ما يزيد في تنبيه القوم، وإرشادهم، فقال: (قل) يا محمد لمن يسألك الآيات (انظروا ماذا في السماوات والأرض) من الدلائل والعبر، من اختلاف الليل والنهار، ومجاري النجوم والأفلاك، وما خلق من الجبال والبحار، وأنبت من الأشجار والثمار، وأخرج من أنواع الحيوانات، فإن النظر في أفرادها وجملتها يدعو إلى الإيمان، وإلى معرفة الصانع، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) معناه: وما تغني هذه الدلالات والبراهين الواضحة، مع كثرتها وظهورها، ولا الرسل المخوفة، عن قوم لا ينظرون في الأدلة تفكرا وتدبرا، ولا يريدون الإيمان. وقيل (ما تغني) معناه: أي شئ تغني عنهم من اجتلاب نفع، أو دفع ضرر، إذا لم يستدلوا بها، فيكون (ما)
[ 235 ]
للاستفهام. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية هتف بها، وقال: وما تغني الحجج عن قوم لا يقبلونها. وقال أبو عبد الله عليه السلام: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بالبراق، فركبها، فأتى بيت المقدس، فلقي من لقي من الأنبياء، ثم رجع فأصبح يحدث اصحابه: اني اتيت بيت المقدس، ولقيت اخواني من الأنبياء، فقالوا: يا رسول الله ! كيف أتيت بيت المقدس الليلة ؟ قال: جاءني جبرائيل بالبراق فركبتها، وآية ذلك أني مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان، وقد أضلوا جملا لهم أحمر، وهم في طلبه. فقال القوم بعضهم لبعض: إنما جاءه راكب سريع، ولكنكم قد أتيتم الشام وعرفتموها، فاسألوه عن اسواقها، وأبوابها، وتجارها. فسألوه عن ذلك، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن الشئ لا يعرفه، شق ذلك عليه، حتى يرى ذلك في وجهه، قال: فبينا هو كذلك، إذ أتاه جبرائيل عليه السلام، فقال: يا رسول الله ! هذه الشام قد رفعت لك، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو بالشام، فقالوا له: اين بيت فلان ؟ ومكان كذا ؟ فأجابهم في كل ما سألوه عنه، فلم يؤمن منهم إلا قليل، وهو قول الله تعالى: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: فنعوذ بالله أن لا نؤمن بالله، آمنا بالله ورسوله. (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) معناه: فهل ينتظر هؤلاء الذين أمروا بالإيمان فلم يؤمنوا، وبالنظر في الأدلة فلم ينظروا، إلا العذاب والهلاك في مثل الأيام التي هلك من قبلهم من الكفار فيها. قال قتادة: أراد به وقائع الله في عاد، وثمود، وقوم نوح، وعبر عن الهلاك بالأيام، كما يقال: أيام فلان، يراد به أيام دولته، وأيام محنته. واللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به النفي، وتقديره: ينتظرون إلا ذاك. (قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي: قل يا محمد لهم: فانتظروا ما وعدنا الله من العذاب، فإني منتظر معكم من جميع المنتطرين لما وعد الله به. (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا) من بينهم، ونخلصهم من العذاب وقت نزوله. وقيل: من شرور أعدائهم، ومكرهم (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) قال الحسن: معناه كنا إذا أهلكنا أمة من الأمم الماضية، نجينا نبيهم، نجينا الذين آمنوا به أيضا، كذلك إذا أهلكنا هؤلاء المشركين، نجيناك يا محمد والذين آمنوا بك. وقيل: معناه كذلك حقا علينا أي: واجبا علينا من طريق الحكمة، ننجي المؤمنين من عذاب
[ 236 ]
الآخرة، كما ننجيهم من عذاب الدنيا. وقال أبو عبد الله عليه السلام لأصحابه: ما يمنعكم من أن تشهدوا على من مات منكم على هذا الأمر أنه من أهل الجنة ؟ ان الله تعالى يقول: (كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين). (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين (104) وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105) ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم (107). اللغة: الشك: وقوف في المعنى، ونقيضه كمن يشك في كون زيد في الدار، فإنه لا يكون لإحدى الصفتين عنده مزية على الأخرى فيقف، وهو معنى غير الاعتقاد عند أبي علي الجبائي، وأبي هاشم. ثم رجع عنه أبو هاشم، وقال: ليس بمعنى، وهو اختيار القاضي. والتوفي: قبض الشئ على التمام. والإقامة نصب الشئ، ونقيضه الاضجاع. وأقام بالمكان: استمر فيه كاستمرار القيام في جهة الإنتصاب والمماسة، والمطابقة، والمجامعة نظائر، وضدها المباينة. والكشف: رفع الساتر المانع من الإدراك، فكأن الضر ههنا ساتر يمنع من إدراك الإنسان. الاعراب: (ان كنتم في شك) شرط، وجوابه في قوله (لا أعبد)، وإنما صح ذلك لأن معناه إن كنتم في شك، فلا تطمعوا في تشكيكي، حتى أعبد غير الله كعبادتكم. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالبراءة عن كل معبود سواه، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني) أحق هو أم لا (فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) لشككم في ديني (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) أي: يقدر على إماتتكم. وهذا يتضمن تهديدا لهم، لأن وفاة المشركين
[ 237 ]
ميعاد عذابهم. وإن قيل كيف قال: (إن كنتم في شك من ديني) مع اعتقادهم بطلان دينه ؟ فجوابه من وجوه: أحدها: أن يكون التقدير من كان شاكا في أمري فهذا حكمه. والثاني: انهم في حكم الشاك للاضطراب الذي يجدونه في انفسهم عند ورود الآيات والثالث: ان فيهم من كان شاكا فغلب ذكرهم. (وأمرت أن أكون من المؤمنين) أي: وأمرني ربي أن أكون من المصدقين بالتوحيد، وإخلاص العبادة له (وأن أقم وجهك) هذا عطف على ما قبله، فكأنه قال: وقيل لي وأقم وجهك (للدين) أي: استقم في الدين بإقبالك على ما أمرت به من القيام بأعباء الرسالة، وتحمل أمر الشريعة بوجهك. وقيل: معناه وأقم وجهك في الصلاة بالتوجه نحو الكعبة (حنيفا) أي: مستقيما في الدين (ولا تكونن من المشركين، هذا نهي عن الاشراك مع الله سبحانه غيره في العبادة. (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك) إن أطعته (ولا يضرك) إن عصيته وتركته أي: لا تدعه إلها كما يدعو المشركون الأوثان آلهة، وإنما قال (ما لا ينفعك ولا يضرك) مع أنه لو نفع وضر لم تحسن عبادته أيضا لأمرين أحدهما: إن معناه ما لا ينفعك نفع الإله، ولا يضرك ضرره. والثاني: أنه إذا كان عبادة غير الله ممن يضر وينفع قبيحة، فعبادة في لا يضر ولا ينفع أقبح. (فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) معناه: فإن خالفت ما أمرت به من عبادة غير الله، كنت ظالما لنفسك، بإدخالك الضرر الذي هو العقاب عليها. وهذا الخطاب وان كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الظاهر، فالمراد به أمته (وإن يمسسك الله بضر) معناه: وإن أحل الله بك ضرا من بلاء، أو شدة، أو مرض (فلا كاشف له إلا هو) أي: لا يقدر أحد على كشفه غيره، كأنه سبحانه لما بين أن غيره لا ينفع ولا يضر، عقبه ببيان كونه قادرا على النفع والضر (وإن يردك بخير) من صحة جسم، ونعمة، وخصب، ونحوها (فلا راد لفضله) أي: لا يقدر على منعه أحد، وتقديره: وإن يردك خيرا، ويجوز فيه التقديم والتأخير، يقال: فلان يريدك بالخير، ويريد بك الخير (يصيب به) أي: بالخير (من يشاء من عباده) فيعطيه على ما تقتضيه الحكمة، ويعلمه من المصلحة. (وهو الغفور) لذنوب عباده (الرحيم) بهم. (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى
[ 238 ]
لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (108) واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109). المعنى: ثم ختم الله سبحانه السورة بالموعظة الحسنة، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد للمؤمنين، والوعيد للكافرين، فقال عز اسمه: (قل) يا محمد مخاطبا للمكلفين: (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) وهو القرآن، ودين الإسلام، والأدلة الدالة على صحته. وقيل: يريد الحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعجزاته الظاهرة (فمن اهتدى) بذلك بأن نظر فيه، وعرفه حقا وصوابا. (فإنما يهتدي لنفسه) معناه: فإن منافع ذلك من الثواب وغيره، يعود عليه (ومن ضل) عنه، وعدل عن تأمله، والإستدلال به (فإنما يضل عليها) أي على نفسه، لأنه يجني عليها (وما أنا عليكم بوكيل) أي: وما أنا بحفيظ لكم عن الهلاك إذا لم تنظروا أنتم لأنفسكم، ولم تعلموا بما يخلصها، كما يحفظ الوكيل مال غيره. والمعنى: إنه ليس علي إلا البلاغ، ولا يلزمني أن أجعلكم مهتدين، وأن أنجيكم من النار، كما يجب على من وكل على متاع أن يحفظه من الضرر (واتبع ما يوحى اليك واصبر) على أذى الكافرين، وتكذيبهم (حتى يحكم الله) بينك وبينهم بإظهار دينه، وإعلاء أمره (وهو خير الحاكمين) لأنه لا يحكم إلا بالعدل والصواب.
[ 239 ]
11 - سورة هود مكيه وآياتها ثلاث وعشرون ومائة هي مكية كلها في قول الأكثرين. وقال قتادة: إلا آية وهو قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) فإنها نزلت بالمدينة. عدد آيها: هي مائة وثلاث وعشرون آية كوفي وآيتان شامي والمدني الأول وآية في الباقين. اختلافها: سبع آيات (برئ مما تشركون) كوفي. (في قوم لوط) غير البصري. (من سجيل) مكي شامي، والمدني الأخير. (كنتم مؤمنين) حجازي (منضود، وإنا عاملون) عراقي، شامي، والمدني الأول. (مختلفين): عراقي شامي. فضلها: أبي بن كعب: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،: قال من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح، وكذب به، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط وإبراهيم، وموسى، وكان يوم القيامة من السعداء. وروى الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة قال: قيل يا رسول الله ! قد أسرع إليك الشيب ! قال: شيبتني هود وأخواتها. وفي رواية أخرى: عن انس بن مالك، عن أبي بكر قال: قلت يا رسول الله ! عجل اليك الشيب ! قال: شيبتني هود، وأخواتها: الحاقة، والواقعة، وعم يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية. وروى العياشي عن الحسن بن علي الوشا، عن ابن سنان، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ سورة هود في كل جمعة، بعثه الله يوم القيامة في زمرة النبيين، وحوسب حسابا يسيرا، ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة يونس بذكر الوحي في قوله (واتبع ما
[ 240 ]
يوحى إليك) افتتح هذه السورة ببيان ذلك الوحي، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1) ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير (2) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذى فضل فضله، وإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير (4). اللغة: الإحكام: منع الفعل من الفساد. والحكمة: المعرفة بما يمنع الفعل من الفساد، والنقص، وبما يميز القبيح من الحسن، والفاسد من الصحيح، والحكيم في صفات الله سبحانه يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون بمعنى محكم فهو فعيل بمعنى مفعل، أي: محكم أفعاله، فيكون على هذا من صفات فعله، فلا يوصف به فيما لم يزل. والثاني: أن يكون بمعنى عليهم، فيكون من صفات ذاته، فيوصف بأنه حكيم لم يزل. الاعراب: قال الزجاج: (كتاب) مرفوع بإضمار هذا كتاب. وقال بعضهم: (كتاب) خبر (الر). وهذا غلط لأن (كتاب أحكمت آياته) ليس هو (الر) وحدها. و (أن لا تعبدوا) في موضع نصب تقديره: فصلت آياته لأن لا تعبدوا. ويحتمل أن يكون علي تقدير: أمركم بأن لا تعبدوا، فلما حذف الباء، وصل الفعل، فنصبه. (وأن استغفروا) معطوف عليه ومعنى (إلا) في قوله (إلا الله) ايجاب للمذكور بعدها ما نفي عن كل ما سواه من العبادة، وهي التي تفرغ عامل الإعراب لما بعدها. (يمتعكم): جزم جواب لقوله: (وأن استغفروا ربكم) و (إن تولوا): يريد تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفا، وابن كثير يدغم التاء الأولى في الثانية، ويشدد. المعنى: قد بينا تفسير (الر) والأقاويل التي فيها، في أول البقرة، فلا معنى لإعادته. (كتاب) يعني القرآن أي: هو كتاب (أحكمت آياته ثم فصلت) ذكر فيه
[ 241 ]
وجوه أحدها: إن معناه: أحكمت آياته فلم ينسخ منها شئ، كما نسخت الكتب والشرائع، ثم فصلت ببيان الحلال والحرام، وسائر الأحكام، عن ابن عباس وثانيها: إن معناه أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب، عن الحسن، وأبي العالية وثالثها: أحكمت آياته جملة، ثم فرقت في الإنزال، آية بعد آية، ليكون المكلف أمكن من النظر والتدبر، عن مجاهد. ورابعها: أحكمت في نظمها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة، حتى صار معجزا، ثم فصلت بالشرع والبيان المفروض، فكأنه قيل: محكم النظم، مفصل الآيات، عن أبي مسلم. وخامسها: أتقنت آياته، فليس فيها خلل، ولا باطل، لأن الفعل المحكم ما قد أتقنه فاعله حتى لا يكون فيه خلل، ثم فصلت بأن جعلت متتابعة بعضها إثر بعض. (من لدن حكيم) أي: إن هذا الكتاب أتاكم من عند حكيم في أحواله، وتدابيره (خبير) أي: عليم بأحوال خلقه ومصالحهم. وفي هذه الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه، محدث، لأنه وصفه بأنه (أحكمت آياته، ثم فصلت) والإحكام من صفات الأفعال، وكذلك التفصيل ثم قال: (من لدن حكيم) وهذه الإضافة لا تصح الا في المحدث، لأن القديم يستحيل أن يكون صادرا من غيره. وقوله الا تعبدوا إلا الله معناه: أنزل هذا الكتاب ليأمركم (أن لا تعبدوا إلا الله) ولكي لا تعبدوا إلا الله، كما يقال كتبت إليك أن لا تخرج من الدار، وان لا تخرج بالنصب، والجزم (إنني لكم منه نذير وبشير) هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه مخوف من مخالفة الله وعصيانه، بأليم العقاب، مبشر على طاعة الله بجزيل الثواب (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ومعناه: اطلبوا المغفرة، واجعلوها غرضكم، ثم توصلوا إليها بالتوبة. وقيل: معناه استغفروا ربكم من ذنوبكم، ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم المعصية، عن الجبائي. وقيل. إن (ثم) ههنا بمعنى الواو، عن الفراء. وهذا لأن الإستغفار والتوبة واحد، فتكون التوبة تأكيدا للإستغفار. (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى) يعني: إنكم متى استغفرتموه، وتبتم إليه، يمتعكم في الدنيا بالنعم السابغة في الخفض، والدعة، والأمن والسعة، إلى الوقت الذي قدر لكم أجل الموت فيه. وقال الزجاج: يريد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب، كما استأصل أهل القرى الذين كفروا (ويؤت كل ذي فضل فضله) قيل:
[ 242 ]
ان الفضل بمعنى التفضيل والإفضال أي: ويعط كل ذي إفضال على غيره بمال، أو كلام، أو عمل بيد أو رجل، في جزاء إفضاله. فيكون الهاء في (فضله) عائدا إلى ذي الفضل. وقيل: إن معناه يعطي كل ذي عمل صالح فضله أي: ثوابه على قدر عمله، فإن من كثرت طاعاته في الدنيا، زادت درجاته في الجنة، وعلى هذا فالأولى أن تكون الهاء في (فضله) عائدا إلى اسم الله تعالى (وإن تولوا) أي: أعرضوا عما أمروا به. وقيل: معناه وإن تتولوا أنتم أي: تعرضوا، فحذف إحدى التائين. ولذلك شدد ابن كثير في رواية البزي عنه (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) أي: كبير شأنه، وهو يوم القيامة. وهذا الخوف ليس في معنى الشك، بل هو في معنى اليقين أي: فقل لهم يا محمد: إني أعلم أن لكم عذابا عظيما. وإنما وصف اليوم بالكبير، لعظم ما فيه من الأهوال (إلى الله مرجعكم) أي: في ذلك اليوم إلى حكم الله مصيركم، لأن حكم غيره يزول فيه. وقيل: معناه إليه مصيركم بأن يعيدكم للجزاء (وهو على كل شئ قدير) يقدر على الإعادة، والبعث، والجزاء، فاحذروا مخالفته. (ألآ إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منة ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور (5). القراءة: روي عن ابن عباس بخلاف، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وعن علي بن الحسين، وأبي جعفر محمد بن علي، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد عليهم السلام: (يثنوني صدورهم) على مثال يفعوعل. وعن ابن عباس أيضا: (يثنون). وعن مجاهد: (يثنئن) وروي ذلك أيضا عن عروة الأعشى. الحجة: أما (يثنوني) على مثال يفعوعل، فهو من أمثلة المبالغة، تقول: أعشب البلد، فإذا كثر ذلك قلت: اعشوشب. وكذلك احلولى، واخشوشب، واخشوشن. وأما (يثنون) و (يثنئن) فقد قال ابن جني إنهما من لفظ الثن، وهو ما هش وضعف من الكلاء، وأنشد أبو زيد: تكفي اللقوح أكلة من ثن (1) (1) قائله أخوص بن عبد الله الرياحي، وبعده: (ولم تكن آثر عندي مني). واللقوح: الناقة الحلوبة. يقول: إذا شرب الأضياف لبنها، علفها الثن فعاد لبنها. (*)
[ 243 ]
(يثنئن) بالهمزة: أصله يثنان، فحركت الألف لسكونها، وسكون النون الأولى، فانقلبت همزه. وأما (يثنون): فأصله (يثنونن) فلزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق، فأسكنت النون الأولى، ونقلت كسرتها إلى الواو، وأدغمت النون في النون، فصار (يثنون). اللغة: أصل الثني العطف، تقول: ثنيته عن كذا أي: عطفته. ومنه الإثنان: لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، ومنه الثناء: لعطف المناقب في المدح، ومنه الإستثناء: لأنه عطف عليه بالإخراج منه. والإستخفاء: طلب خفاء الشئ، يقال: استخفى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشى، قالت الخنساء: أرعى النجوم، وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري (1) الاعراب: (الا): معناها التنبيه، ولا حظ لها في الإعراب، وما بعدها مبتدأ. النزول: قيل: نزلت في الأخنس بن شريق، وكان حلو الكلام، يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يحب، وينطوي بقلبه على ما يكره، عن ابن عباس. وروى العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين إذا مروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طأطأ أحدهم رأسه، وظهره هكذا، وغطى رأسه بثوبه، حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: لما تقدم ذكر القرآن، بين سبحانه فعلهم عند سماعه، فقال: (ألا إنهم) يعني الكفار والمنافقين (يثنون صدورهم) أي: يطوونها على ما هم عليه من الكفر، عن الحسن. وقيل: معناه يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كلام الله سبحانه، وذكره، عن قتادة. وقيل: يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الفراء، والزجاج. وقيل: إنهم إذا عقدوا مجلسا على معاداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسعي في أمره بالفساد، انضم بعضهم إلى بعض، وثنى بعضهم صدره إلى صدر بعض، يتناجون (ليستخفوا منه) أي: ليخفوا ذلك من الله تعالى على القول الأخير، فإنهم كانوا قد بلغ من شدة جهلهم بالله، أن ظنوا انهم إذا ثنوا صدورهم على سبيل الإخفاء، لم يعلم الله تعالى (1) راعى النجوم وراعاها: راقبها وانتظر مغيبها. وفي الشعر كناية عن السهر. (*)
[ 244 ]
أسرارهم وعلى الأقوال الأخر معناه: ليستروا ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (ألا حين يستغشون ثيابهم) معناه: أنهم يتغطون بثيابهم، ثم يتفاوضون فيما كانوا يدبرونه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى المؤمنين، فيكتمونه، عن ابن عباس. فبين الله سبحانه أنه (يعلم ما يسرون وما يعلنون) وقت ما يتغطون بثيابهم، ويجعلونها غشاء فوقهم، لا بمعنى أنه يتجدد له العلم في حال استغشائهم بالثوب، بل هو عالم بذلك في الأزل (إنه عليم بذات الصدور) يريد بما في النفوس، عن ابن عباس، وبحقيقة ما في القلوب من المضمرات. وقيل: إنه كنى باستغشاء ثيابهم عن الليل، لأنهم يتغطون بظلمته، كما يتغطون بثيابهم. (* وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6) وهو الذى خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه وعلى الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (8). اللغة: الدابة: الحي الذي من شأنه أن يدب. وقد صار في العرف مختصا بنوع من الحيوان، وقد ورد القرآن بها على الأصل في قوله: (وما من دابة)، (والله خالق كل دابة). الاعراب: اللام في قوله (لئن): لام القسم، ولا يجوز أن يكون لام الابتداء، لأنها دخلت على ان التي للجزاء، ولام الابتداء، إنما هي للاسم أو ما ضارع الاسم في باب ان، وجواب الجزاء مستغنى عنه بجواب القسم، لأنه إذا جاء في صدر الكلام، غلب عليه، كما أنه إذا تأخر وتوسط الغي. (ويوم يأتيهم) نصب على الظرف من مصروف أي: ليس يصرف العذاب عنهم يوم يأتيهم العذاب. المعنى: (وما من دابة في الأرض) أي: ليس من دابة تدب على وجه
[ 245 ]
الأرض، ويدخل فيه جميع ما خلقه الله تعالى على وجه الأرض، من الجن والانس، والطير والأنعام، والوحوش والهوام (إلا على الله رزقها) أي: إلا الله سبحانه يتكفل برزقها، ويوصله إليها على ما تقتضيه المصلحة، وتوجبه الحكمة (ويعلم مستقرها ومستودعها) أي: يعلم موضع قرارها، والموضع الذي أودعها فيه، وهو أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، عن مجاهد. وقيل: مستقرها حيث تأوي إليه من الأرض، ومستودعها حيث تموت وتبعث منه، عن ابن عباس، والربيع. وقيل: مستقرها ما يستقر عليه عملها. ومستودعها ما يصير إليه. (كل في كتاب مبين) هنا إخبار منه سبحانه أن جميع ذلك مكتوب في كتاب ظاهر، وهو اللوح المحفوظ، وإنما أثبت سبحانه ذلك مع أنه عالم لذاته، لا يعزب عن علمه شئ من مخلوقاته، لما فيه من اللطف للملائكة، أو لمن يخبر بذلك (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) هذا إخبار منه سبحانه، عن نفسه بأنه أنشأهما في هذا المقدار من الزمان، مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر. والوجه في ذلك أنه سبحانه أراد أن يبين بذلك أن الأمور جارية في التدبير على منهاج الحكمة، منشأة على ترتيب لما في ذلك من المصلحة. والمراد بقوله: (ستة أيام): ما مقداره مقدار ستة أيام، لأنه لم يكن هناك أيام بعد، فإن اليوم عبارة عما بين طلوع الشمس، وغروبها (وكان عرشه على الماء) في هذا دلالة على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض. وكان الماء قائما بقدرة الله تعالى على غير موضع قرار، بل كان الله يمسكه بكمال قدرته، وفي ذلك أعظم الإعتبار لأهل الإنكار. وقيل: إن المراد بقوله: (عرشه) بناؤه، يدل عليه قوله: (ومما يعرشون) أي: يبنون. والمعنى: وكان بناؤه على الماء، فإن البناء على الماء أبدع وأعجب، عن أبي مسلم. (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) معناه: إنه خلق الخلق، ودبر الأمور، ليظهر إحسان المحسن، فإنه الغرض في ذلك أي: ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر، لئلا يتوهم انه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه انه يكون منهم قبل أن يفعلوه. وفي قوله (أحسن عملا) دلالة على أنه قد يكون فعل حسن أحسن من حسن آخر، لأن حقيقة لفظة أفعل يقتضي ذلك (ولئن قلت) يا محمد لهم (إنكم مبعوثون من بعد الموت) للحساب والجزاء (ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر
[ 246 ]
مبين) أي: ليس هذا القول إلا تمويه ظاهر، لا حقيقة له. ومن قرأ ساحر فالمراد: ليس هذا - يعنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم - إلا ساحر. قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض والملائكة، لأن خلق العرش على الماء، لا وجه لحسنه، إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به، فلا بد إذا من حي مكلف. وقال علي بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين، فلا يجب ما قاله الجبائي، وهو الذي اختاره المرتضى، قدس الله روحه. (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) معناه: ولئن أخرنا عن هؤلاء الكفار عذاب الاستئصال إلى أجل مسمى، ووقت معلوم. والأمة: الحين، كما قال سبحانه (واذكر بعد أمة) وهو قول ابن عباس، ومجاهد. وقيل: إلى أمة أي إلى جماعة يتعاقبون، فيصرون على الكفر، ولا يكون فيهم من يؤمن، كما فعلنا بقوم نوح، عن علي بن عيسى. وقيل: معناه إلى أمة بعد هؤلاء، نكلفهم فيعصون، فتقتضي الحكمة إهلاكهم، وإقامة القيامة، عن الجبائي. وقيل: ان الأمة المعدودة هم أصحاب المهدي عليه السلام في آخر الزمان، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، كعدة أهل بدر، يجتمعون في ساعة واحدة، كما يجتمع قزع الخريف، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام (ليقولن) على وجه الاستهزاء (ما يحبسه) أي: أي شئ يؤخر هذا العذاب عنا ان كان حقا (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم) أي: ان هذا العذاب الذي يستبطنونه إذا نزل بهم في الوقت المقدور، لا يقدر أحد على صرفه عنهم، إذا أراد الله أن يأتيهم به، ولا يتمكن من إذهابه عنهم، إذا أراد الله أن يأتيهم به (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون) أي: ونزل بهم الذي كانوا يسخرون به من نزول العذاب، ويحققونه. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنه لما قال سبحانه (يعلم ما يسرون وما يعلنون) قال عقيبه: وكيف يخفى على الله سر هؤلاء، وهو يرزقهم، وإذا وصل إلى كل واحد رزقه، ولم ينسه فليعلم أنه يعلم سره. وقوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) يدل على ما ذكرنا، ثم زاده بيانا بقوله (وهو الذي خلق السماوات) الآية، فإن أصل الخلق التقدير الذي لا يختل بالنقصان والزيادة، وذلك لا يتم إلا من العالم لذاته.
[ 247 ]
(ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور (9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه، لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير (11). اللغة: الذوق: تناول الشئ بالفم لإدراك الطعم، وسمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة، لسرعة زوالها، تشبيها بما يذاق، ثم يزول كما قيل: (أحلام نوم أو كظل زائل). والنزع: قلع الشئ عن مكانه. واليئوس: فعول من يئس. واليأس: القطع بأن الشئ المتوقع لا يكون، ونقيضه الرجاء. والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه. والضراء: مضرة تظهر الحال بها لأنهما أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة، مثل حمراء وعيناء، مع ما فيهما من المبالغة. والفرح، والسرور، من النظائر: وهو انفتاح القلب بما يلتذ به، وضده الغم. والصحيح أن الغم والسرور من جنس الإعتقادات، وليسا بجنسين من الأعراض. ومن الناس من قال: إنهما جنسان. والفخور: الذي يكثر فخره، وهو التطاول بتعديد المناقب، وهي صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. الاعراب: اللام في (لئن) لتوطية القسم، وليست للقسم. والتقدير: والله لئن أذقنا الإنسان منا رحمة إنه ليئوس. فإنه جواب القسم الذي هيأته اللام، الا أنه مغن عن جواب الشرط وواقع موقعه، ومثله قول الشاعر: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها، وأمكنني منها إذا لا أقيلها أي: والله لا أقيلها ولو كانت جواب (إن) لكان لا أقلها (الذين صبروا): في موضع نصب على الإستثناء من (الانسان) لأنه اسم الجنس، فهو كقوله: (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) وقال الزجاج، والأخفش: إنه استثناء ليس من الأول، والمعنى لكن الذين صبروا، والأول قول الفراء. المعنى: ثم بين سبحانه حال الإنسان فيما قابل به نعمه من الكفر، فقال: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) أي: أحللنا به نعمة من الصحة والكفاية، والسعة،
[ 248 ]
من المال والولد، وغير ذلك من نعم الدنيا (ثم نزعناها منه) أي: سلبنا تلك النعمة عنه إذا رأينا المصلحة فيه (إنه ليئوس) أي قنوط، وهو الذي سنته، وعادته اليأس (كفور) وهو الذي عادته كفران النعمة. ومعنى الآية مصروف إلى الكفار الذين هذه صفتهم، لجهلهم بالصانع الحكيم الذي لا يعطي، ولا يمنع، إلا لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح. (ولئن أذقناه) أي: أحللنا به، وأعطيناه (نعماء بعد ضراء مسته) أي: بعد بلاء أصابه (ليقولن) عند نزول النعماء به (ذهب السيئات عني) أي: ذهبت الخصال التي تسوء صاحبها من جهة نفور طبعه عنه، وهو هاهنا بمعنى الشدائد والآلام والأمراض عني، فلا تعود إلي، ولا يؤدي شكر الله عليها (إنه لفرح فخور) يفرح به، ويفخر به على الناس، فلا يصبر في المحنة، ولا يشكر عند النعمة (إلا الذين صبروا) معناه: إلا الذين قابلوا الشدة بالصبر، والنعمة بالشكر (وعملوا الصالحات) أي: واظبوا على الأعمال الصالحة (أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) وهو الجنة. (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولآ أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل (12) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لآ إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14). اللغة: ضائق، وضيق، بمعنى واحد، إلا أن ضائق ههنا أحسن لوجهين أحدهما أنه عارض، والآخر أنه أشكل بقوله (تارك) والكنز: المال المدفون سمي بذلك لاجتماعه، وكل مجتمع من لحم وغيره مكتنز، وصار في الشرع اسم ذم لكل مال لا يخرج منه حق الله تعالى من الزكاة وغيره، وان لم يكن مدفونا. وافترى، واختلق، واخترق، وخلق، وخرص، وخرق: إذا كذب. والاستجابة في الآية: طلب الإجابة بالقصد إلى فعلها، ويقال استجاب وأجاب بمعنى واحد. والفرق بين
[ 249 ]
الإجابة والطاعة: إن الطاعة موافقة الإرادة الجاذبة إلى الفعل برغبة أو رهبة. والإجابة: موافقة الداعي إلى الفعل من أجل أنه دعا به الاعراب: (أن يقولوا): في موضع نصب بأنه مفعول له، وتقديره كراهة أن يقولوا، فحذف المضاف. وقيل: أن يقولوا في موضع جر بدلا من الهاء في قوله: (ضائق به صدرك) (أم يقولون افتراه). أم هذه منقطعة ليست بالمعادلة، وتقديره بل أيقولون افتراه، وهو تقرير بصورة الاستفهام. النزول: روي عن ابن عباس: إن رؤساء مكة من قريش، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد ! إن كنت رسولا، فحول لنا جبال مكة ذهبا، أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فأنزل الله تعالى (فلعلك تارك) الآية. وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل، فقال بعض القوم: والله لصاع من تمر في شن بال، أحب الينا مما سأل محمد ربه، فهلا سأله ملكا يعضده على عدوه، أو كنزا يستعين به على فاقته ! فنزلت الآية. المعنى: ثم أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر، وحثه على حجاج القوم بما يقطع العذر، فقال: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) أي: ولعلك تارك بعض القرآن، وهو ما فيه سب آلهتهم، ولا تبلغهم إياه دفعا لشرهم، وخوفا منهم (وضائق به صدرك) أي: ولعلك يضيق صدرك مما يقولونه. بما يلحقك من أذاهم، وتكذيبهم. وقيل: باقتراحاتهم (أن يقولوا) أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا (لولا أنزل عليه كنز) من المال (أو جاء معه ملك) يشهد له، فليس قوله (فلعلك) على وجه الشك، بل المراد به النهي عن ترك أداء الرسالة، والحث على أدائها، كما يقول أحدنا لغيره، وقد علم من حاله أنه يطيعه، ولا يعصيه، ويدعوه غيره إلى عصيانه: لعلك تترك بعض ما آمرك به لقول فلان. وإنما يقول ذلك ليوئس من يدعوه إلى ترك أمره، فمعناه لا تترك بعض ما يوحى إليك، ولا يضق صدرك بسبب مقالتهم هذه (إنما أنت نذير) أي: منذر (والله على كل شئ وكيل) أي: حفيظ يجلب النفع إليه، يدفع الضرر عنه (أم يقولون افتراه) معناه: بل أيقولون اختلق القرآن واخترعه، وأتى به من عند نفسه. وقيل: إن ههنا محذوفا، وتقديره: أيكذبونك فيما أتيتهم به من القرآن، أم يقولون افتريته على ربك، وحذف لدلالة ما
[ 250 ]
أبقي على ما ألقي. وعلى هذا فيكون (أم) هذه هي متصلة (قل) يا محمد لهم (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) أي: إن كان هذا مفترى على الله كما زعمتم، فأتوا أنتم بعشر سور مثله في النظم والفصاحة، مفتريات على زعمكم، فإن القرآن نزل بلغتكم، وقد نشأت أنا بين أظهركم، فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنه من عند الله تعالى. وهذا صريح في التحدي، وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن، وأنها هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخوص، لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك، لما قنع في المعارضة بالإفتراء والإختلاق، لأن البلاغة ثلاث طبقات: فأعلى طبقاتها معجز، وأدناها وأوسطها ممكن. فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الإعجاز الصرفة، لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز. والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس، لأن مثله في الجنس يكون حكايته، فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا، كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس، وعلقمة، وعمرو بن كلثوم، والحرث بن حلزة، وجرير، والفرزدق، وغيرهم. وقوله: (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) معناه: ادعوهم ليعينوكم على معارضة القرآن، إن كنتم صادقين في قولكم، إني افتريته، ويريد بقوله (من استطعتم): من خالف نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الأمم، وهذا غاية ما يمكن في التحدي والمحاجة، وفيه الدلالة الواضحة على إعجاز القرآن، لأنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحداهم به، وأوعدهم بالقتل والأسر بعد أن عاب دينهم وآلهتهم، وثبت أنهم كانوا أحرص الناس على إبطال أمره، حتى بذلوا مهجهم وأموالهم في ذلك، فإذا قيل لهم افتروا أنتم مثل هذا القرآن، وادحضوا حجته، وذلك أيسر وأهون عليكم من كل ما تكلفتموه، فعدلوا عن ذلك، وصاروا إلى الحرب، والقتل، وتكلف الأمور الشاقة، فذلك من أدل الدلائل على عجزهم، إذ لو قدروا على معارضته مع سهولة ذلك عليهم لفعلوه، لأن العاقل لا يعدل عن الأمر السهل إلى الصعب الشاق، مع حصول الغرض بكل واحد منهما، فكيف ولو بلغوا غاية أمانيهم في الأمر الشاق، وهو قتله صلى الله عليه وآله وسلم، لكان لا يحصل غرضهم من إبطال أمره، فإن المحق قد يقتل. فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور، ومرة بسورة، ومرة بحديث مثله ؟
[ 251 ]
فالجواب: إن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل، ومرة بالأكثر (فإن لم يستجيبوا لكم) قيل: إنه خطاب للمسلمين، والمراد فإن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بعشر سور مثله، معارضة لهذا القرآن (فاعلموا) أيها المسلمون (أنما أنزل) القرآن (بعلم الله)، عن مجاهد، واختاره الجبائي. وقيل: هو خطاب للكفار، وتقديره: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المعاونة، ولم يتهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة. وقيل: إن الخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي: فإن لم يجيبوك، وذكره بلفظ الجمع تفخيما، والغرض التنبيه على إعجاز القرآن، وأنه المنزل من عند الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر في قوله (بعلم الله) وجوه أحدها: إن معناه أن الله عالم به، وبأنه حق منزل من عنده وثانيها: إن معناه بعلم الله مواقع تأليفه في علو طبقته، وأنه لا يقدر أحد على معارضته وثالثها: أنه أنزله الله على علم بترتيبه ونظمه، ولا يعلم غيره ذلك (وأن لا إله إلا هو) أي: واعلموا أنه لا إله إلا هو، لأن مثل هذا المعجز لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا إله إلا هو (فهل أنتم مسلمون) أي: هل أنتم بعد قيام الحجة عليكم بما ذكرناه من كلام الله، مستسلمون منقادون لتوحيده ؟ وهذا استفهام في معنى الأمر مثل قوله: (فهل أنتم منتهون). (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16). القراءة: روي في الشواذ قراءة أبي، وابن مسعود: (وباطلا ما كانوا يعملون). الحجة: الوجه فيه أن يكون (باطلا) منصوبا بيعلمون. و (ما): مزيدة للتوكيد، فكأنه قال وباطلا كانوا يعملون. ومثله قوله: (أهؤلاء اياكم كانوا يعبدون). اللغة: الزينة: تحسين الشئ بغيره من لبسة، أو حلية، أو هيئة. يقال: زانه يزينه زينة، وزينه يزينه تزيينا. والتوفية: تأدية الحق على تمام. والبخس: نقصان
[ 252 ]
الحق، وكل ظالم باخس لأنه يظلم غيره بنقصان حقه، وفي المثل (تحسبها حمقاء، وهي باخس). الاعراب: قال الفراء: (كان) هذه هنا زائدة، وتقديره من يرد الحياة الدنيا. وقال غيره: معناه أن يصح أنه كان كقوله سبحانه: (إن كان قميصه قد من دبر) ولا يجوز مثل ذلك في غير كان، لأنها أم الأفعال. قال أبو علي: الشرط والجزاء لا يقعان إلا فيما يستقبل، فحرف الجزاء يحيل معنى الماضي إلى الاستقبال لا محالة، ولو جاز وقوع الماضي بعدها على معناها، لما جزمت. ألا ترى أن (لو) لم تجزم، وإن كان فيها معنى الشرط والجزاء، لوقوع الماضي بعدها على بابه، نحو: لو جئتني أمس لأكرمتك. المعنى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) أي: زهرتها وحسن بهجتها، ولا يريد الآخرة (نوف إليهم أعمالهم فيها) أي: نوفر عليهم جزاء أعمالهم في الدنيا تاما (وهم فيها لا يبخسون) أي: لا ينقصون شيئا منه. واختلف في معناه، فقيل: إن المراد به المشركون الذين لا يصدقون بالبعث، يعملون أعمال البر كصلة الرحم، وإعطاء السائل، والكف عن الظلم، وإغاثة المظلوم، والأعمال التي يحسنها العقل، كبناء القناطير ونحوه، فإن الله يعجل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بتوسيع الرزق، وصحة البدن، والإمتاع بما خولهم، وصرف المكاره عنهم، عن الضحاك، وقتادة، وابن عباس. ويقال: ان من مات منهم على كفره، قبل استيفاء العوض، وضع الله عنه في الآخرة من العذاب بقدره فأما ثواب الآخرة فلا حظ لهم فيه. وقيل: المراد به المنافقون الذين كانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغنيمة، دون نصرة الدين، وثواب الآخرة، جازاهم الله تعالى على ذلك، بأن جعل لهم نصيبا في الغنيمة، عن الجبائي. وقيل: ان المراد به أهل الرياء، فإن من عمل عملا من أعمال الخير، يريد به الرياء، لم يكن لعمله ثواب في الآخرة، ومثله قوله تعالى: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بشروا امتي بالسناء والتمكين في الأرض، ومن عمل منهم عملا للدنيا، لم يكن له نصيب في الآخرة. (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) ظاهر المراد (وحبط ما صنعوا فيها) فلا يستحقون عليه ثوابا، لأنهم أوقعوه على خلاف الوجه المأمور بإيقاعه عليه
[ 253 ]
(وباطل ما كانوا يعملون) أي: بطل أعمالهم التي عملوها لغير الله تعالى. وهذا يحقق ما ذهبنا إليه من أن الإحباط عبارة عن إبطال نفس العمل، بأن يقع على غير الوجه الذي يستحق به الثواب. وذكر الحسن في تفسيره: ان رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خرج من عند أهله، فإذا جارية عليها ثياب وهيئة، فجلس عندها. فقامت فأهوى بيده إلى عارضها، فمضت فأتبعها بصره ومضى خلفها، فلقيه حائط، فخمش وجهه، فعلم أنه أصيب بذنبه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، فقال: أنت رجل عجل الله عقوبة ذنبك في الدنيا، إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرا، أمسك عنه عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، وإذا أراد به خيرا، عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا. النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها: إنه سبحانه لما قال (فهل أنتم مسلمون) فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة المال والنفس، يكون ماذا ؟ فقال: من أراد الدنيا دون الآخرة سواء أرادها بإظهار الإسلام، أو أرادها بسائر المساعي، فسبيله هذا. (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده وفلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالأخرة هم كافرون (19) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون (20) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (21) لا جرم أنهم في الأخرة
[ 254 ]
هم الأخسرون (22). اللغة: البينة: الحجة الفاصلة بين الحق والباطل. والعرض: إظهار الشئ بحيث يرى للتوقيف على حاله، يقال: عرضت الكتاب على فلان، وعرضت الجند، ومعنى العرض على الله أنهم يقفون في المقام الذي يريه العباد، للمطالبة بالأعمال، فهو كالعرض عليه سبحانه. والأشهاد: جمع شاهد، فهو كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع شهيد كشريف وأشراف. والعوج: العدول عن طريق الصواب، يقال: في الدين عوج بالكسر، وفي العصاء عوج بالفتح، فرقا بين ما يرى، وما لا يرى، فجعلوا السهل للسهل، والصعب للصعب، أعني الفتح والكسر. والإعجاز: الامتناع عن المراد بما لا يمكن معه إيقاعه. وحقيقة الإستطاعة: القوة التي تنطاع بها الجارحة للفعل، ولذلك لا يقال في الله تعالى: إنه مستطيع. وأصل الجرم: القطع، ولا جرم تقديره: لا قطع قاطع عن ذا، إلا أنه كثر حتى صار كالمثل، وهو قول الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي: قطعتهم إلى الغضب. فرواية الفراء في فزارة النصب. والمعنى: كسبتهم أن يغضبوا. وروى غيره برفعها بمعنى أن الفعل لها. الاعراب: (من كان على بينة من ربه) خبره محذوف، وتقديره أفمن كان على بينة من ربه. وعلى الأوصاف التي ذكرتها: كمن لا بينة له، ومثله حذف جواب لو في قوله: وأقسم لو شئ أتانا رسوله سواك، ولكن لم نجد لك مدفع (1) و (كتاب موسى): عطف على قوله (ويتلوه شاهد منه) أي: وكان يتلوه كتاب موسى من قبله. ونصب (إماما ورحمة) على الحال، لأن (كتاب موسى) معرفة. وقوله (وهم بالآخرة هم كافرون) كرر قوله (هم) مرتين، كما قال (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون) كرر (أنكم) مرتين، ووجهه أنه لما طال الكلام، كرر مرة أخرى للتوكيد، (لا جرم): قال سيبويه: جرم (1) وفي التبيان (عنك مدفعا). (*)
[ 255 ]
فعل ماض، ولا رد لقولهم كقوله (وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار) قال: لا أي: ليس لهم الجنة. ثم قال (جرم) أي: كسبهم قولهم ان لهم الحسنى: ان لهم النار. وقيل: جرم بمعنى وجب أي: وجب أن لهم النار. المعنى: (أفمن كان على بينة من ربه) استفهام يراد به التقرير، وتقديره: هل الذي كان على برهان وحجة من الله. والمراد بالبينة هنا: القرآن، والمعنى بقوله (أفمن كان على بينة) النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: المعني به كل محق يدين بحجة وبينة، لأن (من) يتناول العقلاء. وقيل: هم المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الجبائي (ويتلوه شاهد منه) أي: ويتبعه من يشهد بصحته منه. واختلف في معناه فقيل: الشاهد جبرائيل عليه السلام يتلو القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله تعالى، عن ابن عباس، ومجاهد، والزجاج. وقيل: شاهد من الله تعالى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروي ذلك عن الحسين بن علي عليهما السلام، وابن زيد، واختاره الجبائي. وقيل: شاهد منه لسانه أي: يتلو القرآن بلسانه، عن محمد بن علي، أعني ابن الحنفية، والحسن، وقتادة. وقيل: الشاهد منه علي بن أبي طالب عليه السلام، يشهد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منه، وهو المروي عن أبي جعفر، وعلي بن موسى الرضا عليهما السلام، ورواه الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله، عن علي عليه السلام. وقيل: الشاهد ملك يحفظه ويسدده، عن مجاهد. وقيل: بينة من ربه: حجة من عقله، وأضاف (البينة) إليه تعالى، لأن ينصب الأدلة العقلية والشرعية، ويتلوه شاهد منه يشهد بصحته، وهو القرآن، عن أبي مسلم (ومن قبله) أي: ومن قبل القرآن، لأنه مدلول عليه فيما تقدم من الكلام. وقيل: معناه ومن قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم (كتاب موسى) يتلوه أيضا في التصديق، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر به موسى في التوراة (إماما) يؤتم به في أمور الدين (ورحمة) أي: ونعمة في الله تعالى على عباده. وقيل: معناه ذا رحمة أي: سبب الرحمة لمن آمن به (أولئك يؤمنون به) معناه: أولئك الذين هم على بينة من ربهم، يؤمنون بالقرآن. وقيل: بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وتقدير الآية: أفمن كان على بينة من ربه وبصيرة، كمن ليس على بينة ولا بصيرة، إلا أنه اختصر. وقيل: تقديره أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه على صدقه، ويتقدمه شاهد، فآمن بهذا كله، كمن أراد الحياة الدنيا وزينتها، ولم يؤمن ثم أخبر عنه فقال: (أولئك يؤمنون به).
[ 256 ]
وقوله: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) معناه: ومن يكفر بالقرآن أو بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي العرب، وفرق الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم، فالنار موعده ومصيره ومستقره. وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يسمع بي أحد من الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي، إلا كان من أصحاب النار (فلا تك في مرية) أي: في شك (منه) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد جميع المكلفين. وقيل: ان تقديره لا تك أيها الإنسان، أو أيها السامع في مرية من ربك، أي: من أمره وإنزاله (إنه الحق من ربك) الهاء راجع إلى القرآن. وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: معناه إن الخبر الذي أخبرتك به حق من عند الله تعالى. (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بصحته وصدقه، لجهلهم بالله تعالى، وجحدهم لنبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي: لا أحد أظلم منه، إلا أنه خرج مخرج الإستفهام، ليكون أبلغ (أولئك يعرضون على ربهم) يوم القيامة أي: يوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا، ويسألون عن أعمالهم، ويجازون عليها (ويقول الأشهاد) يعني الملائكة يشهدون على العباد، وهم الحفظة، عن مجاهد. وقيل: هم الأنبياء، عن الضحاك. وقيل: هم شهداء كل عصر من أئمة المؤمنين (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) أي: كذبوا على رسل ربهم، وأضافوا إلى الله ما لم ينزله. (ألا لعنة الله على الظالمين) هذا ابتداء خطاب من الله تعالى. وقيل: هو من كلام الأشهاد، ومعناه: ألا لعنة الله على الذين ظلموا أنفسهم بإدخال الضرر عليها وغيرهم، بإحلال الآلام عليهم ولعنة الله: إبعاده من رحمته. ثم وصف سبحانه الظالمين الذين لعنهم فقال: (الذين يصدون عن سبيل الله) أي: يغوون الخلق، ويصرفونهم عن دين الله، وقد يكون ذلك بإلقاء الشبهة إليهم، وقد يكون أيضا بالترغيب، والترهيب، والإطماع، والتهديد، وغير ذلك. وانما جاز تمكين الصاد عن سبيل الله من هذا الفساد، لأنه مكلف بالامتناع منه، وليس في منعه لطف بأن ينصرف عن الفساد إلى الصلاح، فهو كشهوة القبيح الذي به يصح التكليف (ويبغونها عوجا) أي: ويطلبون لسبيل الله زيغا عن الاستقامة، وعدولا عن الصواب. وقيل: ان بغيهم العوج: هي زيادتهم ونقصانهم في الكتاب، ليتغير الأدلة، ولا يستقيم صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما كان يفعلها اليهود. وقيل: هي إيرادهم
[ 257 ]
الشبه، وكتمانهم المراد، وتحريفهم التأويل (وهم بالآخرة) أي: بالقيامة، والبعث، والنشور، والثواب، والعقاب (هم كافرون) أي: جاحدون غير مقرين. (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض): أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله، وانهم الذين يصدون عن سبيل الله، بأنهم لم يكونوا فائتين في الأرض هربا فيها من الله تعالى، إذا أراد إهلاكهم، كما يهرب الهارب من عدو قد جد في طلبه، وإنما خص الأرض بالذكر، وإن كانوا لا يفوتون الله، ولا يخرجون عن قبضته على كل حال، لأن معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر، ويعتصمون بها عند المخاوف، فكأنه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه، ومانع من عذابه (وما كان لهم من دون الله من أولياء) معناه: إنه ليس لهم من ولي ولا ناصر ينصرونهم، ويحمونهم من الله سبحانه، مما يريد إيقاعه بهم في الدنيا من المكاره، وفي الآخرة من أنواع العذاب. (يضاعف لهم العذاب) قيل: في معناه وجوه أحدها: إنه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر، بل يعاقبون عليه وعلى سائر المعاصي، كما قال في موضع آخر: (زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) وثانيها: إن معناه انه كلما مضى ضرب من العذاب، يعقبه ضرب آخر من العذاب مثله، أو فوقه، كذلك دائما مؤبدا، وكل ذلك على قدر الإستحقاق وثالثها: إنه يضاعف العذاب على رؤسائهم لكفرهم، وظلمهم أنفسهم، ولدعائهم الأتباع إليه، وهو عذاب الضلال، وهذا الصد عن الدين (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) فيه وجوه أحدها: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع، فلا يسمعون، وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون، عنادا وذهابا عن الحق، فأسقطت الباء عن الكلام كما في قول الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نيا، ونبذله إذا نضج القدور (1) أراد نغالي باللحم، عن الفراء، والبلخي. وهذا وجه رابع من معنى قوله: (يضاعف لهم العذاب) وثانيها: إنه لاستثقالهم استماع آيات الله، وكراهتهم تذكرها وتفهمها، جروا مجرى من لا يستطيع السمع، وإن أبصارهم تنفعهم مع إعراضهم (1) مر البيت في هذا الجزء ص 11. (*)
[ 258 ]
عن تدبر الآيات، فكأنهم لم يبصروا. ومما يجري هذا المجرى قول الأعشى: دوع هريرة إن الركب مرتحل، وهل تطيق وداعا أيها الرجل وقد علمنا أن الأعشى كان يقدر على الوداع، وإنما نفى الطاعة عن نفسه من حيث الكراهية والإستثقال وثالثها: إنه إنما عنى بذلك آلهتهم وأوثانهم، وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، يضاعف لهم العذاب. وقال مخبرا عن الآلهة: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) وروي ذلك عن ابن عباس، وفيه أدنى بعد. ورابعها: إن (ما) هنا ليست للنفي، بل تجري مجرى قولهم: لأواصلنك ما لاح نجم، والمعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء (أولئك الذين خسروا أنفسهم) من حيث فعلوا ما استحقوا به العقاب، فهلكوا، فذلك خسران أنفسهم، وخسران النفس أعظم الخسران، لأنه ليس عنها عوض (وضل عنهم ما كانوا يفترون) مضى بيانه مرارا (لا جرم) قال الزجاج: لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى لا ينفعهم ذلك جرم (أنهم في الآخرة هم الأخسرون) أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وقال غيرهم: معناه لا بد ولا محالة أنهم. وقيل: معناه حقا، ويستعمل في أمر يقطع عليه، ولا يرتاب فيه أي: لا شك أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة. النظم: إتصلت الآية الأولى بقوله (قل فأتوا بعشر سور مثله) والمراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك، فقل لهم: أفمن كان على بينة، كمن لا يكون معه بينة. وقيل: اتصلت بقوله (من كان يريد الحياة الدنيا) أي: من كان مجتهدا في الدين، كمن كان همه الحياة الدنيا وزينتها. ووجه اتصال الآية الثانية، وهي قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أنه سبحانه أراد أن يبين حال العاقل والغافل، فكأنهم قالوا: وما يضرنا أن لا نعرف ذلك، فأجيبوا بأن من لا يعرف الله، لا يأمن أن يكذب على الله، ومن أظلم ممن كذب على الله. (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24).
[ 259 ]
اللغة: الإخبات: للطمأنينة، وأصله الإستواء، من الخبت: وهو الأرض المستوية الواسعة. فكأن الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه. والمثل: قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول. والعمى: عبارة عن فساد آلة الرؤية، وليس بمعنى يضاد الإبصار. وكذلك الصمم: عبارة عن فساد آلة السمع، لأن الصحيح ان الإدراك أيضا ليس بمعنى. المعنى: لما تقدم ذكر الكفار، وما أعد الله لهم من العذاب، عقبه سبحانه بذكر المؤمنين، فقال: (إن الذين آمنوا) أي: صدقوا الله ورسوله، واعتقدوا وحدانيته (وعملوا الصالحات) التي أمرهم الله تعالى بها، ورغبهم فيها (وأخبتوا إلى ربهم) أي: أنابوا وتضرعوا إليه، عن ابن عباس. وقيل: معناه اطمأنوا إلى ذكره، عن مجاهد. وقيل: خضعوا له، وخشعوا إليه، عن قتادة، والكل متقارب. وقيل: إن معناه وأخبتوا لربهم، فوضع (إلى) موضع اللام، كما قال سبحانه (أوحي لها) بمعنى أوحي إليها. وقال: ينادي للإيمان (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ظاهر المعنى. ثم ضرب سبحانه مثلا للمؤمنين والكافرين، فقال: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) أي: مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأن المؤمن ينتفع بحواسه لاستعماله إياها في الدين، والكافر لا ينتفع بها، فصارت حواسه بمنزلة المعدوم، وإنما دخل الواو ليبين أن حال الكافر كحال الأعمى على حدة، وكحال الأصم على حدة، وحال من يكون قد جمع بين الصفتين جميعا (هل يستويان مثلا) أي: هل يستوي حال الأعمى الأصم، وحال البصير السميع، عند عاقل ؟ فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء، كذلك لا تستوي حال الكافر والمؤمن (أفلا تذكرون) أي: أفلا تتفكرون في ذلك فتسلموا صحة ما ذكرناه. (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرا لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) قال يا قوم أرءيتم
[ 260 ]
إن كنت على بينة من ربى وءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28). القراءة: قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (إني لكم) بكسر الهمزة. والباقون: (أني) بفتحها. وقرأ أبو عمرو، ونصر عن الكسائي: (بادئ الرأي) بالهمزة. وقرأ الباقون: (بادي الرأي) بالياء غير مهموز. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (فعميت) بضم العين، وتشديد الميم. والباقون: (فعميت) بفتح العين مخففا. الحجة: قال أبو علي: من فتح (أني) فإنه يحملها على (أرسلنا) أي: أرسلناه بأني لكم نذير مبين. فإن قيل: لو كان محمولا عليه لكان أنه لأن نوحا إسم للغيبة. قيل: هذا لا يمتنع لأن الخطاب بعد الغيبة في نحو: هذا سائغ، ألا ترى قوله: (وكتبنا له في الألواح) ثم قال: (فخذها بقوة). ومن كسر فالوجه فيه أنه حمله على القول المضمر لأنه مما قد أضمر كثيرا في القرآن، قال سبحانه: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام) أي: يقولون سلام، وقال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي: قالوا ما نعبدهم. فإن قلت: فهلا رجحت قراءة من قرأ أن على قراءة من كسر، لأن قوله (ألا تعبدوا) محمول على الإرسال، وإذا فتحت أن كان أشكل بما بعدها، لحملها جميعا على الإرسال، يقال لك: إن من كسر قال: يجوز أن يكون قوله (إني لكم) وما بعده، محمولا على الاعتراض بين المفعول، وما يتصل به مما بعده، كما كان في قوله (قل إن الهدى هدى الله) إعتراضا بينهما في قوله (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم)، فكذلك قوله (إني لكم نذير مبين) لأن التقدير ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن لا تعبدوا إلا الله. وأما قوله: (بادي الرأي) فقد حكى أبو علي عن الجبائي أنه قال: يقال أنت بادي الرأي، يريد ظاهر الرأي، لا يهمز بادي، وبادئ الرأي مهموز. فمن لم يهمز أراد أنت فيما بدا من الرأي أي أنت ظاهر الرأي. ومن همز أراد أنت أول الرأي ومبتدأه. قال أبو علي: المعنى فيمن قال بادي الرأي بلا همز فجعله من بدا الشئ إذا ظهر أي: ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي، إن لم يتعقبوه ينظر فيه،
[ 261 ]
ولا يبين لهم. ومن همز أراد إتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر وروية فيه. وهاتان الكلمتان يتقاربان في المعنى، لأن الهمزة في اللام معناه: إبتداء الشئ وأوله. واللام إذا كانت واوا، كان المعنى الظهور، وابتداء الشئ يكون ظهورا، وان كان الظهور قد يكون ابتداء وغير ابتداء، فلذلك يستعمل كل واحد مكان الآخر. وجاز في إسم الفاعل أن يكون ظرفا، كما جاز في فعيل نحو قريب وملئ، لأن فاعلا وفعيلا يتعاقبان على المعنى نحو عالم وعليم، وشاهد وشهيد، وحسن ذلك إضافته إلى الرأي، وقد أجروا المصدر أيضا في إضافته إليه في قولهم: أما جهد رأي فإني منطلق، فهذا لا يكون إلا ظرفا، وفعل إذا كان مصدرا، وفاعل قد يتفقان في أشياء، وقد يجوز في قول من همز فقال: بادي الرأي إذا خففت الهمز، أن يقول بادي الرأي، فيقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، فيكون كقولهم مير في جمع ميرة، وذيب في جمع ذيبة. والعامل في هذا الظرف هو قولك: إتبعك، التقدير ما اتبعك في أول رأيهم، أو فيما ظهر من رأيهم، إلا أراذلنا، فأخر الظرف وأوقع بعد إلا الظرف. ولو كان بدل الظرف غيره لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما، فأوقعت بعد (إلا) إسمين لم يجز، لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء، يصل إلى ما انتصب به بتوسط الحرف، ولا يصل الفعل بتوسط الحرف إلى أكثر من مفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: استوى الماء والخشبة، فنصبت الخشبة، لم يجز أن تتبعه اسما آخر تنصبه، فكذلك المستثنى إذا ألحقته (إلا) وأوقعت بعدها اسما مفردا، لم يجز أن تتبعه آخر. ولو قلت: ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا، لم يجز، وتصحيحها: ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا، تبدل الإسمين بعد (إلا) من الإسمين قبلها. قال جامع العلوم البصير النحوي: إن أبا علي حمل (بادي الرأي) هنا على أنه ظرف لما قبله. ثم رجع عن مثله في قوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) فحمله على فعل آخر دل عليه (يكلمه) على تقدير أو يكلمه الله من وراء حجاب. قال: والظرف في الآيتين عندنا محمول على الفعل قبل (إلا) لأن الظرف قد يكتفي فيه برائحة الفعل. (إنتهى كلامه). وأقول: إن ما قاله فيه نظر، لأن أبا علي قال في تلك الآية لا يعمل ما قبل
[ 262 ]
الاستثناء، إذا كان كلاما تاما فيما بعده، وليس ما قبل (إلا، في هذه الآية كلاما تاما، فإن قوله (الذين هم أراذلنا) فاعل لقوله (اتبعك) فلذلك فرق بين الموضعين. راجع كلام أبي علي: وأما تحقيق الهمزة وتخفيفها في (الرأي) فأهل تحقيق الهمزة يخففونها، وأهل التخفيف يبدلون منها الألف، وكذلك ما أشبهه من نحو الباس، والراس، الفاس. ومن قرأ (فعميت) بالتخفيف: يقوي قوله (اجتماعهم) على التخفيف في قوله سبحانه (فعميت عليهم الأنباء)، وهذه مثلها، ويجوز في قوله: (فعميت) أمران: أحدهما: أن يكون عموهم عنها الآن، والرحمة لا تعمي، وإنما يعمي عنها، فيكون كقولهم أدخلت القلنسوة في رأسي، ونحو ذلك مما يقلب إذا لم يكن فيه إشكال. وفي التنزيل: (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) وقال الشاعر: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه، وسائره باد إلى الشمس أجمع (1) والآخر أن يكون بمعنى خفيت، كقول الشاعر: ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى بالحائرين العمه (2) أي: خفي الهدى، لأن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة. ومن هذا يقال للسحاب العماء، لإخفائه ما يخفيه، كما قيل له الغمام. ومن هذا قول الشاعر (ولكنني عن علم ما في غد عم) (3). قال: وقولهم أتاني صكة عمي: إذا أتى في الهاجرة، وشدة الحر، يحتمل عندنا تأويلين أحدهما: أن يكون المصدر أضيف إلى العمى، كما قالوا: ضرب التلف أي: الضرب الذي يحدث عنه التلف والآخر: أن يكون عمي تصغير أعمى على وجه الترخيم، وأضيف المصدر إلى المفعول به، كقولك: من دعاء الخير، والتقدير صكة الحر الأعمى. والمعنى: إن الحر من شدته كأنه يعمي من أصابه (4). والمصدر في الوجهين ظرف، نحو مقدم الحاج، وخفوق النجم. ومن قرأ (عميت) اعتبر قراءة أبي والأعمش، فعماهما عليكم، وإسناد (1) أي: فدخل الثور رأسه في الظل، فقلب في الكلام. (2) قائله رؤبة بن العجاج. والمهمه: المفازة لا ماء فيها. (3) قائله زهير في (المعلقة) وقبله: (وأعلم علم اليوم والأمس قبله). (4) وفي هذا المثل أقوال أخر ذكرها في اللسان في مادة (عم) فراجع. (*)
[ 263 ]
الفعل إلى المفعول به في (عميت) قريب من (عمى) هنا في المعنى. اللغة: الرذل: الخسيس الحقير من كل شئ، والجمع أرذل، ثم يجمع على أراذل، كقولك: كلب وأكلب وأكالب، ويجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع الأكبر والرأي: الرؤية من قوله (يرونهم مثليهم رأي العين) أي: رؤية العين. والرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر، وجمعه آراء. الاعراب: (أن لا تعبدوا إلا الله): يحتمل أن يكون موضع (تعبدوا) من الإعراب نصبا بأن، ويحتمل أن يكون جزما بالنهي. وقوله (عذاب يوم أليم): يجوز أن يكون تقديره يوم أليم عذابه، فحذف المضاف الذي هو عذاب، وأقيم المضاف إليه الذي هو الضمير مقامه، فاستكن في (أليم). ويجوز أن يكون وصف اليوم بالألم، لأن الألم فيه يقع، ويجوز في غير القراءة أليما فيكون صفة لعذاب. وقوله (اتبعك) وفاعله الذي هو (الذين هم أراذلنا) في موضع نصب بأنه مفعول ثان ل (نراك) إن كان بمعنى نعلمك، وفي موضع الحال إن كان من رؤية العين. وقوله (أنلزمكموها) فيه ثلاث ضمائر: ضمير المتكلم، وضمير المخاطب، وضمير الغائب، فجاءت على أحسن ترتيب. بدأ بالمتكلم لأنه أخص بالفعل، ثم بالمخاطب، ثم بالغائب. ولو أتى بالمنفصل لجاز، لتباعده من العامل بما فرق بينه وبينه، فأشبه ما ضربت إلا إياك، وما ضربني إلا أنت. وأجاز الفراء (أنلزمكموها) بتسكين الميم، جعله بمنزلة عضد وعضد، وكبد وكبد، ولا يجوز ذلك عند البصريين، وإنما يجيزون ذلك في ضرورة الشعر، كقول امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله، ولا واغل (1) وكقول الآخر: وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل وقول الآخر: (إذا إعوججن قلت صاحب قوم) يريد يا صاحب قوم. المعنى: لما تقدم ذكر الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، عقب ذلك سبحانه، بذكر أخبار الأنبياء، تأكيدا لذلك، وتخويفا للقوم، وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (1) وفي ديوانه (فاليوم أسقى ا. ه). (*)
[ 264 ]
وبدأ بقصة نوح عليه السلام فقال: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين) وقد مر بيانه (أن لا تعبدوا إلا الله) أي: أنذركم أن لا تعبدوا إلا الله، عن الزجاج، يريد أن توحدوا الله وتتركوا عبادة غيره. وبدأ بالدعاء إلى الإخلاص في العبادة. وقيل: إنه دعاهم إلى التوحيد، لأنه من أهم الأمور إذ لا يصح شئ من العبادات إلا بعد التوحيد. (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) إنما قال (أخاف) مع أن عقاب الكفار مقطوع عليه، لأنه لم يعلم ما يؤول إليه عاقبة أمرهم، من إيمان أو كفر، وهذا لطف في الإستدعاء، وأقرب إلى الإجابة في الغالب (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) أي: من قوم نوح لنوح عليه السلام: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) ظنا منهم أن الرسول إنما يكون من غير جسن المرسل إليه، ولم يعلموا أن البعثة من الجنس قد تكون أصلح، ومن الشبهة أبعد (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) أي: لم يتبعك الملأ، والأشراف، والرؤساء منا، وإنما اتبعك أخساؤنا الذين لا مال لهم، ولا جاه (بادي الرأي) أي: في ظاهر الأمر، والرأي، لم يتدبروا ما قلت، ولم يتفكروا فيه. وقال الزجاج: معناه إتبعوك في الظاهر، وباطنهم على خلاف ذلك. ومن قرأ بالهمز: فالمعنى أنهم اتبعوك ابتداء الرأي أي: حين ابتدأوا ينظرون، ولو فكروا لم يتبعوك. وقيل: معناه إن في مبتدأ وقوع الرؤية عليهم يعلم أنهم أراذلنا وأسافلنا (وما نرى لكم علينا من فضل) أي: وما نرى لك ولقومك علينا من فضل، فإن الفضل إنما يكون في كثرة المال والمنزلة في الدنيا، والشرف في النسب، وإنما قالوا ذلك لأنهم جهلوا طريقة الإستدلال، ولو استدلوا بالمعجزات الدالة على نبوته، لعلموا أنه نبي، وأن من آمن به مؤمن، ومن خالفه كافر. وعرفوا حقيقة الفضل، وهكذا عادة أرباب الدنيا، يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء، ويسترذلونهم، وإن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند الله سبحانه (بل نظنكم كاذبين) هذا تمام الحكاية، عن كفار قوم نوح، قالوه لنوح، ومن آمن به (قال) نوح لقومه (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) أي: على برهان وحجة يشهد بصحة النبوة وهي المعجزة. وقال ابن عباس: على بينة أي: على يقين وبصيرة، ومعرفة من ربوبية ربي وعظمته. واختلف في قول نوح عليه السلام هذا أنه جواب عماذا. فقيل: إنه جواب عن قولهم: (بل نظنكم كاذبين) فكأنه قال: بل هو جواب عن قولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) أي: وإن كنت بشرا فماذا تقولون إذا أتيتكم بحجة دالة على صدقي ألا تصدقونني ؟
[ 265 ]
وفيه بيان أن الرسالة إنما تظهر بالمعجزة، فلا معنى لاعتبار البشرية. وقيل: هو جواب عن قولهم (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) فكأنه قال إنهم اعتصموا بالله، وبما آتاهم من البينة والرحمة، فنالوا بذلك الرفعة والفضل، وأنتم قنعتم بالدنيا الدنية الفانية، فأنتم في الحقيقة الأراذل لا هم. وقيل: هو جواب عن قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) فكأنه قال: لا تتبعوا المال والجاه، فإن الواجب اتباع الحجة والدلالة. ويجوز أن يكون جوابا عن جميع ذلك. (وآتاني رحمة من عنده) رد عليهم بهذا جميع ما ادعوه. والرحمة والنعمة هي ههنا النبوة أي وأعطاني نبوة من عنده (فعميت عليكم) أي: خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها. (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) أي: أتريدون مني أن أكرهكم على المعرفة، وألجئكم إليها، على كره منكم ؟ هذا غير مقدور لي. والهاء كناية عن الرحمة، فيدخل فيها النبوة، والدين، وسائر النعم. وقيل: معناه أنلزمكم قبولها، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون الهاء كناية عن البينة، ويكون المراد: إن علي أن أدلكم بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى معرفتها. (ويا قوم لآ أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون (29) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30) ولآ أقول لكم عندي خزائن الله ولآ أعلم الغيب ولآ أقول إنى ملك ولآ أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إنى إذا لمن الظالمين (31). اللغة: الطرد: الإبعاد على جهة الهوان. وتطارد الأقوال: حمل بعضها على بعض. والإزدراء: الإحتقار إفتعال من الزراية، يقال زريت عليه: إذا عتبه، وأزرت به: إذا قصرت به. قال الشاعر: رأوه فازدروه، وهو خرق، وينفع أهله الرجل القبيح ولم يخشوا مقالته عليهم، وتحت الرغوة اللبن الصريح (1) (1) الخرق - بالكسر -: الكريم السخي. والرغوة من اللبن: ما عليه من الزبد. يعني رأوا ظاهره القبيح، وغفلوا عن باطنه فاحتقروه. (*)
[ 266 ]
المعنى: ثم أنكر نوح استثقالهم التكليف، والعاقل، إنما يستثقل الأمر إذا ألزمته مؤنة ثقله، فقطع هذا العذر بقوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا) أي: لا أطلب منكم على دعائكم لي الله أجرا، فتمتنعون من إجابتي خوفا من أخذ المال (إن أجري إلا على الله) أي: ما ثوابي، وما أجري في ذلك، إلا على الله (وما أنا بطارد الذين آمنوا) أي: لست أطرد المؤمنين من عندي، ولا أبعدهم على وجه الإهانة. وقيل: إنهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا له، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء، عن ابن جريج، والزجاج (إنهم ملاقوا ربهم) وهذا يدل على أنهم سألوه طردهم، فأعلمهم أنه يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم، فيجازي من ظلمهم، وطردهم بجزائه من العذاب، عن الزجاج. وقيل: معناه إنهم ملاقوا ثواب ربهم، فكيف يكونون أراذل ؟ وكيف يجوز طردهم، وهم لا يستحقون ذلك ؟ عن الجبائي. (ولكني أراكم قوما تجهلون) الحق وأهله. وقيل: معناه تجهلون أن الناس إنما يتفاضلون بالدين، لا بالدنيا. وقيل: تجهلون فيما تسألون من طرد المؤمنين (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم) معناه: من يمنعني من عذاب الله إن أنا طردت المؤمنين، فكانوا خصمائي عند الله في الآخرة (أفلا تذكرون) أي: أفلا تتفكرون فتعلمون أن الأمر على ما قلته ؟ وفرق علي بن عيسى بين التفكر والتذكر، بأن التذكر طلب معنى قد كان حاضرا للنفس. والتفكر طلب معرفة الشئ بالقلب، وإن لم يكن حاضرا للنفس. وليست النصرة المذكورة في الآية من الشفاعة في شئ، لأن النصرة: هي المنع على وجه المغالبة، والقهر. والشفاعة هي المسألة على وجه الخضوع، فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمذنبين، على ما قاله بعضهم (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) هذا تمام الحكاية عما قاله نوح لقومه، ومعناه: إني لا أرفع نفسي فوق قدرها، فأدعي أن عندي مقدورات الله تعالى، فأفعل ما أشاء، وأعطي ما أشاء، وأمنع من أشاء، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: خزائن الله: مفاتيح الله في الرزق. وهذا جواب لقولهم: (ما نراك إلا بشرا مثلنا) أو قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل) (ولا أعلم الغيب) أي: ولا أدعي علم الغيب حتى أدلكم على منافعكم ومضاركم. وقيل: لا أعلم الغيب فأعلم ما تسرونه في نفوسكم، فيكون جوابا لقولهم إن هؤلاء الذين آمنوا بك، إتبعوك في ظاهر ما ترى منهم أي: فسبيلي قبول إيمانهم الذي ظهر لي، ولا يعلم ما يضمرونه
[ 267 ]
إلا الله تعالى (ولا أقول إني ملك) فأخبركم بخبر السماء من قبل نفسي، وإنما أنا بشر لا أعلم الأشياء من غير تعليم الله تعالى. وقيل: معناه لا أقول إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى، بل أنا بشر مثلكم خصني الله بالرسالة (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) أي: لا أقول لهؤلاء المؤمنين الذين تستقلونهم، وتستخفونهم، وتحتقرهم أعينكم، لما ترون عليهم من زي الفقراء (لن يؤتيهم الله خيرا) أي: لا يعطيهم الله في المستقبل خيرا على أعمالهم، ولا يثيبهم عليها، بل أعطاهم الله كل خير في الدنيا من التوفيق، ويعطيهم كل خير في الآخرة من الثواب (الله أعلم بما في أنفسهم) أي: بما في قلوبهم من الإخلاص وغيره (إني إذا لمن الظالمين) إن طردتهم، تكذيبا لظاهر إيمانهم، أو قلت فيهم غير ما أعلم. (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32) قال إنما يأتيكم به الله إن شآء وما أنتم بعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون (35). اللغة: الجدال، والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجة أو شبهة، وهو من الجدل: شدة الفتل. ويقال للصقر أجدل لأنه من أشد الجوارح. والجدال، والمراء بمعنى، غير ان المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره، كمري الضرع بعد دروره. وليس كذلك الجدال. والفرق بين الحجاج والجدال أن المطلوب بالحجاج ظهور الحجة، والمطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب. والإعجاز هو الفوت بالهرب. والفرق بين افتراء الكذب، وقول الكذب أن قول الكذب قد يكون على وجه تقليد الإنسان فيه لغيره. وأما افتراء الكذب فهو افتعاله من قبل نفسه. وأجرم، وجرم بمعنى قال: طريد عشيرة، ورهين ذنب بما جرمت يدي، وجنى لساني
[ 268 ]
المعنى: ثم حكى الله سبحانه جواب قوم نوح عما قاله لهم، فقال: (قالوا يا نوح قد جادلتنا) أي: خاصمتنا، وحاججتنا (فأكثرت جدالنا) أي: زدت في مجادلتنا على مقدار الكفاية. وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (فأكثرت جدالنا) والمعنى واحد (فأتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من الصادقين) في أن الله تعالى يعذبنا على الكفر أي: فلسنا نؤمن بك، ولا نقبل منك (قال) نوح (إنما يأتيكم به الله إن شاء) أي: لا يأتي بالعذاب إلا الله سبحانه متى شاء، لا يقدر عليه غيره، فإن شاء عجل وإن شاء أخر (وما أنتم بمعجزين) أي: لا تفوتونه بالهرب. (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) ذكر في تأويله وجوه أحدها: إن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته، بأن يحرمكم ثوابه، ويعاقبكم لكفركم به، فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم. وقد سمى الله سبحانه العقاب غيا بقوله: (فسوف يلقون غيا) ويشهد بصحة ما قلنا، قول الشاعر: فمن يلق خيرا، يحمد الناس أمره، ومن يغو، لا يعدم على الغي لائما ولما خيب الله سبحانه قوم نوح من رحمته وثوابه، وأعلم الله نوحا عليه السلام بذلك في قوله (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) قال لهم: لا ينفعكم نصحي مع إيثاركم ما يوجب خيبتكم، والعذاب الذي جره إليكم قبيح أفعالكم. وإذا طرأ شرط على شرط، كان الثاني مقدما على الأول في المعنى، وإن كان مؤخرا في اللفظ. والتقدير: ولا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، إن أردت أن أنصح لكم. وثانيها: إن المعنى إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق، وإضلالكم إياهم أي: يريد عقوبتكم على ذلك. ومن عادة العرب أن تسمي العقوبة باسم الشئ المعاقب عليه، كما في قوله سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها ومكروا ومكر الله والله يستهزئ بهم) وقد مر فيما مضى أمثال ذلك وثالثها: ان معناه إن كان الله يريد أن يهلككم، فلا ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم، وإن قبلتم قولي، وآمنتم، لأن الله تعالى حكم بأن لا يقبل الإيمان عند نزول العذاب، عن الحسن. وقد حكي عن العرب أنهم قالوا: أغويت فلانا بمعنى أهلكته. ويقال: غوي الفصيل: إذا فسد من كثرة شرب اللبن. ورابعها: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، وأن ما هم عليه بإرادة الله، ولولا ذلك لغيره، وأجبرهم على خلافه،
[ 269 ]
فقال لهم نوح، على وجه التعجب من قولهم، والإنكار لذلك: إن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون. وهذا هو المحكي عن جعفر بن حرب. وإنما شرط النصح بالإرادة في قوله: (إن أردت أن أنصح لكم) مع وقوع هذا النصح استظهارا في الحجة عليهم، لأنهم ذهبوا إلى أنه ليس بنصح، فقال: لو كان نصحا ما نفع من لا يقبله، ولا يجوز أن يكون المراد بالإغواء في الآية فعل الكفر، أو الدعاء إلى الكفر، والحمل عليه، على ما يعتقده المجبرة، لقيام الأدلة على أن خلق الكفر وإرادته من أقبح القبائح، كالأمر به، وكما لم يجز أن يأمر به، فكذلك لا يجوز أن يفعله ويريده، ولأنه لو جاز منه الإضلال، لجاز منه أن يبعث من يدعو إلى الضلال، ويظهر المعجزات على يده، وفي هذا ما فيه. (هو ربكم وإليه ترجعون) أي: هو خالقكم ورازقكم، والى حكمه وتدبيره تصيرون، فيجازيكم على أعمالكم (أم يقولون افتراه) قيل: إنه يعني بذلك محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد: أيؤمن كفار محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نبأ قوم نوح عليه السلام، أم يقولون افتراه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تلقاء نفسه ف (قل) لهم يا محمد (إن افتريته) واختلقته كما تزعمون (فعلي إجرامي) أي: عقوبة جرمي، لا تؤخذون به. (وأنا برئ مما تجرمون) أي: لا أؤخذ بجرمكم، عن مقاتل. وقيل: يعني به نوحا عليه السلام، وأنه يقول على الله الكذب، عن ابن عباس. النظم: ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها على القول الأول: أنها تتصل بقوله (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله). (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39). اللغة: الإبتئاس: حزن في استكانة، وأنشد أبو عبيدة:
[ 270 ]
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس منه، وأقعد كريما ناعم البال وهو افتعال من البؤس، وقد يكون البؤس بمعنى الفقر أيضا. والصنع: جعل الشئ موجودا بعد أن كان معدوما، ومثله الفعل. وينفصلان من الحدوث من حيث إن الصنعة يقتضي صانعا، والفعل يقتضي فاعلا من حيث اللفظ. وليس كذالك الحدوث لأنه يفيد تجدد الوجود، لا غير. والصناعة: الحرفة التي يكتسب بها. والفلك: السفينة، ويكون واحدا وجمعا. والسخرية: إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير: التذليل يكون استضعافا بالقهر. والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصا، ولا يكون الا بحيوان. وقد يكون اللعب بجماد. والحلول: النزول للمقام، وهو من الحل خلاف الإرتحال. وحلول العرض: وجوده في الجوهر من غير شغل حيز. والمصحح للحلول: التحيز. الاعراب: (سوف) ينقل الفعل من الحال إلى الاستقبال، مثل السين سواء الا أن فيه معنى التسويف، وهو تعليق النفس بما يكون من الأمور (من يأتيه) قيل في (من) هذه قولان أحدهما: أن يكون بمعنى أي، فكأنه قال: أينا يأتيه عذاب يخزيه والآخر: أن يكون بمعنى الذي، والمعنى واحد. و (من) إذا كانت للإستفهام، استغنت عن الصلة، كما استغنت (كيف، وكم) عن الصلة. وإذا كانت بمعنى الذي، فلا بد لها من الصلة، لأن البيان مطلوب من المسؤول، دون السائل. المعنى: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن): أعلم الله سبحانه نوحا، أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل (فلا تبتئس) أي: لا تغتم، ولا تحزن. (بما كانوا يفعلون) والعقل لا يدل على أن قوما لا يؤمنون في المستقبل، وإنما طريق ذلك السمع، فلما علم أن أحدا منهم لا يؤمن فيما بعد، ولا من نسلهم، دعا عليهم فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا) فلما أراد الله سبحانه إهلاكهم، أمر نبيه باتخاذ السفينة له ولقومه، فقال (واصنع الفلك) أي: إعمل السفينة لتركبها أنت، ومن آمن بك (بأعيننا) أي: بمرأى منا، عن ابن عباس. والتأويل: بحفظنا اياك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضر عنه. وذكر الأعين لتأكيد الحفظ. وقيل: أراد بالأعين الملائكة الموكلين بك، وبحضرتهم، وهم ينظرون بأعينهم إليك. وإنما
[ 271 ]
أضاف ذلك إلى نفسه إكراما وتعظيما لهم. وقوله: (ووحينا) معناه: وعلى ما أوحينا إليك من صفتها وحالها، عن أبي مسلم. وقيل: المراد بوحينا إليك أن اصنعها، وذلك أنه عليه السلام لم يعلم صنعة الفلك، فعلمه الله تعالى، عن ابن عباس. أي: فإنا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله، وعرضه، وهيأته. (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) أي: لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك، ولا تشفع لهم، فإنهم مغرقون عن قريب. وهذا غاية في الوعيد كما يقول الملك لوزيره: لا تذكر حديث فلان بين يدي. وقيل: إنه عنى به امرأته وابنه، وإنما نهاه عن ذلك ليصونه عن سؤال ما لا يجاب إليه، وليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة (ويصنع الفلك) أي: وجعل نوح عليه السلام يصنع الفلك، كما أمره الله تعالى. وقيل: وأخذ نوح في صنعة السفينة بيده، فجعل ينحتها ويسويها، وأعرض عن قوله. (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) أي: كلما اجتاز به جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم، وهو يعمل السفينة هزؤا من فعله. وقيل: إنهم كانوا يقولون له: يا نوح ! صرت نجارا بعد النبوة ؟ على طريق الإستهزاء. وقيل: انما كانوا يسخرون من عمل السفينة، لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول والعرض، ولا ماء هناك يحمل مثلها، فكانوا يتضاحكون، ويتعجبون من عمله (قال) أي: كان يقول لهم (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) والمراد: إن تستجهلونا في هذا الفعل، فإنا نستجهلكم عند نزول العذاب بكم، كما تستجهلونا، عن الزجاج. وقيل: معناه فإنا نجازيكم على سخريتكم عند الغرق والهلاك، وأراد به تعذيب الله إياهم، فسمى الجزاء باسم المجزي به، ويحتمل أن يريد فإنا نسخر منكم بعد الغرق على وجه الشماتة، لا على وجه السفه. (فسوف تعلمون) أينا أحق بالسخرية، أو تعلمون عاقبة سخريتكم (من يأتيه عذاب يخزيه) هذا ابتداء كلام من نوح، والأظهر أن يكون متصلا بما قبله أي: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا، ويكون يخزيه صفة العذاب (ويحل عليه عذاب مقيم) أي: وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة. القصة: قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها
[ 272 ]
ستمائة ذراع. وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعا، وارتفاعها ثلاثين ذراعا، وبابها في عرضها وقال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس، وطبقة للأنعام والدواب، وطبقة للهوام والوحش، وجعل أسفلها للوحوش والسباع والهوام، وأوسطها للدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في الأعلى، مع ما يحتاج إليه من الزاد، وكانت من خشب الساج. وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مكث نوح في قومه ألف سنة الا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم، غرس شجرة، فعظمت وذهب كل مذهب، فقطعها وجعل يعمل على سفينته، وقومه يمرون عليه فيسألونه، فيقول: أعمل سفينة ! فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة على البر، فكيف تجري ؟ فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السكك، خشيت أم صبي عليه، وكان تحبه حبا شديدا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء، خرجت به حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل - فلما بلغ الماء رقبتها، رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء. فلو رحم الله منهم أحدا، لرحم أم الصبي. وروى علي بن إبراهيم عن أبيه، عن صفوان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أراد الله إهلاك قوم نوح، عقم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يلد لهم مولود. ولما فرغ نوح من اتخاذ السفينة، أمره الله تعالى أن ينادي بالسريانية، أن يجمع إليه جميع الحيوانات، فلم يبق حيوان إلا وقد حضر. فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين، ماخلا الفأر والسنور. وإنهم لما شكوا إليه سرقين الدواب، والقذر، دعا بالخنزير فمسح جبينه، فعطس فسقط من أنفه زوج فأرة، فتناسل. فلما كثروا، وشكوا إليه منهم، دعا بالأسد، ومسح جبينه، فعطس، فسقط من أنفه زوج سنور. وكان الذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا. وفي حديث آخر: إنهم شكوا إليه العذرة، فأمر الله الفيل، فعطس فسقط الخنزير. وروى الشيخ أبو جعفر في (كتاب النبوة) بإسناده عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر.
[ 273 ]
(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن وما ءامن معه إلا قليل (40) * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساهآ إن ربى لغفور رحيم (41) وهى تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سئاوى إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43). القراءة: قرأ حفص عن عاصم: (من كل زوجين) منونا، وفي المؤمنين كذلك. وقرأ الباقون: (من كل زوجين) مضافا. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (مجريها) بفتح الميم. والباقون بضم الميم. واتفقوا على ضم الميم في (مرسيها) الا ما يرى في الشواذ عن ابن محيصن، أنه فتح الميم فيهما. وقرأ عاصم: (يا بني اركب معنا) بفتح الياء. والباقون: بالكسر. وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبي جعفر محمد بن علي، وجعفر بن محمد عليهم السلام، وعروة بن الزبير: (ونادى نوح ابنه) (1). وروي عن عكرمة: (ابنها)، وعن السدي (ابناه). وعن ابن عباس: (ابنه) على الوقف. الحجة: الوجه في قراءة حفص ما قاله أبو الحسن: إن الاثنين زوجان، قال الله تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين) والمرأة زوج الرجل، والرجل زوجها. قال: وقد يقال للاثنين هما زوج، قال لبيد: من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها (2) قال أبو علي: من قرأ (من كل زوجين) كان قوله اثنين مفعول الحمل، (1) يعني مخفف ابنها. (2) حف الهودج وغيره بالثياب: إذا غطى. والعصي ههنا: عيدان الهودج. والزوج: النمط من الثياب. والكلة: الستر الرقيق. والقرام: الستر. يعني الهودج محفوفة بالثياب، فعيدانها تحت ظلال ثيابها. (*)
[ 274 ]
والمعنى احمل من الأزواج إذا كانت اثنين اثنين زوجين، فالزوجان في قوله: (من كل زوجين) يراد بهما الشياع، وليس يراد بهما الناقص عن الثلاثة، ومثل ذلك قول الشاعر: فاعمد لما يعلو فما لك بالذي لا تستطيع من الأمور يدان إنما يريد: تشديد انتفاء قوته عنه، وتكثيره. ويبين هذا المعنى قول الفرزدق: وكل رفيقي كل رحل، وإن هما تعاطى القنا قوما هما أخوان (1) فرفيقان اثنان لا يكونان رفيقي كل رحل، وإنما يريد الرفقاء إذا كانوا رفيقين. ومن نون فقال: (من كل زوجين) فحذف المضاف إليه من كل، ونون: فالمعنى من كل شئ، ومن كل زوج زوجين اثنين، فيكون انتصاب اثنين على أنه صفة لزوجين. فإن قلت: فالزوجان قد فهم انهما اثنان، فكيف جاز وصفهما بقوله (اثنين): فإنما جاز ذلك للتأكيد والتشديد، كما قال: (لا تتخذوا إلهين اثنين) وقد جاء في غير هذا من الصفات ما مصرفه إلى التأكيد كقولهم: أمس الدابر، ونفخة واحدة، ونعجة واحدة. قال: (ومناة الثالثة الأخرى) قال أبو علي: ويجوز في قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) أن يكون حالا من شيئين من الضمير الذي في قوله اركبوا، ومن الضمير الذي في فيها، فإن جعلت قوله (بسم الله) خبر مبتدأ مقدما في قول من لم يرفع بالظرف، أو جعلت قوله (مجراها) مرتفعا بالظرف، لم يكن قوله (بسم الله مجراها) إلا جملة في موضع الحال من الضمير الذي في فيها. ولا يجوز أن يكون من الضمير الذي في قوله (اركبوا) لأنه لا ذكر فيها يرجع إلى الضمير. ألا ترى أن الظرف في قول من رفع بالظرف، قد ارتفع به الظاهر، وفي قول من رفع في هذا النحو بالابتداء، قد جعل في الظرف ضمير المبتدأ. فإذا كان كذلك خلت الجملة من ذكر يعود إلى ذي الحال من الحال. وإذا خلا من ذلك لم يكن إلا حالا من الضمير الذي في (فيها). ويجوز ان يكون (بسم الله) حالا من الضمير الذي في قوله (اركبوا) على أن لا يكون الظرف خبرا عن الاسم الذي هو (مجراها) على ما كان في الوجه الأول. ويكون حالا من الضمير على حد قولك: خرج بثيابه، وركب في سلاحه، (1) الشعر في (جامع الشواهد). (*)
[ 275 ]
والمعنى: ركب مستعدا بسلاحه، ومتلبسا بثيابه. وفي التنزيل (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) فكان المعنى: اركبوا متبركين باسم الله، ومتمسكين بذكر اسم الله، ويكون في (باسم الله) ذكر يعود إلى المأمورين. فإن قلت: فكيف يكون اتصال المصدر الذي هو (مجراها) بالكلام على هذا، فإنه يكون متعلقا بما في (باسم الله) من معنى الفعل، وجاز تعلقه به لأنه يكون ظرفا على نحو مقدم الحاج، وخفوق النجم، كأنهم متبركين بهذا الاسم، أو متمسكين به في وقت الجري، أو الإجراء والرسو، أو الإرساء على حسب الخلاف بين القراء فيه. ولا يكون الظرف متعلقا باركبوا، لأن المعنى ليس عليه، ألا ترى أن المعنى لا يراد اركبوا فيها في وقت الجري والثبات، انما المعنى: اركبوا الآن متبركين باسم الله في الوقتين اللذين لا ينفك الراكبون فيها من الإجراء والإرساء، ليس يراد اركبوا وقت الجري والرسو. فموضع (مجراها) نصب على هذا الوجه، بأنه ظرف عمل فيه المعنى. وفي الوجه الأول رفع بالابتداء، أو بالظرف. ويدل على أنه في الوجه الأول رفع، وإن كان ذلك الفعل الذي كان يتعلق به لا يعتبر به الآن، قول الشاعر، أنشده الأصمعي: وابأبي أنت، وفوك الأشنب كأنما ذر عليه الزرنب (1) وحجة من فتح (مجراها) قوله: (وهي تجري بهم) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم. وحجة من ضم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى، يقال جرى الشئ، وأجريته، وجريت به. واما قوله: (يا بني) فقد قال أبو علي: الكسر في الياء الوجه في (يا بني) وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو حذفت في ابن، كما حذفت في اسم، واثنين. فإذا حقرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام الذي حذفت، لأنك لو لم تردها لوجب أن تحرك بالتحقير بحركات الإعراب، وتعاقبها عليها، وهي لا تحرك أبدا بحركة الإعراب، ولا غيرها. ألا ترى أن من حذف الهمزة الساكن ما قبلها، في نحو الخب ء، لم يفعل ذلك في الهمز نحو أفيإس (2)، إنما يبدل من الهمزة ياء، ويدغم فيها ياء التحقير، كما (1) وفي اللسان (وابأبي ثغرك ذاك الأشنب ه). والشنب: طيب نكهة الأسنان. وقيل: البرد والعذوبة. (2) تصغير فؤس جمع فاس. (*)
[ 276 ]
يفعل ذلك مع ياء خطية، وواو مقروة، ونحو ذلك من حروف المد التي لا تتحرك. فإذا تبينت أن ياء التحقير أجريت هذا المجرى، علمت أنها لا تتحرك، كما لا تتحرك حروف المد التي أجريت بالتحقير مجراها. فلو لم ترد اللام مع ياء التحقير، وجعلتها محذوفة في التحقير، كما حذفتها في التكبير، للزم الياء التي للتحقير الانقلاب، كما لزم سائر حروف الإعراب، فيبطل دلالتها على التحقير. كما أن الألف في التكسير، لو حركتها لبطلت دلالتها على التكسير. ولذلك رددت اللام، فإذا رددت اللام وأضفتها إلى نفسك اجتمعت ثلاث ياءات: الأولى منها التي للتحقير، والثانية لام الفعل، والثالثة التي للاضافة تقول هذا بني فإذا ناديت، جاز فيها وجهان: اثبات الياء وحذفها، فمن قال: يا عبادي، فأثبت فقياس قوله أن يقول بنيي. ومن قال: يا عباد، قال يا بني، فحذف الياء التي للإضافة وأبقى الكسرة دالة عليها. وهذا الوجه هو الجيد عندهم. ومن قرأ: يا بني بالفتح، فالقول فيه: إنه أراد به الاضافة، كما أرادها في قوله يا بني إذا كسر الياء التي هي لام الفعل، كأنه قال: يا بنيي باثبات ياء الاضافة، ثم ابدل من الكسرة الفتحة، ومن الياء الألف، فصار يا بنيا، كما قال الشاعر: (يا بنت عما لا تلومي واهجعي) ثم حذف الألف، كما كان حذف الياء في يا بني، وقد حذفت الياء التي للإضافة إذا أبدلت الألف منها. أنشد أبو الحسن: فلست بمدرك ما فات مني بلهف، ولا بليت، ولا لو أني إنما هو بلهفا. قال أبو عثمان: ووضع الألف مكان الياء في الإضافة مطرد، وأجاز يا زيدا أقبل إذا أردت الاضافة، فقال: وعلى هذا قراءة من قرأ: (يا أبت لم تعبد) و (يا قوم لا أسألكم) وإنشد (وهل جزع إن قلت وا أبتاهما) وأما من قرأ: (ونادى نوح ابنه) فإنه أراد ابنها، كما روي عن عكرمة، والمعنى ابن امرأته، لأنه قد جرى ذكرها في قوله سبحانه: (وأهلك) فحذف الألف تخفيفا كما قلنا في بني بالفتح، ويا أبت. وأما قراءة السدي. (ابناه) فإنه يريد به الندبة، وهو على الحكاية أي قال له: يا إبناه، ووا إبناه ! فأما ابنه بالسكون: فعلى ما جاء في نحو قوله (ومطواي مشتاقان له أرقان). اللغة: الفور: الغليان، وأصله الإرتفاع، فار القدر يفور فورا، وفؤورا،
[ 277 ]
وفورانا: ارتفع ما فيه بالغليان. ومنه قولهم: فعل ذلك من فوره أي: من قبل أن يسكن. والإرساء: إمساك السفينة بما تقف عليه، يقال: أرساها الله فرست. قال عنترة: فصبرت نفسا عند ذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع والموج: جمع موجة، وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء الكثير. والعصمة: المنع. الاعراب: (حتى) متعلقة بقوله (واصنع الفلك بأعيننا) (لا عاصم) ركب (عاصم) مع (لا) فبني لأنهما بالتركيب صارا كاسم واحد، وقيل: انه بني لتضمنه معنى من لأن هذا جواب هل من عاصم. وحق الجواب أن يكون وفق السوأل، فكان يجب أن يقول لا من عاصم، إلا أن (من) حذفت، وتضمن الكلام معناه، فبني الاسم لذلك، وهذا وجه حسن. و (اليوم) خبر، والعامل فيه المحذوف لا قوله عاصم، لأنه لو عمل فيه عاصم، لصار من صلته، فكان يجب تنوينه لأنه يشبه المضاف، كما تقول لا ضاربا زيدا في دارك، ولم يقرأ أحد لا عاصما اليوم. وقيل: إن خبره قوله (من أمر الله) والتقدير لا ذا عصمة كائن من أمر الله في اليوم. واليوم معمول الظرف، وأن تقدم عليه، كما جاز كل يوم لك ثوب. ولا يجوز أن يتعلق اليوم بنفس أمر، لأن أمرا مصدر، فلا يتقدم عليه ما في صلته. و (من رحم) فيه ثلاثة أقوال أحدها: أن يكون استثناء منقطعا، لأن التقدير الا من رحمه الله، فيكون (من) مفعولا واستثناء من عاصم، وعاصم فاعل، فكأنه قال: لكن من رحمه الله معصوم وثانيها: أن يكون المعنى لا عاصم إلا من رحمنا، فكأنه قال: لا عاصم إلا الله والثالث: أن عاصم ههنا بمعنى معصوم، وتقديره لا معصوم من أمر الله إلا من رحمه الله. وقد يأتي فاعل بمعنى مفعول كقوله (في عيشة راضية) أي مرضية وماء دافق أي: مدفوق، وقال الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها، واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (1) أي المكسو. وعلى القولين الأخيرين يكون الاستثناء متصلا. وقال ابن كيسان: لما قال (لا عاصم) كان معناه لا معصوم، لأن في نفي العاصم نفي (1) الشعر في (جامع الشواهد). (*)
[ 278 ]
المعصوم. ثم قال. (إلا من رحم) فاستثناه على المعنى، فيكون متصلا. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن إهلاك قوم نوح، فقال: (حتى إذا جاء أمرنا) والمعنى فذلك حاله وحالهم، حتى إذا جاء قضاؤنا بنزول العذاب (وفار التنور) بالماء أي: ارتفع الماء بشدة اندفاع، وفي التنور أقوال أولها أنه تنور الخابزة، وأنه تنور كان لآدم فار الماء منه علامة لنوح عليه السلام إذ نبع الماء من موضع غير معهود خروجه منه، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. ثم اختلف في ذلك، فقال قوم: إن التنور كان في دار نوح عليه السلام ب (عين وردة) من أرض الشام. وقال قوم: بل كان في ناحية الكوفة، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وروى المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل قال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة، في دير قبلة ميمنة مسجد الكوفة، قال قلت: فكيف كان بدء خروج الماء من ذلك التنور ؟ قال: نعم إن الله أحب أن يري قوم نوح آية، ثم إن الله سبحانه أرسل عليهم المطر يفيض فيضا، وفاض الفرات فيضا، وفاضت العيون كلها فيضا، فغرقهم الله، وأنجى نوحا ومن معه في السفينة. فقلت: فكم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء فخرجوا منها ؟ فقال لبث فيها سبعة أيام بلياليها. فقلت له: إن مسجد الكوفة لقديم ! فقال: نعم وهو مصلى الأنبياء، ولقد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أسري به إلى السماء، قال له جبرائيل عليه السلام: يا محمد ! هذا مسجد أبيك آدم، ومصلى الأنبياء، فانزل فصل فيه، فنزل فصلى فيه، ثم إن جبرائيل عليه السلام عرج به إلى السماء. وفي رواية أخرى: إن السفينة استقلت بما فيها، فجرت على ظهر الماء مائة وخمسين يوما بلياليها. وروى أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام قال: مسجد كوفان وسطه روضة من رياض الجنة، الصلاة فيه بسبعين صلاة، صلى فيه ألف نبي، وسبعون نبيا، فيه فار التنور، وجرت السفينة، وهو سرة بابل، ومجمع الأنبياء عليهم السلام وثانيها: إن التنور وجه الأرض، عن ابن عباس، والزهري، وعكرمة، واختاره الزجاج، ويؤيده قوله (وفجرنا الأرض عيونا). وثالثها: إن معنى قوله (وفار التنور) طلع الفجر، وظهرت إمارات دخول النهار، وتقضي الليل، من قولهم: نور الصبح تنويرا، وروي ذلك عن علي عليه السلام. ورابعها: إن التنور أعلى الأرض وأشرفها، والمعنى نبع الماء من الأمكنة المرتفعة، فشبهت بالتنانير لعلوها،
[ 279 ]
عن قتادة وخامسها: ان فار التنور معناه اشتد غضب الله عليهم، ووقعت نقمته بهم، كما تقول العرب حمي الوطيس: إذا اشتد الحرب، وفار قدر القوم: إذا اشتد حربهم، قال الشاعر: تفور علينا قدرهم فنذيمها ونفثأها عنا إذا حميها غلا (1) يريد بالقدر الحرب. ونذيمها: نسكنها. وهذا أبعد الأقوال من الأثر، وحمل الكلام على الحقيقة التي تشهد بها الرواية أولى (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) أي: قلنا لنوح عليه السلام لما فار الماء من التنور: إحمل في السفينة من كل جنس من الحيوان زوجين أي: ذكر وانثى، وقد ذكرنا المعنى في حجة القراءتين (وأهلك) أي: واحمل أهلك وولدك (إلا من سبق عليه القول) أي: من سبق الوعد بإهلاكه، والإخبار بأنه لا يؤمن، وهي امرأته الخائنة، واسمها واغلة، وابنها كنعان (ومن آمن) أي: واحمل فيها من آمن بك من غير أهلك. ثم أخبر سبحانه فقال (وما آمن معه إلا قليل) أي: إلا نفر قليل، وهم ثمانون إنسانا في قول الأكثرين. وقيل: اثنان وسبعون رجلا وامرأة، وبنوه الثلاثة ونساؤهم، فهم ثمانية وسبعون نفسا. وحمل معه جسد آدم عليه السلام عن مقاتل. وقيل: عشرة أنفس عن ابن إسحاق. وقيل: ثمانية أنفس، عن ابن جريج، وقتادة، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: سبعة أنفس عن الأعمش، وكان فيهم بنوه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، وثلاث كنائن لهم. فالعرب، والروم، وفارس، وأصناف العجم، ولد سام، والسودان من الحبش والزنج وغيرهم ولد حام. والترك والصين، والصقالبة، ويأجوج ومأجوج، ولد يافث. (وقال اركبوا فيها) أي: وقال نوح لمن آمن معه: اركبوا في السفينة. وفي الكلام حذف تقديره فلما فار التنور، ووقف نوح على ما دله الله عليه من هلاك الكفار، قال لأهله وقومه: اركبوا فيها (بسم الله مجراها ومرساها) أي: متبركين باسم الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها أي: إثباتها وحبسها. وقيل: معناه بسم الله إجراؤها وإرساؤها، وقد ذكرنا تفسيره في الحجة. وقال (1) نسبه في اللسان إلى الجعدي ثم قال: وهذا البيت في التهذيب منسوب إلى الكميت، وفثأ القدر: سكن غليانها بماء بارد. (*)
[ 280 ]
الضحاك: كانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: بسم الله مجراها، فجرت، وإذا أرادوا أن تقف السفينة قالوا بسم الله مرساها، فوقفت. (إن ربي لغفور رحيم) هذا حكاية عما قاله نوح لقومه، ووجه اتصاله بما قبله، أنه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة، ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة، لتجتلبا بالطاعة، كما اجتلبت النجاة بركوب السفينة (وهي تجري بهم في موج كالجبال) معناه: إن السفينة كانت تجري بنوح ومن معه على الماء، في أمواج كالجبال في عظمها وارتفاعها. ودل بتشبيهها بالجبال على أن ذلك لم يكن موجا واحدا، بل كان كثيرا. وروي عن الحسن أن الماء ارتفع فوق كل شئ، وفوق كل جبل، ثلاثين ذراعا. وقال غيره: خمسة عشر ذراعا. وقيل: إن سفينة نوح سارت لعشر مضين من رجب، فسارت ستة أشهر حتى طافت الأرض كلها، لا تستقر في موضع حتى أتت الحرم، فطافت بموضع الكعبة أسبوعا، وكان الله سبحانه رفع البيت إلى السماء، ثم سارت بهم حتى انتهت إلى (الجودي) وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه اليوم العاشر من المحرم. وروى أصحابنا: عن أبي عبد الله عليه السلام أن نوحا ركب السفينة في أول يوم من رجب، فصام وأمر من معه أن يصوموا ذلك اليوم، وقال: من صام ذلك اليوم تباعدت عنه النار مسيرة سنة (ونادى نوح ابنه) كنعان، وقيل: إن اسمه يام (وكان في معزل) أي: في قطعة من الأرض غير القطعة التي كان نوح فيها حين ناداه. وقيل: معناه كان في ناحية من دين أبيه أي: قد اعتزل دينه، وكان نوح يظن أنه مسلم، فلذلك دعاه. وقيل: كان في معزل من السفينة (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) دعا ابنه إلى أن يركب معه في السفينة ليسلم من الغرق. قال الحسن: كان ينافق أباه، فلذلك دعاه. وقال أبو مسلم: دعاه بشرط الإيمان، ومعناه يا بني آمن بالله، ثم اركب معنا، ولا تكن على دين الكافرين. وعلى القول الأول يكون معناه: لا تتخلف مع الكافرين فتغرق معهم فأجابه ابنه: (قال سآوي إلى جبل) أي: سأرجع إلى مأوى من جبل (يعصمني من الماء) أي: يمنعني من آفات الماء (قال) نوح (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) أي: لا مانع، ولا دافع اليوم من عذاب الله، إلا من رحمه الله بإيمانه، فآمن بالله يرحمك الله (وحال بينهما الموج فكان) أي: فصار (من المغرقين).
[ 281 ]
(وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويسمآء أقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين (44). اللغة: البلع: إجراء الشئ في الحلق إلى الجوف. والإقلاع: إذهاب الشئ من أصله حتى لا يرى له أثر. يقال: أقلعت السماء: إذا ذهب مطرها حتى لا يبقى شئ منه. وأقلع عن الأمر: إذا تركه رأسا. المعنى: ثم بين سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان، فقال: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أي: قال الله سبحانه للأرض: انشفي ماءك الذي نبعت به العيون، واشربي ماءك حتى لا يبقى على وجهك شئ منه وهذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدة، فجرى مجرى أن قيل لها ابلعي فبلعت (ويا سماء أقلعي) أي: وقال تعالى للسماء: يا سماء ! أمسكي عن المطر. وهذا إخبار عن إقشاع السحاب، وانقطاع المطر في أسرع زمان، فكأنه قال لها: أقلعي فأقلعت (وغيض الماء) أي: ذهب به عن وجه الأرض إلى باطنه، والمعنى: ونشفت الأرض ماءها. ويقال إن الأرض ابتلعت جميع مائها وماء السماء، لقوله (وغيض الماء). ويقال: لم تبتلع ماء السماء لقوله: (ابلعي ماءك) وإن ماء السماء صار بحارا وأنهارا، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. (وقضي الأمر) أي وقع إهلاك الكفار على التمام، وفرغ من الأمر. وقيل: وقضي الأمر بنجاة نوح ومن معه (واستوت على الجودي) أي: استقرت السفنية على الجبل المعروف. قال الزجاج: هو بناحية آمد، وقال غيره بقرب جزيرة الموصل. قال زيد بن عمرو بن نفيل: سبحانه، ثم سبحانا يعود له، وقبله سبح الجودى، والجمد (1) وقال أبو مسلم: الجودي اسم لكل جبل وأرض صلبة. وفي (كتاب النبوة) مسندا إلى أبي بصير: عن أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: كان نوح لبث في السفينة ما شاء الله، وكانت مأمورة، فخلى سبيلها، فأوحى الله إلى الجبال: إني واضع سفينة نوح على جبل منكن، فتطاولت الجبال، وشمخت، (1) وفي رواية الحموي في (معجم البلدان): (نسبح الله تسبيحا نجود به * وقبله. اه). والجمد - بضمتين -: جبل بنجد لبني نصر. وقد ينسب هذا الشعر إلى ورقة بن نوفل. (*)
[ 282 ]
وتواضع الجودي، وهو جبل بالموصل. فضرب جؤجؤ السفينة الجبل، فقال نوح عند ذلك: يا مريا اتقن، وهو بالعربية يا رب أصلح. وفي رواية أخرى يا رهمان اتقن. وتأويله: يا رب أحسن. وقيل: أرست السفينة على الجودي شهرا. (وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي: قال الله تعالى ذلك، ومعناه: أبعد الله الظالمين من رحمته، لإيرادهم أنفسهم مورد الهلاك. وإنما انتصب على المصدر، وفيه معنى الدعاء. ويجوز أن يكون هذا من قول الملائكة، أو من قول نوح والمؤمنين. وفي هذه الآية من بدائع الفصاحة، وعجائب البلاغة، ما لا يقارب كلام البشر، ولا يدانيه منها أنه خرج مخرج الأمر، وإن كانت الأرض والسماء من الجماد، ليكون أدل على الإقتدار. ومنها: حسن تقابل المعنى، وائتلاف الألفاظ. ومنها: حسن البيان في تصوير الحال. ومنها: الإيجاز من غير إخلال، إلى غير ذلك مما يعلمه من تدبره، وله معرفة بكلام العرب، ومحاوراتهم. ويروى أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن، فعكفوا على لباب البر، ولحوم الضأن، وسلاف الخمر، أربعين يوما، لتصفو أذهانهم. فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شئ من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين. وتركوا ما أخذوا فيه، وافترقوا. (ونادا نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين (46) قال رب إنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخاسرين (47) قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49). القراءة: قرأ الكسائي، ويعقوب، وسهل: (أنه عمل غير صالح) على
[ 283 ]
الفعل، ونصب (غير). والباقون: (عمل) اسم مرفوع منون، (غير) بالرفع. وقرأ ابن كثير: (فلا تسألن) مشددة النون مفتوحة. وقرأ أبو عمرو، ويعقوب، وسهل: (فلا تسألني) خفيفة النون مثبتة الياء. وقرأ أهل الكوفة خفيفة النون بغير ياء. وقرأ أهل المدينة غير قالون: (فلا تسألني) مشددة النون مثبتة الياء. وقرأ ابن عامر وقالون: (فلا تسألن) مشددة النون مكسورة بغير ياء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (أنه عمل) فنون فالمراد: إن سؤالك ما ليس لك به علم عمل غير صالح. ويحتمل أن يكون الضمير في (انه) لما دل عليه قوله: (اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) فيكون تقديره: إن كونك مع الكافرين، وانحيازك إليهم، وتركك الركوب معنا، والدخول في جملتنا، عمل غير صالح. ويجوز أن يكون الضمير لابن نوح، كأنه جعل عملا غير صالح، كما يجعل الشئ الشئ لكثرة ذلك منه، كقولهم: الشعر زهير، أو يكون المراد: إنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف. ومن قرأ (إنه عمل غير صالح) فيكون في المعنى كقراءة من قرأ (إنه عمل غير صالح) وهو يجعل الضمير لابن نوح، وتكون القراءتان متفقتين في المعنى، وإن اختلفتا في اللفظ. ومن ضعف هذه القراءة بأن العرب لا تقول هو يعمل غير حسن، حتى يقولوا عمل غير حسن، فالقول فيه أنهم يقيمون الصفة مقام الموصوف، عند ظهور المعنى، فيقول القائل: قد فعلت صوابا، وقلت حسنا بمعنى فعلت فعلا صوابا، وقلت قولا حسنا. قال عمر بن أبي ربيعة: أيها القائل غير الصواب أخر النصح، وأقلل عتابي وقال أيضا: وكم من قتيل ما يباء به دم ومن غلق رهن إذا لفه منى (1) ومن مالئ عينيه من شئ غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى (2) أراد وكم من انسان قتيل، ونظائره كثيرة. ومن قرأ (فلا تسألن) بفتح اللام، ولم يكسر النون، عدى السؤال إلى مفعول واحد في اللفظ والمعنى، على التعدي (1) وفي بعض النسخ (ومن غلق رهنا إذا ضمه) وما يباء به دم أي: ليس من يكافئه فيقتل به. وغلق الرهن: إذا صار لا سبيل إلى فكاكه. (2) الدمى جمع الدمية: الصنم. (*)
[ 284 ]
إلى مفعول ثان. ومن كسر النون هاهنا فإنه يدل على تعدية السؤال إلى مفعولين أحدهما: اسم المتكلم، والآخر اسم الموصول. وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات، كما حذفت النون من قولهم اني كذلك. وكما حذفت النون من قوله (يسوء الفاليات إذا فليني) (1). وأما إثبات الياء في الوصل، فهو الأصل، وحذفها أخف، والكسرة تدل عليها. الاعراب: قوله: (ما ليس لك به علم) يحتمل قوله به في الآية وجهين أحدهما: أن يكون كقوله (كان جزائي بالعصا أن أجلدا) إذا قدمت بالعصا، وكقوله (وكانوا فيه من الزاهدين وإني لكما لمن الناصحين وأنا على ذلكم من الشاهدين) وزعم أبو الحسن أن ذلك إنما يجوز في حروف الجر، والتقدير فيه التعليق بمضمر يفسره هذا الذي ظهر بعد، وإن كان لا يجوز تسلطه عليه. ومثل ذلك قوله (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) فانتصب (يوم يرون) بما دل عليه، لا بشرى يومئذ. ولا يجوز لما بعد لا هذه أن يتسلط على (يوم يرون) وكذلك (اني لكما لمن الناصحين) متعلق بما دل عليه النصح المظهر، والتقدير إني ناصح لكما لمن الناصحين، وكذلك به في قوله (ما ليس لك به علم) يتعلق بما يدل عليه قوله علم الظاهر، وإن لم يجز أن يعمل فيه. والوجه الآخر أن يكون متعلقا بالمستقر، وهو العامل فيه كتعلق الظرف بالمعاني، كما تقول ليس لك فيه رضا، فيكون به في الآية بمنزلة فيه، والعلم يراد به العلم المتيقن الذي يعلم به الشئ على الحقيقة، ليس العلم الذي يعلم به الشئ على ظاهره، كالذي في قوله (فإن علمتموهن مؤمنات) ونحو ما يعلمه الحاكم بشهادة الشاهدين، واقرار المقر بما يدعي، ونحو ذلك مما يعلم به العلم الظاهر الذي يسع الحاكم الحكم بالشئ معه. (تلك من أنباء الغيب) تلك: مبتدأ. ومن أنباء الغيب: الخبر. ونوحيها إليك: خبر ثان. وإن شئت كان في موضع الحال أي: تلك كائنة من أنباء الغيب، موحاة إليك. وإن شئت كان تلك: مبتدأ، ونوحيها: الخبر. والجار من صلة نوحيها: أي تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب. ولا يجوز أن يكون من زيادة على تقدير تلك أنباء الغيب، لأنها لا تزاد في الموجب، ويجوز على قول الأخفش. (1) قائله عمرو بن معد يكرب، وقبله: (تراه كالثغام يعل مسكا) وقد مر. والشاهد في (فليني) فإن أصله فلينني. (*)
[ 285 ]
المعنى: ثم حكى سبحانه تمام قصة نوح عليه السلام، فقال: (ونادى نوح ربه) نداء تعظيم، ودعاء (فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) معناه: يا مالكي، وخالقي، ورازقي ! وعدتني بتنجية أهلي، وان ابني من أهلي، وإن وعدك الحق لا خلف فيه، فنجه إن كان ممن وعدتني بنجاته (وأنت أحكم الحكمين) في قولك، وفعلك (قال) الله سبحانه (يا نوح إنه ليس من أهلك) وقد قيل في معناه أقوال: أحدها أنه كان ابنه لصلبه، والمعنى أنه ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم معك، لأن الله سبحانه قد استثنى من أهله لذين وعده أن ينجيهم من أراد إهلاكهم بالغرق، فقال: (إلا من سبق عليه القول) عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرمة، واختاره الجبائي. وثانيها أن المراد بقوله (ليس من أهلك) أنه ليس على دينك، فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله، عن جماعة من المفسرين. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سلمان منا أهل البيت، وإنما أراد على ديننا. وروى علي بن مهزيار عن الحسن بن علي الوشا، عن الرضا عليه السلام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تعالى قال لنوح (إنه ليس من أهلك) لأنه كان مخالفا له، وجعل من اتبعه من أهله. ويؤيد هذا التأويل أن الله سبحانه قال على طريق التعليل: (إنه عمل غير صالح) فبين أنه إنما خرج عن أحكام أهله لكفره وسوء عمله. وروي عن عكرمة أنه قال: كان ابنه، ولكنه كان مخالفا له في العمل والنية، فمن ثم قيل (إنه ليس من أهلك) وثالثها: إنه لم يكن ابنه على الحقيقة، وإنما ولد على فراشه، فقال عليه السلام: إنه ابني، على ظاهر الأمر، فأعلمه الله تعالى أن الأمر بخلاف الظاهر، ونبهه على خيانة امرأته، عن الحسن، ومجاهد. وهذا الوجه بعيد من حيث إن فيه منافاة القرآن، لأنه تعالى قال: (ونادى نوح ابنه) ولأن الأنبياء يجب أن ينزهوا عن مثل هذه الحال، لأنها تعير وتشين، وقد نزه الله أنبياءه عما دون ذلك، توقيرا لهم، وتعظيما عما ينفر من القبول منهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما زنت امرأة نبي قط، وكانت الخيانة من امرأة نوح أنها كانت تنسبه إلى الجنون، والخيانة من امرأة لوط أنها كانت تدل على أضيافه ورابعها: إنه كان ابن امرأته، وكان ربيبه، ويعضده قراءة من قرأ (ابنه) بفتح الهاء، وابنها، والمعتمد المعول عليه في تأويل
[ 286 ]
الآية القولان الأولان (إنه عمل غير صالح) قد ذكرنا الوجه في القراءتين، واختار المرتضى (رض) في تأويله: ان التقدير أن ابنك ذو عمل غير صالح، واستشهد على ذلك بقول الخنساء: ما أم سقب على بو تطيف به قد ساعدتها على التحنان أظئار (1) ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال، وإدبار (2) أرادت فإنما هي ذات إقبال وإدبار. قال: ومن قال إن المعني: إن سؤالك إياي ما ليس لك به علم، عمل غير صالح، فإن من امتنع من أن يقع على الأنبياء شئ من القبائح، يدفع ذلك. فإذا قيل له: فلم قال (فلا تسألن ما ليس لك به علم) وكيف قال نوح: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) قال: لا يمتنع أن يكون نهي عن سؤال ما ليس لك به علم، وإن لم يقع منه، وأن يكون تعوذ من ذلك، وإن لم يوقعه، كما نهى الله سبحانه نبيه عن الشرك في قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) وإن لم يجز وقوع ذلك منه. وإنما سأل نوح عليه السلام نجاة ابنه بشرط المصلحة، لا على سبيل القطع. فلما بين الله تعالى أن المصلحة في غير نجاته، لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال. وقوله: (إني أعظك) أي: أحذرك، والوعظ: الدعاء إلى الحسن، والزجر عن القبيح، على وجه الترغيب والترهيب (أن تكون من الجاهلين) معناه: لا تكن منهم. قال الجبائي: يعني إني أعظك لئلا تكون من الجاهلين، ولا شك أن وعظه سبحانه يصرف عن الجهل، وينزه عن القبيح (قال) نوح عند ذلك: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) أي: أعتصم بك أن أسألك ما لا أعلم أنه صواب، وأنك تفعله، ومعنى العياذ بالله: الإعتصام به طلبا للنجاة. ومعناه ههنا: الخضوع والتذليل لله سبحانه، ليوفقه ولا يكله إلى نفسه. وإنما حذف (يا) من قوله (رب) وأثبته في قوله (يا نوح) لأن ذلك نداء تعظيم، وهذا نداء تنبيه. فوجب أن يأتي بحرف التنبيه (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) إنما قال ذلك على (1) السقب: الذكر من ولد الناقة. والبو: أن ينحر ولد الناقة، ويؤخذ جلده فيحشى، ويدنى من أمه لتسلى به. التحنان: الحنين. والأظئار جمع الظئر: وهي التي تعطف على ولد غيرها. (2) يفول: إن هذه الناقة ترعى ما دامت ناسية ولدها الذي ذبح، فإذا تذكرته أخذتها رعدة واضطراب، فصارت تقبل وتدبر. وشبهت نفسها بها. (*)
[ 287 ]
سبيل التخشع والاستكانة لله تعالى، وإن لم يسبق منه ذنب. ثم حكى الله سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرت السفينة على الجبل، بعد خراب الدنيا بالطوفان، فقال: (قيل يا نوح اهبط) أي: إنزل من الجبل، أو من السفينة بسلام منا) أي: بسلامة منا ونجاة. وقيل: بتحية وتسليم منا عليك (وبركات عليك) أي: ونعم دائمة، وخيرات نامية ثابتة، حالا بعد حال، عليك (وعلى أمم ممن معك) يعني الأمم الذين كانوا معه في السفينة من المؤمنين. والأمة: الجماعة الكثيرة المتفقة على ملة واحدة. وقيل: معناه وعلى أمم من ذرية من معك. وقيل: يعني بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه، لأن الله تعالى جعل فيها البركة. (وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) معناه: أنه يكون من نسلهم أمم سنمتعهم في الدنيا بضروب من النعم، فيكفرون ونهلكهم، ثم يمسهم بعد الهلاك عذاب مؤلم. وإنما ارتفع (أمم) لأنه استأنف الإخبار عنهم. وروي عن الحسن أنه قال: هلك المتمتعون في الدنيا، لأن الجهل يغلب عليهم والغفلة، فلا يتفكرون إلا في الدنيا وعمارتها وملاذها. ثم أشار سبحانه إلى ما تقدم ذكره من اخبار قوم نوح فقال (تلك) أي: تلك الأنباء (من أنباء الغيب) أي: من أخبار ما غاب عنك معرفته. ولو قال (ذلك) كان جائزا، لأن المصادر قد يكنى عنها بالتذكير، كما يكنى بالتأنيث. يقولون: قدم فلان ففرحت بها أي: بقدمته، وفرحت به أي: بقدومه. (نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) أي: إن هذه الأخبار التي أعلمناكها، لم تكن تعلمها أنت، ولا قومك من العرب يعرفونها من قبل إيحائنا إليك، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب وسير. وقيل: من قبل هذا القرآن، وبيان القصص فيه (فاصبر) أي: فاصبر على القيام بأمر الله، وعلى أذى قومك يا محمد، كما صبر نوح على أذى قومه. وهذا أحد الوجوه التي لأجلها كرر الله قصص الأنبياء عليهم السلام، ليصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان يقاسيه من أمور الكفار الجهال، حالا بعد حال (إن العاقبة للمتقين) أي: إن العاقبة المحمودة، وخاتمة الخير والنصرة، للمتقين، كما كانت لنوح عليه السلام. (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يا قوم لآ أسئلكم عليه أجرا إن أجرى إلا على
[ 288 ]
الذى فطرني أفلا تعقلون (51) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركئ الهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55) إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شئ حفيظ (57) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ (58) وتلك عاد جحدوا بئايات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألآ إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود (60). اللغة: الفطر: الشق عن أمر الله، كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق عنه فظهر. المدرار: الدار الكثير المتتابع على قدر الحاجة إليه، دون الزائد المفسد المضر. ومفعال للمبالغة كقولهم معطار ومقدام. واعتراك: من قولهم عراه يعروه إذا أصابه. قال الشاعر: (من القوم يعروه اجتراء ومأثم) والفرق بين الإنظار والتأخير: إن الإنظار إمهال لينظر صاحبه في أمره. والتأخير: خلاف التقديم. والناصية: قصاص الشعر وأصله الإتصال، من قولهم مفازة تناصي مفازة: إذا كانت الأخيرة متصلة بالأولى. قال: (فئ تناصيها بلاد فئ) وقال أبو النجم: إن يمس رأسي أشمط العناصي كأنما فرقه المناصي (1) (1) الأشمط: الأبيض. والعناصي جمع عنصوة: الخصلة من الشعر. والمناصاة: مد الناصية من قولهم: نصوت الرجل: إذا مددت ناصيته. (*)
[ 289 ]
أي: يجاذب ليتصل به في مرة. العنيد: العاتي الطاغي، عند يعند عنودا: إذا تجبر. وعند عن الأمر ؟ إذا حاد عنه فهو عاند، وعنود. الاعراب: (أخاهم): نصب بتقدير (أرسلنا) كأنه قال: وأرسلنا إلى عاد أخاهم. و (هودا) عطف بيان و (عاد): مصروف لأن المراد به الحي. وقد يقصد به القبيلة فلا يصرف، قال: لو شهد عاد في زمان عاد لأبتزها مبارك الجلاد (1) (غيره) من ضم الراء حمل الصفة على الموضع. ومن جره حمله على اللفظ. قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال صاحب كتاب (كشف الجامع) النحوي: إن حرف نفي لحقت (نقول) فنفت جميع القول إلا قولا واحدا، وهو قولهم (اعتراك بعض آلهتنا بسوء). والتقدير: ما نقول قولا إلا هذه المقالة. والفعل يدل على المصدر، وعلى الظرف، وعلى الحال. ويجوز أن يذكر الفعل ثم يستثنى من مدلوله ما دل عليه من المصادر والظروف والأحوال، فنقول (إعتراك) مستثنى من المصدر الذي دل عليه (نقول) كقوله تعالى: (أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى) فنصب (موتتنا) على الاستثناء، لأنه مستثنى من ضروب الموت الذي دل عليه قوله (بميتين) ومما جاء من ذلك في الظروف قوله (ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) فساعة: إستثناء مما دل عليه (يلبثوا) من الأوقات. ومما جاء من ذلك في الحال قوله (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) التقدير: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل أي: بعهد من الله إنتهى كلامه. وقوله (فإن تولوا) تقديره فإن تتولوا، فحذف إحدى التائين لدلالة الكلام عليه. وقوله (بعدا لعاد) منصوب على المصدر أي: أبعدهم الله بعدا، فوقع بعدا موقع أبعاد، كما وقع نبات موقع إنبات. في قوله (والله أنبتكم من الأرض نباتا). المعنى: ثم عطف سبحانه قصة هود على قصة نوح، فقال: (وإلى عاد أخاهم هودا) أراد أخاهم في النسب، دون الدين (قال يا قوم اعبدوا الله) وحده، وأطيعوه دون الأصنام (ما لكم من إله غيره) دخول من يفيد التعميم، نفى أن يكون (1) مبارك الإبل: الموضع الذي تبرك أي: تنيخ فيه. والجلاد من النوق: لتي لا أولاد لها فتصبر على الحر والبرد. أو الكبار التي لا صغار فيها واللفظ كناية. (*)
[ 290 ]
لهم معبود يستحق العبادة غير الله، عز اسمه (إن أنتم إلا مفترون) أي: ما أنتم إلا كاذبون في قولكم إن الأصنام آلهة (يا قوم لا أسالكم عليه أجرا) أي: لست أطلب منكم على دعائي لكم إلى عبادة الله جزاء (إن أجري إلا على الذي فطرني) أي: ليس جزائي إلا على الله الذي خلقني (أفلا تعقلون) عني ما أقول لكم فتعلمون أن الأمر على ما أقوله. (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) قد بينا وجه تقديم الاستغفار على التوبة في أول هذه السورة (يرسل السماء عليكم مدرارا) أي: يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا دارا. وقيل: إنهم كانوا قد أجدبوا، فوعدهم هود أنهم إن تابوا أخصبت بلادهم، وأمرعت وهادهم (1)، وأثمرت أشجارهم، وزكت ثمارهم بنزول الغيث الذي يعيشون به. وهذا مثل قوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب). (ويزدكم قوة إلى قوتكم) فسرت القوة هنا بالمال، والولد، والشدة، وكل ذلك مما يتقوى به الإنسان. قال علي بن عيسى: يريد عزا إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم. وقيل: قوة في إيمانكم إلى قوة أبدانكم. (ولا تتولوا) عما أدعوكم إليه (مجرمين) أي: مشركين كافرين (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) أي: بحجة ومعجزة تبين صدقك (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) أي: لسنا بتاركي عبادة الأصنام لأجل قولك، وقيل: إن (عن) جعلت مكان الباء، فمعناه بقولك (وما نحن لك بمؤمنين) أي: مصدقين. وإنما حملهم على دفع البينة مع ظهورها أشياء، منها تقليد الآباء والرؤساء، ومنها إتمامهم لمن جاء بها حيث لم ينظروا فيها، ومنها أنه دخلت عليهم الشبهة في صحتها، ومنها اعتقادهم لأصول فاسدة دعتهم إلى جحدها. وإنما حملهم على عبادة الأوثان أشياء منها: اعتقادهم أن عبادتها تقربهم إلى الله زلفى. ومنها أن الشيطان ربما ألقى إليهم أن عبادتها تحظيهم في الدنيا. ومنها أنهم ربما اعتقدوا مذهب المشبهة، فاتخذوا الأوثان على صورته عندهم فعبدوها (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) هذا تمام الحكاية عن قوم هود، جوابا لهود. (1) مرع المكان: أخصب. ووهاد جمع وهد: المطمئن من الأرض، والمكان المنخفض كأنه حفرة. (*)
[ 291 ]
والمعنى: لسنا نقول فيك إلا أنه أصابك بعض آلهتنا بسوء، فخبل عقلك لشتمك لها، وسبك إياها. ذهب إليه ابن عباس، ومجاهد (قال) أي: قال هود لقومه (إني أشهد الله واشهدوا) أي: وأشهدكم أيضا بعد إشهاد الله (أني برئ مما تشركون من دونه) أي: إن كنتم تزعمون أن آلهتكم عاقبتني لطعني عليها، فإني على بصيرة في البراءة مما تشركونه مع الله من آلهتكم التي تزعمون أنها أصابتني بسوء، وإنما أشهدهم على ذلك وإن لم يكونوا أهل شهادة، من حيث كانوا كفارا فساقا، إقامة للحجة عليهم، لا لتقوم الحجة بهم، فقال هذا القول إعذارا وإنذارا. وقيل: إنه أراد بقوله اشهدوا واعلموا كما قال شهد الله أي: علم الله. (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) أي: فاحتالوا واجتهدوا أنتم وآلهتكم في إنزال مكروه بي، ثم لا تمهلوني. قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الأنبياء، أن يكون الرسول وحده، وأمته متعاونة عليه، فيقول لهم: كيدوني فلا يستطيع واحد منهم ضره. وكذلك قال نوح لقومه: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) الآية. وقال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: فإن كان لكم كيد فكيدون. ومثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله، وبأنه يحفظه عنهم، ويعصمه منهم. ثم ذكر هود عليه السلام هذا المعنى. فقال: (إني توكلت على الله ربى وربكم) أي: فوضت أمري إلى الله سبحانه متمسكا بطاعته، تاركا لمعصيته. وهذا هو حقيقة التوكل على الله سبحانه (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) أي: ما من حيوان يدب على وجه الأرض، إلا وهو مالك لها، يصرفها كيف يشاء، ويقهرها، وجعل الأخذ بالناصية كناية عن القهر والقدرة، لأن من أخذ بناصية غيره، فقد قهره وأذله. (إن ربي على صراط مستقيم) أي: إنه سبحانه مع كونه قاهرا على عدل فيما يعامل به عباده، والمعنى أنه يعدل ولا يجور. وقيل: معناه إن ربي في تدبير عباده على طريق مستقيم، لا عوج فيه، ولا اضطراب، فهو يجري على سبيل الصواب، ويفعل ما يقتضيه الحكمة (فإن تولوا) هذا حكاية عما قاله هود عليه السلام لقومه والمعنى: فإن تتولوا. ويجوز أن يكون حكاية عما قاله سبحانه لهود، والمعنى: فإن تولوهم (ف) قل لهم (قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) أي: ليس ذلك لتقصير مني في إبلاغكم، وإنما هو لسوء اختياركم في إعراضكم عن نصحي، فقد أبلغتكم جميع ما أوحي إلي.
[ 292 ]
(ويستخلف ربي قوما غيركم) أي: ويهلككم ربي بكفركم، ويستبدل بكم قوما غيركم، يوحدونه، ويعبدونه (ولا تضرونه شيئا) يعني إذا استلف غيركم، فجعلهم بدلا منكم، لا تقدرون له على ضر. وقيل: معناه لا تضرونه بتوليكم، وإعراضكم شيئا، ولا ضرر عليه في إهلاككم، لأنه لم يخلقكم لحاجة منه إليكم (إن ربي على كل شئ حفيظ) يحفظه من الهلاك إن شاء، ويهلكه إذا شاء. وقيل: معناه إن ربي يحفظني عنكم، وعن أذاكم. وقيل: معناه إن ربي على كل شئ من أعمال عباده حفيظ حتى يجازيهم عليها (ولما جاء أمرنا) بهلاك عاد (نجينا هودا والذين آمنوا معه) من الهلاك. وقيل: إنهم كانوا أربعة آلاف (برحمة منا) أي: بما أريناهم من الهدى والبيان عن ابن عباس. وقيل: برحمة منا أي: بنعمة منا، وهي النجاة أي: أنجيناهم برحمة ليعلم أنه عذاب أريد به الكفار، لا إتفاق وقع (ونجيناهم من عذاب غليظ) أي: كما نجيناهم من عذاب الدنيا، نجيناهم من عذاب الآخرة. والغليظ: الثقيل العظيم. ويحتمل أن يكون هذا صفة للعذاب الذي عذب به قوم هود. ثم ذكر سبحانه كفر عاد، فقال: (وتلك) أي: وتلك القبيلة (عاد جحدوا بآيات ربهم) يعني معجزات هود الدالة على صحة نبوته (وعصوا رسله) إنما جمع الرسل، وكان قد بعث إليهم هود، لأن من كذب رسولا واحدا، فقد كفر بجميع الرسل، ولأن هودا كان يدعوهم إلى الإيمان به، وبمن تقدمه من الرسل، وبما أنزل عليهم من الكتب، فكذبوا بهم جميعا، فلذلك عصوهم. (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) أي: وأتبع السفلة والسقاط الرؤساء. وقيل: إن الجبار: من يقتل ويضرب على غضبه، والعنيد: الكثير العناد الذي لا يقبل الحق (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة) أي: واتبع عادا بعد إهلاكهم في الدنيا بالإبعاد عن الرحمة، فإن الله تعالى أبعدهم من رحمته، وتعبد المؤمنين بالدعاء عليهم باللعن (ويوم القيامة) أي وفي يوم القيامة يبعدون من رحمة الله، كما بعدوا في الدنيا منها، ويلعنون بأن يدخلوا النار، فإن اللعنة: الدعاء بالإبعاد، من قولك لعنه إذا قال عليه لعنة الله. وأصله الإبعاد من الخير (ألا) إبتداء وتنبيه (إن عادا كفررا ربهم) أراد بربهم، فحذف الباء كما قالوا أمرتك الخير أي: بالخير (ألا بعدا لعاد قوم هود) أي: أبعدهم الله من رحمته، فبعدوا بعدا. (* وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
[ 293 ]
هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب (61) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد أآباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونا إليه مريب (62) قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (63) ويا قوم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه، برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز (66) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (67) كأن لم يغنوا فيها ألآ إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68). القراءة: قرأ أهل المدينة، غير إسماعيل، والكسائي، والبرجمي، والشموني، عن أبي بكر، عن عاصم: (ومن خزي يومئذ) بفتح الميم ههنا (وعذاب يومئذ) في المعارج. والباقون: بكسر الميم على الإضافة. وقرأ حمزة، وحفص، عن عاصم، ويعقوب: إلا أن (ثمود) غير منون في جميع القرآن. وقرأ الباقون: (ثمودا) بالتنوين ههنا، وفي الفرقان، والعنكبوت، والنجم، لأنه مكتوب بالألف في هذه المواضع. وأبو بكر عن عاصم يقرأ (وثمود) في والنجم بغير تنوين وينون الباقي. وروى عنه البرجمي، ومحمد بن غالب، عن الأعشى في والنجم بالتنوين أيضا. وقرأ الكسائي وحده: (ألا بعدا لثمود) بالجر والتنوين. والباقون: (لثمود) بفتح الدال. الحجة: قال أبو علي: قوله (ومن خزي يومئذ) يوم في قوله (يومئذ) ظرف فتحت أو كسرت في المعنى، إلا أنه اتسع فيه فجعل إسما كما اتسع في قوله (بل
[ 294 ]
مكر الليل والنهار) فأضيف المكر إليهما، وإنما هو فيهما، فكذلك العذاب، والخزي، والفزع، في قوله (من فزع يومئذ) أضفن إلى اليوم. والمعنى على أن ذلك كله في اليوم، كما أن المكر في الليل والنهار. يدلك على ذلك قوله: (ولعذاب الآخرة أخزى)، وقوله: لا يحزنهم الفزع الأكبر)، وقوله: (فزع من في السموات ومن في الأرض)، وقوله: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) وأما من كسر الميم من (يومئذ) فلأن يوما إسم معرب، فأضيف إليه ما أضيف من العذاب، والخزي، والفزع، فانجر بالإضافة، ولم يفتح اليوم، فتبنيه لإضافته إلى المبني، لأن المضاف منفصل من المضاف إليه، ولا يلزمه الإضافة. فلما لم يلزم الإضافة المضاف، لم يلزم فيه البناء، يدلك على ذلك أنك تقول: ثوب خز، ودار زيد، فلا يجوز فيه إلا الإعراب، وإن كان الإسمان جعلا بمعنى الحرف، فلم يلزمها البناء كما يلزم ما لا ينفك منه معنى الحرف، نحو أين وكيف ومتى. فلما لم يبن المضاف للإضافة، وإن كان قد عمل عمل الحرف، من حيث كان غير لازم، كذلك لم يبن يوم للإضافة إلى إذ، لأن إضافته لم تلزم، كما لم يبن المضاف. وإن كان قد عمل في المضاف إليه بمعنى اللام، أو بمعنى من، لما لم تلزم الإضافة. وأما من فتح فقال (من عذاب يومئذ) و (من خزي يومئذ) ففتح مع أنه في موضع جر، فلأن المضاف يكتسي من المضاف إليه التعريف والتنكير. ومعنى الاستفهام والجزاء في نحو غلام من تضرب، وغلام من تضرب أضربه. والنفي في نحو قولهم ما أخذت باب دار أحد. فلما كان يكتسي من المضاف إليه هذه الأشياء، إكتسى منه الإعراب والبناء أيضا، إذا كان المضاف من الأسماء الشائعة نحو يوم وحين ومثل. ويشبه بهذا الشياع الأسماء الشائعة المبنية نحو: أين وكيف، ولو كان المضاف مخصوصا نحو رجل وغلام، لم يكتس منه البناء، كما اكتسى منه الأسماء الشائعة، فمما جاء من ذلك قوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا، وقلت: ألما أصح، والشيب وازع (1) ومن ذلك قوله (أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) فمثل في موضع رفع في قول سيبويه، وقد جرى وصفا على النكرة، إلا أنه فتح للإضافة إلى (ما). ومن ذلك (1) قائله النابغة الذبياني وذكره في (جامع الشواهد). (*)
[ 295 ]
قول الشاعر: وتداعى مدخراه بدم مثل ما أثمر حماض الجبل (1) لما أضاف مثل إلى المبني، وكان إسما شائعا، بناه ولم يعربه. وذهب أبو عثمان إلى أنه جعل مثلا مع ما بمنزلة إسم واحد، فبنى مثلا على الفتح. ولا دلالة قاطعة على هذا القول في هذا البيت، وإن كان ما ذهب إليه مستقيما. فأما الكسرة في (إذ) فلالتقاء الساكنين، وذلك أن إذ من حكمها أن تضاف إلى الجملة من الابتداء والخبر، فلما اقتطعت عنها الإضافة، نونت ليدل التنوين على أن المضاف إليه قد حذف، فكسرت الذال لسكونها، وسكون التنوين. وقال في صرف ثمود، وترك صرفه: إن هذه الأسماء التي تجري على القبائل والأحياء على ضروب أحدها: أن يكون إسما للحي والأب والآخر: أن يكون إسما للقبيلة والثالث: أن يكون الغالب عليه الأب، والحي، والقبيلة والرابع: أن يستوي ذلك في الإسم فيجري على الوجهين، ولا يكون لأحد الوجهين مزية على الآخر في الكثرة. فمما جاء على أنه إسم الحي، قولهم: ثقيف وقريش وكل ما لا يقال فيه بنو فلان. وأما ما جاء إسما للقبيلة فنحو تميم قالوا: تميم بنت مر. قال سيبويه: سمعناهم يقولون قيس ابنة غيلان، وتميم صاحبة ذلك. وقالوا تغلب ابنة وائل، قال: لولا فوارس تغلب ابنة وائل نزل العدو عليك كل مكان وأما ما غلب عليه إسم الحي أو القبيلة، فقد قالوا: باهلة بن أعصر. وقالوا: يعصر وباهلة اسم امرأة. قال سيبويه: ولكنه جعل اسم الحي ومجوس لم يجعل إلا اسم القبيلة. وتميم أكثرهم يجعله اسم القبيلة. ومنهم من يجعله إسم الأب. فأما ما استوى فيه أن يكون إسما للقبيلة، وأن يكون إسما للحي، فقال سيبويه: هو ثمود وسبأ، فهما مرة للقبيلتين، ومرة للحيين، وكثرتهما سواء قال: وعادا وثمودا، وقال (ألا إن ثمودا كفروا ربهم) وقال: (وآتينا ثمود الناقة) فإذا استوى في ثمود أن يكون مرة للقبيلة، ومرة للحي، فلم يكن لحمله على أحد الوجهين مزية في الكثرة. فمن صرف في جميع المواضع، كان حسنا، ومن لم يصرف في جميع المواضع، كان حسنا. وكذلك إن صرف في موضع، ولم يصرف في موضع آخر، إلا أنه لا ينبغي (1) الحماض: نبت جبلي زهره أحمر شبه به الدم. (*)
[ 296 ]
أن يخرج عما قرأت به القراء، فإن القراءة سنة متبعة، ومن ذلك قول الشاعر: كسا الله حي تغلب ابنة وائل من اللؤم أظفارا بطيئا نصولها فقال: حي، ثم قال: ابنة وائل فجمع بين الحي والقبيلة. وأما قوله: أولئك أولى من يهود لمدحة إذا أنت يوما قلتها لم تؤنب فقد قامت الدلالة على أن يهود استعملت على أنها للقبيلة، وليس للحي في قوله (أولئك أولى من يهود)، لأن يهود لو كان للحي لصرف، وأنشد أبو الحسن: فرت يهود، وأسلمت جيرانها صمي لما فعلت يهود صمام (1) وكذلك جاء في الحديث تقسم يهود، ومثل يهود في هذا: مجوس، في قول الشاعر: (كنار مجوس تستعر استعارا) (2) ألا ترى أنه لو كان للحي دون القبيلة لانصرف. اللغة: الإنشاء: إيجاد ابتداء من غير استعانة بشئ من الأسباب. وأنشأ فلان حديثا، أو شعرا. والإستعمار: جعل القادر يعمر الأرض كعمارة الدار، ومنه العمرى في الفقه: وهو أن يقول أعطيتك هذه الدار عمري، أو عمرك. والمس، واللمس بمعنى. وفرق علي بن عيسى بينهما بأن المس قد يكون بين جمادين، واللمس لا يكون إلا بين حيين، لما فيه من الإدراك. والجثوم: السقوط على الوجه وقيل: هو القعود على الركبة. وغني بالمكان: إذا أقام به. والمغنى: المنزل، قال النابغة: غنيت بذلك إذ هم لك جيرة منها بعطف رسالة، وتودد وأصل الغنى: الإكتفاء، ومنه الغنى بالمال. والغناء بالمد: الصوت الذي يكتفى به. والغناء: الإكتفاء بحال الشئ، ومنه غني بالمكان: لاكتفائه بالإقامة فيه. (1) قائله أسود بن يعفر، أحد شعراء العرب في الجاهلية، وكان من ندماء النعمان بن المنذر. وصمي صمام أي: أخرسي، ولا تستمعي لمن يطلب إلبك الذهاب والإنصراف، وهم يريدون: زيدي واشتدى. (2) وقبله (أحار أريك برقا هب وهنا) وصدر البيت لا مرئ القيس، وعجزه للتوأم اليشكري قاله حين نازعه امرؤ القيس في الشعر. وتفصيل القصة، وشرح لغات البيت في (اللسان) في مادة (مجس فراجع. (*)
[ 297 ]
الاعراب: (أرأيتم) لا مفعول له ههنا، لأنه معلق كما يعلق إذا دخل الجملة لام الإبتداء في مثل قوله: قد رأيت لزيد خير منك، فكذلك الجزاء. وجواب أن الأولى الفاء، وجواب أن الثانية محذوف، وتقديره إن عصيته فمن ينصرني، إلا أنه استغنى بالأول، فلم يظهر (ومن ينصرني) صورته صورة الاستفهام، ومعناه النفي، فكأنه قال: فلا ناصر لي من الله إن عصيته. وإنما جاز إلغاء رأيت هنا لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها من جهة أنها تفيد لو انفردت عن غيرها، وهو يتعلق بمعناها دون تفصيل لفظها، وقوله: (فيأخذكم) جواب النهي بالفاء، ولذلك نصبه وتقديره: لا يقع منكم مسها بسوء فإن يأخذكم عذاب قريب أي: فأخذ عذاب عاجل اياكم. و (أيام): أصله ايوام، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء الأولى فيها. المعنى: ثم عطف سبحانه على ذلك قصة صالح، فقال. (وإلى ثمود أخاهم صالحا) وكان ثمود بوادي القرى، بين المدينة والشام، وكان عاد باليمن، عن الجبائي ف (قال) لهم صالح: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) مضى تفسيره (هو أنشأكم من الأرض) أي ابتدأ خلقكم من الأرض. لأنه خلق آدم من الأرض، ومرجع نسبكم إليه. (واستعمركم فيها) أي جعلكم عمار الأرض، بأن مكنكم من عمارتها، وأحوجكم إلى السكنى فيها. وقيل: معناه وأعمرها لكم مدة إعماركم من العمرى، عن مجاهد. وقيل: معناه وأطال فيها أعماركم، عن الضحاك قال: وكانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. وقيل: معناه أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه من المساكن، والزراعات، وغرس الأشجار. وفي هذا دلالة على فساد قول من حرم المكاسب، لأنه سبحانه امتن على عباده بأن مكنهم من عمارة الأرض، ولو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه (فاستغفروه ثم توبوا إليه) أي: فاستغفروه من الشرك والذنوب، ثم دوموا على التوبة (إن ربي قريب) برحمته لمن وحده (مجيب) لمن دعاه (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) أي: كنا نرجو منك الخير لما كنت عليه من الأحوال الجميلة قبل هذا القول، فالآن يئسنا منك، ومن خيرك، بإبداعك ما أبدعت. وقيل: معناه كنا نرجوك ونظنك عونا لنا على ديننا (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) إستفهام معناه الإنكار، كأنهم أنكروا أن ينهى الإنسان عن عبادة ما عبده آباؤه (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه) من الدين (مريب) موجب للريبة والتهمة، إذ لم يكن آباؤنا في جهالة، وضلالة. (قال) صالح لهم (يا قوم
[ 298 ]
أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) مر بيانه فيما قبل (وآتاني منه رحمة) أي: وأعطاني الله منه نعمة، وهي النبوة (فمن ينصرني من الله إن عصيته) أي: فمن يمنع عذاب الله عني إن عصيته مع نعمته علي. (فما تزيدونني غير تخسير) أي: ما تزيدونني بقولكم (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) غير نسبتي إياكم إلى الخسارة. والتخسير: مثل التفسيق والتفجير، قال ابن الأعرابي: يريد غير تخسير لكم، لا لي. وقال ابن عباس: ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم. وقيل: معناه إن أجبتكم إلى ما تدعونني إليه كنت بمنزلة من يزداد الخسران (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) أشار إلى ناقته التي جعلها الله معجزته، لأنه سبحانه أخرجها لهم من جوف صخرة يشاهدونها على تلك الصفة، وخرجت كما طلبوه وهي حامل، وكانت تشرب يوما جميع الماء فتنفرد به، ولا ترد الماء معها دابة، فإذا كان يوم لا ترد فيه وردت الواردة كلها الماء، وهذا أعظم آية ومعجزة. وانتصب (آية) على الحال من (ناقة الله) فكأنه قال إنتبهوا إليها في هذه الحال، والمعنى: إن شككتم في نبوتي، فهذه الناقة معجزة لي. وأضافها إلى الله تشريفا لها كما يقال بيت الله. (فذروها تأكل في أرض الله) أي: فاتركوها في حال أكلها، فتكون (تأكل في أرض الله) جملة منصوبة الموضع على الحال، ويجوز أن يكون مرفوعا على الاستئناف، والمعنى: فإنها تأكل في أرض الله من العشب، والنبات (ولا تمسوها) أي: لا تصيبوها (بسوء) قتل، أو، جرح، أو غيره (فيأخذكم) إن فعلتم ذلك (عذاب قريب) أي: عاجل فيهلككم. (فعقروها) أي: عقرها بعضهم، ورضي به البعض، وإنما عقرها أحمر ثمود، وضربت به العرب المثل في الشؤم (فقال) صالح: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) أي: تلذذوا بما تريدون من المدركات الحسنة، من المناظر والأصوات، وغيرها مما يدرك بالحواس، في بلادكم، ثلاثة أيام، ثم يحل بكم العذاب بعد ذلك. ويقال للبلاد دار، لأنها تجمع أهلها، كما تجمع الدار أهلها، ومنه قولهم ديار ربيعة، وديار مضر. وقيل: في داركم يعني دار الدنيا. وقيل: معنى قوله (تمتعوا في داركم) عيشوا في بلدكم. وعبر عن الحياة بالتمتع، لأن الحي يكون متمتعا بالحواس. قالوا: لما عقرت الناقة، صعد فصيلها الجبل، ورغا ثلاث مرات، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، فاصفرت ألوانهم أول يوم،
[ 299 ]
ثم احمرت في الغد، ثم اسودت اليوم الثالث، فهو قوله (ذلك وعد غير مكذوب) أي: إن ما وعدتكم به من العذاب ونزوله بعد ثلاثة أيام، وعد صدق لا كذب فيه. وروى جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما نزل الحجر في غزوة تبوك، قام فخطب الناس، وقال: يا أيها الناس ! لا تسألوا نبيكم الآيات، فهؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم الناقة، وكانت ترد من ذا الفج، فتشرب ماءهم يوم ورودها، ويحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يشربون من مائها يوم غبها (1). فعتوا عن أمر ربهم، فقال: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) وكان وعدا من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة، فأهلك الله من كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم، إلا رجلا كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله تعالى، يقال له أبو رغال. قيل له: يارسول الله ! من أبو رغال ؟ قال: أبو ثقيف. (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا) مر تفسيره في قصة عاد (ومن خزي يومئذ) قال ابن الأنباري: هذا معطوف على محذوف، تقديره نجيناهم من العذاب، ومن خزي يومئذ أي: من الخزي الذي لزمهم ذلك اليوم. والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته، ويستحي من مثله. (إن ربك هو القوي) أي: القادر على ما يشاء (العزيز) الذي لا يمتنع عليه شئ، ولا يمنع عما أراده (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) قيل: إن الله سبحانه أمر جبرائيل فصاح بهم صيحة ماتوا عندها. ويجوز أن يكون الله تعالى خلق تلك الصيحة التي ماتوا عندها. (فأصبحوا في ديارهم) أي: منازلهم (جاثمين) أي: ميتين واقعين على وجوههم. ويقال: جاثمين أي: قاعدين على ركبهم. وإنما قال: (فأصبحوا) لأن العذاب أخذهم عند الصباح. وقيل: أتتهم الصيحة ليلا، فأصبحوا على هذه الصفة. والعرب تقول عند الأمر العظيم: واسوء صباحاه ! (كأن لم يغنوا فيها) أي: كأن لم يكونوا في منازلهم قط، لانقطاع آثارهم بالهلاك، إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي الذي نزل بهم (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) قد سبق تفسيره. (1) الغب - بالكسر -: من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما، وتدعه يوما، ثم تعود. (*)
[ 300 ]
(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرا قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رءآ أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنآ أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71) قالت يا ويلتا ءألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا لشئ عجيب (72) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (73) فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرا يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه وقد جاء أمر ربك وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76). القراءة: قرأ حمزة، والكسائي (قال سلم) بكسر السين وسكون اللام، هنا وفي الذاريات. وقرأ الباقون: (قال سلام). وقرأ (يعقوب) بالنصب: ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم. وقرأ الباقون: (يعقوب) بالرفع. وفي الشواذ قراءة الأعمش: (وهذا بعلي شيخ) بالرفع. الحجة: قال أبو علي: أخبر أبو إسحاق، عن محمد بن يزيد، قال: السلام أربعة أشياء: منها مصدر سلمت، والسلام: شجر قال (الإسلام وحرمل) (1). والسلام: جمع سلامة. والسلام: اسم من أسماء الله تعالى. وقوله: (دار السلام): يحتمل أن يكون مضافة إلى الله، تعظيما لها، ويحتمل أن يكون دار السلامة من العقاب، فمن حصل فيها كان على خلاف من وصف بقوله (ويأتيه الموت من كل مكان) وأما انتصاب قوله (سلاما) فلأنه لم يحك شيئا تكلموا به فيحكي كما يحكي الجمل، ولكن هو معنى ما تكلمت به الرسل، كما أن القائل إذا قال: لا إله إلا الله فقلت حقا، أو قلت إخلاصا، أعملت القول في المصدرين، لأنك ذكرت معنى ما قال، ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكي، فكذلك (1) هذا جزء من بيت الاخطل وقد مر. (*)
[ 301 ]
نصب سلاما في قوله: (قالوا سلاما) لما كان معنى ما قيل، ولم يكن نفس المقول بعينه. فأما قوله: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) قال سيبويه: زعم أبو الخطاب أن مثله يريد قولك سبحان الله الذي تفسيره براءة الله من السوء، وقولك للرجل سلاما تريد مسلما منك لا ابتلي بشئ من أمرك. فعلى هذا المعنى وجه ما في الآية، قال: وزعم أن قول أمية: سلامك ربنا في كل فجر بريئا ما يعيبك الذموم (1) على قوله براءتك ربنا من كل سوء. وأما قوله (قال سلام) فسلام: مرفوع لأنه من جملة الجملة المحكية، والتقدير فيه: سلام عليكم، فحذف الخبر كما حذف من قوله (فصبر جميل) أي: صبر جميل أمثل. أو يكون المعنى أمري سلام، وشأني سلام. كما أن قوله فصبر جميل يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ، أو مثل ذلك قوله (فاصفح عنهم وقل سلام) على حذف المبتدأ الذي (سلام) خبره. وأكثر ما يستعمل (سلام) بغير ألف ولام، وذلك لأنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم خير بين يديك. ولما كان في معنى المنصوب، استجيز فيه الابتداء بالنكرة، فمن ذلك قوله: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي) وقال (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) وقال (سلام على نوح في العالمين) (سلام على إبراهيم) (وسلام على عباده الذين اصطفى). وقد جاء بالألف واللام. قال سبحانه: (والسلام على من اتبع الهدى) (والسلام علي يوم ولدت) وزعم أبو الحسن ان في العرب من يقول سلام عليكم، ومنهم من يقول السلام عليكم، فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود. والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود. وزعم أن منهم من يقول سلام عليكم، فلا ينون، وحمل ذلك على وجهين أحدهما: أنه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل من نحو قولك: لم يك، ولا أدر، ويوم يأت. والآخر: أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيه الألف واللام، حذفا منه، لكثرة الاستعمال، كما حذفا من اللهم فقالوا: (لا هم إن عامر الفجور قد حبس الخيل على يعمور) (2) (1) وفي اللسان (تعنتك) مكان (بعيبك) والذموم العيوب. (2) اليعمور: الجدى. (*)
[ 302 ]
وأما من قال (سلم) فإن سلما يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون بمعنى سلام، فيكون المعنى أمرنا سلم، أو سلم عليكم، ويكون سلم في الآية بمعنى سلام، كقولهم حل وحلال، وحرم وحرام. فيكون على هذا قراءة من قرأ سلام وسلم بمعنى واحد، وإن اختلف اللفظان. والآخر: أن يكون سلم خلاف العدو والحرب، لأنهم لما كفوا عن تناول ما قدمه إليهم فنكرهم، وأوجس الخيفة منهم، قال: أنا سلم ولست بحرب، ولا عدو، فلا تمتنعوا من تناول طعامي، كما يمتنع من تناول طعام العدو، ومن قرأ: (ومن وراء إسحاق يعقوب) بالرفع. كان رفعه بالابتداء، أو بالظرف في قول من رفع به. ومن فتح فقال (يعقوب) احتمل ثلاثة اضرب أحدها: أن يكون (يعقوب) في موضع جر أي: فبشرناها بإسحاق ويعقوب. قال أبو الحسن. وهذا أقوى لأنها بشرت بهما. قال: وفي إعمالها ضعف، لأنك فصلت بين الجار والمجرور بالظرف. والآخر: أن تحمله على موضع الجار والمجرور، كقوله إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا. وكقراءة من قرأ وحورا عينا بعد (يطاف عليهم) بكذا. ومثله: (ولسنا بالجبال ولا الحديدا) والثالث: أن يحمل على فعل مضمر، كأنه قال: فبشرناها بإسحاق، ووهبنا له يعقوب. فأما الأول: فقد نص سيبويه على فتح مثله نحو مررت بزيد أول من أمس، وأمس عمرو وكذلك قال أبو الحسن، لو قلت مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، لم يحسن. وأما الحمل على الموضع على حد مررت بزيد وعمرو، فالفعل فيه أيضا قبيح، كما قبح الحمل على الجر، وذلك أن الفعل يصل بحرف العطف، وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل، وبه يصل الفعل إلى المفعول به، كما يصل بحرف الجر. ولو قال: مررت بزيد قائما، بجعل الحال من المجرور، لم يجز التقديم عند سيبويه، لأن الجار هو الموصل للفعل. فكما قبح التقديم عنده لضعف الجار العامل، كذلك الحرف العاطف مثل الجار في أنه يشرك في الفعل، كما يوصل الجار الفعل، وليس نفس الفعل العامل في الموضعين جميعا. وإذا كان كذلك قبح الفصل بالظرف في العطف على الموضع، وقبح أيضا الفصل في الرفع والنصب، كما قبح في الجر، لأن العاطف فيهما مثله في الجار، وليس العامل في نفس الرافع والناصب. كما أن العامل فيما بعد حرف العطف، ليس الجار، إنما يشركه فيه العاطف. وقد جاء ذلك في الشعر قال الأعشى:
[ 303 ]
يوما تراها كشبه أردية الخمس، ويوما أديمها نفلا (1) ففصل بالظرف بين المشترك في النصب، وما أشركه فيه. فإذا قبح الفصل في الحمل على الموضع، كما قبح الفصل في الحمل على الجار، فينبغي أن يحمل قراءة من قرأ (يعقوب) بالنصب، على فعل آخر مضمر، يدل عليه بشرنا، كما تقدم، ولا يحمل على الوجهين الآخرين. وأما الرفع في قوله (شيخ) ففيه وجوه أحدها: أن يكون (بعلي) خبر المبتدأ، و (شيخ) بدل من (بعلي)، فيكون كأنه قال هذا شيخ. والآخر: أن يكون (شيخ) خبر مبتدأ محذوف، ويكون (هذا بعلي) كلاما تاما يحسن الوقف عليه والثالث: أن يكون (بعلي) بدلا من (هذا) و (شيخ) هو الخبر، فيكون تقديره بعلي شيخ. والرابع: أن يكون (بعلي) و (شيخ) جميعا خبرا عن (هذا)، كقولك هذا حلو حامض أي: قد جمع الحلاوة والحموضة، فكذلك ههنا تقديره: هذا جمع البعولة والشيخوخة. قال ابن جني: وهنا وجه خامس، لكنه على قياس مذهب الكسائي، وذلك أنه يعتقد في خبر المبتدأ أبدا أن فيه ضميرا، وإن لم يكن مشتقا من الفعل، نحو: زيد أخوك، وهو يريد النسب. فإذا كان كذلك، فقياس مذهبه أن يكون (شيخ) بدلا من الضمير في (بعلي) لأنه خبر عن هذا. اللغة: العجل: ولد البقرة، والعجول لغة فيه، وجمعه العجاجيل. وسمي بذلك لتعجيل أمره بقرب ميلاده. والحنيذ: المشوي، وهو المحنوذ. فعيل بمعنى مفعول، يقال حنذه يحنذه حنذا قال العجاج: (ورهبا من حنذه أن تهرجا) (2) يعني الحمر الوحشية. قال الزجاج: الحنيذ المشوي بالحجارة. وقيل: الحنيذ المشوي حتى يقطر. والعرب تقول أحنذ هذا الفرس أي: اجعل عليه الحبل حتى يقطر عرقا. وقيل: الحنيذ المشوي فقط. وقيل: هو السميط. ويقال نكرته وأنكرته بمعنى واحد، ونكرته أشد مبالغة، وهي لغة هذيل والحجاز. وأنكرته لغة تميم، قال الأعشى: وجمع بين اللغتين: (1) في اللسان (أردية العصب)، والخمس والعصب: ضربان من برود اليمن. والنفل: الأديم الفاسد. (2) وقبله: (حتى إذا ما الصيف كان أمجا). والرهب من النوق. الضامرة. وهرج البعير: سدر من شدة الحر. (*)
[ 304 ]
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب، والصلعا وقال أبو ذؤيب: فنكرنه فنفرن فامترست به هوجاء هادية، وهاد جرشع (1) والإيجاس: الإحساس. وأوجس وتوجس أي: أحس. قال ذو الرمة: وقد توجس ركزا مغفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب (2) ويقال: أوجسوا خوفا أي: أضمروا. البعل: الزوج، وأصله القائم بالأمر. يقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار والعيون: بعل، لأنه قائم بالأمر في استغنائه عن تكلف السقي له. ومنه قيل للرب والصاحب: بعل. والعجب: يجري على المصدر، وعلى المتعجب منه، تقول: هذا أمر عجب، ولا يجوز العجب من أمر الله تعالى، لأنه يجب أن يعلم أنه قادر على كل شئ من الأجناس، لا يعجزه شئ. وما عرف سببه لا يتعجب منه. والمجيد: الكريم، يقال مجد الرجل يمجد مجادة إذا كرم. قال الشاعر: رفعت مجد تميم يا هلال لها رفع الطراف على العلياء بالعمد (3) والروع: الإفزاع، يقال راعه يروعه: إذا أفزعه. قال عنترة: ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم (4) وارتاع ارتياعا: إذا خاف. والروع بضم الراء: النفس، يقال ألقي في روعي أي: في نفسي، وسميت بذلك لأنها موضع الروع. والرد والدفع واحد، ونقيضه الأخذ. والفرق بين الرد والدفع أن الدفع قد يكون إلى جهة القدام والخلف والرد لا يكون إلا إلى جهة الخلف. الاعراب: (فما لبث أن جاء) ما أقام حتى جاء بعجل. و (أن جاء) في (1) امترس به أي: احتك به. والهوجاء: الناقة القوية. والهادية: المتقدمة. والجرشع. الطويل من الإبل. يصف صائدا وإن حمر الوحش قربت منه بمنزلة من يحتك بالشئ. (2) الركز: الصوت الخفي. والمغفر: ولد الوعل وهو تيس الجبل. وندس أي: فطن. (3) الطراف: بيت من أدم ليس له كفاء. (4) الخمخم: نبات تعلف به الإبل. (*)
[ 305 ]
موضع نصب بوقوع (لبث) عليه، كأنه قال: فما أبطأ عن مجيئه بعجل. فلما حذف حرف الجر، وصل الفعل. وقال الفراء: ويحتمل أن يكون موضعه رفعا بأن نجعل (أن جاء) فاعل (لبث) فكأنك قلت: فما لبث مجيئه بعجل وألف (يا ويلتا) يحتمل أن يكون ألف ندبة، ويحتمل أن يكون ياء الإضافة، فانقلبت ألفا، ومعناه: الإيذان بورود الأمر العظيم، كما تقول العرب يا للدواهي أي: تعالى فإنه من احيانك لحضور ما حضر من اشكالك. ويجوز الوقف عليه بغير هاء. والاختيار في الكلام أن يوقف عليه بالهاء: يا ويلتاه. قال الزجاج: أما المصحف فلا يخالف، ولا يوقف عليه. فإن اضطر واقف إلى أن يقف، وقف عليه بغير هاء بالاختيار. أما الهمزتان في قوله (أألد): ففيه ثلاثة أوجه إن شئت خففت الأولى، وحققت الثانية، فقلت يا ويلتي ألد. وإن شئت حققت الأولى، وخففت الثانية وهو الاختيار، فقلت: يا ويلتي أالد. وإن شئت حققتهما جميعا فقلت: (أألد). و (شيخا): منصوب على الحال. قال الزجاج: الحال هاهنا نصبها من لطيف النحو، وذلك انك إذا قلت: هذا زيد قائما، فإن كنت تقصد أن تخبر من لا يعرف زيدا أنه زيد، لم يجز أن تقول هذا زيد قائما، لأنه يكون زيدا ما دام قائما، فإذا زال عن القيام، فليس بزيد. وإنما تقول للذي يعرف زيدا: هذا زيد قائما، فيعمل في الحال التنبيه، والمعنى: انتبه لزيد في حال قيامه، أو أشير لك إلى زيد في حال قيامه، لأن هذا إشارة إلى ما حضر. وقال غيره: إن شئت جعلت العامل في معنى التنبيه، وإن شئت جعلت العامل فيه معنى الإشارة، وإن شئت أعملت فيه مجموعهما. وكذا ما جرى مجراه تقول: هذا زيد مقبلا، ولا يجوز مقبلا هذا زيد، لأن العامل ليس بفعل محض. فإن قلت ها مقبلا ذا زيد، وجعلت العامل معنى الإشارة، لم يجز، وإن جعلت العامل معنى التنبيه جاز. (يجادلنا) في موضع نصب، لأنه حكاية حال قد مضت، وإلا فالجيد أن تقول: لما قام قمت، ويضعف أن تقول: لما قام أقوم. وعلى هذا فيكون جواب (لما) محذوفا، لدلالة الكلام عليه، ويكون تقديره قلنا إن إبراهيم لحليم، أو ناديناه يا إبراهيم أعرض عن هذا. ويجوز أن يكون تقديره: أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. ويجوز أن يكون لما كان شرطا للماضي، وقع المستقبل فيه في معنى الماضي، كما إن أن لما كان شرطا للمستقبل، وقع الماضي فيه في معنى المستقبل.
[ 306 ]
المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم، ولوط فقال سبحانه: (ولقد جاءت رسلنا) يعني الملائكة، وإنما دخلت اللام لتأكيد الخبر. ومعنى (قد) ههنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و (قد) للتوقع، فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. واختلف في عدد الرسل فقيل: كانوا ثلاثة: جبرائيل، وميكائيل، واسرافيل، عن ابن عباس. وقيل: كانوا أربعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: والرابع اسمه كروبيل. وقيل: كانوا تسعة، عن الضحاك. وقيل: أحد عشر، عن السدي وكانوا على صور الغلمان أتوا (إبراهيم) الخليل عليه السلام (بالبشرى) أي: بالبشارة بإسحاق ونبوته، وانه يولد له يعقوب، عن الحسن، والسدي، والجبائي، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن هذه البشارة كانت بإسماعيل عليه السلام من هاجر. وقيل: البشارة بهلاك قوم لوط. (قالوا سلاما) هذه حكاية ما قال رسل الله تعالى لابراهيم عليه السلام أي: سلمنا سلاما بمعنى الدعاء له. وقيل: معناه أصبت سلاما إذا أعطاك الله سلاما أي سلامة، كما يقال أهلا ومرحبا، وكان تحية من الملائكة لابراهيم عليه السلام ف (قال) إبراهيم مجيبا لهم: (سلام) وقد مر تفسيره (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) أي: لم يتوقف حتى جاءهم على عادته في إكرام الأضياف، وتقديم الطعام إليهم، بعجل مشوي، لأنه توهم أنهم أضياف لكونهم على صورة البشر. وكان إبراهيم يحب الضيفان، فجاؤوه على أحسن الوجوه إليه، وصار لذلك من السنة أن يعجل للضيف الطعام. وقيل: إن معنى حنيذ: نضيج بالحجارة المحماة في خد من الأرض، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقيل: ان الحنيذ ما حفرت له في الأرض، ثم غممته، وهو فعل أهل البادية، عن الفراء. وقيل: حنيذ: مشوي يقطر ماؤه، عن ابن عطية. (فلما رأى) ابراهيم (أيديهم) يعني أيدي الملائكة (لا تصل إليه) أي: إلى العجل (نكرهم) أي: أنكرهم (وأوجس منهم خيفة) أي: أضمر منهم خوفا. واختلف في سبب الخوف فقيل إنه، لما رآهم شبانا أقوياء، وكان ينزل طرفا من البلد، وكانوا يمتنعون من تناول طعامه، لم يأمن أن يكون ذلك لبلاء، وذلك أن أهل ذلك الزمان، إذا أكل بعضهم طعام بعض، أمنه صاحب الطعام على نفسه وماله. ولهذا يقال: تحرم فلان بطعامنا أي: أثبت الحرمة بيننا بأكله الطعام. وقيل: إنه ظنهم
[ 307 ]
لصوصا يريدون به سوءا، أو قيل: إنه ظن أنهم ليسوا من البشر، وأنهم جاؤوا لأمر عظيم. وقيل: علم أنهم ملائكة، فخاف أن يكون قومه المقصودين بالعذاب، حتى (قالوا) له (لا تخف) يا إبراهيم (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) بالعذاب والإهلاك، لا إلى قومك. وقيل: إنهم دعوا الله فأحيا العجل الذي كان ذبحه إبراهيم وشواه، فطفر ورعى، فعلم حينئذ انهم رسل الله (وامرأته) سارة بنت هاران بن يا حور بن ساروع بن ارعوى بن فالغ، وهي ابنة عم إبراهيم (قائمة) من وراء الستر تسمع كلام الرسل، وكلام ابراهيم، عن وهب. وقيل: إنها كانت بنت خالته. وقيل: كانت قائمة تخدم الرسل، وإبراهيم جالس معهم، عن مجاهد. وقيل: كانت قائمة تصلي، وكان إبراهيم جالسا. وفي قراءة ابن مسعود: (وامرأته قائمة وهو جالس). (فضحكت) قيل: هو الضحك المعروف الذي يعتري الانسان للفرح، وقد يكون للتعجب. فضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط، مع قرب نزول العذاب بهم، عن قتادة. وقيل: تعجبا من امتناعهم عن الأكل، وخدمتها إياهم بنفسها. ولهذا يقال: (وشر الشدائد ما يضحك) وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يتناولون من طعامنا. وقيل: ضحكت لأنها قالت لابراهيم: اضمم لوطا ابن أختك اليك، فإني أعلم أنه سينزل بهؤلاء القوم عذاب. فضحكت سرورا لما أتى الأمر على ما توهمت، عن الزجاج. وقيل: تعجبا وسرورا من البشارة بإسحاق، لأنها كانت قد هرمت، وهي ابنة ثمان وتسعين سنة، أو تسع وتسعين سنة، وكان قد شاخ زوجها، وكان ابن تسع وتسعين أو مائة سنة. وقيل: مائة وعشرين سنة، ولم يرزق لهما ولد في حال شبابهما. وعلى هذا فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره فبشرناها بإسحاق ويعقوب، فضحكت بعد البشارة وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. (فبشرناها بإسحاق) أي: بابن يسمى إسحاق نبيا (ومن وراء إسحاق يعقوب) يعني ومن بعد إسحاق يعقوب. وقيل: الوراء ولد الولد، عن ابن عباس أي: فبشرناها بنبي بين نبيين، وهو إسحاق: أبوه نبي، وابنه نبي. وقيل: إن ضحكت بمعنى حاضت، عن مجاهد. وروي عن الصادق عليه السلام أيضا. يقال: ضحكت الأرنب أي: حاضت. والضحك بفتح الضاد: الحيض، وفي لغة أبي الحرث بن كعب: ضحكت النخلة: إذا أخرجت الطلع أو البسر. والضحك:
[ 308 ]
الطلع. وأنشد بعضهم في الضحك بمعنى الحيض، قول الشاعر: وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا قال الفراء: ولم أسمعه من ثقة. والوجه فيه أن يكون على طريق الكناية، قال الكميت: فأضحكت السباع سيوف سعد لقتلى ما دفن، ولا ودينا (1) (قالت) سارة (يا ويلتا أألد وأنا عجوز) أي: هذا شئ عجيب أن ألد وقد شخت، من زوج شيخ، ولم تشك في قدرة الله تعالى، ولكن إنما قالت ذلك لكونه خارجا عن العادة، كما ولى موسى مدبرا حين انقلبت عصاه حية، حتى قيل له: (اقبل ولا تخف) وإلا فهي كانت عارفة بأن الله تعالى يقدر على ذلك، ولم ترد بقولها (يا ويلتا) الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تجري على أفواه النساء، إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه. وقيل: إنها لم تتعجب من قدرة الله، ولكنها أرادت أن تعرف: هل تتحول شابة أم تلد على تلك الحال ؟ وكل ذلك عجيب (وهذا بعلي شيخا) أي: هذا الذي تعرفونه بعلي، وهو شيخ (إن هذا) الذي بشرت به (لشئ عجيب قالوا) أي: قالت الملائكة لها حين تعجبت من أن تلد بعد الكبر (أتعجبين من أمر الله) ومعنى الاستفهام ههنا التنبيه والتوقيف أي: أتعجبين من أن يفعل الله تعالى ذلك بك ولزوجك ؟ (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) أي: ليس هذا موضع تعجب، لأن التعجب إنما يكون من الأمر الذي لا يعرف سببه، ونعمة الله تعالى، وكثرة خيراته النامية الباقية عليكم. وهذا يحتمل أن يكون إخبارا عن ثبوت ذلك لهم، وتذكيرا بنعمة الله وبركاته عليهم. ويحتمل أن يكون دعاء لهم بالرحمة والبركة من الملائكة. فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم يا أهل البيت، كما يقال: اتتعجب من كذا بارك الله فيك، ويرحمك الله ؟ ويعني بأهل البيت: أهل بيت إبراهيم عليه السلام، وإنما جعلت سارة من أهل بيته، لأنها كانت ابنة عمه. ولا دلالة في الآية على أن زوجة الرجل من (1) وفي اللسان (واضحكت الضباع اه). وودى القاتل القتيل: اعطى وليه ديته. ورد ابن دريد وغيره أن يكون الضحك في هذا الشعر بمعنى الحيض. وقالوا: إنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم. أو أنها تستبشر بالقتلى إذا اكلتهم فيهر بعضها على بعض. فجعل السرور ضحكا كتسمية العنب خمرا. (*)
[ 309 ]
أهل بيته على ما قاله الجبائي. وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام مر بقوم، فسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ومغفرته ورضوانه. فقال عليه السلام لهم: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه السلام: رحمة الله وبركاته عليك أهل البيت (إنه حميد) أي: محمود على أفعاله. وقيل: الحميد الذي يحمد عباده على الطاعات (مجيد) أي: كريم، وهو المبتدئ بالعطية قبل الاستحقاق. وقيل: معناه واسع القدرة والنعمة، عن أبي مسلم. وروي أن سارة قالت لجبرائيل عليه السلام: ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، عن السدي. (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) أي: الخوف والفزع الذي دخله من الرسل (وجاءته البشرى) بالولد (يجادلنا في قوم لوط) أي يجادل رسلنا، ويسائلهم في قوم لوط. وتلك المجادلة أنه قال لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا: لا. قال: فأربعون ؟ قالوا: لا. فما زال ينقص ويقولون لا، حتى قال: فواحد ؟ قالوا: لا. فاحتج عليهم بلوط، وقال: ان فيها لوطا ؟ ! قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله، عن قتادة. وقيل: إنه جادلهم، وقال: بأي شئ استحقوا عذاب الاستئصال ؟ وهل ذلك واقع لا محالة، أم هو تخويف ليرجعوا إلى الطاعة ؟ بأي شئ يهلكون ؟ وكيف يجئ الله المؤمنين ؟ عن الجبائي. ولما سألهم مستقص، سمي ذلك السؤال جدالا، لأنه خرج الكشف عن شئ غامض (إن إبراهيم لحليم أواه) مر معناه في سورة براءة. (منيب) راجع إلى الله تعالى في جميع أموره، متوكل عليه. وفي هذا اشارة إلى أن تلك المجادلة من إبراهيم عليه السلام لم تكن من باب ما يكره، لأنه مدحه بالحلم، وبأن ذلك كان في أمر يتعلق بالرحمة، ورقة القلب والرأفة، وذلك لأنه رأى الخلق الكثير في النار، فتأوه لهم (يا إبراهيم أعرض عن هذا) هو حكاية ما قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام فإنها نادته بأن قالت: يا إبراهيم أعرض عن هذا القول، وهذا الجدال في قوم لوط، وانصرف عنه بالذكر، والفكر (إنه قد جاء امر ربك) بالعذاب، فهو نازل لا محالة (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) يعني غير مدفوع عنهم أي: لا يقدر أحد على رده عنهم.
[ 310 ]
(ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79) قال لو أن لى بكم قوة أو ءاوى إلى ركن شديد (80) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد (83). القراءة: في الشواذ قراءة سعيد بن جبير، والحسن، بخلاف، وعيسى الثقفي، ومحمد بن مروان: (هن أطهر لكم) بالنصب. والقراءة المشهورة (أطهر) بالرفع. وقراءة شيبة: (أو آوي) بالنصب. والقراءة العامة بالرفع. وقرأ أهل الحجاز (فاسر بأهلك) و (أن اسر) موصولة الهمزة. والباقون: (فاسر) و (أن أسر) بقطع الهمزة العامة، حيث كان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو (إلا امرأتك) بالرفع. والباقون بالنصب. الحجة: أما قوله (هن أطهر لكم) فإن سيبويه ضعف هذه القراءة، وقال فيها: اجتبى ابن مروان في لحنه. قال ابن جني: وإنما صح ذلك عنده، لأنه ذهب إلى أنه جعل (هن) فصلا وليست بين أحد الجزأين اللذين هما مبتدأ وخبر، ونحو ذلك، نحو: ظننت زيدا هو خيرا منك، وكان زيد هو العالم. ويجوز أن يكون (بناتي هن): جملة من مبتدأ وخبر في موضع الخبر لهؤلاء، كقولك زيد أخوك هو. وأن يكون (أطهر) حالا من هن، أو من بناتي، والعامل فيه معنى الإشارة كقولك هذا زيد هو قائما. ومن قرأ (أو آوي) بالنصب، فيكون تقديره: لو أن لي بكم قوة، أو آويا إلى ركن شديد. ويكون منتصبا بإضمار ان، وعليه بيت الكتاب:
[ 311 ]
فلولا رجال من كرام أعز وآل سبيع، أو أسوأك علقما والتقدير: أو أن أسوءك، فكأنه قال: أو إياك مساءتي. ومن قرأ: (فأسر بأهلك) بإثبات الهمزة في اللفظ أو بغير الهمزة: فإن سرى وأسرى معناهما سار ليلا، قال النابغة: أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد (1) ويروى سرت. وقال امرؤ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم، وحتى الجياد ما يقدن بأرسان (2) وقال سبحانه: (سبحان الذي أسرى بعبده). ومن قرأ (إلا امرأتك) نصبا: فإنه جعل الكلام قبله مستقلا بنفسه، فنصب مع النفي، كما ينصب مع الإيجاب. والوجه الأقيس الرفع على البدل من أحد، لأن معنى ما أتاني أحد إلا زيد: ما أتاني إلا زيد. فكما اتفقوا في ما أتاني إلا زيد على الرفع، وكان ما أتاني أحد إلا زيد بمنزلته وبمعناه، اختاروا الرفع مع ذكر أحد. ومما يقوي ذلك أنهم في الكلام، وأكثر الاستعمال يقولون: ما جاءني إلا امرأة، فيذكرون حملا على المعنى، ولا يكادون يؤنثون ذلك إلا في الشعر، كما في قول الشاعر: (فما بقيت إلا الضلوع الجراشع) (3). وقول ذي الرمة: (وما بقيت إلا النحيرة، والألواح، والعصب) وزعموا أن في حرف عبد الله أو أبي (فأسير بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك) وليس فيه (ولا يلتفت منكم أحد) وهذا يقوي قول من نصب. اللغة: اصل سئ بهم سوئ بهم من السوء، فأسكنت الواو ونقلت كسرتها إلى السين. ويقال: سؤته فسئ، كما يقال: شغلته فشغل، وسررته فسر. والفرق (1) ازجاه: ساقه سوقا لينا. (2) وفي الديوان وأمالي الشريف: (مطوت بهم)، ومعناه: سرت بهم سيرا سريعا. وتكل: أي تتعب. والمطية: الدابة التي تركب. والجياد: الخيل. وقوله (ما يقدن بأرسان) أي: اعيت من شدة الجري، وذللت وانقادت، فلا تحتاج إلى أن تقاد بأرسان. (3) قائله ذو الرمة، وقبله: (طوي النخز والاجراز ما في غروضها) والنخز: الدفع والنخس: والاجراز جمع الجرز: الأرض لانبات فيها. والغروض جمع الغرض: الحزام التي يشد به الرحل: والجراشع جمع الجرشع: المنتفخ. يصف ناقته. (*)
[ 312 ]
بين السوء والقبيح: أن السوء ما يظهر مكروهه لصاحبه. والقبيح ما ليس للقادر عليه أن يفعله. ويقال: ضاق فلان بأمره ذرعا: إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا. والعصيب: الشديد في الشر خاصة، وأصله من الشد، يقال: عصبت الشئ أي: شددته، وعصبت فخذ الناقة لتدر. وناقة عصوب، ويوم عصيب وعصبصب، كأنه التف على الناس بالشر، أو يكون التف شره بعضه ببعض. قال الشاعر: فإنك إن لم ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب وقال عدي بن زيد: وكنت لزاز خصمك لم أعرد، وقد سلكوك في يوم عصيب (1) وقال الراجز: يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا والإهراع الإسراع في المشي، قال مهلهل: فجاؤا يهرعون، وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف وقال صاحب (العين): الإهراع السوق الحثيث. قال أبو مسلم: والقرآن بالسوق أشبه. والركن: معتمد البناء بعد الأساس. وركنا الجبل: جانباه. قال الراجز: يأوي إلى ركن من الأركان في عدد طيس، ومجديان (2) والشدة: تجمع يصعب معه التفكك. وقد تكون الشدة: تقبضا يعسر معه التحلل. والقطع: القطعة العظيمة تمضي من الليل. وقيل: نصف الليل، كأنه قطع نصفين. والإلتفات: افتعال من اللفت، وهو اللي، يقال: لفت فلانا عن رأيه أي: صرفته. وامرأة لفوت: لها ولد من غير زوجها، وكأنها تلفت إلى ولدها. ومنه الحديث في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انه كان إذا التفت التفت معا أي: كان لا يلوي عنقه (1) اللزاز بمعنى الملازم. والتعريد: الفرار. (2) الطيس العدد الكثير. (*)
[ 313 ]
يمنة ويسرة. والسجيل: فارسي معرب أي: سنك، وكل حجارة وطين. وقال أبو عبيدة: هو الحجارة الشديدة، وأنشد لابن مقبل: ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصي به الأبطال سجينا (1) وسجين وسجيل بمعنى واحد. والعرب تعاقب بين النون واللام، فقلبت النون هاهنا لاما. وقيل: إنه مشتق من أسجلته أي: أعطيته، فتقديره: انها من مثل العطية في الادرار. وقيل: انه من السجل: وهو الدلو العظيمة، فتقديره: انها من مثل السجل في الإرسال. وقيل: إنه من أسجلته إذا أرسلته، وكأنها مرسلة عليهم. وقيل: إنه من السجل، وهو الكتاب فكأنها سجلت لهم. والمراد: كتب الله عليهم أن عليهم أن يعذبهم بها. والمنضود: من نضدت الشئ بعضه على بعض. والمسومة: من السيماء، وهي العلامة، ومنه السائمة: وهي المرسلة في المرعى، وذلك أن الإبل السائمة تختلط في المرعى، فيجعل عليها السيماء لتمييزها. الاعراب: (يهرعون إليه): في موضع نصب على الحال. (من قبل ومن بعد): مبنيان على الضم، فإذا أضيفا أعربا. (لو أن لي بكم قوة): جواب (لو) محذوف يدل الكلام عليه، وتقديره: لحلت بينهم وبينكم. (إنه مصيبها ما أصابهم) الهاء في (إنه) ضمير الشأن، والحديث، و (مصيبها) مبتدأ و (ما أصابهم) موصول وصلة في موضع الرفع بكونه فاعل (مصيبها) وقد سد مسد خبر المبتدأ. (من سجيل): في موضع نصب بكونه صفة (لحجارة) أي: كائنة من سجيل. (مسومة): صفة أخرى (لحجارة) ويجوز أن يكون نصبا على الحال من الضمير المستكن في (منضود). المعنى: ثم أخبر سبحانه عن اتيان الملائكة لوطا بعد خروجهم من عند إبراهيم عليه السلام وما جرى بينهم وبين قوم لوط، فقال: (ولما جاءت رسلنا لوطا) أي: لما جاؤوه في صفة الآدميين (سئ بهم) أي: ساءه مجيئهم، لأنه خاف عليهم من قومه (وضاق بهم ذرعا) أي: ضاق بمجيئهم ذرعه أي: ضاق قلبه لما رأى لهم من جمال الصورة، وحسن الشارة (2)، وقد دعوه إلى الضيافة، وقومه كانوا يسارعون إلى (1) رجلة جمع راجل. وضرب سجين أي شديد. (2) الشارة: الحسن والجمال. (*)
[ 314 ]
أمثالهم بالفاحشة. وقيل: معناه ضاق بحفظهم من قومه ذرعه، حيث لم يجد سبيلا إلى حفظهم، وكان قد علم عادة قومه من الميل إلى الذكور، وقد أتوه في صورة الغلمان المرد. وأصله أن الشئ إذا ضاق ذرعه، لم يتسع له ما اتسع، فاستعار ضيق الذرع عند تعذر الإمكان، كما استعار الاتساع. (وقال هذا يوم عصيب) أي: هائل، شديد، كثير الشر، التف الشر فيه بالشر. وإنما قال ذلك لأنه لم يعلم أنهم رسل الله، وخاف عليهم من قومه أن يفضحوهم. وقال الصادق عليه السلام: جاءت الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية، فسلموا عليه، ورأى هيئة حسنة، عليهم ثياب بيض، وعمائم بيض، فقال لهم: المنزل. فتقدمهم، ومشوا خلفه، فقال في نفسه: أي شئ صنعت آتي بهم قومي وأنا أعرفهم ؟ فالتفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ! وكان قد قال الله لجبرائيل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات، فقال جبرائيل: هذه واحدة. ثم مشى لوط، ثم التفت إليهم فقال: انكم لتأتون شرارا من خلق الله ! فقال جبرائيل عليه السلام: هذه اثنتان. ثم مشى، فلما بلغ باب المدينة، التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ! فقال جبرائيل: هذه الثالثة. ثم دخل ودخلوا معه حتى دخل منزله، فلما رأتهم امرأته، رأت هيئة حسنة، فصعدت فوق السطح، فصفقت فلم يسمعوا، فدخنت. فلما رأوا الدخان أقبلوا يهرعون فذلك قوله (وجاءه قومه يهرعون إليه) أي: يسرعون في المشي لطلب الفاحشة، عن قتادة، ومجاهد، والسدي. وقيل: معناه يساقون، وليس هناك سائق غيرهم، فكأن بعضهم يسوق بعضا، عن أبي مسلم. والهاء في (إليه) كناية عن لوط. (ومن قبل) أي: ومن قبل اتيان الملائكة. وقيل: ومن قبل مجئ قوم لوط إلى ضيفانه. وقيل: من قبل مجيئهم إلى داره، عن الجبائي. وقيل: إنه من قبل بعثة لوط إليهم (كانوا يعملون السيئات) أي: يعملون الفواحش مع الذكور (قال) لوط (يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) معناه: إن لوط لما هموا بأضيافه، وجاهروا بذلك، فألقوا جلباب الحياء فيه، عرض عليهم نكاح بناته، وقال: هن أحل لكم من الرجال، فدعاهم إلى الحلال. واختلف في ذلك فقيل: أراد بناته لصلبه، عن قتادة. وقيل: أراد النساء من أمته، لأنهن كالبنات له، فإن كل نبي أبو أمته، وأزواجه أمهاتهم، عن مجاهد، وسعيد بن جبير. واختلف أيضا في كيفية عرضهن،
[ 315 ]
فقيل: بالتزويج، وكان يجوز في شرعه تجويز المؤمنة من الكافر، وكذا كان يجوز أيضا في مبتدأ الإسلام، وقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنته من أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلم ثم نسخ ذلك. وقيل: أراد التزويج بشرط الإيمان، عن الزجاج، وكانوا يخطبون بناته فلا يزوجهن منهم لكفرهم. وقيل: إنهم كان لهم سيدان مطاعان فيهم، فأراد أن يزوجهما، بنتيه: زعوراء ورتياء (فاتقوا الله) أي: فاتقوا عقاب الله في مواقعة الذكور (ولا تخزون في ضيفي) أي: لا تلزموني عارا، ولا تلحقوا بي فضيحة، ولا تخجلوني بالهجوم على أضيافي، فإن الضيف إذا نزل به معرة، لحق عارها للمضيف (أليس منكم رجل رشيد) أي: أليس في جملتكم رجل قد أصاب الرشد، فيعمل بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزجر هؤلاء عن قبيح فعلهم ؟ ويجوز أن يكون رشيد بمعنى مرشد أي: يرشدكم إلى الحق. (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) هذا جواب قوم لوط حين عرض عليهم بناته، ودعاهم إلى النكاح المباح أي: ما لنا في بناتك من حاجة، لأن ما لا يكون للانسان فيه حاجة، فإنه يرغب عنه كما يرغب عما لا حق له فيه. فلذلك قالوا: (من حق). وقيل: معناه ما لنا فيهن من حق، لأنا لا نتزوجهن. وكانوا يقرون بأن من لم يتزوج بامرأة، فإنه لا حق له فيها، عن الجبائي، وابن إسحاق. فالقول الأول محمول على المعنى، والقول الثاني على ظاهر اللفظ (وإنك لتعلم ما نريد) أي: تعلم ميلنا إلى الغلمان دون النساء. فلما لم يقبلوا الموعظة، تأسف لوط على فقد تمكنه من دفاعهم بأن (قال لو أن لي بكم قوة) أي: منعة، وقدرة، وجماعة، أتقوى بها عليكم، فأدفعكم عن أضيافي (أو آوي إلى ركن شديد) أو أنضم إلى عشيرة منيعة تنصرني، وشيعة تمنعني، لدفعتكم، ولكن لا يمكنني أن أفعل ذلك. قال الصادق عليه السلام: فقال جبرائيل لو يعلم أي قوة له ! قال: فكابروه حتى دخلوا البيت، فصاح به جبرائيل أن يا لوط دعهم يدخلوا. فلما دخلوا، أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم، فذهبت أعينهم، وهو قوله (فطمسنا أعينهم) قال قتادة: ذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد لوط إلا في عز من عشيرته، ومنعة من قومه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: رحم الله أخي لوطا، كان يأوي إلى ركن شديد، وهو معونة الله تعالى ! ولما رأت الملائكة ما لقيه لوط من قومه (قالوا يا لوط إنا رسل
[ 316 ]
ربك) ارسلنا لهلاكهم، فلا تغتم (لن يصلوا إليك) أي: لا ينالونك بسوء أبدا (فأسر بأهلك) أي: سر بأهلك ليلا. وقال السدي: لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه. (بقطع من الليل) أي: في ظلمة الليل، عن ابن عباس. وقيل: بعد طائفة من الليل، عن قتادة. وقيل: في نصف من الليل، عن الجبائي. (ولا يلتفت منكم أحد) قيل: في معناه وجوه أحدها: لا ينظر أحد منكم وراءه، عن مجاهد. كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة والثاني: لا يلتفت أحد منكم إلى ماله، ولا متاعه بالمدينة، وليس معنى يلتفت من الرؤية، عن الجبائي. كأنه أراد في أن النظر إليهم عبرة فلم ينهوا عنها والثالث أن معناه ولا يتخلف منكم أحد، عن ابن عباس. والرابع: إنه أمرهم أن لا يلتفتوا إذا سمعوا الوجبة والهدة. (إلا امرأتك) وقيل: إنها التفتت حين سمعت الوجبة فقالت: يا قوماه ! فأصابها حجر فقتلها. وقيل: إلا امرأتك معناه لا تسر بها (إنه مصيبها ما أصابهم) أي: يصيبها من العذاب ما أصابهم، أمروه أن يخلفها في المدينة (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) لما أخبر الملائكة لوطا بأنهم يهلكون قوم لوط، قال لهم: أهلكوهم الساعة لضيق صدره بهم، وشدة غيظه عليهم، فقالوا: إن موعد إهلاكهم الصبح. لم يجعل الصبح ظرفا، وجعله خبر (إن) لأن الموعد هو الصبح. وإنما قالوا له (أليس الصبح بقريب) تسلية له. وقيل: إنه إنما قال لهم: أهلكوهم الساعة فقالوا ذلك. وفي هذا دلالة على أن الله سبحانه، إنما يهلك من يهلكه عند انقضاء مدته، وإن ضاق صدر الغير به. ويجوز أن يكون قد جعل الصبح ميقات إهلاكهم، لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. (فلما جاء أمرنا) فيه اقوال أحدها: جاء أمرنا الملائكة بإهلاك قوم لوط. والثاني: جاء العذاب، كأنه قيل: كن على التعظيم على طريق المجاز، كما قال الشاعر: فقالت له العينان: سمعا وطاعة، وحدرتا كالدر لما يثقب (1) وعلى هذا فالأمر هو نفس العذاب والثالث: جاء أمرنا بالعذاب (جعلنا عاليها سافلها) أي: قلبنا القرية أسفلها أعلاها، فإن الله تعالى أمر جبرائيل عليه السلام فأدخل جناحه تحت الأرض، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، (1) حدر الشئ: شقه. (*)
[ 317 ]
ثم قلبها، ثم خسف بهم الأرض، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة. فعلى هذا يكون معنى (جعلنا) جعل بأمرنا، وإنما اضافه إلى نفسه لأنه أمره به (وأمطرنا عليهم حجارة) أي: وأمطرنا على القرية أي: على الغائبين منها حجارة، عن الجبائي. وقيل: أمطرت الحجارة على تلك القرية حين رفعها جبرائيل. وقيل: إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد أن قلب قريتهم، تغليظا للعقوبة. وقيل: كانت أربع مدائن وهي المؤتفكات: سدوم، وعاموراء، ودوما، وصبوايم. واعظمها (سدوم). وكان لوط يسكنها. قال أبو عبيدة: يقال مطر في الرحمة، وامطر في العذاب (من سجيل) أي: سنگ گل، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. بين بذلك صلابتها ومباينتها للبرد، وأنها ليست من جنس ما جرت به عادتهم في سقوط البرد من الغيوم. وقيل: إن السجين: الطين، وعن قتادة، وعكرمة، ويؤيده قوله: (ليرسل عليهم حجارة من طين). وروي عن عكرمة أيضا أنه بحر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزلت الحجارة. وقال الضحاك: هو الآجر. وقال الفراء: هو طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء، وقال: كان أصل الحجارة طينا فشددت، عن الحسن. وقيل: ان السجيل سماء الدنيا، عن ابن زيد، فكانت تلك الحجارة منزلة من السماء الدنيا (منضود) هو من صفة سجيل أي: نضد بعضها على بعض، حتى صار حجرا، عن الربيع. وقيل: مصفوف في تتابع: أي كان بعضها في جنب بعض، عن قتادة، وقيل: يتبع بعضها بعضا، عن ابن عباس. (مسومة) هي من صفة الحجارة أي: معلمة، جعل فيها علامات تدل على أنها معدة للعذاب. وقيل: مطوقة بها نضخ من حمرة، عن قتادة وعكرمة. وقيل: كان مكتوبا على كل حجرة منها اسم صاحبها، عن الربيع. وقيل: عليها سيماء لا تشاكل حجارة الأرض، عن ابن جريج. وقيل: مختومة، عن الحسن، والسدي، وقيل: مشهورة (عند ربك) أي: في علم ربك. وقيل: في خزائن ربك التي لا يملكها غيره، ولا يتصرف فيها أحد إلا بأمره (وما هي من الظالمين ببعيد) أي: وما تلك الحجارة من الظالمين من أمتك يا محمد ببعيد، أراد بذلك إرهاب قريش. وقال قتادة: ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط، فاتقوا الله، وكونوا منه على حذر. وقيل: يعني بذلك قوم لوط، يريد أنها لم تكن تخطئهم. وذكر أن حجرا بقي معلقا بين السماء والأرض أربعين يوما يتوقع به رجلا من قوم لوط، كان في الحرم، حتى خرج منه فأصابه. قال قتادة: وكانوا أربعة آلاف الف.
[ 318 ]
(* وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (86) قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءابآءنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاؤا إنك لأنت الحليم الرشيد (87) قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (88) ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود (90) قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (91) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط (92) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب (93) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا ومن والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود (95).
[ 319 ]
القراء: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (أصلاتك) بغير واو التوحيد. والباقون: (أصلواتك) بالواو على الجمع. وفي الشواذ قراءة السلمي: (بعدت ثمود) بضم العين. الحجة: أما (بعد) فيكون في الخير والشر، ومصدره البعد. وبعد: في الشر خاصة، ومصدره البعد. ومنه: ابعده الله، فإنه منقول من بعد، لأنه دعاء عليه. وقراءة السلمي متفقة الفعل مع مصدره، وإنما السؤال عن قراءة الجماعة: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) وطريق ذلك أن يكون البعد بمعنى اللعنة، فيكون ابعده الله بمعنى لعنه الله، ومنه قوله: ذعرت به القطا، ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين (1) أي: المبعد. فالإبعاد للشئ نقص له. فقد التقى معنى بعد معنى: بعد من هنا. اللغة: الوزن: تعديل الشئ بغيره في الخفة والثقل بآلة التعديل. وإذا قيل: شعر موزون فمعناه: معدل بالعروض. والتوفيق من الصواب، إلا أنه اختص بهذا الاسم ما اتفق وقوع الصواب عنده، وليس ذلك جنسا بعينه، وإنما لم يكن الموفق للطاعة إلا الله تعالى، لأن أحدا لا يعلم ما يتفق عنده الطاعة من غير تعليم سواه سبحانه. والشقاق، والمشاقة: المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة وشقها. والفقه: فهم الكلام على ما تضمنه من المعنى، وقد صار علما لضرب من علوم الدين، وهو علم بمدلول الدلائل السمعية. وأصول الدين: علم بمدلول الدلائل العقلية. والرهط: عشيرة الرجل وقومه، وأصله: الشد. والترهيط: شدة الأكل، ومنه الراهطاء: جحر اليربوع لشدته وتوسيعه لينجي فيه ولده. والرجم: الرمي بالحجارة. والأعز: الأقوى الأمنع. والأعز نقيض الأذل. والظهري: جعل الشئ وراء الظهر حتى ينساه، ويقال لكل من لا يعبأ بأمر: قد جعل فلان هذا الأمر بظهر، قال: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها (1) قائله شماخ قال في اللسان أراد مقام الذئب اللعين الطريد كالرجل. ويقال أراد مقام الذي هو كالرجل اللعين وهو المنفي، والرجل اللعين لا يزال منتبذا عن الناس شبه الذئب به. (*)
[ 320 ]
الاعراب: (أو أن نفعل): موضع (أن) نصب على معنى: أو تأمرك أن نترك، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، فهو معطوف على (ما يعبد آباؤنا) والتقدير: أصلاتك تأمرك أن نترك عبادة آبائنا أو فعل ما نشاء في أموالنا. ولا يجوز أن يكون قوله (أن نفعل) معطوفا على قوله (أن نترك)، لأن المعنى يصير فاسدا. و (أو) هنا بمنزلتها في قولك جالس الحسن أو ابن سيرين. وقوله (ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) ولم يقل به. وموضع (من) في قوله: (من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب) له وجهان من الاعراب أحدهما: أن يكون معلقا بقوله (تعلمون) فيكون استفهاما، وتقديره فسوف تعلمون من المخزي ومن الكاذب. ويجوز أن يكون (من هو كاذب) على هذا بمعنى الذي هو كاذب، ويكون معطوفا على الهاء من (يخزيه) أي. ويخزي الذي هو كاذب والثاني: أن يكون (من) في قوله (من يأتيه) بمعنى الذي، ويكون (من هو كاذب) عطفا عليه، وأدخلوا (هو) في قوله (من هو كاذب) لأنهم لا يقولون: من قائم ولا من قاعد، وإنما يقولون: من قام ومن يقوم، ومن القائم ومن القاعد. وقد ورد ذلك في الشعر، قال الشاعر: من شارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور، ولا فيها بسوار (1) (كأن لم يغنوا فيها) يحتمل أن يكون كأن مخففة من الثقيلة أن يضمر فيها كما يضمر في أن من قوله (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). ويجوز أن يكون (أن) التي تنصب الفعل ويكون مع الفعل بمعنى المصدر. المعنى: ثم عطف سبحانه قصة شعيب على ما تقدمها من قصص الأنبياء عليهم السلام، فقال: (وإلى مدين) أي: وأرسلنا إلى أهل مدين (أخاهم شعيبا) فحذف أهل، وأقام مدين مقامه. ومدين: اسم القبيلة، أو المدينة التي كانوا فيها، فلذلك لم ينصرف، عن الزجاج. وقيل: مدين بن ابراهيم نسبوا إليه (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) قد سبق تفسيره (ولا تنقصوا المكيال والميزان) أي: ولا تنقصوا حقوق الناس بالتطفيف عند الكيل والوزن (إني أراكم بخير) أي: برخص السعر والخصب، عن ابن عباس، والحسن. والمعنى أنه حذرهم الغلاء، وهو زيادة السعر، وزوال النعمة، وحلول النقمة، إن لم يتوبوا. وقيل. أراد (1) قائله الأخطل. والسوار: المعربد. وفي اللسان (وشارب مربح اه.). (*)
[ 321 ]
بالخير: المال، وزينة الدنيا، عن قتادة، وابن زيد، والضحاك. والمعنى أني أراكم في كثرة الأموال، وسعة الأرزاق، فلا حاجة بكم إلى نقصان الكيل والوزن. (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) وصف اليوم بالإحاطة، بمعنى أنه يحيط عذابه بجميع الكفار، ولا يفلت منه أحد منهم، وأراد يوم القيامة، عن الجبائي. وهو من صفة العذاب على الحقيقة، لأن اليوم محيط بعذابه بدلا من إحاطته بنعمته، وذلك أظهر في الوصف، وأهول في النفس (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط) أي: أوفوا حقوق الناس في المكيلات والموزونات، بالمكيال، والميزان، بالعدل (ولا تبخسوا الناس) أي: ولا تنقصوا الناس (أشياءهم) أي أموالهم في معاملاتهم (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي: ولا تسعوا بالفساد، ولا تضربوا في الأرض (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) البقية بمعنى الباقي أي: ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال، بعد اتمام الكيل والوزن، خير من البخس والتطفيف. وشرط الإيمان في كونه خيرا لهم، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة هذا القول، عن ابن عباس. وقيل: معناه إبقاء الله النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النفع بالتطفيف، عن ابن جبير. وقيل: معناه طاعة الله خير لكم من جميع الدنيا، لأنها يبقى ثوابها أبدا، والدنيا تفنى، عن الحسن، ومجاهد. ويؤيده قوله (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) الآية. وقيل: بقية الله رزق الله، عن الثوري (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: وما أنا بحافظ نعم الله تعالى عليكم إن يزيلها عنكم، وإنما يحفظها الله عليكم، فاطلبوا بقاء نعمه بطاعته. وقيل: معناه وما أنا بحافظ لأعمالكم، وإنما يحفظها الله فيجازيكم عليها. وقيل: معناه وما أنا بحافظ عليكم كيلكم ووزنكم حتى توفوا الناس حقوقهم، ولا تظلموهم، وانما علي أن أنهاكم عنه. (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) إنما قالوا ذلك لأن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، وكان يقول إذا صلى: إن الصلاة رادعة عن الشر، ناهية عن الفحشاء والمنكر، فقالوا: أصلاتك التي تزعم أنها تأمر بالخير، وتنهى عن الشر، أمرتك بهذا، عن ابن عباس. وقيل: معناه أدينك يأمرك بترك دين السلف، عن الحسن، وعطا، وأبي مسلم. قالوا: كنى عن الدين بالصلاة، لأنها من أجل أمور الدين، وإنما قالوا ذلك على وجه الاستهزاء. (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)
[ 322 ]
معناه: أصلاتك تأمرك بترك عبادة ما يعبد آباؤنا، أو بترك فعل ما نشاء في أموالنا من البخس والتطفيف ؟ (إنك لأنت الحليم الرشيد) قيل: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء والتهكم، وأرادوا به ضد ذلك أي: السفيه الغاوي، عن ابن عباس. وقيل: انهم قالوا ذلك على التحقيق أي: إنك أنت الحليم في قومك، فلا يليق بك أن تخالفهم. والحليم: الذي لا يعاجل بالعقوبة مستحقها. والرشيد: المرشد. (قال) شعيب: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) مر تفسيره (ورزقني منه رزقا حسنا) قيل: إن الرزق الحسن ههنا: النبوة. وقيل: معناه هداني لدينه، ووسع علي رزقه، وكان كثير المال، عن الحسن. وقيل: كل نعمة من الله سبحانه فهو رزق حسن. وفي الكلام حذف أي: أفأعدل مع ذلك عما أنا عليه من عبادته، وإنما حذف لدلالة ما أبقاه على ما ألقاه (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي: لست أنهاكم عن شئ، وأدخل فيه، وإنما أختار لكم ما أختاره لنفسي. ومعنى ما أخالفكم إليه أي: ما أقصده بخلافكم إلى ارتكابه، عن الزجاج. وهذا في معنى قول الشاعر: لا تنه عن خلق، وتأتي مثله، عار عليك إذا فعلت عظيم وقيل معناه: وما أريد اجترار منفعة إلى نفسي بما أنهاكم عنه أي: لا آمركم بترك التطفيف في الكيل والوزن لتكون منفعة ما يحصل بالتطفيف لي (إن أريد إلا الإصلاح) أي: لست أريد بما آمركم به، وأنهاكم عنه، إلا اصلاح أموركم في دينكم، ودنياكم (ما استطعت) أي: ما قدرت عليه، وتمكنت منه (وما توفيقي إلا بالله) معناه: وليس توفيقي في امتثال ما آمركم به، والإنتهاء عما أنهاكم عنه، إلا بالله، فلا يوفق غيره أي: وليس ما أفعله بحولي وقوتي، بل بمعونة الله، ولطفه، وتيسيره (عليه توكلت) والتوكل على الله: الرضا بتدبيره، مع تفويض الأمور إليه، والتمسك بطاعته (وإليه أنيب) أي: وإليه أرجع في المعاد، عن مجاهد. وقيل: إليه أرجع بعملي ونيتي، عن الحسن. ومعناه أني أعمل أعمالي كلها لوجه الله. (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي) أي: لا يكسبنكم خلافي، ومعاداتي (أن يصيبكم) عذاب العاجلة، عن الزجاج. وقيل: معناه لا تحملنكم عداوتي على مخالفة ربكم، فيصيبكم من العذاب مثل ما أصاب من قبلكم، عن الحسن. وكان سبب هذه العداوة دعاؤه لهم إلى مخالفة الآباء والأجداد في عبادة الأوثان، وما يثقل
[ 323 ]
عليهم من الإيفاء في الكيل والميزان (مثل ما أصاب قوم نوح) من الهلاك بالغرق، (أو قوم هود) بالريح العقيم (أو قوم صالح) بالرجفة (وما قوم لوط منكم ببعيد) أي: هم قريب منكم في الزمان الذي بينه وبينكم، عن قتادة. وقيل: معنا إن دارهم قريبة من داركم، فيجب أن تتعظوا بهم (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) أي: اطلبوا المغفرة من الله، ثم توصلوا إليها بالتوبة. وقيل: معناه استغفروا للماضي، واعزموا في المستقبل. وقيل: استنفروا ثم دوموا على التوبة. قيل: استغفروا في العلانية، ثم أضمروا الندامة في القلب عن الماضي. (إن ربي رحيم) بعباده فيقبل توبتهم، ويعفو عن معاصيهم (ودود) أي: محب لهم، ومعناه مريد لمنافعهم، وقيل: معناه متودد إلى عباده بكثرة إنعامه عليهم. وقيل: ودود بمعنى الواد أي: يودهم إذا أطاعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء (قالوا) أي: قال قوم شعيب له حين سمعوا منه الوعظ والتخويف: (يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) أي: ما نفهم عنك معنى كثير من كلامك. وقيل: معناه لا نقبل كثيرا منه، ولا نعمل به وهذا كقولك إذا أمرك انسان بشئ لا تريد أن تفعله: لا أعلم ما تقول، وأنت تعلم ذلك أي: لا أفعله. وإنما قالوا ذلك بعدما ألزمهم الحجة. (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي: ضعيف البدن، عن الجبائي. وقيل: ضعيف البصر، عن سفيان. وقيل: اعمى. وكان شعيب أعمى، عن قتادة، وسعيد بن جبير. قال الزجاج: وحمير تسمي المكفوف ضعيفا. وهذا كما قيل ضرير أي: قد ضر بذهاب بصره، وكذلك قد ضعف بذهاب بصره، وكف عن التصرف، وهذا القول ليس بسديد، لأن قوله (فينا) يرده، ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاما، لأن الأعمى قد يكون أعمى فيهم، وفي غيرهم. وقيل: ضعيفا أي: مهينا، عن الحسن. واختلف في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يجوز أن يكون أعمى، فقيل: لا يجوز لأن ذلك ينفر. وقيل: يجوز أن لا يكون فيه تنفير، ويكون بمنزلة سائر العلل والأمراض. (ولولا رهطك لرجمناك) أي: لولا رحمة عشيرتك وقومك، لقتلناك بالحجارة. وقيل: معناه لشتمناك وسببناك (وما أنت علينا بعزيز) أي: لم ندع قتلك لعزتك علينا، ولكن لأجل قومك. قال الحسن: وكان شعيب في عز من قومه، وكان من
[ 324 ]
أشرافهم، وما بعث نبي بعد لوط إلا في عز من قومه. (قال) شعيب (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله) أي: أعشيرتي وقومي أعظم حرمة عندكم من الله، فتتركون أذاي لأجل عشيرتي، ولا تتركونه لله الذي بعثني اليكم (واتخذتموه وراءكم ظهريا) أي: اتخذتم الله وراء ظهوركم، يعني: نسيتموه. فالهاء عائدة إلى الله، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: الهاء عائدة إلى ما جاء به شعيب، عن مجاهد. والمعنى: ونبذتم ما أرسلت به إليكم وراء ظهوركم. وقيل: الهاء عائدة إلى أمر الله، عن الزجاج أي: نبذتم أمر الله وراء ظهوركم، وتركتموه. (إن ربي بما تعملون محيط) أي: محص لأعمالكم، لا يفوته شئ منها. وقيل: معناه خبير بأعمالكم فيجازيكم بها، عن الحسن. (ويا قوم اعملوا على مكانتكم) أي: اعملوا على حالتكم هذه والمكانة: الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل. وهذا تهديد في صورة الأمر، وتقديره. كأنكم إنما أمرتم بأن تكونوا على هذه الحال من الكفر والطغيان. وفي هذا نهاية الخزي والهوان. وقيل: معناه اعملوا على ما يمكنكم أي: اعملوا انتم على ما تقولون، وأعمل أنا على ما أقول. وقيل: معناه اعملوا على ما أنتم عليه من دينكم ونحوه قوله (لكم دينكم ولي دين) وفي هذا دلالة على أنه آيس من قومه (إني عامل) على ما أمرني ربي. وقيل: إني عامل على ما أنا عليه من الإنذار (سوف تعلمون) أينا المخطئ الجاني على نفسه وقيل: معناه سوف يتبين لكم، وتعلمون في عاقبة الأمر (من يأتيه عذاب يخزيه) أي: يهينه ويفضحه، (ومن هو كاذب) ويظهر الكاذب من الصادق، وتقديره: ومن هو كاذب يخزى بعذاب الله فحذف. (وارتقبوا إني معكم رقيب) أي: انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب، إني معكم منتظر حلول العذاب بكم. وقيل: معناه انتظروا العذاب واللعنة، وأنا أنتظر الرحمة والثواب والنصرة، عن ابن عباس. وقيل: معناه انتظروا مواعيد الشيطان، وأنا أنتظر مواعيد الرحمن. وروي عن علي بن موسى الرضا عليه السلام، أنه قال: ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول العبد الصالح: (وارتقبوا إني معكم رقيب). (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا) مضى تفسيره (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) صاح بهم جبرئيل صيحة فماتوا (فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا
[ 325 ]
فيها) مضى تفسيره قبل (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) ألا بعدوا من رحمة الله بعدا كما بعدت ثمود. وقيل: ألا هلاكا لهم كما هلكت ثمود، وتقديره ألا أهلكهم الله فبعدوا بعدا. قال البلخي: يجوز أن تكون الصيحة صيحة على الحقيقة، كما روي. ويجوز أن تكون ضربا من العذاب أهلكهم الله به، واصطلمهم. تقول العرب: صاح الزمان بهم: إذا هلكوا. وقال امرؤ القيس: فدع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حديث ما حديث الرواحل (1) ومعنى (صيح في حجراته) أذهب وأهلك. قالوا: وانما شبه حالهم بحال ثمود خاصة، لأنهم أهلكوا بالصيحة كما أهلكت ثمود بمثل ذلك مع الرجفة. (ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (99) ذلك من أنباء القرا نقصه عليك منها قائم وحصيد (100) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرا وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (102) إن في ذلك لأية لمن خاف عذاب الأخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103). اللغة: يقال: قدمت القوم اقدمهم قدما إذا مشيت أمامهم واتبعوك. الأزهري: قدم يقدم وتقدم وقدم وأقدم واستقدم بمعنى. والورد: ورود الماء الذي يورد والإبل الواردة: والجمع أوراد. والإيراد: إيجاب الورود في الماء، أو ما يقوم مقامه. قال الشاعر: (1) الشعر مذكور في (جامع الشواهد) وفيه (دع عنك نهبا اه.). (*)
[ 326 ]
يرد المياه حضيرة ونفيضة، ورد القطاة إذا اسمأل التبع (1) وقال لبيد: فوردنا قبل فراط القطا إن من وردي تغليس النهل (2) وأصل الورود: الإشراف على الدخول، وليس بالدخول. قال عنترة: فلما وردن الماء زرقا جمامه، وضعن عصي الحاضر المتخيم (3) والرفد: العون على الأمر، يقال: رفده يرفده رفدا، ورفدا بفتح الراء وكسرها. قال الزجاج: كل شئ جعلته عونا لشئ، أو اسندت به شيئا، فقد رفدته به. يقال: عمدت الحائط واسندته وأرفدته ورفدته بمعنى واحد. ويقال: رفده وأرفده: إذا أعطاه، والاسم الرفد، لأن العطاء عون المعطي. والحصيد: بمعنى المحصود. والحصد: قطع الزرع من الأصل، وهذا زمن الحصاد بفتح الحاء وكسرها. ويقال: حصدهم بالسيف إذا قتلهم. وتتبيب: من تبت يده أي: خسرت، قال جرير: عرابة من بقية قوم لوط ألا تبا لما فعلوا تبابا والفرق بين العذاب والألم أن العذاب استمرار الألم، وقال عبيد: والمرء ما عاش في تكذيب طول الحياة له تعذيب المعنى: ثم عطف سبحانه قصة موسى (ع) على ما تقدم من قصص الأنبياء، فقال: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي: بحججنا ومعجزاتنا الدالة على نبوته (وسلطان مبين) أي: وحجة ظاهرة مخلصة من تلبيس وتمويه على أتم ما يمكن (1) قائلته سعدى الجهنية ترثي أخاها أسعد - والنفيضة والحضيرة كلاهما بمعنى الجماعة، ومنصوبان على الحال. والمعنى أنه يغزو وحده في موضع الحضيرة والنفيضة. وفي المثل (انه لأدل من قطاة) لأنها ترد الماء ليلا من الفلاة البعيدة. واسمأل الظل: إذا ارتفع. والتبع: الظل. (2) فراط القطا: متقدماتها إلى الوادي والماء. والتغليس: ورود الماء أول ما ينفجر الصبح. والنهل: أول الشرب. (3) جمام الماء: معظمه. معناه لما بلغن الماء أقمن عليه. وقد نسب الشعر في اللسان في (جمم) و (ورد) إلى زهير. (*)
[ 327 ]
فيه، والسلطان وإن كان في معنى الآيات، فإنما عطفه عليها لأن الآيات حجج من وجه الإعتبار العظيم بها. والسلطان حجة من جهة القوة العظيمة على المبطل، وكل عالم له حجة يقهر بها شبهة من نازعه من أهل الباطل، فله سلطان. وقد قيل: إن سلطان الحجة أنفذ من سلطان المملكة. والسلطان متى كان محقا حجة، وجب اتباعه، وإذا كان بخلافه لا يجب اتباعه. قال الزجاج: السلطان إنما سمي سلطانا لأنه حجة الله في أرضه، واشتقاقه من السليط الذي يستضاء به (إلى فرعون وملإه) أي: قومه. وقيل: أشراف قومه الذين تملأ الصدور هيبتهم (فاتبعوا أمر فرعون) وتركوا أمر الله تعالى (وما أمر فرعون برشيد) أي: مرشد. ومعناه: ما هو بهاد لهم إلى رشد، ولا قائد إلى خير. فأمر فرعون كان على ضد هذه الحال، لأنه داع إلى الشر، وصاد عن الخير. وفي هذا دلالة على أن لفظة الأمر مشتركة بين القول والفعل. والمراد هاهنا: وما فعل فرعون برشيد (يقدم قومه يوم القيامة) يعني أن فرعون يمشي بين يدي قومه يوم القيامة على قدميه، حتى يهجم بهم على النار، كما كان يقدمهم في الدنيا، يدعوهم إلى طريق النار. وإنما قال (فأوردهم) على لفظ الماضي، والمراد به المستقبل، لأن ما عطفه عليه من قوله (يقدم قومه يوم القيامة) يدل عليه، عن الجبائي. وقيل: إنه معطوف على قوله (فاتبعوا أمر فرعون). (وبئس الورد المورود) أي: بئس الماء الذي يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم (النار) إنما أطلق سبحانه على النار اسم (الورد المورود) ليطابق ما يرد عليه أهل الجنة من الأنهار والعيون. وقيل: معناه بئس المدخل المدخول فيه النار. وقيل: بئس الشئ الذي يرده النار وقيل: بئس النصيب المقسوم لهم لنار. وإنما اطلق بلفظ بئس، وان كان عدلا حسنا لما فيه من البؤس والشدة (واتبعوا في هذه) يعني ألحقوا في الدنيا (لعنة) وهي الغرق (ويوم القيامة) يعني: ولعنة يوم القيامة، وهي عذاب الآخرة. وقيل: معناه أتبعهم الله في الدنيا لعنة بإبعادهم من الرحمة، وأتبعهم الأنبياء والمؤمنون بالدعاء عليهم باللعنة، ويتبعهم الله اللعنة في القيامة حتى لا تفارقهم اللعنة حيث كانوا. قال ابن عباس: من ذكرهم لعنهم. (بئس الرفد المرفود) أي: بئس العطاء المعطى النار واللعنة، وإنما سماه رفدا، لأنه في مقابلة ما يعطى أهل الجنة من أنواع النعيم. وقال قتادة: ترافدت عليهم لعنتان من الله: لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة. وسأل نافع بن الأزرق ابن
[ 328 ]
عباس عن قوله (بئس الرفد المرفود) قال: هو اللعنة بعد اللعنة. وقال الضحاك: اللعنتان اللتان أصابتهم رفدت إحداهما الأخرى. (ذلك) أي ذلك النبأ (من أنباء القرى) أي: من أخبار البلاد (نقصه عليك) أي نذكره لك ونخبرك به تذكرة وتسلية لك يا محمد (منها قائم وحصيد) أي: من تلك الديار معمور وخراب، قد أتى عليه الإهلاك، ولم يعمر فيما بعد. وقيل: معناه منها قائم على بنائه لم يذهب أصلا وإن كان خاليا من أهله، وحصيد قد خرب وذهب واندرس أثره كالشئ المحصود، عن قتادة، وأبي مسلم. وقيل: منها قائم ينظر إليها، وحصيد قد هلك وباد أهله، عن ابن عباس. (وما ظلمناهم) بإهلاكهم (ولكن ظلموا أنفسهم) بأن كفروا وارتكبوا ما استحقوا به الهلاك، فكان ذلك ظلمهم لأنفسهم (فما أغنت عنهم آلهتهم) أي: أوثانهم (التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك) أي: عذاب ربك. وقيل: أمر ربك بإهلاكهم (وما زادوهم غير تتبيب) أي: غير تخسير، عن مجاهد، وقتادة. والمعنى: لم يزيدوهم شيئا غير الهلاك والخسار. وإنما أضاف الإهلاك إلى الأصنام، لأنها السبب في ذلك، ولو لم يعبدوها لم يهلكوا. وإنما قال: (يدعون من دون الله) لأنهم كانوا يسمونها آلهة، ويطلبون الحوائج منها، كما يطلبها الموحدون من الله (وكذلك أخذ ربك) أي: وكما ذكر من إهلاك الأمم، وأخذهم بالعذاب. أخذ ربك (إذا أخذ القرى) أي: أخذ أهلها وهو أن ينقلهم إلى العقوبة والهلاك (وهي ظالمة) من صفة القرى، وهو في الحقيقة لأهلها وسكانها ونحوه: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ هذه الآية. (إن أخذه أليم شديد) معناه: إن أخذ الله سبحانه الظالم مؤلم شديد الألم (إن في ذلك لآية) أي: إن فيما قصصنا عليك من إهلاك من ذكرناه على وجه العقوبة لهم على كفرهم، لعبرة وتبصرة، وعلامة عظيمة (لمن خاف عذاب الآخرة) أي: لمن خشي عقوبة الله يوم القيامة. وخص الخائف بذلك لأنه هو الذي ينتفع به بالتدبر، والتفكر فيه (ذلك يوم مجموع له الناس) أي: يجمع فيه الناس كلهم، الأولون والآخرون منهم، للجزاء والحساب. والهاء في (له) راجعة إلى اليوم (وذلك يوم مشهود) أي: يشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس، وأهل السماء وأهل الأرض، أي: يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه. وفي هذا دلالة على
[ 329 ]
إثبات المعاد، وحشر الخلق. (وما نؤخره إلا لأجل معدود (104) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد (105) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد (107) * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك عطاء غير مجذوذ (108). القراءة: قرأ يعقوب: (وما يؤخره) بالياء. والباقون: بالنون. وقرأ (يوم يأت) بغير ياء ابن عامر، وأهل الكوفة غير الكسائي. والباقون: (يأتي) باثبات الياء. وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: (سعدوا) بضم السين. والباقون: (سعدوا) بالفتح. الحجة: من قرأ (يؤخره) بالياء فإنه رده إلى قوله (أخذ ربك). ومن قرأ بالنون فإنه ابتداء والياء في المعنى كالنون وقوله (يوم يأت): قال الزجاج: الذي يختاره النحويون (يوم يأتي) وهذيل، يحذف هذه الياءات كثيرا. وقد حكى سيبويه، والخليل أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال أبو علي: من أثبت الياء في الوصل والوقف، فهو القياس البين. وأما من حذفها في الوقف إذا قال: يوم يأت، فلأنها وان لم تكن في فاصلة، امكن أن نشبهها بالفاصلة، لأن هذه الياء تشبه الحركات المحذوفة في الوصل، بدلالة أنهم حذفوها كما حذفوا الحركة، فكما أن الحركة تحذف في الوقف، فكذلك ما أشبهها من هذه الحروف كان في حكمها. فأما من حذفها في الوصل والوقف، فلأنه جعلها في الوصل والوقف بمنزلة ما استعمل محذوفا مما لم يكن ينبغي في القياس أن يحذف، نحو: لم يكن، ولا أدر، ومثله قول الشاعر: كفاك كف لا تبقي درهما جودا، وأخرى تعط بالسيف الدما حذف الياء من (تعطي)، وليس هنا ما يوجب حذفها. وأما قوله (سعدوا):
[ 330 ]
فقد قال أبو علي: حكى سيبويه سعد يسعد سعادة، فهو سعيد. وينبغي أن يكون غير متعد، كما أن خلافه الذي هو شقي، كذلك، وإذا كان كذلك كان ضم السين مشكلا، إلا أن يكون سمع فيه لغة خارجة عن القياس، أو يكون من باب فعل وفعلته، نحو غاص الماء وغصته، وحزن وحزنته. ولعلهم استشهدوا على ذلك بقولهم مسعود، وأنه يدل على سعد، ولا دلالة قاطعة في ذلك لأنه يجوز أن يكون مثل: أجنه الله فهو مجنون، وأحبه فهو محبوب. فالمفعول جاء في هذا على أنه حذفت الزيادة عنه، كما حذف من اسم الفاعل في نحو قوله: (وأرسلنا الرياح لواقح) يعني ملاقح، فجاء على حذف الزيادة. فعلى هذا يكون أصله أسعد، فحذف الزائد. ومن الحذف قول الشاعر (يخرجن من أجواز ليل غاض) (1) يريد مغض. اللغة: الشقاء والشقاوة والشقوة بمعنى. والياء في (شقي) منقلبة عن واو. والسعادة ضد الشقاوة. والزفير: أول نهاق الحمار. والشهيق: آخر نهاقه قال رؤبة: حشرج في الجوف صهيلا، أو شهق حتى يقال: ناهق وما نهق (2) والزفير: ترديد النفس مع الصوت من الحزن حتى تنتفخ الضلوع. وأصل الزفير: الشدة، من قولهم للشديد الخلق: مزفور. والزفر: الحمل على الظهر خاصة لشدته. والزفر: السيد، لأنه يطيق حمل الشدائد. وزفرت النار: إذا سمع لها صوت من شدة توقدها. والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، وأصله الطول المفرط، من قولهم: جبل شاهق. والخلود: الكون في الأمر أبدا. والدوام: البقاء أبدا. ولهذا يوصف سبحانه بأنه دائم، ولا يوصف بأنه خالد. والجذ: القطع، يقال: جذه يجذه، وجذ الله دابرهم. قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه، وتوقد بالصفاح نار الحباحب (3) (1) قائله رؤبة وبعده (نضو قداح النابل النواضي كانما ينضخن بالخضخاض) يصف المطايا بشدة السير. والخضخاض: القطران. يريد أنها عرقت من شدة السير فاسودت جلودها. والأجواز: الأوساط. وليل غاض أي: مظلم. (2) حشرجة الحمار: صوته يردده في حلقه. وفي اللسان: (سحيلا أو شهق) وهو الأقيس. فإن الصهيل للخيل والفرس. (3) السلوقي: الدرع المنسوبة إلى سلوق - قرية باليمن - والصفاح: الحجر العريض. ونار الحباحب: ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة. يصف السيوف. (*)
[ 331 ]
ويقال: جذها جذ البعير الصليانة (1)، وهي نبت. الاعراب: (يوم يأتي): لا يخلو أن يكون فاعل (يأتي) ضمير اليوم المضاف إلى يأتي، واليوم المتقدم ذكره فلا يجوز أن يكون فاعله ضمير اليوم الذي أضيف إلى يأتي، لأنك لا تقول جئتك يوم يسرك سروره إياك، ويكون الهاء عائدة إلى (يوم) فيصير اليوم مضافا إلى الفعل المسند إلى ضميره. وإنما تعرف الفعل فيه بالفاعل، فيكون كأنك إنما عرفت اليوم بنفسه. ونظير ذلك قولك: هذا يوم حره ويوم برده. والهاء لليوم. وهذا غير جائز، وكذلك لا يجوز أن تضيف الظرف إلى جملة معرفة بضميره، وإن كانت من مبتدأ وخبر، مثل أن تقول: آتيك يوم ضحوته باردة، وليلة أولها مطير. فإن نونت فقلت: آتيك يوما ضحوته باردة أو ليلة أولها مطير جاز، لأنه خرج بالتنوين عن حد الإضافة، وهذا قول أبي عثمان المازني. وإذ قد ثبت ذلك فقد ثبت أن في (يأتي) ضمير اليوم المتقدم ذكره في قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) أي: يوم يأتي هذا اليوم الذي تقدم ذكره لا تكلم نفس فاليوم في قوله (يوم يأتي) يراد به الحين والبرهة، وليس على وضح النهار. وقوله: (لا تكلم نفس إلا بإذنه) يجوز أن يكون هذه الجملة حالا من الضمير في (يأتي) ويجوز أن يكون صفة ليوم المضاف إلى يأتي، لأن يوم مضاف إلى يأتي، والفعل نكرة، فلا تتعرف يوم بالإضافة إليه. فجاز أن يوصف بالجملة كما توصف النكرات بالجمل. والمعنى: لا تكلم فيه نفس، فحذف فيه، أو حذف الحرف، وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الضمير من الفعل الذي هو صفة، كما يحذف من الصلة. ومثل ذلك قولهم: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت. وإذا جعلته حالا من الضمير في (يأتي) وجب أن تقدر فيه أيضا ضميرا يعود إلى ذي الحال، وتقديره غير متكلم فيه، هذا كله قول أبي علي. وأقول: إن الأظهر أن قوله (يوم يأتي) ظرف لقوله (لا تكلم نفس إلا بإذنه) ومعمول له، وهذا الوجه لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف كما في الوجهين اللذين ذكرناهما، فيكون أولى. وإنما يضاف (يوم) إلى الفعل لأنه اسم زمان. والفعل يناسب الزمان من حيث إنه لا يخلو منه، وإنما يتصرف بتصرفه، وأنه لا يكون حادثا إلا وقتا، كما أن الزمان لا يبقى. وقوله (لا تكلم) أي: لا تتكلم فحذف إحدى التائين كما في قول الشاعر: (1) مثل يضرب لمن يقدم على اليمين الكاذبة. (*)
[ 332 ]
والعين ساكنة علن أطلائها عوذا تأجل بالفضاء بهامها (1) أي تتأجل. وعطاء: منصوب بما دل الكلام عليه، فكأنه قال: أعطاهم النعيم عطاء. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن اليوم المشهود، وهو يوم القيامة، فقال: (وما نؤخره) أي: وما نؤخر هذا اليوم (إلا لأجل معدود) وهو أجل قد عده الله تعالى لعلمه أن صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت. وفيه إشارة إلى قربه لأن ما يدخل تحت العد فكأن قد نفد. وإنما قال: (لأجل)، ولم يقل: إلى أجل، لأن اللام يدل على الغرض، وان الحكمة اقتضت تأخيره وإلا، لا يدل على ذلك (يوم يأت) أي حين يأتي القيامة والجزاء (لا تكلم نفس إلا بإذنه) أي: لا يتكلم أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وأمره، ومعناه: أنه لا يتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه، لأن الخلق ملجأون هناك إلى ترك القبائح، فلا يقع منهم فعل القبيح. وأما ما هو غير قبيح، فإنه مأذون فيه، عن الجبائي. والأظهر أن يقال: معناه إنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة، إلا بإذنه. فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله: (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون)، وقوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) على أنه سبحانه قال في موضع آخر: (وقفوهم إنهم مسؤولون)، وهل هذا إلا ظاهر التناقض ؟ فالجواب: إن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، عن الحسن. وقيل: إن معنى قوله (لا ينطقون) أنهم لا ينطقون لحجة، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض. وهذا كما يقول القائل لمن تكلم بكلام كثير فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشئ، ولا نطقت بشئ. فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه: غير متكلم، كما قال سبحانه: (صم بكم عمي) وهم كانوا يسمعون ويتكلمون ويبصرون، إلا أنهم في أنهم لا يقبلون الحق، ولا يتأملون، بمنزلة الصم البكم (1) قائله لبيد في (المعلقة) قوله (العين) أي: واسعات العين. والطلا: ولد الوحش. والعوذ: الحديثات النتاج. والأجل: القطيع من بقر الوحش. والبهام: أولاد الضأن إذا انفردت. يقول: والبقر الواسعات العيون قد سكنت على أولادها ترضعها لكونها حديثات النتاج، وأولادها تصير قطعا قطعا في الصحراء. (*)
[ 333 ]
العمي. وكلا الوجهين حسن. وأما قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) فمعناه أنهم لا يسألون عن ذنوبهم للتعرف من حيث إن الله سبحانه علم أعمالهم، وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وتقرير، لإيجاب الحجة عليهم، كما في قوله: (وقفوهم إنهم مسؤولون) فأثبت سبحانه سؤال التقريع في آية، ونفى سؤال التعرف والاستعلام في أخرى فلا تناقض. وقوله (فمنهم شقي وسعيد) إخبار منه سبحانه بأنهم قسمان: أشقياء وهم المستحقون للعقاب. وسعداء وهم المستحقون للثواب. والشقاء: قوة أسباب البلاء. والسعادة: قوة أسباب النعمة. والشقي: من شقي بسوء عمله في معصية الله والسعيد: من سعد بحسن عمله في طاعة الله. والضمير في قوله (فمنهم) يعود إلى الناس في قوله (ذلك يوم مجموع له الناس). وقيل: إنه يعود إلى (نفس) في قوله (لا تكلم نفس إلا بإذنه) لأن النفس اسم الجنس (فأما الذين شقوا ففي النار) يعني أن الذين شقوا باستحقاقهم العذاب جزاء على أعمالهم القبيحة، داخلون في النار. وإنما وصفوا بالشقاوة قبل دخولهم النار، لأنهم على حال تؤديهم إلى دخولها. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الشقي من شقي في بطن أمه: فإن المراد بذلك أن المعلوم من حاله أنه سيشقى بارتكاب القبائح التي تؤديه إلى عذاب النار، كما يقال لابن الشيخ الهرم: إنه يتيم بمعنى أنه سييتم. (لهم فيها زفير وشهيق) قال الزجاج: الزفير والشهيق من أصوات المكروبين المحزونين. والزفير: من شديد الأنين وقبيحه بمنزلة ابتداء صوت الحمار. والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار. وعن ابن عباس قال: يريد ندامة. ونفسا عاليا، وبكاء لا ينقطع. (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) اختلف العلماء في تأويل هذا في الآيتين وهما من المواضع المشكلة في القرآن، والإشكال فيه من وجهين أحدهما: تحديد الخلود بمدة دوام السماوات والأرض. والآخر: معنى الإستثناء بقوله (إلا ما شاء ربك) فالأول فيه أقوال: أحدها: إن المراد ما دامت السماوات والأرض مبدلتين أي: ما دامت سماء الآخرة وأرضها، وهما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الإفناء، عن الضحاك، والجبائي. وثانيها: إن المراد ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء. وكل ما استقر عليه قدمك
[ 334 ]
فهو أرض. وهذا مثل الأول أو قريب منه وثالثها: إن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بنائها، عن الحسن ورابعها: إنه لا يراد به السماء والأرض بعينها، بل المراد التبعيد، فإن للعرب ألفاظا للتبعيد في معنى التأبيد، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما نبت النبت، وما أطت الإبل، وما اختلف الجرة والدرة، وما ذر شارق (1)، وفي أشباه ذلك كثرة، ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير. ويريدون بذلك التأييد لا التوقيت، فخاطبهم سبحانه بالمتعارف من كلامهم على قدر عقولهم، وما يعرفون. قال عمرو بن معد يكرب: وكل أخ مقارقه إخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان (2) وقال زهير: ألا لا أرى على الحوادث باقيا، ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وإلا السماء، والنجوم، وربنا، وأيامنا معدودة، واللياليا لأنه توهم أن هذه الأشياء لا تفنى وتخلد. وأما الكلام في الإستثناء: فقد اختلفت فيه أقوال العلماء على وجوه أحدها أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم لأهل الجنة. والتقدير: إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار، كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا. فالألفان زيادة على الألف بغير شك، لأن الكثير لا يستثنى من القليل، عن الزجاج، والفراء، وعلي بن عيسى، وجماعة. وعلى هذا فيكون (إلا) بمعنى سوى أي: سوى ما شاء ربك، كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي: سوى زيد. وثانيها: ان الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر والحساب، لأنهم حينئذ ليسوا في جنة، ولا نار، ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة، لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا، ولم يستثن، لظن الظان أنهم يكونون (1) الاطيط: صوت الابل وحنينها، أو صوت أجوافها من الكظة إذا شربت. والجرة بالكسر: ما يخرجه البهير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. والدرة: اللبن إذا كثر وسال. واختلافها أن الدرة تسفل إلى الرجلين. والجرة تعلو إلى الرأس. قاله في (اللسان). وذرت الشمس: طلعت. والشارق: الشمس. (2) الشعر مذكور في (جامع الشواهد). (*)
[ 335 ]
في النار والجنة، من لدن نزول الآية، أو من بعد انقطاع التكليف. فحصل للاستثناء فائدة، عن المازني وغيره، واختاره البلخي. فإن قيل كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها ؟ فالجواب: إن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها. وثالثها: ان الاستثناء الأول يتصل بقوله (لهم فيها زفير وشهيق) وتقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الإستثناء بالخلود، وفي أهل الجنة يتصل بما دل عليه الكلام، فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم. وإنما دل عليه قوله (عطاء غير مجذوذ)، عن الزجاج. ورابعها: أن يكون إلا بمعنى الواو أي: وما شاء ربك من الزيادة، عن الفراء. واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وأرى لها دارا بأغدرة السي * دان لم يدرس لها رسم إلا رمادا هامدا دفعت عنه الرياح خوالد سحم (1) قال: والمراد بإلا الواو ههنا، وإلا كان الكلام متناقضا. وهذا القول قد ضعفه محققو النحويين وخامسها: إن المراد بالذين شقوا: من أدخل النار من أهل التوحيد الذين ضموا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: إنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم. ويجوز أن يريد بالذين شقوا جميع الداخلين إلى جهنم، ثم استثنى بقوله (إلا ما شاء ربك) أهل الطاعات منهم، ممن استحق الثواب. ولا بد أن يوصل إليه، وتقديره إلا ما شاء ربك أن يخرجه بتوحيده من النار، ويدخله الجنة. وقد يكون (ما) بمعنى (من) قال سبحانه: (سبح لله ما في السماوات) وقالت العرب عند سماع الرعد: سبحان ما سبحت له. وأما في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه، لأن من ينقل إلى الجنة من النار وخلد فيها، لابد في الإخبار عنه بتأييد خلوده أيضا من استثناء ما تقدم فكأنه قال: خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم إلى الجنة. فما في قوله (ما شاء ربك) (1) قائله المخبل السعدي. وأغدرة السيدان: موضع بين البصرة والبحرين. والرماد الهامد: المتلبد بعضه على بعض. والخوالد: البواقي: عنى بها الأثافي. والسحمة: لون يضرب إلى السواد. والشاهد في أن (إلا) ههنا بمعنى الواو حيث قال: إن الأثافي دفعت عنه الرياح، فهو داخل في جملة ما لم يدرس، ولم يستثنه. (*)
[ 336 ]
ههنا على بابه، والإستثناء من الزمان، والإستثناء في الأول من الأعيان. والذين شقوا على هذا القول هم الذي سعدوا بأعيانهم. وإنما أجرى عليهم كل لفظ في الحال التي تليق به. فإذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها فهم من أهل الشقاء. وإذا نقلوا منها إلى الجنة، فهم من أهل السعادة. وهذا قول ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وقتادة، والسدي، والضحاك، وجماعة من المفسرين. وروى أبو ورق عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الذين شقوا ليس فيهم كافر، وإنما هم قوم من أهل التوحيد، يدخلون النار بذنوبهم، ثم يتفضل الله عليهم، فيخرجهم من النار إلى الجنة، فيكونون أشقياء في حال، سعداء في حال أخرى. وقال قتادة: الله أعلم بمشيئته ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع (1) من النار بذنوبهم، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته، يسمون الجهنميين، وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة. قال: وحدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يخرج قوم من النار قال ولا نقول ما يقوله أهل (حروراء). وهذا القول هو المختار المعول عليه. وسادسها أن تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج، لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به، فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون، لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها وسابعها: ما قاله الحسن: إن الله سبحانه استثنى، ثم عزم بقوله (إن ربك فعال لما يريد) أنه أراد أن يخلدهم. وقريب منه ما قاله الزجاج وغيره: إنه استثناء تستثنيه العرب وتفعله، كما تقول والله لأضربن زيدا إلا أن أرى غير ذلك، وأنت عازم على ضربه. والمعنى في الإستثناء على هذا أني لو شئت أن لا أضربه لفعلت. وثامنها: قال يحيى بن سلام البصري: إنه يعني بقوله (إلا ما شاء ربك) ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين، واحتج بقوله تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) قال: ان الزمرة تدخل بعد الزمرة، فلا بد أن يقع بينهما تفاوت في الدخول. والاستثناء أن على هذا من الزمان. وتاسعها: إن المعنى: خالدون في النار، دائمون فيها مدة كونهم في القبور، ما دامت السماوات والأرض في الدنيا. وإذا فنيتا وعدمتا، انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب. وقوله (إلا ما شاء ربك): استثناء وقع على ما (1) السفع: السواد. (*)
[ 337 ]
يكون في الآخرة. أورده الشيخ أبو جعفر (قدس الله روحه) وقال: ذكره قوم من أصحابنا في التفسير. وعاشرها: إن المراد إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنهم، فلا يدخلهم النار. والاستثناء لأهل التوحيد، عن أبي مجلز قال: هي جزاؤهم، وإن شاء سبحانه تجاوز عنهم. والاستثناء يكون على هذا من الأعيان. (وأما الذين سعدوا) أي: سعدوا بطاعة الله وانتهائهم عن المعاصي (ففي الجنة) يكونون في الجنة (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) أي مدة دوام السماوات والأرض (إلا ما شاء ربك) يتأتى فيه جميع ما ذكرنا في الإستثناء من الخلود في النار، إلا ما مضى ذكره من جواز اخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم، وإخراجهم من النار بعد دخولهم فيها. فإن ذلك لا يتأتى ههنا لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب، فلا بد أن يدخل الجنة، وأنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها (عطاء غير مجذوذ) أي: غير مقطوع. (فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد أآباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109) ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (110) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير (111) فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112). القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، وحفص: (وإن كلا لما) بتشديد النون والميم. وقرأ أهل البصرة، والكسائي، وخلف: (وإن كلا) بتشديد النون (لما) بتخفيف الميم. وقرأ نافع، وابن كثير. (وإن كلا) خفيفة النون (لما) خفيفة الميم. وقرأ أبو بكر عن عاصم: (وإن كلا) خفيفة النون (لما) مشددة الميم. وفي الشواذ قراءة الزهري، وسليمان بن أرقم: (لما) بالتنوين وقراءة ابن مسعود (وإن كل) بالرفع إلا (ليوفينهم). الحجة: قال أبو علي: من قرأ (وإن كلا لما) بتشديد (إن) وتخفيف (لما): فوجهه بين، وهو أنه نصب كلا بأن. وأن يقتضي أن يدخل على خبرها أو
[ 338 ]
اسمها لام، فدخلت هذه اللام، وهي لام الابتداء على الخبر في قوله (لما) وقد دخلت في الخبر لام الأخرى، وهي التي تلقي بها القسم، ويختص بالدخول على الفعل، ويلزمها في أكثر الأمر إحدى النونين. فلما اجتمعت اللامان، واتفقتا في تلقي القسم، وافقتا في اللفظ، فصل بينهما بما، كما فصلوا بين إن واللام، فدخلت (ما) لهذا المعنى، وإن كانت زائدة لتفصل كما جلبت النون. وإن كانت زائدة في نحو: (وأما ترين من البشر أحدا) وكما صارت عوضا من الفعل في قولهم أما لا بالامالة، وفي قوله: أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم يأكلهم الضبع (1) ويلي هذا الوجه في البيان قول من خفف: (إن)، ونصب (كلا) وخفف (لما). قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لمنطلق. قال: وأهل المدينة يقرأون: (وإن كلا لما جميع لدينا محضرون) يخففون وينصبون، كما قالوا: (كأن ثدييه حقان) (2). ووجه النصب بها مع التخفيف من القياس أن إن مشبهة في نصبها بالفعل. والفعل يعمل محذوفا كما يعمل غير محذوف، وذلك في نحو لم يك زيد منطلقا (فلا تك في مرية) وكذلك لا أدر. فأما من خفف (أن) ونصب (كلا) وثقل (لما): فقراءته مشكلة، وذلك أن إن إذا نصب بها، وإن كانت مخففة كانت بمنزلتها مثقلة. ولما: إذا شددت كانت بمنزلة إلا، وكذلك قراءة من شدد (لما) وثقل (أن) مشكلة، وذلك أن إن إذا ثقلت، وإذا خففت، ونصب بها: فهي في معنى الثقيلة، فكما لا يحسن تثقيل ان زيدا إلا منطلق، كذلك لا يحسن تثقيل إن، وتثقيل لما. فأما مجئ (لما) في قولهم نشدتك الله لما فعلت، وإلا فعلت، فقال الخليل: الوجه لتفعلن كما تقول أقسمت عليك لتفعلن. وأما دخول إلا ولما: فلأن المعنى الطلب، فكأنه أراد: ما أسألك إلا فعل كذا. ولم يذكر حرف النفي في اللفظ، وإن كان مرادا كما جاء في قولهم: شر أهر ذا ناب أي: ما أهره إلا شر. (1) قائله: عباس بن مرداس. والشعر مذكور في (جامع الشواهد). (2) لم يعرف قائله، وقبله: (وصدر مشرق النحر) ويروى بالألف على إهمال كان في اللفظ، ووجه الرواية بالياء ظاهر. (*)
[ 339 ]
وليس في الآية معنى نفي، ولا طلب. فإن قال قائل: لمن ما فأدغم النون في الميم، بعد ما قلبها ميما، فإن ذلك لا يسوغ. ألا ترى أن الحرف المدغم إذا كان قبله ساكن، نحو: قوم مالك، لم يقو الإدغام فيه على أن يحرك الساكن الذي قبل الحرف المدغم. فإذا لم يجز ذلك فيه، وكان التغيير أسهل من الحذف، فإن لا يجوز الحذف الذي هو أذهب في باب التغيير من تحريك الساكن أجدر. على أن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام، أكثر مما كان يجتمع في لمن ما، ولم يحذف منها شئ، وذلك قوله: (على أمم ممن معك). فإذا لم يحذف شئ من هذا فإن لا يحذف، ثم أجدر. وقد روي أنه قد قرأ، (وان كلا لما) منونا كما قال: (وتأكلون التراث أكلا لما) فوصف بالمصدر. فإن قال إن لما فيمن ثقل: إنما هو لما هذه وقف عليها بالألف، ثم أجري في الوصل مجرى الوقف. فذلك مما يجوز في الشعر، ووجه الإشكال فيه أبين من هذا الوجه. وقد حكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في لما ولم يبعد فيما. قال: ولو خفف مخفف أن، ورفع كلا بعدها، لجاز تثقيل لما مع ذلك، على أن يكون المعنى ما كل إلا ليوفينهم فيكون ذلك كقوله (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) ولكان ذلك أبين من النصب في كل والتثقيل للما. وينبغي أن يقدر المضاف إليه كل نكرة، ليحسن وصفه بالنكرة، ولا يقدر إضافته إلى معرفة، فيمتنع أن يكون لما وصفا له، ولا يجوز أن يكون حالا، لأنه لا شئ في الكلام عاملا في الحال. هذا كله كلام أبي علي. وقال غيره: في معنى (لما) بالتشديد أربعة أوجه أحدها: قول الفراء إنها بمعنى لمن ما، فحذفت إحدى الميمات الثلاث على ما تقدم ذكره، وأنشد الفراء: وإني لما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره والثاني: إنها بمعنى إلا، كقولهم: سألتك لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، عن الزجاج. وقال الفراء: هذا لا يجوز إلا في اليمين، كما قاله أبو علي. والثالث: إنها مخففة شددت للتأكيد، عن المازني. قال الزجاج: هذا لا يجوز لأنه إنما يجوز تخفيف المشدد عند الضرورة. فأما تشديد المخفف، فلا يجوز بحال والرابع: إنها من لممت الشئ: إذا جمعته، إلا أنها بنيت على فعلى، فلم تصرف مثل تترى. فكأنه قال: وإن كلا جميعا ليوفينهم. ويدل عليه قراءة الزهري: لما بالتنوين. وقال ابن جني: تقديره هذا وان كلا ليوفينهم ربك أعمالهم لما أي: توفية جامعة لأعمالهم
[ 340 ]
جميعا، ومحصلا لأعمالهم تحصيلا، فهو كقولك قياما لأقومن. وذكر الشيخ علي ابن أبي الطيب، رحمة الله عليه فيه وجها آخر، فقال: هاهنا محذوف وتقديره: وإن كلا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم. والحذف في الكلام كثير. قال الشاعر: إذا قلت سيروا إن ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أعضب (1) والمراد: لعلها تلقاني، أو تصلني، أو نحو هذا. فهذا وجه خامس. فأما إذا خففت (إن)، فانتصاب (كلا) مع حمل (إن) على النفي مشكل. وقد ذكر فيه أن يكون التقدير وإن هم إلا ليوفينهم كلا، أو وإن هم أعني كلا إلا ليوفينهم. وهذان الوجهان مرغوب عنهما. وعلى الجملة فإن تشديد الميم من (لما) مع تشديد إن، وتخفيفه مشكل عند المحققين، إذ لا يتأتى في (لما) هذه معنى لم. ولا معنى الحين، ولا معنى إلا، ولا يعرف لها معنى سوى هذه. ومن قرأ: (وان كل إلا ليوفينهم) فمعناه: ما كل إلا والله ليوفينهم كقولك: ما زيد إلا لأضربنه أي: ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا. ويجوز أن يكون مخففة من الثقيلة، وإلا زائدة، كما في قول الشاعر: أرى الدهر إلا منجنونا بأهله، وما طالب الحاجات إلا معللا (2) أي: أرى الدهر منجنونا بأهله. وعلى ذلك تأولوا بيت ذي الرمة: حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو يرمي بها بلدا قفرا أي: ما تنفك مناخة. وإلا: زائدة. اللغة: المرية: بكسر الميم وضمها: الشك مع ظهور الدلالة للتهمة، وهي مأخوذة من مرى ضرع الناقة ليدر بعد دروره. والنصيب: الحظ، وهو القسم المجعول له، ومنه أنصباء الورثة. والإختلاف: ذهاب كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر، وهو على وجهين اختلاف النقيضين. وهذا لا يجوز أن يصحا معا، فإن أحدهما مبطل لصاحبه. والآخر اختلاف الجنسين كاختلاف المجتهدين في جهة القبلة. فهذا يجوز أن يصحا معا. والاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة، وأن لا (1) الشعر في (جامع الشواهد) والرواية فيه: (إذا قيل سيروا). (2) هذا البيت، وكذا البيت الآتي، مذكوران في (جامع الشواهد). (*)
[ 341 ]
يعدل يمينا وشمالا. والطغيان: تجاوز المقدار في الفساد. الاعراب: (ومن تاب): موصول، وصلة في موضع رفع بالعطف على الضمير المستكن في (استقم). ويجوز أن يكون معطوفا على التاء من (أمرت). ويكون التقدير في الأول: استقم أنت ومن تاب معك. وفي الثاني: كما أمرت أنت ومن تاب معك. ويجوز أن يكون (من تاب) منصوب الموضع بكونه مفعولا معه. المعنى: (فلا تك في مرية) أي: في شك (مما يعبد هؤلاء) من دون الله تعالى، أنه باطل، وأنهم يصيرون بعبادتهم إلى عذاب النار (ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل) يعني: ما يعبدون غير الله تعالى إلا على جهة التقليد، كما كان آباؤهم كذلك (وإنا لموفوهم نصيبهم) أي: إنا لمعطوهم جزاء أعمالهم، وعقاب اعمالهم وافيا (غير منقوص) عن مقدار ما استحقوه. آيسهم سبحانه بهذا القول عن العفو. وقيل: معناه أنا نعطيهم ما يستحقونه من العقاب، بعد أن نوفيهم ما حكمنا لهم به من الخير في الدنيا، عن ابن زيد. (ولقد آتينا) أي: أعطينا (موسى الكتاب) يعني التوراة (فاختلف فيه) يريد أن قومه اختلفوا فيه أي: في صحة الكتاب الذي أنزل عليه، وأراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه إياه، وجحدهم للقرآن المنزل عليه. فبين أن قوم موسى كذلك فعلوا بموسى، فلا تحزن لذلك، ولا تغتم له. (ولولا كلمة سبقت من ربك) أي: لولا خبر الله السابق بأنه يؤخر الجزاء إلى يوم القيامة، لما علم في ذلك من المصلحة (لقضي بينهم) أي: لعجل الثواب والعقاب لأهله. وقيل: معناه لفصل الأمر على التمام بين المؤمنين والكافرين بنجاة هؤلاء، وهلاك أولئك. (وإنهم لفي شك منه مريب) يعني: إن الكافرين لفي شك من وعد الله ووعيده، مريب. والريب: أقوى الشك. وقيل: معناه إن قوم موسى لفي شك من نبوته (وإن كلا) من الجاحدين والمخالفين. وقيل: إن كل من الفريقين المصدق، والمكذب جميعا (لما ليوفينهم ربك أعمالهم) أي: يعطيهم ربك جزاء أعمالهم، وافيا تاما إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. (إنه بما يعملون خبير) يعني: إنه عليم بأعمالكم، وبما استحققتم من الجزاء عليها، لا يخفى عليه شئ من ذلك (فاستقم) يا محمد (كما أمرت) أي: استقم على الوعظ والإنذار، والتمسك بالطاعة، والأمر بها، والدعاء عليها. والاستقامة هو أداء المأمور به،
[ 342 ]
والانتهاء عن المنهي عنه. كما أمرت في القرآن (ومن تاب معك) أي: وليستقم من تاب معك من الشرك كما أمروا، عن ابن عباس. وقيل: معناه ومن رجع إلى الله، وإلى نبيه، فليستقم أيضا أي: فليستقم المؤمنون. وقيل: استقم أنت على الأداء، وليستقيموا على القبول (ولا تطغوا) أي: لا تجاوزوا أمر الله بالزيادة والنقصان، فتخرجوا عن حد الإستقامة. وقيل: معناه ولا تطغينكم النعمة فتخرجوا عن حد الإستقامة، عن الجبائي. وقيل: معناه لا تعصوا الله، ولا تخالفوه. (إنه بما تعملون بصير) أي: عليم بأعمالكم، لا تخفى عليه منها خافية. وروى الواحدي بإسناده عن إبراهيم بن أدهم، عن مالك بن دينار، عن أبي مسلم الخولاني، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتاد، ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد، لم تبلغوا حد الإستقامة. وقال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت أشد عليه، ولا أشق من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه، حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله !: شيبتني هود، والواقعة. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: إنه لما قص نبأ الأمم وإهلاكهم بكفرهم، أخبر عقيب ذلك عن بطلان ما كانوا عليه، وأنه يوفيهم جزاء أعمالهم. وقيل: إنه سبحانه بين فيما قبل اختلاف الأمم على أنبيائهم، تكذيبا لهم، ثم بين في هذه الآية أن خلاف هؤلاء كخلاف أولئك خلاف كفر، لا خلاف اجتهاد، عن أبي مسلم. وكذلك اتصال الآية الثانية، فإنه بين فيها أن تكذيب هؤلاء الكفار بالذي آتيناك، كتكذيب أولئك بالكتاب الذي آتيناه موسى. (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113) وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرا للذاكرين (114) واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (115) فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ
[ 343 ]
أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) وما كان ربك ليهلك القرا بظلم وأهلها مصلحون (117). القراءة: قرأ أبو جعفر: (وزلفا) بضم اللام. والباقون: بفتح اللام. الحجة: من قرأ (زلفا) بفتح اللام: فإنه جمع زلفة: وهي المنزلة. قال العجاج: ناج، طواه الأين مما وجفا طي الليالي زلفا فزلفا (1) ومن قرأ بضم اللام: فإنه واحد مثل الحلم، وجائز أن يكون جمعا على زليف من الليل، فيكون مثل قريب وقرب. قال الزجاج: والزلف بالفتح أجود في الجمع، وما علمت أن زليفا يستعمل في الليل، وهو منصوب على الظرف. اللغة: الركون إلى الشئ: هو السكون إليه بالمحبة له، والإنصات إليه. ونقيضه النفور عنه. والصبر: حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق، وضده الجزع. قال: فإن تصبرا فالصبر خير مغبة، وإن تجزعا فالأمر ما تريان (2) وهو مأخوذ من الصبر المر لأنه يجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى. ومما يعين على الصبر شيئان أحدهما: العلم بما يعقب من الخير في كل وجه، وعادة النفس له والثاني: إستشعار ما في لزوم الحق من العز والأجر بطاعة الله. والبقية: ما بقي من الشئ بعد ذهابه، وهو الاسم من الإبقاء، ويقال في فلان بقية أي: فضل مما يمدح به وخير، كأنه قيل بقية خير من الخير الماضي. و (أترفوا) أي: عودوا الترفه بالنعيم، واللذة، وذلك إن الترفه عادة النعمة، قال: تهدى رؤوس المترفين الضداد إلى أمير المؤمنين الممتاد (3) (1) الناج: البعير السريع. وطواه أي أهزله. الأين: التعب. والوجف: سرعة السير. وبعد هذا البيت قوله: (سماوة الهلال حتى احقوقفا) وبه يتم المعنى أي: كما يطوي الليالي الهلال، (2) مغبة الأمر: عاقبته. (3) قائله رؤبة. (*)
[ 344 ]
أي: المسؤول. وإنما قيل للمتنعم مترف: لأنه مطلق له، لا يمنع من تنعمه. الاعراب: (فتمسكم): منصوب لأنه جواب النهي بالفاء. وتقديره: لا يكن منكم ركون إلى الظالمين فتمس النار إياكم. (ثم لا تنصرون): ارتفع (تنصرون) على الاستئناف. (طرفي النهار) منصوب على الظرف. (وزلفا): معطوف عليه. (إلا قليلا): إستثناء منقطع بمعنى لكن، عن الزجاج. تقديره لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد. المعنى: ثم نهى الله سبحانه عن المداهنة في الدين، والميل إلى الظالمين، فقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) أي: ولا تميلوا إلى المشركين في شئ من دينكم، عن ابن عباس. وقيل: لا تداهنوا الظلمة، عن السدي، وابن زيد. وقيل: إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، أو إظهار موالاتهم. فأما الدخول عليهم، أو مخالطتهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم، فجائز عن القاضي. وقريب منه ما روي عنهم عليهم السلام: إن الركون المودة، والنصيحة، والطاعة. (فتمسكم النار) أي: فيصيبكم عذاب النار (وما لكم من دون الله من أولياء) أي: ما لكم سواه من أنصار يدفعون عنكم عذاب الله. وفي هذا بيان أنهم متى خالفوا هذا النهي، وسكنوا إلى الظالمين، نالتهم النار، ولم يكن لهم ناصر يدفع عنهم، عقوبة لهم على ذلك (ثم لا تنصرون) أي: لا تنصرون في الدنيا على أعدائكم، لأن نصر الله نوع من الثواب، فيكون للمطيعين (وأقم الصلاة) أي: أدها، وائت بأعمالها على وجه التمام في ركوعها، وسجودها، وسائر فروضها. وقيل: معناه اعملها على استواء. وقيل: أدم على فعلها. (طرفي النهار وزلفا من الليل) قيل: أراد بطرفي النهار: صلاة الفجر، والمغرب. وبزلف من الليل: صلاة العشاء الآخرة. والزلف: أول ساعات الليل، عن ابن عباس، وابن زيد. قالوا: وترك ذكر الظهر والعصر لأحد أمرين: إما لظهورهما في أنهما صلاتا النهار، فكأنه قال وأقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلاة النهار. وإما لأنهما مذكورتان على التبع للطرف الأخير، لأنهما بعد الزوال، فهما أقرب إليه. وقد قال سبحانه (أقم الصلاة لدلوك الشمس، إلى غسق
[ 345 ]
الليل. ودلوك الشمس: زوالها، وهذا القول هو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: صلاة طرفي النهار: الغداة والظهر، والعصر. وصلاة زلف الليل: المغرب والعشاء الآخرة، عن الزجاج، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن، قالوا: لأن طرف الشئ من الشئ، وصلاة المغرب ليست من النهار. قال الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المغرب والعشاء زلفتا الليل. وقيل: أراد بطرفي النهار صلاة الفجر وصلاة العصر (إن الحسنات يذهبن السيئات) قيل: في معناه إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب، لأنه عرف الحسنات بالألف واللام. وقد تقدم ذكر الصلاة، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين. وذكر الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا يابسا منها، فهزه حتى تحات ورقه (1)، ثم قال: يا أبا عثمان ! ألا تسألني لم أفعل هذا ؟ قلت: ولم تفعله ؟ قال: هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها غصنا يابسا، فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا ؟ قلت: ولم فعلته ؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم قرأ هذه الآية (وأقم الصلاة) إلى آخرها. وباسناده عن أبي إمامة. قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله ! إني أصبت حدا فأقمه علي فقال: هل شهدت الصلاة معنا ؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: فإن الله قد غفر لك حدك، أو قال: ذنبك. وبإسناده عن الحرث، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في المسجد، ننتظر الصلاة، فقام رجل، فقال: يا رسول الله ! إني أصبت ذنبا. فأعرض عنه. فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الصلاة، قام الرجال فأعاد القول، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أليس قد صليت معنا هذه الصلاة، وأحسنت لها الطهور ؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك. وروى أصحابنا عن ابن محبوب، عن إبراهيم الكرخي، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخل عليه رجل من أهل المدينة، فقال له: من أين جئت ؟ ثم (1) أي: تساقط. (*)
[ 346 ]
قال له: تقول جئتك من ههنا وههنا لغير معاش تطلبه، ولا بعمل آخر تكسبه، أنظر بماذا تقطع يومك وليلتك، واعلم أن معك ملكا كريما، موكلا بك، يحفظ عليك ما تصنع، ويطلع على سرك الذي تخفيه من الناس، فاستحيي لا تستحقرن سيئة، فإنها ستسوؤك يوما، ولا تحقرن حسنة، وإن صغرت عندك، وقلت في عينك، فإنها ستسرك يوما، واعلم أنه ليس شئ أضر عاقبة، ولا أسرع ندامة من الخطيئة، وأنه ليس شئ أشد طلبا، ولا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة، أما إنها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسي عند عامله، فتجتذبه وتسقطه، وتذهب به بعد إثباته وذلك قول الله سبحانه (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين). ورووا عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أحدهما، عليهما السلام يقول: إن عليا عليه السلام، أقبل على الناس فقال: أية آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟ فقال بعضهم (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية. فقال: حسنة، وليست إياها. وقال بعضهم: (ومن يعمل سوءا ويظلم نفسه). قال: حسنة وليست إياها. وقال بعضهم: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) قال: حسنة وليست إياها. وقال بعضهم. (والذين إذا فعلوا فاحشة) الآية. قال: حسنة وليست إياها. قال: ثم أحجم الناس. فقال: ما لكم يا معشر المسلمين ؟ فقالوا: لا والله ما عندنا شئ. قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) وقرأ الآية كلها. قال: يا علي ! والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا ! إن أحدكم ليقوم من وضوئه، فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه، لم ينفتل وعليه من ذنوبه شئ، كما ولدته أمه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين، كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي ! إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي، كنهر جار على باب أحدكم، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن، ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات، أكان يبقى في جسده درن ؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي. وقيل: (إن الحسنات يذهبن السيئات) معناه: إن الدوام على فعل الحسنات، يدعو إلى ترك السيئات، فكأنها يذهبن بها. وقيل: إن المراد بالحسنات: التوبة، فإنها تذهب السيئات بأن تسقط عقابها، لأنه لا خلاف في أن العقاب يسقط عند التوبة (ذلك ذكرى للذاكرين) يعني: إن ما ذكره من أن الحسنات
[ 347 ]
تذهب السيئات، فيه تذكار وموعظة لمن تذكر به، وفكر فيه (واصبر) قيل: معناه واصبر على الصلاة كما قال: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها). (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي: المصلين، عن ابن عباس. وقيل: معناه إصبر يا محمد على أذى قومك، وتكذيبهم إياك، وعلى القيام بما افترضته عليك، وعلى أداء الواجبات، والامتناع عن المقبحات، فإن الله لا يهمل جزاء المحسنين على إحسانهم، ولا يبطله، بل يكافيهم عليه أكمل الثواب. (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية) أي: هلا كان، وإلا كان، ومعناه: النفي، وتقديره: لم يكن من القرون من قبلكم قوم باقون (ينهون عن الفساد في الأرض) أي: كان يجب أن يكون منهم قوم بهذه الصفة، مع إنعام الله تعالى عليهم، بكمال العقل، وبعثة الرسل إليهم، وإقامة الحجج لهم. وهذا تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من قبلهم في الفساد نحو عاد، وثمود، والقرون التي عدها القرآن، وأخبر بهلاكها أي: إن العجب منهم، كيف لم تكن من جملتهم بقية في الأرض، يأمرون فيها بالمعروف، وينهون عن المنكر ؟ وكيف اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب، وأنواع العقوبات لكفرهم بالله، ومعاصيهم له. وقيل: (أولوا بقية) معناه: ذوو دين وخير. وقيل: معناه ذوو بركة. وقيل: ذوو تمييز وطاعة (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) المعنى: إن قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد، وهم الأنبياء والصالحون الذين آمنوا مع الرسل، فأنجيناهم من العذاب الذي نزل بقومهم. وإنما جعلوا هذا الاستثناء منقطعا، لأنه إيجاب لم يتقدم فيه صيغة النفي، وإنما تقدم تهجين خرج مخرج السؤال، ولو رفع لجاز في الكلام. (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) أي: واتبع المشركون ما عودوا من النعم والتنعم، وإيثار اللذات على أمور الآخرة، واشتغلوا بذلك عن الطاعات (وكانوا) أي: وكان هؤلاء المتنعمون البطرون (مجرمين) مصرين على الجرم. وفي الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر، لأنه سبحانه ذمهم بترك النهي عن الفساد، وأخبر بأنه أنجى القليل منهم لنهيهم عن ذلك، ونبه على أنه لو نهى الكثير كما نهى القليل، لما هلكوا. ثم أخبر سبحانه أنه لم يهلك إلا بالكفر والفساد، فقال: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وذكر في تأويله وجوه: أحدها: إن المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه لهم، ولكن إنما
[ 348 ]
يهلكهم بظلمهم لأنفسهم، كما قال: (إن الله لا يظلم الناس شيئا) الآية. وثانيها: إن معناه لا يؤاخذهم بظلم واحدهم، مع أن أكثرهم مصلحون، ولكن إذا عم الفساد، وظلم الأكثرون، عذبهم. وثالثها: انه لا يهلكهم بشركهم وظلمهم لأنفسهم، وهم يتعاطون الحق بينهم أي: ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة أن يهلكهم الله بالعذاب، عن ابن عباس في رواية عطا. و (الواو) في قوله (وأهلها): واو الحال. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: وأهلها مصلحون ينصف بعضها بعضهم. النظم: وجه اتصال قوله تعالى (فلولا كان من القرون من قبلكم) الآية. بما قبلها: إنه تعالى لما ذكر إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية، عقب ذلك بأنهم أتوا في إهلاكهم من قبل نفوسهم، ولو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالصلاح، وينهون عن الفساد، لما استأصلناهم رحمة منا، ولكنهم لما عمهم الكفر، استحقوا عذاب الإستئصال. (ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرا للمؤمنين (120) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتطروا إنا منتظرون (122) ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123). القراءة: قرأ (يرجع الأمر) بضم الياء وفتح الجيم وكسرها نافع وحفص والباقون (يرجع) بفتح الياء. وقرأ (عما تعملون) بالتاء هنا، وفي آخر النمل أهل المدينة، والشام، ويعقوب، وحفص. والباقون بالياء. الحجة: من ضم الياء من يرجع فلقوله (ثم ردوا) إلى الله مولاهم الحق، والمعنى رد أمرهم إلى الله. ومن فتح الياء فلقوله و (والأمر يومئذ لله) والمعنيان متقاربان. ومن قرأ بالتاء في (تعملون) جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمته، وهو
[ 349 ]
أعم فائدة. ومن قرأ بالياء وجهه إلى من تقدم ذكره من الكفار، وفيه ضرب من التهديد. اللغة: القصص: الخبر عن الأمور بما يتلو بعضه بعضا، لأنه من قصه يقصه: إذا اتبع أثره، لأنه يتبع أثر من يخبر عنه. والنبأ: الخبر بما فيه عظيم الشأن، يقولون: لهذا الأمر نبأ. والتثبيت: تمكين إقامة الشئ من الثبوت يقال: ثبته بتسكينه، وثبته بتمكينه، وثبته بالدلالة على ثبوته، وثبته بالخبر عن وجوده والفؤاد: القلب، مأخوذ من المفتأد، وهو المشوي، قال: كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد (1) والمكانة: الطريقة التي يتمكن من العمل عليها، وله مكانة عند السلطان أي: جاه وقدر. والإنتظار: طلب الإدراك لما يأتي من الأمر، لأنه من النظر. والفرق بين الانتظار والترجي: إن الترجي للخير خاصة، والإنتظار في الخير والشر. الاعراب: (إلا من رحم ربك) قال الزجاج: هو استثناء على معنى لكن، وتقديره: لكن من رحم ربك، فإنه غير مختلف. وقوله (لأملأن جهنم): جواب القسم، وتقديره: يمينا لأملأن كما تقول حلفي لأضربنك، وبدا لي لأضربك. وكل فعل كان تأويله كتأويل بلغني، أو قيل لي، أو انتهى إلي، فإن (اللام وإن) يصلحان فيه. فتقول: بدا لي لأضربنك، وبدا لي أن أضربك. ولو قيل وتمت كلمة ربك أن يملأ جهنم، كان صوابا. (وكلا نقص عليك) نصب على المصدر، وتقديره: وكل القصص نقص عليك. وقيل: إنه نصب على الحال، فقدم الحال قبل العامل، كما تقول كلا ضربت القوم. ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول به، وتقديره: وكل الذي يحتاج إليه نقص عليك، ويكون (ما نثبت به فؤادك) بدلا منه، قاله الزجاج. وقوله: (إنا عاملون) (إنا منتظرون) لو دخلت الفاء فقال: فإنا، لأفاد أن الثاني لأجل الأول، وحيث لم يدخل لم يفد ذلك. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال: (ولو شاء ربك لجعل (1) قائله االنابغة في (معلقته). الشرب: جمع الشارب. ونسوه أي: تركوه قال في (اللسان): المفتأد: موضع الوقود. ثم أنشد هذا الشعر، ثم قال. والتفؤد: التوقد. والفؤاد: القلب لتفؤده، وتوقده. (*)
[ 350 ]
الناس أمة واحدة) أي: على ملة واحدة، ودين واحد، فيكونون مسلمين صالحين، عن قتادة. وذلك بأن يلجئهم إلى الإسلام، بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه، لكن ذلك ينافي التكليف، ويبطل الغرض بالتكليف، لأن الغرض به استحقاق الثواب، والإلجاء يمنع من استحقاق الثواب، فلذلك لم يشأ الله ذلك، ولكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم، ليستحقوا الثواب. وقيل: معناه لو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة في الجنة، على سبيل التفضل، لكنه اختار لهم أعلى الدرجتين، فكلفهم ليستحقوا الثواب، عن أبي مسلم. وقيل: معناه لو شاء لرفع الخلاف فيما بينهم. (ولا يزالون مختلفين) في الأديان بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، وغير ذلك، عن مجاهد، وقتادة، وعطا، والأعمش، والحسن في إحدى الروايتين عنه. وفي الرواية الأخرى عنه أنهم مختلفون في الأرزاق، والأحوال، ولتسخير بعضهم لبعض. وقيل: معناه يخلف بعضهم بعضا في الكفر، تقليدا من غير نظر، فإن قولك: خلف بعضهم بعضا، وقولك: اختلفوا سواء، كما أن قولك قتل بعضهم بعضا، وقولك: اقتتلوا سواء، عن أبي مسلم. (إلا من رحم ربك) من المؤمنين، فإنهم لا يختلفون، ويجتمعون على الحق، عن ابن عباس. والمعنى: لا يزالون مختلفين بالباطل إلا من رحمهم الله بفعل اللطف لهم، الذي يؤمنون عنده، ويستحقون به الثواب، فإن من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل (ولذلك خلقهم) إختلف في معناه فقيل: يريد وللرحمة خلقهم، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وهذا هو الصحيح. واعترض على ذلك بأن قيل: لو أراد الله ذلك. لقال: ولتلك خلقهم، لأن الرحمة مؤنثة، وهذا باطل، لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فإذا ذكر، فعلى معنى التفضل والانعام. وقد قال سبحانه: (هذا رحمة من ربي) و (إن رحمة الله قريب) ومثله قول امرئ القيس: برهرهة، رؤدة، رخصة كخزعوبة البانة المنفطر (1) ولم يقل المنفطرة، لأنه ذهب إلى الغصن، وقال: (1) البرهرهة: المرأة التي لها بريق من صفائها. وقيل: هي الرقيقة الجلد. والرؤدة. الشابة الحسنة. وخزعوبة: القضيب الغض. والبانة: شجر. والمنفطر: المنشق. (*)
[ 351 ]
قامت تبكيه على قبره: من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار في غربة قد ذل من ليس له ناصر ولم يقل ذات غربة، لأنه أراد شخصا ذا غربة، وقالت الخنساء: فذلك يا هند الرزية فاعلمي، ونيران حرب حين شب وقودها (1) أراد الرزء. وفي أمثال ذلك كثرة على أن قوله (إلا من رحم ربك) كما يدل على الرحمة، يدل أيضا على أن يرحم، فلا يمتنع أن يكون المراد: لأن يرحموا خلقهم. وقيل: إن المعنى: ولإختلاف خلقهم. واللام: للعاقبة، يريد: إن الله خلقهم، وعلم أن عاقبتهم تؤول إلى الإختلاف المذموم، كما قال. (ولقد ذرأنا لجهنم) عن الحسن، وعطا، ومالك. ولا يجوز على هذا أن يكون اللام للغرض، لأنه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الإختلاف المذموم، إذ لو أراد ذلك منهم، لكانوا مطيعين له في ذلك الإختلاف، لأن الطاعة حقيقتها موافقة الإرادة والأمر، ولو كانوا كذلك لما استحقوا عقابا. وأما إذا حمل معنى الإختلاف على ما قاله أبو مسلم: فيجوز أن تكون اللام للغرض. وقيل: إن ذلك إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان، وكونهم فيه أمة واحدة، ولا محالة أن الله سبحانه لهذا خلقهم، ويؤيد هذا قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وقال المرتضى، قدس الله روحه: قد قال قوم إن معنى الآية: ولو شاء ربك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنة، فيكونوا في وصول جميعهم إلى النعيم، أمة واحدة، لفعل، وأجروا هذه الآية مجرى قوله (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) في أنه أراد هديها إلى طريق الجنة. فعلى هذا التأويل يمكن أن يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخالهم أجمعين الجنة، لأنه تعالى إنما خلقهم للمصير إليها، والوصول إلى نعيمها. (وتمت كلمة ربك) أي: وصل وحيه ووعيده الذي لا خلف فيه بتمامه إلى عباده. وقيل: تمت كلمة ربك صدقا، بأن وقع مخبرها على ما أخبر به، عن الجبائي. وقيل: معناه وجب قول ربك، عن ابن عباس. وقيل: مضى حكم ربك، عن الحسن. (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) بكفرهم (وكلا) أي: وكل القصص (نقص عليك من أنباء الرسل) أي: من أخبارهم (ما نثبت به فؤادك) (1) والشاهد في قولها: (ذلك)، ولم تقل (تلك) لأنها أرادت الرزء. (*)
[ 352 ]
أي: ما نقوي به قلبك، ونطيب به نفسك، ونزيدك به ثباتا على ما أنت عليه من الإنذار، والصبر على أذى قومك الكفار (وجاءك في هذه الحق) أي: في هذه السورة، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. وقيل: في هذه الدنيا، عن قتاده. وقيل: في هذا الأنباء، عن الجبائي. والحق: الصدق من الأنباء، والوعد، والوعيد. وقيل. معناه وجاءك في ذكر هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع الحق في أن الخلق يجازون بانصبائهم في قوله: (وإنا لموفوهم نصيبهم) وإن كلا لما ليوفينهم. وقد جاء في القرآن كله الحق، ولكنه ذكرها هنا توكيدا، وليس إذا قيل: قد جاءك في هذا الحق، وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا فيه. ولكن بعض الحق أوكد من بعض، عن الزجاج. (وموعظة) أي: وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله، وتزجر الناس عن المعاصي (وذكرى للمؤمنين) تذكرهم الآخرة (وقل) يا محمد (للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم) هذا مثل فوله (إعملوا ما شئتم). (إنا عاملون) على ما أمرنا الله تعالى به. وقد مر تفسير هذه الآية فيما مضى (وانتظروا) أي: توقعوا ما يعدكم ربكم على الكفر من العقاب (إنا منتظرون) ما يعدنا على الإيمان من الثواب. وقيل: إنتظروا ما يعدكم الشيطان من الغرور، إنا منتطرون ما يعدنا ربنا من النصر والعلو، عن ابن جريج. (ولله غيب السموات والأرض) معناه: ولله علم ما غاب في السماوات والأرض، لا يخفى عليه شئ منه، عن الضحاك. وقيل: معناه والله مالك ما غاب في السماوات والأرض. وقيل: معناه ولله خزائن السماوات والأرض، عن ابن عباس. ووجدت بعض المشايخ، ممن يتسم بالعدوان والتشنيع، قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره، فقال: هذا يدل على أن الله سبحانه يختص بعلم الغيب، خلافا لما تقول الرافضة: إن الأئمة يعلمون الغيب ! ولا شك أنه عنى بذلك من يقول بإمامة الإثني عشر، ويدين بأنهم أفضل الأنام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا دأبه وديدنه فيهم، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم، وينسب الفضائح والقبائح إليهم، ولا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات، لا بعلم مستفاد. وهذه صفة القديم سبحانه، العالم لذاته، لا يشركه فيها أحد من المخلوقين. ومن اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الإسلام.
[ 353 ]
فأما ما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، ورواه عنه الخاص والعام، من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها، مثل قوله. يومئ به إلى صاحب الزنج: كأني به يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار، ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا صهيل خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم، كأنها أقدام النعام. وقوله يشير إلى مروان: أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده موتا أحمر. وما نقل من هذا الفن عن أئمة الهدى عليهم السلام، من أولاده مثل ما قاله أبو عبد الله عليه السلام لعبد الله بن الحسن، وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية، ليبايعوا ابنه محمدا: والله ما هي إليك، ولا إلى إبنيك، ولكنها لهم - وأشار إلى العباسية - وإن ابنيك لمقتولان. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري، فقال له: أرأيت صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر المنصور - قال: نعم. فقال: إنا والله نجده يقتله ! فكان كما قال. ومثل قول الرضا عليه السلام: بورك قبر بطوس، وقبران ببغداد ! فقيل له: قد عرفنا واحدا فما الآخر ؟ فقال: ستعرفونه. ثم قال: قبري وقبر هارون هكذا - وضم إصبعيه - وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي، وقد ناوله قبضة من التمر: لو زادك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لزدناك ! وقوله في حديث علي بن أحمد الوشا، حين قدم (مرو) من (الكوفة): معك حلة في السفط الفلاني، دفعتها إليك ابنتك، وقالت اشتر لي بثمنها فيروز. والحديث مشهور. إلى غير ذلك مما روي عنهم عليهم السلام، فإن جميع ذلك متلقى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما أطلعه الله عليه، فلا معنى لنسبة من روى عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين للغيب. وهل هذا إلا سبب قبيح، وتضليل لهم، بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير، والله يحكم بينه وبينهم، وإليه المصير. (وإليه يرجع الأمر كله) أي: إلى حكمه يرجع في المعاد كل الأمور، لأن في الدنيا قد يملك غيره بعض الأمر والنهي، والنفع والضر. (فاعبده وتوكل عليه) يريد أن من له ملك السماوات والأرض، وإليه يرجع جميع الأمور، فحقيق أن يعبد ويتذلل له، ويتوكل عليه، ويوثق به (وما ربك بغافل) أي: بساه (عما تعملون) أي: عن أعمال عباده، بل هو عالم بها، ومجاز كلا منهم عليها ما يستحقه من ثواب وعقاب، فلا يحزنك يا محمد إعراضهم عنك، وتركهم القبول منك. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.
[ 354 ]
12 - سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشر ومائة مكية. وقال المعدل عن ابن عباس غير أربع آيات نزلن بالمدينة، ثلاث من أولها، والرابعة (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين). عدد آيها: مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها، وعلمها أهله، وما ملكت يمينه، هون الله تعالى عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما. وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من قرأ سورة يوسف في كل يوم، أو في كل ليلة، بعثه الله يوم القيامة، وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين. وقال فيها: إنها كانت في التوراة مكتوبة. وروى اسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنزلوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، ولا تعلموهن سورة يوسف، وعلموهن الغزل، وسورة النور. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة هود بذكر قصص أنباء الرسل، افتتح هذه السورة بأن من تلك القصص قصة يوسف عليه السلام واخوته، وأنها من أحسن القصص، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (الر تلك ءايات الكتاب المبين (1) إنآ أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرءان وإن
[ 355 ]
كنت من قبله لمن الغافلين (3). الاعراب: (قرآنا عربيا) فيه وجهان أحدهما: قرآنا: انتصب بأنه بدل من الهاء في (أنزلناه) فكأنه قال: إنا أنزلنا قرآنا والثاني: إنه توطئة للحال، لأن (عربيا) حال، وهذا كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا، فتنصب صالحا على الحال، وتجعل رجلا توطئة للحال. وقوله (بما أوحينا إليك هذا القرآن) القرآن: نصب، وإنه وصف لمعمول (أوحينا) وهو هذا، أو بدل، أو عطف بيان. قال الزجاج: ويجوز الجر والرفع جميعا في الكلام، وإن لم يقرأ بهما. أما الجر فعلى البدل مما (أوحينا إليك) أي: بهذا القرآن. وأما الرفع فعلى ترجمة (أوحينا إليك) كأن قائلا قال ما هو ؟ فقيل: هذا القرآن. المعنى: (الر) قد سبق الكلام فيه في أول البقرة، وإنما لم يعد آية، لأنه على حرفين، ولا يشاكل رؤوس الآي. وعد طه آية، لأنه يشبه رؤوس الآي (تلك آيات الكتاب) قيل في معنى الإشارة بتلك وجوه أحدها أنه إشارة إلى ما سيأتي من ذكرها على وجه التوقع لها. والثاني: إنه إشارة إلى السورة أي: سورة يوسف آيات الكتاب المبين. والثالث: إن معناه هذه الآيات تلك الآيات التي وعدتم بها في التوراة، كما قال (الم ذلك الكتاب). عن الزجاج و (المبين): المظهر لحلال الله، وحرامه، والمعاني المرادة فيه، عن مجاهد، وقتادة. والمبين والمبين واحد. والبيان: هو الدلالة. (إنا أنزلناه) يعني القرآن أي: أنزلنا هذا الكتاب. وقيل: أنزلنا خبر يوسف وقصته، عن الزجاج، قال: لأن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسف عليه السلام. فقال: إنا أنزلناه (قرآنا عربيا) على مجاري كلام العرب في محاوراتهم. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أحب العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. (لعلكم تعقلون) أي: لتعلموا جميع معانيه، وتفهموا ما فيه. وقيل: معناه لتعلموا أنه من عند الله إذ كان عربيا، وعجزتم عن الإتيان بمثله. وفي هذه الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه محدث، وأنه غير الله، لأنه وصفه بالإنزال، وبأنه عربي،
[ 356 ]
ولا يوصف بذلك القديم سبحانه (نحن نقص عليك أحسن القصص) أي: نبين لك أحسن البيان، عن الزجاج. وهذا كقولهم: صمت أحسن الصيام، وقمت أحسن القيام، مما يكون انتصابه على أنه قائم مقام المصدر. فالمعنى: نبين لك أحسن تبيين، وأحسن إيضاح. (بما أوحينا إليك) أي: بوحينا إليك (هذا القرآن) ودخلت الباء لتبيين القصص، إذ القصص تكون قرآنا، وغير القرآن. والقصص ههنا بوحي القرآن. وقيل: إنما سمي القرآن أحسن القصص لأنه بلغ النهاية في الفصاحة، وحسن المعاني، وعذوبة الألفاظ مع التلاؤم المنافي للتنافر والتشاكل بين المقاطع، والفواصل. وقيل: لأنه ذكر فيه أخبار الأمم الماضية وأخبار الكائنات الآتية، وجميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة، بأعذب لفظ، وتهذيب، في أحسن نظم، وترتيب. وقيل: أراد بأحسن القصص: قصة يوسف وحدها، لأنها تتضمن من الفوائد، والنكت، والغرائب، ما لا يتضمنه غيرها. ولأنها تمتد امتدادا لا يمتد غيرها مثله. وقوله (أحسن القصص) يدل على أن الحسن يتفاضل ويتعاظم، لأن لفظة أفعل حقيقتها ذلك، وإنما يتعاظم بكثرة استحقاق المدح عليه ويسأل عن هذا فيقال: هل يجوز أن يسمى الله سبحانه قاصا ؟ فيقال: لا، لأنه في العرف إنما يستعمل فيمن تمسك بطريقة مخصوصة، وهذا كما أنه سبحانه لا يسمى معلما، ولا مفتيا، وإن وصف نفسه بأنه علم القرآن، وبأنه يفتيكم في النساء، وقوله: (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) معناه: وما كنت من قبل أن أوحينا إليك هذا القرآن، أو من قبل نزول القرآن عليك، إلا من الغافلين عن الحكم التي في القرآن، لا تعلم شيئا منها. وقيل: من الغافلين عن قصة يوسف، وعن الحكم التي فيها. (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4) قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين (5) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلئ ال يعقوب كمآ أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (6).
[ 357 ]
القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر (يا أبت) بفتح التاء. والباقون بكسرها وابن كثير وقف على الهاء: (يا أبه). والباقون بالتاء. وروي في الشواذ، عن أبي جعفر، ونافع، وطلحة بن سليمان (أحد عشر) بسكون العين. والقراءة بفتحها. وقرأ الكسائي إلا أبا الحرث، وقتيبة بإمالة (رؤياك)، والرؤيا في جميع القرآن. وروى أبو الحرث عنه، وفتح (رؤياك) وإمالة الباقي. وقتيبة أمال للرؤيا تعبرون فقط. وقرأ خلف في اختياره بإمالة ما فيه ألف ولام. والباقون بالتفخيم. وخفف الهمزة في جميع ذلك أبو جعفر، وورش، وشجاع، والترمذي. الا أن أبا جعفر يدغم الواو في الياء فيجعلها ياء مشددة. الحجة: قال الزجاج: من قرأ (يا أبت) بكسر التاء فعلى الإضافة إلى نفسه، وحذف الياء لأن ياء الإضافة تحذف في النداء. وأما ادخال تاء التأنيث في الأب، فإنما دخلت في النداء خاصة، والمذكر قد يسمى باسم فيه علامة التأنيث، ويوصف بما فيه تاء التأنيث. فالإسم نحو نفس وعين، والصفة نحو غلام يفعة، ورجل ربعة. فلزمت التاء في الأب عوضا من ياء الإضافة. والوقف عليها (يا أبه) بالهاء. وإن كانت في المصحف بالتاء. وزعم الفراء انك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير، وإذا فتحت وقفت بالتاء والهاء، ولا فرق بين الكسر والفتح وأما (يا أبت) بالفتح: فعلى أنه أبدل من ياء الإضافة ألفا، ثم حذفت الألف كما يحذف ياء الإضافة، وبقيت الفتحة. قال أبو علي: من فتح فله وجهان أحدهما: أن يكون مثل يا طلحة أقبل، ووجه قول من قال يا طلحة أن هذا النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث، أكثر ما يدعى مرخما. فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم إليه، وترك الآخر يجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح، فلم يعتد بالهاء، وأقحمها. والوجه الآخر: أن يكون أراد (يا أبتا) فحذف الألف كما يحذف التاء، فتبقى الفتحة دالة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء. والدليل على قوة هذا الوجه كثرة ما جاءت هذه الكلمة على هذا الوجه، كقول الشاعر: (وهل جزع ان قلت وا أبتاهما) وقول الأعشى: ويا أبتا لا تزل عندنا فإنا نخاف بأن تخترم وقول رؤبة: (يا أبتا عليك أو عساكا). فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم، ألزموها القلب والحذف. على أن أبا عثمان قد رأى ذلك مطردا في جميع هذا الباب.
[ 358 ]
وأما وقف ابن كثير على الهاء فلأن التاء التي للتأنيث يبدل منها الهاء في الوقف، فيغير الحرف بذلك في الوقف، كما غير التنوين إذا انفتح ما قبله، بأن أبدل منه الألف. ومن قرأ (أحد عشر) بسكون العين: قال ابن جني: سبب ذلك عندي أن الإسمين لما جعلا كالإسم الواحد، وبنى الأول منهما لأنه كصدر الإسم من عجزه، جعل تسكين أول الثاني دليلا على أنهما قد صارا كالاسم الواحد، وكذلك بقية العدد إلى تسعة عشر، الا اثني عشر، واثنتي عشر، فإنه لا يسكن العين، لسكون الألف والياء قبلها. قال الزجاج: الرؤيا فيها أربع لغات: رؤيا بالهمزة، ورويا بالواو من غير همز، وريا على الإدغام، وريا بكسر الراء. قال أبو علي: الرؤيا: مصدر كالبشرى، والسقيا، والبقيا، والشورى، إلا أنه لما صار اسما لهذا التخيل في المنام، جرى مجرى الأسماء، كما أن درا لما كثر في كلامهم في قولهم: لله درك، جرى مجرى الأسماء، وخرج من حكم الأعمال، فلا يعمل واحد منهما أعمال المصادر. ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها رؤى، فصار بمنزلة ظلم. والمصادر في الأكثر لا تكسر. والرؤيا على تحقيق الهمز. فإن خففت قلبتها في اللفظ واوا، ولم تدغم الواو في الياء. وان كانت قد تقدمتها ساكنة كما تقلب في نحو طي ولي، لأن الواو في تقدير الهمزة، فهي لذلك غير لازمة، فلا يقع الإعتداد بها. وقد كسر أولها قوم فقالوا: ريا، فهؤلاء قلبوا الواو قلبا على غير وجه التخفيف، ومن ثم كسروا الفاء، كما كسروا من قولهم: قرن ألوى، وقرون لي. اللغة: الرؤيا: تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم، فإذا تصور الإنسان المعنى، توهم أنه يراه. والكيد: طلب الحيلة. واللام في (يكيدوا لك) لام التعدية، كما تقول: قدمت لك طعاما، وقدمت إليك طعاما، وشكرت لك، وشكرتك. يقال: كاده يكيده كيدا، وكاد له. والاجتباء: اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الماء في الحوض: إذا جمعته. الاعراب: تقدير العامل في (إذ) يجوز أن يكون اذكر، كأنه قال: اذكر إذ قال يوسف. قال الزجاج ويجوز أن يكون على نقص عليك، إذ قال. وقد غلط في هذا، لأن الله تعالى لم يقص على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم هذا القصص في وقت قول يوسف عليه السلام. وكوكبا: منصوب على التمييز. وقوله رأيتهم: كرر الرؤية توكيدا، ولأن الكلام قد طال، والمعنى رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر لي
[ 359 ]
ساجدين. ولم يقل ساجدات، لأنه لما وصف هذه الأشياء بالسجود، كما يوصف الآدميون بذلك، أجرى فعلها مجرى فعل العقلاء، وكما قال (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) وموضع الكاف من قوله (وكذلك) نصب. والمعنى: ومثل ما رأيت يجتبيك ربك، ويعلمك. المعنى: ثم ابتدأ سبحانه بقصة يوسف عليه السلام، فقال: (إذ قال يوسف لأبيه) يعقوب عليه السلام وهو اسرائيل الله، ومعناه: عبد الله الخالص ابن اسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله. وفي الحديث: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. (يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) أي: رأيت في منامي. قال ابن عباس: إن يوسف عليه السلام رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر، أحد عشر كوكبا نزلن من السماء، فسجدن له ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له. قال: فالشمس والقمر أبواه، والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال السدي: الشمس أبوه، والقمر خالته، وذلك أن أمه راحيل قد ماتت. وقال ابن عباس: الشمس أمه، والقمر أبوه. وقال وهب: كان يوسف رأى وهو ابن سبع سنين ان أحد عشر عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه، فقال له: إياك أن تذكر هذا لاخوتك ! ثم رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا، والشمس، والقمر، سجدت له، فقصها على أبيه فقال له: (لا تقصص رؤياك على إخوتك) الآية. وقيل: إنه كان بين رؤياه وبين مصير أبيه وإخوته إلى مصر، أربعون سنة، عن ابن عباس، واكثر المفسرين. وقيل: ثمانون سنة، عن الحسن. ولما طال الكلام، كرر رؤيتهم، وأعاده للتأكيد. وقيل: أراد بالرؤيا الأولى رؤية الأعيان والأشخاص، وبالرؤية الثانية رؤية سجودهم. واختلف في معنى هذا السجود فقيل: إنه السجود المعروف على الحقيقة لتكرمته، لا لعبادته. وقيل: معناه الخضوع له، عن الجبائي، كما قال الشاعر: (ترى الأكم فيه سجدا للحوافر) (1) وهذا ترك الظاهر. ويقال: إن اخوته لما بلغهم رؤياه قالوا: ما رضي أن يسجد له (1) الأكم جمع الأكمة: التل. والحوافر جمع الحافر: الدابة. وكثيرا ما يراد به الفرس. (*)
[ 360 ]
اخوته، حتى يسجد له أبواه. (قال) يعقوب: (يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك) أي: لا تخبرهم بذلك (فيكيدوا لك كيدا) أي: فيحسدوك أو يقابلوك بما فيه هلاكك، وذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها، ويخافون علو يوسف عليهم، فيحسدونه، ويبغونه الغوائل (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) أي: ظاهر العداوة، فيلقي بينهم العداوة، ويحملهم على إنزال المكروه بك. (وكذلك) أي: كما أريك هذه الرؤيا تكرمة لك، وبين أن اخوتك يخضون لك، أو يسجدون لك (يجتبيك ربك) أي: يصطفيك ربك، ويختارك للنبوة، عن الحسن. وقيل: الحسن: الخلق والخلق. (ويعلمك من تأويل الأحاديث) قيل: معناه ويعلمك من تعبير الرؤيا لأن فيه أحاديث الناس عن رؤياهم، وسماه تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام، عن قتادة. وقال ابن زيد: كان أعبر الناس للرؤيا. وقيل: معناه ويعلمك عواقب الأمور بالنبوة والوحي اليك، فتعلم الأشياء قبل كونها، معجزة لك، لأنه أضاف التعليم إلى الله، وذلك لا يكون إلا بالوحي، عن أبي مسلم. وقيل: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم، يعني كتب الله ودلائله على توحيده، والمشروع من شرائعه، وأمور دينه، عن الحسن، والجبائي. والتأويل في الأصل هو المنتهى الذي يؤول إليه المعنى. وتأويل الحديث فقهه الذي هو حكمه، لأنه اظهار ما يؤول إليه أمره مما يعتمد عليه، وفائدته. (ويتم نعمته عليك) بالنبوة، لأنها منتهى نعيم الدنيا. وقيل: اتمام النعمة هو أن يحكم بدوامها على تخليصها من شائب بها، فهذه النعمة التامة وخلوصها مما ينقصها، ولا يطلب ذلك إلا من الله تعالى، لأنه لا يقدر عليها سواه. وقيل: معناه ويتم نعمته عليك بأن يحوج اخوتك إليك حتى تنعم عليهم بعد إساءتهم اليك. (وعلى آل يعقوب) أي: وعلى اخوتك بأن يثبتهم على الإسلام، ويشرفهم بمكانك، ويجعل فيهم النبوة. وقيل: يتم نعمته عليهم بإنقاذهم من المحن على يديك. (كما أتمها على أبويك هن قبل إبراهيم واسحاق) أي: كما أتم النعمة على إبراهيم بالخلة، والنبوة، والنجاة من النار. وعلى إسحاق بأن فداه عن الذبح بذبح عظيم، عن عكرمة. وقال إنه الذبيح. وقيل بإخراج يعقوب وأولاده من صلبه، عن أكثر المفسرين، قالوا: وليس هو الذبيح، وإنما الذبيح اسماعيل. (إن ربك
[ 361 ]
عليم) بمن يصلح للرسالة (حكيم) في اختيار الرسل. وقيل: عليم بأحوال خلقه، حكيم في قضاياه. (* لقد كان في يوسف وإخوته ءايات للسائلين (7) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين (8) اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين (10). القراءة: قرأ ابن كثير: (آية للسائلين). والباقون: (آيات). وقرأ أهل المدينة: (غيابات الجب). والباقون (غيابة الجب). وفي الشواذ قراءة الأعرج: (غيابات) مشددة. وقراءة الحسن: (غيبة الجب). وقرأ أهل المدينة، والكسائي: (مبين اقتلوا) بضم التنوين. والباقون: بالكسر. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (آية) على الإفراد جعل شأنه كله آية، ويقويه قوله: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) فكل واحد منهما على انفراده، يجوز أن يقال فيه آية، فأفرد مع ذلك. ومن جمع جعل كل حال من أحواله آية. على أن المفرد المنكر في الإيجاب، يقع دالا على الكثرة، كما يقع كذلك في غير الإيجاب، قال الشاعر: فقتلا بتقتيل، وضربا بضربكم جزاء العطاش لا ينام من الثأر (1) وأما الغيابة: فكل شي غيب شيئا، عن أبي عبيدة، وأنشد: فإن أنا يوما غيبتني غيابة، فسيروا بسيري في العشيرة، والأهل والجب: الركية التي لم تطو. فمن أفرد فالوجه فيه ان الجب لا يخلو من أن (1) الثأر: المنيم الذي إذا أصابه الطالب، رضي به فنام بعده. (*)
[ 362 ]
يكون له غيابة واحدة، أو غيابات. وغيابة المفرد يجوز أن يعني به الجمع، كما يعني به الواحد. ومن جمع فإنه يجوز أن يكون له غيابة واحدة، فجعل كل جزء منها غيابة، كقولهم شابت مفارقه، وبئر ذو غيابتين. ويجوز أن يكون للبئر عدة غيابات، فجمع لذلك. وأما (غيابات) بالتشديد فيكون اسما جاء على فعالة، كما جاء التيار للموج، والفياد للبوم الذكر، والفخار للخزف، وغير ذلك. واما (غيبة) فيجوز أن يكون حدثا على فعلة، من غاب، فيكون بمعنى الظلمة. ويجوز أن يكون موضعا على فعلة. واما من ضم التنوين فلأنه التقى الساكنان التنوين والقاف في اقتلوا، ولزم تحريك الأول منهما، فحركه بالضم ليتبع الضمة الضم، كما قيل سر ومد. ومن كسر التنوين فإنه لم يتبع الضم. كما أن من قال مد، لم يتبع، وكسر الساكن على ما يجري عليه أمر تحريك الساكن في الأمر الشائع. اللغة: الآية، والعلامة، والعبرة، نظائر. والعصبة: الجماعة التي تعصب بعضها لبعض، ويقع على جماعة من عشرة إلى خمس عشر. وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، ولا واحد له من لفظه كالقوم، والرهط، والنفر. والفرق بين المحبة والشهوة أن الإنسان يحب ولده، ولا يشتهيه بأن يميل طبعه إليه، ويرق عليه، ويريد له الخير. والشهوة: منازعة النفس إلى ما فيه اللذة. وإنما سمي البئر جبا، لأنه قطع عنها ترابها حتى بلغ الماء من غير طي، ومنه المجبوب. قال الأعشى: وإن كنت في جب ثمانين قامة، ورقيت أسباب السماء بسلم وكل ما غيب شيئا عن الحس بكونه فيه فهو غيابة. فغيابة البئر: شبه لحف أو طاق فوق ماء البئر. والسيارة: الجماعة المسافرون، لأنهم يسيرون في البلاد. وقيل: هم مارة الطريق. والإلتقاط: تناول الشئ من الطريق، ومنه اللقطة، واللقيط: ومعناه أن يجده من غير أن يحسبه. يقال: وردت الماء إلتقاطا إذا وردته من غير أن تحسبه. الاعراب: العامل في قوله (إذ قالوا) اذكر، وتقديره: اذكر إذ قالوا ليوسف. ويحتمل أن يكون العامل فيه ما في الآية التي قبله من قوله (لقد كان في يوسف وإخوته آيات) إذ قالوا. واللام في قوله (ليوسف) جواب القسم، تقديره والله ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا، (يخل لكم) جواب الأمر (وتكونوا) جزم، لأنه
[ 363 ]
معطوف عليه. وروي عن الحسن (تلتقطه بعض السيارة) بالتاء. وهذا كما يقال أذهبت بعض أصابعه، وقال الشاعر: طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي، وطوين عرضي فقال: أسرعت وطوين، لتأنيث الليالي، ولم يحمله على طول، وهو مذكر. المعنى: ثم أنشأ سبحانه في ذكر قصة يوسف فقال (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) ومعناه: لقد كان في حديث يوسف وإخوته عبر للسائلين عنهم، وأعاجيب. فمنها أنهم نالوه بالأذى، ودبروا في قتله، واجتمعوا على إلقائه في البئر للحسد، مع أنهم أولاد الأنبياء، فصفح عنهم عليه السلام، لما مكنه الله منهم، وأحسن إليهم، ولم يعيرهم بما كان منهم، وهذا خارج عن العادة. وفيه عبرة لمن اعتبر فيها، في منافع الدين. ومنها الفرج بعد الشدة، والمنحة بعد المحنة. ومنها الدلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه عليه السلام لم يقرأ كتابا، فعلم أنه لم يأته ذلك إلا من جهة الوحي، فهو بصيرة للذين سألوه أن يخبرهم بذلك، ومعجزة دالة على صدقه. وإخوته: هم أولاد يعقوب، وكان ليعقوب إثنا عشر ولدا لصلبه، وكانوا أولاد علة، عن الجبائي. وقيل: أسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وريالون، ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي ابنة خالة يعقوب، ثم توفيت ليا، فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين. وقيل: ابن يامين، وولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة، والأخرى بلهة، أربعة بنين: دان، ونفتالي، وحاد، وآشر (1). وكانوا اثني عشر. ثم أخبر سبحانه عما قالت إخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف، وتأويل يعقوب إياه، فقال: (إذ قالوا) أي: قال بعضهم لبعض (ليوسف وأخوه) لأبيه وأمه، بنيامين (أحب إلى أبينا) يعقوب (منا) وذلك أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف، وكان يوسف من أحسن الناس وجها، وكان يعقوب يؤثره على أولاده، فحسدوه. ثم رأى الرؤيا، فصار حسدهم له أشد. وقيل: إنه عليه السلام كان يرحمه وأخاه، ويقربهما لصغرهما، فاستثقلوا ذلك. (1) وقد اختلفت كلمات المفسرين والمؤرخين في ضبط أسماء أولاد يعقوب، ولا يخلو الكل عن التصحيف. (*)
[ 364 ]
وروى أبو حمزة الثمالي، عن زين العابدين عليه السلام: إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به، ويأكل هو وعياله منه، وإن سائلا مؤمنا صواما، إعتر ببابه عشية جمعة، عند أوان إفطاره، وكان مجتازا غريبا، فهتف على بابه واستطعمهم وهم يسمعون، فلم يصدقوا قوله. فلما يئس أن يطعموه، وغشيه الليل، استرجع، واستعبر، وشكا جوعه إلى الله تعالى، وبات طاويا، وأصبح صائما، صابرا، حامدا لله، وبات يعقوب، وآل يعقوب بطانا، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم، فابتلاه الله سبحانه بيوسف عليه السلام، وأوحى إليه: أن استعد لبلائي، وارض بقضائي، واصبر للمصائب ! فرأى يوسف الرؤيا في تلك الليلة. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وروي ذلك عن ابن عباس، أو قريب منه. (ونحن عصبة) معناه: ونحن جماعة يتعصب بعضنا لبعض، ويعين بعضنا بعضا، أي: فنحن أنفع لأبينا. وقيل: يعني ونحن عصبة لا يعجزنا الإحتيال عليه (إن أبانا لفي ضلال مبين) أي: في ذهاب عن طريق الصواب الذي هو التعديل بيننا في المحبة. وقيل: معناه إنه في خطأ من الرأي في أمور الأولاد، والتدبير الدنيوي، ونحن أقوم بأمور مواشيه، وأمواله، وسائر أعماله. ولم يريدوا به الضلال عن الدين، لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا، وذلك خلاف الإجماع. ولأنهم بالاتفاق كانوا على دينه، وكانوا يعظمونه غاية التعظيم، ولذلك طلبوا محبته. وأصل الضلال: العدول، وكل من ذهب عن شئ، وعدل عنه، فقد ضل. وأكثر المفسرين على ان إخوة يوسف كانوا أنبياء. وقال بعضهم: لم يكونوا أنبياء، لأن الأنبياء لا يقع منهم القبائح. وقال المرتضى، قدس الله روحه: لم يقم لنا الحجة بأن إخوة يوسف الذين فعلوا ما فعلوه، كانوا أنبياء، ولا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة الذين فعلوا بيوسف ما قصه الله تعالى عنهم، وليس في ظاهر الكتاب أن جميع إخوة يوسف، وسائر الأسباط فعلوا بيوسف ما حكاه الله من الكيد. وقيل: يجوز أن يكون هؤلاء الإخوة في تلك الحال لم يكونوا بلغوا الحلم، ولا توجه إليهم التكليف، وقد يقع ممن قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال، ويعاتب على ذلك ويلام، ويضرب، وهذا الوجه قول البلخي، والجبائي، ويدل عليه قوله (نرتع ونلعب). وروى أبو جعفر ابن بابويه رحمه الله في (كتاب النبوة) بإسناده عن محمد بن
[ 365 ]
إسماعيل بن بزيع عن حنان بن سدير، قال: قلت لأبي جعفر: أكان أولاد يعقوب أنبياء ؟ فقال: لا، ولكنهم كانوا أسباطا، أولادا لأنبياء، ولم يفارقوا الدنيا إلا سعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا. وقال الحسن: كانوا رجالا بالغين، ووقعت ذلك منهم صغيرة. ثم أخبر سبحانه عنهم أنهم قال بعضهم لبعض: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا) أي: إطرحوه في أرض بعيدة عن أبيه، فلا يهتدي إليه. وقيل: معناه في أرض تأكله السباع، أو يهلك بغير ذلك. (يخل لكم وجه أبيكم) عن يوسف، وتخلص لكم محبته، والمعنى: إنكم متى قتلتموه، أو طرحتموه في أرض أخرى، خلا لكم أبوكم، وحن عليكم (وتكونوا من بعده قوما صالحين) أي: وتكونوا من بعد قتل يوسف، أو غيبته، قوما تائبين، والمعنى: إنكم إذا فعلتم ذلك، وبلغتم أغراضكم، تبتم مما فعلتموه، وكنتم من جملة الصالحين الذين يعملون الصالحات. وهذا يدل على أنهم رأوا ذلك ذنبا يصح التوبة منه، عن جماعة من المفسرين. وقيل: معناه وتكونوا قوما صالحين في أمر دنياكم أي: يعود حالكم مع أبيكم إلى الصلاح، عن الحسن. ومتى يسأل ههنا على قول من جعلهم غير بالغين فقال: أليس يدل هذا القول منهم على بلوغهم لعلمهم بالوعيد ؟ فالجواب: إن المراهق قد يجوز أن يعلم ذلك خاصة إذا كان مربى في حجر الأنبياء ومن أولادهم. واختلف فيمن قال ذلك من إخوته، فقال وهب: قاله شمعون. وقال مقاتل: قاله روبين. ثم أخبر سبحانه عن واحد من جملة القوم بقوله (قال قائل منهم) أي: من إخوة يوسف (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة) أي: ألقوه في قعر البئر، يتناوله بعض مارة الطرق والمسافرين، فيذهب به إلى ناحية أخرى. والقائل لذلك: روبين، وهو ابن خالة يوسف، عن قتادة، وابن إسحاق. وكان أحسنهم رأيا فيه، فنهاهم عن قتله. وقيل: هو يهوذا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل، وأسنهم، عن الأصم، والزجاج. وقيل: هو لاوي، رواه علي بن إبراهيم في تفسيره. واختلفوا في ذلك الجب، فقيل: هو بئر بيت المقدس، عن قتادة. وقيل: بأرض الأردن، عن وهب. وقيل: بين مدين ومصر، عن كعب. وقيل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب، عن مقاتل. (إن كنتم فاعلين) معناه: إن كنتم فاعلين شيئا مما تقولون في يوسف، فليكن هذا فعلكم، فإنه دون القتل الصريح. وقال ابن
[ 366 ]
عباس: يريد إن أضمرتم ما تريدون. وقيل للحسن: أيحسد المؤمن ؟ فقال: ما أنساك حديث بني يعقوب. (قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له، لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12). القراءة: قرأ أبو جعفر، والحلواني، عن قالون: (لا تأمنا) مشددة النون بلا شمة. وقرأ الباقون، بالإشمام: وهو الإشارة إلى النون المدغمة بالضمة، وهو اختيار أبي عبيدة. وقرأ أبو جعفر، ونافع: (يرتع ويلعب) بالياء فيهما وكسر العين من (يرتع). وقرأ ابن كثير: (نرتع ونلعب) بالنون فيهما، وكسر العين. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: (نرتع ونلعب) بالنون فيهما وجزم العين. وقرأ أهل الكوفة، ورويس، عن يعقوب: (يرتع ويلعب) بالياء فيهما، وجزم العين. وقرأ روح، وزيد عن يعقوب. (نرتع) بالنون، وجزم العين، ويلعب بالياء. وقد روي ذلك عن أبي عمرو، وهو قراءة الأعرج، وإبراهيم النخعي. وفي الشواذ قراءة العلاء بن سيابة (يرتع) بالياء وكسر العين، و (يلعب) رفعا. وقراءة أبي رجا (يرتع ويلعب). الحجة: قال الزجاج: يجوز في (تأمنا) أربعة أوجه: إشمام النون مع الادغام. الضم وهو الذي حكاه ابن مجاهد، عن الفراء. والإشعار بالضمة والإدغام من غير إشمام، لأن الحرفين من جنس واحد. وتأمننا بالإظهار ورفع النون الأولى، لأن النونين من كلمتين. وتأمنا بكسر التاء، لأن ماضيه على فعل، كما قالوا تعلم ونعلم، وهي قراءة يحيى بن وثاب. وهذه القراءة مخالفة للمصحف، وإن كانت في العربية جائزة. وأما قوله (نرتع ويلعب) فقد قال أبو علي: قراءة من قرأ نرتع بالنون وكسر العين، ويلعب بالياء حسن، لأنه جعل الإرتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز الصغر، وأسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم على الصغير في اللعب، والدليل على صغر يوسف قول إخوته: (وإنا له لحافظون) ولو كان كبيرا لم يحتج إلى حفظهم، ويدل على ذلك قول يعقوب (وأخاف أن يأكله الذئب) وإنما يخاف الذئب على من لا دفاع به من شيخ كبير، أو من صبي صغير، قال: أصبحت لا أحمل السلاح، ولا أملك رأس البعير إن نفرا
[ 367 ]
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي، وأخشى الرياح، والمطرا (1) وأما الإرتعاء: فهو افتعال من رعيت، مثل شويت واشتويت، وكل واحد منهما متعد إلى مفعول به قال الأعشى: ترتعي السفح فالكثيب، فذاقار فروض القطا، فذات الرمال (2) وقال آخر: رعت بارض البهمى جميما، وبسرة، وصمعاء، حتى آنفتها نصالها (3) وقد يستقيم أن يقال نرتع، وإنما ترتع إبلهم فيما قال أبو عبيدة، ووجه ذلك أنه كان الأصل يرتع إبلنا، ثم حذف المضاف، وأسند الفعل إلى المتكلمين، فصار نرتع. وكذلك نرتعي على يرتعي إبلنا، ثم حذف المضاف، فيكون نرتع. وقال أبو عبيدة: نرتع نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير معنى اللهو، ولكن على معنى النيل من الشئ، كقولهم في المثل: الصيد والرتعة. وكان على هذا النيل والتناول، مما يحتاج إليه الحيوان. وقد قال الأعشى: (صدر النهار يراعي ثيرة رتعا). وعلى هذا القول قالوا: رأيت مرتع إبلك، لمرادها الذي فيه. فهذا لا يكون على اللهو، لأنه جمع ثور راتع، أو رتوع. فأما من قرأ (نرتع ونلعب) بالنون: فيكون نرتع على يرتع إبلنا، أو على أننا ننال مما يحتاج إليه، وينال معنا. وأما نلعب: فحكي أن أبا عمرو قيل له: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء ؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. فلو صحت هذه الحكاية عنه، وصح عنده هذا التاريخ، وإلا فقد قال الشاعر: جدت جداد بلاعب، وتقشعت غمرات، قالت: ليته حيران فكان اللاعب هاهنا الذي لم يتشمر في أهله، فدخله بعض الهوينا. فهذا أسهل من الوجه الذي قوبل به الحق. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال لجابر: (1) أي: كبرت وضعفت. (2) مواضع. (3) قائله ذو الرمة والبهمى: نبت. والبارض: أول ما يظهر من ذلك النبت. وسائر الألفاظ لمراتبه في النماء. (*)
[ 368 ]
فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ! فهذا كأنه يتشاغل بمباح، وتنفس وجمام من الجد. وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا أكثر النظر في مسائل الفقه، قال: إحمضوا، فليس هذا اللعب كاللعب في قوله (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب). وأما من قرأ بالياء فيهما: فإن كان يرتع من اللهو، كما فسره أبو عبيدة، فلا يمتنع أن يخبر به عن يوسف لصغره، كما لا يمتنع أن ينسب إليه اللعب لذلك، وإن كان يرتع من النيل من الشئ، فذلك لا يمتنع عليه أيضا، فوجههما بين، وهذا أبين من قول من قال ونلعب بالنون، لأنهم سألوا إرساله ليتنفس بلعبه، كقولك: زرني أحسن إليك، أي: أنا ممن يحسن إليك. وأما من قرأ ويرتع فمعناه: يرتع إبله، فحذف المفعول كما قال الحطيئة: منعمة تصون إليك منها كصونك من رداء شرعبي أي: تصون الحديث، وقال الشنفرى: كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها، وإن تكلمك تبلت (1) أي: تقطع حديثها خفرا، وحياء: المعنى: ثم بين سبحانه أنهم عند اتفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف، كيف سألوا أباهم ف (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف) أي: ما لك لا تثق بنا، ولا تعتمدنا في أمر يوسف، (وإنا له لناصحون) أي: مخلصون في إرادة الخير به. وفي هذا دلالة على أنه عليه السلام، كان يأبى عليهم أي يرسله معهم (أرسله معنا غدا) أي: إلى الصحراء (يرتع ويلعب) الجزم على جواب الأمر. والمعنى: ان ترسله معنا نرتع ونلعب أي: نذهب ونجئ، وننشط ونلهو، عن الكلبي، والضحاك. وقيل: نتحافظ فيحفظ بعضنا بعضنا، ونلهو، عن مجاهد. وقيل: نرعى ونتصرف. والرتع: هو التردد يمينا وشمالا، عن ابن زيد. وأرادوا به اللعب المباح، مثل الرمي، والاستباق بالأقدام. وقد روي أن كل لعب حرام إلا ثلاثة: لعب الرجل بقوسه، وفرسه، وأهله. (وإنا له) أي: ليوسف (لحافظون) أي: نحفظه لنرده إليك. وقيل: (1) النسي: الشئ المطروح. والأم: الطريق وفي اللسان: (تحدثك - تخاطبك - تبلت). (*)
[ 369 ]
نحفظه في حال لعبه. وقال مقاتل: هاهنا تقديم وتأخير، وذلك إن إخوة يوسف قالوا له: أرسله فقال أبوهم: (إني ليحزنني أن تذهبوا به) الآية. فحينئذ قالوا (يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون). وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير، فلا معنى لحمله عليه. قال الحسن: جعل يوسف في الجب، وهو ابن سبع عشرة سنة. وكان في البلاد إلى أن وصل إليه أبوه ثمانين سنة. ولبث بعد الإجتماع ثلاثا وعشرين سنة. ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: إنه كان ليوسف يوم ألقي في الجب عشر سنين. وقيل: كان له إثنتا عشرة سنة. وقيل: كان ابن سبع سنين، أو تسع. وجمع بينه وبين أبيه، وهو ابن أربعين سنة، عن ابن عباس، وغيره. وفي الآيات دلالة على ظهور حسدهم ليوسف، لأنه كان يحرسه منهم، ويمنعه عن الخروج معهم، ولا يأمنهم عليه. (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون (14) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15) وجآءو أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا واو كنا صادقين (17) وجآءو على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (18). اللغة: الذئب: أصله الهمز، وإن خففت جاز. وقراءة الكسائي، وخلف، وأبو جعفر، وورش، والأعشى، واليزيدي: بتخفيف الهمزة في المواضع الثلاث. والباقون: بالهمز. وجمع الذئب: أذؤب وذئاب وذؤبان. وتذاءبت الريح: أتت من كل جهة وحزنت وأحزنت لغتان. والحزن: ألم القلب بفراق المحبوب. والشعور: إدراك الشئ بمثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن. والمجئ والمصير إلى الشئ واحد، وقد يكون المصير بالانقلاب كمصير الطين خزفا، وقد يكون
[ 370 ]
بمعنى الإنتقال. والعشاء: آخر النهار، ومنه اشتق الأعشى، لأنه يستضئ ببصر ضعيف. ويقال. العشاء أول ظلام الليل. ويقال: العشى: من زوال الشمس إلى الصباح. والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة. والاستباق: افتعال من السبق، واستبقا: تبادرا حتى يظهر الأقوى، ومنه المسابقة، وهو على ثلاثة أوجه: سباق بالرمي، وذلك جائز بالاتفاق. وسباق على الخيل، والإبل: وذلك جائز عندنا. وسباق على الأقدام، وذلك غير جائز بعوض، وبه قال الشافعي. وعند أبي حنيفة يجوز بعوض، وبلا عوض، وبه قال قوم من أصحابنا. وكذلك القول في الصراع ودم كذب: أي مكذوب فيه، وهو مصدر وصف به. وقيل: إن تقديره بدم ذي كذب. قال الفراء يجوز أن يقع المصدر موقع المفعول، كما يقع المفعول موقع المصدر، في مثل قول الشاعر: حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما، ولا لفؤاده معقولا ولم يجزه سيبويه، وقال: المفعول لا يكون مصدرا، ويتأول قولهم: خذ ميسورة ودع معسورة. وقال: يعني به خذ ما يسر له، ودع ما عسر عليه. وكذلك ليس لفؤاده معقول أي: ما يعقل به. وروي عن عائشة أنها قرأت (بدم كدب) بالدال، أي دم طري. والتسويل: تزيين النفس ما ليس بحسن. وقيل: هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه. الاعراب: اللام في قوله (لئن) هي اللام التي يتلقى بها القسم: (وإنا إذا لخاسرون) جواب القسم. (فلما ذهبوا به): جواب لما محذوف، وتقديره عظمت فتنتهم، أو كبر ما قصدوا له. والكوفيون يقولون الواو في (وأجمعوا) مقحمة، وتقديره: أجمعوا. ولا يجيز البصريون إقحام الواو وقالوا: لم يثبت ذلك بحجة ولا قياس. ومما أنشده الكوفيون في ذلك قول الشاعر: حتى إذا قملت بطونكم، ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا إن اللئيم العاجز الخب (1) وقول امرئ القيس: (1) قملت بطونكم أي: كثرت قبائلكم. والمجن: الترس. وقلب مجنه أي: أسقط الحياء. والخب: الخداع المفسد والشاهد في زيادة (الواو) من (وقلبتم) وهو جواب (إذا). (*)
[ 371 ]
فلما أجزنا ساحة الحي، وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل (1) قالوا: أراد إنتحى. والبصريون يحملون الجميع على حذف الجواب. وقوله: (يبكون) في موضع نصب على الحال. و (عشاء) منصوب على الظرف. وجائز أن يكون (وهم لا يشعرون) من صلة قوله (لتنبئنهم) وجائز أن يكون من صلة (وأوحينا) أي: نبأناه بالوحي وهم لا يشعرون أنه نبي قد أوحي إليه. و (نستبق) في موضع نصب على الحال. و (صبر جميل) مرفوع على أحد وجهين: على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره فشأني صبر جميل، أو فصبري صبر جميل، وهو قول قطرب. أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: فصبر جميل أمثل. وأنشد: شكها إلي جملي طول السرى يا جملي ليس إلي المشتكى صبر جميل فكلانا مبتلى (2) ويجوز في غير القرآن فصبرا جميلا، وروي ذلك عن أبي، ويكون معناه: فاصبري يا نفس صبرا جميلا، قال ذو الرمة: ألا إنما مي فصبرا بلية، وقد يبتلي الحر الكريم فيصبر (3) وقال الآخر: أبى الله أن يبقى لحي بشاشة فصبرا على ما شاءه الله لي صبرا المعنى: ثم أخبر سبحانه أنهم لما أظهروا النصح والشفقة على يوسف، هم يعقوب أن يبعثه معهم، وحثهم على حفظه ف (قال إني ليحزنني) أي: يغمني (أن تذهبوا به) وتغيبوه عني. وقيل: معناه يحزنني مفارقته إياي (وأخاف) عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء (أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) فهذه جملة في موضع الحال، وتقديره: أخاف أن يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه، مشغولين (1) ساحة الدار: فناؤه. وانتحى أي: قصده. والخبت: الأرض المطمئنة. والحقف: الرمل المشرف المعوج. والعقنقل: المنعقد من الرمل. والشاهد في زيادة (الواو) في قوله (وانتحى) وهو جواب (لما). (2) أي: صبر جميل أمثل: والسرى: سير الليل كله. (3) مي: إسم امراة. (*)
[ 372 ]
ببعض أشغالكم، قالوا: وكانت أرضهم مذأبة، وكانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت. وقيل: إن يعقوب رأى في منامه، كأن يوسف قد شد عليه عشرة أذؤب ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف، فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام، فمن ثم قال: فلقنهم العلة، وكانوا لا يدرون. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: لا تلقنوا الكذب فيكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان، حتى لقنهم أبوهم. وهذا يدل على أن الخصم لا ينبغي أن يلقن حجة. وقيل: إنه خاف عليه أن يقتلوه، فكنى عنهم بالذئب، مسايرة لهم. قال ابن عباس: سماهم ذئابا (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة) أي: جماعة متعاضدون متناصرون، نرى الذئب قد قصده، ولا نمنعه منه (إنا إذا لخاسرون) أي: نكون كالذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم على رغم منهم. وقيل: معناه إنا إذا عجزة ضعفة. قال الحسن: والله لقد كانوا أخوف عليه من الذئب. وقيل: معناه إنا إذا لمضيعون بلغة قيس عيلان، عن المؤرج. وههنا حذف، والتقدير أنه أرسله معهم إجابة لما سألوه ليؤدي ذلك إلى الإلفة والمحبة. (فلما ذهبوا به وأجمعوا) أي: عزموا جميعا (أن يجعلوه في غيابة الجب) أي: قعر البئر، واتفقت دواعيهم عليه، فإن من دعاه داع واحد إلى الشئ لا يقال فيه أنه أجمع عليه، فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي. ويدل الألف واللام على أنه كان بئرا معروفة معهودة عندهم، تجيئها السيارة. وقيل: إنهم طلبوا بئرا قليلة الماء تغيبه، ولا تغرقه، فجعلوه فيها. وقيل: بل جعلوه في جانب منها. وقيل: إن يعقوب أرسله معهم، فأخرجوه مكرما، فلما وصلوا إلى الصحراء، أظهروا له العداوة، وجعلوا يضربونه، وهو يستغيث بواحد واحد منهم، فلا يغيثه، وكان يقول: يا أبتاه ! فهموا بقتله، فمنعهم يهوذا منه. وقيل: منعهم لاوي، رواه بعض أصحابنا عنهم عليهم السلام، فانطلقوا به إلى الجب، فجعلوا يدلونه في البئر، وهو يتعلق بشفير البئر، ثم نزعوا قميصه عنه، وهو يقول: لا تفعلوا، ردوا علي القميص أتوارى به ! فيقولون: أدع الشمس والقمر، والأحد عشر كوكبا يؤنسنك. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها، ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة، فقام عليها. وكان يهوذا يأتيه بالطعام، عن السدي. وقيل: إن الجب أضاء له، وعذب ماؤه حتى أغناه عن الطعام والشراب.
[ 373 ]
وقيل: كان الماء كدرا، فصفا وعذب، ووكل الله به ملكا يحرسه ويطعمه، عن مقاتل. وقيل: إن جبرائيل كان يؤنسه. وقيل: إن الله تعالى أمر بصخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر، فوقف يوسف عليها، وهو عريان. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، جرد من ثيابه، وقذف في النار عريانا، فأتاه جبرائيل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم عليه السلام. فلما مات ورثه إسحاق. فلما مات إسحاق، ورثه يعقوب. فلما شب يوسف، جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ، وعلقه في عنقه، فكان لا يفارقه. فلما ألقي في البئر عريانا، جاءه جبرائيل، وكان عليه ذلك التعويذ. فأخرج منه القميص، فألبسه إياه. وروى ذلك مفضل بن عمر، عن الصادق عليه السلام، قال: وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه. ولما فصلت العير من مصر، وكان يعقوب بفلسطين، فقال: إني لأجد ريح يوسف. وفي كتاب النبوة: عن الحسن بن محبوب، عن الحسن بن عمارة، عن مسمع أبي سيار، عن الصادق عليه السلام، قال: لما ألقى إخوة يوسف يوسف في الجب، نزل عليه جبرائيل، فقال له: يا غلام ! من طرحك هنا ؟ فقال: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني، ولذلك في الجب طرحوني ! فقال: أتحب أن تخرج من هذا الجب ؟ قال: ذلك إلى اله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. فقال له جبرائيل: فإن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، يقول لك: قل: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، وترزقني من حيث أحتسب، ومن حيث لا أحتسب) فجعل الله له من الجب يومئذ فرجا ومخرجا، ومن كيد المرأة مخرجا، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب. وروى علي بن إبراهيم: أن يوسف عليه السلام قال في الجب: (يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إرحم ضعفي، وقلة حيلتي، وصغري. وقوله: (وأوحينا إليه) يعني إلى يوسف عليه السلام، قال الحسن: أعطاه الله النبوة، وهو في الجب، والبشارة بالنجاة والملك. (لتنبئنهم بأمرهم هذا) أي: لتخبرنهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت، يريد ما ذكره سبحانه في آخر السورة من قوله: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه). (وهم لا يشسعرون). أنك يوسف. وكان الوحي إليه كالوحي إلى سائر
[ 374 ]
الأنبياء. وقال مجاهد، وقتادة: أوحى الله إليه، ونبأه وهو في الجب. وكان فيما أوحى إليه: أن أكتم حالك، واصبر على ما أصابك، فإنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك. وقيل: يريد: وهم لا يشعرون بأنه أوحي إليه. وقيل: إن معنى قوله (لتنبئنهم) لتجازينهم على فعلهم. تقول العرب للرجل، يتوعده بمجازاة سوء فعله: لأنبئنك، ولأعرفنك أي: لأجازينك. وقيل أراد بذلك أنهم لما دخلوا مصر، عرفهم يوسف، وهم له منكرون، فأخذ الصاع ونقره، فطن (1). فقال: إن هذا الجام ليخبرني أنه كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب، وبعتموه بثمن بخس، فهذا معنى قوله (لتنبئنهم بأمرهم) هذا عن ابن عباس. ثم بين سبحانه حالهم حين رجعوا إلى أبيهم، فقال: (وجاؤوا أباهم) يعني وانقلب إخوة يوسف إلى أبيهم (عشاء) أي: ليلا، أو في آخر النهار، ليلبسوا على أبيهم، وليكونوا أجرأ على الإعتذار (يبكون) وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون. وفي هذا دلالة على أن البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه. قال السدي: لما سمع بكاءهم، فزع فقال: ما بالكم ؟ (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق) أي: نشتد ونعدو على الأقدام، لننظر أينا أعدى وأسبق لصاحبه، عن الجبائي، والسدي. وقيل: معناه ننتصل ونترامى، فننطر أي السهام أسبق إلى الغرض، عن الزجاج. وفي قراءة عبد الله: ننتصل (وتركنا يوسف عند متاعنا) أي: تركناه عند الرحل ليحفظه (فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا) أي: ما أنت بمصدق لنا (ولو كنا صادقين) جواب (لو) محذوف أي: ولو كنا صادقين ما صدقتنا لاتهامك لنا في أمر يوسف، ودل الكلام عليه. ولم يصفوه بأنه لا يصدق الصادق، لأن المعنى لا يصدقهم لاتهامه لهم، وسوء ظنه بهم، لما ظهر له من إمارات حسدهم ليوسف، وشدة محبته ليوسف. (وجاءوا على قميصه بدم كذب) معناه: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم ومعهم قميص يوسف ملطخا بدم، فقالوا له: هذا دم يوسف حين أكله الذئب. وقيل: إنهم ذبحوا سخلة، وجعلوا دمها على قميصه، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: ظبيا، ولم يمزقوا ثوبه، ولم يخطر ببالهم أن الذئب إذا أكل إنسانا، فإنه يمزق ثوبه. (1) الصاع: المكيال. ونقره: ضربه ليصوت. وطن: أي صوت. (*)
[ 375 ]
وقيل: إن يعقوب قال لهم: أروني القميص ؟ فأروه إياه، فقال لهم، لما رأى القميص صحيحا: يا بني ! والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا. أكل إبني ولم يمزق قميصه، عن الحسن. وروي أنه ألقى ثوبه على وجهه، وقال: يا يوسف ! لقد أكلك ذئب رحيم، أكل لحمك، ولم يشق قميصك. ومعنى قوله (بدم كذب): مكذوب عليه، أوفيه كما يقال: ماء سكب أي: مسكوب، وشراب صب أي: مصبوب، قال الشاعر: تظل جيادهم نوحا عليهم مقلدة أعنتها صفونا (1) أراد: نائحة عليهم. وقيل: إنه كان في قميص يوسف ثلاث آيات: حين قد من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا، وحين جاؤوا عليه بدم كذب. فتنبه يعقوب على أن الذئب لو أكله، لمزق قميصه، عن الشعبي. وقيل: إنه لما قال لهم يعقوب ذلك، قالوا: بل قتله اللصوص ! فقال عليه السلام: فكيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله ؟ (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) أي: قال يعقوب لهم إذ اتهمهم في يوسف: لم يأكله الذئب، ولم يقتله اللصوص، ولكن زينت لكم أنفسكم أمرا علمتموه، عن قتادة. وقيل: سهل بعضكم لبعض أمرا في يوسف، غير الذي فعلتموه، حتى سهل عليكم فقتلتموه، عن أبي مسلم، والجبائي. وإنما رد يعقوب عليهم بوحي من الله عز إسمه. وقيل: كان ذلك حدسا بصائب رأيه، وصادق ذهنه (فصبر جميل) أي: فصبري صبر جميل، لا جزع فيه، ولا شكوى إلى الناس. وقيل: فصبر جميل أحسن وأولى من الجزع الذي لا يغني شيئا. وقيل: إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى، وفعل للوجه الذي وجب. فلما كان الصبر في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود، صح وصفه بذلك، ذكره المرتضى، قدس الله روحه. وقيل: إن البلاء نزل بيعقوب على كبره، وبيوسف على صغره، بلا ذنب كان منهما، فأكب يعقوب على حزنه، وانطلق يوسف في رقه، وكل ذلك بعين الله، يرى ويسمع، حتى أتى بالمخرج، وكل ذلك امتحان. (والله المستعان على ما تصفون) أي: بالله أستعين (1) قائله عمرو بن كلثوم من (المعلقة). وروايته فيها (تركنا الخيل عاكفة عليه. ا. ه) صفونا جمع والصافن: الخيل إذا وقف على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. (*)
[ 376 ]
على دفع ما تصفون، أو به أستعين على تحمل مرارة الصبر عليه. ومكث يوسف في الجب ثلاثة أيام. (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19) وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20). القراءة: قرأ أهل الكوفة: (يا بشرى) بألف بغير ياء، إلا أن حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الراء، وعاصم لا يميل. والباقون (يا بشراي) باثبات الياء، وإثبات الألف. وفي الشواذ قراءة الجحدري، وابن أبي إسحاق، والحسن: (يا بشري). الحجة: قال أبو علي: من قرأ (يا بشراي) فأضاف إلى الياء التي للمتكلم كان للألف التي هي حرف الإعراب عنده موضعان من وجهين أحدهما: إن الألف في موضع نصب، من حيث كان نداء مضافا والآخر: أن يكون في موضع كسر، من حيث كان بمنزلة حرف الإعراب الذي في غلامي. والدليل على استحقاقها لهذا الموضع قولهم: كسرت في، فلولا أن حرف الاعراب الذي ولي ياء الإضافة في موضع كسر، ما كسرت الفاء من (في) فلما كسرت كما كسرت من قولهم (بفيك)، وكما فتحت من قولهم: (رأيت فاك)، لما كانت في موضع الفتحة التي في قولك: (رأيت غلامك)، وانضمت في قولك: (هذا فوك) لاتباعه الضمة المقدرة فيها كالتي في قولك: (هذا غلامك)، كذلك كسرت في قولهم: (كسرت في). وهذا يدلك على أنه ليس يعرب من مكانين، ألا ترى أنها تبعت حركة غير الإعراب في قولك: (كسرت في يا هذا) كما تبعت حركة الإعراب في (رأيت فاك). ومن قال (يا بشرى) احتمل وجهين أحدهما: أن يكون في موضع ضم، مثل (يا رجل) لاختصاصه بالنداء والآخر: أن يكون في موضع نصب، وذلك لأنك أشعت النداء، ولم تختص به، كما فعلت في الوجه الأول، فصار كقوله (يا حسرة على العباد) إلا أن التنوين لم يلحق (بشرى) لأنها لا تنصرف. فأما من قرأ (بشري) فإن تلك لغة هذيل، قال أبو ذؤيب:
[ 377 ]
سبقوا هوي، وأعنقوا لسبيلهم فتخرموا، ولكل جنب مهجع (1) وقال آخر: يطوف بي عكب في معد، ويطعن بالصملة في قفيا فإن لم تثأرا لي من عكب فلا رويتما أبدا صديا (2) وأمثاله كثيرة. اللغة: الوارد: الذي يتقدم الرفقة إلى الماء ليستقي. وتقول أدليت الدلو: إذا أرسلتها في البئر لتملأها. ودلوتها: إذا أخرجتها ملأى. والبضاعة: قطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشئ: إذا قطعته، ومنه المبضع: لأنه يبضع به العرق. والشرى: البيع، قال الشاعر: (وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه) (3) والثمن: بدل الشئ من العين أو الورق، ويقال في غيرهما أيضا مجازا. والبخس: النقص من الحق، يقال بخسه في الكيل، أو الوزن: إذا نقصه من حقه فيهما. الاعراب: قال الزجاج معنى النداء في (يا بشرى) وما في معناها مما لا يجب، ولا يعقل، فإنه على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة إذا قلت: (يا عجباه) فكأنك قلت اعجبوا يا أيها العجب هذا من حينك. وكذلك إذا قلت (يا بشرى) فكأنك قلت أبشروا يا أيتها البشرى هذا من أبانك و (بضاعة): منصوب على الحال، وتقديره وأسروه جاعليه بضاعة. و (دراهم): في موضع جر بأنه بدل من ثمن و (معدودة): صفة الدراهم (وكانوا فيه من الزاهدين) فيه. ليست من صلة (الزاهدين) والمعنى: وكانوا من الزاهدين. ثم بين في أي شئ زهدوا فقال: فيه، فكأنه قال: زهدوا فيه. وهذا في الظروف جائز، ولا يجوز ذلك في المفعولات (1) وفي رواية (الأمالي) للشريف المرتضى (قده) والتبيان (مصرع) بدل (مهجع). وأعنقوا أي: أسرعوا. وتخرم القوم المنية أي: اقتطعهم واستأصلهم. يرثي بنيه لما ماتوا بالطاعون. (2) هما للمنتخل الهذلي، ونسبهما في (اللسان) إلى المنخل اليشكري. وعكب اللخمي: صاحب سجن النعمان بن المنذر. ومعد: قبيلة. والصملة. الرجل القصير الضخم. (3) قائله يزيد بن مفرغ الحميري. وبرد: اسم عبد باعه فندم. والهامة: الميت. (*)
[ 378 ]
لو قلت كنت زيدا من الضاربين، لم يجز، لأن زيدا من صلة الضاربين، ولا تتقدم الصلة على الموصول. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجب، فقال: (وجاءت سيارة) أي: جماعة مارة، قالوا: وإنما جاءت من قبل (مدين) يريدون مصر، فأخطأوا الطريق، فانطلقوا يهيمون على غير الطريق، حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران، وإنما هو للرعاة والمجتازة. وكان ماؤه ملحا فعذب. وقيل: كان الجب بظهر الطريق (فأرسلوا واردهم) أي: فبعثوا من يطلب لهم الماء، يقال بعثوا رجلا يقال له مالك بن زعر ليطلب لهم الماء (فأدلى دلوه) أي: أرسل دلوه في البئر ليستقي، فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل. فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطي يوسف شطر الحسن، والنصف الآخر لسائر الناس. وقال كعب الأحبار: وكان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه، ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله، عز وجل، وصوره، ونفخ فيه من روحه، قبل أن يصيب المعصية. ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن. فلما رآه المدلي (قال يا بشرى هذا غلام) عن قتادة، والسدي. وقيل: إنه نظر في البئر لما ثقل عليه الدلو، فرآى يوسف عليه السلام، فقال: هذا غلام ! فأخرجوه، عن الجبائي. وقيل: إن بشرى رجل من أصحابه ناداه، عن السدي. (وأسروه بضاعة) أي: وأسر يوسف الذين وجدوه من رفقائهم من التجار، مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم في يوسف، فقالوا: هذا بضاعة، لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه لهم، عن مجاهد، والسدي. وقيل: معناه وأسر إخوته يكتمون أنه أخوهم، فقالوا: هو عبد لنا قد أبق، واختفى منا في هذا الموضع، وقالوا له بالعبرانية: لئن قلت أنا أخوهم قتلناك ! فتابعهم على ذلك لئلا يقتلوه، عن ابن عباس. (والله عليم بما يعملون) أي: بما يعمل إخوة يوسف (وشروه بثمن بخس) اي. باعوه بثمن ناقص قليل، عن عكرمة، والشعبي. وقيل: حرام، لأن ثمن الحر
[ 379 ]
حرام، عن الضحاك، ومقاتل، والسدي. وسمي الحرام بخسا، لأنه لا بركة فيه، فهو منقوص البركة (دراهم معدودة) أي: قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة. وقيل: إنهم كانوا لا يزنون من الدراهم ما دون الأوقية، وكانوا يزنون الأوقية: وهي الأربعون، فما زاد عليها، وكانت الدراهم عشرين درهما، عن ابن عباس، وابن مسعود، والسدي، وهو المروي عن علي بن الحسين عليه السلام، قال: وكانوا عشرة، فاقتسموها درهمين درهمين. وقيل: كانت اثنين وعشرين درهما، عن مجاهد. وقيل: كانت أربعين درهما، عن عكرمة. وقيل: ثمانية عشر درهما، عن أبي عبد الله عليه السلام. واختلف فيمن باعه فقيل: إن اخوة يوسف باعوه، وكان يهوذا منتبذا ينظر إلى يوسف، فلما أخرجوه من البئر، أخبر إخوته فأتوا مالكا، وباعوه منه، عن ابن عباس، ومجاهد، وأكثر المفسرين. وقيل: باعه الواجدون بمصر، عن قتادة. وقيل: إن الذين أخرجوه من الجب، باعوه من السياره، عن الأصم. والأصح الأول. وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال: فلم يزل مالك بن زعر وأصحابه يتعرفون من الله الخير في سفرهم ذلك، حتى فارقوا يوسف، ففقدوا ذلك، قال: وتحرك قلب مالك ليوسف، فأتاه فقال: أخبرني من أنت ؟ فانتبه له يوسف، ولم يكن مالك يعرفه، فقال: أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. فالزمه مالك وبكى. وكان مالك رجلا عاقرا، لا يولد له، فقال ليوسف: لو دعوت ربك أن يهب لي ولدا. فدعا يوسف ربه أن يجعل له ولدا، ويجعلهم ذكورا، فولد له اثنا عشر بطنا، في كل بطن غلامان. (وكانوا فيه من الزاهدين) قيل: يعني به ان الذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه، لأنهم وجدوا علامة الأحرار، وأخلاق أهل البر والنبل، فلم يرغبوا فيه، مخافة أن يلحقهم تبعة في استعباده. وقيل: معناه وكانوا من الزاهدين في نفس يوسف، لم يشروه للفجور، وإنما اشتروه للربح. وقيل: المراد به الذين باعوه من إخوته، كانوا غير راغبين في يوسف، ولا في ثمنه، ولكنهم باعوه حتى لا يظهر ما فعلوا به، وكان قصدهم تبعيده. وقيل: كانوا من الزاهدين في يوسف، لأنهم لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه، وكرامته عليه. ولا تنافي بين هذه الأقوال، فيجوز حمل الآية على جميعها. وقيل: إن الذين باعوه بمصر كانوا من الزاهدين في ثمنه،
[ 380 ]
لأنهم علموا أنه لقطة، وليست ببضاعة. (وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده ءاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22). اللغة: الثواء: الإقامة. والمثوى: موضع الإقامة. والإكرام: إعطاء المراد على جهة الإعظام وهو يتعاظم فأعلاه منزلة ما يستحق بالنبوة، وأدناه ما يستحق بخصلة من الطاعات. وأشد: جمع لا واحد له. وقيل: هو واحد وإن كان على وزن الجمع، فهو مثل الآنك: وهو الرصاص. وقيل: إنه جمع، واحده شد، كما أن واحد الأشر شر، قال الشاعر: هل غير أن كثر الأشر، وأهلكت حرب الملوك أكاثر الأموال الاعراب: مصر: لا ينصرف لأنه مؤنث معرفة. و (أن ينفعنا): في موضع رفع لكونه فاعل (عسى)، وعسى هذه تامة، لأنها تمت بفاعلها. واللام في قوله (ولتعلمه) محمولة على تقدير دبرنا ذلك لنمكنه، ولنعلمه. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف، بعد أن بيع، فقال: (وقال الذي اشتراه) أي: اشترى يوسف (من مصر) أي: من أهل مصر (لامرأته أكرمي مثواه) أي: مقام يوسف، وموضع نزوله أي: هيئي له موضعا كريما شريفا، وتقدير الآية: فحملوه إلى مصر، وباعوه. وحذف ذلك للدلالة عليه. وكان المشتري خازن فرعون مصر، وخليفته، وصاحب جنوده، واسمه قطفير، وكان لا يأتي النساء. وقيل: إن اسمه أظفير، وكان يلقب بالعزيز. ومن كان بمكانه يسمى بالعزيز، ومن يسمى بالعزيز ممن لم يكن بمكانه نزع لسانه. فلما عبر يوسف رؤيا الملك سمي العزيز، وجعل مكان العزيز. وكان باعه مالك بن زعر منه بأربعين دينارا، وزوج نعل، وثوبين أبيضين، عن ابن عباس. وقيل: إنه عرضه على البيع في سوق مصر، فتزايدوا حتى بلغ ثمنه ووزنه ورقا، ومسكا، وحريرا، عن وهب. فاشتراه
[ 381 ]
العزيز بهذا الثمن. وقال لامرأته راعيل، ولقبها زليخا: أكرمي مثواه (عسى أن ينفعنا) أي: عسى أن نبيعه فنربح على ثمنه. (أو نتخذه ولدا) فإنه لا ولد لنا. وإنما قال ذلك لما رأى على يوسف من الجمال، والعقل، والهداية في الأمور، وعلى هذا فالعزيز هو خازن الملك وخليفته، والملك هو الريان بن الوليد: رجل من العماليق. وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن، واتبع يوسف على دينه، ثم مات، ويوسف بعده حي، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل، وقال ابن عباس: العزيز ملك مصر، وكذلك هو في حديث علي بن الحسين عليه السلام. (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) أي: كما أنعمنا على يوسف بالسلامة والخروج من الجب، مكناه في الأرض بأن عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه، حتى صار بذلك متمكنا من الأمر والنهي في الأرض التي كان يستولي عليها الملك، وهي أرض مصر (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) وقد مضى معناه في أول السورة (والله غالب على أمره) أي: على أمر يوسف، يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدر له من الملك، والنبوة، ولا يكله إلى غيره. وقيل: معناه والله غالب على أمر نفسه، لا يعجزه شئ من تدابيره وأفعاله، فهو الفاعل لما يشاء كيف يشاء (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ان الله غالب على أمر نفسه، أو أمر يوسف. وقيل: معناه لا يعلمون ما يصنع الله بيوسف، وما يؤول إليه حاله (ولما بلغ) يوسف (أشده) أي: منتهى شبابه وقوته، وكمال عقله. وقيل: الأشد: من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، عن ابن عباس. وقيل: إن أقصى الأشد أربعون سنة. وقيل: الأشد: من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، عن ابن عباس. وقيل: إن أقصى الأشد أربعون سنة. وقيل. ستون سنة، وهو قول الأكثرين، ويؤيده الحديث: من عمره الله ستين سنة، فقد أعذر إليه. وقيل: إن ابتداء الأشد: من ثلاث وثلاثين سنة، عن مجاهد، وكثير من المفسرين. وقيل: من عشرين سنة، عن الضحاك. (آتيناه حكما) أي: أعطيناه القول الفصل الذي يدعو إلى الحكمة (وعلما): وهو تبيين الشئ على ما هو به، بما يحل في القلب، عن علي بن عيسى. وقيل: الحكم: النبوة، والعلم: الشريعة، عن ابن عباس. وقيل: الحكم: الدعاء إلى دين الله، والعلم: علم الشرع. وقيل: أراد الحكم بين
[ 382 ]
الناس، والعلم بوجوه المصالح، فإن الناس كانوا إذا تحاكموا على العزيز، أمره بأن يحكم بينهم، لما رأى من عقله، وإصابته في الرأي. وقيل: هو العلم والعمل به، وهو الحكم (وكذلك نجزي المحسنين) أي: مثل ما جزينا يوسف بصبره، نجزي كل من أحسن أي: فعل الأفعال الحسنة من الطاعات. وقيل: إن المحسنين: الصابرون على النوائب، عن الضحاك. وقيل: هم المؤمنون، عن ابن عباس. وقيل: أراد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أي: كما فعلنا بيوسف، وأعطيناه الملك بعد مقاساته البلاء والشدة، كذلك نفعل بك يا محمد، عن ابن جريج. (وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه، ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23). القراءة: قرأ أهل المدينة والشام: (هيت لك) بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ ابن كثير: (هيت لك) بفتح الهاء وضم التاء. وقرأ الباقون: (هيت لك) بفتح الهاء والتاء. وروي عن علي عليه السلام، وأبي رجاء، وأبي وائل، ويحيى بن وثاب: (هئت لك) بالهمزة وضم التاء. وروي ذلك على خلاف فيه عن ابن عباس، وعن عكرمة، ومجاهد، وقتادة. وروي عن ابن عباس أيضا (هيت لك) بفتح الهاء وكسر التاء. وروي ذلك عن أبي الأسود، وابن أبي إسحاق، وأبن محيصن، وعيسى الثقفي. وروي أيضا عن ابن عباس: (هيئت لك) أيضا. الحجة: قال الزجاج: في (هيت لك) لغات أجودها (هيت لك) بفتح الهاء والتاء. قال الشاعر: أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا إن العراق، وأهله، عنق إليك، فهيت هيتا (1) أي: فأقبل وتعال. وحكى قطرب أنه أنشده بعض أهل الحجاز لطرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة: هيت (1) قائله رجل من أهل العراق يخاطب علي بن أبي طالب عليه السلام. وجاء القوم عنقا عنقا أي: طوائف. أراد أنهم أقبلوا إليك بجماعتهم. وفي بعض الروايات (سلم إليك). مكان (عنق إليك) (*).
[ 383 ]
هم يجيبون ذا: هلم سراعا كالأبابيل، لا تغادر بيتا فهذا شاهد لابن كثير، وكلها أسماء سمى بها الفعل بمنزلة صه، ومه، وأيه، والحركات في أواخرها لالتقاء الساكنين. وأما الفتح: فلأن قبل التاء ياء، فهو كما قيل: أين ؟ وكيف ؟ والكسر لأن الأصل في التقاء الساكنين حركة الكسر. وأما الضم فلأنها في معنى الغايات، كأنها قالت دعائي لك. فلما حذفت الإضافة، وتضمنت هيت معناها بنيت على الضم، كما بنيت حيث، ومنذ. وأما هئت بالهمزة وضم التاء: ففعل، تقول: هئت أهئ هيئة أي: تهيأت. وقالوا أيضا هئت أهاء، كخفت أخاف. وأما (هيئت لك): ففعل صريح، كقولك: أصلحت لك. واللام تتعلق بنفس هيت، وهيت، وهيت، وهئت، كما يتعلق بنفس (هلم) في قولك: هلم لك. اللغة: المراودة: المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به، ومنه المرود لأنه يعمل به. ولا يقال في المطالبة بدين راوده، وأصله من راد يرود: إذا طلب المرعى. وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله وهو في الآية كناية عما تريده النساء من الرجال والتغليق: إطباق الباب بما يعسر فتحه، وإنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق، أو للمبالغة في الإيثاق. الاعراب: (معاذ الله): نصب على المصدر، على تقدير: أعوذ بالله معاذا، تقول: عذت بالله عوذا، ومعاذا، وعياذا، ومعاذة. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن امرأة العزيز، وما همت به، فقال: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) أي: وطالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عن نفسه، وهي زليخا. والمعنى: طلبت منه أن يواقعها (وغلقت الأبواب) على نفسها وعليه، بابا بعد باب. قالوا: وكانت سبعة أبواب. وقيل: أراد باب الدار، وباب البيت (وقالت هيت لك) أي: هلم لك، عن ابن عباس، والحسن. ومعناه: أقبل وبادر إلى ما هو مهيأ لك (قال) يوسف (معاذ الله) أي: أعتصم بالله، وأستجير به، مما دعوتني إليه، وتقديره: عياذا بالله أن أجيب إلى هذا. فكان عليه السلام أظهر الإباء، وسأل الله سبحانه أن يعيذه، ويعصمه من فعل ما دعته إليه (انه ربي أحسن مثواي) الهاء: عائدة إلى زوجها، عند أكثر المفسرين. ومعناه: إن العزيز زوجك
[ 384 ]
مالكي، أحسن تربيتي وإكرامي، وبسط يدي، ورفع منزلتي، فلا أخونه. وإنما سماه ربا، لما كان ثبت له عليه من الرق في الظاهر. وقيل: إن الهاء عائد إلى الله سبحانه. والمعنى: إن الله ربي رفع من محلي، وأحسن إلي، وجعلني نبيا، فلا أعصيه أبدا (إنه لا يفلح الظالمون) دل بهذا على أنه لو فعل ما دعته إليه، لكان ظالما. وفي هذه الآية دلالة على أن يوسف لم يهم بالفاحشة، ولم يردها بقبيح، لأن من هم بالقبيح، لا يقول مثل ذلك. (ولقد همت به وهم بها لولآ أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24). القراءة: قرأ أهل المدينة والكوفة: (المخلصين) بفتح اللام. والباقون: بكسر اللام في جميع القرآن. الحجة: قال أبو علي: حجة من كسر اللام قوله: (أخلصوا دينهم لله). ومن فتح اللام: فيكون بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه، ومعنى من كسر اللام واحد. فإذا أخلصوا دينهم فهم مخلصون. وإذا أخلصوا فهم مخلصون. اللغة: الهم في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله تعالى (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) أي: أرادوا ذلك، وعزموا عليه، ومنه قول ضابئ البرجمي: هممت، ولم أفعل، وكدت، وليتني تركت على عثمان، تبكي حلائله وقول حاتم طئ: ولله صعلوك يشاور همه، ويمضي على الأيام، والدهر مقدما وقول الخنساء: وفضل مرداسا على الناس جملة، وإن كل هم همه فهو فاعله ومنها: خطور الشئ بالبال، وإن لم يقع العزم عليه كقوله (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما) يعني: إن الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما، لما كان الله وليهما، لأن العزم على المعصية معصية، ولا يجوز أن يكون الله
[ 385 ]
ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه، عليه وآله السلام، ويقوي ذلك قول كعب بن زهير: فكم فيهم من فارس متوسع، ومن فاعل للخير إن هم، أو عزم ففرق بين الهم والعزم. ومنها: أن يكون بمعنى المقاربة. قالوا: هم فلان أن يفعل كذا أي: كاد يفعله. قال ذو الرمة: أقول لمسعود بجرعاء مالك، وقد هم دمعي أن تلج أوائله والدمع لا يجوز عليه العزم. ومعناه: كاد وقارب. وقال أبو الأسود الدئلي: وكنت متى تهمم يمينك مرة لنفعل خيرا تقتفيها شمالكا وعلى هذا جاء قوله (جدارا يريد أن ينقض) أي: يكاد. وقال الحارثي: يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل ومنها: الشهوة ونيل الطباع يقول القائل فيما يشتهيه، ويميل طبعه إليه: هذا أهم الأشياء إلي، وفي ضده ليس هذا من همي. وإذا كانت معاني الهم في اللغة مختلفة يجب أن ننفي عن نبي الله يوسف عليه السلام، ما لا يليق به، وهو العزم على القبيح، لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز المعاصي والقبائح عليهم وأجزنا عليهم ما سواه من معاني الهم، لأن كل واحد من ذلك يليق بحاله. المعنى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) اختلف العلماء فيه على قولين أحدهما: إنه لم يوجد من يوسف ذنب كبير، ولا صغير والآخر: إنه وجد منه العزم على القبيح، ثم انصرف عنه. فأما الأولون فإنهم اختلفوا في تأويل الآية على وجوه: أحدها: ان الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة، لأنه قال. (ولقد همت به وهم بها) فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز أن يرادا، ويعزم عليهما، لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه، فإذا حملنا الهم في الآية على العزم، فلا بد من تقدير أمر محذوف، يتعلق العزم به. وقد أمكن أن نعلق عزمه عليه السلام بغير القبيح، ونجعله متناولا لضربها، أو دفعها عن نفسه، فكأنه قال: ولقد همت بالفاحشة منه، وأرادت ذلك، وهم يوسف عليه السلام بضربها، ودفعها عن نفسه، كما يقال: هممت بفلان أي: بضربه، وإيقاع مكروه به. وعلى هذا
[ 386 ]
فيكون معنى رؤية البرهان: إن الله سبحانه أراده برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به، أهلكه أهلها، أو قتلوه، أو ادعت عليه المراودة على القبيح، وقذفته بأنه دعاها إليه، وضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء، اللذين هما القتل، وظن اقتراف الفاحشة به. ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه، لفعل ذلك. ويكون جواب (لولا) محذوف كما حذف فيه قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤوف رحيم). وقوله: (كلا لو تعلمون علم اليقين) أي: لولا فضل الله لهلكتم، ولو تعلمون علم اليقين لم يلهكم التكاثر. ومثله قول امرئ القيس: ولو أنها نفس تموت سوية، ولكنها نفس تساقط أنفسا (1) يريد: فلو أنها نفس تموت سوية لنقضت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه. وعلى هذا يكون جواب (لولا) محذوف يدل عليه قوله (وهم بها) ولا يجوز أن يكون قوله (وهم بها) جوابا للولا، لأن جواب لولا لا يتقدم عليه وثانيها: أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. ولما رأى برهان ربه لم يهم بها. ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك. وقد كنت قلت لولا أني خلصتك. والمعنى لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي إياك لقتلت، وإن كان لم يقع هلاك وقتل، ومثله قول الشاعر: فلا يدعني قومي ليوم كريهة لئن لم أعجل ضربة، أو أعجل وقال آخر: فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا، ويسلم عامر (2) وفي القرآن: (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) وهذا الوجه اختاره أبو مسلم، وهو قريب من الأول وثالثها: ان معنى قوله (هم بها) اشتهاها، ومال طبعه إلى ما دعته إليه. وقد يجوز أن تسمى الشهوة هما على سبيل التوسع والمجاز، ولا قبح في الشهوة، لأنها من فعل الله تعالى، وإنما يتعلق القبح بالمشتهي. وقد (1) هذا بيت من سينيته التي قالها عند موته، ومعناه - على ما قيل -: تموت بموتي نفوس كثيرة. (2) قوله صريحا أي: خالص النسب. (*)
[ 387 ]
روي هذا التأويل عن الحسن قال: أما همها فكان أخبث الهم. وأما همه: فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء. وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: همها القصد، وهمه أنه تمناها أن تكون زوجة له. وعلى هذا الوجه فيجب أن يكون قوله (لولا ان رأى برهان ربه) متعلقا بمحذوف أيضا، كأنه قال: لولا أن رأى برهان ربه، لعزم أو فعل. (سؤال) قالوا: إن قوله (ولقد همت به وهم بها) خرجا مخرجا واحدا، فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبيح، وهمه بها متعلقا بغير القبيح ؟ وجوابه: ان الظاهر لا يدل على ما تعلق به الهم فيهما جميعا، وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح، لشهادة القرآن والآثار به، ولأنها ممن يجوز عليه فعل القبيح. والشاهد لذلك من الكتاب قوله: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) وقوله: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) وقوله حكاية عنها: (الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) والشاهد من الآثار: اجماع المفسرين على انها همت بالمعصية والفاحشة. وأما يوسف عليه السلام: فقد دلت الأدلة العقلية التي لا يتطرق إليها الاحتمال والمجاز، على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح، ولا يعزم عليه. فأما الشاهد من القرآن على أنه ما هم بالفاحشة، فقوله سبحانه: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) وقوله (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) وغير ذلك من قوله: قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) والعزم على الفاحشة من أكبر السوء. وأما الفرقة الأخرى فإنهم قالوا فيه ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء، فقال بعضهم: إنه قعد بين رجليها، وحل تكة سراويله، وقال بعضهم: حل السراويل حتى بلغ الثنن، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، وقد نزهه الله سبحانه عن ذلك كله بقوله: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) وأمثال ذلك مما عددناه. فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على وجوه أحدها: إنه حجة الله سبحانه في تحريم الزنا، والعلم بالعذاب الذي يستحقه الزاني، عن محمد بن كعب، والجبائي وثانيها: انه ما آتاه الله سبحانه من آداب الأنبياء، واخلاق الأصفياء، في العفاف، وصيانة النفس عن الأدناس، عن أبي مسلم وثالثها: إنه النبوة المانعة من
[ 388 ]
ارتكاب الفواحش، والحكمة الصارفة عن القبائح، روي ذلك عن الصادق عليه السلام ورابعها: إنه كان في البيت صنم، فألقت المرأة عليه ثوبا فقال عليه السلام: إن كنت تستحين من الصنم، فأنا أحق إن أستحي من الواحد القهار ! عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وخامسها: إنه اللطف الذي لطف الله تعالى به في تلك الحال، أو قبلها، فاختار عنده الإمتناع عن المعاصي، وهو ما يقتضي كونه معصوما، لأن العصمة هي اللطف الذي يختار عنده التنزه عن القبائح، والامتناع من فعلها. ويجوز أن يكون الرؤية ههنا بمعنى العلم، كما يجوز أن يكون بمعنى الإدراك. فأما ما ذكر في البرهان من الأشياء البعيدة بأن قيل: إنه سمع قائلا يقول: يا بن يعقوب ! لا تكونن كالطير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه ! وقيل: إنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله. وقيل: إنه رأى كفا بدت فيما بينهما مكتوبا عليها النهي عن ذلك، فلم ينته، فأرسل الله سبحانه جبريل عليه السلام، وقال: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فرآه عاضا على اصبعه. فكل هذا سوء ثناء على الأنبياء، مع أن ذلك ينافي التكليف، ويقتضي أن لا يستحق على الامتناع من القبيح مدحا ولا ثوابا. وهذا من أقبح القول فيه عليه السلام. (كذلك لنصرف عنه السوء) أي: كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء أي: الخيانة (والفحشاء) أي: ركوب الفاحشة. وقيل: السوء الإثم، والفحشاء الزنا (إنه من عبادنا المخلصين) أي: المصطفين المختارين للنبوة. وبكسر اللام المخلصين في العبادة والتوحيد أي: من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله، وأخلصوا أنفسهم له. وهذا يدل على تنزيه يوسف، وجلالة قدره عن ركوب القبيح، والعزم عليه. (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلآ أن يسجن أو عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن
[ 389 ]
عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29). القراءة: في الشواذ قراءة ابن يعمر، وابن أبي اسحاق، ونوح القارئ: (من قبل، ومن دبر) (1) بثلاث ضمات من غير تنوين. الحجة: قال ابن جني: ينبغي أن يكونا غايتين كقوله تعالى: (لله الأمر من قبل ومن بعد) كأنه يريد وقدت قميصه من دبره وإن كان قميصه قد من قبله. فلما حذف المضاف إليه اعني الهاء، وهي مرادة، صار المضاف غاية، بعد ما كان المضاف إليه، غاية له. اللغة: القد: شق الشئ طولا مثل قد الأديم، يقال قده يقده قدا فهو مقدود: إذا كان ذاهبا في الطول على استواء. وفي الحديث: (كانت ضربات علي بن أبي طالب عليه السلام، ابكارا، كان إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط). والقد، بكسر القاف: السير المقطوع طولا. والإلفاء: المصادفة. قال ذو الرمة: ومطعم الصيد هبال لبغيته ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب (2) أي: وجد أباه. والكيد: طلب الشئ بما يكرهه، كما طلبت المرأة يوسف بما يكرهه، ويأباه. والخطيئة: العدول عما تدعو إليه الحكمة إلى ما تزجر عنه. ويقال لصاحبه: خطأ يخطأ خطأ، فهو خاطئ، إذا وقع ذلك منه عن قصد، فإن وقع من غير قصد، قيل أخطأ المقصد، فهو مخطئ. فأصل الخطأ: العدول عن الغرض الحكمي بقصد، أو غير قصد، قال أمية: عبادك يخطأون، وأنت رب بكفيك المنايا، والحتوم الاعراب: إنما عطف قوله (عذاب اليم) على الفعل، لأن تقديره إلا السجن أو عذاب و (من) في قوله: قد من دبر، ومن قبل: لابتداء الغاية، لأن ابتداء القد كان منها. و (من) في قوله (من الكاذبين) للتبعيض، لأنه بعض الكاذبين، ولم (1) بالبناء على الضم، والقطع عن الإضافة. (2) الهبال: الكاسب المحتال. (*)
[ 390 ]
يقل وشهد شاهد أنه إن كان، لأنه ذهب مذهب القول في الحكاية، كما أن قوله (يوصيكم الله في أولادكم) كذلك. والتقدير يوصيكم الله أن المال (للذكر مثل حظ الأنثيين) وقوله (إن كان قميصه) قال أبو العباس المبرد، معناه ان يكن، وجاز ذلك في كان، لأنها أم الباب، كما جاز في التعجب: ما كان أحسن زيدا، ولم يجز ما أصبح أحسنه. وقال أبو بكر السراج: ان يكن بمعنى أن يصبح قد قميصه من دبر. وقوله: (فلما رأى) الرؤية ههنا تحتمل أمرين أحدهما: أن تكون بمعنى رؤية العين، فلا تكون رؤية العين رؤية للقد، ويكون قوله (قد من دبر) في موضع الحال، وإنما يكون رؤية للقميص والآخر: أن يكون بمعنى العلم، وتكون رؤية للقد. وإنما قال (من الخاطئين)، ولم يقل من الخاطئات، لتغليب المذكر على المؤنث. المعنى: (واستبقا الباب) يعني تبادرا الباب أي: طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز السبق إلى الباب. أما يوسف فإنه كان يقصد أن يهرب منها، ومن ركوب الفاحشة. وأما هي: فإنما كانت تطلب يوسف لتقضي حاجتها منه، وتقصد أن تغلق الباب، وتمنعه من الخروج وتراوده ثانيا عن نفسه (وقدت قميصه من دبر) أي: لحقت يوسف، فجذبت قميصه، وشقته طولا من خلفه، لأن يوسف كان هاربا، وهي تعدو من خلفه. وقيل: أن يوسف رأى الأبواب قد انفتحت، فعلم أن الصواب هو الخروج، فخرج هاربا. وقيل: بل أخذ بفتح الأبواب، وأدركته، فتعلقت بقميصه من خلفه، فشقته. (والفيا سيدها لدى الباب) أي: فلما خرجا وجدا زوجها عند الباب، وسماه سيدها، لأنه مالك أمرها (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب اليم) يعني ان المرأة سبقت بالكلام لتورك الذنب على يوسف، فقالت لزوجها: ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلا أن يسجن، أو أن يضرب بالسياط، ضربا وجيعا، عن ابن عباس. قالوا: ولو صدق حبها، لم تقل ذلك، ولآثرته على نفسها، ولكن حبها إياه كان شهوة (قال هي راودتني عن نفسي) لما ذكرت المرأة ذلك، لم يجد يوسف بدا من تنزيه نفسه بالصدق، ولو كفت عن الكذب عليه، لكف عليه السلام، عن الصدق عليها، فقال: هي التي طالبتني بالسوء الذي نسبتني إليه. (وشهد شاهد من أهلها) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: إنه صبي في
[ 391 ]
المهد. وقيل: كان الصبي ابن أخت زليخا، وهو ابن ثلاثة أشهر، وروي عن ابن عباس أيضا في رواية أخرى. وعن الحسن، وقتادة، وعكرمة: إنه شهد رجل حكيم من أهلها بتبرئة يوسف، واختاره الجبائي، قال: لو كان طفلا لكان قوله معجزا لا يحتاج معه إلى البيان. وقيل: كان الرجل ابن عم زليخا، وكان جالسا مع زوجها عند الباب، عن السدي (ان كان قميصه قد) أي: شق (من قبل فصدقت) المرأة (وهو من الكاذبين) فيما قال يعني يوسف، لأنه كان هو القاصد، وهي الدافعة (وإن كان قميصه قد من دبر) أي: من خلف (فكذبت) المرأة (وهو) أي: يوسف (من الصادقين) لأنه الهارب، وهي الطالبة. وهذا أمر ظاهر، واستدلال صحيح (فلما رأى قميصه قد من دبر) أي: فلما رأى زوجها قميص يوسف شق من خلف، عرف خيانة المرأة. ف (قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) وقيل: هو من قول الشاهد. وإنما وصف كيدهن بالعظم لأنها حين فاجأت زوجها عند الباب، لم يدخلها دهش، ولم تتحير في أمرها، ووركت الذنب على يوسف عليه السلام. ولأن قليل حيل النساء أسبق إلى قلوب الرجال، من كثير حيل الرجال (يوسف أعرض عن هذا) يعني: إن الشاهد قال ليوسف: يا يوسف امسك عن هذا الحديث أي: عن ذكرها، حتى لا يفشو في البلد، عن ابن عباس. وقيل: إنما قاله زوجها. وقيل: معناه لا تلتفت يا يوسف إلى هذا الحديث، ولا تذكره على سبيل طلب البراءة، فقد ظهرت براءتك، عن أبي مسلم والجبائي. ثم أقبل على زليخا، فقال: (واستغفري لذنبك) أي: سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك (إنك كنت من الخاطئين) أي من المذنبين. وقيل: إنه لم يكن غيورا، سلبه الله الغيرة لطفا منه بيوسف، حتى كفي شره، ولذلك قال ليوسف: (أعرض عن هذا) واقتصر على هذا القدر. وقيل: معناه استغفري الله من ذنبك، وتوبي إليه، فإن الذنب كان منك، لا من يوسف، فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادتهم الأصنام. (* وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه
[ 392 ]
وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32) قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34) ثم بدالهم من بعد ما رأوا الأيات ليسجننه حتى حين (35). القراءة: روي عن علي عليه السلام، وعن علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد عليهم السلام، وعن الحسن بخلاف، ويحيى بن يعمر، وقتادة بخلاف، ومجاهد بخلاف، وابن محيصن: (قد شعفها) بالعين. وروي عن أبي جعفر: (متكا) بغير همز مشدد التاء. والباقون: (متكأ) بالهمزة والتشديد. وروي في الشواذ قراءة مجاهد (متكا) خفيفة ساكنة التاء، وروي ذلك عن ابن عباس. وقرأ أبو عمر: (وحاشى الله) والباقون: (حاش لله). وروي عن ابن مسعود، وأبي كعب: (حاش الله). وعن الحسن: (حاش الإله). وفي رواية أخرى عنه (حاش لله) بسكون الشين. وقرأ يعقوب وحده: (السجن أحب إلي) بفتح السين. والباقون بكسرها. الحجة: قال الزجاج: معنى (شعفها) بالعين، ذهب بها كل مذهب، مشتق من شعفات الجبال أي: رؤوس الجبال، يقال فلان مشعوف بكذا أي: قد ذهب به الحب أقصى المذاهب. وقال ابن جني: معناه وصل حبه إلى قلبها، فكاد يحرقه لحدته. وأصله من البعير يهنأ بالقطران، فتصل حرارة ذلك إلى قلبه، قال امرؤ القيس: لتقتلني، وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي (1) (1) يقول: حرقت فؤادها بحبي كما أحرق الطالي البعير بالهناء أي: القطران، لأنها تجد للهناء لذة مع حرقة. (*)
[ 393 ]
وأما القراءة المشهورة (شغفها) بالغين فمعناه: إنه خرق شغاف قلبها، وهو غلافه، فوصل إلى قلبها. واما (المتكأ): فهو ما يتكأ عليه لطعام، أو شراب، أو حديث، وأصله موتكأ: مفتعل من وكات، مثل مؤتزن من الوزن. وأما من قرأ (متكا) فيجوز أن يكون مفتعلا من قوله: إذا شرب المرضة قال أوكى على ما في سقائك قد روينا (1) يقال: أو كيت السقا: إذا شددته. وأما (متكأ) فإنهم قالوا المتك الاترج، واحدته متكة. وقيل: هو الزماورد (2) وأما حجة أبي عمرو في قوله (حاشى لله) فقول الشاعر: حاشى أبي ثوبان إن به ضنا عن الملحاة، والشتم (3) وقال أبو علي: لا يخلو قولهم (حاش الله) من أن يكون الحرف الجار في الاستثناء كما ذكرناه في البيت، أو فاعلا من قولهم حاش يحاشي، ولا يجوز أن يكون حرف الجر، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله، ولأن الحرف لا يحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، فإذا بطل ذلك ثبت انها فاعل مأخوذ من الحشاء الذي هو الناحية. والمعنى: إنه صار في حشاء أي: في ناحية مما قذف به، وفاعله يوسف. والمعنى: بعد عن هذا الذي رمي به لله أي: لخوفه من الله، ومراقبته أمره. ومن حذف الألف: فكما حذف من لم يك، ولا أدر، وإذا أريد به حرف الجر يقال: حاشا وحاش وحشا ثلاث لغات، قال الشاعر: حشا رهط النبي فإن فيهم بحورا لا تقطعها الدلاء وأما من قرأ (حاش الله): فعلى أصل اللغة يكون حرف جر كما جاء في البيت (حاشى أبي ثوبان) وأما (حاش الإله) فمحذوف من حاشا تخفيفا، وهو كقولك حاش المعبود، ومنه قول الشاعر: (1) قائله ابن الأحمر يذم رجلا ويصفه بالبخل. والمرضة: اللبن قبل أن يدرك، أو اللبن الحامض الشديد الحموضة. (2) طعام من البيض واللحم. (3) لملحاة: الذم. (*)
[ 394 ]
لعن الإله وزوجها معها هند الهنود، طويلة الثعل (1) وأما (حاش الله): فضعيف لالتقاء الساكنين فيه، ولإسكان الشين بعد حذف الألف، ولا موجب لذلك. وأما من فتح السين من (السجن): فجعله مصدرا، ومعناه: ان أسجن أحب إلي. ومن كسر: فعلى اسم المكان. والمعنى: نزول السجن أحب إلي. اللغة: العزيز: المنيع بقدرته عن أن يضام في أمره، وسمي بذلك لأنه كان ملكا ممتنعا بملكه، واتساع مقدرته. وقال أبو داود: درة غاص عليها تاجر جلبت عند عزيز يوم طل والفتى: الغلام الشاب. والمرأة: فتاة. قال أبو مسلم، والزجاج: وتسمي العرب العبد فتى. والمكر: الفتل بالحيلة إلى ما يراد من الطلبة. وجارية ممكورة الساقين أي: مفتولة الساقين. وأعتدت: مأخوذة من العتاد، ومثله أعدت. والمتكأ: الوسادة، وهو النمرق الذي يتكأ عليه. وقيل: هو الاترج. وأنكر ذلك أبو عبيدة قال: ولا يمتنع أن يقال قد كان في ذلك المجلس فواكه واترج. فأما أن يعرف ذلك من هذا القول، فلا. والاكبار: الإعظام والاجلال. وقال قوم: معنى (أكبرنه) انهن حضن حين رأينه، وأنشدوا قول الشاعر: يأتي النساء على أطهارهن، ولا تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وأنكر ذلك أبو عبيدة، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، ولكنه يجوز أن يكن قد حضن من شدة إعظامهن إياه. والبيت مصنوع لا يعرفه العلماء بالشعر. والسجن: المنع عن التصرف بالحبس: سجن يسجن سجنا. والإعتصام: الإمتناع عن طلب المعصية. والإستعصام: طلب العصمة من الله تعالى. والصاغرين: من الصغار: صغر يصغر صغارا: وهو الذل والهوان. والصبا: رقة القلب، يقال: صبا يصبو صبا، فهو صاب قال: إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي (1) الثعل. الثدي. (*)
[ 395 ]
وقال: صبا صبوة بل لج وهو لجوج، وزالت له بالأنعمين حدوج (1) الاعراب: (وقال نسوة) إنما حذف فيه حرف التأنيث، لأنه تأنيث جمع. وتأنيث الجمع تأنيث لفظ يبطل تأنيث المعنى، لأنه لا يجتمع في اسم واحد تأنيثان، وكذلك يبطل تذكير المعنى في رجال. وإذا صار كذلك، جاز فيه الحمل على اللفظ، والحمل على المعنى. فيؤنث ويذكر. وقوله: (ما هذا بشرا) نصب بشرا على مذهب أهل الحجاز في إعمال ما عمل ليس في رفع الاسم، ونصب الخبر. فأما بنو تميم فلا يعملونها. قال: لشتان فا أنوي، وينوي بنو أبي جميعا، فما هذان مستويان تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى، وكل فتى والموت يلتقيان وروي عن الحسن أنه قرأ: (ما هذا بشر) أي: ليس هو بمملوك، وهو شاذ. وذلكن: كن للخطاب لا للضمير، فلا موضع له من الإعراب، والاسم (ذا) وهو في موضع رفع على الابتداء. و (الذي لمتنني فيه). موصول وصلة في موضع خبره. (وليكونا من الصاغرين) هذه النون الخفيفة التي يتلقى بها القسم، وإذا وقفت عليها وقفت بالألف، تقول: وليكونا، وهي بمنزلة التنوين الذي يوقف عليه. بالألف في نحو قولك رأيت رجلا. قال الأعشى: وصل على حين العشيات، والضحى، ولا تعبد الشيطان، والله فاعبدا أي: فاعبدن. فأبدل في الوقف من النون ألفا. (ثم بدا لهم) فاعله مصدر مضمر على تقدير بدا لهم بداء، وقد أظهره الشاعر في قوله: لعلك، والموعود حق لقاؤه، بدالك من تلك القلوص بداء ولا يجوز أن يكون (ليسجننه) في موضع الفاعل، لأن الجملة لا تكون فاعلا. المعنى: ثم ذكر سبحانه شياع هذه القصة، فقال: (وقال نسوة في المدينة) (1) الأنعمين: اسم موضع. والحدوج جمع الحدج - بالكسر -: من مراكب النساء يشبه المحفة. (*)
[ 396 ]
أي: جماعة من النساء في المصر الذي كان فيه الملك، وزوجته، ويوسف (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) أي: امرأة العزيز تدعو مملوكها إلى نفسها، ليفجر بها (قد شغفها حبا) أي: أحبته حبا دخل شغاف قلبها (إنا لنراها في ضلال مبين) أي: في خطأ بين، وذهاب عن طريق الرشد بدعائها مملوكها إلى الفجور بها. قال الكلبي: هن أربع نسوة: امرأة ساقي الملك، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن. وقال مقاتل: كن خمسا، وزاد امرأة الحاجب. (فلما سمعت بمكرهن) أي: لما سمعت المرأة بتعييرهن إياها، وقصدهن إشاعة أمرها، وسماه مكرا لأن قصدهن من هذا القول كان أن تريهن يوسف لما وصف لهن من حسنه، فخالف ظاهر الكلام باطنه، فسمي ذلك مكرا. وقيل: لأنها أظهرت لهن حبها إياه، واستكتمتهن ذلك، فأظهرنه فسمي ذلك مكرا (أرسلت اليهن) فاستضافتهن. قال وهب: اتخذت مأدبة، ودعت أربعين امرأة منهن (واعتدت لهن متكأ) أي: وأعدت لهن وسائد يتكين عليها، عن ابن عباس. والاتكاء: الميل إلى أحد الشقين. وقيل: أراد بقوله (متكأ) الطعام، من قول العرب اتكأنا عند فلان أي: أطعمنا عنده، وأصله: إن من دعي إلى طعام يعد له المتكأ، فيسمى الطعام متكأ على الإستعارة. وقال الضحاك: كان ذلك الطعام الزماورد. وقال عكرمة: هو كل ما يجز بالسكين، لأنه يؤكل في الغالب على متكأ. وقال سعيد بن جبير: إنه كل طعام وشراب على عمومه، وبه قال الحسن. وأما (المتك) فقد قيل فيه انه الاترج على ما تقدم بيانه. وقال السدي: بل هو المجلس، وكل شئ يجز بالسكين، يقال له متك. (وآتت كل واحدة منهن سكينا) أي: وأعطت كل واحدة من تلك النسوة سكينا لتقطع به الفواكه والاترج، على ما هو العادة بين الناس (وقالت أخرج عليهن) أي: وقالت امرأة الملك ليوسف عليه السلام، وكانت قد أجلسته غير مجلسهن، فأمرته بالخروج عليهن في هيأته إما للخدمة، وإما للسلام، أو ليرينه، ولم يكن يتهيأ له أن لا يخرج لأنه بمنزلة العبد لها، عن الزجاج. (فلما رأينه أكبرنه) أي: أعظمنه، وتحيرن في جماله إذ كان كالقمر ليلة البدر. (وقطعن أيديهن) بتلك السكاكين على جهة الخطأ بدل قطع الفواكه، فما أحسسن إلا بالدم، ولم يجدن ألم القطع لإشغال قلوبهن بيوسف عليه السلام، عن
[ 397 ]
مجاهد. والمعنى: جرحن أيديهن وهذا مستعمل في الكلام، تقول للرجل: قد قطعت يدي، تريد قد خدشتها. وقيل: إنهن أبن أيديهن حتى القينها، عن قتادة (وقلن حاش لله) وحاشى لله أي: صار يوسف في حشا أي: ناحية مما قذف به أي: لم يلابسه، والمعنى بعد يوسف عن هذا الذي رمى به الله أي: لخوفه ومراقبته أمر الله هذا قول أكثر المفسرين، قالوا: هذا تنزيه ليوسف عما رمته به امرأة العزيز. وقال آخرون: هذا تنزيه له من شبه البشر، لفرط جماله. ويدل على هذا سياق الآية (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) أي: رفع الله منزلته عن منزلة البشر، فنعوذ بالله أن نقول إنه بشر، ومعناه: إنه منزه أن يكون بشرا وليس صورته صورة البشر، ولا خلقته خلقة البشر، ولكنه ملك كريم لحسنه ولطافته. وروي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف يوسف، حين رآه في السماء الثانية: رأيت رجلا صورته صورة القمر ليلة البدر، قلت: يا جبريل ! من هذا ؟ قال: هذا أخوك يوسف. وقيل معناه ليس هذا إلا ملك كريم في عفته. قال الجبائي: وهذا يدل على أن الملك أفضل من بني آدم، لأنهن ذكرن من هو في نهاية الفضل، ولم ينكر الله تعالى ذلك عليهن. وهذا من ركيك الإستدلال، لأنه سبحانه إنما حكى عن النساء إعظامهن ليوسف حين رأين جماله وبعده عن السوء، فشبهنه بالملك، ولم يقصدن كثرة الثواب الذي هو حقيقة الفضل، وإنما لم ينكره سبحانه عليهن، لأنه علم أنهن لم يقصدن في كلامهن ما حمله عليه الجبائي. على أن الظاهر يقتضي أنهن نفين أن يكون يوسف من البشر، وقطعن على أنه ملك، وهذا كذب، ولم ينكره الله سبحانه عليهن لما علم من أنهن يقصدن بذلك تشبيه حاله بحال الملائكة. (قالت) امرأة العزيز للنسوة التي عذلنها علي محبتها ليوسف (فذلكن الذي لمتنني فيه) أي: هذا هو ذلك الذي لمتنني في أمره، وفي حبه، وشغفي به، جعلت إعظامهن إياه عذرا لها. والمعنى: هذا الذي أصابكن في رؤيته مرة واحدة ما أصابكن من ذهاب العقل، فكيف عذلتنني في حبي إياه، وأنا أنظر إليه آناء ليلي ونهاري ؟ ثم اعترفت ببراءة يوسف، وأقرت على نفسها فقالت: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) أي: امتنع عنه. وقيل: معناه امتنع بالله، وسأله العصمة من فعل القبيح. وفي هذا دلالة على أن يوسف لم يقع منه قبح. ثم توعدته بايقاع المكروه به
[ 398 ]
إن لم يطعها فيما تدعوه إليه، فقالت: (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) أي: وان لم يجبني إلى ما أدعوه إليه، ليحبس في السجن، وليكون من الأذلاء. فلما رأى يوسف إصرارها على ذلك وتهديدها له، اختار السجن على المعصية ف (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) معناه: يا رب ! إن السجن أحب إلي وأسهل علي مما يدعونني إليه من الفاحشة. وفي هذا دلالة على أن النسوة دعونه إلى مثل ما دعته إليه امرأة العزيز. وفي حديث أبي حمزة الثمالي: عن علي بن الحسين عليه السلام: إن النسوة لما خرجن من عندها، أرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبته، تسأله الزيارة. وقيل: إنهن قلن له: أطع مولاتك، واقض حاجتها، فإنها المظلومة، وأنت ظالم. وقيل: إنهن لما رأين يوسف، استأذن امرأة العزيز بأن تخلو كل واحدة منهن به، وتدعوه إلى ما أرادته منه إلى طاعتها. فلما خلون به، دعته كل واحدة منهن إلى نفسها، فلذلك قال: (مما يدعونني إليه). ويسأل، فيقال: كيف قال يوسف (السجن احب إلي مما يدعونني إليه) ولا يجوز أن يراد السجن الذي هو المكان، وان عني به السجن الذي هو المصدر فإن السجن معصية، كما ان ما دعونه إليه معصية، فلا يجوز أن يريده ؟ فالجواب: إنه لم يرد المحبة التي هي الإرادة، وإنما أراد أن ذلك أخف علي وأسهل. ووجه آخر: إن المعنى لو كان مما أريده لكان إرادتي له أشد. وقيل: ان معناه توطيني النفس على السجن، أحب إلي من توطيني النفس على الزنا، عن أبي علي الجبائي (وإلا تصرف عني كيدهن) بألطافك، لأن كيدهن قد وقع وحصل (أصب اليهن) أمل اليهن، أو إلى قولهن بهواي. والصبوة: لطافة الهوى (وأكن من الجاهلين) أي: المستحقين لصفة الذم بالجهل. وقيل: معناه أكن بمنزلة الجاهلين في فعلي. (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) أي: فأجاب له ربه فيما دعاه. فعصمه من مكرهن. فإن قيل: ما معنى سؤال يوسف اللطف من الله، وهو عالم بأن الله يفعله لا محالة ؟ فالجواب: إنه يجوز أن تتعلق المصلحة بالألطاف عند الدعاء المجدد ومتى قيل. كيف علم أنه لولا اللطف لركب الفاحشة، وإذا وجد اللطف امتنع ؟ قلنا: لما وجد في نفسه من الشهوة، وعلم أنه لولا لطف الله لارتكب القبيح، وعلم أن الله سبحانه يعصم أنبياءه بالألطاف، وأن من لا يكون له لطف، لا
[ 399 ]
يبعثه الله نبيا. قال الجبائي: في الآية دلالة على جواز الدعاء بما يعلم الله تعالى أنه يكون لأن يوسف كان عالما بأنه إن كان له لطف، فلا بد أن يكون الله يفعل ذلك به، ومع هذا سأله ذلك. ولا تدل الآية على ما قاله لما قلناه من أنه يجوز أن يكون سأله لتجويزه أن يكون له لطف عند الدعاء ولو لم يدع لم يكن ذلك لطفا، فما سأل إلا ما جوز أن لا يكون لو لم يدع. (إنه هو السميع العليم) أي: السميع لدعاء الداعي، العليم بإخلاصه في دعائه، وبما يصلحه من الإجابة، أو يفسده (ثم بدا لهم) أي: ظهر لهم (من بعد ما رأوا الآيات) وأنما لم يقل لهن مع تقدم ذكر النسوة، لأنه أراد به الملك. وقيل: أراد به زليخا وأعوانها، فغلب المذكر، وأراد بالآيات: العلامات الدالة على براءة يوسف، وهي: قد القميص من دبره، وجز الأيدي، عن قتادة، وغيره. وقيل: يريد بالآيات: العلامات الدالة على الأياس منه. وقوله (بدا) فاعله مضمر، وتقديره ثم بدا لهم بداء (ليسجننه حتى حين) ودل (ليسجننه) عليه، فإن السجن هو الذي بدا لهم. قال السدي: وذلك أن المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد قد فضحني في الناس من حيث انه يخبرهم اني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني. فحبسه بعد علمه ببراءته. وقيل ان الغرض من الحبس: أن يظهر للناس أن الذنب كان له، لأنه إنما يحبس المجرم. وقيل: كان الحبس قريبا منها، فأرادت أن يكون بقربها حتى إذا أشرفت عليه، رأته. وقوله (حتى حين) قيل: إلى سبع سنين، عن عكرمة. وقيل: إلى خمس سنين، عن الكلبي. وقيل: إلى وقت ينسى حديث المرأة معه، وينقطع فيه عن الناس خبره، عن الجبائي. (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الأخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36) قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالأخرة
[ 400 ]
هم كافرون (37) واتبعت ملة أآبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38). اللغة: قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى، فجائز أن يكون الفتيان حدثين، أو شيخين، وقال غيره: يقال للعبد فتى، وللأمة فتاة. وفي الحديث: لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولكن فتاي وفتاتي. والتأويل: الخبر عما حضر بما يؤول إليه أمره فيما غاب، ولذلك قال: (قبل أن يأتيكما) تأويل القرآن: ما يؤول إليه من المعنى أي: يرجع إليه. والتعليم: تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم بالمعنى، وقد يكون الإعلام بالمعنى في القلب. والإتباع: اقتفاء الأثر، وهو طلب اللحاق بالأول. الاعراب: هم الثانية، دخلت للتوكيد، لأنه لما دخل بينهما قوله بالآخرة، صارت الأولى كالملغاة، وصار الاعتماد على الثانية، كما قال: (وهم بالآخرة هم يوقنون) وكما قال: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون). المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف عليه السلام في الحبس، فقال: (ودخل معه السجن فتيان) والتقدير: فسجن يوسف، ودخل معه السجن فتيان أي: شابان حدثان. وقيل: انهما مملوكان لملك مصر الأكبر، واسمه وليد بن ريان، وكان أحدهما صاحب شرابه، والآخر صاحب طعامه، فنمى إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه، وظن أن الآخر ساعده على ذلك ومالأه عليه، عن قتادة، والسدي (قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا) هو من رؤيا المنام كان يوسف عليه السلام لما دخل السجن، قال لأهله: إني أعبر الرؤيا. فقال أحد العبدين لصاحبه: هلم فلنجربه. فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، عن ابن مسعود. وقيل: بل رؤياهما على صحة وحقيقة، ولكنهما كذبا في الإنكار، عن مجاهد، والجبائي. وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبا، والآخر صادقا، عن أبي مجلز، ورواه علي بن إبراهيم أيضا في تفسيره عنهم عليهم السلام. والمعنى: قال أحدهما، وهو الساقي: رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فجنيتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته إياها. وتقديره
[ 401 ]
أعصر عنب خمر أي: العنب الذي يكون عصيره خمرا، فحذف المضاف. قال الزجاج، وابن الأنباري: العرب تسمي الشئ باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى ولم يلتبس، يقولون: فلان يطبخ الآجر، ويطبخ الدبس. وإنما يطبخ اللبن والعصير. وقال قوم: إن بعض العرب يسمون العنب خمرا. حكى الأصمعي عن المعتمر بن سليمان، أنه لقي أعرابيا معه عنب، فقال له ما معك ؟ قال: خمر. وهو قول الضحاك. فيكون معناه. إني أعصر عنبا. وروي في قراءة عبد الله، وأبي جميعا: اني رأيتني أعصر عنبا. (وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) معناه: وقال صاحب الطعام: اني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة، وسباع الطير تنهش منه (نبئنا بتأويله) أي: أخبرنا بتعبيره وما يؤول إليه أمره (إنا نراك من المحسنين) أي: تؤثر الإحسان والأفعال الجميلة. قال الضحاك: كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع له، وإن احتاج جمع له، وإن مرض قام عليه، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم، وينصر الضعيف، ويعود العليل. قال: وقيل (من المحسنين) أي: ممن يحسن تأويل الرؤيا. قال: وهذا دليل على أن أمر الرؤيا صحيح، وانها لم تزل في الأمم السالفة. وفي الحديث: إن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وتأويله أن الأنبياء يخبرون بما سيكون. والرؤيا تدل على ما سيكون، فيكون المعنى في الآية: انا نعلمك، أو نظنك ممن يعرف تعبير الرؤيا، ومن ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وقال أبو مسلم: نراك من المحسنين الينا ان فسرت لنا الرؤيا، وهو قول ابن أبي إسحاق. ثم ذكر لهما يوسف عليه السلام ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه) في منامكما (إلا نبأتكما بتأويله) في اليقظة (قبل أن يأتيكما) التأويل، وذلك أنه كره أن يخبرهما بالتأويل لما على أحدهما فيه من البلاء، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، عن السدي، وابن إسحاق. وقيل: انه إنما قدم هذا ليعلما ما خصه الله تعالى به من النبوة، وليقبلا عنه، فقال: لا يأتيكما طعام من منزلكما إلا اخبرتكما بصفة ذلك الطعام وكيفيته، قبل أن يأتيكما كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) عن الحسن، والجبائي.
[ 402 ]
(ذلكما مما علمني ربي) كأنهما قالا له: كيف عرفت تأويل الرؤيا، ولست بكاهن، ولا عراف ؟ فأخبرهما أنه رسول الله، وأنه تعالى علمه ذلك، وتعليمه تعالى قد يكون بأن يفعل العلم في قلبه، وقد يكون بالوحي، وقد يكون بنصب الأدلة التي يدرك بها. العلم (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) معناه: إنه لا يستحق هذه الرتبة الخطيرة إلا المؤمنون المخلصون، واني تركت طريقة قوم لا يؤمنون، فلذلك خصني الله بهذه الكرامة (واتبعت ملة آبائي) أي: شريعة آبائي (إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ) أي: لا ينبغي لنا ونحن معدن النبوة، وأهل بيت الرسالة، أن ندين بغير التوحيد (ذلك) أي: التمسك بالتوحيد، والبراءة من الشرك. وقيل: النبوة والعلم (من فضل الله علينا) بأن خصنا بها، وعلى الناس أيضا بإرسالنا إليهم، واتباعهم إيانا، واهتدائهم بنا. (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) نعم الله تعالى. وقد كان يوسف عليه السلام فيما بينهم زمانا، ولم يحك الله سبحانه أنه دعا إلى الدين، وكانوا يعبدون الأصنام لأنه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول. فلما رآهم عارفين بإحسانه، مقبلين عليه، رجا منهم القبول منه، فدعاهم إلى التوحيد على ما أمر الله سبحانه له في قوله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة). وقد روي أن صاحبي السجن قالا له: لقد أحببناك حين رأيناك. فقال: لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد الا دخل علي من حبه بلاء: أحبتني عمتي فنسبت إلي السرقة، وأحبني أبي فألقيت في الجب. وأحبتني امرأة العزيز، فألقيت في السجن. (يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلآ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلآ إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (40) يا صاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان (41) وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك
[ 403 ]
فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (42). اللغة: الصاحب: الملازم لغيره على وجه الإختصاص، وهو خلاف ملازمة الاتصال ومنه اصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لملازمتهم له، وكونهم معه في حروبه، وصاحبا السجن: هما الملازمان له بالكون فيه. والقيم: المستقيم، وأصله من قام يقوم. والإستفتاء: طلب الفتيا. والبضع: القطعة من الدهر، وأصله من القطع. والبضعة: القطعة من اللحم. ومنه الحديث: فاطمة بضعة مني يؤذيني من آذاها. المعنى: (يا صاحبي السجن) هذا حكاية نداء يوسف للمستفتين له عن تأويل رؤياهما أي: يا ملازمي السجن (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) أي: أأملاك متباينون من حجر وخشب، لا تضر ولا تنفع، خير لمن عبدها، أم الله الواحد القهار الذي إليه الخير والشر، والنفع والضر ؟ وهذا ظاهره الاستفهام، والمراد به التقرير، وإلزام الحجة. والقاهر: هو القادر الذي لا يمتنع عليه شئ ما (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) ابتدأ بخطاب اثنين، ثم خاطب بلفظ الجمع، لأنه قصد جميع من هو في مثل حالهما. وقيل: انه خطاب لجميع من في الحبس، ومعناه: إن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وسميتموها بأسماء يعني الأرباب والآلهة، هي أسماء فارغة عن المعاني لا حقيقة لها، ما أنزل الله من حجة بعبادتها (ان الحكم إلا لله) أي: ما الحكم والأمر إلا لله، فلا يجوز العبادة، والخضوع، والتذلل، إلا لله. (أمر ألا تعبدوا إلا اياه) أي: وقد أمركم أن لا تعبدوا غيره (ذلك) أي: ذلك الذي بينت لكم من توحيده وعبادته، وترك عبادة غيره (الدين القيم) أي: الدين المستقيم الذي لا عوج فيه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) قال ابن عباس: ما للمطيعين من الثواب، وللعاصين من العقاب. وقيل: لا يعلمون صحة ما أقول لعدولهم عن النظر والاستدلال. ثم عبر عليه السلام رؤياهما فقال: (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) بدأ بما هو الأهم، وهو الدعاء إلى توحيد الله وعبادته، وإظهار معجزته. ثم بتعبير رؤيا الساقي، فروي أنه قال: أما العناقيد الثلاثة: فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن، ثم يخرجك الملك اليوم الرابع، وتعود إلى ما كنت
[ 404 ]
عليه، وأجرى على مالكه صفة الرب، لأنه عبده، فأضافه إليه كما يقال: رب الدار، ورب الضيعة (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) يريد بالآخر: صاحب الطعام. روي أنه قال: بئس ما رأيت. أما السلال الثلاث، فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن، ثم يخرجك الملك، فيصلبك، فتأكل الطير من رأسك. فقال عند ذلك: ما رأيت شيئا، وكنت ألعب ! ! فقال يوسف (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) أي: فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته، وما قلته لكما فإنه نازل بكما، وهو كائن لا محالة. وفي هذا دلالة على أنه كان يقول ذلك على جهة الإخبار عن الغيب، بما يوحى إليه، لا كما يعبر أحدنا الرؤيا على جهة التأويل (وقال) يوسف (للذي ظن أنه ناج منهما) معناه: للذي علم من طريق الوحي، أنه ناج أي متخلص كما في قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) هذا قول الأكثرين، واختيار الجبائي. وقال قتادة: للذي ظنه ناجيا، لأنه لا يحكم بصدقه فيما قصه من الرؤيا. والأول أصح. (أذكرني عند ربك) أي: اذكرني عند سيدك بأني محبوس ظلما (فأنساه الشيطان ذكر ربه) يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال، حتى استغاث بمخلوق، فالتمس من الناجي منهما أن يذكره عند سيده، وكان من حقه أن يتوكل في ذلك على الله سبحانه (فلبث في السجن بضع سنين) أي: سبع سنين، عن ابن عباس. وروي ذلك، عن علي بن الحسين عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. وقيل: معناه فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك، فلم يذكره حتى لبث في السجن، عن الحسن، ومحمد بن إسحاق، والجبائي، وأبي مسلم. وعلى هذا فتقديره: فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: عجبت من أخي يوسف عليه السلام كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق ! وروي أنه عليه السلام قال: لولا كلمته، ما لبث في السجن طول ما لبث ! يعني قوله (اذكرني عند ربك) ثم بكى الحسن، وقال: إنا إذا أنزل بنا أمر فزعنا إلى الناس. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرائيل عليه السلام فقال: يا يوسف ! من جعلك أحسن الناس ؟ قال: ربي. قال: فمن حببك إلى أبيك دون اخوانك ؟ قال: ربي. قال: فمن ساق اليك السيارة ؟ قال: ربي. قال: فمن صرف عنك الحجارة ؟ قال: ربي. قال: فمن أنقذك من الجب ؟ قال: ربي. قال: فمن
[ 405 ]
صرف عنك كيد النسوة ؟ قال: ربي. قال: فإن ربك يقول ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني، إلبث في السجن بما قلت بضع سنين. وعنه في رواية أخرى قال: فبكى يوسف عند ذلك حتى بكى لبكائه الحيطان، فتأذى ببكائه أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوما، ويسكت يوما. فكان في اليوم الذي يسكت أسوأ حالا. والقول في ذلك: إن الإستعانة بالعباد في دفع المضار، والتخلص من المكاره، جائز غير منكر، ولا قبيح، بل ربما يجب ذلك. وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يستعين فيما ينوبه بالمهاجرين والأنصار وغيرهم، ولو كان قبيحا لم يفعله. فلو صحت هذه الروايات فإنما عوتب يوسف عليه السلام، في ترك عادته الجميلة في الصبر، والتوكل على الله سبحانه، في كل أموره، دون غيره، وقتا ما ابتلاء وتشديدا. وإنما كان يكون قبيحا، لو ترك التوكل على الله سبحانه، واقتصر على غيره. وفي هذا ترغيب في الإعتصام بالله تعالى، والاستعانة به دون غيره عند نزول الشدائد، وان جاز أيضا أن يستعان بغيره. واختلف في البضع، فقال بعضهم: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس، عن أبي عبيده. وقيل: إلى السبع، عن قطرب. وقيل: إلى التسع، عن الأصمعي، ذكره الزجاج. وقول قطرب مروي عن مجاهد. وقول الأصمعي مروي عن قتادة. وقال ابن عباس: وهو ما دون العشرة، واكثر المفسرين على أن البضع في الآية سبع سنين. قال الكلبي: وهذه السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: علم جبرائيل عليه السلام يوسف في حبسه، فقال: قل في دبر كل صلاة فريضة (اللهم اجعل لي فرجا ومخرجا، وارزقني من حيث احتسب ومن حيث لا احتسب). وروى شعيب العقرقوفي عنه عليه السلام قال: لما انقضت المدة، وأذن له في دعاء الفرج، وضع خده على الأرض، ثم قال: اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك، فإني اتوجه إليك بوجوه آبائي الصالحين، إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ففرج الله عنه. قال: فقلت له: جعلت فداك أندعو نحن بهذا الدعاء ؟ فقال: ادعوا بمثله: اللهم إن كانت ذنوبي قد اخلقت عندك وجهي، فإني أتوجه إليك بوجه نبيك، نبي الرحمة، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة عليهم السلام.
[ 406 ]
(وقال الملك إني أرى في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون (43) قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (44) وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49). القراءة: قرأ حفص: (دأبا) بفتح الهمزة. والباقون: بسكونها. وقرأ (تعصرون) بالتاء أهل الكوفة غير عاصم. والباقون: بالياء. وفي الشواذ قراءة ابن عباس، وابن عمر بخلاف، والضحاك، وقتادة، وزيد بن علي عليه السلام: (وادكر بعد أمه) بالهاء. وقراءة الأشهب العقيلي: (بعد إمة) بكسر الهمزة. وقرأ جعفر بن محمد عليهما السلام: (وسبع سنابل) وقرأ أيضا (ما قربتم) وقرأ هو، والأعرج، وعيسى ابن عمر (وفيه يعصرون) بياء مضمومة، وصاد مفتوحة. الجحة: قال أبو علي: انتصب (دأبا) بما دل عليه (تزرعون)، وفي علاج ودؤوب، فكأنه قال تدءبون، فانتصب دأبا به لا بالمضمر، ولعل الفتح لغة فيه، فيكون كشمع وشمع، ونهر ونهر، و (يعصرون): يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون من العصر، الذي يراد به الضغط الذي يلحق ما فيه دهن، أو ماء، نحو الزيتون، والسمسم، والعنب، ليخرج ذلك منه، وهذا يمكن أن يكون تأويل الآية عليه، لأن من المتأولين من يحكي أنهم لم يعصروا أربع عشرة سنة، زيتا ولا عنبا، فيكون المعنى تعصرون للخصب الذي أتاكم كما كنتم تعصرون أيام الخصب من قبل
[ 407 ]
الجدب الذي دفعتم إليه، ويكون (يعصرون) من العصر الذي هو الإلتجاء إلى ما يقدر به من النجاة. قال ابن مقبل: وصاحبي صهوة مستوهل زعل (1) يحول بين حمار الوحش، والعصر أي: يحول بينه وبين الملجأ الذي يقدر به النجاة. وقال أبو زبيد الطائي: صاديا يستغيث غير مغاث، ولقد كان عصرة المنجود (2) قال أبو عبيدة: يعصرون: ينجون، وأنشد للبيد: فبات وأسرى القوم آخر ليلهم، وما كان وقافا بدار معصر فأما من قال (يعصرون) بالياء فإنه جعل الفاعلين الناس، لأن ذكرهم قد تقدم. ومن قرأ بالتاء: وجه الخطاب إلى المستفتين الذين قالوا افتنا. ويجوز أن يريدهم وغيرهم، إلا أنه غلب الخطاب على الغيبة، كما يغلب التذكير على التأنيث. وأما الامه: فهو النسيان، يقال أمه يأمه إذا نسي. أنشد أبو عبيدة: أمهت، وكنت لا أنسى حديثا، كذاك الدهر يؤذي بالعقول والأمة: النعمة، فيكون المراد بعد أن أنعم عليه بالنجاة. وأما (يعصرون) بضم الياء: فيجوز أن يكون من العصرة، والعصر للنجاة. ويجوز أن يكون من عصرت السحابة ماءها عليهم. وفي كتاب علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه السلام هذه الآية، فقال (يعصرون) بالياء وكسر الصاد، فقال: ويحك وأي شئ يعصرون ؟ أيعصرون الخمر ؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ! فيكف أقرأها ؟ قال: (عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) مضمومة الياء مفتوحة الصاد أي: يمطرون بعد سني المجاعة. ويدل عليه قوله: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). اللغة: الملك: القادر، الواسع المقدور، الذي إليه السياسة والتدبير. والرؤيا: ما يراه النائم ويرجع إلى الاعتقاد، ثم يكون على وجوه: منها ما يكون من (1) أي: فرس فزع نشيط. (2) أي: كان ملجأ المكروب. والصادي: العطشان. (*)
[ 408 ]
الله تعالى وملائكته، وهو الذي له تعبير وتأويل. ومنها ما يكون من الشيطان، ولا تأويل له. ومنها ما يكون من جهة النائم، واعتقاداته، أو يكون بقية اعتقاد كان اعتقده. والعجف: ذهاب السمن، والذكر أعجف، والأنثى عجفاء، وجمعها عجاف، ولا يجمع أفعل على فعال إلا هذا. والعبر والتعبير. تفسير الرؤيا، وهو من عبور النهر ونحوه. والاضغاث: الأحلام الملتبسة. والضغث: الحزمة من كل شئ. وقال الترمذي: الضغث مل ء اليد من الحشيش، ومنه: (وخذ بيدك ضغثا) أي: قبضة، والفعل منه أضغث. وقيل: الضغث: خلط قش المد (1)، وهو غير متشاكل، ولا متلائم، فشبهوا به تخليط المنام. والأحلام: جمع حلم، وهو الرؤيا في النوم، ويقال حلم يحلم حلما، واحتلم فهو حالم. والحلم: بكسر الحاء. ضد الطيش، وهو الإناءة. وكأن أصل حلم النوم من هذا، لأنه حال إناءة، وسكون. وتأويل الرؤيا: تفسير ما يؤول إليه معناه. وتأويل كل شئ: تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام. والإذكار: افتعال من الذكر، وأصله اذتكار، لكن التاء أبدل منها الدال، وأدغمت الذال في الدال، ويجوز اذكر بالذال أيضا، إلا أن الأجود الدال، وهو طلب الذكر، ونظيره الإستذكار والتذكر. والأمة: الجماعة تؤم أمرا، والأمة: المدة وهي الجملة من الحين. والصديق: الكثير التصديق للحق. وقيل: هو الكثير الصدق. وفعيل: بناء المبالغة والكثرة. والفتيا: الجواب عن حكم المعنى، وقد يكون الجواب عن نفس المعنى، فلا يكون فتيا. والزرع: إلقاء البذر في الأرض للنبات، ومنه المزارعة بالثلث، أو الربع، وتسمى المخابرة أيضا، وهي مأخوذة من فعل أهل خيبر. والدأب العادة، يقال: دأب يدأب دأبا، ويقال دأب في عمله يدأب دءوبا: اجتهد. وأدأبته أنا إدآبا. وذر ودع بمعنى، لم يجئ منهما لفظة الماضي استغني عن ذلك بترك، والشدة والصلابة والصعوبة نظائر. وقيل الشدة: تكون في سبعة أصناف: في العقد، والمد، والزمان، والغضب، والألم، والشراب، والبدن. والإحصان: مثل الإحراز، أحصنه إحصانا: جعله في حرز. والغوث: هو نفع يأتي على شدة حاجة ينفي المضرة، ومنه الغيث: المطر الذي يأتي في وقت الحاجة. قال الأزهري: غاث الله البلاد يغيثها، وقد غثيت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة. والغيث: الكلأ ينبت من ماء السماء، وجمعه غيوث. والغياث: أصله (1) كذا. (*)
[ 409 ]
الواو، ومنه الغوث. وغوث تغويثا: إذا قال واغوثاه من يغيثني، ويغاث: يحتمل أن يكون من الواو، ويحتمل أن يكون من الياء. الاعراب: (إن كنتم للرؤيا تعبرون) هذه اللام دخلت للتبيين. المعنى: ان كنتم تعبرون ثم بين باللام فقال للرؤيا، عن الزجاج. وهذه اللام تزاد في المفعول به إذا تقدم على الفعل، تقول: عبرت الرؤيا وللرؤيا عبرت. وقد جاء مثله في قوله (الذي هم لربهم يرهبون) وقد جاء فيما ليس بمقدم من المفعول نحو قوله: ردف لكم، وآخر لا ينصرف، لأنه صرف عن جهة صواحبها التي جاءت بالألف واللام، وهذه جاءت خاصة بغير ألف ولام، فكأنها عدلت عن وجهها، تقول هذه النسوة الوسط والكبر، ولا تقول وسط وكبر. وتقول: نسوة أخر، فلما خالفت أخواتها، ترك صرفها وموضعها في الآية الرابعة جر، تقديره: وفي آخر أضغاث أحلام تقديره هي أضغاث أحلام (يوسف). والمراد به: يا يوسف ! ويجوز حذف حرف النداء في المنادى المفرد العلم، تقول يا زيد أقبل، وزيد أقبل، قال: محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر وبالا ويروى تبالا أراد: يا محمد ! المعنى: ثم أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف من السجن، وهو أنه لما قرب الفرج رأى الملك رؤيا هالته، وأشكل تعبيرها على قومه، حتى عبرها يوسف، فقال سبحانه: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان) يعني: وقال ملك مصر، وهو الوليد بن ريان، والعزيز وزيره. وفيما رواه الأكثرون: إني أرى في منامي سبع بقرات سمان (يأكلهن سبع) أي: سبع بقرات أخر (عجاف) أي: مهازيل، فدخلت السمان في بطون المهازيل، حتى لم أر منهن شيئا (وسبع سنبلات خضر) أي: وأرى في منامي سبع سنبلات، قد انعقد حبها (وأخر) أي: وسبعا أخر (يابسات) قد احتصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها (يا أيها الملأ) أي: جمع الأشراف. وقيل: جمع السحرة والكهنة، وقص رؤياه عليهم، وقال: يا أيها الأشراف، أو الجماعة (افتوني في رؤياي) أي: عبروا ما رأيت في منامي، وبينوا لي الفتوى فيه، وهو حكم الحادثة. (إن كنتم للرؤيا تعبرون) معناه: إن كنتم عابرين للرؤيا. وقيل: إن اللام
[ 410 ]
تفيد معنى إلى أي: إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا (قالوا أضغاث أحلام) أي: هذه أباطيل أحلام عن الكلبي. وقيل: تخاليط أحلام، عن قتادة. والمعنى: هذا منامات كاذبة لا يصح تأويلها (وما نحن بتأويل الأحلام) التي هذه صفتها (بعالمين) وإنا نعلم تأويل ما يصح، وكان جهل الملأ بتأويل رؤيا الملك، سبب نجاة يوسف، لأن الساقي تذكر حديث يوسف، فجثا بين يديه، وقال: يا أيها الملك ! إني قصصت أنا وصاحب الطعام على رجل في السجن منامين، فخبر بتأويلهما، وصدق في جميع ما وصف، فإن أذنت مضيت إليه، وأتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا فذلك قوله (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) عن الكلبي. وقوله: (واذكر بعد أمة) معناه: تذكر شأن يوسف، وما وصاه به، بعد حين من الدهر، وزمان طويل، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. وههنا حذف يدل الكلام عليه، وهو: فأرسلون إلى يوسف، فأرسل فأتى يوسف في السجن، وقال له: (يوسف) أي: يا يوسف (أيها الصديق) أي: الكثير الصدق فيما تخبر به (أفتنا في سبع بقرات سمان) إلى قوله (يابسات) فإن الملك رأى هذه الرؤيا، واشتبه تأويلها (لعلي أرجع إلى الناس) يعني الملك، وأصحابه، والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه. (لعلهم يعلمون) فضلك وعلمك، فيخرجوك من السجن. وقيل: لعلهم يعرفون تأويل رؤيا الملك (قال) يوسف في جوابه معبرا ومعلما: أما البقرات السبع العجاف، والسنابل السبع اليابسات، فالسنون الجدبة. وأما السبع السمان، والسنابل السبع الخضر: فإنهن سبع سنين مخصبات، ذوات نعمة، وأنتم تزرعون فيها، فذلك قوله (تزرعون سبع سنين دأبا) أي: فازرعوا سبع سنين متوالية، عن ابن عباس، أي: زراعة متوالية في هذه السنين على عادتكم في الزراعة سائر السنين. وقيل: دأبا أي بجد واجتهاد في الزراعة. ويجوز أن يكون حالا فيكون معناه تزرعون دائبين (فما حصدتم) من الزرع (فذروه) اتركوه (في سنبله) لا تذروه، ولا تدوسوه (إلا قليلا مما تأكلون) وإنما أمرهم بذلك، ليكون أبقى وأبعد من الفساد، يعني: ان ما أردتم أكله فدوسوه، واتركوا الباقي في السنبل. وقيل: إنما أمرهم بذلك لأن السنبل لا يقع فيه سوس، ولا يهلك، وان بقي مدة من الزمان. وإذا صفي أسرع إليه الهلاك (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) أي: سبع سنين
[ 411 ]
مجدبات صعاب، تشد على الناس (يأكلن ما قدمتم لهن) معناه: تأكلن فيها ما قدمتم في السنين المخصبة لتلك السنين. وإنما أضاف الأكل إلى السنين، لأنه يقع فيها، كما قال الشاعر: نهارك يا مغرور سهو وغفلة، وليلك نوم، والردى لك لازم وسعيك فيها سوف تكره غبه (1) كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقيل: أراد بالأكل الإفناء والاهلاك، كما يقال أكل السير لحم الناقة أي: ذهب به. قال زيد بن أسلم: كان يوسف يصنع طعام اثنين، فيقربه إلى رجل، فيأكل نصفه، حتى كان ذات يوم قربه إليه فأكله كله، فقال: هذا أول يوم من السبع الشداد (إلا قليلا مما تحصنون) معناه الا شيئا قليلا مما تحرزون، وتدخرون (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس) معناه: ثم يأتي من بعد هذه السنين الشداد، عام فيه يمطر الناس من الغيث. وقيل: يغاثون من الغوث، والغياث أي: ينقذون وينجون من القحط (وفيه يعصرون) الثمار التي تعصر في الخصب، كالعنب والزيت والسمسم، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة ينجون من الجدب من العصرة والعصر. والاعتصار: الإلتجاء قال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري (2) وهذا القول من يوسف، إخبار بما لم يسألوه منه، ولم يكن في رؤيا الملك، بل هو مما أطلعه الله تعالى عليه من علم الغيب، ليكون من آيات نبوته عليه السلام. قال البلخي: وهذا التأويل من يوسف يدل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على ما عبرت أولا، لأنهم كانوا قالوا هي أضغاث أحلام، فلو كان ما قالوه صحيحا، لكان يوسف لا يتأولها. (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن (1) غب الأمر: عاقبته وآخره. (2) الشرق: دخول الماء الحلق حتى يغص به. (*)
[ 412 ]
يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الأن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين (52) * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53). القراءة: قرأ: (ما بال النسوة) بضم النون، الأعشى، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم. والباقون بكسر النون، وهما لغتان. وقد تقدم ذكر قراءة أبي عمر، و (حاشا لله) بالألف، ومر بيانه. اللغة: الخطب: الأمر الذي يعظم شأنه، فيخاطب الإنسان فيه صاحبه. يقال: هذا خطب جليل. قال الزجاج: حصحص الحق: اشتقاقه من الحصة أي: بانت حصة الحق، وجهته من حصة الباطل. وقال غيره: هو مكرر من قولهم: حص شعره: إذا استأصل قطعه، وأزاله عن الرأس، فيكون معناه: انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، ومثله كبوا وكبكبوا، وكف الدمع وكفكفه، فهو زيادة تضعيف دل عليه الاشتقاق قال: قد حصت البيضة رأسي فما أطعم يوما غير تهجاع (1) وحصحص البعير بثفناته في الأرض: إذا حرك حتى تستبين آثارها فيه، قال حميد: وحصحص في صم الحصا ثفناته، ورام القيام ساعة، ثم صمما والكيد: الإحتيال سرا لإيصال الضرر إلى الغير. الاعراب: (ذلك) مرفوع بالإبتداء، وان شئت على خبر الإبتداء، كأنه قال: أمري ذلك وموضع (ما رحم ربي) نصب على الاستثناء. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن اخراج يوسف من السجن، فقال: (وقال الملك (1) قائله قيس بن الأسلت. وفي رواية اللسان. (اطعم نوما غير نهجاع) والتهجاع: نوم الخفيف. (*)
[ 413 ]
ائتوني به) وفي الكلام حذف يدل ظاهره عليه، وهو: فلما رجع صاحب الشراب، وهو رسول الملك، إلى الملك، بجواب يوسف وتعبيره رؤياه، قال الملك: ائتوني به أي: بيوسف الذي عبر رؤياي. (فلما جاءه الرسول) أي. لما جاء يوسف رسول الملك، فقال له: أجب الملك. أبى يوسف أن يخرج مع الرسول، حتى تبين براءته مما قذف به و (قال) للرسول: (ارجع إلى ربك) أي: سيدك، وهو الملك (فسأله ما بال النسوة) أي: ما حالهن وما شأنهن ؟ والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف حال النسوة. (اللاتي قطعن أيديهن) ليعلم صحة براءتي، ولم يفرد امرأة العزيز بالذكر حسن عشرة منه، ورعاية أدب، لكونها زوجة الملك، أو زوجة خليفة الملك، فخلطها بالنسوة. وقيل: انه أرادهن دونها، لأنهن الشاهدات له عليها. ألا ترى أنها قالت: (الآن حصحص الحق). وهذا يدل على أن النسوة كن ادعين عليه نحو ما ادعته امرأة العزيز. قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حالة يقول: هذا الذي راود امرأتي. وقيل: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره، متهم بفاحشة، فاحب أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لقد عجبت من يوسف، وكرمه، وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني من السجن ! ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له، حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه، ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، وما ابتغيت العذر، إنه كان لحليما ذا أناة. (إن ربي بكيدهن عليم) أي: إن الله عالم بكيدهن، قادر على اظهار براءتي. وقال: إن سيدي الذي هو العزيز، عليم بكيدهن، استشهده فيما علم من حاله، عن أبي مسلم. والأول هو الوجه (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) معناه: إن الرسول رجع إلى الملك، وأخبره بما قاله يوسف عليه السلام. فأرسل إلى النسوة، ودعاهن وقال لهن: ما شأنكن، وما أمركن إذ طلبتن يوسف عن نفسه، ودعوتنه إلى أنفسكن (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) هذه كلمة تنزيه أي: نزهن يوسف مما اتهم به، فقلن: معاذ الله، وعياذا بالله من هذا الأمر، وما علمنا
[ 414 ]
عليه من سوء وخيانة، وما فعل شيئا مما نسب إليه، واعترفن ببراءته، وبأنه حبس مظلوما. (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق) أي: ظهر وتبين، وحصل على أمكن وجوهه، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وكأن معناه: انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه. (انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) في قوله: (هي راودتني عن نفسي) اعترفت بالكذب على نفسها فيما اتهم يوسف به. وإنما حملها على الصدق انقطاع طمعها منه، فجمع الله ليوسف في إظهار براءته ونزاهته، عما قذف به بين الشهادة والإقرار حتى لا يبقى موضع شك. (ذلك ليعلم) هذا من كلام يوسف أي: ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه في شأن النسوة، ليعلم الملك، أو العزيز (أني لم أخنه بالغيب) في زوجته أي: في حال غيبته عني، عن الحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبي مسلم. واتصل كلام يوسف بكلام امرأة العزيز، لظهور الدلالة على المعنى، ونظيره قوله تعالى: (وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) وقوله: (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) وهو من كلام الملأ. ثم قال فماذا تأمرون وهو حكاية عن قول فرعون. قال الفراء. وهذا من أغمض ما يأتي في الكلام أن يحكي عن واحد، ثم يعدل إلى شئ آخر، من قول آخر، لم يجر له ذكر. وقيل: بل هو من كلام امرأة العزيز أي: ذلك الإقرار ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بتوريك الذنب عليه، وإن خنته بحضرته، وعند مشاهدته، عن الجبائي. (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) أي: لا يهديهم في كيدهم، ومكرهم (وما أبرئ نفسي) هذا من كلام يوسف، عند أكثر المفسرين. وقيل: بل هو من كلام امرأة العزيز، عن الجبائي أي: ما أبرئ نفسي عن السوء والخيانة في أمر يوسف (إن النفس لأمارة بالسوء) أي كثيرة الأمر بالسوء، والشهوة قد تدعو الإنسان إلى المعصية. والألف واللام للجنس، فيكون المعنى: إن كل النفوس، كذلك. ويجوز أن يكون للعهد، فيكون المعنى: إن نفسي بهذه الصفة. (إلا ما رحم ربي) أي: إلا من رحمه الله تعالى، فعصمه بأن لطف له، فيكون (ما) بمعنى من كقوله (ما طاب لكم). ويجوز أن يكون معناه الا مدة ما عصم ربي. ومن قال إنه من كلام يوسف، قال: إنه أراد الدعاء والمنازعة والشهوة، ولم يرد العزم على المعصية أي:
[ 415 ]
لا أبرئ نفسي مما لا تعرى منه طباع البشر، وإنما امتنعت عن الفاحشة بحول الله ولطفه وهدايته، لا بنفسي. قال الحسن: إنما قال: (وما أبرئ نفسي) لأنه كره أن يكون قد زكى نفسه (إن ربى غفور) بعباده (رحيم) بهم. (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (54) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55) وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين (56) ولأجر الأخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون (57). القراءة: قرأ ابن كثير: (حيث نشاء) بالنون. والباقون: بالياء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالياء فيشاء مسند إلى الغائب، كما أن يتبوأ كذلك، ويقوي ذلك قوله: (وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء). فكما أن قوله (نشاء) وفق لفعل المتبوئين، كذلك قوله (حيث يشاء) وفق لقوله (يتبوأ). ومن قرأ بالنون فإنه على أحد وجهين: إما أن يكون. أسند المشيئة إليه، وهو ليوسف في المعنى، لأن مشيئته لما كانت بقوته وإقداره عليه، جاز أن ينسب إلى الله. وإن كانت ليوسف في المعنى، كما قال سبحانه: (وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى) فأضيف الرمي إلى الله لما كان بقوته، وإن كان الرمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر أن يكون الموضع المتبوأ موضع نسك وقرب. فالمكث فيه قربة إلى الله تعالى، فهو يشاؤه ويريده. فأما اللام في قوله: (مكنا ليوسف) وقوله: (إنا مكنا له في الأرض) فيجوز أن يكون على حد التي في قوله (ردف لكم وللرؤيا تعبرون) يدل على ذلك قوله (ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه). وقوله: (يتبوأ) في موضع نصب على الحال، تقديره: مكناه متبوءا حيث يشاء. وأما قوله (حيث يشاء) فيحتمل موضعه أمرين: أحدهما: أن يكون في موضع نصب بأنه ظرف. والآخر: أن يكون في موضع نصب بأنه مفعول به. ويدل على جواز هذا الوجه قول الشماخ: وحلاءها عن ذي الأراكة عامر أخو الحضر يرضى، حيث تكبو النواحز (1) (1) حلا الإبل عن الماء: طردها، أو حبسها عن الورود. والكبوة: السقطة للوجه. والنحاز: داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها، فتسعل سعالا شديدا.
[ 416 ]
اللغة: الإستخلاص: طلب خلوص الشئ من شائب الإشتراك، كأنه يريد أن يكون خالصا له. وفي حديث سلمان الفارسي (رض): إنه كاتبه أهله على أربعين أوقية خلاص أي: ما أخلصته النار من الذهب. وكذلك الخلاصة، والمكين: من المكانة، وأصله التمكن في الأمر، يقال: مكن مكانة فهو مكين: إذا كان له قدر وجاه يتمكن بهما مما يروم. والتبوء: اتخاذ منزل يرجع إليه، وأصله من باء يبوء: إذا رجع. المعنى: (وقال الملك ائتوني به) معناه: إن الملك لما تبين له أمانة يوسف، وبراءته من السوء، وعلمه أمر بإحضاره فقال: ائتوني به (أستخلصه لنفسي) أي: اجعله خالصا لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي، وأعمل على إشارته في مهمات أموري (فلما كلمه) ههنا حذف معناه. فلما جاء الرسول يوسف، ودعاه، خرج من السجن، ودخل على الملك، وكلمه وعرف فضله وأمانته وعقله، لأنه استدل بكلامه على عقله، وبعفته على أمانته (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) أي: إنك عندنا ذو مكانة، متمكن في المنزلة والقدر، نافذ القول والأمر، ظاهر الأمانة، مأمون ثقة. قال ابن عباس: يريد مكنتك من ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني، وائتمنتك فيه. قال الكلبي: إن رسول الملك جاءه فقال له: قم فإن الملك يدعوك، وألق ثياب السجن عنك، والبس ثيابا جددا. فأقبل يوسف، وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابه، وأتى الملك وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة. فلما رآه الملك شابا حدث السن، قال: يا غلام هذا تأويل رؤياي. ولم يعلمه السحرة، ولا الكهنة. قال: نعم. فأقعده قدامه، وقصق عليه رؤياه. وروي أن يوسف لما خرج من السجن، دعا لأهله وقال: اللهم اعطف عليهم بقلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار. فلذلك يكون أصحاب السجن أعرف الناس بالأخبار في كل بلدة. وكتب على باب السجن: هذا قبور الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. قال وهب: ولما وقف بباب الملك، قال: حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عز جاره، وجل ثناؤه، ولا إله غيره. ولما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره، وشر غيره. ولما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية، فقال له الملك: ما هذا اللسان ؟ قال: لسان عمي إسماعيل. ثم دعا له بالعبرانية، فقال له
[ 417 ]
الملك: ما هذا اللسان ؟ قال: لسان آبائي. قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما كلم يوسف بلسان، أجابه بذلك اللسان. فأعجب الملك ما رأى منه، فقال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها. فقال يوسف: نعم أيها الملك. رأيت سبع بقرات سمان شهب، غر حسان، كشف لك عنهن النيل، فطلعن عليك من شاطئه، تشخب أخلافهن لبنا، فبينا تنظر إليهن، ويعجبك حسنهن، إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا يبسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف، شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع، ولا أخلاف. ولهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب، وخراطيم كخراطيم السباع. فاختلطن بالسمان فافترستهن افتراس السبع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، وتمششن مخهن. فبينا أنت تنظر وتتعجب، إذا سبع سنابل خضر، وأخر سود في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء فبينا أنت تقول في نفسك: أنى هذا وهؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء ؟ إذ هبت ريح فذرت الأرفات من اليابسات السود على الثمرات الخضر، فاشتعلت فيهن النار، وأحرقتهن، وصرن سودا متغيرات. فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا، ثم انتبهت من نومك مذعورا. فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا، وإن كانت عجبا بأعجب مما سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وتبني الأهراء (1) والخزائن، فتجمع الطعام فيها بقصبه وسنبله، ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر، ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي، فيمتارون منك بحكمك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك. فقال الملك: ومن لي بهذا ؟ ومن يجمعه ويبيعه ويكفي الشغل فيه ؟ فعند ذلك (قال) يوسف (اجعلني على خزائن الأرض) الألف واللام فرب الأرض للعهد دون الجنس، يعني: إجعلني على خزائن أرضك، حافظا وواليا، واجعل تدبيرها إلي. (1) الأهراء جمع الهرى - بالضم -: بيت كبير يجمع فيه القمح ونحوه. (*)
[ 418 ]
ف (إني حفيظ) أي: حافظ لما استودعتني لحفظه، عن أن تجري فيه خيانة. (عليم) بمن يستحق منها شيئا، ومن لا يستحق، فأضعها مواضعها، عن قتادة، وابن إسحاق، والجبائي. وقيل: حفيظ عليم أي: كاتب حاسب، عن وهب. وقيل: حفيظ للتقدير في هذه السنين الجدبة، عليم بوقت الجوع، حين يقع، عن الكلبي. وقيل: حفيظ للحساب، عالم بالألسن، وذلك أن الناس يفدون من كل ناحية، ويتكلمون بلغات مختلفة، عن السدي. وفي هذا دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، فإنه عرف الملك حاله، ليقيمه في الأمور التي في إيالتها صلاح العباد والبلاد، ولم يدخل بذلك تحت قوله سبحانه (فلا تزكوا أنفسكم). قالوا: فقال الملك: ومن أحق به منك ؟ فولاه ذلك. وقيل: إن الملك الأكبر فوض إليه أمر مصر، ودخل بيته، وعزل قطفير، وجعل يوسف مكانه. وقيل: إن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة قطفير العزيز، فدخل بها يوسف، فوجدها عذراء. ولما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ وولدت له أفرائيم وميشا. واستوثق ليوسف ملك مصر. وقيل: إنه لم يتزوجها يوسف، وإنها لما رأته في موكبه، بكت وقالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا، والعبيد بالطاعة ملوكا. فضمها إليه، وكانت من عياله، حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها. وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: لما مات العزيز، وذلك في السنين الجدبة، افتقرت امرأة العزيز، واحتاجت حتى سألت الناس، فقالوا لها: ما يضرك لو قعدت للعزيز، وكان يوسف يسمى العزيز، وكل ملك كان لهم سموه بهذا الإسم. فقالت: أستحي منه. فلم يزالوا بها حتى قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه زليخا، وقالت: سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا، والعبيد بالطاعة ملوكا. فقال لها يوسف: أأنت تيك ؟ قالت: نعم. وكان اسمها زليخا. فقال لها: هل لك في ؟ قالت: دعني بعدما يئست. أتهزأ بي ! قال: لا. قالت: نعم. قال: فأمر بها فحولت إلى منزله، وكانت هرمة. فقال لها يوسف: ألست فعلت بي كذا وكذا ؟ قالت: يا نبي الله ! لا تلمني فإني بليت في بلاء لم يبل به أحد ! قال: وما هو ؟ قالت: بليت بحبك، ولم يخلق الله لك نظيرا في الدنيا،
[ 419 ]
وبليت بأنه لم تكن بمصر امرأه أجمل مني، ولا أكثر مالا مني، وبليت بزوج عنين. فقال لها يوسف: فما حاجتك ؟ قالت: تسأل الله أن يرد علي شبابي. فسأل الله فرد عليها فتزوجها وهي بكر. وروي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل إجعلني على خزائن الأرض لولاه من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة. قال ابن عباس: فأقام في بيت الملك سنة. فلما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة، دعاه الأمير، فتوجه ورداه بسيفه، وأمر بأن يوضع له سرير من ذهب، مكلل بالدر والياقوت، ويضرب عليه كلة من استبرق، ثم أمره أن يخرج متوجا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه. فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك. فعدل بين الناس، فأحبه الرجال والنساء، وذلك قوله عز اسمه (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه، أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض، يعني أرض مصر. (يتبوأ منها حيث يشاء) أي: يتصرف فيها حيث يشاء، وينزل منها حيث يشاء (نصيب برحمتنا من نشاء) أي: نخص بنعم الدين والدنيا من نشاء (ولا نضيع أجر المحسنين) أي: المطيعين. وقيل: الصابرين عن ابن عباس. وقيل: إنه دعا الملك إلى الإسلام فأسلم، عن مجاهد.، وغيره. قالوا: وأسلم أيضا كثير من الناس. فهذا في الدنيا (ولأجر الآخرة) أي: ثواب الآخرة (خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) لخلوصه عن الشوائب والأقذار. وفي هذه إشارة إلى أنه سبحانه يؤتي يوسف في الآخرة من الثواب والدرجات ما هو خير مما آتاه الله في الدنيا من الملك والنعمة. سؤال: قالوا كيف جاز ليوسف أن يطلب الولاية من قبل الكفرة الظلمة ؟ وجوابه: لأنه علم أنه يتمكن بذلك من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووضع الحقوق مواضعها. وقد جعل الله سبحانه جميع ذلك له من جهة كونه نبيا إماما. وكان يفعل ذلك من قبل الله تعالى. وإنما سأل الولاية ليتمكن من الأمور التي له أن يفعلها. وأيضا فإنه علم أنه سبب يتوصل به إلى الدعاء إلى الخير، وإلى رؤية والديه واخوته. وفي الآية دلالة على أن ذلك التمكين، والملك، والتدبير، كان بلطف الله سبحانه وفضله. وفيها دلالة أيضا على جواز تولي القضاء من جهة الباغي والظالم، إذا يتمكن بذلك من إقامة أحكام الدين.
[ 420 ]
وفي قوله (يتبوأ منها حيث يشاء) دلالة على أن تصرفه كان باختياره من غير رجوع إلى الملك. وأنه صار بحيث لا أمر عليه. وفي كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي ابن بنت الياس، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: وأقبل يوسف على جمع الطعام، فجمع في السبع السنين المخصبة، فكبسه في الخزائن. فلما مضت تلك السنون، وأقبلت المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطعام، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم، إلا صار في مملكة يوسف. وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جوهر، إلا صار في مملكته. وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي، حتى لم يبق بمصر وما حولها، دابة، ولا ماشية، إلا صارت في مملكته. وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى لم يبق بمصر عبد ولا أمة إلا صار في مملكته. وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار، حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار، إلا صار في مملكته. وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار، حتى لم يبق بمصر وما حولها، نهر ولا مزرعة، إلا صار في مملكته. وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق بمصر وما حولها، عبد ولا حر، إلا صار عبد يوسف. فملك أحرارهم، وعبيدهم، وأموالهم. وقال الناس: ما رأينا، ولا سمعنا بملك، أعطاه الله من الملك، ما أعطى هذا الملك، حكما وعلما وتدبيرا. ثم قال يوسف للملك: أيها الملك ! ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر وأهلها، أشر علينا برأيك، فإني لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم، ولكن الله تعالى أنجاهم على يدي. قال له الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إني أشهد الله وأشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر كلهم، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك، على أن لا تسير إلا بسيرتي، ولا تحكم إلا بحكمي. قال له الملك: إن ذلك لزيني وفخري أن لا أسير إلا بسيرتك، ولا أحكم إلا بحكمك، ولولاك ما قويت عليه، ولا اهتديت له، ولقد جعلت سلطانا عزيزا لا يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسوله، فأقم على ما وليتك، فإنك لدينا مكين أمين. وقيل: إن يوسف عليه السلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيام
[ 421 ]
المجدبة ! فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال عليه السلام: أخاف أن أشبع، فأنسى الجياع ! (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58) ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: (لفتيانه). والباقون: (لفتيته). الحجة: قال أبو علي: الفتية: جمع فتى في العدد القليل. والفتيان في الكثير. ومثل فتية إخوة وولدة في جمع أخ وولد. ونيرة وقيعة: في جمع نار، وقاع. ومثل فتيان: برقان وخربان في جمع برق وخرب. وجيران وتيجان في جمع جار وتاج. وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام الذي للكثير، وكذلك يقوم الكثير مقام القليل، حيث لا قلب ولا إعلال، وذلك نحو أرجل وأقدام وأرسان، وفي الكثير قولهم ثلاثة شسوع. فإذا فعل ذلك فيما لا إعلال فيه فأن يرفض فيما يؤدي إلى الإعلال والقلب، أولى. اللغة: جهاز البيت: متاعه. وجهزت فلانا: هيأت جهاز سفره، ومنه جهاز المرأة. والرحال: أراد به الأوعية، واحدها رحل، وجمعها القليل أرحل. قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل، وللمسكن رحل. وأصله الشئ المعد للرحيل، من وعاء المتاع، ومركب البعير، وحلس، ورسن. المعنى: ثم أخبر سبحانه أنه لما تمكن يوسف بمصر، وأصاب الناس ما أصابهم من القحط، وقصدوا مصر، نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس، فجمع يعقوب بنيه، وقال لهم: بلغني أنه يباع الطعام بمصر، وأن صاحبه رجل صالح، فاذهبوا إليه، فإنه سيحسن إليكم، إن شاء الله. فتجهزوا وساروا، حتى وردوا مصر،
[ 422 ]
فدخلوا على يوسف، فذلك قوله (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) أي: جاؤوا ليمتاروا من مصر، كما امتار غيرهم، ودخلوا عليه، وهم عشرة. وأمسك ابن يامين أخا يوسف لأمه، فعرفهم يوسف، وأنكروه. قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في الجب، وبين أن دخلوا عليه أربعين سنة، فلذلك أنكروه. ولأنهم رأوه ملكا جالسا على السرير، عليه ثياب الملوك، ولم يكن يخطر ببالهم أنه يصير إلى تلك الحالة. وكان يوسف ينتظر قدومهم عليه، فكان أثبت لهم. فلما نظر إليهم يوسف، وكلموه بالعبرانية، قال لهم: من أنتم ؟ وما أمركم ؟ فإني أنكر شأنكم ؟ وفي تفسير علي بن إبراهيم: فلما جهزهم وأعطاهم وأحسن إليهم في الكيل، قال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام، رعاة، أصابنا الجهد، فجئنا نمتار. فقال: لعلكم عيون جئتم تنظرون عورة بلادي ؟ فقالوا: لا والله ما نحن بجواسيس، وإنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، ولو تعلم بأبينا لكرمنا عليك، فإنه نبي الله، وابن أنبيائه، وإنه لمحزون ! قال: وما الذي أحزنه، فلعل حزنه إنما كان من قبل سفهكم وجهلكم ؟ قالوا: يا أيها الملك ! لسنا بسفهاء، ولا جهال، ولا أتاه الحزن من قبلنا، ولكنه كان له ابن، كان أصغرنا سنا، وإنه خرج يوما معنا إلى الصيد، فأكله الذئب، فلم يزل بعده حزينا كئيبا باكيا. فقال لهم يوسف: كلكم من أب وأم ؟ قالوا: أبونا واحد، وأمهاتنا شتى. قال: فما حمل أباكم على أن سرحكم كلكم، ألا حبس واحدا منكم يستأنس به ؟ قالوا: قد فعل، حبس منا واحدا، وهو أصغرنا سنا، لأنه أخو الذي هلك من أمه، فأبونا يتسلى به. قال: فمن يعلم أن الذي تقولونه حق ؟ قالوا: يا أيها الملك ! إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. فقال يوسف: فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، وأنا أرضى بذلك. قالوا: إن أبانا يحزن على فراقه، وسنراوده عنه. قال: فدعوا عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم. فاقترعوا بينهم، فأصابت القرعة شمعون. وقيل: إن يوسف اختار شمعون، لأنه كان أحسنهم رأيا فيه، فخلفوه عنده فذلك قوله: (ولما جهزهم بجهازهم) يعني حمل لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم. (قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) يعني ابن يامين (ألا ترون أني أوفي الكيل) أي: لا أبخس الناس شيئا، وأتم لهم كيلهم (وأنا خير المنزلين) أي: المضيفين،
[ 423 ]
مأخوذ من النزل: وهو الطعام. وقيل: خير المنزلين للأمور منازلها، فتدخل فيه الضيافة وغيرها. مأخوذ من المنزل: وهو الدار (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) أي: ليس لكم عندي طعام أكيله عليكم. والمراد بالكيل: المكيل (ولا تقربون) أي: ولا تقربوا داري وبلادي. خلط عليه السلام، الوعد بالوعيد (قالوا سنراود عنه أباه) أي: نطلبه ونسأله أن يرسله معنا. قال ابن عباس: معناه نستخدعه عنه حتى يخرجه معنا. (وإنا لفاعلون) ما أمرتنا به. قال: وكان يوسف أمر ترجمانا يعرف العبرانية أن يكلمهم، وكان لا يكلمهم بنفسه، ليشبه عليه، فإنهم لو عرفوه ربما كانوا يهيمون في الأرض حياء من أبيهم، فيتركون خدمته، وكان في معرفتهم إياه مفسدة. (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) أي: قال يوسف لعبيده وغلمانه الذين يكيلون الطعام، عن قتادة وغيره. وقيل: لأعوانه: اجعلوا ثمن طعامهم، وما كانوا جاؤوا به في أوعيتهم. وقيل: كانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: كانت الورق، عن قتادة. (لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم) أي: لعلهم يعرفون متاعهم إذا رجعوا إلى أهلهم (لعلهم يرجعون) بعد ذلك لطلب الميرة مرة أخرى. وإنما فعل ذلك ليعرفوا أن يوسف إنما فعل ذلك إكراما لهم، ليرجعوا إليه. وقيل: إنه خاف أن لا يكون عندهم من الورق ما يرجعون به مرة أخرى، عن الكلبي. وقيل: إنه رأى لؤما أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه، فرده عليهم من حيث لا يعلمون، تفضلا وكرما. وقيل: فعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على رد بضاعتهم إذا وجدوها في رحالهم، ولا يعرفون أن الملك أمر بذلك، فيرجعون ليردوا ذلك عليه. ومتى قيل: كيف لم يعرفهم يوسف نفسه، مع علمه بشدة حزن أبيه، وقلقه واحتراقه على ألم فراقه ؟ فالجواب: إنه لم يؤذن له في التعريف استتماما للمحنة عليه وعلى يعقوب. ولما علم الله تعالى من الحكمة والصلاح في تشديد البلية، تعريضا للمنزلة السنية. وقيل: إنما لم يعرفهم بنفسه، لأنهم لو عرفوه، ربما لم يرجعوا إليه، ولم يحملوا أخاه إليه. والأول هو الوجه الصحيح. (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63) قال هل ءامنكم عليه إلا كمآ أمنتكم
[ 424 ]
على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64) ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلآ أن يحاط بكم فلمآ ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66). القراءة: قرأ (يكتل) بالياء أهل الكوفة، غير عاصم. والباقون: بالنون. وقرأ (خير حافظا) بالألف، أهل الكوفة، غير أبي بكر. والباقون: (حفظا) بغير ألف. وفي الشواذ قراءة علقمة، ويحيى (ردت إلينا) بكسر الراء. الحجة: قال أبو علي: يدل على النون في نكتل قوله (ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير) ألا ترى أنهم إنما يميرون أهلهم بما يكتالون، فيكون نكتل مثل نمير. وأيضا فإذا قالوا نكتل جاز أن يكون أخوهم داخلا معهم، وإذا كان بالياء لم يدخلوهم فيه. وزعموا أن في قراءة عبد الله نكتل بالنون. وكان النون لقولهم منع منا الكيل لغيبة أخينا، فأرسله نكتل ما منعناه لغيبته. ووجه الياء أنه يكتل حمله، كما نكتال نحن أحمالنا. ووجه من قرأ (خير حفظا) أنه قد ثبت من قوله (ونحفظ أخانا) وقوله (وإنا له لحافظون) أنهم قد أضافوا إلى أنفسهم حفظا. فالمعنى على الحفظ الذي نسبوه الى أنفسهم، وإن كان منهم تفريط في حفظهم ليوسف كما أن قوله (أين شركائي) لم يثبت لله شريكا، وإنما المعنى على الشركاء الذين نسبتموهم إلي. فكذلك المعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى أنفسهم، وإن كان منهم تفريط فيه، فإذا كان كذلك، كان المعنى فالله خير حفظا من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم، وإن كان منكم فيه تفريط. وإضافة خير إلى حفظ محال، ولكن تقول حفظ الله خير من حفظكم. ومن قرأ (حافظا) فيكون خافظا منتصبا على التمييز، دون الحال، كما كان حفظا كذلك. ولا يستحيل الإضافة في فالله خير حافظ، وخير الحافظين، كما يستحيل في خير حفظا. فإن قلت: فهل كان ثم حافظ كما ثبت أنه كان حفظ لما
[ 425 ]
قدمته ؟ فالقول: إنه قد ثبت أنه كان ثم حافظ، لقوله (وإنا له لحافظون) ولقوله: (يحفظونه من أمر الله). فتقول حافظ الله خير من حافظكم، كما كان حفظ الله خير من حفظكم، لأن الله سبحانه حافظه، كما أن له حفظا، فحافظه خير من حافظكم، كما كان حفظه خيرا من حفظكم. وتقول هو أحفظ حافظ، كما تقول هو أرحم راحم، لأنه سبحانه من الحافظين كما كان من الراحمين. وأما قوله: (ردت) فإن فعل من المضاعف والمعتل العين، يجئ على ثلاثة أوجه عندهم لغة فاشية وأخرى تليها، وثالثها قليلة. فأقوى اللغات في المضاعف ضم أوله، كشد وعد، ورد. ثم يليه الإشمام: وهو بين ضم الأول وكسره. ثم قوله شد ورد بإخلاص الكسرة، وهو الأقل. وأقوى اللغات في المعتل العين كسر أوله، نحو: قيل، وبيع. ثم يليه الاشمام بين الضمة والكسرة، والثالثة: إخلاص الضمة نحو: قول وبوع، وأنشد لذي الرمة: دنا البين من مي فردت جمالها وهاج الهوى تقويضها واحتمالها (1) اللغة: يقال: كلت فلانا أي: أعطيته الشئ كيلا. واكتلت عليه: أخذت منه. والأمن: إطمئنان القلب إلى سلامة الأمر، يقال: أمنه يأمنه أمنا. والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد. ويقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، ومثله امترتهم امتيارا، قال: بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من يغيث (2) الاعراب: قال الزجاج: حفظا منصوب على التمييز، وحافظا: على الحال. ويجوز أن يكون (حافظا) على التمييز. وما في قوله (ما نبغي) إستفهام موضعه نصب. والمعنى: أي شئ تريد. ويكون المراد به الجحد. ويجوز أن يكون ما أيضا نفيا، كأنهم قالوا ما نبغ شيئا. وموضع (أن يحاط بكم) نصب. والمعنى: إلا الإحاطة بكم أي: تمتنوا من الإتيان به، إلا لهذا. وهذا يسمى مفعولا له. قال الزجاج: وإلا هذه بمعنى تحقيق الجزاء، تقول ما تأتينا إلا لأخذ الدراهم، وإلا أن تأخذ الدراهم. (1) تفويض الخيام: قلعها. (2) وفي اللسان (غواثك من يغيث). (*)
[ 426 ]
المعنى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل) قيل: إنهم لما دخلوا على يعقوب، وسلموا عليه سلاما ضعيفا، فقال لهم: يا بني ! ما لكم تسلمون سلاما ضعيفا، وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون ؟ فقالوا يا أبانا ! إنا جئناك من عند أعظم الناس ملكا، ولم ير الناس مثله حكما، وعلما، وخشوعا، وسكينة، ووقارا، ولئن كان لك شبيه، فإنه يشبهك، ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء. إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بابن يامين، برسالة منك إليه، ليخبره من حزنك، وما الذي أحزنك، وعن سرعة الشيب إليك، وذهاب بصرك. وقوله (منع منا الكيل) معناه: منع منا فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا، لقوله: (فلا كيل لكم عندي) (فأرسل معنا أخانا) ابن يامين (نكتل) أي: نأخذ الطعام بالكيل، إن أرسلته أكتلنا، وإلا فمنعنا الكيل. ومن قرأ (يكتل) بالياء: فالمعنى يأخذ أخونا ابن يامين وقر بعير، يكتال له. (وإنا له لحافظون) من أن يصيبه سوء ومكروه (قال) يعقوب (هل آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه من قبل) أي: لا آمنكم على ابن يامين في الذهاب به إلا كأمني على يوسف، ضمنتم لي حفظه، ثم ضيعتموه، أو أهلكتموه، أو غيبتموه عني. وإنما قرعهم بحديث يوسف، وإلا فقد كان يعلم أنهم في هذه الحال لا يفعلون ما لا يجوز (فالله خير حافظا) أي: حفظ الله خير من حفظكم (وهو أرحم الراحمين) يرحم ضعفي، وكبر سني، ويرده علي. وورد في الخبر: إن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي. (ولما فتحوا متاعهم) يعني: أوعية الطعام (وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي) أي: ما نطلب في منع أخينا عنه. وقيل: معناه ما نطلب بما أخبرناك عن ملك مصر الكذب. وقيل: معناه أي شئ نطلب وراء هذا، أوفى لنا الكيل، ورد علينا الثمن، عن قتادة. وأراد أن تطيب نفس يعقوب، فيبعث إبنه معهم. وتم الكلام ثم قالوا ابتداء (هذه بضاعتنا ردت إلينا) أي: فلا ينبغي أن نخاف على أخينا ممن قد أحسن إلينا هذا الإحسان. وقيل: المراد ما نريد منك دراهم تعطيناها نرجع بها إليه، بل تكفينا في الرجوع إليه بضاعتنا هذه، فإن الملك إذا فعلنا ما أمرنا به في أخينا، يفي بما وعدنا، وأرسله معنا (ونمير أهلنا) أي: جلب إليهم الطعام (ونحفظ أخانا) في السفر حتى نرده إليك. (ونزداد كيل بعير)
[ 427 ]
لأجله، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير (ذلك كيل يسير) أي: ذلك كيل سهل أي: يسهل على الذي يمضي إليه، عن الزجاج. والمعنى: إنه هين. على الملك لا يصعب عليه، ولا يظهر في ماله. وقيل: معناه إن الذي جئناك به كيل قليل، لا يقنعنا، فنحتاج أن نضيف إليه كيل بعير أخينا، عن الجبائي. وقيل: يسير على من يكتاله، لا مؤنة فيه، ولا مشقة، عن الحسن. وهذا كله تنبيه منهم على وجه الصواب في إرساله معهم. فلما رأى يعقوب عليه السلام رده البضاعة، وتحقق عنه إكرام الملك إياهم وعزم على إرسال ابن يامين معهم (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله) أي: تعطونني ما يوثق به من يمين، أو عهد من الله (لتأتنني به) أي: لتردنه إلي. قال ابن عباس: يعني حق تحلفوا لي بحق محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، وسيد المرسلين أي: لا تغدروا بأخيكم، ولتأتنني به. اللام فيه لجواب القسم. (إلا أن يحاط بكم) أي: إلا أن تهلكوا جميعا. عن مجاهد. وقيل: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك، عن قتادة. والمعنى: إلا أن يحال بينكم وبينه حتى لا تقدروا على الإتيان به، عن الزجاج. (فلما آتوه موثقهم) أي: أعطوه عهودهم، وحلفوا له بحق محمد ومنزلته من ربه، عن ابن عباس. (قال) يعقوب (الله على ما نقول وكيل) أي: شاهد حافظ إن أخلفتم إنتصف لي منكم. وفي هذا دلالة على وجوب التوكل على الله سبحانه في جميع المهمات، والتفويض إليه في كل الأمور. وفيها دلالة أيضا على أن يعقوب عليه السلام إنما أرسل ابن يامين معهم، لأنه علم أنهم لما كبروا ندموا على ما كان فرط منهم في أمر يوسف، ولم يصروا على ذلك، ولهذا وثق بهم. وإنما عيرهم بحديث يوسف حثا لهم على حفظ أخيهم. (وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه، لذو علم لما علمناه ولكن أكثر
[ 428 ]
الناس لا يعلمون (68). اللغة: الغنى: الكفاية في المال، لأنه اكتفى به، وربما مد لضرورة الشعر. والغناء بكسر الغين: المد من الصوت، يقال منه: غنى يغني غناء. والغناء بالفتح والمد: الكفاية. وغني عن كذا فهو غان، وغني القوم في دارهم: أقاموا. والمغاني: المنازل، لأنهم اكتفوا بها. والغانية: المرأة لأنها تكتفي بزوجها عن غيره، أو بجمالها عن التزين. المعنى: (و) لما تجهزوا للمسير (قال) يعقوب (يا بني لا تدخلوا) مصر (من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) خاف عليهم العين، لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة، وكمال، وهم إخوة أولاد رجل واحد، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، وأبي مسلم. وقيل: خاف عليهم حسد الناس إياهم، وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم، فيحبسهم أو يقتلهم خوفا على ملكه، عن الجبائي. وأنكر العين، وذكر أنه لم يثبت بحجة، وجوزه كثير من المحققين، ورووا فيه الخبر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن العين حق، والعين تستنزل الحالق. والحالق: المكان المرتفع من الجبل وغيره. فجعل عليه السلام العين كأنها تحط ذروة الجبل من قوة أخذها، وشدة بطشها. وورد في الخبر أنه، عليه وآله السلام، كان يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام، بأن يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. وروي أن إبراهيم عليه السلام عوذ إبنيه، وأن موسى عوذ إبني هارون بهذه العوذة. وروي أن بني جعفر بن أبي طالب، كانوا غلمانا بيضا، فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله ! إن العين إليهم سريعة، أفأسترقي لهم من العين ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم. وروي أن جبرائيل عليه السلام رقى رسول الله، وعلمه الرقية، وهي: (بسم الله أرقيك، من كل عين حاسد، الله يشفيك). وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: لو كان يسبق القدر لسبقته العين. ثم اختلفوا في وجه الإصابة بالعين: فروي عن عمرو بن بحر الجاحظ، أنه قال: لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشئ المستحسن، أجزاء لطيفة، فتتصل به، وتؤثر فيه، فيكون هذا المعنى خاصية في بعض الأعين، كالخواص في
[ 429 ]
الأشياء. وقد اعترض على ذلك بأنه لو كان كذلك لما اختص ذلك ببعض الأشياء دون بعض، ولأن الأجزاء تكون جواهر، والجواهر متماثلة، ولا يؤثر بعضها في بعض. وقال أبو هاشم: إنه فعل الله بالعادة لضرب من المصلحة، وهو قول القاضي. ورأيت في شرح هذا للشريف الأجل الرضي الموسوي، قدس الله روحه، كلاما أحببت إيراده في هذا الموضع قال: إن الله تعالى يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم، في تلك الأفعال التي يفعلها، فغير ممتنع أن يكون تغييره نعمة زيد، مصلحة لعمرو. وإذا كان يعلم من حال عمرو، أنه لو لم يسلب زيدا نعمته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعطفه، وإذا سلب نعمة زيد للعلة التي ذكرناها، عوضه فيها وأعطاه بدلا منها عاجلا أو آجلا، فيمكن أن يتأول قوله عليه السلام: العين حق، على هذا الوجه. على أنه قد روي عنه عليه السلام ما يدل على أن الشئ إذا عظم في صدور العباد، وضع الله قدره، وصغر أمره. وإذا كان الأمر على هذا، فلا ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه، واستحسانه له، وعظمه في صدره، وفخامته في عينه. كما روي أنه قال لما سبقت ناقته العضباء، وكانت إذا سوبق بها لم تسبق: ما رفع العباد من شئ إلا وضع الله منه. ويجوز أن يكون ما أمر به المستحسن للشئ عند رؤيته من تعويذه بالله، والصلاة على رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم، قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشئ المستحسن، فلا يغير عند ذلك، لأن الرائي لذلك قد أظهر الرجوع إلى الله تعالى، والإعاذة به، فكأنه غير راكن إلى الدنيا، ولا مغتر بها. إنتهى كلامه رضي الله عنه. (وما أغني عنكم من الله من شئ) أي وما أدفع من قضاء الله من شئ، إن كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين، أو غير ذلك (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) فهو القادر على أن يحفظكم من العين، أو من الحسد، ويردكم علي سالمين (وعليه فليتوكل المتوكلون) أي: وليفوضوا أمورهم إليه، وليثقوا به (ولما دخلوا) مصر (من حيث أمرهم أبوهم) أي: من أبواب متفرقة، كما أمرهم يعقوب. وقيل: كان لمصر أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها الأربعة، متفرقين. (ما كان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) أي: لم يكن دخولهم مصر كذلك يغني عنهم، أو يدفع عنهم شيئا، أراد الله تعالى إيقاعه بهم، من حسد أو إصابة عين، وهو عليه السلام كان عالما أنه لا ينفع حذر من قدر، ولكن
[ 430 ]
كان ما قاله لبنيه حاجة في قلبه، فقضى يعقوب تلك الحاجة أي: أزال به اضطراب قلبه، لأن لا يحال على العين مكروه يصيبهم. وقيل: معناه إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون، كما تصيبهم مجتمعين، عن الزجاج قال: وحاجة استثناء ليس من الأول بمعنى لكن حاجة. (وإنه لذو علم) أي: ذو يقين ومعرفة بالله (لما علمناه) أي: لأجل تعليمنا إياه، عن مجاهد. مدحه الله سبحانه بالعلم. والمعنى: إنه حصل له العلم بتعليمنا إياه. وقيل: وإنه لذو علم لما علمناه أي: يعلم ما علمناه فيعمل به، لأن من علم شيئا ولا يعمل به كان كمن لا يعلم. فعلى هذا يكون اللام في قوله (لما علمناه) كاللام في قوله (للرؤيا تعبرون). (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) مرتبة يعقوب في العلم، عن الجبائي. وقيل: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه، عن ابن عباس. (ولما دخلوا على يوسف ءاوا إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلآ أن يشآء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76). القراءة: في الشواذ قراءة أبي رجاء (صواع الملك) بفتح الصاد. وقراءة أبي عبد الله بن عوف (صوع) بضم الصاد بغير ألف. وقراءة يحيى بن يعمر (صوغ)
[ 431 ]
بفتح الصاد والغين معجمة. وقراءة أبي هريرة، ومجاهد بخلاف: (صاع الملك). والقراءة المشهورة (صواع الملك) وقراءة الحسن: (من وعاء أخيه) بضم الواو. وقراءة سعيد بن جبير (اعآء أخيه) بالهمزة. وقرأ يعقوب، وسهل، (يرفع ويشاء) بالياء والباقون بالنون. وقرأ أهل الكوفة (درجات) بالتنوين. والباقون بغير تنوين. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود (فوق كل ذي عالم عليم). الحجة: الصواع، والصاع، والصوع، والصوع، واحد: وهو مكيال. وأما الصوع فمصدر وضع موضع اسم المفعول أي: المصوع، وهو مثل الخلق والصيد، بمعنى المخلوق والمصيد. ومن قرأ (أعآء) فأصله وعاء أبدلت الواو المكسورة همزة، كما قالوا في وسادة أسادة، وفي وجاح للستر أجاح. ومن قرأ (وعاء) بالضم، فإنه يكون لغة. والهمزة فيه أقيس، كما قالوا أعد في وعدوا، وجوه في وجوه. ومن قرأ (درجات) بالتنوين، فإن من يكون في موضع نصب على معنى نرفع من نشاء درجات. ومن قرأها بغير تنوين فإن من يكون في موضع جر بالإضافة. وقال ابن جني: إن قراءة من قرأ (وفوق كل ذي عالم عليم): يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون من باب إضافة المسمى إلى الاسم أي: وفوق كل شخص يسمى عالما، أو يقال له عالم، عليم، مثل قول الكميت: إليكم ذوي آل النبي تطلعت نوازع من قلبي ظماء وألبب (1) أي: إليكم يا آل النبي أي يا أصحاب هذا الإسم الذي هو آل النبي، وعليه قول الأعشى: فكذبوها بما قالت، فصبحهم ذو آل حسان يزجي الموت، والشرعا (2) أي: صبحهم الجيش الذي يقال له آل حسان. والوجه الثاني: أن يكون عالم مصدرا كالباطل وغيره. والثالث: أن يكون على مذهب من اعتقد زيادة ذي، فكأنه قال: وفوق كل عالم عليم. (1) الظماء جمع ظمأن. وألبب جمع اللب بمعنى العقل. وفي اللسان في (لبب) (إليكم بنى آل النبي. ا. ه). (2) أزجى الشئ: ساقه. وفي بعض النسخ: (يرجى) بالمهملة. والشرع جمع الشرعة: الوتر ما دام مشدودا على القوس. وحبالة من العقب تجعل شركا يصاد به القطا. (*)
[ 432 ]
اللغة: يقال: آوى إلى منزله، يأوي أويا: إذا صار إليه. وأويته أنا إيواء. والإبتئاس: الإغتمام، واجتلاب البؤس والحزن. والسقاية: الإناء التي يسقى منها، وهو من السقي. وقيل: السقاية والصواع واحد. والأذان والتأذين واحد: وهو النداء يسمع بالأذن. ويقال: أذنته بالشئ أي: أعلمته وأذنته أكثرت إعلامه. والعير: القافلة من الحمير. وقيل: هو القافلة التي فيها الأجمال. والأصل للحمير، ثم كثر فسمي كل قافلة عيرا. وقيل: العير: الإبل السائرة المركوبة، والجمع عيران. والحمل، بالكسر: لما انفصل. وبالفتح لما اتصل، وجمعه أحمال وحمول. والزعيم، والكفيل والضمين نظائر. والزعيم، أيضا: القائم بأمر القوم، وهو الرئيس. قالت ليلى الأخيلية: حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما الاعراب: تالله معناه: والله، إلا أن التاء تختص باسم الله لا يجوز تالرحمن وتربي، وهو بدل من الواو، كما أبدل من الواو في تراث، وتجاه، وتخمة. قالوا: (جزاؤه من وجد في رحله) ذكر في إعرابه وجهان أحدهما: أن يكون جزاؤه) مبتدأ، و (من وجد في رحله) الخبر ويكون المعنى جزاء السرق الإنسان الموجود في رحله السرق، ويكون قوله (فهو جزاؤه) جملة أخرى ذكرت زيادة في الإبانة، كما يقال جزاء السارق القطع، فهو جزاؤه. وفهذا جزاؤه زيادة في البيان. وعلى هذا تكون (من) موصولة، ويكون تقديره استرقاق الذي وجد في رحله السرق، فحذف المضاف والآخر: أن يكون (جزاؤه) مبتدأ و (من وجد في رحله فهو جزاؤه)، جملة شرطية في موضع الخبر. والعائد على المبتدأ الأول من الجملة الأولى (جزاؤه) من قوله: (فهو جزاؤه) فكأنه قال: فهو هو أي فهو الجزاء. والإظهار ههنا أحسن، لئلا يقع في الكلام لبس. قال الزجاج: إن العرب إذا فخمت أمر الشئ جعلت العائدة إليه إعادة اللفظ بعينه، وأنشد: لا أرى الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وعلى هذا فيكون المعنى: قالوا جزاء السرق إن وجد في رحل رجل منا، فالموجود في رحله السرق جزاؤه استرقاق. وقال صاحب الكشف: تقديره جزاء المسروق من وجد في رحله أي: إنسان وجد الصاع في رحله. فمن نكرة، وهو
[ 433 ]
مبتدأ ثان. وقوله (وجد في رحله) صفة لمن. وقوله: (فهو جزاؤه) خبر لمن. والجملة خبر قوله (جزاؤه). والتقدير: جزاؤه إنسان وجد في رحله الصاع فهو هو إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر. قال: وليس في التنزيل من نكرة إلا في هذا الموضع. وموضع الكاف من (كذلك كدنا) نصب بأنه صفة مصدر محذوف. وموضع (أن يشاء الله) نصب لما سقطت الباء أفضى الفعل إليها فنصب، والتقدير: إلا بمشيئة الله. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن دخولهم عليه، فقال: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) أي: لما دخل أولاد يعقوب على يوسف، ضم إليه أخاه من أبيه وأمه ابن يامين، وأنزله معه، عن الحسن، وقتادة. وقيل: إنهم لما دخلوا عليه، قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فقال: أحسنتم. ثم أنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وقال: ليجلس كل بني أم على مائدة، فجلسوا فبقي ابن يامين قائما فردا، فقال له يوسف: مالك لا تجلس ؟ قال: إنك قلت ليجلس كل بني أم على مائدة، وليس لي فيهم ابن أم. فقال يوسف: أفما كان لك ابن أم ؟ قال: بلى. قال يوسف: فما فعل ؟ قال زعم هؤلاء أن الذئب أكله ! قال: فما بلغ من حزنك عليه ؟ قال: ولد لي أحد عشر إبنا، كلهم اشتققت له اسما من اسمه. فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء، وشممت الولد من بعده ! قال ابن يامين: إن لي أبا صالحا، وقد قال لي: تزوج لعل الله يخرج منك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له يوسف: تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوة يوسف: لقد فضل الله يوسف وأخاه حتى ان الملك قد أجلسه معه على مائدته، روي ذلك عن الصادق عليه السلام. (قال إني أنا أخوك) أي: أطلعه على أنه أخوه. وقيل: إنه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ولم يعترف له بالنسبة، ولم يطلعه على أنه أخوه، ولكنه أراد أن يطيب نفسه (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) أي: فلا تسكن، ولا تحزن لشئ سلف من إخوتك إليك، عن وهب، والشعبي (فلما جهزهم بجهازهم) أي: فلما أعطاهم ما جاؤوا لطلبه من الميرة، وكال لهم الطعام الذي جاؤوا لأجله، وجعل لكل منهم حمل بعير، ويسمى حمل التاجر جهازا (جعل السقاية في رحل أخيه) معناه: أمر حتى جعل الصاع في متاع أخيه، وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه، لوقوعه بأمره. وقيل: إن السقاية هي المشربة التي كان يشرب منها الملك، ثم جعل صاعا
[ 434 ]
في السنين الشداد القحاط، يكال به الطعام. وقيل: كان من ذهب، عن ابن زيد، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: كان من فضة وذهب، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: كان من فضة مرصعة بالجواهر عن عكرمة. ثم ارتحلوا وانطلقوا (ثم أذن مؤذن) أي: نادى مناد مسمعا معلما (أيتها العير) أي: القافلة، والتقدير: يا أهل العير ! وقيل: كانت القافلة من الحمير، عن مجاهد (إنكم لسارقون) قيل: إنما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف، من غير أمره، ولم يعلم بما أمر به يوسف من جعل الصاع في رحالهم، عن الجبائي. وقيل: إن يوسف أمر المنادي بأن ينادي به، ولم يرد به سرقة الصاع، وإنما عنى به: إنكم سرقتم يوسف عن أبيه، وألقيتموه في الجب، عن أبي مسلم. وقيل: إن الكلام يجوز أن يكون خارجا مخرج الإستفهام، كأنه قال: أئنكم لسارقون ؟ فأسقط همزة الإستفهام، كما في قول الشاعر: كذبتك عينك، أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا (1) ويؤيده ما روى هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما سرقوا، ولا كذب. ومتى قيل: كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يحزن والده وإخوته بهذ الصنيع، ويجعلهم متهمين بالسرقة ؟ فالجواب: إن الغرض فيه التسبب إلى احتباس أخيه عنده. ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى. وروي أنه أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به. وإذا كان إدخال هذا الحزن سببا مؤديا إلى إزالة غموم كثيرة عن الجميع، ولا شك أنه يتعلق به المصلحة، فقد ثبت جوازه. فأما التعريض للتهمة بالسرقة، فغير صحيح، لأن وجود السقاية في رحله، يحتمل أمورا كثيرة غير السرقة. فعلى هذا من حمله على السرقة مع علمه بأنهم أولاد الأنبياء، توجهت اللائمة عليه (قالوا) أي: قال أصحاب العير (وأقبلوا عليهم) أي: على أصحاب يوسف (ماذا تفقدون) أي: ما الذي فقدتموه من متاعكم (قالوا نفقد صواع الملك) أي: صاعه وسقايته (ولمن جاء به حمل بعير) أي: وقال المنادي: من جاء بالصاع فله حمل بعير من الطعام (وأنا به زعيم) أي: كفيل ضامن (قالوا) (1) قائله الأخطل. والواسط: بلد بالعراق. والغلس: ظلمة آخر الليل. والرباب كسحاب: اسم امرأة. (*)
[ 435 ]
أي: قال إخوة يوسف (تالله لقد علمتم) أيها القوم (ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) قط، وإنما أضافوا العلم إليهم بذلك، مع أنهم لم يعلموه، لأن معنى هذا القول أنكم قد ظهر لكم من حسن سيرتنا ومعاملتنا معكم مرة بعد أخرى، ما تعلمون به، أنه ليس من شأننا السرقة. وقيل: إنهم قالوا ذلك لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، مخافة أن يكون قد وضع ذلك بغير إذن يوسف أي: فإذا كنا تحرجنا عن هذا، فقد علمتم أنا لا نسرق، لأن من رد ما وجد، لا يكون سارقا، عن الكلبي. وقيل: إنهم لما دخلوا مصر، وجدوهم قد شدوا أفواه دوابهم، كي لا تتناول الحرث والزرع. وفي هذا دلالة على أن ما فعله إخوة يوسف به، إنما كان في حال الصغر، وعدم كمال العقل، لنفيهم عن أنفسهم الفساد الذي هو ضد الصلاح. (قالوا فما جزاؤه) أي: قال الذين نادوهم: فما جزاء السرق (إن كنتم كاذبين) في قولكم إنا لم نسرق، وظهرت السرقة ؟ وقيل: معناه فما جزاء من سرق (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) أي: قال إخوة يوسف جزاء السرق السارق، وهو الإنسان الذي وجد المسروق في رحله. وقد بينا تقديره فيما قبل ومعناه: إن السنة في بني إسرائيل، وعند الملك، كان استرقاق السارق، عن الحسن، والسدي، وابن إسحاق، والجبائي. وكان يسترق سنة. وقيل: كان حكم السارق في آل يعقوب أن يستخدم ويسترق على قدر سرقته. وفي دين الملك الضرب والضمان، عن الضحاك. وقيل: إن يوسف سألهم ما جزاء السارق عندكم ؟ فقالوا: أن يؤخذ بسرقته (كذلك نجزي الظالمين) أي: مثل ما ذكرنا من الجزاء نجزي السارقين يعني: إذا سرق واسترق. وقيل: إن ذلك جواب يوسف عليه السلام لقول إخوته: إن جزاء السارق استرقاقه. (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) أي: بدأ يوسف في التفتيش بأوعيتهم لإزالة التهمة (ثم استخرجها) يعني السقاية (من وعاء أخيه) وإنما بدأ بأوعيتهم، لأنه لو بدأ بوعاء أخيه. لعلموا أنه هو الذي جعلها فيه. وإنما قال: استخرجها لأنه أراد به السقاية، وحيث قال: (ولمن جاء به) أراد به الصاع. وقيل: إن الصاع يذكر ويؤنث، قالوا: فأقبلوا على ابن يامين، وقالوا له: فضحتنا، وسودت وجوهنا، متى أخذت هذا الصاع ؟ فقال: وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم (كذلك كدنا ليوسف) أي: مثل ذلك الكيد أمرنا يوسف ليكيد بما يتهيأ له
[ 436 ]
أن يحبس أخاه، ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه، أي: ألهمنا يوسف هذا الكيد والحيلة، فجازيناهم على كيدهم بيوسف أي: كما فعلوا في الابتداء، فعلنا بهم. وقيل: إن معنى كدنا صنعنا ليوسف، عن ابن عباس. وقيل: ألهمنا، عن الربيع. وقيل: دبرنا ليوسف بدلالة قوله (وفوق كل ذي علم عليم) على أنه سبحانه علم من صلاح هذا التدبير ما لم يعلمه غيره عن القتيبي (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) أي: ما كان يمكنه أن يأخذ أخاه في حكم الملك وقضائه، وأن يحبسه إذ لم يكن ذلك من حكم ملك مصر وأهله، عن قتادة. وقيل: في دين الملك: في سلطانه، عن ابن عباس. وقيل: في عادته في جزاء من سرق أن يستعبد. وقيل: إنه كان عادلا، ولولا هذه الحيلة لما كان يمكنه من أخذ أخيه إلا أن يشاء الله أن يجعل ليوسف عذرا فيما فعل. وقيل: إلا أن يشاء الله أن يأمره بذلك، لأنه كان لا يمكنه أن يقول: هذا أخي، وكان لا يمكنه حبسه من غير حيلة، لأنه كان يكون فعله ظلما، وكان من سنة آل يعقوب أن يسترق، وفي حكم الملك، وأهل مصر أن يضرب ويغرم، وحبسه يوسف على قولهم، والتزم حكمهم الذي جرى على لسانهم، مبالغة في نفي السرقة عن أنفسهم، وكان ذلك مراده. وقد شاء الله، لأنه بأمره، عن الحسن. وإنما سماه كيدا، لأنه لولا هذا السبب لم يتهيأ له أخذه. والكيد: ما يفعله فاعله ليوصل به إلى غيره ضررا من حيث لا يعلمه، أو لينال منه شيئا من غير أن يعلمه. (نرفع درجات من نشاء) بالعلم والنبوة، كما رفعنا درجة يوسف على إخوته. وقيل: بالتقوى، والتوفيق، والعصمة، والألطاف الجميلة (وفوق كل ذي علم عليم) يعني: إن كل عالم، فإن فوقه عالما أعلم منه، حتى ينتهي إلى الله تعالى العالم بجميع المعلومات لذاته، فيقف عليه، ولا يتعداه. وفي هذا دلالة على بطلان قول من يقول إن الله سبحانه عالم بعلم قديم، لأنه لو كان كذلك، لكان فوقه عليم على ما يقتضيه الظاهر. (* قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77) قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك
[ 437 ]
من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون (79) فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين (80). اللغة: اليأس: قطع الطمع من الأمر، يقال: يئس ييأس، وأيس يأيس لغة. واستفعل مثل استيأس، واستأيس. وروى أبو ربيعة، عن البزي، عن ابن كثير: استيأسوا منه، واستيأس الرسل، ويئس واستيأس بمعنى، مثل سخر واستسخر، وعجب واستعجب. والنجي: القوم يتناجون، الواحد والجمع فيه سواء، قال سبحانه: (وقربناه نجيا). وإنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به. والمناجاة: المسارة، وأصله من النجوة: وهو المرتفع من الأرض، فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية. والنجوى: يكون اسما ومصدرا، قال سبحانه: (وإذ هم نجوى) أي: يتناجون. وقال في المصدر: (إنما النجوى من الشيطان) وجمع النجي أنجية. قال: (إني إذا ما القوم كانوا أنجيه) (1) وبرح الرجل براحا: إذا تنحى عن موضعه. الاعراب: قوله (فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) قال الزجاج: هذا إضمار على شريطة التفسير، لأن قوله تعالى: (أنتم شر مكانا) بدل من (ها) في (أسرها) والمعنى فأسرها يوسف في نفسه. قوله: (أنتم شر مكانا) قال أبو علي: ان الإضمار على شريطة التفسير، يكون على ضربين: أحدهما: أن يفسر بفرد نحو نعم رجلا زيد. فقولك رجلا تفسير للرجل الذي هو فاعل نعم، وقد أضمر والآخر: أن يفسر بجملة، وأصل هذا يقع في الإبتداء كقوله (فإذا هي شاخصة ابصار الذين كفروا) و (قل هو الله أحد) المعنى القصة ابصار الذين كفروا شاخصة والأمر الله أحد. ثم تدخل عوامل المبتدأ عليه، نحو كان وأخواتها، وإن وأخواتها، فينتقل هذا الضمير من الإبتداء بها، كما ينتقل سائر المبتدآت كقوله (انه من يأت ربه مجرما)، (1) قائله سحيم بن وثيل اليربوعي، وبعده: (واضطرب القوم اضطراب الأرشية. هناك أوصيني ولا توصي بيه) وقد مر أيضا. قيل: إنما ضربه مثلا لنزول الأمر المهم. (*)
[ 438 ]
(فإنها لا تعمى الأبصار)، وقول الشاعر: (وليس منها شفاء الداء مبذول) والذي ذهب أبو اسحاق فيه إلى أنه مضمر على شريطة التفسير، ليس بمبتدأ، فيلزمه التفسير بالجملة، ألا ترى أنها فضلة مذكورة بعد فعل وفاعل وهو قوله اسر، فإذا كان مباينا لما أصله المبتدأ، لم يجز أن يفسر تفسيره. وأيضا فإن المضمر على شريطة التفسير، لا يكون الا متعلقا بالجملة التي يفسرها، ولا يكون منقطعا عنها، ولا متعلقا بجملة غيرها، وما ذكره أبو إسحاق فالتفسير فيه منفصل عن الجملة التي فيها الضمير الذي زعم أنه إضمار على شريطة التفسير، فخرج بذلك عما يكون عليه الإضمار قبل التفسير. فإن قلت: فعلى م تحمل الضمير في (أسرها) ؟ قلنا: يحتمل أن يكون إضمارا للإجابة كأنهم لما قالوا (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أسر يوسف إجابتهم في نفسه ولم يبدها لهم في الحال، وجاز إضمار ذلك، لأنه دل ما تقدم من مقالتهم عليه، وجاز أن يكون إضمارا للمقالة كأنه أسر يوسف مقالتهم، لأن القول والمقالة واحد. ويكون معنى المقالة المقول، كما أن الخلق عبارة عن المخلوق: أي أكنها في نفسه، وأوعاها ولم يطرحها، ارادة للتوبيخ عليها، والمجازاة بها. انتهى تلخيص كلام أبي علي. وقوله (شيخا) صفة الأب. والكبير صفة الشيخ. و (معاذ الله): منصوب على المصدر. والعرب تقول معاذ الله، ومعاذة الله، وعوذنا الله، وعوذة الله، وعياذ الله. ويقولون اللهم عائذا بك أي: ادعوك عائذا بك. وأن تأخذ في موضع نصب. والمعنى أعوذ بالله من أخذ أحد إلا من وجدنا متاعنا عنده. فلما سقطت من أفضى الفعل، فنصب، عن الزجاج. وقوله: (إنا إذا لظالمون) فيه معنى الجزاء أي: إن أخذنا غيره، فنحن ظالمون. و (نجيا): نصب على الحال. وما في قوله (ما فرطتم) لغو أي: ومن قبل فرطتم. ويجوز أن تكون مصدرية في موضع رفع بمعنى تفريطكم واقع من قبل، فيكون (ما فرطتم في يوسف) في موضع رفع بالابتداء و (من قبل) خبره. ويجوز أن يكون في موضع نصب عطفا على أن، فيكون المعنى: الم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا، وتفريطكم في يوسف. و (يحكم) عطف على (يأذن). ويجوز أن يكون بمعنى إلا أن أي: لن أبرح الأرض إلا أن يحكم الله لي. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن اخوة يوسف انهم (قالوا) ليوسف (إن يسرق)
[ 439 ]
ابن يامين (فقد سرق أخ له) من أمه (من قبل) فليست سرقته بأمر بديع، فإنه اقتدى بأخيه يوسف. واختلف فيما وصفوه به من السرقة على أقوال فقيل: ان عمة يوسف كانت تحضنه بعد وفاة أمه، وتحبه حبا شديدا. فلما ترعرع أراد يعقوب أن يسترده منها، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر. فاحتالت وجاءت بالمنطقة، وشدتها على وسط يوسف، وادعت أنه سرقها. وكان من سنتهم استرقاق السارق، فحبسته بذلك السبب عندها، عن ابن عباس، والضحاك، والجبائي، وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام. وقيل: إنه سرق صنما لجده من قبل أمه، فكسره وألقاه على الطريق، عن سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد. وقيل: إنه سرق دجاجة كانت في بيت يعقوب، أو بيضة، فأعطاها سائلا، فعيروه بها، عن سفيان بن عيينة، ومجاهد (فأسرها يوسف في نفسه) أي: فأخفى يوسف تلك الكلمة التي قالوها (ولم يبدها لهم) أي: لم يظهرها (قال أنتم شر مكانا) في السرق لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم (والله أعلم بما تصفون) أي: والله أعلم أسرق أخ له، أم لا، عن الزجاج. ويكون المعنى أنتم أسوأ حالا من يوسف، فإنه لم يكن له صنيع في المنطقة، وكان يتصدق بإذن أبيه، ولم تكونوا براء مما عاملتموه به. وقيل: معناه أنتم شر صنيعا بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم، فأنتم شر مكانا عند الله منه أي: أسر هذه المقالة في نفسه، ثم جهر بقوله (والله أعلم بما تصفون) قال الحسن: لم يكونوا انبياء في ذلك الوقت، وإنما أعطوا النبوة بعد ذلك. والصحيح عندنا: إنهم لم يكونوا أنبياء لأن النبي عندنا لا يجوز أن يقع منه فعل القبيح أصلا. وقال البلخي: إنهم كذبوا في هذا القول، ولم يصح أنهم كانوا أنبياء. وجوز أن يكون الأسباط غيرهم، أو أن يكونوا من أولادهم (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه) أي: بدلا عنه إنما قالوا هذا لما علموا أنه استحقه، فسألوه أن يأخذ عنه بدلا شفقة على والدهم، ورققوا في القول على وجه الإسترحام، ومعناه: كبيرا في السن. وقيل: كبيرا في القدر لا يحبس ابن مثله. (إنا نراك من المحسنين) إلى الناس. وقيل: من المحسنين إلينا في الكيل، ورد البضاعة، وفي الضيافة، ونحن نأمل هذا منك لإحسانك الينا. وقيل: إن فعلت هذا فقد أحسنت إلينا، فأجابهم يوسف بأن (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا
[ 440 ]
متاعنا عنده) ولم يقل من سرق تحرزا من الكذب (إنا إذا لظالمون) أي: لو فعلنا ذلك لكنا ظالمين. وفي هذا دلالة على أن أخذ البرئ بالمجرم ظلم، ومن فعله كان ظالما، والله يتعالى ويجل عن ذلك علوا كبيرا (فلما استيأسوا منه) أي: فلما يئس إخوة يوسف من يوسف، أن يجيبهم إلى ما سألوه، من تخلية سبيل ابن يامين معهم (خلصوا نجيا) أي: انفردوا عن الناس من غير أن يكون معهم من ليس منهم، يتناجون فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم، ويتدبرون في أنهم يرجعون أم يقيمون. وتلخيصه اعتزلوا عن الناس متناجين. وهذا من ألفاظ القرآن التي هي في الغاية القصوى من الفصاحة، والإيجاز في اللفظ، مع كثرة المعنى. (قال كبيرهم) وهو روبين، وكان أسنهم، وهو ابن خالة يوسف، وهو الذي نهى اخوته عن قتله، عن قتادة، والسدي، والضحاك، وكعب. وقيل: شمعون، وهو كبيرهم في العقل والعلم، لا في السن، وكان رئيسهم، عن مجاهد. وقيل: يهوذا، وكان أعقلهم، عن وهب الكلبي. وقيل: لاوي عن محمد بن اسحاق، وعن علي بن ابراهيم بن هاشم (ألم تعلموا أن أبكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) أراد به الوثيقة التي طلبها منهم يعقوب حين قال: (لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به) فذكرهم ذلك. (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) أي: قصرتم في أمره، وكنتم قد عاهدتم أباكم أن تردوه إليه سالما، فنقضتم العهد. (فلن أبرح الأرض) أي: لا أزال بهذه الأرض، ولا أزول عنها، وهي أرض مصر (حتى يأذن لي أبي) في البراح والرجوع إليه (أو يحكم الله لي) بالخروج، وترك أخي هاهنا. وقيل: بالموت. وقيل: بما يكون عذرا لنا عند أبينا عن أبي مسلم. وقيل: بالسيف حتى أحارب من حبس أخي، عن الجبائي (وهو خير الحاكمين) لا يحكم إلا بالحق. قالوا: إنه قال لهم: أنا أكون هاهنا، واحملوا أنتم الطعام إليهم. فأخبروهم بالواقعة. (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم
[ 441 ]
(83) وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84) قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين (85) قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86) يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه، لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون (87). القراءة: في الشواذ قراءة ابن عباس (سرق) بضم السين وتشديد الراء وكسرها. وقراءة الحسن، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز (من روح الله) بضم الراء. الحجة: معنى (سرق) بضم السين نسب إلى السرقة، فيكون من باب فسقه وفجره وشجعه، إذا نسبه إلى هذه الخلال. وأما (روح الله) فيمكن أن يكون من الروح الذي هو من عند الله، وبلطفه، وهدايته، ونعمته. اللغة: القرية: الأرض الجامعة لمساكن كثيرة، وأصله من القري: وهو الجمع. يقال قريت الماء في الحوض، ونظيره البلدة والمدينة. والعير: قد مضى ذكر معناه. والكظم: اجتراع الحزن، وهو أن يمسكه في قلبه، ولا يبثه إلى غيره. ويقال: ما زلت أفعل كذا، وما فتئت أفعله، أفتأ فتأ. قال أوس بن حجر، يصف حربا: فما فتأت خيل تثوب وتدعي ويلحق منها لا حق وتقطع (1) والحرض: المشرف على الهلاك، يقال رجل حرض وحارض أي: فاسد في جسمه وعقله. ومنه حرضته على كذا: أمرته به، لأنه إذا خالف الأمر، فكأنه هلك. وأحرضه أي: أفسده قال العرجي: إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت، وحتى شفني السقم (2) (1) ثاب ثوبا. رجع بعد ذهابه. وثاب الناس: اجتمعوا. (2) لج به الهم ونحوه: ألح عليه. وبليت: من البلى. وشفه المرض والهم: أو هنه. (*)
[ 442 ]
والحرض: لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر. والشكوى: صفة ما عنده من البلوى، يقال: شكوته إلى فلان شكوى وشكاية وشكواء، فأشكاني أي: أعتبني من شكواي. وأشكاني أيضا: أخرجني إلى الشكوى. والبث: الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي: يفرقه. وكل شئ فرقته فقد بثثته، ومنه قوله: (وبث فيها من كل دابة). والتحسس: طلب الشئ بالحاسة. والتجسس نظيره. وفي الحديث: لا تجسسوا. وقيل: إن معناها واحد، ونسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظتين، كقول الشاعر: (متى أدن منه ينأ عني ويبعد). وقيل: التجسس بالجيم: البحث عن عورات الناس. وبالحاء: الاستماع لحديث قوم. وسئل ابن عباس عن الفرق بينهما قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر. والتحسس في الخير، والتجسس في الشر. والروح: الراحة والروح: الرحمة. وأصل الباب من الريح التي تأتي بالرحمة. الاعراب: (اسأل القرية) أي: أهل القرية، وأهل العير، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. (يا أسفى) معناه: يا حسرتى، والأصل يا أسفي. إلا أن ياء الإضافة، يجوز أن يبدل ألفا لخفة الألف، والفتحة. ويجوز أن يكون ألف الندبة، ويكون معناه لبيان أن الحال حال حزن فكأنه قال يا اسف هذا من أوانك. وقوله (على يوسف) من صلة المصدر. (تفتأ) معناه: لا تفتأ، حذف حرف النفي لعلم السامع به، كما في قول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو ضربوا رأسي لديك وأوصالي (1) وإنما جاز ذلك، لأنه لا يجوز في القسم تالله تفعل حتى تقول تالله لتفعلن، أو تقول لا تفعل. المعنى: ثم أخبر سبحانه أنه قال كبيرهم في السن، أو في العلم (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) في الظاهر (وما شهدنا) عندك بهذا (إلا بما (1) يمين الله: يجوز فيه الرفع والنصب. أما الرفع فعلى أنه مبتدأ حذف خبره وجوبا أي: يمين الله قسمي، أو على يمين الله وأما النصب فعلى أحد وجهين: الأول: إن الأصل بيمين الله، فحذف حرف القسم. والثاني: إنه منصوب على المفعولية المطلقة، نحو سبحان الله. والشاهد في (أبرح) فإن معناه لا أبرح. (*)
[ 443 ]
علمنا) أي: بما شهدنا من أن الصاع استخرج من رحله في الظاهر، وبين بهذا انهم لم يكونوا قاطعين على أنه سرق. وقيل: معناه ما شهدنا عند يوسف أن السارق يسترق إلا بما علمنا أن الحكم ذلك، ولم نعلم ابنك سرق أم لا، إلا أنه وجد الصاع عنده، فحكم بأنه السارق في الظاهر، وإنما قالوا ذلك حين قال يعقوب عليه السلام لهم: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، ويسترق، وإنما علم ذلك بقولكم. (وما كنا للغيب حافظين) أي: إنا لم نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث ابن يامين معنا، ولم ندر أن أمره يؤول إلى هذا. وإنما قصدنا به الخير، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به، عن مجاهد، وقتادة، والحسن. وقال علي بن عيسى: علم الغيب هو علم من لو شاهد الشئ لشاهده بنفسه، لا بأمر يستفيده. والعالم بهذا المعنى هو الله وحده، جل اسمه. وقيل: معناه ما كنا لسر هذا الأمر حافظين، وبه عالمين، فلا ندري أنه سرق، أم كذبوا عليه، وإنما أخبرناك بما شاهدنا، عن عكرمة. وقيل: معناه ما كنا لغيب ابنك حافظين، أي: إنا كنا نحفظه في محضره، وإذا غاب عنا ذهب عن حفظنا، يعنون انه سرق ليلا وهم نيام. والغيب: هو الليل بلغة حمير، عن ابن عباس، قال: أي إنا لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره، ومجيئه وذهابه. (واسئل القرية) أي: أهل القرية (التي كنا فيها) والقرية مصر، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومعناه: سل من شئت من أهل مصر عن هذا الأمر، فإن هذا الأمر شائع فيهم، يخبرك به من سألته. وإنما قالوا ذلك لأن بعض أهلها كانوا قد صاروا إلى الناحية التي كان فيها أبوهم. والعرب تسمي الأمصار والمدائن قرى (والعير التي أقبلنا فيها) أي: وسل أهل القافلة التي قدمنا فيها، وكانوا من أرض كنعان من جيران يعقوب، وإنما حذف المضاف للإيجاز، ولأن المعنى مفهوم. وقيل: إنه ليس في الكلام حذف، لأن يعقوب عليه السلام نبي، صاحب معجز، يجوز أن تكلمه القرية، والعير على وجه خرق العادة. وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا أهل تهمة عند يعقوب (وإنا لصادقون) فيما أخبرناك به (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) ههنا حذف كثير، يدل الحال عليه، تقديره: فلما رجعوا إلى أبيهم، وقصوا عليه القصة بطولها، قال لهم: ما عندي إن الأمر على ما تقولونه، بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن (فصبر جميل) أي: فأمري صبر جميل، لا جزع منه (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) أي: عسى الله أن يأتيني بيوسف، وابن يامين، وروبيل، أو
[ 444 ]
شمعون، أو لاوي، أو يهوذا (إنه هو العليم) بعباده (الحكيم) في تدبير الخلق (وتولى عنهم) أي: انصرف وأعرض عنهم، بشدة الحزن، لما بلغه خبر حبس ابن يامين، وهاج ذلك وجده بيوسف، لأنه كان يتسلى به (وقال يا أسفى على يوسف) أي: يا طول حزني على يوسف، عن ابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة، ما لم يعط الأنبياء قبلهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إذ يقول: يا أسفى على يوسف. (وابيضت عيناه من الحزن) والبكاء، ولما كان البكاء من أجل الحزن، أضاف بياض البصر إليه. وسئل الصادق عليه السلام: ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف ؟ قال: حزن سبعين حرى ثكلى. قيل: كيف وقد أخبر أنه يرد عليه ؟ فقال: أنسي ذلك. وقيل: انه عمي ست سنين، عن مقاتل. وقيل: انه أشرف على العمى، فكان لا يرى الا شيئا يسيرا (فهو كظيم) والكظيم ههنا، بمعنى الكاظم: وهو المملوء من الهم والحزن، الممسك للغيظ، لا يشكوه لأهل زمانه، ولا يظهره بلسانه. ولذلك لقب موسى بن جعفر عليهما السلام، الكاظم، لكثرة ما كان يتجرع من الغيظ والغم، طول أيام خلافته لأبيه في ذات الله تعالى. وقال ابن عباس: هو المغموم المكروب (قالوا) أي: قال ولد يعقوب لأبيهم (تالله تفتؤا تذكر يوسف) أي: لا تزال تذكر يوسف (حتى تكون حرضا) أي: دنفا فاسد العقل، عن ابن عباس، وابن إسحاق. وقيل: قريبا من الموت، عن مجاهد. وقيل: هرما باليا، عن قتادة، والضحاك (أو تكون من الهالكين) أي: الميتين وإنما قالوا ذلك اشفاقا عليه وتعطفا ورحمة له وقيل انهم قالوا ذلك تبرما ببكائه إذ تنغص عيشهم بذلك (قال) يعقوب في جوابهم (إنما أشكو بثي) أي: همي. عن ابن عباس. وقيل: حاجتي، عن الحسن (وحزني إلى الله) المعنى: إنما أشكو حزني، وحاجتي، واختلال حالي، وانتشارها، إلى الله في ظلم الليالي، وأوقات خلواتي، لا إليكم. وقيل: البث ما أبداه. والحزن ما أخفاه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرائيل أتاه فقال: يا يعقوب ! إن إلله يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر وليفرح قلبك. فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك. إصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين. أو تدري لم أذهبت بصرك، وقوست ظهرك ؟ لأنكم ذبحتم شاة، وأتاكم مسكين وهو صائم، فلم تطعموه شيئا. فكان يعقوب بعد ذلك، إذا أراد الغذاء أمر مناديا ينادي:
[ 445 ]
ألا من أراد الغذاء من المساكين فليتغذ مع يعقوب. وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى: ألا من كان صائما، فليفطر مع يعقوب، رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في صحيحه. (وأعلم من الله ما لا تعلمون) أي: وأعلم صدق رؤيا يوسف، وأعلم أنه حي، وأنكم ستسجدون له كما اقتضاه رؤياه عن ابن عباس. وقيل: وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون، عن عطاء. وفي كتاب النبوة بالإسناد عن سدير الصيرفي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إن يعقوب دعا الله سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت، فاجأبه، فقال: ما حاجتك ؟ قال: أخبرني هل مر بك روح يوسف في الأرواح ؟ فقال: لا. فعلم أنه حي. فقال: (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) ابن يامين. وقيل: إنهم لما أخبروه بسيرة الملك، قال: لعله يوسف، عن السدي. فلذلك قال: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ابن يامين أي: استخبروا من شأنهما، واطلبوا خبرهما، وانظروا أن ملك مصر ما اسمه، وعلى أي دين هو، فإنه ألقي في روعي أن الذي حبس ابن يامين هو يوسف، وإنما طلبه منكم، وجعل الصاع في رحله، احتيالا في حبس أخيه عند نفسه. (ولا تيأسوا من روح الله) أي: لا تقنطوا من رحمته، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقيل: من الفرج من قبل الله، عن ابن زيد. والمعنى: تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) قال ابن عباس: يريد ان المؤمن من الله على خير، يرجوه في الشدائد والبلاء، ويشكره ويحمده في الرخاء، والكافر ليس كذلك. وفي هذا دلالة على أن الفاسق الملي لا يأس عليه من رحمة الله، بخلاف ما يقوله أهل الوعيد. سؤال: كيف خفي أخبار يوسف على يعقوب في المدة الطويلة، مع قرب المسافة ؟ وكيف لم يعلمه يوسف بخبره لتسكن نفسه، ويزول وجده. الجواب: قال الجبائي: العلة في ذلك أنه حمل إلى مصر فبيع من عزيز، فألزمه داره. ثم لبث في السجن بضع سنين، فانقطعت أخبار الناس عنه. فلما تمكن احتال في إيصال خبره بأبيه على الوجه الذي أمكنه، وكان لا يأمن لو بعث رسولا إليه أن لا يمكنه إخوته من الوصول إليه. وقال المرتضى، قدس الله روحه: يجوز أن يكون ذلك له ممكنا، وكان عليه قادرا، لكن الله سبحانه أوحى إليه بأن يعدل عن
[ 446 ]
إطلاعه على خبره، تشديدا للمحنة عليه، ولله سبحانه أن يصعب التكليف، وأن يسهله. (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجات فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين (88) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون (89) قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذآ أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين (93). القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن كثير: (إنك لأنت يوسف) بكسر الهمزة. وقرأ نافع، ويعقوب غير زيد، وسهل: (أنك) بفتح الهمزة غير ممدود. وقرأ أبو عمرو، وقالون، عن نافع، وزيد عن يعقوب: (آأنك) بالمد. وقرأ الباقون: (أأنك) بهمزتين. وفي الشواذ قراءة أبي: (أنك أو أنت يوسف) وقرأ ابن كثير وحده: (من يتقي) بياء في الوصل والوقف. والباقون: بغير ياء فيهما. الحجة: يدل على الاستفهام قوله: (أنا يوسف)، وإنما أجابهم عما استفهموا عنه. قال أبو الحسن في قوله (وتلك نعمة تمنها علي) إنه على الإستفهام، كأنه قال: أو تلك نعمة. فيجوز أن يكون من قرأ (أنك) على هذا، فيكون القراءتان متفقتين، وقلما يحذف حرف الإستفهام. فأما في القراءات فإنه يجري على مذهبهم في اجتماع الهمزتين، وقد تقدم القول في ذلك. وأما قراءة أبي فيكون على حذف خبر إن، كأنه قال إنك لغير يوسف، أو أنت يوسف. قال ابن جني: فكأنه قال: بل أنت يوسف، فلما خرج مخرج التوقف، قال: أنا يوسف.
[ 447 ]
وقد جاء عنهم حذف خبر إن، قال الأعشى: إن. محلا، وإن مرتحلا، وإن في السفر إذ مضوا مهلا (1) أراد أن لنا محلا، وان لنا مرتحلا. قال أبو علي: قوله (من يتقي): لا يحمل على نحو قول الشاعر: (ألم يأتيك والأنباء تنمي) (2) لأن هذا ونحوه إنما يجئ في الشعر، ولكن تجعل (من) موصولة، فيكون بمنزلة الذي يتقي. ويحمل المعطوف على المعنى، لأن (من يتقي)، إذا كان (من) منزلة الذي، بمنزلة الجزء الجازم، بدلالة أن كل واحد منهما يصلح دخول الفاء في جوابه، فإذا اجتمعا في ذلك، جاز أن يعطف عليه، كما يعطف على الشرط المجزوم، لكونه بمنزلته فيما ذكرناه. ومثل ذلك قوله فأصدق وأكن، حملت (واكن) على موضع الفاء. ومثله قول من قرأ (ويذرهم في طغيانهم) جزما. ويجوز أن تقدر الضمة في قوله ويصبر، وتحذفها للاستخفاف كما يخفف نحو عضد وسبع، وجاز هذا في حركة الاعراب كجوازه في حركة البناء. وزعم أبو الحسن أنه سمع (رسلنا لديهم يكتبون) بإسكان اللام من (رسلنا). ويقوي ذلك قراءة من قرأ (ويتقه) ألا ترى أنه جعل (تقه) بمنزلة كتف، وعلم، فأسكن. فكذلك يسكن على هذا (ويصبر). اللغة: الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله يزجي سحابا، قال النابغة: وهبت الريح من تلقاء ذي أرل، تزجي مع الليل من صرادها صرما (3) وفلان يزجي العيش أي: يدفع بالقليل، ويكتفي به، قال الأعشى: الواهب المائة الهجان، وعبدها، عوذا يزجي خلفها أطفالها (4) أي: يدفع. وقال آخر: (وحاجة غير مزجاة من الحاج) وإنما قيل: (ببضاعة مزجاة) لأنها يسيرة ناقصة. وإنما يجوز ذلك على دفع من أخذها. والمن: النعمة، (1) المهل: التأني وعدم العجلة اي: وإن في الذين ماتوا قبلنا إمهالا لنا. (2) قائله قيس بن زهير، وبعده: (بما لاقت لبون بني زياد). (3) وفي رواية (معجم البلدان): (تزجي مع الصبح). والصراد جمع الصارد: سحاب بارد ندي، ليس فيه ماء. وصرم جمع الصرمة: القطعة من السحاب. (4) البيت في (جامع الشواهد). (*)
[ 448 ]
وأصله القطع، لأنها تقطع المنعم عليه من حال بؤسه. والإيثار: تفضيل أحد الشيئين على الآخر، ونظيره الإختيار، والاجتباء ونقيضه الإيثار عليه، وأصله من الأثر، فإنه يؤثر من له أثر جميل. والأثر: الاخبار، يقال: أثر يأثر. والمأثرة: المكرمة، لأنها تؤثر. والخطأ: ضد الصواب، يقال خطأ الرجل يخطأ خطأ، وخطا فهو خاطئ، وأخطئ بخطأ إخطاء، فهو مخطئ. قال امرؤ القيس: يا لهف هند إذ خطئن كاهلا القاتلين الملك الحلاحلا (1) التثريب: التوبيخ. يقال: ثرب وأثرب وثرب، عن ابن الأعرابي. وقيل: التثريب: اللوم، والإفساد، والتقرير بالذنب. قال أبو عبيدة: وأصله الإفساد، وأنشد: فعفوت عنهم عفو غير مثرب، وتركتهم لعقاب يوم سرمد وقال ثعلب: ثرب وأثرب فلان على فلان أي: عدد عليه ذنوبه. وقال أبو مسلم: هو مأخوذ من الثرب. وهو شحم الجوف، فكأنه موضوع للمبالغة في اللوم، والتعنيف، والبلوغ بذلك إلى أقصى غاياته. الاعراب: (هل علمتم): استفهام، والمراد به التقرير ما فعلتم بيوسف. تقديره: أي شئ فعلتم بيوسف، فكأن (ما) في موضع نصب والجملة معلقة بعلمتم. وقوله (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) في موضع الجزم بأنه جواب الشرط. وذكر (المحسنين) ناب عن الضمير العائد إلى (من) لأن الاتقاء والصبر في معنى الإحسان، فكأنه قال: لا يضيع جزاءه. (لأنت يوسف): هذه لام الابتداء. وأنت: مبتدأ. ويوسف: خبره. والجملة خبر أن. ويجوز أن يكون أنت فصلا كما علمت فيما تقدم. وقوله (لا تثريب عليكم) تثريب: نكرة مفردة مبنية مع لا على الفتح، ولا يجوز أن يتعلق (عليكم) به، إذ لو كان كذلك، لكان مشتبها بالمضاف من حيث يكون عاملا فيما بعده، ويكون (عليكم) من تمامه. وكان يجب أن يكون منصوبا منونا، كما تقول لا مرورا بزيد عندك، وإذا عرفت هذا فإن (1) فاعل (خطئن) ضمير يرجع إلى الخيل. وكاهل: بطن من بني أسد شركوا في دم أبيه. والحلاحل: السيد العظيم يريد به أباه وقبل هذا البيت: (والله لا يذهب شيخي باطلا * حتى أبير مالكا وكاهلا). (*)
[ 449 ]
(عليكم) ههنا فيه وجهان أحدهما: أن يكون في موضع الخبر على تقدير: لا تثريب يثبت عليكم، أو ثابت عليكم. ثم حذف ذلك، وانتقل الضمير منه إلى (عليكم) حيث سد مسده والآخر: أن يتعلق بمضمر ذلك المضمر وصف لتثريب. وعلى هذا فيجوز فيه وجهان أحدهما: أن يكون في محل رفع، تقديره لا تثريب ثابت عليكم، كما تقول: لا رجل ظريف والآخر: أن يكون في محل نصب، تقديره: لا تثريب ثابتا عليكم، كما تقول لا رجل ظريفا. ثم حذفت الصفة، وقام الظرف مقامه. ويكون (اليوم) على هذا الوجه خبر لا. وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون متعلقا بالضمير الذي في الخبر. ويجوز أن يكون قد تم الكلام عند قوله (عليكم) وتعلق (اليوم) بما بعده، فيكون تقديره: اليوم يغفر الله لكم، وهذا اختيار الأخفش. وهكذا الكلام في قوله: (لا ريب فيه). المعنى: ولما قال يعقوب لبنيه: (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) خرجوا إلى مصر (فلما دخلوا عليه) أي: على يوسف (قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع، والحاجة، والشدة من السنين الشدائد القحاط. وقيل: إنهم شكوا ما نالهم من هلاك مواشيهم، والبلاء الذي أصابهم (وجئنا ببضاعة مزجاة) أي: ندافع بها الأيام ونتقوتها، وليست مما يتسع به. وقيل: رديئة لا تؤخذ إلا بوكس (1) عن ابن عباس، والجبائي. وقيل: قليلة، عن الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، وأبي مسلم. واختلف في تلك البضاعة، فقيل: كانت دراهم رديئة زيوفا، لا تنفق في ثمن الطعام، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقيل: كانت خلق الغرارة والحبل، ورث المتاع، عن ابن أبي مليكة عنه. وقيل: كانت متاع الأعراب الصوف والسمن، عن عبد الله بن الحرث. وقيل: الصنوبر، والحبة الخضراء، عن الكلبي، ومقاتل. وقيل: دراهم فسول (2)، عن سعيد بن جبير. وقيل: كانت أقطا، عن الحسن. وقيل: النعال والأدم، عن الضحاك، وعنه أيضا أنها سويق المقل (فأوف لنا الكيل) كما كنت توفي في السنين الماضية، ولا تنطر إلى قلة بضاعتنا في هذه السنة (1) الوكس: النقص. (2) الفسل: كل مسترذل ردئ.
[ 450 ]
(وتصدق علينا) أي: سامحنا بما بين النقدين، وسعر لنا بالردئ كما تسعر بالجيد. وقيل: معناه تصدق علينا برد أخينا، عن ابن جريج والضحاك. (إن الله يجزي المتصدقين) أي: يثيبهم على صدقاتهم بأفضل منها. وفي كتاب النبوة بالاسناد عن الحسن بن محبوب، عن أبي إسماعيل الفراء، عن طربال، عن أبي عبد الله عليه السلام في خبر طويل: إن يعقوب كتب إلى يوسف. بسم الله الرحمن الرحيم. إلى عزيز مصر، ومظهر العدل، وموفي الكيل، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأنجاه منها. أخبرك أيها العزيز: إنا أهل بيت، لم يزل البلاء إلينا سريعا من الله، ليبلونا عند السراء والضراء، وإن المصائب تتابعت علي عشرين سنة، أولها أنه كان لي ابن سميته يوسف، وكان سروري من بين ولدي، وقرة عيني، وثمرة فؤادي، وأن اخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع ويلعب، فبعثته معهم بكرة، فجاؤني عشاء يبكون، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب أكله. فاشتد لفقده حزني، وكثر عن فراقه بكائي، حتى ابيضت عيناي من الحزن، وإنه كان له أخ، وكنت به معجبا، وكان لي أنيسا، وكنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري، فسكن بعد ما أجد في صدري، وان اخوته ذكروا لي أنك سألتهم عنه، وأمرتهم أن يأتوك به، فإن لم يأتوك به منعتهم الميرة، فبعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا، فرجعوا إلي، وليس هو معهم، وذكروا أنه سرق مكيال الملك، ونحن أهل بيت لا نسرق، وقد حبسته عني وفجعتني به، وقد اشتد لفراقه حزني، حتى تقوس لذلك ظهري، وعظمت به مصيبتي، مع مصائب تتابعت علي فمن علي بتخلية سبيله، وإطلاقه من حبسك، وطيب لنا القمح، واسمح لنا في السعر، وأوف لنا الكيل، وعجل سراح آل إبراهيم. قال فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك، وقالو: (يا أيها العزيز ! مسنا وأهلنا الضر) إلى آخر الآية. وتصدق علينا بأخينا ابن يامين، وهذا كتاب أبينا يعقوب إليك في أمره، يسألك تخلية سبيله، فمن به علينا. فأخذ يوسف كتاب يعقوب، وقبله ووضعه على عينيه، وبكى وانتحب حتى بلت دموعه القميص الذي عليه، ثم أقبل عليهم و (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) ومعناه أنه قال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف من إذلاله، وإبعاده عن أبيه، وإلقائه في
[ 451 ]
البئر، والإجتماع على قتله، وبيعه بثمن وكس، وما فعلتم بأخيه من إفراده عن يوسف، والتفريق بينهما، حتى صار ذليلا فيما بينكم، لا يكلمكم إلا كما يكلم الذليل العزيز ؟ وإنما لم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم لفراقه، تعظيما له، ورفعا من قدره، وعلما أن ذلك كان بلاء له، ليزداد به علو الدرجة، ورفعة المنزلة عند الله تعالى. قال ابن الأنباري: هذا استفهام يعني به تعظيم القصة، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم، وما أقبح ما أتيتم من قطيعة الرحم، وتضييع حقه، كما يقول الرجل: هل تدري من عصيت. وفي هذه الآية مصداق قوله (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) وقوله (إذ أنتم جاهلون) أي: صبيان عن أبن عباس. وقيل: شبان عن الحسن، ومعناه: فعلتم ذلك حين كنتم جاهلين جاهلية الصبي في عنفوان الشباب، حين يغلب على الإنسان الجهل، ولم ينسبهم إلى الجهل في حال الخطاب، لأنهم كانوا تائبين نادمين في تلك الحال، وكان هذا تلقينا لهم لما يعتذرون به إليه. وهذا هو الغاية في الكرم، إذ صفح عنهم، ولقنهم وجه العذر، وقالوا: أإنك لأنت يوسف ؟ قيل: إن يوسف لما قال لهم (هل علمتم) الآية تبسم، فلما أبصروا ثناياه، وكانت كاللؤلؤ المنظوم، شبهوه بيوسف، و (قالوا) له (أإنك لأنت يوسف) عن ابن عباس. وقيل: رفع التاج عن رأسه فعرفوه (قال أنا يوسف) أظهر الإسم، ولم يقل: أنا هو، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم، المراد قتله. فكفى ظهور الإسم من هذه المعاني، عن ابن الأنباري قال: ولهذا قال (وهذا أخي) لأن قصده، وهذا الظلوم كظلمي (قد من الله علينا) بالاجتماع بعد طول الفرقة. وقيل: من الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة (انه من يتق) أي: يتق الله (ويصبر) على المصائب، وعن المعاصي (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) أي: أجر من كان هذا حاله والضياع ذهاب الشئ من غير عوض (قالوا تالله) أي: أقسموا بالله سبحانه (لقد آثرك الله علينا) أي: فضلك واختارك الله علينا بالحلم، والعلم، والعقل، والحسن، والملك (وإن كنا لخاطئين) أي: ما كنا إلا مخطئين آثمين فيما فعلنا. وهذا يدل على أنهم ندموا، على ما فعلوا، ولم يصروا عليه (قال) يوسف (لا تثريب عليكم اليوم) أي: لا تعيير، ولا توبيخ ولا تقريع عليكم الآن، فيما فعلتم (يغفر الله لكم)
[ 452 ]
ذنوبكم فإني أستغفر الله لكم (وهو أرحم الراحمين) في عفوه عنكم ما تقدم من ذنبكم. وقيل: في صنيعه بي حتى جعلني ملكا. وقيل: أراد باليوم الزمان، فتدخل فيه الأوقات كلها، كما قال الشاعر: فاليوم يرحمنا من كان يغبطنا، واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا وقيل: ان الكلام قد تم عند قوله (لا تثريب عليكم) ثم ابتدأ بقوله (اليوم يغفر الله لكم) وهو دعاء لهم (إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) قيل: إنه عليه السلام لما عرفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي ؟ قالوا: ذهبت عيناه. فقال: اذهبوا بقميصي هذا، واطرحوه على وجهه، يعد مبصرا كما كان من قبل. قال ابن عباس (يأت بصيرا): يرتد بصيرا، ويذهب البياض الذي على عينيه (وأتوني بأهلكم أجمعين) إذا عاد بصيرا، وهذا كان معجزا منه، إذ لا يعرف أنه يعود بصيرا بإلقاء القميص على وجهه، إلا بالوحي. وقيل: إن يوسف قال إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولا. فقال يهوذا: أنا ذهبت به، وهو ملطخ بالدم، فأخبرته أنه أكله الذئب. قال: فاذهب بهذا أيضا، وأخبره أنه حي، وأفرحه كما حزنته. فحمل القميص وخرج حافيا حاسرا حتى أتاه، وكان معه سبعة أرغفة، وكانت مسافة بينهما ثمانين فرسخا، فلم يستوف الأرغفة في الطريق، وقد ذكرنا شأن القميص من قبل. وروى أيضا الواحدي بإسناده يرفعه إلى أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم في النار، نزل إليه جبرائيل بقميص من الجنة، وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص، وأقعده على الطنفسة (1)، وقعد معه بحدثه، فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة، وعلقها في عنقه، فألقي في الجب والقميص في عنقه، فذلك قوله (إذهبوا بقميصي هذا) وقال ابن عباس: أخرج لهم قصبة من فضة، كانت في عنقه، لم يعلم بها اخوته فيها قميص، وهو الذي نزل به جبرائيل على إبراهيم. وذكر القصة. وقال مجاهد: أمره جبرائيل أن أرسل إليه قميصك، فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا صح وعوفي. (1) الطنفسة. البساط. (*)
[ 453 ]
(ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولآ تفندون (94) قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم (95) فلمآ أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون (96) قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربى إنه هو الغفور الرحيم (98). اللغة: الفصل: أصله القطع، ومنه قيل للحاكم: فيصل، لأنه يقطع الأمور. والتفنيد: تضعيف الرأي، قال: يا صاحبي دعا لومي، وتفنيدي، فليس ما فات من أمر بمردود والفند: ضعف الرأي. وقيل: إن أصله الفساد، قال النابغة: إلا سليمان إذ قال المليك له: قم في البرية، فاحددها عن الفند (1) أي: امنعها عن الفساد. المعنى: (ولما فصلت العير) أي: لما خرجت القافلة، وانفصلت من مصر، متوجهة نحو الشام (قال أبوهم) يعقوب لأولاد أولاده الذين كانوا عنده: (إني لأجد ريح يوسف): روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وجد يعقوب ريح قميص يوسف حين فصلت العير من مصر، وهو بفلسطين، من مسيرة عشر ليال. وقيل: من مسيرة ثماني ليال، عن ابن عباس. وقيل: من ثمانين فرسخا، عن الحسن. وقيل: مسيرة شهر، عن الأصم. قال ابن عباس: هاجت ريح، فحملت بريح قميص يوسف إلى يعقوب. وذكر في القصة أن الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بها، ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا. وقد أكثر الشعراء من ذكرها، فمن ذلك قولهم: فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها (1) هذا البيت من قصيدة له يعتبرها بعض العلماء إحدى (المعلقات) يمدح فيها النعمان بن المنذر وقبله: (ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه * ولا أحاشي من الأقوام من أحد). (*)
[ 454 ]
وقول أبي الصخر الهذلي: إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر وقوله (لولا أن تفندون) معناه: لولا أن تسفهوني، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: لولا أن تضعفوني في الرأي، عن ابن إسحاق. وقيل: لولا أن تكذبوني. والفند: الكذب، عن سعيد بن جبير، والسدي، والضحاك، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس. وقيل. لولا أن تهرموني، عن الحسن، وقتادة. أي: تقولون إنه شيخ قد هرم وخرف، وذهب عقله. وتقديره: إني أقطع أنها ريح يوسف، لولا أن تفندون (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) أي: قالوا له إشفاقا عليه، وترحما: إنك لفي ذهابك القديم، عن الصواب في حب يوسف عليه السلام، وإنه كان عندهم أن يوسف قد مات منذ سنين، ولم يريدوا بذلك الضلال عن الدين، وإنما أرادوا به المبالغة في حب يوسف، والأماني الفاسدة فيما كان يرجو من عوده بعد موته، عن قتادة، والحسن. وقيل: معناه إنك لفي شقائك القديم، عن مقاتل. وفي هذا دلالة على أن لفظ القديم، قد يطلق في اللغة على المتقدم في الوجود. (فلما أن جاء البشير) وهو يهوذا، عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنه مالك بن ذعر (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) أي: ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، فعاد بصيرا. قال الضحاك: عاد إليه بصره بعد العمى، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن، فقال للبشير: ما أدري ما أثيبك به ! هون الله عليك سكرات الموت (قال) يعقوب لهم (ألم أقل لكم أني أعلم من الله ما لا تعلمون) أي: إني كنت أعلم أن الله يصدق رؤيا يوسف، ويكشف الشدائد عن أنبيائه بالصبر، وكنتم لا تعلمون ذلك. قال الحسن: كان الله سبحانه أعلمه بحياته، ولم يعلمه بمكانه (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) فيما فعلنا. (قال) يعقوب (سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) إنما لم يستغفر لهم في الحال، لأنه أخرهم إلى سحر ليلة الجمعة، عن ابن عباس، وطاوس، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام وقيل: أخرهم إلى وقت السحر، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، عن ابن مسعود، وإبراهيم التيمي، وابن جريج، وروي
[ 455 ]
أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: انه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. عن وهب. وقيل: انه كان يقوم، ويصف أولاده خلفه، عشرين سنة، يدعو ويؤمنون على دعائه واستغفاره لهم، حتى نزل قبول توبتهم. وروي أن جبرائيل عليه السلام علم يعقوب هذا الدعاء: (يا رجاء المؤمنين ! لا تخيب رجائي. ويا غوث المؤمنين أغثني ! ويا عون المؤمنين ! أعني. ويا حبيب التوابين ! تب علي، واستجب لهم. (فلما دخلوا على يوسف ءاوآ إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين (99) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشآء إنه هو العليم الحكيم (100) * رب قد ءاتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والأخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102). الاعراب: دخول (من) في قوله (من الملك)، و (من تأويل الأحاديث) جائز أن يكون للتبعيض، فيكون المراد: آتيتني بعض الملك، وعلمتني بعض تأويل الأحاديث. وجائز أن يكون لتبيين هذا الجنس من سائر الأجناس، فيكون المعنى: آتيتني الملك، وعلمتني التأويل، عن الزجاج قال: وقوله (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) يدل على أن (من) هاهنا لتبيين الجنس، ومثله قوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) أي: الرجس الذي هو وثن. (فاطر السماوات والأرض) منصوب على وجهين أحدهما: أن يكون على الصفة لقوله (رب) لأن المعنى يا ربي، فهو نداء مضاف في موضع نصب، فيكون (فاطر السماوات) صفة
[ 456 ]
له. وجائز أن ينتصب على أنه نداء ثان على تقدير يا فاطر السماوات، وذلك في موضع رفع بالابتداء، ويكون خبره (من أنباء الغيب) ويكون (نوحيه إليك) خبرا ثانيا. وإن شئت جعلت (نوحيه) هو الخبر، وجعلت (ذلك) في معنى الذي، وقوله: (من أنباء الغيب) صلته. المعنى: (فلما دخلوا على يوسف) هاهنا حذف تقديره: فلما خرج يعقوب وأهله من أرضهم، وأتوا مصر، دخلوا على يوسف. وفي حديث ابن محبوب، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام: إن يعقوب قال لولده: تحملوا إلى يوسف من يومكم هذا بأهلكم أجمعين. فساروا إليه ويعقوب معهم، وخالة يوسف أم يامين، فحثوا السير فرحا وسرورا، تسعة أيام إلى مصر. فلما دخلوا على يوسف في دار الملك، اعتنق أباه، وقبله، وبكى، ورفعه، ورفع خالته على سرير الملك. ثم دخل منزله، واكتحل، وادهن، ولبس ثياب العز والملك. فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما له، وشكرا لله عند ذلك، ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن، ولا يكتحل، ولا يتطيب، حتى جمع الله بينه وبين أبيه واخوته. وقيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة، مع ما يحتاج إليه في السفر، وسألهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين. فلما دنا يعقوب من مصر، تلقاه يوسف في الجند وأهل مصر، فقال يعقوب: يا يهوذا ! هذا فرعون مصر. قال: لا هذا ابنك. ثم تلاقيا. قال الكلبي: على يوم من مصر، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه، بدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان ! وفي كتاب النبوة بالإسناد عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أقبل يعقوب إلى مصر، خرج يوسف ليستقبله، فلما رآه يوسف هم بأن يترجل له، ثم نظر إلى ما هو فيه من الملك، فلم يفعل، فلما سلم على يعقوب، نزل عليه جبرائيل، فقال له: يا يوسف ! إن الله جل جلاله يقول: منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه. أبسط يدك. فبسطها، فخرج من بين أصابعه نور. فقال. ما هذا يا جبرائيل ؟ قال: هذا أنه لا يخرج من صلبك نبي أبدا، عقوبة بما صنعت بيعقوب، إذ لم تنزل إليه. وقوله: (آوى إليه أبويه) أي: ضمهما إليه، وأنزلهما عنده. وقال أكثر المفسرين: إنه يعني بأبويه أباه وخالته، فسمى الخالة أما، كما سمى العم أبا في
[ 457 ]
قوله (وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها بابن يامين، فتزوجها أبوه. وقيل: يريد أباه وأمه، وكانا حيين، عن ابن إسحاق والجبائي. وقيل: إن راحيل أمه نشرت من قبرها حتى سجدت له تحقيقا للرؤيا، عن الحسن. (وقال) لهم قبل دخولهم مصر (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) والإستثناء يعود إلى الأمن. وإنما قال (آمنين) لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بجوازهم. قال وهب: إنهم دخلوا مصر، وهم ثلاثة وسبعون إنسانا، وخرجوا مع موسى، وهم ستمائة ألف، وخمس مائة، وبضع وسبعون رجلا. (ورفع أبويه على العرش) أي: رفعهما على سرير ملكه إعظاما لهما. والعرش: السرير الرفيع، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. (وخروا له سجدا) أي: انحطوا على وجوههم، وكانت تحية الناس بعضهم لبعض يومئذ السجود، والإنحناء، والتكفير، عن قتادة. ولم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله في شريعتهم، فأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام، وهي تحية أهل الجنة، عجلها لهم. قال أعشى بن ثعلبة: فلما أتانا بعيد الكرى سجدنا له، ورفعنا العمارا (1) وكان من سنة التعظيم يومئذ: أن يسجد للمعظم، عن الزجاج. وقيل: كان سجودهم كهيئة الركوع، كما يفعل الأعاجم، عن الكلبي. وقيل: إن السجود كان لله تعالى شكرا له، كما يفعله الصالحون عند تجدد النعم. والهاء في قوله (له) عائدة إلى الله تعالى أي: سجدوا لله تعالى على هذه النعمة، وتوجهوا في السجود إليه، كما يقال: صلى للقبلة، ويراد به استقبالها، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. قال علي بن إبراهيم: وحدثني محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين: أن يحيى بن أكثم، سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى، مسائل، فعرضها على أبي الحسن علي بن محمد عليه السلام، فكان إحداها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب وولده (1) العمار: كل شئ على الرأس من عمامة، أو قلنسوة، أو تاج، أو غير ذلك. يعني: وضعناه من رؤوسنا، إعظاما له. (*)
[ 458 ]
ليوسف، وهم أنبياء ؟ فأجاب أبو الحسن عليه السلام: أما سجود يعقوب وولده، فإنه لم يكن ليوسف، وإنما كان ذلك منهم طاعة لله، وتحية ليوسف، كما أن السجود من الملائكة لآدم كان منهم طاعة لله، وتحية لآدم. فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى، لاجتماع شملهم. ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت (رب قد آتيتني من الملك) الآية الخبر بتمامه. (وقال) يوسف: (يا أبت هذا تأويل رؤياي) أي: هذا تفسير رؤياي، وتصديق رؤياي التي رأيتها (من قبل قد جعلها ربي حقا) أي: صدقا في اليقطة. وقيل: كان بين الرؤيا وتأويلها ثمانون سنة، عن الحسن. وقيل: سبعون سنة، عن عبد الله بن شوذب. وقيل: أربعون سنة، عن سلمان الفارسي، وعبد الله بن شداد. وقيل: إثنتان وعشرون سنة، عن الكلبي. وقيل: ثماني عشرة سنة، عن ابن إسحاق. قال إبن إسحاق: وولد ليوسف من امرأة العزيز أفرايم، وميشا، ورحمة امرأة أيوب، وكان بين يوسف وبين موسى أربعمائة سنة. (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن) أي: وقد أحسن ربي إلي حيث أخرجني من السجن، وأنعم علي به (وجاء بكم من البدو) أي: من البادية، فإنهم. كانوا يسكنون البادية، ويرعون أغنامهم فيها، فكانت مواشيهم قد هلكت في تلك السنين بالقحط، فأغناهم الله تعالى بمصيرهم إلى يوسف. وإنما بدأ عليه السلام بالسجن في تعداد نعم الله دون إخراجه من الجب، كرما، لئلا يبدأ بصنيع إخوته به. وقيل: لأن نعم الله تعالى في إخراجه من السجن، كانت أكثر، ولأن السجن طالت مدته، وكثرت محنته (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أي: من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وحرش بيني وبينهم. وقال ابن عباس: معناه دخل بيننا بالحسد (إن ربي لطيف لما يشاء) أي: لطيف في تدبير عباده، يدبر أمرهم على ما يشاء، ويسهل لهم العسير، وبلطفه حصلت هذه النعم علينا من الاجتماع وغيره. قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله سبحانه معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان لطفا: إذا رفق. وقال غيره: اللطيف: الذي يوصل إليك اربك في رفق. وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور (إنه هو العليم) بجميع الأشياء (الحكيم) في كل التدابير. وفي كتاب النبوة بالإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال يعقوب ليوسف: يا بني ! حدثني كيف صنع بك إخوتك ؟ قال: يا أبه ! دعني.
[ 459 ]
فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني. فقال له: أخذوني وأقعدوني على رأس الجب، ثم قالوا لي: إنزع قميصك، فقلت لهم: إني أسألكم بوجه أبي يعقوب، أن لا تنزعوا قميصي، ولا تبدوا عورتي. فرفع فلان السكين علي، وقال: إنزل. فصاح يعقوب، فسقط مغشيا عليه، ثم أفاق، فقال له: يا بني ! كيف صنعوا بك ؟ فقال يوسف: إني أسالك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلا أعفيتني. قال: فتركه. وروي أيضا أن يوسف قال ليعقوب عليه السلام: يا أبه لا تسألني عن صنيع إخوتي بي، وسل عن صنع الله بي. قال أبو حمزة: بلغنا أن يعقوب عاش مائة وسبعا وأربعين سنة، ودخل مصر على يوسف، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، وكان عند يوسف بمصر سبع عشرة سنة. وقال ابن إسحاق: أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة، ثم توفي ودفن بالشام. وقال سعيد بن جبير: نقل يعقوب إلى بيت المقدس في تابوت من ساج، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد، فمن ثم ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس. وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد، وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة. ثم رجع يوسف إلى مصر بعد أن دفن أباه في بيت المقدس، عن وصية منه إليه، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة. وكان أول رسول في بني إسرائيل، ثم مات، وأوصى أن يدفن عند قبور آبائه. وقيل: دفن بمصر، ثم أخرج موسى عظامه، فحمله حتى دفنه عند أبيه. وقيل: أفضت النبوة بعده إلى روبيل، ثم إلى يهوذا. وفي كتاب النبوة بالإسناد عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر ؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان الحجة لله في الأرض يعقوب أم يوسف ؟ قال: كان يعقوب الحجة، وكان الملك ليوسف. فلما مات يعقوب، حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام، فدفنه في بيت المقدس، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة. قلت: وكان يوسف رسولا نبيا ؟ قال: نعم أما تسمع قوله عز وجل (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات). وبالإسناد عن أبي خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: دخل يوسف السجن، وهو ابن إثنتي عشرة سنة، ومكث فيها ثماني عشرة سنة، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة سنة، وعشر سنين. قالوا: ولما جمع الله سبحانه ليوسف شمله، وأقر له عينه، وأتم له رؤياه، ووسع عليه في ملك الدنيا ونعيمها، علم أن ذلك لا يبقى له، ولا يدوم، فطلب من الله سبحانه
[ 460 ]
نعيما لا يفنى، وتاقت نفسه إلى الجنة، فتمنى الموت، ودعا به، ولم يتمن ذلك نبي قبله، ولا بعده تمنى أحد، فقال (رب قد آتيتني من الملك) أي: أعطيتني ملك النبوة، وملك مصر (وعلمتني من تأويل الأحاديث) أي: تأويل الرؤيا (فاطر السموات والأرض) أي: خالق السموات والأرض، ومنشئهما لا على مثال سبق (أنت وليي) أي: ناصري، ومدبري، وحافظي (في الدنيا والآخرة) تتولى فيهما إصلاح معاشي، ومعادي (توفني مسلما) قال ابن عباس: ما تمنى نبي تعجيل الممات إلا يوسف، لما انتظمت أسباب مملكته، إشتاق إلى ربه. وقيل. معناه ثبتني على الإيمان إلى وقت الممات، وأمتني مسلما. (وألحقني بالصالحين) أي: بأهل الجنة من الأنبياء، والأولياء، والصديقين. وقيل: لما جمع الله سبحانه بينه وبين أبويه وإخوته، أحب أن يجتمع مع آبائه في الجنة، فدعا بذا الدعاء. والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم. قيل: فتوفاه الله تعالى بمصر وهو نبي، فدفن في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات، تشاح الناس عليه، كل يحب أن يدفن في محلته، لما كانوا يرجون من بركته، فرأوا أن يدفنوه في النيل، فيمر الماء عليه ثم يصل إلى جميع مصر، فيكون كلهم فيه شركاء، وفي بركته شرعا سواء. فكان قبره في النيل إلى أن حمله موسى عليه السلام حين خرج من مصر. ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ذلك) أي: الذي قصصت عليك من قصة يوسف يا محمد (من أنباء الغيب) أي: من جملة أخبار الغيب (نوحيه إليك) على ألسنة الملائكة، لتخبر به قومك، ويكون دلالة على إثبات نبوتك، ومعجزة دالة على صدقك (وما كنت لديهم) أي: وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إذ أجمعوا أمرهم) إذ عزموا على إلقائه في البئر، واجتمعت آراؤهم عليه (وهم يمكرون) أي: يحتالون في أمر يوسف، حتى ألقوه في الجب، عن الجبائي. وقيل: يمكرون بيوسف، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (103) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين (104) وكأين من ءاية في السماوات والأرض
[ 461 ]
يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107). القراءة: في الشواذ قراءة عكرمة، وعمرو بن فائد (والأرض يمرون عليها) بالرفع. وقراءة السدي: (والأرض) نصبا والقراءة المشهورة: بالجر. الحجة: من رفع أو نصب وقف على السماوات، ثم ابتدأ والأرض فالرفع على الإبتداء، والجملة بعدها خبره، والعائد إلى المبتدأ الهاء من (عليها) والضمير في (عنها) عائد إلى الآية. وأما النصب فبفعل مضمر تقديره: ويطأون الأرض، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود (يمشون عليها) فلما أضمر الفعل الناصب، فسره بقوله (يمرون عليها). ومن جر الأرض على قراءة القراء فإن شاء وقف على الأرض، وإن شاء وقف آخر الآية. اللغة: الحرص: طلب الشئ باجتهاد في إصابته. والعالم: الجماعة من الحيوان التي من شأنها أن تعلم، مأخوذ من العلم. وقيل لما حواه الفلك عالم على سبيل التبع للحيوان الذي ينتفع به، وهو مخلوق لأجله. والغاشية: المجللة للشئ بانبساطها عليه، وغشيه يغشاه: إذا غطاه. والغشاء: الغطاء. والبغتة: الفجأة، وهي مجئ الشئ من غير توقع. الاعراب: (وكأين) في معنى (كم)، وأصلها (أي) دخلت عليها الكاف. و (بغتة): مصدر وضع موضع الحال، تقول: لقيته بغتة، وفجاءة. المعنى: لام تقدم ذكر الآيات والمعجزات التي لو تفكروا فيها عرفوا الحق، من جهتها، فلم يتفكروا، بين عقيبها أن التقصير من جهتهم، حيث رضوا بالجهل، وليس من جهته سبحانه، لأنه نصب الأدلة والبينات، ولا من جهتك، لأنك دعوتهم، فقال: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) أي: وليس أكثر الناس بمصدقين، ولو حرصت على إيمانهم وتصديقهم، واجتهدت في دعائهم إليه، وإرشادهم إليه، لأن حرص الداعي لا يغني شيئا إذا كان المدعو لا يجيب (وما
[ 462 ]
تسألهم عليه من أجر) أي: ولا تسألهم على تبليغ الرسالة، وبيان الشريعة أجرا، فيصدهم ذلك عن القبول، ويمنعهم من الإيمان، ويثقل عليهم ما يلزمهم من الغرامة، فأعذارهم منقطعة (إن هو إلا ذكر للعالمين) أي: ما القرآن إلا موعظة، وعبرة، وتذكير للخلق أجمعين. فلست بنذير لهؤلاء خاصة (وكأين من آية) أي: كم من حجة ودلالة (في السموات والأرض) تدل على وحدانية الله تعالى من الشمس والقمر، والنجوم في السماء، ومن الجبال والشجر، وألوان النبات، وأحوال المتقدمين، وآثار الأمم السالفة، في الأرض (يمرون عليها) ويبصرونها، ويشاهدونها (وهم عنها معرضون) أي: هم عن التفكر فيها، والإعتبار بها معرضون، لا يتفكرون فيها، يعني الكفار (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) إختلف في معناه على أقوال أحدها: إنهم مشركو قريش، كانوا يقرون بالله خالقا ومحييا ومميتا، ويعبدون الأصنام، ويدعونها آلهة مع أنهم كانوا يقولون الله ربنا وإلهنا يرزقنا، فكانوا مشركين بذلك، عن ابن عباس، والجبائي وثانيها: إنها نزلت في مشركي العرب إذ سألوا من خلق السماوات والأرض، وينزل المطر ؟ قالوا: الله، ثم هم يشركون. وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، عن الضحاك وثالثها: إنهم أهل الكتاب، آمنوا بالله واليوم الآخر، والتوراة والإنجيل، ثم أشركوا بإنكار القرآن، وإنكار نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن. وهذا القول مع ما تقدمه، رواه دارم بن قبيصة، عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده، عن أبي عبد الله عليه السلام. ورابعها: إنهم المنافقون، يظهرون الإيمان، ويشركون في السر، عن البلخي وخامسها: إنهم المشبهة، آمنوا في الجملة، وأشركوا في التفصيل، وروي ذلك، عن ابن عباس. وسادسها: إن المراد بالإشراك شرك الطاعة، لا شرك العبادة، أطاعوا الشيطان في المعاصي التي يرتكبونها، مما أوجب الله عليها النار، فأشركوا بالله في طاعته، ولم يشركوا بالله شرك عبادة، فيعبدون معه غيره، عن أبي جعفر عليه السلام. وروي عن أبي عبد الله أنه قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لضاع عيالي، جعل لله شريكا في ملكه يرزقه، ويدفع عنه. فقيل له: لو قال لولا أن من علي بفلان لهلكت ؟ فقال: لا بأس بهذا. وفي رواية زرارة، ومحمد بن مسلم، وحمران عنهما عليهما السلام: إنه شرك النعم. وروى محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن
[ 463 ]
الرضا عليه السلام، قال: إنه شرك لا يبلغ به الكفر (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) أي: أفأمن هؤلاء الكفار أن يأتيهم عذاب من الله سبحانه، يعمهم، ويحيط بهم، وهي من غاشية السرج، لأنها تعمه بالسر، وإنما أتى بلفظة التأنيث على تقدير العقوبة أي: عقوبة مجللة لجميعهم، عن ابن عباس. وقيل: هو عذاب الإستئصال، عن مجاهد، وأبي مسلم. وقيل: هي الصواعق والقوارع، عن الضحاك (أو تأتيهم الساعة) يعني القيامة (بغتة) أي: فجأة على غفلة منهم (وهم لا يشعرون) بقيامها. قال ابن عباس: تهجم الصيحة بالناس، وهم في أسواقهم. (قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الأخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109). القراءة: قرأ حفص عن عاصم: (إلا رجالا نوحي إليهم) بالنون حيث كان. وقرأ الباقون: (يوحى) بالياء وفتح الحاء (أفلا تعقلون) ذكرنا الخلاف فيه في سورة الأنعام. الحجة: قال أبو علي: الوجه في النون قوله (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) والوجه في الياء قوله (وأوحي إلى نوح). و (قل أوحي إلي). اللغة: السبيل: الطريق، وهو المكان المهيأ للسلوك. ودين الإسلام: طريق يؤدي إلى الجنة. والسبيل يذكر ويؤنث، قال: فلا تبعد فكل بني أناس سيصبح سالكا تلك السبيلا والبصيرة: ما يبصر به الشئ أي يعرف. والسير: المرور الممتد في جهة، ومنه السير واحد السيور، لامتداده في جهة. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يبين للمشركين ما يدعو إليه، فقال (قل) يا محمد لهم (هذه سبيلي) أي: طريقي وسنتي ومنهاجي، عن ابن زيد
[ 464 ]
وقيل: معناه هذه الدعوة التي أدعو إليها، ديني وطريقي، عن مقاتل، والجبائي. ثم فسر ذلك بقوله (أدعو إلى الله على بصيرة) أي: أدعو إلى توحيد الله، وعدله، ودينه، على يقين، ومعرفة، وحجة قاطعة، لا على وجه التقليد (أنا ومن اتبعني) أي: أدعوكم أنا، ويدعوكم أيضا إليه من آمن بي ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله (أدعو إلى الله) ثم ابتدأ وقال: (على بصيرة أنا ومن اتبعني) وهذا معنى قول ابن عباس إنه يعني أصحاب محمد، كانوا على أحسن طريقة (وسبحان الله) معناه: تنزيها لله عما أشركوا، وتقديره قل هذه سبيلي، وقل سبحان الله. وقيل: إنه اعتراض بين الكلامين، والواو فيه مثل قولك قال الله، وهو منزه عن الشركاء، سبحان الله (وما أنا من المشركين) الذين اتخذوا مع الله ندا وكفوا وولدا. وفي هذه الآية دلالة على فضل الدعاء إلى الله سبحانه، وإلى توحيده وعدله، ويعضد ذلك الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: العلماء أمناء الرسل على عباده. وفيها دلالة أيضا على أنه عليه السلام كان يدعو إلى الله في كل أوقاته، وإن كان يبين الشرائع في أوقات ما. وفيها دلالة أيضا على أن الواجب في السعي أن يكون على ثقة وبصيرة ودلالة قاطعة، وذلك يوجب فساد التقليد (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) بين سبحانه أنه إنما أرسل الرسل من أهل الأمصار، لأنهم أرجح عقلا وعلما من أهل البوادي، لبعد أهل البوادي عن العلم وأهله، عن قتادة. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا قط من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء، وذلك أن أهل البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء، وأهل الأمصار أحد فطنا (أفلم يسيروا في الأرض) أي: أفلم يسر هؤلاء المشركون المنكرون لنبوتك يا محمد في الأرض (فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من الأمم المكذبين لرسلهم، وكيف أهلكهم الله بعذاب الإستئصال فيعتبروا بهم، ويحذروا مثل ما أصابهم (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا) يقول: هذا صنيعنا بأهل الإيمان والطاعة في دار الدنيا، إذ أهلكنا عدوهم، ونجيناهم من شرفهم، ولدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا ونعيمها. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: لشبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها. قال الزجاج: قال الله سبحانه في غير هذا الموضع: (والدار
[ 465 ]
الآخرة): فالآخرة نعت للدار، لأن لجميع الخلق دارين: الدار التي خلقوا فيها، وهي الدنيا، والدار الآخرة: هي التي يعادون فيها خلقا جديدا. فإذا قال دار الآخرة فكأنه قال دار الحال الآخرة، لأن للناس حالين: حال الدنيا، وحال الآخرة. ومثل هذا في الكلام: الصلاة الأولى، وصلاة الأولى، فمن قال الصلاة الأولى: جعل الأولى نعتا للصلاة، ومن قال صلاة الأولى: أراد صلاة الفريضة الأولى، والساعة الأولى (أفلا تعقلون) أي: أفلا يفهمون ما قيل لهم فيعلمون. (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111). القراءة: قرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر: (كذبوا) بالتخفيف، وهي قراءة علي، وزين العابدين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وزيد بن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك، والأعمش، وغيرهم. وقرأ الباقون: (كذبوا) بالتشديد، وهي قراءة عائشة، والحسن، وعطا، والزهري، وقتادة. وروي عن ابن عباس بخلاف، ومجاهد بخلاف: (كذبوا) بالتخفيف، وفتح الذال والكاف. وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب، وسهل: (فنجي من نشاء) بنون واحدة، وتشديد الجيم، وفتح الياء. وقرأ الباقون: (فننجي من نشاء) بنونين، وتخفيف الجيم، وسكون الياء. وفي الشواذ عن ابن محيصن (فنجا) بفتح النون والجيم والتخفيف. وعن عيسى الثقفي: (ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة) برفع الأحرف الثلاثة، والقراءة بنصبها. الحجة: قال أبو علي: الضمير في ظنوا في قول من شدد كذبوا الرسل تقديره ظن الرسل أي: تيقنوا أو ظنوا الظن الذي هو حسبان. ومعنى كذبوا: تلقوا بالتكذيب، كقولهم جبنته خطأته، وتكذيبهم إياهم يكون بأن يلقوا بذلك كقولهم له (وأن نظنك لمن الكاذبين) أو بما يدل عليه، وإن خالفه في اللفظ. ومن حجة
[ 466 ]
التثقيل قوله: (فقد كذبت رسل من قبلك)، وقوله: (ألا كذب الرسل). وأما من خفف فقال: (كذبوا) فهو من قولهم كذبتك الحديث أي: لم أصدقك. وفي التنزيل: (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) وقياسه إذا اعتبر الخلاف أن يتعدى إلى مفعولين، كما تعدى (صدق) في قوله (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) وقال الأعشى. فصدقته، وكذبته، والمرء ينفعه كذابه قال سيبويه: كذب يكذب كذبا، وقالوا: كذابا، فجاؤوا به على فعال. وقد خففه الأعشى، وقال ذو الرمة: وقد حلفت بالله مية ما الذي أقول لها إلا الذي أنا كاذبه (1) والضمير الذي في قوله وظنوا أنهم كذبوا للمرسل إليهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به، من أنهم إن لم يؤمنوا أنزل بهم العذاب، وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوه من إمهال الله إياهم، وإملائه لهم. فإن قلت: كيف يجوز أن يحمل الضمير في (ظنوا) على أنه للمرسل إليهم الرسل، والذين قد تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم ؟ قيل: إن ذلك لا يمتنع لأن ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم لمقاربة أحد الإسمين الآخر، ولما في لفظ الرسل من الدلالة على المرسل إليهم، وقد قال الشاعر: أمنك البرق أرقبه فهاجا فبت أخاله دهما خلاجا أي: بت أخال الرعد صوت دهم، فأضمر الرعد، ولم يجر له ذكر، لدلالة البرق عليه، لمقاربة لفظ كل واحد منهما للآخر. وفي التنزيل (سرابيل تقيكم الحر) واستغنى عن ذكر البرد، لدلالة الحر عليه. وإن شئت قلت: إن ذكرهم قد جرى في قوله (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي رسل الله، فإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله سبحانه أممهم على لسانهم قد كذبوا به، فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله تعالى، وكذلك من (1) مية: اسم امرأة و (ما) نافية أي: ليس الذي أقول إلا كذبا. (*)
[ 467 ]
زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، فظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد. حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير في قوله (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) قال: إن الرسل يئسوا من قومهم أن يؤمنوا، وإن قومهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما قالوا لهم أتاهم نصر الله عند ذلك. وأما قوله (فننجي من نشاء) فإن ننجي حكاية للحال لأن القصة مما قد مضى، وإنما حكى فعل الحال كما كانت عليه، كما أن قوله (وإن ربك ليحكم بينهم) حكاية للحال الكائنة، وكما أن قوله (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) فلولا حكاية الحال، لم يعمل إسم الفاعل، لأنه إذا مضى إختص، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه الفعل. ألا ترى أن الفعل لا يكون معهودا، فكما أن اسم الفاعل إذا وصف أو حقر، لم يعمل عمل الفعل لزوال شبه الفعل عنه بالاختصاص الذي يحدثه فيه التحقير والوصف، كذلك إذا كان ماضيا. وأما النون الثانية من (ننجي) فهي مخفاة مع الجيم، وكذلك النون مع سائر حروف الفم، لا تكون إلا مخفاة. قال أبو عثمان: تبيينها معها لحن، وللنون مع الحروف ثلاث أحوال: الإدغام، والإخفاء، والبيان. وإنما تدغم إذا كانت مع مقاربها كما يدغم سائر المقاربة فيما يقاربه. والإخفاء، فيها مع حروف الفم التي لا تقاربها. والبيان فيها مع حروف الحلق. فأما حذف النون الثانية من الخط، فيشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه، ألا ترى أنهم كتبوا مثل: العليا والدنيا، ويحيا، ونحو ذلك بالألف، فلولا اجتماعها مع الياء، لكتبت بالياء، كما كتبت، حبلى، ويخشى، وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء، فكأنهم لما كرهوا اجتماع المثلين في الخط، حذفوا النون. وقوى ذلك أنه لا يجوز فيها إلا الإخفاء، ولا يجوز فيها البيان، فأشبه بذلك الإدغام، لأن الإخفاء لا يبين فيه الحرف المخفي، كما أن الإدغام لا يبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام. فلما وافق النون المدغم في هذا الوجه، استجيز حذفه من الخط. ومن ذهب إلى أن النون الثانية مدغمة في الجيم، فقد غلط، لأنها ليست مثل الجيم، ولا مقاربة لها. وإذا خلا الحرف من هذين الوجهين، لم يدغم فيما اجتمع معه. ومن قرأ (فنجي) فإنه أتى على لفظ الماضي، لأن القصة ماضية، ويقوي ذلك أنه عطف عليه فعل
[ 468 ]
مسند إلى المفعول به، وهو قوله (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) ولو كان (ننجي) مسندا إلى الفاعل، كقول من خالفه، لكان لا نرد بأسنا، أشبه، ليكون مثل المعطوف عليه. ومن قرأ (تصديق الذي بين يديه) وما بعده بالرفع فيكون التقدير لكن هو تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شئ. فحذف المبتدأ وبقي الخبر. اللغة: استيأس: بمعنى يئس، كأنه طلب اليأس لعلمه بامتناع الأمر. والبأس: الشدة وهو شدة الأمر على النفس ومنه البؤس: الفقر. ومنه: لا بأس عليك. والقصص: الخبر يتلو بعضه بعضا من أخبار من تقدم. والعبرة: الدلالة التي تعبر إلى البغية. والألباب: العقول، واحدها لب، وإنما سمي بذلك لأنه أنفس شئ في الإنسان. ولب كل شئ: خياره. المعنى: ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حال الرسل مع أممهم، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (حتى إذا استيأس الرسل) وهاهنا حذف يدل الكلام عليه، وتقديره: إنا أخرنا العقاب عن الأمم السالفة المكذبة لرسلنا، كما أخرناه عن أمتك يا محمد، حتى إذا بلغوا إلى حالة يأس الرسل عن إيمانهم، وتحقق يأسهم باخبار الله تعالى إياهم (وظنوا أنهم قد كذبوا) أي: تيقن الرسل أن قومهم كذبوهم تكذيبا عاما، حتى إنه لا يصلح وأحد منهم، عن عائشة، والحسن، وقتادة، وأبي علي الجبائي. ومن خفف فمعناه ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم من نصر الله إياهم، وإهلاك أعدائهم، عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد، والضحاك، وأبي مسلم. وقيل: يجوز أن يكون الضمير في (ظنوا) راجعا إلى الرسل أيضا، ويكون معناه: وعلم الرسل أن الذين وعدوهم الإيمان من قومهم، أخلفوهم، أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان. وروي أن سعيد بن جبير، والضحاك اجتمعا في دعوة، فسئل سعيد بن جبير في هذه الآية كيف يقرأها، فقال: وظنوا أنهم قد كذبوا بالتخفيف، بمعنى وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم. فقال الضحاك: ما رأيت كاليوم قط، لو رحلت في هذه إلى اليمن، لكان قليلا. وروي أن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: كانوا بشرا، فضعفوا ويئسوا، وظنوا أنهم قد أخلفوا، ثم تلا قوله تعالى (حتى يقول المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم. فقال الضحاك: ما رأيت كاليوم قط، لو رحلت في هذه إلى اليمن، لكان قليلا. وروي أن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: كانوا بشرا، فضعفوا ويئسوا، وظنوا أنهم قد أخلفوا، ثم تلا قوله تعالى (حتى يقول الرسول) (والذين آمنوا معه متى نصر الله) الآية. وهذا بعيد. وقد بينا ما فيه.
[ 469 ]
(جاءهم) أي: جاء الرسل (نصرنا) حين يئسوا بإرسال العذاب على الكفار (فنجي من نشاء) أي: نخلص من نشاء من العذاب عند نزوله، وهم المؤمنون (ولا يرد بأسنا) أي: عذابنا (عن القوم المجرمين) أي: المشركين (لقد كان في قصصهم) أي: في قصص يوسف واخوته (عبرة) أي: فكرة وبصيرة من الجهل، وموعظة. وهو ما أصابه عليه السلام من ملك مصر، والجمع بينه وبين أبويه واخوته بعد إلقائه في الجب، وبيعه وحبسه. وقيل: في قصصهم عبرة لأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ كتابا، ولا سمع حديثا، ولا خالط أهله، ثم حدثهم به في حسن معانيه، وبراعة ألفاظه ومبانيه، بحيث لم يرد عليه أحد من ذلك شيئا. فهذا من أدل الدلائل على صدقه وصحة نبوته (لأولي الألباب) أي: لذوي العقول (ما كان حديثا يفترى) أي: ما كان ما أداه محمد، أو أنزل عليه، حديثا يختلق كذبا (ولكن تصديق الذي بين يديه)، أي: ولكن كان تصديق الكتب الذي بين يديه، لأنه جاء كما بشر به في الكتب، عن الحسن، وقتادة (وتفصيل كل شئ) أي: وبيان كل شئ يحتاج إليه من الحلال والحرام، وشرائع الإسلام (وهدى) أي ودلالة (ورحمة) أي: ونعمة ينتفع بها المؤمنون، علما وعملا (لقوم يؤمنون) إنما خصهم بذلك لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، وبالله التوفيق والعصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. تم الجزء الخامس من كتاب مجمع البيان في علوم القرآن