تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 6

[ 1 ]
مجمع البيان 6
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء السادس منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب: 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه‍ - 1995 م مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: PUBLISHED BY بيروت - شارع المطار - قرب كلية الهندسة. Al Alami Library ملك الاعلمي - ص. ب: 7120 BEIRUT - LEBANON الهاتف: 833447 - 7120 833453 P. O. BOX
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم 13 - سورة الرعد مدنية و آياتها ثلاث واربعون مكية كلها عن ابن عباس، وعطاء. وقال الكلبي، ومقاتل: مكية إلا آخر آية منها نزلت في عبد الله بن سلام. وقال سعيد بن جبير، كيف تكون هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام والسورة كلها مكية ؟ وقال الحسن، وعكرمة، وقتادة: إنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * وما بعدها. عدد آيها: أربعون وسبع آيات، شامي. وخمسن بصري. أربع حجازي. ثلاث كوفي. اختلافها: خمس آيات: * (لفي خلق جديد) * * (الظلمات والنور) * غير كوفي * (الاعمى والبصير) * و * (سوء الحساب) * شامي * (من كل باب) * عراقي شامي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ سورة الرعد، أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل سحاب مضى، وكل سحاب يكون، إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله تعالى. وقال أبو عبد الله عليه السلام: من أكثر قراءة الرعد لم يصبه الله بصاعقة أبدا وإن كان مؤمنا أدخل الجنة بغير حساب وشفع في جميع من يعرفه من أهل بيته واخوانه. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة يوسف بذكر قصص الأنبياء افتتح هذه السورة بأن جميع ذلك آيات الكتاب، وأن الذي أنزله هو الحق تعالى فقال: بسم الله الرحمن الرحيم * (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1) الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش
[ 6 ]
وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الأيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2)) *. ولم يعد أحد * (المر) * آية. وعد الكوفيون * (طه وحم) * آية، لأن * (طه) * مشاكلة لرؤوس الآي التي بعدها بالألف، مع أنه لا يشبه الإسم المفرد، كما أشبه صاد وقاف ونون، لأنها بمنزلة باب ونوح. اللغة: العمد، والعمد، جميعا بمعنى واحد، وهما: جمع عمود وعماد، إلا ان عمدا جمع عمود، وعماد وعمدا اسم للجمع. ومثله: اديم وأدم، واهاب وأهب، وافيق وأفق. الاعراب: الذي أنزل: يجوز أن يكون موضعه رفعا على الإبتداء، ويجوز أن يكون موضعه (1) بالعطف على آيات الكتاب، ويكون * (الحق) * مرفوعا على اضمار هو. ويجوز ان يكون في موضع جر بالعطف على * (الكتاب) * وتقديره: تلك آيات الكتاب، وآيات الذي أنزل اليك من ربك. ويكون * (الحق) * مرفوعا على الإضمار. ويجوز أن يكون * (الحق) * مجرورا صفة للذي إذا جعلته عطفا على الكتاب، ولكنه لم يقرأ به أحد من القراء. المعنى: * (المر) * قد فسرناه في أول البقرة، وبينا ما قيل فيه، وروي ان معناه أنا الله أعلم وأرى. * (تلك آيات الكتاب) * أي: هذه السورة هي آيات الكتاب التي تقدم الوعد بها، ليست بمفتريات، ولا بسحر، و * (الكتاب) *: القرآن، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: ان الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل، عن مجاهد، وقتادة، ويكون تقديره تلك الأخبار التي قصصتها عليك آيات التوراة والإنجيل، والكتب المتقدمة. والآيات: الدلالات العجيبة المؤدية إلى المعرفة بالله سبحانه، وانه لا يشبه الأشياء، ولا تشبهه * (والذي أنزل اليك من ربك الحق) * يعني وهذا القرآن الذي أنزل اليك من ربك هو الحق، فاعتصم بالله وعمل بما فيه. وعلى القول الأول فإنه وصف القرآن بصفتين، إحداهما بأنه كتاب، والأخرى بأنه منزل. * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *: أي: لا يصدقون بأنه منزل، وانه حق مع وضوحه (1) رفعا. (*)
[ 7 ]
* (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) * لما ذكر الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، عرف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق، ويريد بالعمد: السواري والدعائم. وقيل فيه قولان: أحدهما: إن المراد رفع السماوات بغير عمد، وأنتم ترونها كذلك، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، والجبائي، وأبي مسلم. وهو الأصح. قال ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة يدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها. قال الزجاج: وفي ذلك من القدر والدلالة ما لا شئ أوضح منه، لأن السماء محيطة الأرض، متبرية منها بغير عمد والآخر: أن يكون * (ترونها) * من نعت العمد، فيكون المعنى بغير عمد مرئية. فعلى هذا تعمدها قدرة الله، عز وجل، وروي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد * (ثم استوى على العرش) * قد مضى تفسيره. وإذا حملنا الإستواء على معنى الملك والإقتدار، فالوجه في ادخال * (ثم) * فيه، ولم يزل سبحانه كذلك، أن المراد اقتداره على تصريفه وتقليبه. وإذا كان كذلك، فلا يكاد القديم سبحانه يوصف به إلا وقد وجد نفس العرش * (وسخر الشمس والقمر) * أي: ذللهما لمنافع خلقه، ومصالح عباده. * (كل يجري لأجل مسمى) * أي: كل واحد منهما يجري إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي تكور عندها الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، عن الحسن. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى: درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها، ولا يجاوزانها، وللشمس مائة وثمانون منزلا، تنزل كل يوم منزلا، حتى تنتهي إلى آخر المنازل، فلا تجاوزه، وترجع إلى أول المنازل، وينزل القمر كل ليلة منزلا حتى ينتهي إلي آخر منازله * (يدبر الأمر) * أي: يدبر الله كل أمر من أمور السماوات والأرض، وأمور الخلق على وجه توجبه الحكمة، و تقتضيه المصلحة. * (يفصل الآيات) * أي: يأتي بآية في أثر آية، فصلا فصلا، مميزا بعضها عن بعض، ليكون أمكن للإعتبار والتفكر. وقيل: معناه يبين الدلائل بما يحدثه في السماوات والأرض * (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) * أي: لكي توقنوا بالبعث والنشور، وتعلموا أن القادر على هذه الأشياء قادر على البعث بعد الموت. وفي هذا دلالة على وجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، وعلى بطلان التقليد، ولولا ذلك لم يكن لتفصيل الآيات معنى. * (وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها
[ 8 ]
زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن في ذالك لأيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقاى بماء واحد. ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذالك لأيات لقوم يعقلون (4)) *. القراءة: قد ذكرنا الإختلاف في قوله * (يغشي الليل النهار) * في سورة الأعراف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، ويعقوب، وحفص: * (وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) * جميعها بالرفع. والباقون: بالجر في الجميع. وقرأ حفص: * (صنوان) * بضم الصاد، وكذلك رواية الحلواني عن القواس. وقرأ الباقون بكسر الصاد. وفي الشواذ قراءة الحسن، وقتادة: * (صنوان) *. وقرأ * (يسقى) * بالياء: ابن عامر، وزيد، ورويس، عن يعقوب. وقرأ الباقون * (تسقى) * بالتاء. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم، وروح، عن يعقوب: * (ويفضل) * بالياء. والباقون بالنون. الحجة: قال أبو علي: من رفع قوله: * (وزرع) *: فتقديره: وفي الأرض زرع ونخيل صنوان، فجعله محمولا على قوله: * (وفي الأرض قطع) *، ولم يجعله محمولا على ما في الجنات من الأعناب والجنة، على هذا تقع على الأرض التي فيها الأعناب دون غيرها، كما تقع على الأرض التي فيها الأعناب والنخيل، دون غيرهما، ويقوي ذلك قول زهير: كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا (1) فالمعنى تسقي نخيل جنة. فأما من قرأ بالجر فإنه حمل النخيل والزرع على الأعناب، فكأنه قال جنات من أعناب من زرع ونخيل. والدليل على ان الأرض إذا كان فيها النخل والكرم والزرع سميت جنة قوله * (جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا) *. فكما سميت الأرض ذات العنب والنخل والزرع جنة، كذلك يكون النخيل والزرع محمولين على الأعناب، فتكون الجنة من هذه الأشياء. ويقوي ذلك قوله: (1) الغرب: الدلو العظيمة. والناضحة: الناقة التى تسقي الماء. والمقتلة: المذللة لعمل من الأعمال. والسحق جمع السحوق: النخلة الطويلة (*).
[ 9 ]
أقبل سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغله (1) والغلة: إنما هي ما يكال بالقفيز في أكثر الأمر، قال: والصنوان فيما يذهب إليه أبو عبيدة: صفة للنخيل، والمعنى: ان يكون من أصل واحد، ثم يتشعب من الرؤوس، فيصير نخلا ونخلين قال: وقال * (يسقى بماء واحد) *، لأنها تشرب من أصل واحد. * (ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * وهي التمر. وأجاز غيره ان يكون الصنوان من صفة الجنات، وكأنه يكون يراد به في المعنى ما في الجنات، وإن جرى على لفظ الجنات. وعلى هذا يجوز أن ترفع، وإن جررت النخيل لأن الجنات مرفوعة، ولم يحك هذا في قراءة السبعة. وأما الكسرة التي في * (صنوان) * فليست التي كانت في صنو، كما ان الكسرة التي في قنوليست في قنوان، لأن تلك قد حذفت في التكسير وعاقبتها الكسرة التي يجتلبها التكسير، وكذلك الكسرة التي في هجان، وانت تريد الجمع، ليست الكسرة التي كانت في الواحد، ولكنه مثل الكسرة التي في ظراف إذا جمعت عليه ظريفا. وأما من ضم الصاد من * (صنوان) * فإنه جعله مثل ذئب وذؤبان، وربما تعاقب فعلان وفعلان على البناء الواحد نحو حش وحشان وحشان. وأما * (صنوان) * بفتح الصاد فليست من أمثلة الجمع المكسر، فإن صح ذلك فإنه يكون اسما للجمع، لا مثالا له من أمثلة التكسير، فيكون بمنزلة الجامل والسامر، ومثله قولهم السعدان والضمران في الجمع. ومن قرأ * (تسقى) * بالتاء فالمراد تسقى هذه الأشياء. ومن قرأ بالياء حمله على الزرع وحده المعنى: لما ذكر سبحانه وتعالى في الآية من نعمائه وآلائه على عباده في رفع السماوات، وتسخير الشمس والقمر، ودل بذلك على وحدانيته، عقبه بذكر الأرض وما فيها من الآيات، فقال * (وهو الذي مد الأرض) * أي: بسطها طولا وعرضا، ليتمكن الحيوانات من الثبات فيها، والإستقرار عليها * (وجعل فيها رواسي) * أي جبالا ثوابت لتمسك الأرض. ولو أراد أن يمسكها من غير جبال لفعل، إلا أنه أمسكها بالرواسي، لأن ذلك أقرب إلى أفهام ألناس، وأدعى لهم إلى الإستدلال والنظر * (وأنهارا) * أي: وشق فيها أنهارا تجري فيها المياه. ولولا الأنهار لضاع أكثر (1) قائله. الراجز وفي (اللسان): يريد: يقصد قصدها. (*)
[ 10 ]
المياه. ولما أمكن الشرب والسقي * (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) * أي: وجعل في الأرض من كل الثمرات لمأكولهم ومطعومهم صنفين: اسود ابيض، وحلوا وحامضا، وصيفيا وشتويا، ورطبا ويابسا، عن ابن عباس. وقيل: الزوج قد يكون واحدا، وقد يكون اثنين، يقال: زوج نعل، وزوج نعلين، عن أبي عبيدة. وإنما قال اثنين للتأكيد. والزوج في الحيوانات عبارة عن الذكر والانثى، وفي الثمار عبارة عن لونين. وقال الماوردي: واحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها، وكذلك كل جنس من النبات، وإن خفي الزوج الآخر حلو وحامض، أو عذب ومالح، أو أبيض واسود، أو أحمر واصفر، فإن كل جنس من النبات ذو نوعين، فصارت كل ثمرة زوجين هما أربعة أنواع * (يغشي الليل النهار) * أي: يلبس ظلمة الليل وضياء النهار، عن الحسن. وقيل: يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل، عن ابن عباس. وقيل: معناه يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار، ويسترة. ليسكن الحيوانات فيه، ويأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل، وينصرف الناس فيه لمعايشهم * (إن في ذلك) * أي: فيما سبق ذكره * (لآيات) * أي: لدلالات واضحات على وحدانية الله تعالى * (لقوم يتفكرون) * فيها، فيستدلون منها على أن لهم صانعا. * (وفي الأرض قطع متجاورات) * أي: أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل، منها جبل صلب ولا ينبت شيئا. ومنها سهل حر، ينبته. ومنها سبخة لا تنبت، عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. بين الله سبحانه باختلاف هذ ه الارضين، مع تجاورها، وتقارب بعضها من بعض في الهيئة والمنظر، أنه قادر على كل شئ من الأصناف المختلفة، والمؤتلفة وقيل: انها متجاورات، بعضها عامر، وبعضها غير عامر، عن الزجاج * (وجنات) * أي: بساتين * (من أعناب وزرع ونخيل صنوان) * أي: نخلات من أصل واحد. * (وغير صنوان) * أي: نخلات من أصول شتى، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والصنو: الأصل، يقال: هذا صنوه أي: أصله عن ابن الأنباري. وقيل: ان الصنوان النخلة تكون حولها النخلات، وغير صنوان: النخل المتفرق، عن البراء بن عازب، وسعيد، بن جبير. وقيل: الصنو المثل، والصنوان الأمثال. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) عن الجبائي * (يسقى بماء واحد) * أي: يسقى ما
[ 11 ]
ذكرناه من القطع المتجاورة والجنات والنخيل المختلفة بماء الأنهار، أو بماء السماء * (ويفضل بعضها على بعض في الاكل) * أي: ويفضل الله. ومن قرأ بالنون: فالمعنى نفضل نحن بعضها على بعض في الطعم واللون والطبع، مع أن البئر واحدة، والشرب واحد، والجنس واحد، حتى يكون بعضها حامضا، وبعضها حلوا، وبعضها مرا، فلو كانت بالطبع لما اختلف ألوانها وطعومها، مع كون الأرض والماء والهواء واحدا. وفي هذا أوضح دلالة على أن لهذه الأشياء صانعا قادرا، أحدثها وأبدعها ودبرها على ما تقتضيه حكمته. والاكل: الثمر الذي يؤكل * (إن في ذلك) * أي: في اختلاف ألوانها وطعومها، عن ابن عباس. وقيل: ان فيما تقدم ذكره * (لآيات) * أي: حججا ودلالات * (لقوم يعقلون) * دلائل الله تعالى، ويتفكرون فيها، ويستدلون بها، وروي عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: الناس من شجر شتى، وانا وانت من شجرة واحدة ثم قرأ * (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب) * الآية. * (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولائك الأغلال في أعناقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون (5) ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6) ويقول الذين كفروا لولآ أنزل عليه ءاية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7). القراءة: قرأ أبو جعفر: * (إذا كنا) * بغير استفهام * (إنا) * بهمزة واحدة مطولة، وكذلك يفعل بكل استفهامين يجتمعان في القرآن، يستفهم بالثاني، ولا يستفهم بالأول إلا في سورة الصافات، والواقعة. واما نافع ويعقوب وسهل فإنهم يستفهمون بالأول بهمزة واحدة غير مطولة، ولا يستفهمون بالثاني إلا في سورة النمل والعنكبوت، إلا ان قالون عن نافع، وزيدا عن يعقوب يمدان الهمزة مثل أبي جعفر
[ 12 ]
والكسائي أيضا، يستفهم بالأول، ولا يستفهم بالثاني، إلا في سورة النمل، غير أنه يهمز بهمزتين، وابن عامر مثل أبي جعفر، لا يستفهم في * (إذا) * كل القرآن، إلا في سورة الواقعة، فإنه يستفهم في * (أئذا وأئنا) * جميعا بهمزتين همزتين بينهما مد * (آإنا) * يهمز ثم يمد، ثم يهمز على وزن عاعنا، ولا يجمع بين استفهامين إلا هاهنا، وفي سورة النمل يستفهم * (أإذ) * بهمزتين * (أئننا) * بنونين، والكسائي مثله في هذا الموضع. وأبو عمرو يستفهم فيهما جميعا، وفي جميع أشباههما بهمزة واحدة مطولة. وابن كثير يستفهم فيهما جميعا بهمزة واحدة غير مطولة. وعاصم، وحمزة، وخلف يستفهمون فيهما بهمزتين همزتين، كل القرآن. وخالف أبن كثير، وحفص عن عاصم، في حرف واحد في العنكبوت. وسنذكره هناك إن شاء الله. الحجة: قال أبو علي: من استفهم في الجملتين، فموضع * (إذا) * نصب بفعل مضمر يدل على قوله * (أإنا لفي خلق جديد) * لأن هذا الكلام يدل على نبعث ونحشر، فكأنه قال أنبعث إذا كنا ترابا. ومن لم يدخل الإستفهام في الجملة الثانية كان موضع إذا أيضا نصبا بما دل عليه قوله * (أإنا لفي خلق جديد) * فكأنه قال: أنبعث إذا كنا ترابا. وما بعد أن في * (انه) * لا يجوز أن يعمل فيما قبله بمنزلة الإستفهام، فكما قدرت هذا الناصب لإذا مع الإستفهام لأن الإستفهام لا يعل فيما قبله، كذلك تقدره في ان لأن ما بعدها أيضا لا يعمل فيما قبلها. ومن قرأ * (إذا كنا) * من غير استفهام * (أئنا) * ينبغي ان يكون على مضمر، كما حمل من تقدم على ذلك، لأن ما بعد الإستفهام منقطع مما قبله. اللغة: العجب، والتعجب: هجوم ما لا يعرف سببه على النفس. والغل طوق تشد به اليد إلى العنق، والإستعجال: طلب التعجيل بالأمر. والتعجيل: تقديم الأمر قبل وقته. والسيئة: خصلة تسوء النفس، ونقيضها الحسنة: وهي خصلة تسر النفس، والمثلات: العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم وضم الثاء، ومن قال في الواحد مثلة بضم الميم وسكون الثاء قال في الجمع مثلات بضمتين، نحو غرفة وغرفات. وقيل في جصها مثلات ومثلات أيضا، قال الشاعر: ولما رأونا باديا ركباتنا على موطن لا يخلط الجد بالهزل رووه بفتح الكاف في ركبات.
[ 13 ]
المعنى: لما تقدم ذكر الأدلة على انه سبحانه قادر على الإنشاء والإعادة، عقبه بالتعجب من تكذيبهم بالبعث والنشور، فقال * (وإن تعجب) * يا محمد من قول هؤلاء الكفار في انكارهم البعث، مع اقرارهم بابتداء خلق الخلق، فقد وضعت التعجب موضعه، لأن هذا قول عجب، ومعناه عجب للمخلوقين. فإن معنى العجب في صفات الله لا يجوز، لأن العجب ان يشتبه عليه سر أمره فيستطرفه * (فعجب قولهم) * أي: فقولهم عجب * (أإذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) * أي: أنبعث و نعاد بعدما صرنا ترابا هذا مما لا يمكن ! وهذا منهم نهاية في الأعجوبة فإن الماء إذا حصل في الرحم استحال علقة، ثم مضغة، ثم لحما، فإذا مات ودفن استحال ترابا. فإذا جاز ان يتعلق الإنشاء بالإستحالة الأولى، فلم لا يجوز تعلقه بالإستحالة الثانية، وسمى الله تعالى الإعادة خلقا جديدا. واختلف المتكلمون فيما يصح عليه الإعادة، فقال بعضهم: كلما يكون مقدورا للقديم سبحانه خاصة، ويصح عليه البقاء يصح عليه الإعادة، ولا يصح الإعادة على ما لا يقدر على جنسه غيره تعالى، وهذا قول أبي علي الجبائي. وقال آخرون: كلما كان مقدوا له، وهو مما يبقى يصح عليه الإعادة، وهو قول أبي هاشم، ومن تابعه. فعلى هذا يصح إعادة أجزاء الحياة. ثم اختلفوا فيما يجب إعادته من الحي، فقال أبو القاسم البلخي: يعاد جميع اجزاء الشخص. وقال أبو هاشم: يعاد الأجزاء التي بها يتميز لحي من غيره، ويعاد التأليف، ثم رجع عن ذلك، وقال: تعاد الحياة مع البنية. وقال القاضي أبو الحسن: تعاد البنية وما عدا ذلك يجوز فيه التبديل، وهذا هو الأصح * (أولئك) * المنكرون للبعث * (الذين كفروا بربهم) * أي: جحدوا قدرة الله تعالى على البعث * (وأولئك الأغلال في أعناقهم) * في الآخرة. وقيل: أراد به أغلال الكفر أي: كفرهم اغلال في اعناقهم * (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * مضى تفسيره * (ويستعجلونك) * أي: يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون * (بالسيئة قبل الحسنة) * أي: بالعذاب قبل الرحمة، عن ابن عباس، ومجاهد، أي: بالعقاب الذي توعدوا به على التكذيب قبل الثواب الذي وعدوا به على الإيمان، وذلك حين قالوا * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * وقيل: يستعجلونك بالعذاب الذي توعدهم به قبل الإحسان بالإنظار، فإن إنظار من وجب عليه العقاب، إحسان إليه كإنذار من وجب عليه
[ 14 ]
الدين، وسماها سيئة لأنها جزاء السيئة * (وقد خلت من قبلهم) * أي: مضت من قبلهم * (المثلات) * أي: العقوبات التي يقع بها الإعتبار وهو ما حل بهم من المسخ والخسف والغرق، وقد سلك هؤلاء طريقتهم فكيف يتجاسرون على استعجالها. وقيل: هي العقوبة الفاضحة التي تسير بها الأمثال، وتقديره وقد خلت المثلات بأقوام، أو خلا اصحاب المثلات، فحذف المضاف * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * قال المرتضى (ره): في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنه سبحانه دلنا على انه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأن قوله * (على ظلمهم) * اشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أود فلانا على غدره، وأصله على هجر ه. * (وان ربك شديد العقاب) * لمن استحقه. وروي عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا عفو الله وتجاوزه، ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيد الله وعقابه، لاتكل كل واحد. وتلا مطرف يوما هذه الآية، فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة الله، وعفو الله، وتجاوز الله، لقرت اعينهم، ولو يعلم الناس قدر عذاب الله، وبأس الله، ونكال الله، ونقمة الله، ما رقأ لهم دمع، ولا قرت اعينهم بشئ * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) * مثل الناقة والعصا، عن ابن عباس. وقال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي اتى بها، فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فأعلم الله أن لكل قوم هاد، والمعنى انه سبحانه بين سوء طريقتهم في اقتراح الآيات، كما في قوله * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * إلى قوله * (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) *. وكما قالوا: اجعل الصفا لنا ذهبا حتى نأخذ منه ما نشاء، وإنما لم يظهر الله تعالى تلك الآيات، لأنه لو اجاب أولئك، لاقترح قوم آخرون آية اخرى، وكذلك كل كافر، فكان يؤدي إلى غير نهاية. * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) * فيه أقوال أحدها: ان معناه إنما انت منذر أي: مخوف، وهاد لكل قوم، وليس إليك انزال الآيات، عن الحسن، وأبي الضحى، وعكرمة، والجبائي. وعلى هذا فيكون * (انت) * مبتدأ، * (ومنذر) * خبره، و * (هاد) * عطف على منذر. وفصل بين الواو والمعطوف بالظرف، والثاني: ان منذر هو محمد، والهادي هو الله تعالى، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومجاهد. والثالث: ان معناه إنما أنت منذر يا محمد، ولكل قوم هاد نبي يهديهم
[ 15 ]
وداع يرشدهم، عن ابن عباس في رواية اخرى، وقتادة، والزجاج، وابن زيد والرابع: ان المراد بالهادي كل داع إلى الحق. وفي رواية اخرى عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية قال رسول الله: * (انا المنذر وعلي الهادي من بعدي، يا علي ! بك يهتدي المهتدون). وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني، في كتاب شواهد التنزيل، بالإسناد عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه عن حكم بن جبير، عن أبي بردة الأسلمي، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطهور، وعنده علي بن أبي طالب، فأخذ رسول الله بيد علي بعد ما تطهر، فألزمها بصدره، ثم قال: إنما أنت منذر، ثم ردها إلى صدر علي، ثم قال: ولكل قوم هاد، ثم قال: (إنك منارة الأنام، وغاية الهدى، وامير القرى، واشهد على ذلك انك كذلك). وعلى هذه الأقوال الثلاثة، يكون * (هاد) * مبتدأ * (ولكل قوم) * خبره على قول سيبويه، ويكون مرتفعا بالظرف على قول الأخفش. * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9) سوآء منكم من أسر القول ومن جهربه ومن هو مستخفب اليل وسارب بالنهار (10) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء افلا مرد له ومالهم من دونه من وال (11)) *. القراءة: في الشواذ قراءة أبي البرهسم (1) * (له معاقيب من بين يديه ورقباء من خلفه يحفظونه بأمر الله) *. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: * (له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله) *. وروي عن علي عليه السلام، وابن عباس، وعكرمة، وزيد بن علي: * (يحفظونه بأمر الله) *. الحجة: يجب أن يكون * (معاقيب) * تكسير معقبة، غير انه لما حذف أحد (1) أبي البرهسم كسفرجل هو عنوان بن عثمان الزبيدي الشامي، صاحب القراآت الشاذة كما عن (القاموس).
[ 16 ]
القافين، عوض منها الياء. وقوله * (يحفظونه بأمرالله) * فمعناه: يحفظونه مما يحاذرة بأمر الله، والمفعول هنا محذوف. قال ابن جني: وأما قراءة الجماعة * (يحفظونه من أمر الله) * فتقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه مما يخافه. فمن على هذا مرفوعة الموضع، لأنها صفة للمرفوع الذي هو * (معقبات) *، وليس هذا على معنى يحفظونه من أمر الله أن ينزل به، لأنه لو كان كذلك، لكانت منصوبه الموضع، كقولك حفظت زيدا من الأسد، والذي ذكرته رأي أبي الحسن. فإن قلت: فهلا كان تقديره على يحفظونه من أمر الله بأمر الله، ويستدل على ارادة الباء هنا بقراءة علي عليه السلام يحفظونه بأمر الله، وجاز ان يكون يحفظونه بأمر الله، لأن هذه المصائب كلها في علم الله، وبإقداره فاعليها عليها، فيكون هذا كقولك: هربت من قضاء الله بقضاء الله وقيل: تأويل أبي الحسن أذهب في الإعتداد عليهم، وذلك لأنه سبحانه وكل بهم من يحفظهم من حوادث الدهر، ومخاوفه التى لا يعتد عليهم بتسليطها عليهم، فهذا أسهل طريقا، وأرسخ في الإعتداد بالنعمة عليهم، عرفا. اللغة: الغيض: ذهاب المائع في جهة العمق. وغاضت المياه: نقصت. وغيضته: نقصته، قال: غيضن من عبراتهن، وقلن لي ماذا لقيت من الهوى، ولقينا المتعالي والعالي واحد. وتعالى أي: جل عن كل ثناء. وقيل: المتعالي المقتدر على وجه يستحيل ان يساويه غير ه. والسارب: الساري الجاري بسرعة. والسرب بفتح السين والراء: الماء السائل من المزادة. قال ذو الرمة: ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب (1) وقيل: السارب الذاهب في الأرض، ومنه قول قيس بن الحطيم (اني سربت، وكنت غير سروب). ويقال خل سربه أي: طريقه. والمعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلا منه. وأصل التعقيب: ان يكون الشئ عقيب آخر. والمعقب: الطالب دينه مرة بعد مرة، قال الشاعر: حتى تهجر في الرواح، وهاجها طلب المعقب حقه المظلوم (1) (1) كلية الاداوة: الرقعة التي تحت عروتها. وجمعها الكلى. والمفرية المنشقة. (2) هذا بيت من قصيدة للبيد بن ربيعة، في وصف حمار وحش واتانه، شبه به ناقته. وتهجر أي: = (*)
[ 17 ]
ومنه العقاب، لأنه يستحق عقيب الجرم، والعقاب، لأنها تعقب الصيد: تطلبه مرة بعد مرة وقيل: إن واحد المعقات معقب، والجمع: معقبة ومعقبات جمع الجمع، كما قالوا رجالات، عن الفراء. الاعراب: * (ما) * في قوله ما تحمل، وما تغيض وما تزداد استفهامية، وموضعها نصب بالفعل الذي بعدها معناه: أي شئ تحمل، والجملة معلقة بيعلم. قال الزجاج: * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) * موضع من رفع بسواء، وكذلك من الثانية يرتفعان جميعا بسواء، لأن سواء يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو في معنى ذو سواء، لأن سواء مصدر، فلا يجوز ان يعرتفع ما بعده إلا على الحذف، تقول: عدل زيد وعمرو، والمعنى: ذو عدل زيد وعمرو، لأن المصادر ليست بأسماء الفاعلين، وإنما ترفع الأسماء أوصافها. فإذا رفعتها المصادر فهي على الحذف، كما قالت الخنساء: ترتع مارتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار (1) أي: ذات اقبال وادبار، وكذلك زيد اقبال وادبار. وهذا مما كثر استعماله أعني سواء، فجرى مجرى اسماء الفاعلين. ويجوز ان يرتفع على أن يكون في موضع مستوى، الا ان سيبويه يستقبح ذلك لا يجيز مستو زيد وعمرو، لأن اسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها لضعفها عن الفعل، فلا يبتدأ بها، ويجريها مجرى الفعل. المعنى: * (الله يعلم ما تحمل كل انثى) * أي: يعلم ما في بطن كل حامل من ذكر أو أنثى، تام أو غير تام، ويعلم لونه وصفاته * (وما تغيض الأرحام) * أي: يعلم الوقت الذي تنقصه الأرحام من المدة التي هي تسعة اشهر * (وما تزداد) * على ذلك عن اكثر المفسرين. وقال الضحاك: الغيض النقصان من الأجل. والزيادة: ما يزداد = سار في الهاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر. والرواح: من زوال الشمس إلى الليل. وهاجها أي: أثارها وازعجها. يعني هذا الحمار يسوق اتانه أمامه سوقا عنيا، وهو ملازم لها من خلفها، كطالب دين مظلوم. والمظلوم نعت للمعقب ومرفوع باعتبار محله الذي هو الرفع بالفاعلية. (1) مر البيت في الجزء الخامس. (*)
[ 18 ]
على الأجل، وذلك ان النساء لا يلدن لأجل واحد. وقيل: يعني بقوله: * (ما تغيض الأرحام) * الولد الذي تأتي به المرأة لأقل من ستة اشهر، وما تزداد: الولد الذي تاتي به المرأة لأقصى مدة الحمل، عن الحسن. وقيل: معناه ما تنقص الأرحام من دم الحيض، وهو انقطاع الحيض، وما تزداد بدم النفاس بعد الوضع، عن ابن عباس بخلاف، وابن زيد * (وكل شئ) * أي: وكل شئ من الرزق، أو الأجل، أو ما سبق ذكره من الحمل * (عنده بمقدار) * أي: بقدر واحد لا يجاوزه، ولا يقصر عنه، على ما توجبه الحكمة. * (عالم الغيب والشهادة) * أي: عالم بما غاب عن حس العباد، وبما يشاهده العباد لا يغيب عنه شئ. وقيل: عالم بالمعدوم والموجود. والغيب هو المعدوم. وقيل: عالم السر والعلانية، عن الحسن. والأولى أن يحمل على العموم، ويدخل في هاتين الكلمتين كل معلوم. نبه سبحانه بذلك على انه عالم بجميع المعلومات، الموجودات منها، والمعدومات منها * (الكبير) * وهو السيد الملك القادر على جميع الأشياء. وقيل: هو الذي كل شئ دونه، لكمال صفاته، ولكونه عالما لذاته، قادرا لذاته، حيا لذاته. وقيل: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين. * (المتعال) *: وهو الذي علا كل شئ بقدرته، فلا يساويه قادر. وقيل: هو المنزه عما لا يجوز عليه في ذاته وفعله، وعما يقوله المشركون * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) * معناه: سواء عند الله وفي علمه، من أسر القول في نفسه وأخفاه، ومن اعلنه وأبداه، ولم يضمره في نفسه. * (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) * أي: ومن هو مستتر متوار بالليل، ومن هو سالك في سربه أي: في مذهبه، ماض في حوائجه بالنهار، معناه: انه يرى ما أخفته ظلمة الليل، كما يرى ما أظهره ضوء النهار، بخلاف المخلوقين الذين يخفي عليهم الليل أحوال أهله. وقال الحسن: معناه ومن هو مستتر بالليل، ومن هو مستتر بالنهار، وصحح الزجاج هذا القول، لأن العرب تقول: انسرب الوحش إذا دخل في كناسه * (له معقبات) * اختلف في الضمير الذي في * (له) * على وجوه أحدها: انه يعود إلى * (من) * في قوله * (من أسر القول ومن جهر به) * والآخر: انه يعود إلى اسم الله تعالى، وهو عالم الغيب والشهادة وثالثها: انه يعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله * (إنما أنت منذر) *، عن ابن زيد. واختلف في المعقبات على اقوال أحدها: انها الملائكة يتعاقبون، تعقب
[ 19 ]
ملائكة الليل ملائكة النهار، وملائكة النهار ملائكة الليل، وهم الحفظة يحفظون على العبد عمله، عن الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، والجبائي. وقال الحسن: هم اربعة املاك يجتمعون عند صلاة الفجر، وهو معنى قوله: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) *، وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام أيضا، والثاني: انهم ملائكة يحفظونه من المهالك، حتى ينتهوا به إلى المقادير، فيحيلون بينه وبين المقادير، عن علي عليه السلام، وابن عباس. وقيل: هم عشرة املاك على كل آدمي يحفظونه والثالث: انهم الأمراء والملوك في الدنيا، الذين يمنعون إلناس عن المظالم، وتكون لهم الأحراس والشرط والمواكب، يحفظونه، عن عكرمة، والضحاك، وروي أيضا عن ابن عباس، وتقديره: ومن هو سارب بالنهار، له أحراس وأعوان قدر أنهم يحرسونه، ولم يتجه أحراسه من الله. * (من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) * أي: يطوفون به كما يطوف الموكل بالحفطة. وقيل: يحفطون ما تقدم من عمله، وما تأخر، إلى ان يموت، فيكتبونه، عن الحسن. وقيل: يحفطونه من وجوه المهالك والمعاطب، ومن الجن والإنس والهوام. وقال ابن عباس: يحفظونه مما لم يقدر نزوله، فإذا جاء المقدر، بطل الحفظ. وقيل: من أمر الله أي: بأمر الله، عن الحسن، ومجاهد، والجبائي، وروي ذلك عن ابن عباس، وهذا كما يقال هذا الأمر بتدبير فلان، ومن تدبير فلان. وقيل: معناه يحفظونه عن خلق الله، فتكون من بمعنى عن كما في قوله: * (وآمنهم من خوف) * أي: عن خوف، قال كعب: لولا ان الله وكل بكم ملائكة، يذبون عنكم في مطعمكم، ومشربكم، وعوراتكم، لتخطفنكم الجن * (إن الله لا يغير ما بقوم) * من النعمة، * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * من الطاعة، فيعصون ربهم، ويظلم بعضهم بعضا، قال ابن عباس: إذا أنعم الله على قوم، فشكروها، زادهم، وإذا كفروها سلبهم إياها. وإلى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله: (إذا اقبلت عليكم اطراف النعم، فلا تنفروا اقصاها بقلة الشكر). * (وإذا أراد الله بقوم سوءا) * أي: عذابا، وإ نما سماه سوءا لأنه يسوء * (فلا مرد له) * أي: لا مدفع له. وقيل: معناه إذا إراد الله بقوم بلاء من مرض وسقم، فلا مرد لبلائه * (وما لهم من دونه من وال) * يلي أمرهم، ويمنع العذاب عنهم. النظم: اتصلت الآية الأولى بقوله * (وإن تعجب) * الآية. فإنه احتجاج للبعث،
[ 20 ]
والمعنى: ان من الصفة في القدرة والعلم، فإنه يقدر على البعث. وقيل: انها اتصلت بقوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * وقوله: * (لولا أنزل عليه آية من ربه) * يعني: إن من يعلم غوامض الأمور، فهو أعلم بالمصالح، ولو علم الصلاح في انزال العذاب، أو الآية، لفعل، عن البلخي، وأبي مسلم. وقوله: * (له معقبات) * يتصل بقوله: * (وسارب بالنهار) *، عن الجبائي. وقيل: يتصل بقوله * (عالم الغيب والشهادة) * و * (يعلم ما تحمل كل انثى) * أي: كما يعلمهم، جعل عليهم حفظة يحفظونهم. وقيل: يتصل بقوله: * (إنما انت منذر) * يعني انه عليه السلام محفوظ بالملائكة. واتصل قوله: * (إن الله لا يغير ما بقوم) * إلى آخره، بقوله: ويستعجلونك بالعذاب، يعني: انه لا ينزل العذاب إلا بمن يعلم من جهتهم التغير حتى لو علم أن فيهم من يؤمن في المستقبل، أو يعقب مؤمنا، لا ينزل العذاب. وقيل: بل اتصلت بالسارب، بمعنى انه إذا اتى بالمعصية، بطل به حفظه، وحاق به عقابه. وقيل: بل هو على الإطلاق والعموم. * (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13) له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكفرين إلا في ضلال (14) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والأصال (15)) *. القراءة: في الشواذ قراءة الأعرج * (شديد المحال) * بفتح الميم. وقراءة أبي مجلز: * (بالغدو والإيصال) *. الحجة: قال ابن جني: المحال: مفعل من الحيلة، قال أبو زيد: يقال ما له حيلة، ولا محالة، فيكون تقديره: شديد الحيلة. وتفسيره قوله سبحانه: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) * وقوله: * (ومكروا ومكر الله) *. والإيصال: مصدر آصلنا أي: دخلنا في وقت الأصيل، ونحن موصلون.
[ 21 ]
اللغة: يقال اراه: وهو أن يجعله على صفة الرؤية بإظهار المرئي له، أو يجعله على صفة يرى. والسحاب: جمع سحابة، ولذلك قال الثقال. ولو قيل الثقيل لجاز. والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تسقط من السماء، والرعد والبرق ذكرنا معناهما في اول البقرة. والمحال: الأخذ بالعقاب هاهنا فقال ماحله مماحلة ومحالا: إذا قاواه حتى يتبين أيهما أشد، ومحلت به محلا. قال الأعشى: فرع نبع يهتز في غصن المجد غزير الندى، شديد المحال (1) والإستجابة والإجابة بمعنى، غير ان في الإستجابة معنى الطلب، قال: (فلم يستجبه عند ذاك مجيب) (2). والظلال: جمع الظل، وهو ستر الشخص ما بإزائه. والظل الظليل: وهو ستر الشمس اللازم. وأما الفئ فهو الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، ومنه الظلة لسترها. والآصال: جمع أصل. وأصل: جمع أصيل، فهو جمع الجمع، مأخوذ من الأصل، فكأنه اصل الليل الذي ينشأ منه: وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس، وقد يقال في جمعه اصائل. قال أبو ذؤيب: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل الاعراب: خوفا وطمعا لا ينتصبان على الغرض، لأن ما ينتصب لذلك يجب ان يكون فاعله وفاعل الفعل الأول واحدا. وهاهنا الخائف والطامع ليسا بالذي يرى البرق، وهما في قوله * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * ينتصبان على الغرض، لأن الخائف والطامع هناك هو الداعي فاعلمه فإنه جيد مفيد. والمعنى هاهنا: يخوفكم بما يريكم خوفا، ويطمعكم طمعا. فالمصدر وقع موقع الحال. * (وهم يجادلون في الله) * جاز أن تكون هذه الواو واو الحال أي: يصيب بها من يشاء في حال جدالهم في الله، لأنه جاء في التفسير أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجادله، فقال: يا محمد ! مم ربك، أمن نحاس، أم من حديد، أم من لؤلؤ، أم من ياقوت، أم من ذهب، أم من فضة ؟ فأرسل الله عليه صاعقة، ذهب بقحفه (3)، وهو قول انس بن مالك، ومجاهد. (1) النبع: شجر تتخذ من أغصانه القسي والسهام. (2) قائله: كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبي المغوار. وقبله: (وداع دعا يا من يجيب إلى الندى). (3) القحف - بالكسر - ما انفلق من الجمجمة. (*)
[ 22 ]
ويجوز ان يكون لما تمم الله أوصاف ما يدل على توحيده وقدرته، قال بعد ذلك: * (وهم يجادلون) * والكاف من قوله: * (كباسط كفيه) * يتعلق بصفة مصدر تقديره إلا استجابة كائنة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء، هذا إذا كان الكاف حرفا. وإذا كان اسما محضا، فالتقدير: إلا استجابة مثل استجابة باسط كفيه إلى الماء، فلا يكون في الكاف ضمير، أي: كما يستجيب الماء باسط كفيه إليه. واللام في قوله: * (ليبلغ فاه) * يتعلق بباسط كفيه. * (وما هو ببالغه) * أي: ما الماء ببالغ فاه. وقيل: ما فوه ببالغ الماء. وقيل: ما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء. و * (طوعا وكرها) *: مصدران وضعا موضع الحال. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال: * (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) * أي: تخويفا واطماعا، فأقام الخوف والطمع مقام التخويف والإطماع، وذكر فيه وجوه أحدها: إن المعنى خوفا من الصواعق التي يكون معها، وطمعا في الغيث الذي يزيل القحط، عن الحسن، وأبي مسلم. والثاني: خوفا للمسافر من أن يضل الطريق، فلا يمكنه المسير، وطمعا للمقيم في نمو الزرع والخير الكثير، عن قتادة، والضحاك، والجبائي. والثالث: خوفا لمن يخاف ضر المطر، لأنه ليس كل بلد ينتفع فيه بالمطر، وطمعا لمن يرجوا لإنتفاع به، عن لازجاج. * (وينشئ السحاب الثقال) * أي: ويخلق السحاب الثقال بالماء، يرفعها من الأرض، فيجريها في الجو * (ويسبج الرعد بحمده) * تسبيح الرعد دلالته على تنزيه الله تعالى، ووجوب حمده، فكأنه هو المسبح. وقيل: إن الرعد هو الملك الذي يسوق السحاب ويزجره بصوته، وهو يسبح الله تعالى ويحمده. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: إن ربكم سبحانه يقول: لو أن عبادي أطاعوني، لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد. وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع صوت الرعد قال: (سبحان من يسبح الرعد بحمده). وكان ابن عباس يقول: سبحان الذي سبحت له. وروى سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع الرعد والصواعق، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك). وقال ابن عباس: من سمع صوت الرعد، فقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وهو على كل شئ قدير، فإن
[ 23 ]
أصابته صاعقة فعلي ديته. * (والملائكة من خيفته) * أي: ويسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته. قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله تعالى، ليس كخوف ابن آدم، لا يعرف احدهم من على يمينه، ومن على يسار ه، ولا يشغله عن عبادة الله طعام، ولا شراب، ولا شئ. * (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) * ويصرفها عمن يشاء، إلا أنه حذف. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: إن الصواعق تصيب المسلم، وغير المسلم، ولا تصيب ذاكرا * (وهم يجادلون في الله) * يعني: إن هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات، يخاصمون أهل التوحيد، ويحاولون فتلهم (1) عن مذاهبهم بجدالهم، لان معنى الجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج. روى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس انه عني بذلك أربد بن قيس اخا لبيد بن ربيعة العامري لأمه، وعامر بن طفيل، وذلك أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجادلانه، ويريدان الفتك به، وكان عامر اوصى إلى أربد، إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه، فاضربه بالسيف. فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويراجعه الكلام، فدار أربد خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله عنه، فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومي إليه. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأى أربدا وما يصنع بسيفه، فقال: اللهم اكفنيهما بما شئت ! فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح، صائف، فأحرقته، وولى عامر هاربا، وقال: يا محمد ! دعوت ربك فقتل أربدا، والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الله يمنعك من ذلك، فنزل بيت امرأة من سلول، وخرج على ركبتيه في الوقت غدة عظيمة، فكان يقول غدة كندة البعير، وموت في بيت سلولية، حتى قتلته. وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة يرثي أخاه أربدا: أخشى على أربدا لحتوف، ولا أرهب نوء السماك، والأسد فجعني البرق، والصواعق بال‍ * - فارس يوم الكريهة النجد (2) (1) أي: صرفهم. (2) النوء: النجم. والسماك. كوكب. والأسد: برج معروف. ورجل نجد: شجاع ماض في الأمور (*).
[ 24 ]
(وهو شديد المحال) أي: شديد الأخذ، عن علي عليه السلام. وقيل: شديد القوة، عن قتادة، ومجاهد. وقيل: شديد النقمة، عن الحسن. وقيل: شديد القدرة والعذاب، عن الزجاج، وقيل: شديد الكيد للكفار، عن الجبائي * (له دعوة الحق) * أي: لله سبحانه دعوة الحق. واختلف في معنى دعوة الحق على أقوال أحدها: إنها كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله، عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد والثاني: ان الله تعالى هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق، ومن دعاه دعا الحق، عن الحسن. والثالث: انها الدعوة التي يدعى بها الله على إخلاص التوحيد، عن الجبائي. والمعنى: ان من دعاه على جهة الإخلاص، فهو يجيبه، فله سبحانه من خلقه دعوة الحق. * (والذين يدعون من دونه) * أي: و الذين يدعوهم المشركون من دون الله لحاجاتهم من الأوثان وغيرها. * (لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) *: هذا مثل ضربه الله لكل من عبد غير الله ودعاه رجاء أن ينفعه، يقول: إن مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد، ليتناوله ويسكن به غلته، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام، لا يصل نفعها إليهم، ولا يستجيب دعاءهم، عن ابن عباس. وقيل: * (كباسط كفيه إلى الماء) * أي: كالذي يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه بيده، فلا يأتيه الماء، عن مجاهد. وقيل: كالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه فمات قبل أن يبلغ الماء فاه، عن الحسن. وقيل: انه تمثيل العرب لمن يسعى فيما لا يدركه، فيقول: هو كالقابض على الماء، عن أبي عبيدة، والبلخي، وأبي مسلم. قال الشاعر: فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد وقال الآخر: فإني، وإياكم، وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسعه أنامله * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * أي: ليس دعاؤهم الأصنام من دون الله إلا في ذهاب عن الحق والصواب. وقيل: في ضلال عن طريق الإجابة والنفع. ثم بين سبحانه كمال قدرته، وسعة مملكته فقال: * (ولله يسجد من في السماوات والارض) * يعني الملائكة وسائر المكلفين * (طوعا وكرها) * اختلف في معناه على قولين أحدهما:
[ 25 ]
ان معناه أنه يجب السجود لله تعالى، إلا أن المؤمن يسجد له طوعا، والكافر يسجد له كرها بالسيف، عن الحسن، وقتادة، وابن زيد والثاني: ان المعنى ولله يخضع من في السماوات والأرض، إلا أن المؤمن يخضع له طوعا، والكافر يخضع له كرها، لأنه لا يمكنه ان يمتنع من الخضوع لله، لما يحل به من الآلام والأسقام، عن الجبائي. * (وظلالهم) * أي: ويسجد ظلالهم لله * (بالغدو والآصال) * أي: العشيات. قيل: ان المراد بالظل الشخص، فإن من يسجد يسجد ظله معه. قال الحسن: يسجد ظل الكافر، ولا يسجد الكافر. ومعناه: عند أهل التحقيق: انه يسجد شخصه دون قلبه لأنه لا يريد بسجوده عبادة ربه من حيث انه يسجد للخوف. وقيل: إن الظلال على ظاهرها، والمعنى في سجودها تمايلها من جانب إلى جانب، وانقيادها بالتسخير بالطول والقصر. * (قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا هل يستوى الاعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوالله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق شئ وهو الواحد القهار (16). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص: * (أم هل يستوي الظلمات) * بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ بالتاء فإنه مسند إلى مؤنث لم يفصل بينه وبين فاعله بشئ، كقوله: * (وقالت اليهود) *، (وقالت الأعراب)، وقد جاء في مثل ذلك التذكير كقوله: * (وقال نسوة) *. ومن قرأ بالياء فإنه مؤنث غير حقيقي. المعنى: لما بين سبحانه في الآية الأولى أنه المستحق للعبادة، وأن له من في السماوات والأرض، عقبه بما يجري مجرى الحجة على ذلك فقال: * (قل) * يا محمد لهؤلاء الكفار * (من رب السماوات والأرض) * أي: من مدبرهما ومصرفهما على ما فيهما من البدائع ؟ فإذا استعجم عليهم الجواب، ولا يمكنهم ان يقولوا الأصنام ف‍ * (قل) * انت لهم: رب السماوات والأرض وما بينهما من انواع الحيوان،
[ 26 ]
والنباتات، والجماد * (الله) * فإذا أقروا بذلك * (قل) * لهم على وجه التبكيت والتوبيخ لفعلهم * (أفاتخذتم من دونه اولياء) * توجهون عبادتكم إليهم. فالصورة صورة الإستفهام، والمراد به التقريع. ثم بين ان هؤلاء الذين اتخذوهم من دونه أولياء * (لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا) * ومن لا يملك لنفسه ذلك، فالأولى والأحرى ان لا يملك لغيره، ومن كان كذلك، فكيف يستحق العبادة. وإذا قيل: كيف يكون هو السائل والمجيب والملزم بقوله * (قل أفاتخذتم من دونه أولياء) * فالجواب أنه إذا كان القصد بالحجاج ما يبينه من بعد من بعد لم يمتنع ذلك، فكأنه قال: الله الخالق، فلماذا اتخذتم من دون الله أولياء ؟ لأن الأمر الظاهر الذي لا يجيب الخصم إلا به، لا يمتنع أن يبادر السائل إلى ذكره، ثم يورد الكلام عليه تفاديا من التطويل، ويكون تقدير الكلام: أليس الله رب السماوات والأرض، فلم اتخذتم من دونه أولياء ؟ ثم ضرب لهم سبحانه مثلا بعد إلزام الحجة، فقال: * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * أي: كما لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر، لأن المؤمن يعمل على بصيرة، ويعبد الله الذي يملك النفع والضر. والكافر يعمل على عمى، ويعبد من لا يملك النفع والضر. ثم زاد في الإيضاح، فقال: * (أم هل تستوي الظلمات والنور) * أي: هل يستوي الكفر والإيمان، أو الضلالة والهدى، أو الجهل والعلم * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) * أي: هل جعل هؤلاء الكفار لله شركاء في العبادة، خلقوا أفعالا مثل خلق الله تعالى من الأجسام والألوان، والطعوم والأراييح، والقدرة والحياه وغير ذلك من الأفعال التي يختص سبحانه بالقدرة عليها * (فتشابه الخلق عليهم) * أي: فاشتبه لذلك عليهم ما الذي خلق الله، وما الذي خلق الأوثان، فظنوا ان الأوثان تستحق العبادة، لأن أفعالها مثل أفعال الله. فإذا لم يكن ذلك مشتبها، إذ كان كله لله تعالى، لم يبق شبهة أنه الإله لا يستحق العبادة سواه ف‍ * (قل) * لهم: * (الله خالق كل شئ) * يستحق به العبادة من أصول النعم وفروعها * (وهو الواحد) * ومعناه أنه يستحق من الصفات ما لا يستحقه غيره، فهو قديم لذاته، قادر لذاته، عالم لذاته، حي لذاته، غني لا مثل له، ولا شبه. وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزأ، ولا يتبعض. وقيل: هو الواحد في الإلهية لا ثاني له في القدم. * (القهار) *: الذي يقهر كل قادر
[ 27 ]
سواه، ولا يمتنع عليه شئ. واستدلت المجبرة بقوله * (الله تعالى خالق كل شئ) * على أن أفعال العباد مخلوقة لله، لأن ظاهر العموم يقتضي دخول أفعال العباد فيه. وبقوله * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه) * قالوا: لأنه أنكر أن يكون خالق خلق كخلقه. وأجيب عن ذلك بأن الآية وردت حجة على إلكفار، إذ لو كان المراد ما قالوا، لكان فيها حجة لهم على الله، لأنه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو الله، فلا يتوجه التوبيخ إلى الكفار، ولا يلحقهم اللوم بذلك، بل يكون لهم أن يقولوا انك خلقت فينا ذلك، فلم توبخنا على فعل فعلته فينا ؟ فيبطل حينئذ فائدة الآية. وأيضا فإن اكثر اصحابنا لا يطلقون على غيره سبحانه انه يخلق أصلا، فضلا عن أن يقولوا انه يخلق كخلق الله، ولكن يقولون: ان العباد يفعلون ويحدثون. ومعنى الخلق عندهم الإختراع، ولا يقدر العباد عليه. ومن جوز منهم إطلاق لفظ الخلق في أفعال العباد، فإنه يقول إنه سبحانه إنما نفى أن يكون احد يخلق مثل خلقه، ونحن لا نقول ذلك، لأن خلق الله اختراع وإبداع وأفعال غيره مفعولة في محل القدرة عليها، مباشرا أو متولدا في الغير، بسبب حال في محل القدرة، ولا يقدر على اختراع الأفعال في الغير على وجه من الوجو ه إلا الله سبحانه، الذي أبدع السماوات والأرض وما فيهما، وينشئ الأجناس من الأعراض التي لا يقدر عليها غيره، فكيف يشبه الخلق مع هذا التمييز الظاهر ؟ على أن عندهم كل حركة هي كسب للعبد، وفعل الله تعالى، ولا يتميز فقد حصل التشابه هنا. ونحن نقول: إن أحدنا يفعل بقدرة محدثة، يفعلها الله تعالى فيه، والله يفعل لكونه قادرا لذاته، فالفرق والتمييز ظاهر، فعلمنا أن المراد بقوله * (خالق كل شئ) * ما قدمناه من أنه خالق كل شئ يستحق لخلقه العبادة. * (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأماما ينفع الناس فيمكث في الارض كذالك يضرب الله الأمثال (17) للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا
[ 28 ]
له لو أن مافى الأرض جميعا ومثله معه لا فتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد (18)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، إلا أبا بكر: * (يوقدون) * بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله: * (قل أفاتخذتم) * ويجوز أن يكون خطابا عاما يراد به الكافة، كأن المعنى ومما توقدون عليه أيها الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل. ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله: * (أم جعلوا لله شركاء) *، ويجوز أن يراد به جميع الناس. ويقوي ذلك قوله: * (وأما ما ينفع الناس) *، فكما ان الناس يعم المؤمنين والكافرين، كذلك الضمير في * (يوقدون) *. وقال: * (ومما يوقدون عليه في النار) * فجعل الظرف متعلقا بيوقدون، لأنه قد يوقد على ما ليس في النار كقوله: * (فأوقد لي يا هامان على الطين) * فهذا إيقاد يقال على ما ليس في النار، وإن كان يلحقه وهجها، ولهبها. اللغة: الوادي: سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ومنه اشتقاق الدية، لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل. والقدر: اقتران الشئ بغيره من غير زيادة ولا نقصان. والوزن: يزيد وينقص فإذا كان مساويا فهو القدر. وقرأ الحسن: * (بقدرها) * بسكون الدال، وهما لغتان. يقال: اعطى قدر شبر، وقدر شبر، والمصدر بالتخفيف لا غير، وهم يختصمون في القدر معا بالسكون والحركة، قال: ألا يا لقوم للنوائب والقدر وللامر يأتي المرء من حيث لا يدري والإحتمال: رفع الشئ على الظهر بقوة الحامل له، ويقال: علا صوته على فلان فاحتمله، ولم يغضبه، والزبد: وضر الغليان، وهو خبث الغليان، ومنه زبد القدر، وزبد السيل. والجفاء ممدود مثل الغثاء، وأصله الهمز يقال: جفا الوادي جفاء. قال أبو زيد: يقال جفأت الرجل إذا صرعته، وأجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها. قال الفراء: كل شئ ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجئ على فعال، مثل: الحطام، والقماش، والغثاء، والجفاء. والإيقاد إلقاء الحطب في النار. واستوقدت النار واتقدت وتوقدت. والمتاع: ما تمتعت به. والمكث: الكون في
[ 29 ]
المكان على مرور الزمان. يقال: مكث ومكث وتمكث أي: تلبث. الاعراب: قال جامع العلوم البصير: قوله * (في النار) * متعلق بمحذوف في موضع الحال من الضمير المجرور بقوله * (عليه) * أي: ومما توقدون عليه ثابتا في النار. * (ابتغاء حلية) * أي: مبتغين حلية، فهو مصدر في موضع الحال من الضمير في * (يوقدون) * ولا يجوز أن يكون قوله * (في النار) * من صلة * (يوقدون) *، لأن المعنى ليس على ذلك، فالمعنى أنهم يوقدون على الذهب في حال كونه في النار فافهمه من كلام أبي علي، ولم يهتد إليه غيره. قوله * (زبد) * مبتدأ و * (مثله) * نعت له، والظرف الذي هو قوله * (مما توقدون) * خبره على قول سيبويه، وهو مرتفع بالظرف على قول الأخفش. وموضع * (جفاء) * نصب على الحال، أي: يذهب على هذه الحالة، قال الشاعر: إذا أكلت سمكا وفرضا * ذهبت طولا، وذهبت عرضا أي: ذهبت على هذه الحالة. والفرض: نوع من التمر. المعنى: ثم ضرب سبحانه مثلين للحق والباطل أحدهما: الماء، وما يعلوه من الزبد والآخر: ما توقد عليه النار من الذهب والفضة وغيرهما، وما يعلوه من الزبد على ما رتبه فقال: * (أنزل من السماء ماء) * أي: مطرا * (فسالت أودية بقدرها) * يعني فاحتمل الأنهار الماء كل نهر بقدره الصغير على قدر صغره، والكبير على قدر كبره، فسالت كل نهر بقدره، عن الحسن، وقتادة، والجبائي. وقيل بقدرها: بما قدر لها من مائها، عن الزجاج * (فاحتمل السيل زبدا رابيا) * أي: طافيا عاليا فوق الماء، شبه سبحانه الحق والإسلام، بالماء الصافي النافع للخلق، والباطل بالزبد الذاهب باطلا. وقيل: انه مثل القرآن النازل من السماء، ثم تحتمل القلوب حظها من اليقين والشك على صدرها. فالماء مثل اليقين، والزبد مثل الشك، عن ابن عباس. ثم ذكر المثل الآخر فقال * (ومما يوقدون عليه في النار) * وهو الذهب، والفضة، والرصاص، وغيره مما يذاب * (ابتغاء حلية) * أي: طلب زينة يتخذ منه كالذهب والفضة * (أو متاع) * معناه: أو ابتغاء متاع ينتفع به، وهو مثل جواهر الأرض، يتخذ منها الأواني وغيرها * (زبد مثله) * أي: مثل زبد الماء، فإن هذه الأشياء التي تستخرج من المعادن، وتوقد عليها النار ليتميز الخالص من الخبيث، لها أيضا زبد، وهو خبثها.
[ 30 ]
* (كذلك يضرب الله الحق والباطل) * أي: مثل الحق والباطل. وضرب المثل تسييره في البلاد حتى يتمثل به في الناس * (فأما الزبد فيذهب جفاء) * أي: باطلا متفرقا بحيث لا ينتفع به * (وأما ما ينفع الناس) * هو الماء الصافي، والأعيان التي ينتفع بها * (فيمكث في الأرض) * فينتفع به الناس، فمثل المؤمن واعتقاده كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شئ به، وكمثل نفع الذهب والفضة، وسائر الأعيان المنتفع بها، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد، وما تخرجه النار من وسخ الذهب والفضة الذي لا ينتفع به. * (كذلك يضرب الله الأمثال) * للناس في أمر دينهم. قال قتادة: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، شبه نزول القرآن بالماء الذي ينزل من السماء، وشبه القلوب بالأودية والأنهار، فمن استقصى في تدبره، وتفكر في معانيه، أخذ حظا عظيما منه كالنهر الكبير الذي يأخذ الماء الكثير، ومن رضي بها أداه إلى التصديق بالحق على الجملة كان أقل حظا منه كالنهر الصغير، فهذا مثل. ثم شبه الخطوات ووساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء، وذلك من خبث التربة، لا عين الماء. كذلك ما يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها، لا من ذات الحق. يقول: فكما يذهب الزبد باطلا، ويبقى صفوة الماء، كذلك يذهب مخايل الشك هباء باطلا، ويبقى الحق، فهذا مثل ثان. والمثل الثالث قوله: * (ومما توقدون عليه في النار) * إلى آخره، فالكفر مثل هذا الخبث الذي لا ينتفع به، والإيمان مثل الماء الصافي الذي ينتفع به. وتم الكلام عند قوله: * (يضرب الله الأمثال) *. ثم استأنف بقوله * (للذين استجابوا لربهم الحسنى) * عن الحسن والبلخي. وقيل: بل يتصل بما قبله، لأن معناه: ان الذي يبقى مثل الذين استجابوا لربهم، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب. والمراد به للذين استجابوا دعوة الله، وآمنوا به وأطاعوه، الحسنى، وهي الجنة، عن الحسن والجبائي. وقيل: معناه الخصلة الحسنى، والحالة الحسنى، وهي صفة الثواب والجنة أيضا، عن أبي مسلم * (والذين لم يستجيبوا له) * أي: لله، فلم يؤمنوا به * (لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) * أي: جعلوا ذلك فدية أنفسهم من العذاب، لم يقبل ذلك منهم * (أولئك لهم سوء الحساب) * قيل فيه أقوال أحدها: ان سوء الحساب أخذهم بذنوبهم كلها من دون ان يغفر لهم شئ منها، عن إبراهيم النخعي، ويؤيد ذلك ما
[ 31 ]
جاء في الحديث: (ومن نوقش الحساب عذب)، فيكون سوء الحساب المناقشة والثاني: هو ان يحاسبوا للتقريع والتوبيخ، فإن الكافر يحاسب على هذا الوجه، والمؤمن يحاسب ليسر بما أعد الله تعالى له، عن الجبائي والثالث: هو ان لا يقبل لهم حسنة، ولا يغفر لهم سيئة، عن الزجاج، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والرابع: ان سوء الحساب هو سوء الجزاء، فسمي الجزاء حسابا، لأن فيه اعطاء المستحق حقه * (ومأواهم جهنم) * أي: مصيرهم إلى جهنم * (وبئس المهاد) * أي: وبئس ما مهدوا لأنفسهم. والمهاد: الفراش الذي يوطأ لصاحبه، وتسمى النار مهادا لأنها موضع المهاد لهم. * (* أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الاحساب (21) والذين صبروا ابتغآء وجه ربهم وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون وبالحسنة السيئة أولائك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابآءهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24)) *. اللغة: الألباب: العقول ولب الشئ: أجل ما فيه، وأخلصه وأجوده. ولب الإنسان: عقله لأنه أجل ما فيه. ولب لخلة: قلبها. والميثاق: العهد الواقع على أحكام. والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فاصلة والخوف، والخشية، والفزع، نظائر: وهو انزعاج النفس بما لا يأمن منه من الضرر. والسوء: ورود ما يشق على النفس. والحساب: احصاء ما على العامل وله وهو هاهنا احصاء ما على المجازى وله. والسر: هو اخفاء المعنى في النفس، ومنه السرور لأنه لذة تحصل للنفس، ومنه السرير لأنه مجلس سرور. والدرء: الدفع. والعدن: الإقامة الطويلة. وعدن بالمكان يعدن عدنا، ومنه المعدن. والصلاح: استقامة الحال. والمصلح: من فعل الصلاح الذي يدعو إليه العقل والشرع. والصالح: المستقيم الحال في نفسه. والعقبى: فعلى من العاقبة، وهو الإنتهاء الذي يؤدي إليه الإبتداء من
[ 32 ]
خير، أو شر. الاعراب: موضع * (الذين يوفون) *: رفع لأنه صفة لقوله * (أولوا الألباب) * وقيل: انه صفة لمن يعلم. و * (ابتغاء) *: نصب لأنه مفعول له. و * (جنات عدن) *: بدل من * (عقبى) *. * (ومن صلح) *: موضعه رفع عطفا على الواو في قوله: * (يدخلونها) *. وجائز أن يكون نصبا بأنه مفعول معه، كما تقول قد دخلوا وزيدا أي: مع زيد. والباء في قوله * (بما صبرتم) *: يتعلق بمعنى * (سلام) *، لأنه دل على السلامة لكم بما صبرتم، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف على تقدير هذه الكرامة لكم بما صبرتم. وما في قوله * (بما صبرتم) *: مصدرية، تقديره بصبركم. وقيل: انه بمعنى الذي، كأنه قال بالذي صبرتم على فعل طاعاته، وتجنب معاصيه. المعنى: ثم بين سبحانه الفرق بين المؤمن والكافر، فقال: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك) * يا محمد * (من ربك الحق كمن هو أعمى) * عنه أخرج الكلام مخرج الإستفهام، والمراد به الإنكار أي: لا يكونان مستويين، فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الأعمى والبصير، لأن المؤمن يبصر ما فيه رشده فيتبعه، والكافر يتعامى عن الحق فيتبع ما فيه هلاكه * (إنما يتذكر أولوا الألباب) * أي: إنما يتفكر فيه، ويستدل به ذوو العقول والمعرفة، قال علي بن عيسى: وفي هذا حث على طلب العلم، وإلزام له، لأنه إذا كانت حال الجاهل كحال الأعمى، وحال العالم كحال البصير، وأمكن هذا الأعمى أن يستفيد بصرا، فما الذي يقعده عن طلب العلم الذي يخرجه عن حال العمى بالجهل إلى حال البصير. * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * أي: يؤدون ما عهد الله إليه، وألزمهم إياه، عقلا وسمعا، فالعهد العقلي ما جعله في عقولهم من اقتضاء صحة أمور وفساد أمور أخر كاقتضاء الفعل للفاعل، وإن الصنائع لا بد أن ترجع إلى صانع غير مصنوع، وإلا أدى إلى ما لا يتناهى. وإن للعالم مدبرا لا يشبهه. والعهد الشرعي: ما أخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المؤمنين من الميثاق المؤكد باليمين، أن يطيعوه ولا يعصوه، ولا يرجعوا عما التزموه من أوامر شرعه ونواهيه. وإنما كرر ذكر الميثاق، وإن دخل جميع الأوامر والنواهي في لفظ العهد، لئلا يظن ظان أن ذلك خاص فيما بين العبد وربه، فأخبر أن ما بينه وبين العباد من المواثيق، كذلك في الوجوب واللزوم. وقيل: انه كرره تأكيدا. * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * قيل:
[ 33 ]
المراد به الإيمان بجميع الرسل والكتب كما في قوله * (لا نفرق بين أحد من رسله) * وقيل: هو صلة محمد، وموازرته، ومعاونته، والجهاد معه، عن الحسن. وقيل: هو صلة الرحم، عن ابن عباس. وروى أصحابنا أن أبا عبد الله عليه السلام، لما حضرته الوفاة، قال: أعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين، وهو الأفطس، سبعين دينارا، فقالت له أم ولد له: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة ؟ فقال لها: ويحك ! أما تقرئين قوله تعالى * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * الآية. وقيل: هو ما يلزم من صلة المؤمنين بأن يتولوهم، وينصروهم، ويذبوا عنهم، ويدخل فيه صلة الرحم، وغير ذلك، عن الجبائي، وأبي مسلم. وروى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله عليه السلام: (بر الوالدين، وصلة الرحم، يهونان الحساب) ثم تلا هذه الآية. روى محمد بن الفضيل، عن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، في هذه الآية قال: صلة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم معلقة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني، وهي تجري في كل رحم. وروى الوليد بن أبان، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قلت له: هل على الرجل في ماله سوى الزكاة ؟ قال: نعم، أين ما قال الله: * (والذين يصلون) * الآية. * (ويخشون ربهم) * أي: ويخافون عقاب ربهم في قطعها * (ويخافون سوء الحساب) * قد بينا ما قيل فيه. وروى هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سوء الحساب أن يحسب عليهم السيئات، ولا يحسب لهم الحسنات، وهو الإستعصاء. وروى حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لرجل: يا فلان ! مالك ولأخيك. قلت: جعلت فداك لي عليه شئ فاستقصيت حقي عنه. قال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني عن قول الله سبحانه: * (ويخافون سوء الحساب) * أتراهم خافوا أن يجور عليهم، أو يظلمهم، لا والله ولكن خافوا الإستقصاء والمداقة. * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) * أي: الذين صبروا على القيام بما أوجبه الله عليهم، وعلى بلاء الله من الأمراض، والعقوبة، وغير ذلك، وعن معاصي الله سبحانه، لطلب ثواب الله تعالى، لأن ابتغاء وجه الله، هو ابتغاء الله، وابتغاء الله يكون ابتغاء ثوابه، تقول العرب في تعظيم الشئ: هذا وجه الرأي، وهذا نفس
[ 34 ]
الرأي، للرأي المعظم، فكذلك وجه ربهم، هو نفسه المعظم، فلا شئ أعظم منه، ولا شئ يساويه في العظم. وقيل: ان ذكرالوجه هنا عبارة عن الإخلاص، وترك الرياء. * (وأقاموا الصلاة) * أي: أدوها بحدودها. وقيل: داموا على فعلها * (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلاينة) أي: ظاهرا وباطنا * (ويدرءون بالحسنة السيئة) * أي: يدفعون بفعل الطاعة المعصية. قال ابن عباس: (يدفعون بالعمل الصالح السئ من العمل)، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل: (إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها). وقيل: معناه يدفعون إساءة من أساء إليهم بالإحسان والعفو، ولا يكافئون كقوله سبحانه * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) *، عن قتادة، وابن زيد، والقتيبي. قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقيل: معناه يدفعون بالتوبة معرة الذنب، عن ابن كيسان. * (أولئك) *: يعني أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم * (لهم عقبى الدار) * أي: ثواب الجنة. فالدار الجنة، وثوابها عقباها التي هي العاقبة المحمودة، عن ابن عباس، والحسن. ثم وصف الدار فقال: * (جنات عدن) * أي: بساتين إقامة تدوم ولا تفنى. وقيل: هي الدرجة العليا، وسكانها الشهداء والصديقون. عن ابن عباس. وقيل: هي مدينة في الجنة، فيها الأنبياء، والأئمة، والشهداء، عن الضحاك. وقيل: قصر من ذهب، لا يدخله إلا نبي، أو صديق، أو شهيد، أو حاكم عدل، عن الحسن، وعبد الله بن عمر. ثم بين سبحانه ما يتكامل به سرورهم من اجتماع قومهم معهم، فقال: * (يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) * أي: أولادهم، يعني من آمن منهم، وصدق بما صدقوا به، وذلك أن الله سبحانه جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله، من إلحاقهم به في الجنة، كرامة له، كما قال * (ألحقنا بهم ذريتهم) *، عن ابن عباس، ومجاهد. * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) * من أبواب الجنة الثمانية. وقيل: من كل باب من أبواب البر كالصلاة، والزكاة، والصوم. وقيل: من أبواب قصورهم وبساتينهم بالتحية من الله سبحانه، والتحف والهدايا، عن ابن عباس. ويقولون: * (سلام عليكم بما صبرتم) * والقول محذوف لدلالة الكلام عليه.
[ 35 ]
والسلام والتحية والبشارة منهم بالسلامة والكرامة، وانتفاء كل أمر تشوبه مضرة أي: سلمكم لله من الأهوال والمكاره بصبركم على شدائد الدنيا ومحنها في طاعة الله تعالى * (فنعم عقبى الدار) * أي: نعم عاقبة الدار ما أنتم فيه من الكرامة. * (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولائك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيوة الدنيا وما الحيوة الدنيا في الأخر إلا متاع (26) ويقول الذين كفروا لؤلا أنزل عليه ءاية من ربه ء قل إن الله يضل من يشآء ويهدى إليه من أناب (27) الذين ءامنو وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن ماب (29)) *. اللغه: الإنابة: الرجوع إلى الحق بالتوبة، انتاب فلان القوم: أتاهم مرة بعد مرة، ويقال: ناب ينوب نوبة: إذا رجع مرة بعد مرة، وطوبى: فعلى من الطيب، وهو تأنيث الاطيب، ولم يغيروا طوبى بأن يقولوا طيبى، كما قالوا ضيزى، فقلبوا الواو ياء، والضمة كسرة، لأن طوبى اسم، وضيزى صفة، فرقوا بين الإسم والصفة. الاعراب: * (الذين آمنوا) * في موضع نصب ردا على من. المعنى يهدي إليه الذين آمنوا. و * (ألا) *: حرف تنبيه وابتداء. * (وحسن مآب) *: عطف على * (طوبى) *، لأن * (طوبى) * في موضع رفع. المعنى: لما ذكر سبحانه الذين يوفون بعهد الله، ووصفهم بالصفات التي يستحقون بها الجنة، عقبه بذكر من هو على خلاف حالهم، فقال * (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * قد ذكرنا معنى عهد الله وميثاقه، وصلة ما أمر الله به أن يوصل * (ويفسدرن في الأرض) * بالدعاء إلى غير الله، عن ابن عباس. وقيل: بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، عن الحسن. وقيل: بالعمل فيها بمعاصي الله، والظلم لعباده وإخراب بلاده، وهذا أعم * (أولئك لهم اللعنة) *
[ 36 ]
وهي الإبعاد من رحمة الله، والتبعيد من جنته * (ولهم سوء الدار) * أي: عذاب النار، والخلود فيها * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أي يوسع الرزق على من يشاء من عباده، بحسب ما يعلم من المصلحة، ويضيقه على آخرين إذا كانت المصلحة في التضييق * (وفرحوا بالحياة الدنيا) * أي: فرحوا بما أوتوا من حطام الدنيا فرح البطر، ونسوا فناءه وبقاء أمر الآخره وتقديره، وفرح الذين بسط لهم في الرزق في الحياة الدنيا * (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) * أي ليست هذه الحياة الدنيا بالإضافة إلى الحياة الآخرة إلا قليل ذاهب، لأن هذه فانية، وتلك دائمة باقية، عن مجاهد. وقيل: انه مذكور على وجه التعجب أي. عجبا لهم أن فرحوا بالدنيا الفانية، وتركوا النعيم الدائم، والدنيا في جنب الآخره متاع لا خطر له، ولا بقاء له، مثل القدح والقصعة والقدر يتمتع به زمانا ثم ينكسر، عن ابن عباس * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) * أي: هلا أنزل على محمد معجزة من ربه يقترحها، ويجوز أنهم لم يتفكروا في الآيات المنزلة، فاعتقدوا أنه لم ينزل عليه آية، ولم يعتدوا بتلك الآيات، فقالوا هذا القول جهلا منهم بها * (قل) * يا محمد * (إن الله يضل من يشاء) * عن طريق الجنة بسوء أفعاله، وعظم معاصيه. وقد مضى القول في وجوه الإضلال والهدى، فلا معنى لإعادته * (ويهدي إليه من أناب) * أي: رجع إليه بالطاعة * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) معناه الذين اعترفوا بتوحيد الله على جميع صفاته، ونبوة نبيه، وقبول ما جاء به من عند الله، وتسكن قلوبهم بذكر الله، وتأنس إليه. والذكر: حصول المعنى للنفس، وقد يسمى العلم ذكرا. والقول الذي فيه المعنى الحاضر للنفس أيضا يسمى ذكرا، وقد وصف الله المؤمن ههنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، ووصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه، لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه وأنعامه وآلاءه التي لا تحصى، وأياديه التي لاتجازى، فيسكن إليه، وبالثاني أنه ليذكر عقابه وانتقامه فيخافه، ويوجل قلبه. * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * وهذا حث للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد الله به من النعيم والثواب والطمأنينة إليه، فإن وعده سبحانه صادق، ولا شئ تطمئن النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق، وهو اعتراض وقع بين الكلامين، إذا كان قوله * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) * في موضع رفع بالإبتداء، ويكون قوله * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * بدلا منه و قوله * (طوبى لهم وحسن مآب) * جملة في
[ 37 ]
موضع الرفع بأنه خبر المبتدأ. وإذا كان الذين آمنوا الأول في موضع نصب على ما تقدم ذكره، فيكون * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * مبتدأ مستأنفا، وطوبى لهم خبره، ومعناه أن الذين يؤمنون بالله، يعملون ما يجب عليهم من الطاعات. * (طوبى لهم) * وفيه أقوال أحدها: ان معناه: فرح لهم، وقرة عين، عن ابن عباس والثاني: غبطة لهم، عن الضحاك. والثالث: خير لهم وكرامة، عن إبراهيم النخعي. والرابع: الجنة لهم، عن مجاهد. والخامس: معناه العيش المطيب لهم، عن الزجاج. والحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباري، لأنه فعلى من الطيب. وقيل: أطيب الأشياء لهم وهو الجنة. عن الجبائي. والسادس: هنيئا بطيب العيش لهم. السابع: حسنى لهم، عن قتادة، الثامن: نعم ما لهم، عن عكرمة التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم. العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي دار كل مؤمن منها غصن، عن عبيد بن عمير، ووهب، وأبي هريرة، وشهر بن حوشب، ورواه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لو أن راكبا مجدا سار في ظلها مائة عام ما خرج منها، ولو أن غرابا طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتى يبيض هرما، ألا في هذا فارغبوا، إن المؤمن، نفسه منه في شغل، والناس منه في راحة، إذا جن عليه الليل، فرش وجهه، وسجد لله، يناجي الذي خلقه في فكاك رقبته، ألا فهكذا فكونوا. وروى علي بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام، فأنكرت عليه بعض نسائه ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لما أسري بي إلى السماء، دخلت الجنة وأدناني جبرائيل عليه السلام من شجرة طوبى، وناولني منها تفاحة، فأكلتها، فحول الله ذلك في ظهري ماء، فهبطت إلى الأرض، وواقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها، وما قبلتها إلا وجدت رائحة شجرة طوبى، فهي حوراء إنسية. وروى الثعلبي بإسناده عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي عليه السلام في الجنة، وفي دار كل مؤمن منها غصن، ورواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام. وروى الحكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده
[ 38 ]
عن موسى بن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طوبى قال: شجرة أصلها في داري، وفرعها على أهل الجنة، ثم سئل عنها مرة أخرى، فقال: في دار علي عليه السلام فقيل في ذلك، فقال: ان داري ودار علي في الجنة بمكان واحد * (وحسن مآب) * أي: ولهم حسن مآب أي: مرجع. النظم: وجه اتصال قوله * (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * الآية بما قبله أنه بين أن نقضهم للعهد، إنما كان لحب الرئاسة والمنافسة في الدنيا، وزهدهم في المنافسة. وأخبر بأنه يبسط الرزق لمن يرى صلاحه فيه، ويرزق مقدار الكفاية من علم أن صلاحه فيه، ثم لما ذكر سبحانه سوء عاقبة الكفار، عقب ذلك بذكر ما اقترحو ه من الآيات، وترك تفكرهم فيما أنزل من الآيات الخارقة للعادات، فقال * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) * ولما استعجلوا العذاب بين سبحانه أنه يضل من يشاء أي: يهلك من يشاء معجلا، ويؤخر عذاب من يشاء، عن أبي مسلم قال: والمراد بقوله * (آية) * آيات العذاب. وقيل: انهم لما اقترحوا الآيات، بين أنهم إنما لم يجابوا إلى ذلك، لأن في المعلوم أنهم لا يؤمنون، وأنه يهلكهم. * (كذالك أرسلناك في أمة قذ خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذى أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربى لا إلاه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30) ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم يايئس الذين أمنوا أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31). القراءة: قرأ علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين عليه السلام، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، وابن أبي مليكة، وعكرمة، والجحدري، وأبو يزيد المزني: * (أفلم يتبين (1)) * والقراءة المشهورة.: ييائس. (1) وحكي عن ابن عباس أنه قال: كتب الكاتب (أفلم ييأس الذين آمنوا) وهو ناعس. (*)
[ 39 ]
الحجة: قال ابن جني: هذه القراءة فيها تفسير قوله * (أفلم ييأس الذين آمنوا) * وروي عن علي بن عياش أنها لغة فخذ من النخع قال: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا وقال سحيم بن وثيل: أقول لأهل الشعب إذ يأسرونني ألم ييأسوا أني ابن فارس زهدم (1) وروي: إذ ييسرونني أي: يقسمونني أي: ألم يعلموا. قال: ويشبه عندي أن يكون هذا أيضا راجعا إلى معنى اليأس، وذلك أن المتأمل للشئ، المتطلب لعلمه، ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه، فإذا ثبت نفسه على شئ اعتقده، وأضرب عما سواه، فلم ينصرف إليه، كما ينصرف اليائس عن الشئ عنه، ولا يلتفت إليه، هذا طريق الصنعة فيها. اللغة: المتاب: التوبة، تاب يتوب توبا ومتابا. والتوبة الفعلة الواحدة، والتسيير: تصيير الشئ بحيث يسير، يقال: سار يسير سيرا وسيره غيره. والتقطيع: تكثير القطع. والقطع: تفصيل المتصل. والحلول: حصول الشئ في الشئ، كحصول العرض في الجوهر، وحصول الجوهر في الوعاء، والأصل الأول، والثاني مشبه به. والقارعة: الشديدة من شدائد الدهر، ومنه سميت القيامة قارعة، وأصله من القرع: وهو الضرب. ومقارعة الأبطال: ضرب بعضهم بعضا. وقوارع القرآن: الآيات التي من قرأها أمن من الشيطان، كأنها تضرب الشياطين إذا قرئت. النزول: نزلت الآية الأولى في صلح الحديبية، حين أرادوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم. وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول (1) زهدم: اسم فرس. وقيل: اسم فرس سحيم. وقائل البيت: ولده جابر بن سحيم. وروي: (أني ابن قاتل زهدم). وزهدم: رجل من عبس. فعليه يصح أن يكون الشعر لسحيم. وفي رواية أخرى: (أني ابن فارس لازم). (*)
[ 40 ]
الله، ثم قاتلناك وصددناك، لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح محمد بن عبد الله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعنا نقاتلهم ؟ قال: لا، ولكن اكتبوا كما يريدون، فأنزل الله عز وجل * (كذلك أرسلناك في أمة) * الآية، عن قتادة، ومقاتل، وابن جريج. وقيل: نزلت في كفار قريش، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسجدوا للرحمن. قالوا: وما الرحمن ؟ عن الضحاك، عن ابن عباس. ونزلت الآية الاخرى في نفر من مشركي مكة، منهم أبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهبم، فقال له عبد الله بن أمية: إن سرك أن نتبعك، فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا، حتى تنفسخ، فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع، فلست كما زعمت أهون على ربك من داود عليه السلام، حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام، فنقضي عليها مسيرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا، فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما زعمت لنا، فلست أهون على ربك من سليمان. واحي لنا جدك قصيا، أو من شئت من موتانا، لنسأله: أحق ما تقول أم باطل ؟ فإن عيسى عليه السلام كان يحي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله سبحانه * (ولو أن قرآنا) * الآية. المعنى: لما ذكر سبحانه النعمة على من تقدم ذكره بالثواب وحسن المآب، عقبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال * (كذلك أرسلناك) * أي: كما أنعمنا على المذكورين بالثواب في الجنة، أنعمنا على المرسل إليهم بإرسالك. وقيل: ان معنى التشبيه أنا كما أرسلنا الأنبياء في الأمم قبلك، أرسلناك * (في أمة قد خلت من قبلها أمم) * أي: في جماعة قد مضت من قبلها قرون، وجماعات * (لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك) * بين الغرض في إرساله، وهو أن يقرأ عليهم القرآن ليتدبروا آياته، ويتعظوا بها * (وهم يكفرون بالرحمن) * أي: وقريش يكفرون بالرحمن، أي: ويقولون قد عرفنا الله، ولا ندري ما الرحمن، كما أخبر عنهم بأنهم قالوا: وما الرحمن ؟ أنسجد لما تأمرنا ؟ عن الحسن، وقتادة. وقيل: معناه أنهم يجحدون بالوحدانية * (قل) * يا محمد * (هو ربي) * أي: الرحمن الذي أنكرتموه ربي أي: خالقي، ومدبري * (لا إله إلا هو عليه توكلت) * أي: إليه فوضت أمري، متمسكا بطاعته، راضيا بحكمه. * (وإليه متاب) * أي: مرجعي وقيل: معناه إلى الرحمن
[ 41 ]
توبتي * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * أي: تجعل به الجبال سائرة، فأذهبت من مواضعها، وقلعت من أماكنها * (أو قطعت به الأرض) * أي شققت فجعلت أنهارا، وعيونا * (أو كلم به الموتى) * أي: أحيي به الموتى حتى يعيشوا ويتكلموا. وحذف جواب لو لأن في الكلام دليلا عليه، والتقدير لكان هذا القرآن لعظم محله، وعلو أمره، وجلالة قدره، قال الزجاج: والذي أتوهم، وقد قاله بعضهم إن المعنى: لو أن قرآنا سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى، لما آمنوا، ودليله قوله * (ولو أنزلنا إليهم الملائكة) * إلى قوله * (ما كانوا ليؤمنوا) * وحذف جواب لو يكثر في الكلام، قال امرؤ القيس: فلو أنها نفس تموت سوية، ولكنها نفس تساقط أنفسا (1) وهو آخر القصيدة (2) وقال: وجدك لو شئ أتانا رسوله سواك، ولكن لم نجدلك مدفعا (3) * (بل لله الأمر جميعا) * معناه: ان جميع ما ذكر من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وإحياء الموتى، وكل تدبير يجري هذا المجرى لله، لأنه لا يملكه سواه، ولا يقدر عليه غيره، ولكنه لا يفعل، لأن فيما أنزل من الآيات مقنعا وكفاية للمنصفين. والأمر ما يصح أن يؤمر به، وينهى عنه، وهو عام، وأصله الأمر نقيض النهي * (أفلم ييأس الذين آمنوا) * أي: أفلم يعلموا ويتبينوا، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وأبي مسلم، وقيل: معناه أفلم يعلم الذين آمنوا علما ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه، عن الفراء. وقيل: معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله، عز وجل، بأنهم لا يؤمنون، عن الزجاج قال: لأنه قال * (أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) * أي: ان الله لو أراد أن يهدي الخلق كلهم إلى جنته لهداهم، لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الإستحقاق. وقيل: أراد به مشيئة الإلجاء أي: لو أراد أن يلجئهم إلى الإهتداء لقدر على ذلك، لكنه ينافي التكليف، ويبطل الغرض به * (ولا (1) مر البيت بمعناه في الجزء الخامس فراجع. (2) أي ليس بعده بيت يكون فيه جواب لو، بل هذا آخر القصيدة. (3) أي لو أتانا غيرك لدفعناه. (*)
[ 42 ]
يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا) * من كفرهم وأعمالهم الخبيثة * (قارعة) * أي: نازلة وداهية تقرعهم، ومصيبة شديدة من الحرب والجدب والقتل والاسير عليهم، على جهة العقوبة للتنبيه والزجر، وقيل: أراد بالقارعة سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يبعثها إليهم، وقيل: أراد بذلك ما مر ذكره من حديث أربد وعامر * (أو تحل قريبا من دارهم) * وقيل: إن التاء في * (تحل) * للتأنيث، والمعنى: أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم، فتجاورهم حتى يحصل لهم المخافة منه، عن الحسن، وقتادة وأبي مسلم والجبائي. وقيل: إن التاء للخطاب، والمعنى: أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريبا من دارهم * (حتى يأتي وعد الله) * أي: ما وعد الله من فتح مكة، عن ابن عباس، قال: وهذه الآية مدنية، وقيل: حتى يأتي يوم القيامة، عن الحسن * (إن الله لا يخلف الميعاد) * ظاهر المعنى. النظم: اتصلت الآية الأخيرة بقوله * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) * والتقدير: ان مثل هذا القرآن أنزل عليهم، وهم يطلبون آيات أخر، عن الجبائي. وقيل: اتصلت بقوله * (كذلك أرسلناك) * الآية: لأن المفهوم من قوله * (لتتلوا عليهم) * أنه قرأ عليهم القرآن، وأنهم كفروا به. * (ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهرين من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فماله من هاد (33) لهم عذاب في الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أشق وما لهم من الله من واق (34)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، ويعقوب: * (وصدوا) * بضم الصاد، وكذلك في حم المؤمن، والباقون: * (وصدوا) * بفتح الصاد. الحجة: قال أبو الحسن: صد وصددته: مثل رجع ورجعته، قال: صدت كما صد عما لا يحل له ساقي نصارى قبيل الفصح صوام (1) (1) الفصح - بالكسر -: فطر النصارى، وهو عيد لهم. (*)
[ 43 ]
قال عمرو بن كلثوم: صددت الكأس عنا أم عمرو، وكان الكأس مجراها اليمينا (1) وحجة من أسند الفعل إلى الفاعل قوله * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * وفي موضع آخر: ويصدون عن سبيل الله، وصدوكم عن المسجد الحرام. فلما أسند الفعل إلى الفاعل في هذه الآية، فكذلك في هذه الآية، أي: صدوا الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن بنى الفعل للمفعول به، جعل فاعل الصد غواتهم والعتاة منهم في كفرهم، وقد يكون على نحو ما يقال صد فلان عن الخير، وصد عنه، بمعنى أنه لم يفعل خيرا، ولا يراد به أن مانعا منعه. اللغة: الإستهزاء: طلب الهزؤ. والهزؤ: إظهار خلاف الإضمار للإستصغار. والإملاء: التأخير، وهو من الملاوة. والملوان: الليل والنهار، قال ابن مقبل: ألا يا ديار الحي بالسبعان ألح عليها بالبلى الملوان (2) وقال في التهنئة إلبس جديدا وتمل حبيبا أي: لتطل أيامك معه. والواقي: المانع، فاعل من الوقاية وهو الحجر بما يدفع الأذى، والمكرو ه. المعنى: ثم عزى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (ولقد اشهزئ برسل من قبلك) * كما استهزأ هؤلاء بك * (فأمليت للذين كفروا) * أي: فأمهلتهم، وأطلت مدتهم ليتوبوا، ولتتم عليهم الحجة * (ثم أخذتهم) * أي: أهلكتهم، وأنزلت عليهم عذابي، * (فكيف كان عقاب) * أي: فكيف حل عقابي بهم، وهو إشارة إلى تفخيم ذلك العقاب وتعظيمه. ثم عاد سبحانه إلى الحجاج مع الكفار * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * معناه: أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس، وحافظ كل نفس أعمالها، يجازيها. وقيل: أفمن هو قائم عليها برزقها، وحفظها، والدفع عنها، كمن ليس بهذه الصفات من الأصنام التي لا تنفع، ولا تضر، ويدل على هذا المحذوف قوله * (وجعلوا لله شركاء) * يعني أن هؤلاء الكفار جعلوا لله شركاء في العبادة من الأصنام التي لا تقدر على شئ مما ذكرنا * (قل) * يا محمد * (سموهم) * أي: سموهم بما يستحقون من الصفات، وإضافة الأفعال إليهم، إن كانوا شركاء لله، كما (1) أي أنا في اليمين، وعليك أن تسقيني أولا. (2) السبعان: موضع في ديار قيس. وقد ينسب هذا البيت إلى ابن الأحمر. (*)
[ 44 ]
يوصف الله بالخالق، والرازق، والمحيي والمميت، ويعود المعنى إلى أن الصنم لو كان إلها، لتصور منه أن يخلق الرزق، فيحسن حينئذ أن يسمى بالخالق والرازق. وقيل: سموهم بالأسماء التي هي صفاتهم، ثم انظروا هل تدل صفاتهم على جواز عبادتهم، واتخاذهم آلهة. وقيل: معناه أنه ليس لهم إسم له مدخل في استحقاق الإلهية، وذلك استحقار لهم. وقيل: سموهم ماذا خلقوا، وهل ضروا أو نفعوا، وهو مثل قوله * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * عن الحسن. * (أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض) * هذا استفهام منقطع مما قبله أي: بل أتخبرون الله بشريك له في الأرض، وهو لا يعلمه على معنى أنه ليس، ولو كان لعلم * (أم بظاهر من القول) * أي: أم تقولون مجازا من القول، وباطلا لا حقيقة له، عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، وعلى هذا فالمعنى أنه كلام ظاهر ليس له في الحقيقة باطن ومعنى، فهو كلام فقط. وقيل: أم بظاهر كتاب أنزل الله تعالى سميتم الأصنام آلهة، فبين أنه ليس هاهنا دليل عقلي ولا سمعي، يوجب استحقاق الأصنام الإلهية، عن الجبائي. ثم بين سبحانه بطلان قولهم فقال: * (بل زين للذين كفروا مكرهم) * أي: دع ذكر ما كنا فيه زين الشيطان لهم الكفر، لأن مكرهم بالرسول كفر منهم، عن ابن عباس. وقيل: بل زين لهم الرؤساء والغواة كذبهم، وزورهم * (وصدوا عن السبيل) * أي: وصدوا الناس عن الحق، أو صدوا بأنفسهم عن الحق، وعن دين الله * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * سبق معناه في مواضع * (لهم عذاب في الحياة الدنيا) * بالقتل، والسبي، والأسر. وقيل بالمصائب، والأمراض * (ولعذاب الآخرة أشق) * أي: أغلظ وأبلغ في الشدة على النفس، لدوامه، وخلوصه، وكثرته * (وما لهم من الله من واق) * أي: ما لهم من دافع يدفع عنهم عذاب الله تعالى. * (* مثل الجنة التى وعدا لمتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35) والذين ءاتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولآ أشرك به إليه أدعوا وإليه ماب (36) وكذلك أنزلناه حكما
[ 45 ]
عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق (37). اللغة: الأنهار: جمع نهر. ونهر كفرد وأفراد، وجمل وأجمال. والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء على وجه الأرض، وأصله الإتساع، ومنه النهار لاتساع الضياء فيه، وانهرت الدماء: وسعت مجراها. وقال: (ملكت بها كفي فانهرت فتقها) (1) أي: وسعته. والأكل بضم الهمزة: المأكول، والأحزاب جمع الحزب، وهم الجماعة التي تقوم بالنائبة، يقال: تحزب القوم: إذا صاروا حزبا وحزبهم الأمر يحزبهم أي: نالهم بمكروه. الاعراب: * (مثل الجنة التي) *: فيه أقوال أحدها: انه بمعنى الشبه، وخبره محذوف وتقديره مثل الجنه التي هي كذا أجل مثل. والثاني: ان تقديره فيما نقص عليكم مثل الجنة، أو مثل الجنة فيما نقص عليكم، فهو مرفوع أيضا على الإبتداء، وخبره محذوف. وهو قول سيبويه، واختاره أبو علي الفارسي. والثالث: إن معناه صفة الجنة التي وعد المتقون * (تجري من تحتها الأنهار) * فتجري من تحتها الأنهار مع ما بعده: خبر المبتدأ الذي هو * (مثل الجنة) * قالوا: وقوله سبحانه * (ولله المثل الأعلى) * معناه: الصفة العليا، ولم يرتض أبو علي هذا القول. المعنى: لما تقدم ذكر ما أعد الله للكافرين، عقبه سبحانه بذكر ما أعده للمؤمنين، فقال: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * أي: شبهها، عن مقاتل، وقيل: صفتها وصورتها، عن الحسن. قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بصنى صورة الشئ وصفته، يقال: مثلت لك كذا، أي: صورته ووصفته. وقيل: إن مثل مقحم، والتقدير الجنة التي وعد المتقون * (تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم) * يعني أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا، وظلها لا يزول، ولا تنسخه الشمس، عن الحسن، وقيل: معناه نعيمها لا ينقطع بموت، ولا آفة، عن ابن عباس، وقيل: لذتها في الأفواه باقية، عن إبراهيم التيمي * (وظلها) * أيضا دائم، لا يكون مرة شمسا، ومرة ظلا، كما يكون في الدنيا * (تلك عقبى الذين (1) قائله قيس بن الحطيم، يصف طعنة وبعده: (يرى قائم من دونها ما ورائها). (*)
[ 46 ]
اتقوا) * أي: تلك الجنة عاقبة المتقين، فالطريق إليها التقوى * (وعقبى الكافرين النار) * أي: وعاقبة أمر الكفار النار. ولما تقدم ذكر الوعد والوعيد أخبر سبحانه عن المتقين والكافرين، فقال: * (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك) * يريد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين آمنوا به، وصدقوه، أعطوا القرآن، وفرحوا بإنزاله * (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) * يعني اليهود، والنصارى، والمجوس، أنكروا بعض معانيه، وما يخالف أحكامهم، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد. وقيل: الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه فرحوا بالقرآن، لأنهم يصدقون به. و الأحزاب: بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، عن ابن عباس قال: لأن عبد الله بن سلام وأصحابه، أساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * ففرحوا بذلك، و كفر المشركون بالرحمن، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. ويريد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالمعاداة، ومن ينكر بعضه يعني ذكر الرحمن، وهو قوله * (وهم يكفرون بالرحمن) * * (قل) * يا محمد * (إنما أمرت أن أعبد الله ولا اشرك به) * أي: أمرت أن أوجه عبادتي إلى الله، ولا أشرك به في عبادته أحدا * (إليه أدعو) * يعني إلى الله، أو إلى الإقرار بتوحيده وصفاته، وتوجيه العبادة إليه وحده أدعو * (وإليه مآب) * أي: إليه مرجعي ومصيري أي: أرجع وأصير إلى حيث لا يملك الضر والنفع إلا هو وحده، فإنه لا يملك يوم القيامة الأمر أحدا من عباده، كما ملكهم في الدنيا. * (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) * أي: كما أنزلنا الكتب إلى من تقدم من الأنبياء بلسانهم، أنزلنا إليك حكمة عربية أي: جارية على مذاهب العرب في كلامهم، يعني القرآن. فالحكم هاهنا بمعنى الحكمة كما في قوله * (وآتيناه الحكم والنبوة) * وقيل: إنما سماه حكما لما فيه من الأحكام في بيان الحلال والحرام، وسماه عربيا لأنه أتى به نبي عربي. * (ولئن اتبعت أهواءهم) * خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به الأمة أي لئن وافقت وطلبت أهواء الذين كفروا والأهواء جمع الهوى وهو ميل الطباع إلى شئ بالشهوة * (بعد ما جاءك من العلم) * بالله تعالى لأن ما آتيناك من الدلالات والمعجزات موجب للعلم الذي يزول معه الشبهات. * (ما لك من الله من ولي) * أي: ناصر يعينك عليه، ويمنعك من عذابه. * (ولا واق) * يقيك منه * (من ولي) * في موضع
[ 47 ]
رفع ومن مزيدة. * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي باية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب (39) وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40). القراءة: قرأ أهل البصرة، وابن كثير، وعاصم: * (يثبت) * بالتخفيف، وقرأ الباقون: * (يثبت) * بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: المعنى يمحو ما يشاء ويثبته، فاستغني بتعدية الأول من الفعلين، عن تعدية الثاني، ومثل ذلك: * (والحافطين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) *. وزعم سيبويه أن من العرب من يعمل الأول من الفعلين، ولا يعمل الثاني في شئ من كلامهم، كقولهم: متى رأيت، أو قلت: زيدا منطلقا. قال الكميت: بأي كتاب، أم بأية سنة، ترى حبهم عارا علي، وتحسب فلم يعمل الثاني. وهذا والله أعلم فيما يحتمل النسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح، على حسب الأوقات. فأما غير ذلك، فلا يمحى، ولا يبدل. وحجة من قال * (يثبت) * قوله: وأشد تثبيتا. وحجة من قرأ * (يثبت) * ما روي عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا صلى صلاة أثبتها وقوله * (ثابت) * (1) لأن ثبت مطاوع أثبت. النزول: قال ابن عباس: عيروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بكثرة تزويج النساء، وقالوا: لو كان نبيا لشغلته النبوة عن تزويج النساء، فنزلت الآية * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) *. المعنى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) * يا محمد * (وجعلنا لهم أزواجا (1) حيث قال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) *. (*)
[ 48 ]
وذرية) أي: نساء وأولادا أكثر من نسائك وأولادك، وكان لسليمان عليه السلام ثلاث مائة امرأة مهيرة، وسبعمائة سرية، ولداود عليه السلام مائة امرأة، عن ابن عباس، أي فلا ينبغي أن يستنكر منك أن تتزوج، ويولد لك، وروي أن أبا عبد الله عليه السلام قرأ هذه الآية، ثم أومى إلى صدره فقال: نحن والله ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. * (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) * أي: لم يكن لرسول يرسله الله أن يجئ بآية ودلالة، إلا بعد أن يأذن الله في ذلك، ويطلق له فيه. * (لكل أجل كتاب) * ذكر فيه وجوه أحدها: ان معناه لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، ولا تكون آية إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، على وجه ما يوجبه التدبير. فالآية التي اقترحوها لها وقت أجله الله، لا على شهواتهم واقتراحاتهم، عن البلخي والثاني: لكل أمر قضاه الله كتاب كتبه فيه، فهو عنده كأجل الحياة، والموت، وغير ذلك، عن أبي علي الجبائي والثالث: انه من المقلوب والمعنى لكل كتاب ينزل من السماء أجل ينزل فيه، عن ابن عباس، والضحاك، ومعناه لكل كتاب وقت يعمل به، فللتوراة وقت، وللإنجيل وقت، وكذلك القرآن * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * قيل في المحو والإثبات أقوال أحدها: إن ذلك في الأحكام من الناسخ والمنسوخ، عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج، وهو اختيار أبي علي الفارسي، والثاني: إنه يمحو من كتاب الحفظة المباحات، وما لا جزاء فيه، ويثبت ما فيه الجزاء من الطاعات والمعاصي، عن الحسن، والكلبي، والضحاك، عن ابن عباس، والجبائي والثالث: انه يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين، فضلا فيسقط عقابها، ويثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا، عن سعيد بن جبير الرابع: انه عام في كل شئ، فيمحو من الرزق، ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة، ويثبتهما، عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبي وائل، وقتادة، وأم الكتاب: أصل الكتاب الذي أثبت فيه الحادثات والكائنات. وروى أبو قلابة عن ابن مسعود، أنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في الأشقياء، فامحني من الأشقياء، وأثبتني في السعداء. فإنك تمحو ما تشاء، وتثبت وعندك أم الكتاب. وروي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السلام في دعواتهم المأثورة. وروى عكرمة عن ابن عباس، قال: هما كتابان، كتاب سوى أم الكتاب، يمحو الله منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب لا يغير منه شئ. ورواه عمران بن حصين، عن
[ 49 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: سألته عن ليلة القدر، فقال: ينزل الله فيها الملائكة والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من أمر السنة، وما يصيب العباد، وأمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة، فيقدم منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ويثبت، وعنده أم الكتاب. وروى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: العلم علمان: علم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحد، يحدث فيه ما يشاء. وروى زرارة عن حمران، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هما أمران: موقوف ومحتوم، فما كان من محتوم، أمضاه، وما كان من موقوف فله فيه المشيئة، يقضي فيه ما يشاء والخامس: انه في مثل تقتير الأرزاق والمحن، والمصائب، يثبته في أم الكتاب، ثم يزيله بالدعاء والصدقة، وفيه حث على الإنقطاع إليه سبحانه السادس: إنه يمحو بالتوبة جميع الذنوب، ويثبت بدل الذنوب حسنات يبينه قوله * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) *. عن عكرمة والسابع: انه يمحو ما يشاء من القرون، ويثبت ما يشاء منها، كقوله * (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * وقوله: * (كم أهلكنا قبلهم من القرون) * وروي ذلك عن عليه السلام والثامن: إنه يمحو ما يشاء يعني القمر، ويثبت يعني الشمس، وبيانه: * (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) * عن السدي. وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل، لأن الكتب المنزلة انتسخت منه، فالمحو والإثبات إنما يقع في الكتب المنتسخة، لا في أصل الكتاب، عن أكثر المفسرين. وقيل: إن ابن عباس سأل كعبا عن أم الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا. وقيل: إنما سمي أم الكتاب، لأنه الأصل الذي كتب فيه، أو سيكون كذا وكذا لكل ما يكون، فإذا وقع كتب أنه قد كان ما قيل أنه سيكون. والوجه في ذلك ما فيه من المصلحة والإعتبار لمن تفكر فيه من الملائكة الذين يشاهدونه إذا قابلوا ما يكون بما هو مكتوب فيه، وعلموا أن ما يحدث على كثرته، قد أحصاه الله تعالى وعلمه، قبل أن يكون. مع أن ذلك أهول في الصدور، وأعظم في النفوس، حتى كان من تصوره وفكر فيه، شاهدا له.
[ 50 ]
* (وإن ما نرينك) * يا محمد * (بعض الذي نعدهم) * أي: نعد هؤلاء الكفار من نصر المؤمنين عليهم بتمكينك منهم بالقتل والأسر، واغتنام الأموال * (أو نتوفينك) * أي: ونقبضنك إلينا قبل أن نريك ذلك. وبين بهذا أنه يكون بعض ذلك في حياته، وبعضه بعد وفاته، أي: فلا تنتظر أن يكون جميع ذلك في أيام حياتك، وأن يكون مما لا بد أن تراه * (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) * أي: عليك أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم، وتقول بما أمرناك بالقيام به، وعلينا حسابهم ومجازاتهم، والإنتقام منهم، إما عاجلا، وإما آجلا. وفي هذه دلالة على أن الإسلام سيظهر على سائر الأديان، ويبطل الشرك في أيامه، وبعد وفاته. وقد وقع المخبر به على وفق الخبر. النظم: إتصلت الآية الأولى بما تقدمها من قولهم * (لولا أنزل عليه آية من ربه) * فبين سبحانه أنه بشر كما أن الرسل الذين كانوا قبله كانوا بشرا، والبشر لا يقدر على الآيات، بل إنما يأتي سبحانه بها إذا اقتضت المصلحة ذلك، عن أبي مسلم. وقيل: انه لما تقدم ذكر إرساله، بين سبحانه أنه أرسل قبله بشرا، كما أرسله، فحاله مثل حالهم، عن القاضي. وإنما اتصلت الآية الثانية بقوله * (لكل أجل كتاب) *، لأن الظاهر اقتضى أن يكون كل مكتوب لا يجوز محوه، فبين سبحانه أنه يمحو ما يشاء ويثبت، لئلا يتوهم أن المعصية مثبتة مع التوبة، كما أنها كذلك قبل التوبة، عن علي بن عيسى. وقيل: لما نزلت * (وما كان لرسول أن ياتي بآية إلا بإذن الله) * قالت قريش: ما نراك يا محمد تملك شيئا، فلقد فرغ من الأمر ؟ فأنزل هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم، إنا لو شئنا أحدثنا من أمرنا ما شئنا، ونمحو ونثبت في ليلة القدر ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، عن مجاهد، وإنما اتصل قوله * (وإن ما نرينك) * الآية، بما قبله من وعيد الله بالعذاب، فبين سبحانه أنه يفعل ذلك لا محالة، إما في حياته، أو بعد وفاته، بشارة له. وقيل: انه لما تقدم أن لكل أجل كتابا، بين أن لعذابهم وقتا سيفعله فيه لا محالة، إما في حياته، أو بعد وفاته. * (أولم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41) وقد مكرالذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار (42) ويقول الذين كفروا لست
[ 51 ]
مرسلا قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43). القراءة: قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو: * (وسيعلم الكافر) * على لفظ الواحد. والباقون: * (الكفار) * على الجمع. وفي الشواذ قرأءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وابن أبي إسحاق، والضحاك، والحكم بن عيينة: * (ومن عنده علم الكتاب) بكسر الميم والدال. وقراءة علي، والحسن، وابن السميفع: * (ومن عنده علم الكتاب) *. الحجة: قال أبو علي: العلم في قوله * (وسيعلم الكفار) * هو المتعدي إلى مفعولين، بدلالة تعليقه، ووقوع الإستفهام بعده، تقول: علمت لمن الغلام، فتعلقه مع الجار كما تعلقه مع غيره في نحو: * (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) *، وموضع الجار مع المجرور نصب من حيث سد الكلام الذي هو فيه مسد المفعولين، لا من حيث حكمت في نحو: مررت بزيد، بأن موضعه نصب. ولكن اللام الجارة كانت متعلقة في الأصل بفعل، فكان مثل: علمت بمن تمر، في أن الجار يتعلق بالمرور، والجملة التي هي منها في موضع نصب، وقد علق الفعل عنها، فأما من قرأ * (الكافر) * فإنه جعل * (الكافر) * إسما شائعا كالإنسان في قوله * (إن الإنسان لفي خسر) *. وزعموا أن لا ألف فيه، وهذا الحذف إنما يقع في كل فاعل نحو خالد وصالح، ولا يكاد الحذف في فعال. وزعموا أن في بعض الحروف: وسيعلم الذين كفروا، فهذا يقوي الجمع. وقد جاء فاعل يراد به إسم الجنس، أنشد أبو زيد: إن تبخلي يا جمل، أو تعتلي، وتصبحي في الظاعن المولي فهذا إنما يكون في الكسرة، وليس المراد على كل كافر واحد. والجمع الذي هو الكفار المراد في الآية، لا إشكال فيه. فأما من قرأ: * (ومن عنده علم الكتاب) * فمعناه ومن فضله ولطفه أم الكتاب. ومن قرأ * (من عنده علم الكتاب) * فالمعنى مثل ذلك إلا أن الجار ههنا يتعلق بعلم وفي الأول بمحذوف، وعلم الكتاب: مبتدأ ومرفوع بالظرف على ما تقدم ذكره في قوله * (ومنهم أميون) *. اللغة: النقص: أخذ الشئ من الجملة، ثم يستعمل في نقصان المنزلة.
[ 52 ]
والطرف: منتهى الشئ، وهو موضع من الشئ، ليس وراءه ما هو منه. وأطراف الأرض: نواحيها. والتعقيب: رد الشئ بعد فصله، ومنه عقب العقاب على صيده: إذا رد الكرور عليه بعد فصله عنه، ومنه قول لبيد (طلب المعقب حقه المظلوم) (1). والمكر: الفتل عن البغية بطريق الحيلة. والشهيد والشاهد واحد، إلا أن في شهيد مبالغة، والشهادة: البينة على صحة المعنى من طريق المشاهدة. الاعراب: * (ننقصها من أطرافها) *: جملة منصوبة الموضع على الحال وكذلك قوله * (لا معقب لحكمه) * والباء في قوله * (كفى بالله) * زائدة، قال علي بن عيسى: دخلت لتحقيق الإضافة من وجهين: جهة الفاعل، وجهة حرف الإضافة، وذلك أن الفعل لما جاز أن يضاف إلى غير فاعله بصنى أنه أمر به، أزيل هذا الإحتمال بهذا التأكيد، ونظيره في تأكيد الإضافة قوله * (لما خلقت بيدي) *. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما يكون للكفار كالبينة على الإعتبار، فقال: * (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها) * أي: نقصدها * (من أطرافها) * واختلف في معناه على أقوال أحدها: أو لم ير هؤلاء الكفار أنا ننقص أطراف الأرض بإماتة أهلها ومجازه ننقص أهلها من أطرافها كقوله * (واسأل القرية) *. أي: أفلا يخافون أن نفعل مثل ذلك بهم، عن ابن عباس، وقتادة، وعكرمة. وثانيها: ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها، وخيار أهلها، عن عطا، ومجاهد، والبلخي، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعن أبي عبد الله عليه السلام. قال عبد الله بن مسعود: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شئ ما اختلف الليل والنهار). وثالثها: إن المراد نقصد الأرض، ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين، معناه: فننقص من أهل الكفر، ونزيد في المسلمين، يعني ما دخل في الإسلام من بلاد الشرك، عن الحسن، والضحاك، ومقاتل. قال الضحاك: أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما حولها من القرى. وقال الزجاج: علم الله تعالى أن بيان ما وعد المشركون من قهرهم قد ظهر أي: أفلا يخافون أن نفتح لمحمد أرضهم، كما فتحنا له غيرها، وقد روي ذلك أيضا عن ابن عباس، قال القاضي: وهذا القول أصح لأنه يتصل بما وعده من إظهار (1) مر البيت في ما سبق. (*)
[ 53 ]
دينه، ونصرته. ورابعها: إن معناه أو لم يروا ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمارة، والموت بعد الحياة، والنقصان بعد الزيادة، عن الجبائي. * (والله يحكم) * أي: يفصل الأمر * (لا معقب لحكمه) * (1) ولا راد لقضائه، عن ابن عباس، ومعناه: لا يعقب أحد حكمه بالرد والنقض * (وهو سريع الحساب) * أي: سريع المجازاة على أفعال العباد على الطاعات بالثواب، وعلى المعاصي بالعقاب، ثم بين سبحانه أن مكرهم يضمحل عند نزول العذاب بهم، فقال: * (وقد مكر الذين من قبلهم) * يريد أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء، قد مكروا بالمؤمنين، واحتالوا في كفرهم، ودبروا في تكذيب الرسل بما في وسعهم، فأبطل الله مكرهم، كذلك يبطل مكر هؤلاء. * (فلله المكر جميعا) * أي: له الأمر والتدبير جميعا، فيرد عليهم مكرهم بنصب الحجج لعباده. وقيل: معناه فالله يملك الجزاء على المكر، عن أبي مسلم. وقيل: يريد بالمكر ما يفعل الله تعالى بهم من المكروه، عن الجبائي. * (يعلم ما تكسب كل نفس) * فلا يخفى عليه ما يكسبه الإنسان من خير وشر، لأنه عالم بجميع المعلومات. وقيل: يعلم ما يمكرونه في أمر الرسول، فيبطل أمرهم، و يظهر أمره ودينه. * (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) * هذا تهديد لهم بأنهم سوف يعلمون من تكون له عاقبة الجنة، حين يدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار، وقيل: معناه وسيعلمون لمن العاقبة لكم أم لهم، إذا أظهر الله دينه * (ويقول الذين كفروا) * لك يا محمد * (لست مرسلا) * من جهة الله تعالى إلينا * (قل) * لهم: * (كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) * أي: كفى الله شاهدا بيني وبينكم بما أظهر من الآيات، وأبان من الدلالات على نبوتي. * (ومن عنده علم الكتاب) *: قيل فيه أقوال أحدها: ان من عنده علم الكتاب: هو الله، عن الحسن، والضحاك، وسعيد بن جبير، واختاره الزجاج، قال: ويدل عليه قراءة من قرأ * (ومن عنده علم الكتاب) *. والثاني: إن المراد به مؤمنو أهل الكتاب منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وتميم الداري، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، واختاره الجبائي، وأنكر الأولون هذا القول بأن قالوا السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بعد الهجرة. والثالث: إن المراد به علي بن أبي طالب، وأئمة الهدى عليه السلام، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. (1) [ أي لا ناقض لحكمه ]. (*)
[ 54 ]
وروي عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله أنه قال: إيانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عنه عبد الله بن كثير أنه وضع يده على صدره، ثم قال: عندنا والله علم الكتاب كملا. ويؤيد ذلك ما روي عن الشعبي أنه قال: ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبي من علي بن أبي طالب عليه السلام ومن الصالحين من أولاده. وروى عاصم بن أبي النجود، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا أقرأ من علي بن أبي طالب عليه السلام للقرآن. وروى أبو عبد الرحمن أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: لو كنت أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال: فقلت له فعلي ؟ قال: أو لم آته ؟ ا.
[ 55 ]
14 - سورة إبراهيم مكية وآياتها اثنتان وخمسون قال ابن عباس، وقتادة، والحسن: هي مكية إلا آيتان في قتلى بدر من المشركين * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) * إلى قوله * (فبئس القرار) *. عدد آياتها: خمس وخمسون آية شامي، أربع حجازي، آيتان كوفي، آية بصري. اختلافها: سبع آيات إلى النور في الموضعين حجازي وشامي، وعاد وثمود حجازي بصري، وخلق جديد كوفي شامي، والمدني الأول: وفروعها في السماء، غير المدني الأول. والليل والنهار غير البصري، عما يعمل الظالمون: شامي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ سورة إبراهيم عليه السلام والحجر، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها، وروى عيينة بن مصعب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة إبراهيم والحجر في ركعتين جميعا في كل جمعة، لم يصبه فقر، ولا جنون، ولا بلوى. تفسيرها: لما ختم الله سورة الرعد بإثبات الرسالة، وإنزال الكتاب، افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة والكتاب، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون
[ 56 ]
الحيوة الدنيا على الأخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد (3). القراءة: * (الله الذي) * بالرفع، مدني شامي، والباقون بالجر. الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالجر جعله بدلا من * (الحميد) *، ولم يكن صفة، لأن الإسم وإن كان مصدرا في الأصل، والمصادر يوصف بها كما يوصف بأسماء الفاعلين، فكذلك كان هذا الإسم في الأصل الإله، ومعناه ذو العبادة أي: العبادة تجب له. قال أبو زيد: التأله التنسك، وأنشد لرؤبة (سبحن واسترجعن عن تألهي) (1) فهذا في أنه في الأصل مصدر قد وصف به مثل السلام والعدل، إلا أن هذا الإسم غلب حتى صار في الغلبة لكثرة استعمال هذا الإسم كالعلم، وقد يغلب ما أصله الصفة فيصير بمنزلة العلم، قال: ونابغة الجعدي بالرمل بيته عليه صفيح من تراب وجندل والأصل النابغة، ولما غلب نزع منه الألف واللام كما ينزع من الأعلام نحو زيد وجعفر، وربما استعمل في هذا النحو الوجهان، قال: تقعدهم أعراق حذيم بعد ما رجا الهتم إدراك العلى والمكارم (2) وقال: (وجلت عن وجوه الأهاتم) (3). ومن قرأ بالرفع قطعه من الأول، وجعل * (الذي) * الخبر، أو جعله صفة، وأضمر الخبر. ومثل ذلك في القطع: * (قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) *. ومن قطع ورفع جعل قوله * (لا يعزب عنه) * خبرا، لقوله * (عالم الغيب والشهادة) *. ومن جر أجرى * (عالم الغيب) * صفة على الأول، وعلى هذا يجوز * (من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن) * أي ان شئت جعلت هذا صفة لقوله * (من مرقدنا) * وأضمرت خبرا لقوله * (ما وعد الرحمن) *. وإن شئت جعلت قوله * (هذا) * ابتداء، و * (ما وعد الرحمن) * خبرا. (1) وقبله: (لله در الغانيات المده). (2) يعني: يمنع قبيلة هتم عن إدراك المكارم نسبتهم إلى حديم وهو اسم رجل. (3) شطر من بيت الفرزدق، وقد مر. (*)
[ 57 ]
اللغة: العزيز: القادر على الأشياء، الممتنع بقدرته من أن يضام. والحميد: المحمود على كل حال. والإستحباب: طلب محبة الشئ بالتعرض لها، والمحبة: إرادة منافع المحبوب وقد يستعمل بمعنى ميل الطباع. والشهوة والبغية، والإبتغاء: الطلب. المعنى: * (الر) * قد ذكرنا معافي الحروف المقطعة في أوائل السور، وذكرنا اختلاف الأقاويل فيه في أول البقرة * (كتاب أنزلناه إليك) * يعني القرآن نزل به جبرائيل عليه السلام من عند الله تعالى، أي: هذا كتاب منزل إليك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس بسحر، ولا بشعر * (لتخرج الناس) * أي: جميع الخلق * (من الظلمات إلى النور) * أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان. * (بإذن ربهم) * أي: بإطلاق الله ذلك، وأمره به. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يريد الإيمان من جميع المكلفين، لأن اللام لام الغرض، ولا يجوز أن يكون لام العاقبة، لأنه لو كان ذلك لكان الناس كلهم مؤمنين والمعلوم خلافه. ثم بين سبحانه ما النور، فقال: * (إلى صراط العزيز الحميد) * أي: يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى طريق الله المؤدي إلى معرفة الله المنيع في سلطانه، المحمود في فعاله ونعمه التي أنعم بها على عباده * (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * أي: له التصرف فيهما على وجه لا اعتراض عليه. * (وويل لكافرين من عذاب شديد) *: أخبر أن الويل للكافرين إلذين يجحدون نعم الله، ولا يعترفون بوحدانيته، من عذاب تتضاعف الأمة. ثم وصف الكافرين بقوله * (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) * أي: يختارون المقام في هذه الدنيا العاجلة، على الكون في الآخرة، وإنما دخلت * (على) * لهذا المعنى. وذمهم سبحانه بذلك لأن الدنيا دار انتقال وفناء، والأخرة دار مقام وبقاء. * (ويصدون عن سبيل الله) * أي: يمنعون غيرهم من اتباع الطريق المؤدي إلى معرفة الله، ويجوز أن يريد أنهم يعرضون بنفوسهم عن اتباعها * (ويبغونها عوجا) * أي: يطلبون للطريق عوجا أي: عدولا عن الإستقامة. والسبيل يذكر ويؤنث. وقيل: معناه يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تستمد إلا بطاعته دون معصيته * (أولئك في ضلال بعيد) * أي: في عدول عن الحق، بعيد عن الإستقامة والصواب.
[ 58 ]
* (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وهو العزيز الحكيم (4) ولقد أرسلنا موسى باياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور (5) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6)) *. اللغة: التذكير: التعريض للذكر الذي هو خلاف السهو. والصبار: كثير الصبر. الاعراب: * (أن أخرج) *: يحتمل أن تكون * (أن) * بمعنى أي على وجه التفسير، ويصلح أن تكون * (ان) * التي توصل بالأفعال، إلا أنها وصلت ههنا بالأمر، والتأويل: الخبر، كما تقول أنت الذي فعلت، والمعنى: أنت الذي فعل. * (يسومونكم سوء العذاب) *: جملة في موضع الحال. المعنى: ثم بين سبحانه أنه إنما يرسل الرسل إلى قومهم بلغتهم، ليكون أقرب إلى الفهم، وأقطع للعذر، فقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * أي: لم يرسل فيما مضى من الأزمان، رسولا إلا بلغة قومه، حتى إذا بين لهم فهموا عنه، ولا يحتاجون إلى من يترجمه عنه، وقد أرسل الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلق كافة بلسان قومه، وهم العرب بدلالة قوله * (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) *. قال الحسن: امتن الله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبعث رسولا إلا إلى قومه، وبعثه خاصة إلى جميع الخلق، وبه قال مجاهد، وقيل: ان معناه أنا كما أرسلناك الى العرب بلغتهم لتبين لهم الدين، ثم إنهم يبينونه للناس، كذلك أرسلنا كل رسول بلغة قومه، ليظهر لهم الدين، ثم استأنف فقال: * (فيضل الله من يشاء) * عن طريق الجنة إذا كانوا مستحقين للعقاب * (ويهدي من يشاء) * إلى طريق الجنة،
[ 59 ]
وقيل: يلطف لمن يشاء ممن له لطف، ويضل عن ذلك من لا لطف له. فمن تفكر وتدبر اهتدى وثبته الله، ومن أعرض عنه خذله الله * (وهو العزيز الحكيم) * ظاهر المعنى. ثم ذكر سبحانه إرساله موسى فقال: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي: بالمعجزات، والدلالات * (أن أخرج قومك) * أي: بأن أخرج قومك * (من الظلمات إلى النور) * مر معناه أي: أمرناه بذلك. وإنما أضاف الإخراج إليه لأنهم بسبب دعائه خرجوا من الكفر إلى الإيمان. * (وذكرهم بأيام الله) * قيل فيه أقوال: أحدها: ان معناه وأمرناه بأن يذكر قومه وقائع الله في الأمم الخالية، وإهلاك من أهلك منهم، ليحذروا ذلك، عن ابن زيد، والبلخي، ويعضده قول عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن ندينا (1) فيكون المعنى: الأيام التي انتقم الله فيها من القرون الأولى والثاني: ان المعنى ذكرهم بنعم الله سبحانه في سائر أيامه، عن ابن عباس، وأبي بن كعب، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والثالث: أنه يريد بأيام الله سننه وأفعاله في عباده من إنعام وانتقام. وكنى بالأيام عنهما، لأنها ظرف لهما، جامعة لكل منهما، عن أبي مسلم. وهذا جمع بين القولين المتقدمين. * (إن في ذلك) * التذكير * (لآيات لكل صبار شكور) * أي: دلالات لكل من كان عادته الصبر على بلاء الله، والشكر على نعمائه، وإنما جمع بينهما لأن حال المؤمن لا يخلو من نعمة يجب شكرها، أو محنة يجب الصبر عليها، فالشكر والصبر من خصال المؤمنين، فكأنه قال لكل مؤمن. ولأن التكليف لا يخلو من الصبر والشكر * (وإذ قال موسى لقومه) * والتقدير واذكر يا محمد إذ قال موسى لهم * (اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجكم) * أي: في الوقت الذي أنجاكم * (من آل فرعون يسومونكم) * أي: يذيقونكم * (سوء العذاب ويذبحون ابناءكم ويستحيون نساءكم) * أي: يستبقونهن أحياء للإسترقاق * (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) * والآية مفسرة في سورة البقرة (2)، (1) هذا بيت من معلقته يريد أيام الوقائع التي نصروا فيها على أعدائهم، ويذكر قصة تحاكمهم إلى الملك عمرو بن المنذر، وقوله: (أن ندينا) أي: كراهية أن ندين، أو لئلا ندين، فحذف لا (2) راجع الجزء الأول من هذا التفسير. (*)
[ 60 ]
قال الفراء: وإنما دخلت الواو هنا للعطف، لأنهم كانوا يعذبون أنواعا من العذاب سوى الذبح، فجاز العطف، فإذا حذفت الواو كان * (يذبحون) * تفسيرا للعذاب. * (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد (8) ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه مريب (9) * قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)) *. اللغة: التأذن: الإعلام، يقال أذن وتأذن، ومثله أوعد وتوعد. قال الحاث بن حلزة: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء (1) والنبأ: الخبر عما يعظم شأنه. لهذا الأمر نبأ عظيم أي: شأن. ونبأ الله محمدا. وتنبأ مسيلمة الكذاب: ادعى النبوة. والريب: أخبث الشك. والمريب: المتهم، وهو الذي يأتي بما فيه التهمة، يقال أراب يريب: إذا أتى بما يوجب الريبة. الاعراب: قوم نوح وما بعده مجرور بأنه بدل من قوله * (الذين من قبلكم) *. (1) هذا أول بيت من معلقته الشهيرة، يعني أعلمتنا أسماء بعزمها على فراقها ايانا، ولم نمل من معاشرتها ولم نعن غيرها. (*)
[ 61 ]
و * (فاطر) *: مجرور بأنه صفة لله في قوله * (أفي الله شك) *. و * (من) * في قوله * (من ذنوبكم) *: للتبعيض. وقيل: ان * (من) * زائدة عن أبي عبيدة. وأنكر سيبويه زيادتها في الإيجاب. المعنى: لما تقدم ذكر النعمة، أتبعه سبحانه بذكر ما يلزم عليها من الشكر، فقال: * (وإذ تأذن ربكم) * التقدير: واذكر إذ أعلم ربكم، عن الحسن، والبلخي، وقيل: معناه وإذ قال لكم ربكم، عن ابن عباس. وقيل: أخبر ربكم، عن الجبائي * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * أي: لئن شكرتم لي على نعمي، لأزيدنكم في النعم * (ولئن كفرتم) * أي: جحدتم نعمتي * (إن عذابي لشديد) * لمن كفر نعمتي. وقال أبو عبد الله عليه السلام في هذه الآية: (أيما عبد أنعمت عليه نعمة، فأقر بها بقلبه، وحمد الله عليها بلسانه، لم ينفد كلامه حتى يأمر الله له بالزيادة). * (وقال موسى إن تكفروا) * أي: تجحدوا نعم الله سبحانه * (أنتم ومن في الأرض جميعا) * من الخلق، لم تضروا الله شيئا، وإنما يضركم ذلك بأن تستحقوا عليه العقاب * (فإن الله) * سبحانه * (لغني) * عن شكركم * (حميد) * في أفعاله. وقد يكون كفر النعمة بأن يشبه الله بخلقه، أو يجور في حكمه، أو يرد على نبي من أنبيائه، فإن الله سبحانه قد أنعم على خلقه في جميع ذلك، بأن أقام الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة على صحته، وعرض بالنظر فيها للثواب الجزيل * (ألم يأتكم) * قيل: ان هذا الخطاب متوجه إلى أمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرت بأخبار من تقدمها من الأمم. وقيل: انه من قول موسى عليه السلام لأنه متصل به في الآية المتقدمة، والمعنى: ألم يجئكم * (نبؤ الذين من قبلكم) * أي: أخبار من تقدمكم. * (قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) * أي: لا يعلم تفاصيل أحوالهم وعددهم وما فعلوه وفعل بهم من العقوبات، إلا الله، قال ابن الأنباري: إن الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفت آثارهم، فليس يعرفهم أحد إلا الله. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون. وقيل: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يجاوز في انتسابه معد بن عدنان. فعلى هذا يكون قوله * (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) * مبتدأ وخبرا. * (جاءتهم رسلهم بالبينات) * أي: بالأدلة والحجج والأحكام، والحلال والحرام. * (فردوا أيديهم في أفواههم) * اختلفوا في معناه على أقوال أحدها: ان معناه
[ 62 ]
عضوا على أصابعهم من شدة الغيظ، لأنه ثقل عليهم مكان الرسل، عن ابن مسعود، وابن عباس، والجبائي وثانيها: ان معناه جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم، وردا لما جاؤوا به. فالضمير في أيديهم للكفار، وفي أفواههم للأنبياء، فكأنهم لما سمعوا وعظ الأنبياء وكلامهم، أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تسكيتا لهم، عن الحسن، ومقاتل وثالثها: ان معناه وضعوا أيديهم على أفواههم مومين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا عما تدعوننا إليه، كما يفعل الواحد منا مع غيره إذا أراد تسكيته، عن الكلبي. فيكون على هذا القول الضميران للكفار ورابعها: ان كلا الضميرين للرسل أي: أخذوا أيدي الرسل فوضعوها على أفواههم ليسكتوهم، ويقطعوا كلامهم فيسكتوا عنهم، لما يئسوا منهم، هذا كله إذا حمل معنى الأيدي والأفواه على الحقيقة. ومن حملها على التوسع والمجاز فاختلفوا في معناه فقيل: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج، والمعنى فردوا حججهم من حيث جاءت، لأن الحجج تخرج من الأفواه، عن أبي مسلم. وقيل: ان المعنى ردوا ما جاءت به الرسل، وكذبوهم، عن مجاهد، وقتادة، وقيل: معناه تركوا ما أمروا له، وكفوا عن قبول الحق، عن أبي عبيدة، والأخفش. قال القتيبي: ولم يسمع أحد ان العرب تقول رد يده في فيه بمعنى ترك ما أمر به، وانما المعنى انهم عضوا على الأيدي حنقا وغيظا، كقول الشاعر: (يردون في فيه عشر الحسود) يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه العشر، وقال آخر: قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعفض علي الوظيفا (1) وقيل: المعنى ردوا بأفواههم نعم الرسل أي: وعظهم وبيانهم، فوقع في موقع الباء، عن مجاهد. قال الفراء: أنشدني بعضهم: وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب (2) قال: أراد أرغب بها يعني بنتا له يقول: ارغب بها عن لقيط وقبيلته * (وقالوا إنا (1) الأزم: شدة العض بالفم كله، وأزمه في البيت كأنه فاعل أفنى. وفي بعض النسخ (أزمة) والوظيف: مستدر الذراع والساق. (2) سنبس - كزبرج: قبيلة من طي. (*)
[ 63 ]
كفرنا) * أي: جحدنا * (بما أرسلتم به) * أي: برسالاتكم * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه) * من الدين * (مريب) * متهم أي: يوقعنا في الريب بكم انكم تطلبون الرئاسة، وتفترون الكذب * (قالت رسلهم) * حينئذ لهم * (أفي الله شك) * مع قيام الأدلة على وحدانيته وصفاته * (فاطر السماوات والأرض) * أي: خالقهما ومنشئهما لا يقدر على ذلك غيره، فوجب أن يعبد وحده، ولا يشرك به من لا يقدر على اختراع الأجسام * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * أي: يدعوكم إلى الإيمان به لينفعكم، لا ليضركم. وقال: من ذنوبكم، بمعنى ليغفر لكم بعض ذنوبكم، لأنه يغفر ما دون الشرك، ولا يغفر الشرك. وقال الجبائي: دخلت من للتبعيض، ووضع البعض موضع الجميع توسعا. * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * أي: يؤخركم إلى الوقت الذي ضربه الله لكم أن يميتكم فيه، ولا يؤاخذكم بعاجل العقاب * (قالوا) * أي: قال لهم قومهم * (إن أنتم) * أي: ما أنتم * (إلا بشر مثلنا) * أي: خلق مثلنا * (تريدون أن تصدونا) * أي: تمنعونا * (عما كان يعبد آباؤنا) * من الأصنام والأوثان * (فأتونا بسلطان مبين) * أي: بحجة واضحة على صحة ما تدعونه، وبطلان ما نحن فيه، وانما قالوا ذلك لأنهم اعتقدوا ان جميع ما جاءت به الرسل من المعجزات، ليست بمعجزة، ولا دلالة. وقيل: إنهم طلبوا معجزات مقترحات سوى ما ظهرت فيما بينهم. وفي هذه الآية دلالة على انه سبحانه لا يريد الكفر والشرك. وإنما يريد الخير والإيمان، وانه إنما بعث الرسل إلى الكفار رحمة وفضلا وانعاما عليهم، ليؤمنوا، فإنه قال: يدعوكم ليغفر لكم. * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (12). المعنى: ثم حكى سبحانه جواب الرسل للكفار، فقال: * (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم) * في الصورة والهيئة، ولسنا ملائكة * (ولكن الله يمن على من
[ 64 ]
يشاء من عباده) * أي: ينعم عليهم بالنبوة، وينبئهم بالمعجزة، فلقد من الله علينا واصطفانا، وبعثنا أنبياء * (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان) * أي: بحجة على صحة دعوانا * (إلا بإذن الله) * أي: بأمره وإطلاقه لنا في ذلك * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * المصدقون به، وبأنبيائه * (وما لنا ألا نتوكل على الله) * معناه: وأي شئ لنا إذا لم نتوكل على الله، ولم نفوض أمورنا إليه، وعلى هذا تكون * (ما) * للإستفهام. وقيل: ان معناه ولا وجه لنا، ولا عذر لنا في أن لا نتوكل على الله، ولا نثق به، فتكون * (ما) * للنفي. وإذا كانت للإستفهام فمعناه النفي أيضا. * (وقد هدانا سبلنا) * أي: عرفنا طريق التوكل. وقيل: معناه هدانا إلى سبيل الإيمان، ودلنا على معرفته، ووفقنا لتوجيه العبادة إليه، وأن لا نشرك به شيئا، وضمن لنا على ذلك جزيل الثواب، والمراد أنا إذا كنا مهتدين فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على الله * (ولنصبرن على ما آذيتمونا) * فإنه تعالى يكفينا أمركم، وينصرنا عليكم * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * وإنما قص هذا وأمثاله في القرآن على نبينا، ليقتدي بمن كان قبله من المرسلين في تحمل أذى المشركين، والصبر على ذلك، والتوكل. وروى الواقدي بإسناده عن أبي مريم، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا آذاك البراغيث، فخذ قدحا من الماء، فاقرأ عليه سبع مرات * (وما لنا ألا نتوكل على الله) * الآية وقل: فإن كنتم آمنتم بالله فكفوا شركم وأذاكم عنا، ثم ترش الماء حول فراشك، فإنك تبيت تلك الليلة آمنا من شرها. * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذالك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال
[ 65 ]
البعيد (18)) *. القراءة: في الشواذ قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن: * (واستفتحوا) *. و قراءة ابن أبي إسحاق: * (في يوم عاصف) * بالإضافة. الحجة: قوله * (واستفتحوا) * معطوف على ما سبق من قوله * (فأوحى إليهم ربهم) * أي وقال لهم استفتحوا أي: استنصروا الله عليهم، واستقضوه بينكم. وفي الحديث: كان صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين أي: يستنصر بهم. وقيل: معناه أنه يقدمهم. ويبدأ أمره بهم، وكأنهم إنما سموا القاضي فتاحا، لأنه يفتح باب الحق الذي هو مسند، فيعمل عليه، وأما قوله * (في يوم عاصف) * فمعناه في يوم ريح عاصف، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، وكذلك في قراءة الجماعة * (في يوم عاصف) * هو الريح، لا اليوم. اللغة: الإستفتاح: طلب الفتح بالنصر. والخيبة إخلاف ما قدر به المنفعة، وضده النجاح: وهو إدراك الطلبة. والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس له غاية في الوصف، وإذا وصف العبد بأنه جبار، كان ذما. وإذا وصف الله سبحانه به كان مدحا، لأن له علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة. والعنيد: مبالغة العاند. والعناد: الإمتناع من الحق مع العلم به كبرا وبغيا، قال: إذا نزلت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا والوراء والخلف واحد: وهو الجهة المقابلة لجهة القدام، وقد يكون وراء بمعنى قدام قال: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي، وقومي تميم، والفلاة ورائيا قال الزجاج: الوراء ما يوارى عنك، وليس من الأضداد. قال النابغة: حلفت ولم أترك لنفسي ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب والصديد: القيح يسيل من الجرح، أخذ من أنه يصد عنه تكرها له. والقيح: دم مختلط بمدة (1) وقوله * (صديد) *: بيان الماء الذي يسقون، فلذلك أعرب (1) المدة: ما يجتمع في الجرح من القيح. (*)
[ 66 ]
بإعرابه. والتجرع: تناول المشروب جرعة جرعة على الإستمرار. والإساغة: إجراء الشراب في الحلق، يقال ساغ الشئ وأسغته أنا. والإشتداد: الإسراع بالحركة على عظم القوة، يقال: اشتد به الوجع من هذا، لأنه أسرع إليه على قوة ألمه. ويوم عاصف: شديد الريح. والعصف: شدة الريح، وإنما جعل العصف صفة لليوم، لأنه يقع فيه كما يقال ليل نائم، ويوم ماطر. ويجوز أن يكون المراد يوم عاصف ريحه، ومثله جحر ضب خرب أي: خرب جحره. الاعراب: * (أو) * في قوله * (أو لتعودن) * بمعنى إلا أن، كما يقال لا أكلمك أو تدعوني. وقال الفراء: لا يكاد يستعمل فيما يقع، وفيما لا يقع، فما يقع مثل قوله * (ولا يكاد يسيغه) * وما لم يقع مثل قوله * (لم يكد يراها) * لأن المعنى لم يرها. * (مثل الذين كفروا) * تقديره فيما يتلى عليكم، مثل الذين كفروا بربهم، فيكون رفعا بالإبتداء، ويجوز أن يكون مثل مقحما، كأنك قلت: الذين كفروا بربهم، فيكون رفعا بالإبتداء. و * (أعمالهم) *: رفع على البدل، وهو بدل الإشتمال. و * (كرماد) * الخبر. المعنى: * (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا) * أي: من بلادنا * (أو لتعودن في ملتنا) * أي: إلا أن ترجعوا إلى أدياننا ومذاهبنا التي نحن عليها * (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) * أي: فأوحى الله إلى رسله لما ضاقت صدورهم بما لقوا من قومهم: إنا نهلك هؤلاء الظالمين الكافرين * (ولنسكننكم الأرض من بعدهم) * أي: نسكننكم أرضهم من بعدهم، يريد: اصبروا فإني أهلك عدوكم وأورثكم أرضهم، وفي معناه ما جاء في الحديث من آذى جاره ورثه الله داره. * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي: ذلك الفوز لمن خاف وقوفه للحساب والجزاء بين يدي في الموضع الذي أقيمه فيه، وأضاف المقام إلى نفسه، لأنهم يقومون بأمره * (وخاف وعيد) * أي: عقابي. وإنما قالوا * (أو لتعودن في ملتنا) * وهم لم يكونوا على ملتهم قط، إما لأنهم توهموا على غير حقيقة أنهم كانوا على ملتهم، وإما لأنهم ظنوا بالنشوء أنهم كانوا عليها * (واستفتحوا) * أي: طلبت الرسل الفتح والنصر من قبل الله تعالى، على الكفار، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: هو سؤالهم أن يحكم الله بينهم وبين أممهم، لأن الفتح: الحكم، والفتاح: الحاكم، عن الجبائي * (وخاب كل جبار عنيد) * أي: خسر كل متكبر معاند مجانب للحق، دافع له. وقيل: معناه
[ 67 ]
واستفتح الكفار العذاب الذي توعدهم به الأنبياء على جهة التكذيب لهم * (من ورائه جهنم) * أي: جهنم بين يدي هذا الجبار، عن الزجاج، أي: له مع الخيبة نار جهنم بين يديه. وقيل: معناه من خلفه، وإنما جاز في الزمان أن يسمى الأمام وراء، وإن لم يجز في غيره، لأن الزمان المستقبل كأنه خلفهم، لأنه يأتي فيلحقهم كما يلحق الإنسان من خلفه. * (ويسقى من ماء صديد) * أي: ويسقى مما يسيل من الدم والقيح من فروج الزواني في النار، عن أبي عبد الله عليه السلام، وأكثر المفسرين. أو لونه لون الماء، وطعمه طعم الصديد. وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله * (ويسقى من ماء صديد) * قال: يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه (1)، فإذ شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله عز وجل * (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) * ويقول: * (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه) * وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شرب الخمر، لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن مات وفي بطنه شئ من ذلك، كان حقا على الله أن يسقيه من طينة خبال (2) وهو صديد أهل النار وما يخرج من فروج الزناة فيجتمع ذلك في قدور جهنم فيشربه أهل النار فيصهر به ما في بطونهم والجلود). رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم. * (يتجرعه) * أي: يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة * (ولا يكاد يسيغه) * أي: لا يقارب أن يشربه تكرها له، وهو يشربه، والمعنى أن نفسه لا تقبل لحرارته ونتنه، ولكن يكره عليه * (ويأتيه الموت من كل مكان) * أي: تأتيه شدائد الموت وسكراته من كل موضع من جسده، ظاهره وباطنه، حتى تأتيه من أطراف شعره، عن إبراهيم التيمي، وابن جريج. وقيل: يحضره الموت من كل موضع، ويأخذه من كل جانب، من فوقه، ومن تحته، وعن يمينه وشماله، ومن قدامه وخلفه، عن ابن عباس، والجبائي. * (وما هو بميت) * أي: ومع إتيان أسباب الموت و الشدائد التي يكون معها (1) الفروة: جلدة الرأس. (2) الخبال: عصارة أهل النار ذكره في (النهاية). وفي (اللسان) وطينة الخبال: ما سال من جلود أهل النار. (*)
[ 68 ]
الموت من كل جهة، وأنواع العذاب التي كان يموت بدونها في الدنيا، لا يموت فيستريح وهذا كقوله * (لا يقضى عليهم فيموتوا) *. * (ومن ورائه) * أي: وراء هذا الكافر * (عذاب غليظ) * وهو الخلود في النار. وقيل: معناه ومن بعد هذا العذاب الذي سبق ذكره عذاب أشد وأوجع مما تقدم، عن الكلبي. ثم أخبر سبحانه عما ينال الكفار من الحسرة فيما تكلفوه من الأعمال، فقال: * (مثل الذين كفروا بربهم) * وقيل: ان معناه مثل أعمال الذين كفروا بربهم، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه، عن الفراء. وقيل: معناه مما نقص عليك مثل الذين كفروا عن سيبويه * (أعمالهم) * في قلة انتفاعهم بها * (كرماد اشتدت به الريح) * أي: ذرته ونسفته * (في يوم عاصف) أي: شديد الريح، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق، والإنتفاع به، فكذلك هؤلاء الكفار * (لا يقدرون مما كسبوا على شئ) * أي: لا يقدرون على الإنتفاع بأعمالهم، ومثل قوله * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * * (ذلك هو الضلال البعيد) * يعني أن عملهم ذلك هو الذهاب البعيد عن النفع. وقيل: الخطأ البعيد عن الصواب، عن ابن عباس، وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبرة، لأنه أضاف العمل إليهم، ولو كان مخلوقا له سبحانه، لما صح إضافته إليهم. * (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20) وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21)) *. القراءة: قرأ * (خالق السماوات) ههنا، وفي النون: أهل الكوفة غير عاصم. والباقون: * (خلق) *. الحجة: قال أبو علي: من قرأ * (خلق) *: فلأن ذلك فعل ماض، فأخبر عنه بلفظ الماضي. ومن قرأ * (خالق) *: على اسم الفاعل، وجعله مثل فاطر السماوات،
[ 69 ]
لأن فاطر بمعنى خالق. اللغة: البروز: خروج الشئ عما كان ملتبسا به إلى حيث يقع عليه الحس، يقال: برز للقتال: إذا ظهر له. الضعفاء: جمع ضعيف. والضعف: نقصان القوة، يقال: أضعفه فضعف. والإستكبار، والتكبر، والتجبر، واحد: وهو رفع النفس فوق مقدارها في الوصف، والتبع: جمع تابع كالغيب جمع غائب. قال الزجاج: ويجوز أن يكون مصدرا وصف به، فيكون بمعنى ذوي تبع. وأغنى عنه: أي دفع عنه فأغناه أي: نفى الحاجة عنه بما فيه كفايته. وحاص يحيص حيصا وحيوصا مثل حاد. والحيد: الزوال عن المكروه. والجزع: انزعاج النفس بورود ما يغم، ونقيضه الصبر، قال: فإن تصبرا فالصبر خير مغبة (1) وإن تجزعا فالأمر ما تريان المعنى: ثم بين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبدوه، وليؤمنوا به، لا ليكفروا، فقال: * (ألم تر) * أي: ألم تعلم، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم، كما تكون بمعنى الإدراك للبصر، وههنا لا يمكن أن يكون بمعنى الرؤية بالبصر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به الأمة * (إن الله خلق السماوات والارض) * على ما تقتضيه الحكمة. والخلق: فعل الشئ على تقدير وترتيب * (بالحق) * أي: بقوله الحق. وقيل: أراد للحق أي للغرض الصحيح، والأمر الحق، وهو الدين والعبادة أي: فيستحقوا به الثواب، عن ابن عباس، والجبائي. * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) * أي: إن يشأ يهلككم، ويفنكم، ويخلق قوما آخرين مكانكم، لأن من قدر على بناء الشئ، كان على هدمه أقدر، إذ لم يخرج عن كونه قادرا * (وما ذلك على الله بعزيز) * أي: وما إهلاككم، والإتيان بخلق جديد بممتنع، ولا متعذر على الله تعالى * (وبرزوا لله جميعا) * أخبر سبحانه أن الخلق يبرزون يوم القيامة لله أي: يظهرون من قبورهم، ويخرجون منها، لحكم الله. فاللفظ للماضي، والمراد به الإستقبال للتحقيق، وصحة الوقوع. وقيل: معناه سيبرزون لله جميعا القادة والأتباع، عن ابن عباس. وهو يتصل بقوله: * (ولا يكاد يسيغه) *. (1) مغبة الأمر: عاقبته وقد مضى البيت. (*)
[ 70 ]
لما تقدم ذلك الوعيد بين صفة ذلك اليوم، وما يجري بين الأتباع والمتبوعين من المجادلة، وقال * (فقال الضعفاء للذين استكبروا) * أي: تكبروا عن الإيمان، فلم يؤمنوا، وهم القادة في الدنيا الذين هم الأكابر والرؤساء والقادة في الدين الذين هم علماء السوء * (إنا كنا لكم تبعا) * في الكفر على وجه التقليد * (فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ) * أي: هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قد نزل بنا، إن لم تقدروا على دفع الكل. ومن للتبعيض * (قالوا لو هدانا الله لهديناكم) * أي: قال المتبوعون للأتباع: لو هدانا الله إلى طريق الخلاص من العقاب، والوصول إلى النعيم والثواب، لهديناكم إلى ذلك، والمعنى: لو خلصنا لخلصناكم أيضا، لكن لا مطمع فيه لنا ولكم، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: معناه لو هدانا الله إلى الرجعة إلى الدنيا، فنصلح ما أفسدناه، لهديناكم. وقيل: لو هدانا الله بإجابتنا إلى الطلب، لهديناكم بالمسألة له سبحانه، ذكر هذين الوجهين القاضي عبد الجبار في تفسيره. * (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) * يعني: ان الصبر والجزع سيان مثلان ليس لنا محيص، ولا مهرب، من عذاب الله، أي: انقطعت حيلتنا، ويئسنا من النجاة. حث الله سبحانه في هذه الآية على النظر، وحذر من التقليد، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام في قوله للحارث الهمداني: (يا حار الحق لا يعرف بالرجال إعرف الحق تعرف أهله). * (وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22)) *. القراءة: قرأ حمزة وحده: * (بمصرخي) * بكسر الياء. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي: قال الفراء في كتابه في التصريف: هو قراءة الأعمش، ويحيى بن وثاب، قال: وزعم القاسم بن معن أنه صواب، قال: وكان ثقة بصيرا، وزعم قطرب أنه لغة من بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء،
[ 71 ]
وأنشد: ماض إذا ما هم بالمضي قال لها هل لك يا ناقي قالت له ما أنت بالمرضي وأنشد الفراء ذلك أيضا. ووجه ذلك من القياس أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع النصب، أو الجر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في أكرمتك، وهذا لك. فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في هذا كهو، وألحقت أيضا الكاف الزيادة في قول من قال أعطيتكاه، وأعطتكيه، فيما حكاه سيبويه، وهما أختا الياء، كذلك ألحقوا الياء الزيادة في المد فقالوا فيي. ثم حذفت الياء الزائدة على الياء، كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: له أرقان (1). وزعم أبو الحسن أنها لغة، فكما حذفت الزيادة من الكاف في قول من قال أعطيتكيه، وأعطيتكه، كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء. وبالجملة حذفت الزيادة من الياء، كم حذفت من أختيها، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليها من الكسرة، وكما لحقت الكاف والهاء والياء الزيادة، كذلك لحقت التاء الزيادة نحو (رميتيه فأصبتيه، وما أخطأت الرمية). فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة، وإن كان غيرها أفشى منها، وعضده من القياس، ما ذكرنا، لم يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن، لاستفاضة ذلك في السماع والقياس. قال البصير: كسر الياء ليكون طبقا لكسرة همزة قوله * (إني كفرت) *، لأنه أراد الوصل دون الوقف، والإبتداء بإني كفرت، لأن الإبتداء بأني كفرت محال، فلما أراد هذا المعنى كان كسر الياء أدل على هذا من فتحها. اللغة: الإصراخ: الإغاثة بإجابة الصارخ، ويقال استصرخني فلان فأصرخته أي: استغاث بي فأغثته. المعنى: لما تقدم وعيد الكافر، وصفة يوم الحشر، وما يجري فيه من الجدال بين الأتباع والمتبوعين، عقب ذلك سبحانه بكلام الشيطان في ذلك اليوم، فقال: * (وقال الشيطان) * وهو إبليس باتفاق المفسرين، يقول لأوليائه الذين اتبعوه * (لما قضي الأمر) * أي: فرغ من الحكم بين الخلائق، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار (1) هذا شطر من بيت مر في الجزء الخامس من هذا الكتاب فراجع. (*)
[ 72 ]
النار، عن ابن عباس، والحسن، وقالا: إنه لم يخاطبهم بذلك، قال الحسن: وهو أحقر وأذل من أن يخاطب لولا أن الله أذن فيه توبيخا لأهل النار. وقيل: انه يوضع له منبر في النار فيرقاه، ويجتمع الكفار عليه باللائمة، عن مقاتل * (إن الله وعدكم وعد الحق) * من البعث والنشور، والحساب، والثواب والعقاب * (ووعدتكم) * أن لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار. وقيل: ووعدتكم الخلاص من العقاب بارتكاب المعاصي * (فأخلفتكم) * أي: كذبتكم. وقيل: لم أوف لكم بما وعدتكم. * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم) * أي: وما كان لي عليكم سلطان بالإكراه والإجبار على الكفر والمعاصي، وإنما كان لي سبيل الوسوسة والدعوة * (فاستجبتم لي) * بسوء اختياركم. وقيل: معناه ما أظهرت لكم حجة احتج بها عليكم إلا أن دعوتكم، فيكون هذا من الإستثناء المنقطع، ومعناه: لكن دعوتكم إلى الضلال، وأغويتكم فصدقتموني، وأجبتموني، وقبلتم مقالتي بسوء اختياركم لأنفسكم. * (فلا تلوموني) * على ما حل بكم من العقاب بسوء اختياركم * (ولوموا أنفسكم) * حيث عدلتم عن أمر الله إلى اتباعي من غير دليل وبرهان. * (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * أي: ما أنا بمغيثكم، ولا معينكم، وما أنتم بمغيثي، ولا معيني * (إني كفرت بما أشركتموني من قبل) * أي: كفرت الآن بما كان من إشراككم إياي مع الله في الطاعة أي: جحدت أن أكون شريكا لله تعالى فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم. وقال الفراء وجماعة: تقديره إني كفرت بما أشركتموني به أي: بالله، ويعني بقوله * (من قبل) * في وقت آدم عليه السلام حين أمر بالسجود فأبى واستكبر * (إن الظالمين لهم عذاب أليم) * قيل: انه من تمام قول الشيطان لأهل النار. وقيل: انه ابتداء وعيد من الله تعالى لهم، وهو الأظهر. وفي هذه الآية دلالة على أن الشيطان لا يقدر على أكثر من الدعاء والإغواء، وأنه ليس عليه إلا عقاب الدعوة فحسب. * (وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23) ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتى
[ 73 ]
أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26). القراءة: في الشواذ قراءة الحسن: * (وأدخل الذين آمنوا) * برفع اللام. الحجة: قال ابن جني: هذه القراءة على أن أدخل من كلام الله، كأنه قطع الكلام واستؤنف، فقال الله، وأنا أدخل المؤمنين جنات، وعلى هذا فقوله * (بإذن ربهم) * أي: بإذني. إلا أنه أعاد ذكر الرب ليضيفه إليهم، فيكون أذهب في الإكرام والتقريب منه لهم. اللغة: التحية: التلقي بالكرامة في المخاطبة. وأما قوله * (التحيات لله) * فإن في ذلك ثلاثة أقوال أولها: المعنى أن الملك لله، يقال: حياك الله أي: ملكك وثانيها: البقاء لله، يقال: حياك الله أي: أبقاك الله، فيكون بمعنى أحياك الله كما يقال: وصى وأوصى، ومهل وأمهل. وثالثها: ان ذلك بمعنى السلام. قال القتيبي: وإنما جمع لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أسلم وأنعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله أي: كل الألفاظ التي يحيا بها الملوك هي لله، والإجتثاث: اقتلاع الشئ من أصله، يقال: جثه واجتثه. والجثة أخذت منه. المعنى: لما تقدم وعيد الكافرين، عقبه سبحانه بالوعد للمؤمنين، فقال: * (وأدخل الذين آمنوا) * أي: صدقوا الله ورسوله * (وعملوا الصالحات) * أي الطاعات: * (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) * قد سبق معناه * (بإذن ربهم) * أي: بأمر ربهم وإطلاقه * (تحيتهم فيها سلام) * مر تفسيره في سورة يونس (1). ثم ضرب الله سبحانه مثلا يقرب من أفهام السامعين، ترغيبا للخلق في اتباع الحق، فقال: * (ألم تر) * أي: ألم تعلم يا محمد * (كيف ضرب الله مثلا) * أي: بين الله شبها، ثم فسر ذلك المثل، فقال: * (كلمة طيبة) * وهي كلمة التوحيد، شهادة أن لا (1) في الجزء الخامس من هذا التفسير. (*)
[ 74 ]
إله إلا الله، عن ابن عباس. وقيل: هي أن كلام أمر الله تعالى به من الطاعات، عن أبي علي، قال. وإنما سماها طيبة، لأنها زاكية نامية لصاحبها بالخيرات والبركات. * (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) * أي: شجرة زاكية نامية راسخة، أصولها في الأرض، عالية أغصانها، وثمارها في السماء، وأراد به المبالغة في الرفعة، والأصل سافل، والفرع عال، إلا أنه يتوصل من الأصل إلى الفرع. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الشجرة الطيبة هي النخلة. وقيل: انها شجرة في الجنة، عن ابن عباس. وروى ابن عقدة عن أبي جعفر عليه السلام أن الشجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرعها علي عليه السلام، وعنصر الشجرة فاطمة، وثمرتها أولادها، وأغصانها وأوراقها شيعتنا، ثم قال عليه السلام: إن الرجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة، وان المولود من شيعتنا ليولد، فيورق مكان تلك الورقة ورقة. وروي عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الشجرة وعلي غصنها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها. وقيل: أراد بتلك شجرة هذه صفتها، وإن لم يكن لها وجود في الدنيا، لكن الصفة معلومة. وقيل: ان المراد بالكلمة الطيبة: الإيمان، وبالشجرة الطيبة: المؤمن. * (تؤتي أكلها) * أي: تخرج هذه الشجرة ما يؤكل منها * (كل حين) * أي: في كل ستة أشهر، عن ابن عباس، وأبي جعفر عليه السلام. وقال الحسن، وسعيد بن جبير: أراد بذلك أنه يؤكل ثمرها في الصيف، وطلعها في الشتاء، وما بين صرام النخلة إلى حملها ستة أشهر، وقال مجاهد، وعكرمة: كل حين أي: كل سنة، لأنها تحمل في كل سنة مرة. وقال سعيد بن المسيب: في كل شهرين، لأن من وقت ما يطعم النخل إلى صرامه، يكون شهرين. وقيل: لأن من وقت أن يصرم النخل إلى حين يطلع، يكون شهرين. وقال الربيع بن أنس: كل حين أي: كل غدوة وعشية، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل: معناه في جميع الأوقات، لأن ثمر النخل يكون أولا طلعا، ثم يصير بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا، فيكون ثمره موجودا في كل الأوقات، ويدل على أن الحين بمنزلة الوقت، قول النابغة في صفة الحية، والملدوغ: تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه حينا، وحينا تراجع (1) (1) تناذرها أي: أنذر بعضهم بعضا. وراقون جمع الراقي: من يصنع الرقية وهي العوذة. وفي الديوان وشرح الأشموني (تطلقه طورا وطورا تراجع). ويروى أيضا (من سوء سمعها). (*)
[ 75 ]
يعني أن السم يخف ألمه وقتا، ويعود وقتا. و قيل: انه سبحانه شبه الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن، كثبات النخلة في منبتها، وشبه ارتفاع علمه إلى السماء بارتفاع فروع النخلة، وشبه ما يكسبه المؤمنون من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وحين، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها من الرطب والتمر. وقيل: إن معنى قوله تؤتي أكلها كل حين * (بإذن ربها) * ما يفتي به الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم في الحلال والحرام. * (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) * أي: لكي يتدبروا فيعرفوا الغرض بالمثل * (ومثل كلمة خبيثة) * وهي كلمة الكفر والشرك، عن ابن عباس وغيره، وقيل: هو كل كلام في معصية الله تعالى، عن أبي علي * (كشجرة خبيثة) * غير زاكية، وهي شجرة الحنظل، عن ابن عباس، وأنس، ومجاهد. وقيل: انها شجرة هذه صفتها، وهو أنه لا قرار لها في الأرض، عن الحسن. وقيل: انها الكشوث (1)، عن الضحاك. وروى أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام: إن هذا مثل بني أمية * (اجتثت من فوق الأرض) * أي: اقتطعت واستؤصلت، واقتلعت جثته من الأرض * (ما لها من قرار) * أي: ما لتلك الشجرة من ثبات، فإن الريح تنسفها، وتذهب بها، فكما أن هذه الشجرة لا ثبات لها، ولا بقاء، ولا ينتفع بها أحد، فكذلك الكلمة الخبيثة، لا ينتفع بها صاحبها، ولا يثبت له منها نفع، ولا ثواب. وروي عن ابن عباس أيضا: انها شجرة لم يخلقها الله بعد، وإنما هو مثل ضربه بهذا وهذا القول حسن لأن الحنظل وغيره، قد ينتفع بذلك في الأدوية * (يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء (27) * ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى (1) الكشوث: نبات يلتف على الشوك والشجر، لا أصل له في الأرض، ولاورق. (*)
[ 76 ]
النار (30)) *. اللغة: الإحلال: وضع الشئ في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام، أو بمداخلة إن كان من قبيل الأعراض. والبوار: الهلاك، يقال بار الشئ يبور بورا: إذا هلك. ورجل بور أي: هالك. وقوم بور أيضا قال ابن الزبعرى: يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور والأنداد: الأمثال المنادون، قال: تهدى رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد (1) الاعراب: * (جهنم) *: انتصب على البدل من قوله * (دار البوار ويصلونها) * في موضع نصب على الحال من قومهم. وإن شئت كان حالا من * (جهنم) *، وإن شئت فمنهما كقوله * (تحمله) * بعد قوله: * (فأتت به قومها) *. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الكلمة الطيبة، عقبه بذكر ما يحصل لصاحبها من المثوبة والكرامة، فقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أي: يثبتهم في كرامته وثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم، وهو كلمة الإيمان، لأنه ثابت بالحجج والأدلة. وقيل: معناه يثبت الله المؤمنين بسبب كلمة التوحيد وحرمتها في الحياة الدنيا حتى لا يزلوا، ولا يضلوا عن طريق الحق، ويثبتهم بها حتى لا يزلوا ولا يضلوا عن طريق الجنة. وقيل: معناه يثبتهم بالتمكين في الأرض، والنصرة والفتح في الدنيا، وبإسكانهم الجنة في الآخرة، عن أبي مسلم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد بقوله * (في الآخرة) * في القبر، والآية وردت في سؤال القبر، وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، وهو المروي عن أئمتنا عليه السلام. وروى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي بإسناده، عن سويد بن غفلة، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك ؟ فيقول: خذ مني كفنك. فيلتفت إلى ولده، فيقول: والله إني كنت لكم لمحبا، وعليكم لمحاميا، فماذا لي عندكم ؟ (1) مر البيت في ما سبق في الجزء الخامس في سورة هود. (*)
[ 77 ]
فيقولون: نؤديك إلى حفرتك، نواريك فيها. قال: فيلتفت إلى عمله، فيقول: والله إني كنت فيك لزاهدا، وإن كنت علي لثقيلا، فماذا لي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك. قال: فإن كان لله وليا، أتاه أطيب الناس ريحا، وأحسنهم منظرا وأحسنهم رياشا، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت فيقول: أنا عملك الصالح، أرتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يعجله، فإذا أدخل قبره، أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما، ويخدان الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول: الله ربي، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قوله سبحانه * (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) *، ثم يفسحان له في قبره مد بصره. ثم يفتحان له بابا إلى الجنة، ثم يقولان له نم قرير العين نوم الشاب الناعم، فإن الله يقول * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) *. قال: وإذا كان لربه عدوا، فإنه يأتيه أقبح خلق الله زيا، وأنتنه ريحا، فيقول: أبشر بنزل من حميم، وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حملته أن يحتبسوه. فإذا أدخل القبر، أتاه ملكا القبر، فألقيا أكفانه، ثم يقولان له: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول: لا أدري ! فيقولان له: لا دريت ولا هديت ! فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق الله من دابة إلا تذعر لها ما خلا الثقلين. ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال فيه من الضيق، مثل ما فيه القناة من الزج، حتى أن دماغه ليخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الأرض وعقاربها وهوامها، فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره وإنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر، نعوذ بالله من عذاب القبر. * (ويضل الله الظالمين) * أي: ويضلهم عن هذا التثبيت في الدنيا وفي الآخرة * (ويفعل الله ما يشاء) * من الإمهال، والإنتقام، وضغطة القبر، ومسألة منكر ونكير، لا اعتراض عليه في ذلك، ولا قدرة لأحد على منعه، وهذا من تمام الترغيب والترهيب. ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) يحتمل أن يكون المراد: ألم تر إلى هؤلاء الكفار عرفوا نعمة الله
[ 78 ]
بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أي: عرفوا محمدا، ثم كفروا به، فبدلوا مكان الشكر كفرا. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (نحن والله نعمة الله التي أنعمها، أنعم بها على عباده، وبنا يفوز من فاز). ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره. ويحتمل أن يكون المراد جميع نعم الله على العموم بدلوها أقبح التبديل، إذا جعلوا مكان شكرها الكفر بها، واختلف في المعنى بالآية، فروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومجاهد أنهم كفار قريش كذبوا نبيهم، ونصبوا له الحرب والعداوة، وسأل رجل أمير المؤمنين عليا عليه السلام عن هذه الآية، فقال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة. فأما بنو أمية فمتعوهم إلى حين، وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وقيل: إنهم جبلة بن الأيهم ومن اتبعوه من العرب، تنصروا ولحقوا بالروم. * (وأحلوا قومهم دار البوار) * أي: أنزلوا قومهم دار الهلاك بأن أخرجوهم إلى بدر. وقيل: معناه أنزلوهم دار الهلاك، وهي النار بدعائهم إياهم إلى الكفر بالنبي وإغوائهم إياهم. * (جهنم يصلونها وبئس القرار) * وهذا تفسير لدار البوار أن تلك الدار هي جهنم، يدخلونها وبئس القرار قرار من قراره النار. * (وجعلوا لله أندادا) * أي: وجعل هؤلاء الكفار الذين بدلوا نعمة الله كفرا لله نظراء وأمثالا في العبادة، زيادة على كفرهم وجحدهم * (ليضلوا عن سبيله) * أي: ليكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك، وليست هذه اللام لام الغرض، لأنهم لم يعبدوا الأوثان من دون الله، وغرضهم أن يهلكوا، ومن قرأ * (ليضلوا) * بضم الياء، فمعناه: ليضل الناس عن سبيل الله. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (قل) * لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم * (تمتعوا) * وانتفعوا بما تهوون من عاجل هذه الدنيا. والمراد به التهديد، وإن كان بصورة الأمر * (فإن مصيركم) * أي: مرجعكم ومآلكم * (إلى النار) * والكون فيها، وكان قد يكون. * (قل لعبادي الذين ءامنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31) الله الذى خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم
[ 79 ]
الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعد وانعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34)) *. القراءة: قرأ زيد عن يعقوب: * (من كل ما سألتموه) * بالتنوين، وهو قراءة ابن عباس والحسن، ومحمد بن علي الباقر عليه السلام، وجعفر بن محمد الصادق عليه السلام، والضحاك، وعمرو بن قائد. وقرأ سائر القراء: * (من كل ما سألتموه) * بالإضافة. الحجة: أما القراءة بالتنوين فإن المفعول فيها ملفوظ به، أي: وآتاكم ما سألتموه من كل شئ سألتموه أن يؤتيكم منه. وقال الضحاك: إن * (ما) * للنفي، معناه وآتاكم من كل شئ لم تسألوه إياه، أما القراءة على الإضافة فالمفعول فيها محذوف أي: وآتاكم سؤالكم من كل شئ سألتموه. اللغة: الخلال: مصدر خاللته مخالة وخلالا أي: صادقته، قال امرؤ القيس: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى، ولست بمقلي الخلال، ولا قال (1) وقد يكون الخلال جمع خلة ويكون مثل قلة وقلال والدؤوب مرور الشئ في العمل على عادة جارية فيه يقال دأب يدأب دأبا ودؤوبا فهو دائب. الاعراب: يقيموا جزم ثلاثة أوجه أحدها: إنه جواب الأمر الذي هو قل، لأن المعنى في * (قل) * أن تقل لهم يقيموا الصلاة والثاني: انه أمر محذوف وتقديره: قل لعبادي أقيموا الصلاة، يقيموا الصلاة والثالث: إنه على حذف لام الأمر، كأنه قال: قل لعبادي ليقيموا الصلاة. وإنما جاز حذف اللام هنا، لأن في الكلام دليلا على المحذوف، ألا ترى أن لفظ الأمر بقل، قد دل على الغائب. تقول: قل لزيد ليضرب عمروا، وإن شئت قلت: قل لزيد يضرب عمروا، ولا يجوز أن تقول: يضرب زيد عمروا بالجزم، حتى تقول ليضرب، لأن لام الغائب ليس هنا عوض منها إذا حذفتها. وقوله: لا بيع فيه ولا خلال: إن شئت رفعت البيع والخلال جميعا، (1) المقلى: المبغوض. والقالي: الباغض. (*)
[ 80 ]
وإن شئت فتحتهما، وإن شئت فتحت أحدهما ورفعت الآخر، وقد شرحنا ذلك فيما مضى. المعنى: * (قل) * يا محمد * (لعبادي الذين آمنوا) * أي: اعترفوا بتوحيد الله وعدله، عنى به أصحاب النبي، عن ابن عباس. وقيل: أراد به جميع المؤمنين، عن الجبائي * (يقيموا الصلاة) * أي: يؤدوا الصلوات الخمس لمواقيتها، فإن الصلاة لا تصير قائمة إلا بإقامتهم. * (وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) * أي: وقل لهم ينفقوا من أموالهم في وجوه البر من الفرائض والنوافل، ينفقون في النوافل سرا، ليدفعوا عن أنفسهم تهمة الرياء، وفي الفرائض علانية، ليدفعوا تهمة المنع * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) * يعني: يوم القيامة، والمراد بالبيع: إعطاء البدل ليتخلص به من النار، لا أن هناك مبايعة * (ولا خلال) * أي: ولا مصادقة. وهذا مثل قوله * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) *. ثم بين سبحانه أنه المستحق للإلهية، فقال: * (الله الذي خلق السماوات والأرض) أي: أنشأهما من غير شئ، وبدأ بذكرهما لعظم شأنهما في القدرة، والنعمة * (وأنزل من السماء ماء) * أي: غيثا ومطرا * (فأخرج به) * أي: بذلك الماء * (من الثمرات رزقا لكم) * يعني أن الغرض في ذلك أن يؤتيكم أرزاقكم * (وسخر لكم الفلك) أي: السفن والمراكب * (لتجري في البحر بأمره) * أي: بأمر الله، لأنها تسير بالرياح والله هو المنشئ للرياح * (وسخر لكم الأنهار) * التي تجري بالمياه ينزلها من السماء، ويجريها في الأودية، وينصب منها في الأنهار * (وسخر لكم الشمس والقمر) * أي: ذلل لمنافعكم الشمس والقمر في سيرهما، لتنتفعوا بضوء الشمس نهارا، وبضوء القمر ليلا، وليبلغ بها الثمار والنبات في النضج، الحد الذي عليه تتم النعمة فيهما * (دائبين) * أي: دائمين لا يفتران في صلاح الخلق والنباتات، ومنافعهم. * (وسخر لكم الليل والنهار) * أي: ذللهما لكم، ومهدهما لمنافعكم، لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا في النهار من فضله * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * معناه ان الإنسان قد يسأل الله العافية فيعطى، ويسأله النجاة فيعطى، ويسأله الغنى فيعطى، ويسأله الولد والعز فيعطى، ويسأله تيسير الأمور وشرح الصدور فيعطى، فهذا في الجملة حاصل في الدعاء لله تعالى ما لم يكن فيه مفسدة في الدين، أو على غيره، فأين
[ 81 ]
يذهب به مع هذه النعم التي لا تحصى كثرة عن الله الذي هو في كل حال محتاج إليه، وهو مظاهره بالنعم عليه. ودخلت * (من) * للتبعيض، لأنه لو قال: وآتاكم كل ما سألتموه، لاقتضى أن جميع ما يسأله العبد يعطيه الله تعالى، والأمر بخلافه، لأن ما فيه مفسدة لا يعطيه الله إياه، وتقديره: وآتاكم من كل ما سألتم شيئا. وقيل: معناه وآتاكم من كل ما بكم إليه حاجة، فما من شئ يحتاج إليه العباد إلا وهو موجود فيما بينهم وهو كقوله * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) *. ولم يخصص كل واحد من الخلق بإيتاء كل ما سأله. وقيل: معناه وآتاكم من كل شئ سألتموه، ولم تسألوه، فما ههنا نكرة موصوفة، والجملة صفة له، وحذف الجملة المعطوفة، وهي لم تسألوه، كقوله * (سرابيل تقيكم الحر) * والمعنى: وتقيكم البرد، وإن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * أي: لا تقدروا على إحصائها لكثرتها، والنعمة هنا: اسم أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع. فبين سبحانه أنه هو المنعم على الحقيقة، وأنه المستحق للعبادة. ويروى عن طليق بن حبيب أنه قال: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، فإن نعم الله أكثر من أن تحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تأئبين * (إن الإنسان لظلوم) * أي: كثير الظلم لنفسه * (كفار) * أي: كثير الكفران لنعم ربه. وقيل: معناه ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. ولم يرد بالإنسان هاهنا العموم، بل هو مثل ما في قوله * (والعصر إن الإنسان لفي خسر) *. النظم: اتصل قوله سبحانه: * (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) * بما تقدم من قوله: * (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) *، فإنه عقب ذلك بالأمر للمؤمنين بما يوجب النعيم المقيم، ومرافقة الأبرار، ليكون قد عقب الوعيد بالوعد، والعقاب بالثواب، واتصلت الآية الثانية بقوله * (وجعلوا لله أندادا) * فإنه سبحانه لما ذكر ما هم عليه من اتخاذ الأنداد لله سبحانه، بين بعده أن واجب الوجود المستحق للإلهية الذي يحق له العبادة، هو الله الذي خلق السماوات والأرض. الآية. * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءامنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني
[ 82 ]
فإنك غفور رحيم (36) ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لى ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) *. القراءة: في الشواذ قراءة الجحدري، والثقفي، وأبي الجحجاح: * (واجنبني) * بقطع الهمزة، وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبو جعفر الباقر عليه السلام، وجعفر بن محمد عليه السلام، ومجاهد: * (تهوى إليهم) * بفتح الواو. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة، عن حفص: * (وتقبل دعائي ربنا) * بإثبات الياء في الوصل. وفي رواية البزي، عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء. وقال قبيل: إنه يشم الياء في الوصل، ولا يثبتها، ويقف عليها بالألف، والباقون: * (دعاء) * بغير ياء، وقرأ الحسن بن علي عليه السلام، وأبو جعفر محمد بن علي عليه السلام، والزهري، وإبراهيم النخعي: * (ولولدي) * وقرأ يحيى بن يعمر: * (ولولدي) *. وقرأ سعيد بن جبير: * (ولوالدي) *. الحجة: يقال: جنبت الشئ أجنبه جنوبا، ومن العرب من يقول: أجنبته أجنبه أي: تجنبته عن الشئ، وكأن معنى قوله * (أجنبني وبني أن نعبد الأصنام) *: اصرفني وإياهم عن عبادة الأصنام. ومعنى * (اجنبني) * اجعلني كالجنيب عن ذلك. وأما قوله: * (تهوى إليهم) * بفتح الواو فهو من هويت الشئ أهواه: إذا أحببته، وإنما جاز تعديته بإلى، لأن معنى هويت الشئ: ملت إليه، فكأنه قال: تميل إليهم، فهو محمول على المعنى، ومثله قوله سبحانه * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * فعدى الرفث بإلى، وأنت لا تقول رفثت إلى فلانة، وإنما تقول رفثت بها، أو معها، ولكنه لما كان معنى الرفث هنا معنى الإفضاء، عداه بإلى، فكأنه قال:
[ 83 ]
أحل لكم الإفضاء إلى نسائكم. قال ابن جني: المعنى في قراءة الجماعة * (تهوى إليهم) *: تميل إليهم أي: تحبهم، فهذا في المعنى كقولهم وهو ينحط في هواك أي: يخلد إليه، ويقيم عليه، وذلك أن الإنسان إذ أحب الشئ أكثر من ذكره، وأقام عليه، وإذا كرهه خف إلى سواه. وقولهم * (هويت فلانا) *: من لفظ هوى إلى الشئ يهوي، إلا أنهم خالفوا بين المثالين لاختلاف ظاهر الأمرين، وإن كانا على معنى واحد متلاقيين. وأما من وصل * (دعائي) * بياء فهو القياس من شم الياء في الوصل، ولا يثبتها، فلدلالة الكسرة على الياء، قال أبو علي: حذف الياء في الوقف أقيس من حذفها في الوصل، لأن الوقف موضع تغيير يغير فيه الحرف الموقوف عليه كثيرا. قال الأعشى: فهل يمنعني ارتيادي البلاد من حذر الموت أن يأتين وقال: ومن شانئ كاسف وجهه إذا ما انتسبت له أنكرن ومن قرأ * (لولدي) * فإنه يعني إسماعيل وإسحاق. ومن قرأ * (لولدي) *: فإن الولد قد يكون واحدا وجمعا، تقول العرب: ولدك من دمى عقبيك، ومعناه: ولدك من ولدته فسال دمك على عقبيك عند ولادته، لا من اتخذته ولدا. وإذا كان جمعا فيجوز أن يكون جمع ولد فهو كأسد وأسد، ويجوز أن يكون جمع ولد أيضا فيكون مثل الفلك في أنه جمع الفلك. اللغة: الوادي: سفح الجبل العظيم، ومنها قيل للأنهار العظام أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، ومنه الدية لأنه مال عظيم يحتمل في أمر عظيم. المعنى: * (وإذ قال إبراهيم) * معناه واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم * (رب اجعل هذا البلد آمنا) * يعني مكة وما حولها من الحرم. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة، دعا بهذا الدعاء، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة (1). وإنما قال هناك * (بلدا آمنا) * وقال هنا * (هذا البلد آمنا) * معرفا، لأن النكرة إذا تكررت وأعيدت، صارت معرفة، ومثله في التنزيل * (فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها (1) راجع الجزء الأول من هذا التفسير. (*)
[ 84 ]
كوكب) * فاستجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام حتى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها، فلا يتعرض له، ويدنو الوحش فيها من الناس فيأمن منهم. * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * أي: والطف لي ولبني لطفا نتجنب به عن عبادة الأصنام، ودعاء الأنبياء لا يكون إلا مستجابا. فعلى هذا يكون سؤاله ذلك مخصوصا بمن علم الله من حاله أن يكون مؤمنا لا يعبد إلا الله، ويكون الله سبحانه قد أذن له في الدعاء لهم، واستجاب دعاءه فيهم * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * معناه: ضل بسببهن وعبادتهن كثير من الناس، كما يقال فتنتني فلانة يعني: افتتنت بحبها، لا لأنها عملت شيئا، وكما في قول الشاعر: هبوني امرأ منكم أضل بعيره له ذمة، إن الذمام كبير وإنما أراد ضل بعيره، لأن أحدا لا يضل بعيره قاصدا إلى إضلاله * (فمن تبعني فإنه مني) * يريد فمن تبعني من ذريتي الذين أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، فإنه من جملتي، وحاله كحالي * (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) * أي: ساتر على العباد معاصيهم، رحيم بهم في جميع أحوالهم، منعم عليهم. ثم حكى سبحانه تمام دعاء إبراهيم عليه السلام وانه قال * (ربنا إني أسكنت من ذريتي) * أي: أسكنت بعض أولادي، ولا خلاف أنه يريد إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر، وهو أكبر ولده. وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: نحن بقية تلك العترة. وقال: كانت دعوة إبراهيم عليه السلام لنا خاصة * (بواد غير ذي زرع) * يريد وادي مكة، وهو الأبطح، وإنما قال: * (غير ذي زرع) * لأنه لم يكن بها يومئذ ماء، ولا زرع، ولا ضرع، ولم يذكر مفعول * (أسكنت) * لأن * (من) * يفيد بعض القوم، كما يقال قتلنا من بني فلان، وأكلنا من الطعام، وكما قال سبحانه * (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * وتقديره أسكنت من ذريتي أناسا، أو ولدا عن البلخي. * (عند بيتك المحرم) * إنما أضاف البيت إليه سبحانه، لأنه مالكه، لا يملكه أحد سواه، وما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد. ويسأل فيقال: كيف سماه بيتا، ولم يبنه إبراهيم عليه السلام بعد ؟ والجواب من وجهين: أحدهما: إنه لما كان من المعلوم أنه يبنيه سماه بيتا، والمراد عند بيتك الذي مضى في سابق علمك كونه
[ 85 ]
والثاني: إن البيت قد كان قبل ذلك، وإنما خربه طسم وجديس (1). وقيل: انه رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وإنما سماه المحرم، لأنه لا يستطيع أحد الوصول إليه إلا بالإحرام. وقل: لأنه حرم فيه ما أحل في غيره من البيوت من الجماع والملابسة بشئ من الأقذار والدماء، وقيل: معناه: العظيم الحرمة * (ربنا ليقيموا الصلاة) * أي: أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة، ويقيموا بشرائطها. واللام تتعلق بقوله * (أسكنت) *، وفصل بينه وبين ما تعلق بقوله * (ربنا) *، لأن الفصل بالنداء مستحب في هذا، وإذا جاء نحو قوله: على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب (2) أي: أندل المال يا زريق، ففصل بالنداء بين المصدر، وما تعلق به كان هذا أولى * (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) هذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إلى ذلك الموضع، ليكون في ذلك أنس لذريته بمن يرد عليهم من الوفود، وليدر أرزاقهم على مرور الأوقات، ولولا لطفه سبحانه بإمالة قلوب الناس إليه، إما للدين كالحج والعمرة، وإما للتجارة، لما صح أن يعيش ساكنوه. قال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال * (من الناس) *، فهم المسلمون. وروى مجاهد أنه قال: إن إبراهيم عليه السلام لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس والروم، وروى الفضل بن يسار وغيره، عن الباقر عليه السلام أنه قال: إنما أمر الناس أن يطوفوا بهذه الأحجار، ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم، ثم قرأ هذه الآية. وقيل: إن معنى تهوي إليهم: ينزع إليهم، ويميل، عن ابن عباس، وقتادة، وقيل: معناه وينزل ويهبط إليهم، لأن مكة في غور، عن أبي مسلم. * (وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) * أي: لكي يشكروا لك، ويعبدوك * (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) * هذا اعتراف من إبراهيم عليه السلام لله سبحانه بأنه (1) طسم وجديس: قبيلتان من العرب سكان مكة فانقرضوا. وقيل: حيان من عاد. (2) قيل: إن قائل البيت هو أعشى همدان يهجو به لصوصا. وندلا: هو هنا الأخذ باليدين أو هو الخطف. والثعلب يضرب به المثل في الأخذ، لأنه يدخر لنفسه، ويأتي على ما يعدو عليه من الحيوان وفي المثل (هو أكسب من ثعلب) وزريق: اسم قبيلة. (*)
[ 86 ]
يعلم ما يبطن الخلق، وما يظهرونه، وأنه لا يخفى عليه شئ مما في الأرض والسماء. وقيل: إن قوله * (وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء) * إنما هو إخبار منه سبحانه بذلك، وابتداء كلام من جهته لا على سبيل الحكاية عن إبراهيم عليه السلام، بل هو اعتراض، عن الجبائي قال: ثم عاد إلى حكاية كلام إبراهيم عليه السلام فقال: * (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) * وهذا اعتراف منه بنعم الله سبحانه، وحمد له على إحسانه، بأن وهب له على الكبر، كبر سنه، ولدين. قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وقال سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. * (إن ربي لسميع الدعاء) * أي: قابله ومجيبه، عن ابن عباس، ويؤيده قوله * (سمع الله لمن حمده) * * (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) * تقديره: واجعل من ذريتي مقيم الصلاة، فحذف الفعل لأن ما قبله يدل عليه. وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام من الله تعالى بأن يلطف له اللطف الذي عنده، يقيم الصلاة، ويتمسك بالدين، وأن يفعل مثل ذلك بجماعة من ذريته، وهم الذين أسلموا منهم، فسأل لهم مثل ما سأل لنفسه * (ربنا وتقبل دعاء) * أي: وأجب دعائي، فإن قبول الدعاء إنما هو الإجابة، وقبول الطاعة الإثابة. * (ربنا اغفر لي ولوالدي) * واستدل أصحابنا بهذا على ما ذهبوا إليه من أن أبوي إبراهيم عليه السلام لم يكونا كافرين، لأنه إنما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك، لأنه قال: * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) *، فصح أن أباه الذي كان كافرا، إنما هو جده لأمه، أو عمه على الخلاف فيه. ومن قال: إنما دعا لأبيه، لأنه كان وعده أن يسلم، فلما مات على الكفر تبرأ منه على ما روى الحسن، فقوله فاسد لأن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر، وبعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق، وقد تبين له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر لله، فلا يجوز أن يقصده بدعائه. * (وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) أي: واغفر للمؤمنين أيضا يوم يقوم الخلق للحساب. وقيل: معناه يوم يظهر وقت الحساب، كما يقال: قامت السوق. النظم: إتصلت الآيات بما قبلها، لأن النهي عن عبادة الأصنام، والأمر بعبادة الله سبحانه، قد تقدم، فبين الله سبحانه عقيب ذلك ما مكان عليه إبراهيم عليه السلام من التشدد في إنكار عبادة الأصنام، والدعاء بما دعا به. وقيل: إنه معطوف على ما
[ 87 ]
تقدم من قوله * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) *. وقيل: إنه لما قال: * (وآتاكم من كل ما سألتموه)، بين عقيبه ما دعا به إبراهيم عليه السلام، وسأله إياه، وإجابته لدعائه وسؤاله. * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفدتهم هواء (43) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45)) *. اللغة: الإهطاع: الإسراع، قال: في مهطع سرع كأن زمامه في رأس جذع من أراك مشذب (1) وقال آخر: بدجلة أهلها، ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع أي: مسرعين. وقيل: إن الإهطاع مد العنق. والهطع: طول العنق. قال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع لا يقلع بصره، والإقناع رفع الرأس. وقال الزجاج: المقنع الرافع. والمقنع: المرتفع. قال الشماخ: يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدإ الوقيع (2) أي: كالفؤوس المحدبة، يصف إبلا ترعى الشجر. والطرف: مصدر طرفت عين فلان: إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض. والطرف: العين أيضا، وأفئدتهم هواء أي: متجوفة لا تعي شيئا للخوف والفزع، شبهها بهواء الجو، قال حسان: (1) جذع مشذب أي: مقشر، إذا قشرت ما عليه من الشوك. (2) العضاه: كل شجر يعظم وله شوك. والمقنع: الفم الذي يكون عطف أسنانه إلى داخل الفم، وذلك القوي الذي يقطع له كل شئ. والحدأ جمع الحدأة: الفأس ذات الرأسين. وسكين وقيع أي: حديد. (*)
[ 88 ]
ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء (1) وقال زهير: كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء (2) والأجل: الوقت المضروب لانقضاء الأمد. الاعراب: * (يوم يأتيهم) *: نصب على أنه مفعول به، والعامل فيه * (أنذرهم) * ولا يكون على الظرف، لأنه لم يؤمر بالإنذار في ذلك اليوم. * (فيقول) *: عطف على * (يأتيهم) *، وليس جواب الأمر، لأنه لو كان جوابا له، لجاز فيه النصب والرفع، فالنصب مثل قول الشاعر: ياناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا والرفع على الإستئناف. * (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) *: فاعل * (تبين) * محذوف أي: تبين لكم فعلنا بهم، ولا يكون الفاعل كيف، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولأن كيف لا يخبر عنه، وإنما يخبر به. و * (كيف) * هنا: منصوب بقوله * (فعلنا) *. المعنى: لما ذكر سبحانه يوم الحساب، وصفه وبين أنه لا يمهل الظالمين عن غفلة، لكن لتأكيد الحجة، قال * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * وفي هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم، ومعناه: ولا تظنن الله ساهيا عن مجازاة الظالمين على أعمالهم. وقيل: إن تقديره ولا تحسبن الله لا يعاقب الظالمين على أفعالهم، ولا ينتصف للمظلومين منهم * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * ومعناه: إنما يؤخر عقابهم ومجازاتهم إلى يوم القيامة، وهو اليوم الذي تكون فيه الأبصار شاخصة عن مواضعها، لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم، ولا تطرف، عن الجبائي. وقيل: تشخص أبصارهم إلى إجابة الداعي حين يدعوهم، عن الحسن. وقيل: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تنطبق، للتحير، والرعب * (مهطعين) * أي: مسرعين، عن الحسن، وسعيد بن جبير،، وقتادة. وقيل: يريد دائمي النظر (1) رجل نخب أي: جبان. (2) الظلمان جمع الظليم: الذكر من النعامة. والصعل: الدقيق الرأس. (*)
[ 89 ]
إلى ما يرون، لا يطرفون عن ابن عباس، ومجاهد. * (مقنعي رؤوسهم) * أي: رافعي رؤوسهم إلى السماء حتى لا يرى الرجل مكان قدمه من شدة رفع الرأس، وذلك من هول يوم القيامة. وقال مؤرج: معناه ناكسي رؤوسهم بلغة قريش. * (لا يرتد إليهم طرفهم) * أي: لا ترجع إليهم أعينهم، ولا يطبقونها، ولا يغمضونها، وإنما هو نظر دائم * (وأفئدتهم هواء) * أي: قلوبهم خالية من كل شئ، فزعا وخوفا، عن ابن عباس. وقيل: خالية من كل سرور وطمع في الخير، لشدة ما يرون من الأهوال، كالهواء الذي بين السماء والأرض. وقيل: معناه وأفئدتهم زائلة عن مواضعها، قد ارتفعت إلى حلوقهم، لا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، بمنزلة الشئ الذاهب في جهات مختلفة، المتردد في الهواء، عن سعيد بن جبير، وقتادة. وقيل: معناه خالية عن عقولهم، عن الأخفش * (وأنذر الناس) * معناه ودم يا محمد على إنذارك الناس، وهو عام في كل مكلف، عن الجبائي. وأبي مسلم. وقيل: معناه وخوف أهل مكة بالقرآن، عن ابن عباس، والحسن * (يوم يأتيهم العذاب) * وهو يوم القيامة، أو يأتيهم العذاب عذاب الإستئصال في الدنيا، وقيل: هو يوم المعاينة عند الموت. والأول أظهر. * (فيقول الذين ظلموا) * نفوسهم بارتكاب المعاصي * (ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك) * أي: ردنا إلى الدنيا، واجعل ذلك مدة قريبة، نجب دعوتك فيها * (ونتبع الرسل) * أي: نتبع رسلك فيما يدعوننا إليه، فيقول الله تعالى مخاطبا لهم، أو يقول الملائكة بأمره: * (أو لم تكونوا أقسمتم) * أي: حلفتم * (من قبل) * في دار الدنيا * (ما لكم من زوال) * أي: ليس لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، عن مجاهد. وقيل: معناه من زوال من الراحة إلى العذاب، عن الحسن. وفي هذه دلالة على أن أهل الآخرة غير مكلفين، خلافا لما يقول النجار وجماعة، لأنهم لو كانوا مكلفين لما كان لقولهم * (أخرنا إلى أجل قريب) * وجه، ولكان ينبغي لهم أن يؤمنوا فيتخلصوا من العقاب إذا كانوا مكلفين. * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم) * هذا زيادة توبيخ لهم، وتعنيف أي: وسكنتم ديار من كذب الرسل قبلكم، فأهلكهم الله، وعرفتم ما نزل بهم من البلاء، والهلاك، والعذاب المعجل، عن ابن عباس، والحسن. ومساكنهم: دورهم وقراهم. وقيل: انهم عاد وثمود. وقيل: هم
[ 90 ]
المقتولون ببدر * (وضربنا لكم الأمثال) * وبينا لكم الأشباه، وأخبرناكم بأحوال الماضين قبلكم، لتعتبروا بها، فلم تعتبروا، ولم تتعظوا. وقيل: الأمثال ما ذكر في القرآن مما يدل على أنه تعالى قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء والإبتداء. وقيل: هي الأمثال المنبهة على الطاعة، الزاجرة عن المعصية، عن الجبائي. وفي هذه الآيات دلالة على أن الإيمان من فعل العبد، إذ لو كان من فعل الله تعالى، لم يكن لتمني العود إلى الدنيا معنى. * (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (46) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار (48) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب (51) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب (52)) *. القراءة: قرأ الكسائي وحده: * (لتزول) * بفتح اللام الأولى، ورفع الثانية. والباقون: * (لتزول) * بكسر اللام الأولى، ونصب الثانية، وفي الشواذ عن علي عليه السلام، وعمرو بن مسعود، وأبي بن كعب: * (وإن كاد مكرهم لتزول) *. وقرأ زيد، عن يعقوب * (من قطر آن) * على كلمتين منونتين، وهو قراءة أبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والكلبي، وقتادة، وعيسى الهمداني، والربيع. وقرأ سائر القراء: * (قطران) *. الحجة: قال أبو علي: من قرأ * (لتزول) * بالنصب: فإن * (إن) * هي النافية، فيكون مثل قوله * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * فمعناه: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، والجبال كأنه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلامه ودلائله أي: ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه، ممن أراد إزالته. ومن قرأ * (لتزول) *: كانت
[ 91 ]
* (إن) * هي المخففة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم، بخلاف القراءة الأولى، فيكون كقوله * (ومكروا مكرا كبارا) * أي: قد كان مكرهم لعظمه وكبره، يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في الإمتناع على من أراد إزالتها، وثباتها، ومثل هذا في التعظيم للأمر، قول الشاعر: ألم ترصدعا في السماء مبينا على ابن لبينى الحارث بن هشام وقال: بكى الحارث الجولان من موت ربه، وحوران منه خاشع متضائل (1) وقال أوس: ألم تكسف الشمس شمس النهار مع النجم والقمر الواجب (2) ويدل على أن الجبال يعني بها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قوله بعد * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * أي: فقد وعد الظهور عليهم، والغلبة لهم في قوله: * (ليظهره على الدين كله) * وقوله: * (للذين كفروا ستغلبون) * وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا الموضع في تعظيم الشئ وتفخيمه، قال ابن مقبل: إذا مت عن ذكر القوا في فلن ترى لها شاعرا مثلي أطب، وأشعرا وأكثر بيتا شاعرا ضربت به بطون جبال الشعر حتى تيسرا ومن قرأ * (وإن كاد مكرهم لتزول) *: فهي مخففة من الثقيلة أيضا، فتقديره وأنه كاد مكرهم لتزول منه الجبال. قال ابن جني: القطر الصفر والنحاس، وهو أيضا الفلز، رويناه عن قطرب، وهو أيضا الصاد، ومنه قدور الصاد أي: قدور الصفر، والآني: الذي قد أنى وأدرك. أنى الشئ يأني أنيا وأنا مقصور، ومنه قوله عز سبحانه * (غير ناظرين اناه) * أي: بلوغه وإدراكه. قال أبو علي: ومنه الإناء، لأنه الظرف الذي قد بلغ غايته المرادة منه، من حرز وصياغة، ونحو ذلك، قال أمية: وسليمان إذ يسيل له القط - ر على ملكه ثلاث ليال (1) الجولان والحوران: موضعان بالشام. ومتضائل أي: حقير. وفي رواية الحموي: (من فقد ربه). (2) الواجب بمعنى الساقط. (*)
[ 92 ]
وأما القطران: ففيه ثلاث لغات: قطران على فعلان، وقطران بفتح القاف وإسكان الطاء، وقطران بكسر القاف وإسكان الطاء. والأصل فيهما قطران، فأسكنا على ما يقال في كلمة: كلمة، وكلمة لغة تميمية، قال أبو النجم: جون كأن العرق المنتوحا ألبسه القطران والمسوحا (1) وقال: كأن قطرانا إذا تلاها ترمي به الريح إلى مجراها اللغة: البروز: الظهور. والأصفاد: جمع الصفد، وهو الغل الذي يقرن به اليد إلى العنق ويجوز أن يكون السلسلة التي يقع بها التقرين، والتقرين: جمع الشئ إلى نظيره. والقران: الحبل يقرن به شيئان، يقال: صفدته بالحديد، وأصفدته، وصفدته، قال عمرو بن كلثوم: فآبوا بالنهاب، وبالسبايا، وأبنا بالملوك مصفدينا ومنه أصفدته إصفادا: إذا أعطيته مالا. والصفد: العطية، وهو من الأول لأن العطية تصفد المودة وتقيدها، وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله: (ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا) والإختبار في الحديد صفدته، وفي العطية أصفدته، قال الأعشى: تضيفته يوما فقرب مجلسي، وأصفدني على الزمانة قائدا ومعناه: وأعطاني قايدا. وقال النابغة في الصفد الذي هو العطية: هذا الثناء، فإن تسمع لقائله، فما عرضت - أبيت اللعن - للصفد والسربال: القميص، قال امرؤ القيس: ومثلك بيضاء العوارض طفلة لعوب تنسيني إذا قمت سربالي (2) والبلاغ: الكفاية، ومنه البلاغة: وهو البيان الكافي. والبليغ: هو الذي يبلغ بلسانه كنه ما في ضميره. (1) الجون: الأسود المشرب حمرة والمنتوح: الجاري من العرق. (2) الطفلة: الرخصة الناعمة. (*)
[ 93 ]
الاعراب: * (مخلف وعده رسله) *: إضافة * (مخلف) * إلى * (وعده) * إضافة غير محضة، لأنها في تقدير الإنفصال. و * (وعده) * وإن كان مجرورا في اللفظ، فإنه منصوب في المعنى، لأنه مفعول في المعنى، فإن الإخلاف يقتضي مفعولين، يقال: أخلفت زيدا وعده، فعلى هذا يكون تقديره * (مخلفا وعده رسله) * وقيل: إنه في الشواذ * (مخلف وعده) * بالنصب، * (رسله) * بالجر، وهي رديئة للفصل بين المضاف والمضاف إليه، وأنشدوا في ذلك (فزججتها بمزجة * زج القلومن أبي مزاده) (1) ومعناه: فزججتها زج أبي مزادة القلوص، والعامل في قوله * (يوم تبدل الأرض) * قوله * (مخلف وعده) * أو انتقام أي: ينتقم ذلك اليوم، أو يكون محذوفا على تقدير، واذكر يوم تبدل الأرض، وإن شئت جعلته نعتا لقوله * (يوم يقوم الحساب) * والأرض: مرفوعة على ما لم يسم فاعله، وغير منصوب على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، تقول بدل الخاتم خاتما آخر، إذا كسر وصيغ صيغة اخرى، وقد تقول بدل زيد إذا تغير حاله. المعنى: ثم أبان عن مكر الكفار، ودفعه ذلك عن رسله عليه السلام، تسلية لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (وقد مكروا مكرهم) * أي: وقد مكروا بالأنبياء قبلك ما أمكنهم من المكر، كما مكروا بك، فعصمهم الله من مكرهم، كما عصمك. وقيل: عنى به كفار قريش الذين دبروا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واحتالوا عليه، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم * (وعند الله مكرهم) * أي: جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قوله * (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) * وهو واقع بهم أي: جزاؤه. يريد وقد عرف الله مكرهم فهو يجازيهم عليه * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * أي: ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن، وما معك من دلائل النبوات، فإن ذلك ثابت بالدليل والبرهان. والمعنى: لا تزول منه الجبال، فكيف يزول منه الدين الذي هو أثبت من الجبال. وعلى القراءة الأخرى فالمعنى: إن مكرهم، وإن بلغ كل مبلغ، فلا يزيل دين الله تعالى، على ما تقدم بيانه، ولا يضر ذلك أنبياءه، ولا يزيل أمرهم، ولا سيما أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أثبت من الجبال. وقد قيل: إن المراد به نمرود بن كوش بن كنعان، حين أخذ التابوت، وأخذ (1) زججتها، أي: طعنتها بالزج - بضم الزاي -: وهي الحديدة التي تركب في أسفل الرمح. والمزجة: الرمح القصير. والقلوص: الناقة الشابة. وأبي مزادة: كنية رجل. (*)
[ 94 ]
أربعة من النسور، فأجاعها أياما، وعلق فوقها لحما، وربط التابوت إليها، وطارت النسور بالتابوت، وهو ووزيره فيه، إلى أن بلغت حيث شاء الله تعالى، وظن أنه بلغ السماء، ففتح باب التابوت من أعلاه، فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض، وفتح بابا من أسفل التابوت، فرأى الأرض قد غابت عنه، فهاله الأمر، فصوب النسور، وسقط التابوت، وكانت له وجبة، عن ابن عباس، وابن مسعود، وجماعة. * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * أي: فلا تظنن الله عز اسمه مخلفا رسله ما وعدهم به من النصر والظفر بالكفار، والظهور عليهم * (إن الله عزيز) * أي: ممتنع بقدرته من أن ينال باهتضام، وهو من الكفار * (ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) * قيل فيه قولان: أحدهم: إن المعنى تبدل صورة الأرض وهيئتها، عن ابن عباس. فقد روي عنه أنه قال: تبدل آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها، والأرض على حالتها، وتبقى أرضا بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، وتبدل السماوات، فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها، وكان ينشد: فما الناس بالناس الذين عهدتهم، ولا الدار بالدار التي كنت أعرف ويعضده ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يبدل الله الأرض غير الأرض، والسماوات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة مثل مواضعهم من الأولى: ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها والآخر: ان المعنى تبدل الأرض، وتنشأ أرض غيرها، والسماوات كذلك تبدل بغيرها، وتفنى هذه، عن الجبائي، وجماعة من المفسرين. وفي تفسير أهل البيت عليه السلام بالإسناد عن زرارة، ومحمد بن مسلم، وحمران بن أعين، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام، قالا: تبدل الأرض خبزة نقية، يأكل الناس منها، حتى يفرغ من الحساب، قال الله تعالى * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * وهو قول سعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، وروى سهل بن سعد الساعدي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد. وروي عن ابن مسعود انه قال: تبدل الأرض بنار، فتصير الأرض كلها يوم القيامة نارا، والجنة من ورائها يرى كواعبها
[ 95 ]
وأكوابها، ويلجم الناس العرق، ولم يبلغ الحساب بعد. وقال كعب: تصير السموات جنانا، ويصير مكان البحر النار، وتبدل الأرض غيرها. وروي عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه * (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) * فأين الخلق عند ذلك ؟ فقال: أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه، وقيل: تبدل الأرض لقوم بأرض الجنة، ولقوم بأرض النار. وقال الحسن: يحشرون على الأرض الساهرة، وهي أرض غير هذه، وهي ارض الآخرة، وفيها تكون جهنم، وتقدير الكلام، وتبدل السماوات غير السماوات، إلا انه حذف لدلالة الظاهر عليه. * (وبرزوا لله) * أي: يظهرون من أرض قبورهم للمحاسبة، لا يسترهم شئ، وجعل ذلك بروزا لله، لأن حسابهم معه، وإن كانت الأشياء كلها بارزة له، لا يسترها عنه شئ * (الواحد) * الذي لا شبه له، ولا نظير * (القهار) *: المالك الذي لا يضام يقهر عباده بالموت الزؤام (1) * (وترى المجرمين) * يعني الكفار، عن ابن عباس، والحسن، وهو الظاهر، لأنه تقدم ذكرهم * (يومئذ) * أي: يوم القيامة * (مقرنين في الأصفاد) * أي: مجمعين في الأغلال، قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم. وقيل: يقرن بعضهم إلى بعض، عن الجبائي. وقيل: مشدودين في قرن أي: حبل من الأصفاد والقيود، عن أبي مسلم. وقيل: يقرن كل كافر مع شيطان كان يضله في غل من حديد، عن ابن عباس، والحسن، ويبينه قوله تعالى * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * أي: قرناءهم من الشياطين. وقوله: * (وإذا النفوس زوجت) *. * (سرابيلهم) * أي: قميصهم * (من قطران) * وهو ما يطلى به الإبل، شئ أسود لزج منتن، يطلون به، فيصير كالقميص عليهم، ثم يرسل النار فيهم، لتكون أسرع إليهم وأبلغ في الإشتعال، وأشد في العذاب، عن الحسن، والزجاج، وقيل: نحاس أو صفر مذاب قد انتهى حره، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وجوز الجبائي على القراءتين أن يسربلوا سربالين أحدهما من القطران، والآخر من القطر الآني * (وتغشى وجوههم النار) * أي: وتصيب وجوههم النار، لا قطران عليها * (ليجزي الله كل نفس بما كسبت) * اللام تعلقت بما تقدم، أخبر سبحانه أنه إنما فعل (1) موت زؤام: عاجل. وقيل سريع مجهز. وقيل: كريه. (*)
[ 96 ]
ذلك بهم، لتجزى كل نفس بما كسبت، ان كسبت خيرا بأن آمنت وأطاعت، أثابها الله بالنعيم المقيم، وان كسبت شرا بأن كفرت وجحدت، عاقبها بالعذاب الأليم في نار الجحيم، * (إن الله سريع الحساب) * أي: سريع المجازاة، وقد سبق بيانه * (هذا بلاغ للناس) * هو إشارة إلى القرآن، عن ابن عباس، والحسن، وابن زيد، وغيرهم، أي: هذا القرآن عظة للناس بالغة كافية، وقيل: هو اشارة إلى ما تقدم ذكره أي: هذا الوعيد كفاية لمن تدبره من الناس، والأول هو الصحيح. * (ولينذروا به) * أي: أنزل ليبلغوا وينذروا به، وليخوفوا بما فيه من الوعيد * (وليعلموا أنما هو إله واحد) لا شريك له بالنظر في أدلة التوحيد التي بينها الله في القرآن * (وليذكر أولوا الألباب) * أي: وليتعظ به أهل العقول، وذوو النهى. وفي هذه الآية دلالة على ان القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه في أمور الدين، لأن جميع أمور الدين جملها وتفاصيلها، يعلم بالقرآن، إما بنفسه، وإما بواسطة، فيجب على المؤمن المجتهد المهتم بأمور الدين أن يشمر عن ساق الجد في طلب أمور القرآن، ويصدق عنايته بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة، ومواضع البيان، مكتفيا به عما سواه، لينال السعادة في دنياه وعقباه. وفي قوله: * (وليعلموا أنما هو إله واحد) * دلالة على أنه سبحانه أراد من الناس علم التوحيد، خلافا لأهل الجبر في قولهم انه سبحانه أراد من النصارى إثبات التثليث، ومن الزنادقة القول بالتثنية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفي قوله * (ليذكر) * دلالة على انه أراد من الجميع التدبر والتذكر، وعلى أن العقل حجة، لأن غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر، والإعتبار. النظم: اتصلت الآية الثانية بقوله * (وعند الله مكرهم) * أي: فلا تحسبوا أن الله يخلف وعده. بل يجازيهم، وينصر رسله، وقيل: اتصلت بقوله * (إنما يؤخرهم) * أي: فلا تحسبوه مخلف وعده في العقوبة للكفار، بل إن شاء أخر وإن شاء عجل، واتصل قوله * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * بقوله * (ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * أي: لا يخلفهم وعده، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، عن أبي مسلم. وقيل: المراد به أنه ذو انتقام من الكفار، ذلك اليوم، واتصل قوله: * (ليجزي الله كل نفس بما كسبت) *، بقوله: * (يوم تبدل الأرض) *.
[ 97 ]
15 - سورة الحجر مكية آياتها تسع وتسعون مكية في قول قتادة، ومجاهد. وقال الحسن: إلا قوله * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * وقوله * (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * وهي تسع وتسعون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة إبراهيم عليه السلام بذكر القرآن، وأنه بلاغ وكفاية لأهل الإسلام، افتتح هذه السورة بذكر القرآن، وأنه مبين للأحكام، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3) وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون (5). القراءة: قرأ أهل المدينة، وعاصم: * (ربما يود) * خفيفة الباء. والباقون بالتشديد. وروى محمد بن حبيب الشموني، عن الأعشى، عن أبي بكر * (ربتما) * بالتاء. الحجة: قال أبو علي: أنشد أبو زيد:
[ 98 ]
ماوي بل ربتما غارة شعواء كاللذعة بالميسم (1) وأنشد أيضا: يا صاحبا ربت إنسان حسن يسأل عنك اليوم أو تسأل عن وقال السكري: ربما، وربتما، وربما، وربتما، ورب، ورب، ست لغات. قال سيبويه: رب حرف ويلحقها ما على وجهين أحدهما: أن يكون نكرة بمعنى شئ، وذلك كقوله: ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال (2) فما في هذا البيت اسم لما يقدر من حذف الضمير إليه من الصفة، والمعنى: رب شئ تكرهه النفوس، وإذا عاد إليه الهاء، كان اسما، ولم يجز أن يكون حرفا، كما ان قوله: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين) * لما عاد إليه الذكر، علمت بذلك انه اسم وقوله: * (فرجة) * يرتفع بالظرف في قول الناس جميعا، ولا يرتفع بالإبتداء. وقد يقع أيضا لفظة من بعد رب في مثل قوله: ألا رب من تغتشه لك ناصح ومؤتمن بالغيب غير أمين (3) فكما دخلت رب على من، وكانت نكرة في معنى شئ، كذلك تدخل على ما والآخر أن تدخل كافة كما في الآية، ونحو قول الشاعر: ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات (4) والنحويون يسمون ما هذه كافة، يريدون انها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان له، وهيأته لدخوله على ما لم يكن يدخل عليه، الا ترى ان رب إنما تدخل على الإسم المفرد، نحو: رب رجل كريم يقول ذلك، وربه رجلا يقول (1) غارة شعواء: فاشية متفرقة. والميسم: اسم للآلة التي يوسم بها. وفي (اللسان) و (تفسير التبيان): (ماوى ياربتما. اه‍). (2) البيت مذكور في (جامع الشواهد). (3) قوله تغتشه أي: تظن به الغش. وفي قوله (ناصح) يجوز الرفع والجر، فالرفع على الخبرية، والجر على أنه صفة لمن، ويتبعه في الوجهين (مؤتمن) وكذا (غير). (4) الشعر في (جامع الشواهد) أيضا. (*)
[ 99 ]
ذلك، ولا يدخل على الفعل، فلما دخلت ما عليها، سوغت لها الدخول على الفعل. فمن ذلك قوله * (ربما يود الذين كفروا) * فوقع الفعل بعدها في الآية، وهو على لفظ المضارع، ووقع في قوله ربما أوفيت في علم على لفظ الماضي، وهكذا ينبغي في القياس، لأنها تدل على أمر قد مضى، وإنما وقع في الآية على لفظ المضارع، لأنه حكاية لحال آتية، كما أن قوله: * (إن ربك ليحكم بينهم) * حكاية لحال آتية، ومن حكاية الحال قول القائل: جارية في رمضان الماضي تقطع الحديث بالإيماض (1) ومن زعم ان الآية على إضمار كان، وتقديره ربما كان يود، فقد خرج بذلك عن قول سيبويه. ألا ترى ان كان لا يضمره، ولم يجز عبد الله المقتول، وانت تريد كن عبد الله المقتول. فأما اضمارها بعد إن في قولهم: ان خيرا فخير، فإنما جاز ذلك لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره، فأما ما أنشده ابن حبيب لنبهان بن مسور: لقد رزيت كعب بن عوف، وربما فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمه فإن قوله فتى في ربما فتى يحتمل ضروبا أحدها: ان يكون لما جرى ذكر رزيت، استغنى بجري ذكره من ان يعيده، فكأنه قال: ربما رزيت فتى، فيكون انتصاب فتى برزيت هذه المضمرة، كقوله: * (الآن وقد عصيت قبل) *، فاستغنى بذكر آمنت له المتقدم عن اظهاره بعد، وقد يجوز أن ينتصب فتى برزيت هذه المذكورة، كأنه قال: لقد رزيت كعب بن عوف فتى، وربما لم يكن يرضى أي: رزئت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل في أنه أجنبي بمنزلة قوله: (أبو أمه في أبوه يقاربه) (2). وقد يجوز ان يكون مرتفعا بفعل مضمر، كأنه قال: ربما لم يرض فتى كقوله: (وقلما وصال على طول الصدود يدوم) (3). ويجوز أن يكون ما نكرة بمنزلة شئ، (1) أومضت المرأة: سارقت النظر أي: إذا تبسمت قطع الناس حديثهم، ونظروا إلى ثغرها. وقيل: يعني أن الناس كانوا يتحدثون فنظرت إليهم فاشتغلوا لحسن نظرها عن الحديث. (2) قائله الفرزدق وقبله: (وما مثله في الناس إلا مملكا) والشعر مذكور في (جامع الشواهد). (3) تمام البيت: (صددت فأطولت الصدود وقلما * وصال (اه) وهو من شواهد كتب سيبويه. (*)
[ 100 ]
فيكون فتى وصفا لها، لأنها لما كانت كالأسماء المبهمة في إبهامها، وصفت بأسماء الأجناس، كأنه قال: رب شئ فتى، لم يكن كذا، فهذه الأوجه كلها ممكنة. ويجوز في الآية أن يكون * (ما) * بمنزلة شئ، و * (يود) * صفة له، لأن * (ما) * لعمومها يقع على كل شئ، فيجوز أن يعني بها الود، كأنه قال رب ود يوده الذين كفروا، ويكون يود في هذا الوجه أيضا حكاية حال. ألا ترى انه لم يكن بعد، وهذه الآية في المعنى كقوله: * (ارجعنا نعمل صالحا) *، وكقوله: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) * وكتمنيهم الرد في قوله يا ليتنا نرد ولا نكذب. واما قول من قال: * (ربما) * بالتخفيف، فلأنه حرف مضاعف، والحرف والحروف المضاعفة، قد تحذف، وإن لم يحذف غير المضاعف فمن المضاعف الذي حذف أن، وإن، ولكن، وليس كل المضاعف يحذف، لم اعلم الحذف في ثم (1). واما دخول التاء في ربتما: فإن من الحروف ما يدخل عليه حرف التأنيث، نحو ثم، وثمت، ولا، ولات. قال: ثمت لا يجزونني عند ذاكم، ولكن سيجزيني المليك فيعقبا فكذلك الحقت التاء في قولهم ربتما. وأنشد الزجاج في تخفيف رب قول الحادرة: أسمي ما يدريك أن رب فتية باكرت لذتهم بأدكن مترع (2) قال: وقد يسكنون في التخفيف يقولون: رب رجل جاءني، وأنشدوا بيت الهذلي: أزهير إن يشب القذال فإنني رب هيضل مرس لففت بهيضل (3) ويقولون: ربت رجل، وربت رجل، بفتح الراء. ورب رجل، وربما رجل جاءني، وربتما رجل فيفتحون حكى ذلك قطرب. الاعراب: (قرآن): عطف على (الكتاب)، وإنما عطفه عليه، وإن كان (1) وفي (التبيان): (لأني لا أعلم الحذف في ثم). (2) سمي مرخم سمية: اسم امرأة. والدكنة: السواد. (3) القذال جماع مؤخر الرأس من الإنسان. والهيضل: جماعة متسلحة أمرهم في الحرب واحد. (*)
[ 101 ]
الكتاب هو القرآن، لإختلاف اللفظين وما فيهما من الفائدتين، وإن كانا لموصوف واحد، لأن وصفه بالكتاب يفيد أنه مما يكتب ويدون، ووصفه بالقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض، كما قال الشاعر: إلى الملك القرم، وابن الهمام، وليث الكتيبة في المزدحم وذي الرأي حين تغم الامور بذات الصليل، وذات اللجم ويقال: لم جاز * (ربما يود الذين كفروا) * ورب للتقليل ؟ وجوابه على وجهين: أحدهما: انه ابلغ في التهديد، كما تقول: ربما ندمت على هذا، وانت تعلم انه يندم ندما طويلا أي: يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره والثاني: انه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في أوقات قليلة. المعنى: * (الر) * قد تقدم الكلام في هذه الحروف، وأقوال العلماء فيها * (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) * أي: هذه آيات الكتاب، وآيات قرآن مميز بين الحق والباطل. وقيل: المبين البين الواضح، عن أبي مسلم. وقيل: هو المبين للحلال والحرام، والأوامر والنواهي، والأدلة وغير ذلك. وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، عن مجاهد. وقيل: المراد به الكتب المنزلة قبل القرآن، عن قتادة * (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * أي: ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة إذا صار المسلمون إلى الجنة، والكفار إلى النار، ويجوز أن يتمنوا ذلك وقت اليأس. وروى مجاهد: عن ابن عباس، قال: ما يزال الله يدخل الجنة، ويرحم، ويشفع، حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقال الصادق عليه السلام: ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: إنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، فثم يود سائر الخلائق انهم كانوا مسلمين. وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا اجتمع اهل النار في النار، ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا: بلى. قالو: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا: كانت لنا ذنوب، فأخذنا بها. فيسمع الله عزوجل، ما قالوا: فأمر من كان في النار من أهل الاسلام، فأخرجوا منها، فحينئذ يقول الكفار يا ليتنا كنا مسلمين.
[ 102 ]
* (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) * معناه: دعهم يأكلوا في دنياهم أكل الأنعام، ويتمتعوا فيها بما يريدون. والتمتع: التلذذ، وهو طلب اللذة حالا بعد حال * (ويلههم الامل) * أي: وتشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، يقال: ألهاه الشئ أي: شغله وأنساه * (فسوف يعلمون) * وبال ذلك فيما بعد حين يحل بهم العذاب يوم القيامة، وصاروا إلى ما يجحدون به. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يكون مقصور الهمة على أمور الآخرة، مستعدا للموت مسارعا إلى التوبة، ولا يأمل الآمال المؤدية إلى الصد عنها. وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) * معناه: ولم نهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة إلا وكان لهم أجل مكتوب لا بد أن سيبلغونه. يريد: فلا يغرن هؤلاء الكفار، إمهالي إياهم، إنما ينزل العذاب بهم في الوقت المكتوب المقدر لذلك * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * أي: لم تكن أمة فيما مضى تسبق أجلها، فتهلك قبل ذلك، ولا تتأخر عن أجلها الذي قدر لها، بل إذا استوف (2) أجلها أهلكها الله. * (وقالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له، لحافظون (9) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الاولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون (11) كذلك نسلكه، في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13) ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15) ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18)) *.
[ 103 ]
القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: * (ما ننزل) * بنونين * (الملائكة) * بالنصب. وقرأ أبو بكر عن عاصم: * (ما تنزل) * بضم التاء، * (الملائكة) * بالرفع. وقرأ الباقون: * (ما تنزل) * بفتح التاء والزاي * (الملائكة) * بالرفع. وقرأ ابن كثير: * (سكرت) * بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وفي الشواذ قراءة الزهري: * (سكرت) *. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ * (تنزل) *: قوله * (تنزل الملائكة والروح فيها) *. وحجة من قرأ * (تنزل) * قوله: * (ونزل الملائكة تنزيلا) *. وحجة من قرأ * (ننزل) *: قوله: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) * ووجه التثقيل في * (سكرت) * أن الفعل مسند إلى جماعة، فهو مثل * (مفتحة لهم الأبواب) *. ووجه التخفيف ان هذا النحو من الفعل المسند إلى جماعة، قد يخفف. قال: * (ما زلت افتح أبوابا وأغلقها) (1). اللغة: الشيع: الفرق، عن الزجاج، وكل فرقة شيعة، وأصله من المشايعة: وهي المتابعة يقال: شايع فلان فلانا على أمره أي: تابعه عليه، ومنه شيعة علي عليه السلام: وهم الذين تابعوه على أمره، ودانوا بإمامته، وفي حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة. وسلك وأسلك بمعنى. والمصدر السلك والسلوك، قال عدي بن زيد: وكنت لزاز خصمك لم أعرد، وقد سلكوك في يوم عصيب (1) وقال آخر: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا (3) والعروج: الصعود في الدرج، والمضارع يعرج ويعرج أبو عبيدة. سكرت أبصارنا، غشيت. قال أبو علي: فكأن معناه لا ينفذ نورها، ولا يدرك الاشياء على حقيقتها. ومعنى الكلمة انقطاع الشئ عن سننه الجاري، فمن ذلك سكر الماء وهو (1) منسوب إلى الفرزدق وبعده: (حتى أتيت أبا عمرو بن عمار). (2) مضى البيت في سورة هود في الجزء الخامس من هذا الكتاب. (3) قائله عبد مناف الهذلي. وقتائدة: عقبة معروفة. والشرد بضمتين: جمع شارد من شرد البعير. نفر. قال ابن منظور ويروى الشرداء - بفتحتين - مثل خادم وخدم. وجواب إذا محذوف دل عليه قوله (شلا) كأنه قال: شلوهم شلا. (*)
[ 104 ]
رده عن سننه في الجري. وقالوا التسكير في الرأي قبل أن يعزم على الشئ، وإذا عزم على أمر ذهب التسكير، ومنه السكر في الشراب: إنما هو أن ينقطع عما هو عليه في المصافي حال الصحو، فلا ينفذ رأيه ونظره على حد نفاذه في صحوه. وقالوا سكران لا يثبت، فعبروا عن هذا المعنى فيه، قال الزجاج: فسروا سكرت أغشيت، وسكرت تحيرت، وسكنت عن ان تنظر، والعرب تقول سكرت الريح سكنت، وكذلك سكر الحر، قال الشاعر: جاء الشتاء، وأجثأل القبر، وجعلت عين الحرور تسكر (1) والبرج: اصله الظهور، ومنه البرج من بروج السماء، وبرج الحصن، ويقال: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها. والرجيم: المرجوم. والرجم: الرمي بالشئ بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة، فإن القوس يرمي عنها، ولا يرجم بها ورجمته: شتمته. والشهاب: القطعة من النار. قال الزجاج: والشهب المنقضة من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدليل على أنها كانت بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ان شعراء العرب الذين كانوا يمثلون في السرعة بالبرق، وبالسيل، وبالاشياء المسرعة، لم يوجد في أشعارهم بيت واحد فيه ذكر الكواكب المنقضة، فلما حدثت بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، استعملت الشعراء ذكرها، قال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب (2) الاعراب: * (لو ما) * دعاء إلى الفعل، وتحريض عليه، وهو بمعنى لولا وهلا، وقد جاءت لوما في معنى لولا التي لها جواب. قال ابن مقبل: لوما الحياء، ولولا الدين عبتكما ببعض ما فيكما، إذ عبتما عوري * (إلا من استرق السمع) *: استثناء منقطع، والمعنى: لكن من استرق السمع يتبعه شهاب. وقال الفراء: هو استثناء صحيح، لأن الله تعالى لم يحفظ السماء ممن يصعد إليها ليسترق السمع لكن إذا سمعه وأداه إلى الكهنة، أتبعه شهاب. المعنى: * (وقالوا) * أي: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم * (يا أيها الذي نزل عليه (1) قائله المثنى الطهوي. واجثأل: اجتمع وتقبض. والحرور: الريح الحارة. (2) يصف ثورا وحشيا. وعفرية: خبيث منكر. وقوله منقضب: أي منقض من مكانه. (*)
[ 105 ]
الذكر) * أي: القرآن في زعمه، ودعواه * (إنك لمجنون) * في دعواك أنه نزل عليك، وفي توهمك أنا نتبعك، ونؤمن بك * (لو ما تأتينا بالملائكة) * يشهدون لك على صدق قولك * (إن كنت من الصادقين) * فيما تدعيه، عن ابن عباس، والحسن. ثم أجابهم سبحانه بالجواب المقنع، فقال: * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) * أي: لا ننزل الملائكة الا بالحق الذي هو الموت، لا يقع فيه تقديم وتأخير، فيقبض أرواحهم، عن ابن عباس. وقيل: لا ينزلون إلا بعذاب الاستئصال ان لم يؤمنوا، عن الحسن، ومجاهد، والجبائي. وقيل: ما ينزلون في الدنيا إلا بالرسالة، عن مجاهد * (وما كانوا إذا) * أي: حين ننزل الملائكة * (منظرين) * مؤخرين ممهلين أي: لا يمهلون ساعة. ثم زاد سبحانه في البيان، فقال: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * أي: القرآن. * (وإنا له لحافظون) * عن الزيادة والنقصان، والتحريف والتغيير، عن قتادة، وابن عباس، ومثله * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) *. وقيل: معناه متكفل بحفظه إلى آخر الدهر على ما هو عليه، فتنقله الأمة وتحفظه، عصرا بعد عصر، إلى يوم القيامة، لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن. وقيل: يحفظه من كيد المشركين، ولا يمكنهم ابطاله، ولا يندرس، ولا ينسى، عن الجبائي. وقال الفراء: يجوز ان يكون الهاء في له، كناية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنه قال: إنا نزلنا القرآن، وإنا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لحافظون. وفي هذه الآية دلالة على ان القرآن محدث، إذ المنزل والمحفوظ لا يكون إلا محدثا * (ولقد أرسلنا من قبلك) * يا محمد رسلا، عن ابن عباس، فحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه * (في شيع الأولين) * أي: في فرق الأولين، عن الحسن، والكلبي. وقيل: في الأمم الأولين، عن عطا عن ابن عباس. * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن) * وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أخبره أن كل رسول كان مبتلى بقومه، واستهزاؤهم بالرسل، إنما حملهم على ذلك استبعادهم ما دعوهم إليه، واستيحاشهم منه، واستنكارهم له، حتى توهموا انه مما لا يكون، ولا يصح. مع مخالفته لما وجدوا عليه أسلافهم. * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * فيه قولان أحدهما: ان معناه إن نسلك الذكر الذي هو القرآن في قلوب الكفار باخطاره عليها، وإلقائه فيها، وبأن نفهمهم إياه، وإنهم مع ذلك * (لا يؤمنون به) * ماضين على سنة من تقدمهم في تكذيب الرسل، كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف
[ 106 ]
من الأمم، عن البلخي، والجبائي. والمراد: ان إعراضهم عن القرآن، لا يمنعنا من ان ندخله في قلوبهم، تأكيدا للحجة عليهم والآخر: ان المعنى نسلك الإستهزاء في قلوبهم، عقوبة لهم على كفرهم. والأول هو الصحيح. وقد رووا عن جماعة من المفسرين، ان المراد: نسلك الشرك في قلوب الكفار، وذلك لا يصح لأنه لم يجر للشرك ذكر، وقد جرى ذكر الذكر وهو القرآن، ولأنه قال: * (لا يؤمنون به) *. ولو عاد الضمير في قوله * (به) * إلى الشرك، لكان الكفار محمودين، إذا كانوا لا يؤمنون بالشرك، ولا خلاف ان الآية وردت على سبيل الذم لهم. ولو كان الله سبحانه قد سلك الكفر في قلوبهم، لسقط عنهم الذم، ولما جاز ان يقول لهم كيف تكفرون وأنتم عليكم آيات الله. لقد جئتم شيئا ادا. تكاد السماوات يتفطرن منه ؟ وكيف ينكر عليهم هذا الإنكار وهو الواضع لذلك في قلوبهم ؟ وكيف يأمرهم بإخراجه من حيث وضعه فيه، تعالى وتقدس عن ذلك. * (وقد خلت سنة الأولين) * أي: مضت طريقة الأمم المتقدمة بأن كانت رسلهم تدعوهم إلى كتب الله المنزلة، ثم لا يؤمنون. وقيل: مضت سنة الأولين بأن عوجلوا بعذاب الإستئصال عند الإتيان بالآيات المقترحة مع اصرارهم على الكفر، عن أبي مسلم. وقيل: مضت سنتهم في التكذيب كما ان قومك كذبوك، عن ابن عباس، ثم قال بعد ما تقدم ذكر اقتراحهم للآيات * (ولو فتحنا عليهم) * أي: على هؤلاء المشركين * (بابا من السماء) * ينظرون إليه * (فظلوا فيه يعرجون) * أي: فظلت الملائكة نصعد وتنزل في ذلك الباب، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: فظل هؤلاء المشركون يعرجون الى السماء من ذلك الباب، وشاهدوا ملكوت السماوات، عن الحسن، والجبائي، وأبي مسلم. * (لقالوا إنما سكرت أبصارنا) * أي: سدت وغطيت، عن مجاهد. وقيل: أغشيت وعميت، عن ابن عباس، والكلبي، وأبي عمرو، والكسائي. وقيل: تحيرت وسكنت عن ان تنظر * (بل نحن قوم مسحورون) * سحرنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا ننظر ببصر، ويخيل الأشياء إلينا على خلاف حقيقتها، ثم ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال سبحانه: * (ولقد جعلنا) * أي: خلقنا، وهيأنا * (في السماء بروجا) * أي: منازل الشمس والقمر * (وزيناها للناظرين) * بالكواكب النيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام، وهي اثنا عشر برجا. وقيل: البروج النجوم، عن ابن عباس،
[ 107 ]
والحسن، وقتادة * (وحفظناها) * أي: وحفظنا السماء * (من كل شيطان رجيم) * أي: مرجوم مرمي بالشهب، عن أبي علي الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: رجيم ملعون مشؤوم، عن ابن عباس. وحفظ الشئ: جعله على ما ينفي عنه الضياع، فمن ذلك: حفظ القرآن بدرسه حتى لا ينسى، وحفظ المال بإحرازه حتى لا يضيع، وحفظ السماء من الشيطان بالمنع حتى لا يدخلها، ولا يبلغ الى موضع يتمكن فيه من استراق السمع بما اعد له من الشهاب * (إلا من استرق السمع) * والسرقة عند العرب ان يأتي الإنسان الى حرز خفية، فيأخذ ما ليس له. والمراد بالسمع هنا: المسموع، والمعنى: إلا من حاول اخذ المسموع من السماء في خفية * (فأتبعه) * أي: لحقه * (شهاب مبين) * أي: شعلة نار ظاهر لأهل الأرض، بين لمن رآه، ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون بالنجوم والشهاب عمود من نور يضئ ضياء النار لشدة ضيائه. وروي عن ابن عباس انه قال: كان في الجاهلية كهنة. ومع كل واحد شيطان، فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض، فينزل ويخبر به الكاهن، فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلما بعث الله عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سماوات. ولما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم منعوا من السماوات كلها، وحرست السماء بالنجوم. فالشهاب من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه لم ير قبل زمانه. وقيل: ان الشهاب يحرق الشياطين ويقتلهم، عن الحسن. قيل: انه يخبل ويحرق، ولا يقتل، عن ابن عباس. * (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) وإن من شئ إلا عندنا خزآئنه وما ننزله وإلا بقدر معلوم (21) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له، بخازنين (22) وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)) *.
[ 108 ]
القراءة: قرأ حمزة وحده: * (الريح لواقح) *. والباقون: * (الرياح لواقح) *. الحجة: قال أبو عبيدة: لا أعرف لذلك وجها إلا أن يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه، فكانت بمنزلة الرياح. وحكى الكسائي ارض اغفال، وأرض سباسب. قال المبرد: يجوز ذلك على أن يجعل الريح جنسا، وليس بجيد، لأن الرياح ينفصل بعضها عن بعض، ومعرفة كل واحدة منها، والأرض ليست كذلك لأنها بساط واحد. اللغة: الرواسي: الثوابت، واحدها راسية. والمراسي ما يثبت به. والوزن: وضع أحد الشيئين بإزاء الآخر على ما يظهر به مساواته في المقدار وزيادته. والمعايش: جمع معيشة وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة، وقد يطلبها الإنسان لنفسه بالتصرف والتكسب، وقد يطلب له فإن أتاه أسباب الرزق من غير طلب، فذلك العيش الهنئ. واللواقح: الرياح التي تلقح السحاب حتى يحمل الماء أي: يلقي إليه ما يحمل به الماء. يقال: لقحت الناقة إذا حملت، وألقحها الفحل. فاللواقح في معنى الملقحات. وقيل: في علة ذلك قولان أحدهما: انه في معنى ذات لقاح، ومثله هم ناصب أي: ذو نصب، قال النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب، وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1) أي: منصب. وقال نهشل بن جري: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح (2) أي: المطاوح والآخر: ان الرياح لاقحة بحملها الماء، ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب. ويقال: سقيته فيما يشربه بشفته، واستقيته بالألف فيما تشربه ارضه. قال علي بن عيسى: وقد يجئ أحدهما بمعنى الآخر، كقوله: * (نسقيكم مما في بطونه) *. وقال ذو الرمة: وقفت على ربع لمية ناقتي (3) فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره، وملاعبه (1) مر البيت في سورة التوبة في الجزء الخامس من الكتاب. (2) الشعر في (جامع الشواهد) وقد مر أيضا في الجزء الثاني من هذا التفسير. (3) الربع: الدار. (*)
[ 109 ]
الاعراب: * (والأرض) *: منصوب بفعل مضمر تقديره، ومددنا الأرض * (مددناها) * كقوله: * (والقمر قدرناه) * أي: وقدرنا القمر قدرناه * (ومن لستم له برازقين) * من: في موضع نصب، عطفا على * (معايش) *. والمراد به العبيد والإماء، والأنعام والدواب، عن مجاهد. وقال الفراء: العرب لا تكاد تجعل * (من) * إلا في الناس خاصة، فإن كان مع الدواب العبيد حسن حينئذ، قال: وقد يجوز ان يكون * (من) * في موضع جر، عطفا على الكاف والميم في * (لكم) *. وقال المبرد: والظاهر المخفوض لا يعطف على المضمر المخفوض، نحو: مررت بك وزيد، إلا أن يضطر شاعر، وأنشد الفراء: نعلق في مثل السواري سيوفنا، وما بينها، والكعب غوط نفانف (1) فرد الكعب على الهاء في بينها وقال: هلا سألت بذي الجماجم عنهم وأبي نعيم ذي اللواء المحرق (2) فرد (ابا نعيم) على هم في عنهم قال: ويجوز أن يكون * (من) * في موضع رفع، لأن الكلام قد تم، ويكون التقدير لا على قوله ولكم فيها من لستم له برازقين. قال الزجاج: والأجود من الأقوال الأول. وجاز أن يكون عطفا على تأويل لكم، لأن معنى قوله ولكم فيها معايش أعشناكم، ومن لستم له برازقين أي: رزقناكم ومن لستم له برازقين: * (وان من شئ) * * (من) *: مزيدة، و * (شئ) * مبتدأ، و * (عندنا) * خبر له، و * (خزائنه) * مرفوع بالظرف، لأن الظرف جرى خبرا على المبتدأ، لا خلاف في هذا بين سيبويه، والأخفش. المعنى: لما تقدم ذكر السماء، وما فيها من الأدلة والنعم، أتبعه بذكر الأرض، فقال: * (والأرض مددناها) * أي: بسطناها، وجعلنا لها طولا وعرضا (1) البيت منسوب إلى مسكين الدارمي، يصف نفسه وقومه بالطول والسمو، والعظم والشجاعة. السواري: جمع السارية وعنى بها أعنان الرجال. والكعب: كل مفصل للعظام. والغوط: الأرض المطمئنة. والنفانف جمع نفنف: الهواء بين الشيئين، يقول: ان الرجل منهم لطوله وضخامته، كالسارية، وإذا وضع السيف بحمائله على عاتقه، فكأنما علقه على سارية وبين السيف وكعب الرجل مكان بعيد. (2) ذي الجماجم: موضع. وأبو نعيم: هو النعمان بن المنذر، وسمي المحرق - كمحدث - لأنه كان يحرقه العرب في ديارهم واسكن الراء في الشعر للضرورة. (*)
[ 110 ]
* (وألقينا فيها رواسي) * أي: طرحنا فيها جبالا ثابتة * (وأنبتنا فيها) * أي: في الأرض * (من كل شئ موزرن) * أي: مقدر معلوم، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقيل: من كل شئ يوزن في العادة كالذهب والفضة، والصفر والنحاس، ونحوها، عن الحسن. وقيل: يعني بذلك كل ما تخرجه الأرض، عن أبي مسلم قال: وإنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لوجهين. أحدهما: ان غاية المكيل تنتهي إلى الوزن، لأن جميع المكيلات إذا صار طعاما دخل في الوزن، فالوزن أهم والآخر: ان في الوزن معنى الكيل، لأن الوزن هو طلب المساواة، وهذا المعنى ثابت في الكيل، فخص الوزن بالذكر، لاشتماله على معنى الكيل. ورد عليه السيد الأجل المرتضى، قدس الله روحه، فقال: ظاهر لفظ الآية يشهد بغير ما قاله، فإن المراد بالموزون المقدار الواقع بحسب الحاجة، فلا يكون ناقصا عنها، ولا زائدا عليها. زيادة مضرة داخلة في باب العبث، ونظير ذلك قولهم: كلام فلان موزون، وأفعاله موزونة، والمراد ما ذكرناه. وعلى هذ المعنى تأويل المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين، وانها التعديل والمساواة بين الثواب والعقاب (1). * (وجعلنا لكم فيها معايش) * أي: خلقنا لكم في الأرض معايش من زرع أو نبات، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: معايش أي: مطاعم ومشارب، تعيشون بهما. وقيل: هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة * (ومن لستم له برازقين) * يعني العبيد والدواب، يرزقهم الله ولا ترزقونهم، ومعناه يدور على ما تقدم ذكره في الإعراب، وأتى بلفظه من دون لفظة ما لأنه غلب العقلاء على غيرهم * (وإن من شئ) * أي: وليس من شئ ينزل من السماء، وينبت من الأرض. * (إلا عندنا خزائنه) * معناه إلا ونحن مالكوه، والقادرون عليه. وخزائن الله سبحانه: مقدوراته، لأنه تعالى يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس، ويقدر من كل جنس على ما لا نهاية له. وقيل: المراد به الماء الذي منه النبات، وهو مخزون عنده إلى ان ينزله، (1) وقال بعض علماء اهل العصر: إن من الأسرار التي كشف عنها الوحي الالهي، ما في هذه الآية، حيث انها دلت على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه، أو نقص، لكان ذلك مركبا آخر، وان نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقة، بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة للبشر. (*)
[ 111 ]
ونبات الأرض وثمارها إنما تنبت بماء السماء. وقال الحسن: المطر خزائن كل شئ * (وما ننزله) * أي: وما ننزل المطر * (إلا بقدر معلوم) * تقتضيه الحكمة، وقيل: انه سبحانه استعار الخزائن للقدرة على إيجاد الأشياء، وعبر عن الإيجاد بالإنزال، لأن الإنزال في معنى الإعطاء والرزق، والمعنى: ان الخير كله من عند الله، لا يوجد ولا يعطي، إلا بحسب المصلحة والحاجة، ثم بين سبحانه كيفية الإنزال، فقال: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * أي: أجرينا الرياح لواقح، أي: ملقحة للسحاب، محملة بالمطر (1). * (فأنزلنا من السماء ماء) * أي: مطرا * (فأسقيناكموه) * أي: فأسقيناكم ذلك الماء، ومكناكم منه * (وما أنتم له بخازنين) * أي: وما انتم ايها الناس له بحافظين، ولا محرزين، بل الله يحفظه، ثم يرسله من السماء، ثم يحفظه في الأرض، ثم يخرجه من العيون بقدر الحاجة، ولا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع * (وإنا لنحن نحيي ونميت) *: اخبر سبحانه انه يحيي الخلق إذا شاء، ويميتهم إذا أراد. * (ونحن الوارثون) * الأرض ومن عليها. اخبر انه يرث الأرض لأنه إذا أفنى الخلق، ولم يبق أحد، كانت الأشياء كلها راجعة إليه، يتفرد بالتصرف فيها. * (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) * قيل فيه اقوال أحدها: إن معناه: ولقد علمنا الماضين منكم، ولقد علمنا الباقين، عن مجاهد، والضحاك، وقتادة. وثانيها: علمنا الأولين منكم والآخرين، عن الشعبي. وثالثها: علمنا المستقدمين في صفوف الحرب، والمتأخرين عنها، عن سعيد بن المسيب. ورابعها: علمنا المتقدمين في الخير، والمبطئين عنه، عن الحسن وخامسها: علمنا المتقدمين إلى الصف الأول في الصلاة، والمتأخرين عنه، فإنه كان يتقدم بعضهم إلى الصف الأول، ليدركوا فضيلته، وكان يتأخر بعضهم لينظروا إلى أعجاز النساء، فنزلت الآية فيهم، عن ابن عباس. وسادسها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حث الناس على الصف الأول في الصلاة، وقال: (خير صفوف الرجال أولها. وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها اولها). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله (1) وربما يقال إن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر. ولو سلم فليس في التنبيه على هذا المعنى كبير اهتمام، بل النظرة الصحيحة في معنى الآية، بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات، تفيدنا سرا دقيقا لم ندركه كما في المشمش والصنوبر، والرمان والقطن، ونباتات الحبوب. فإذا نضجت حبوب الطلع، انتفخت الأكياس وانتثرت خارجها، محمولة على أجنحة الرياح، فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفوا. (*)
[ 112 ]
وملائكته يصلون على الصف المتقدم). فازدحم الناس، وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد، فقالوا: لنبيعن دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد، حتى ندرك الصف المقدم ! فنزلت هذه الآية، عن الربيع بن أنس. فعلى هذا يكون المعنى: إنا نجازي الناس على نياتهم * (وإن ربك هو يحشرهم) * معناه: إن ربك يا محمد، أو أيها السامع، هو الذى يجمعهم يوم القيامة، ويبعثهم بعد إماتتهم للمجازاة، والمحاسبة * (إنه حكيم) * في أفعاله * (عليم) * بما استحق كل منهم. النظم: إنما اتصل قوله * (وانا لنحن نحيي ونميت) * وما بعده، بما ذكره فيما قبل من انواع النعم، فبين سبحانه أنه يرثهم كل ما خولهم من ذلك، تزهيدا في الدنيا، وترغيبا في الآخرة، عن أبي مسلم. وقيل: انه لما بين انواع نعمه، عرفهم بعد انه لم يخلق ذلك للبقاء، وإنما أنعم به عليهم، ليكون طريقا إلى نعم الآخرة، عن القاضي. وقيل: إنه لما ذكرهم نعم الدنيا، نبه بالإحياء والإماتة، وعلمه بجميع الاشياء، وحشر الخلق على وجوب الإنقطاع إليه، والعبادة والطاعة له. * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26) والجآن خلقناه من قبل من نار السموم (27) وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33) قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35)) *. اللغة: الصلصال: الطين اليابس، أخذ من الصلصلة: وهي القعقعة، ويقال لصوت الحديد، ولصوت الرعد: صلصلة، وهي صوت شديد متردد في الهواء. وصل يصل: إذا صوت قال: رجعت إلى صوت كجرة حنثم * إذا قرعت صفرا من الماء صلت (1) (1) الحنثم: جرار خضر، تضرب إلى الحمرة. والصفر: بمعنى الخالي. (*)
[ 113 ]
ويقال الصلصال المنتن: أخذ من صل اللحم وأصل: إذا أنتن. والحمأ: جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد، يقال: حمئت البئر وأحمأتها انا. والمسنون: المصبوب، من سننت الماء على وجهه أي: صببته. ويقال: سننت بالسين غير معجمة: أرسلت الماء، وشننت بالشين معجمة: صببت. وقيل: انه المتغير من قولهم سننت الحديد على المسن: إذا غيرتها بالتحديد، وأصلها الإستمرار في جهة من قولهم: هو على سنن واحد. والسنة: الطريقة، وسنة الوجه: صورته، قال ذو الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة، ملساء ليس بها خال، ولا ندب (1) قال سيبويه: جمع الجان جنان، فهو مثل حائط وحيطان، وراع ورعيان. والسموم: الريح الحارة أخذ من دخولها بلطفها في مسام البدن، ومنه السم القاتل، يقال: سم يومنا يسم: إذا هبت فيه ريح السموم. الاعراب: من جعل * (الجان) * جمعا، قال: ولم يقل خلقناها كما قال * (مما في بطونه) * و * (مما في بطونها) * وقوله * (مالك أن لا تكون مع الساجدين) *: ما مبتدأ، ولك خبره، والتقدير: أي شئ ثابت لك، وألا تكون تقديره في ان لا تكون، فحذف في، وهي متعلقة بالخبر أيضا، فلما حذفت في انتصب موضع * (ان لا تكون) * على قول سيبويه، وبقي على الجر على قول الخليل. وأبو الحسن حمل ان على الزيادة، ولا تكون في موضع الحال، قال: وتقديره مالك خارجا عن الساجدين. المعنى: لما ذكر سبحانه الإحياء والإماتة، والنشأة الثانية، عقبه ببيان النشأة الأولى، فقال: * (ولقد خلقنا الإنسان) * يعني آدم * (من صلصال) * أي: من طين يابس، يسمع عند النقر صلصلة أي: صوت، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، واكثر المفسرين. وقيل: طين صلب يخالطه الكثيب، عن الضحاك. وقيل: منتن، عن مجاهد، واختاره الكسائي * (من حمأ) * أي: من طين متغير * (مسنون) * أي: مصبوب، كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب والفضة، وقيل: انه (1) وجه مقرف: غير حسن. والندب: أثر الجرح. (*)
[ 114 ]
الرطب، عن ابن عباس. وقيل: مسنون مصور، عن سيبويه، قال: أخذ من سنة الوجه. * (والجان) * وهو ابليس، عن الحسن، وقتادة، وقيل: هو أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، عن ابن عباس. وقيل: هم الجن نسل ابليس، وهو منصوب بفعل مضمر، معناه: وخلقنا الجان * (خلقناه من قبل) * أي: من قبل خلق آدم * (من نار السموم) * أي: من نار لها ريح حارة، تقتل. وقيل: هي نار لا دخان لها، والصواعق تكون منها. وروى أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان ابليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وخلق الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار. وقيل: السموم النار الملتهبة، عن أبي مسلم. وفي هذا اشارة إلى ان الإنسان لا يفضل بأصله، وإنما يفضل بدينه وعلمه وصالح عمله. وأصل آدم عليه السلام كان من تراب، و ذلك قوله * (خلقه من تراب) * ثم جعل التراب طينا، وذلك قوله * (وخلقته من طين) * ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى، وذلك قوله * (من حمأ مسنون) *، ثم ترك حتى جف، وذلك قوله * (من صلصال) *. فهذه الأقوال لا تناقض فيها، إذ هي اخبار عن حالاته المختلفة * (وإذ قال ربك للملائكة) * تقديره: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة * (إني خالق) * أي: سأخلق * (بشرا) * أي: آدم، وسمي بشرا لأنه ظاهر الجلد، لا يواريه شعر، ولا صوف * (من صلصال من حمأ مسنون) * مر معناه: * (فإذا سويته) * بإتمام خلقته، وإكمال خلقه، وقيل: معناه عدلت صورته * (ونفخت فيه من روحي) * والنفخ: إجراء الريح في الشئ باعتماد، فلما أجرى الله سبحانه الروح في آدم على هذه الصفة، كان قد نفخ الروح فيه وإنما أضاف روح آدم إلى نفسه، تكرمة له وتشريفا، وهي اضافة الملك * (فقعوا له ساجدين) * أي: اسجدوا له. قال الكلبي: أي فخروا له ساجدين * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * هذا توكيد بعد توكيد عند سيبويه وقال المبرد: ويدل قوله * (أجمعون) * على اجتماعهم في السجود، أي: فسجدوا كلهم في حالة واحدة، قال الزجاج: وقول سيبويه أجود، لأن * (أجمعون) * معرفة، فلا يكون حالا * (إلا ابليس أبى أن يكون مع الساجدين) * أي: امتنع أن يكون معهم، فلم يسجد معهم، وقد سبق القول في أن إبليس هل كان من الملائكة أو لم يكن
[ 115 ]
واختلاف العلماء فيه، وما لكل واحد من الفريقين من الحجج، وذكرنا ما يتعلق بذلك من الكلام في سورة البقرة، فلا معنى للإعادة، وان يكون في محل نصب أي: أبى الكون مع الساجدين * (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين) * قال الزجاج: معناه أي شئ يقع لك في أن لا تكون مع الساجدين ؟ فموضع * (ان) * نصب بإسقاط في وافضاء الناصب الى ان. وهذا خطاب من الله سبحانه لإبليس، ومعناه لم لا تكون مع الساجدين فتسجد كما سجدوا، وإنما قال سبحانه بنفسه على جهة الإهانة له، كما يقول لأهل النار اخسأوا فيها ولا تكلمون. وقال الجبائي: إنما قال سبحانه ذلك على لسان بعض رسله، لأنه لا يصح ان يكلمه الله بلا واسطة في زمان التكليف * (قال) * أي: قال ابليس مجيبا لهذا الكلام * (لم أكن لأسجد) * أي: ما كنت لأسجد. وقيل: معناه ما كان ينبغي أن أسجد * (لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) * لأني أشرف أصلا منه، ولم يعلم ان التفاضل بالدين والأعمال لا بالأصل. * (قال فاخرج منها) * أي: من الجنة. * (فإنك رجيم) * أي: مشؤوم مطرود ملعون. وقيل: معناه اخرج من السماء، عن أبي مسلم. وقيل: من الأرض فألحقه بالبحار، لا يدخل الأرض إلا كالسارق. وقيل: رجيم مرجوم أي: إن رجعت إلى السماء رجمت بمثل الشهب التي يرجم به الشياطين. عن الجبائي * (وإن عليك اللعنة) * أي: وإن عليك مع ذلك اللعنة أي: الإبعاد من رحمة الله، ولذلك لا يجوز أن يلعن بهيمة * (إلى يوم الدين) * أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، والمراد أن الله سبحانه قد لعنك، وأهل السماء والأرض يلعنونك لعنة لازمة لك إلى يوم القيامة، ثم يحصل بعد ذلك على الجزاء بعذاب النار، وفيه بيان انه لا يؤمن قط. وقال بعض المحققين: إنما قال سبحانه هنا: * (وان عليك اللعنة) *، بالألف واللام. وقال في سورة ص: * (لعنتي) * بالإضافة، لأن هناك يقول * (لما خلقت بيدي) * مضافا فقال: * (وان عليك لعنتي) * على المطابقة، وقال هنا ما لك ألا تكون مع الساجدين، وساق الآية على اللام في قوله: * (ولقد خلقنا الإنسان) *، وقوله: * (والجان) * فأتى باللام أيضا في قوله: * (وإن عليك اللعنة) *. * (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بمآ أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم
[ 116 ]
أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا صراط على مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)) *. القراءة: قرأ يعقوب * (صراط علي) * بالرفع، وهي قراءة أبي رجاء، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، وقيس بن عبادة، وعمرو بن ميمون، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والباقون من القراء قرأوا: * (علي) *. الحجة: قال ابن جني: علي هنا كقولهم كريم شريف، وليس المراد به علو الشخص والنصبة. وقال أبو الحسن: في قراءة الجماعة هذا صراط علي مستقيم، هو كقولك الدلالة اليوم علي على أي هذا صراط في ذمتي، وتحت ضماني، كقولك صحة هذا المال علي، وتوفية عدته علي، وليس معناه عنده مستقيم علي، كقولنا قد استقام على الطريق، واستقر على كذا، وما أحسن ما ذهب إليه أبو الحسن فيه. اللغة: الإغواء: الدعاء إلى الغي، والإغواء خلاف الإرشاد، وهذا أصله، وقد يكون بمعنى الحكم بالغي على وجه الذم. والتزيين: جعل الشئ متقبلا في النفس من جهة الطبع، أو العقل، بحق أو بباطل. وإغواء الشيطان، تزيينه الباطل حتى يدخل صاحبه فيه. المعنى: ثم بين سبحانه ما سأله إبليس عند إياسه من الآخرة، فقال عز اسمه: * (قال رب فأنظرني) * أي: فأمهلني وأخرني * (إلى يوم يبعثون) * أي: يحشرون للجزاء، استنظره إبليس إلى يوم القيامة، لئلا يموت، إذ يوم القيامة لا يموت فيه أحد، فلم يجبه الله تعالى إلى ذلك، بل * (قال) * له * (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) * الذي هو آخر أيام التكليف، وهو النفخة الأولى، حين يموت الخلائق، عن ابن عباس. وقيل: الوقت المعلوم، يوم القيامة، أنظره الله سبحانه في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة، عن الحسن، والجبائي، وأبي مسلم. وقيل: هو الوقت الذي قدر الله أجله فيه، وهو معلوم لله سبحانه، غير معلوم لإبليس، فأبهم، ولم يبين، لأنه في بيانه إغراء بالمعصية، عن البلخي. واختلف في تجويز إجابة دعاء الكافر: وقال الجبائي: لا يجوز لأن في إجابة
[ 117 ]
الدعاء تعظيما له. وقال ابن الأخشيد: يجوز ذلك، لأن الإجابة كالنعمة في احتمالها أن يكون ثوابا وتعظيما، وأن يكون استصلاحا ولطفا * (قال) * إبليس * (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين) * قيل فيه أقوال أحدها: إن الإغواء الأول والثاني بمعنى الإضلال، أي: كما أضللتني لأضلنهم، وهذا لا يجوز لأن الله سبحانه لا يضل عن الدين إلا أن يحمل على أن إبليس كان معتقدا للخير وثانيها: إن الإغواء الأول والثاني بمعنى التخييب أي: بما خيبتني من رحمتك، لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك، عن الجبائي وثالثها: إن معناه بما أضللتني عن طريق جنتك، لأضلنهم بالدعاء إلى معصيتك ورابعها: بما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده، فسمي ذلك غواية كما قال فزادتهم رجسا إلى رجسهم لقا ازدادوا عندها، عن البلخي، والباء في قوله: * (بما أغويتني) * قيل: ان معناه القسم ههنا، عن أبي عبيدة. وقيل: هي بمعنى السبب أي: بكوني غاويا لأزينن، كما يقال بطاعته لندخلن الجنة، وبمعصيته لندخلن النار. ومفعول التزيين محذوف، وتقديره لأزينن الباطل لهم أي: لأولاد آدم، حتى يقعوا فيه. ثم استثنى من جملتهم فقال * (إلا عبادك منهم المخلصين) * وهم الذين أخلصوا عبادتهم لله، وامتنعوا عن عبادة الشيطان، وانتهوا عما نهاهم الله عنه. ومن قرأ * (المخلصين) * بفتح اللام، فهم الذين أخلصهم الله بأن وفقهم لذلك، ولطف لهم فيه، ليس للشيطان عليهم سبيل * (قال) * الله سبحانه * (هذا صراط علي مستقيم) * قيل فيه وجوه أحدها: إنه على وجه التهديد له كما تقول لغيرك: إفعل ما شئت، وطريقك علي أي: لا تفوتني، عن مجاهد، وقتادة، ومثله قوله * (إن ربك لبالمرصاد) * وثانيها: معناه ان ما نذكره من أمر المخلصين والغاوين، طريق ممره علي أي: ممر من مسلكه علي مستقيم، لا عدول فيه عني، وأجاز لي كلا من الفريقين بما عمل وثالثها: ان معناه هذا دين مستقيم علي بيانه، والهداية إليه. * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * هذا إخبار منه تعالى، بأن عباده الذين يطيعونه، وينتهون إلى أوامره، لا سلطان للشيطان عليهم، ولا قدرة له على أن يكرههم على المعصية، ويحملهم عليها، ولكن من يتبعه، فإنما يتبعه باختياره. قال الجبائي: وذلك على أن الجن لا يقدرون على الإضرار ببني آدم، لأنه على عمومه. ثم استثنى سبحانه من جملة العباد من يتبع إبليس على إغوائه، وينقاد له، ويقبل
[ 118 ]
منه، فقال: * (إلا من اتبعك من الغاوين) * لأنه إذا قبل منه، صار له عليه سلطان بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من اتباع الهوى. وقيل: ان الإستثناء منقطع، والمراد: لكن من اتبعك من الغاوين جعل لك على نفسه سلطانا * (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) * أي: موعد إبليس، ومن تبعه. * (لها سبعة أبواب) * فيه قولان أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: ان جهنم لها سبعة أبواب أطباق، بعضها فوق بعض، ووضع إحدى يديه على الأخرى، فقال: هكذا، وان الله وضع الجنان على العرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها لظى، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وفي رواية الكلبي: أسفلها الهاوية، وأعلاها جهنم. وعن ابن عباس: ان الباب الاول جهنم، والثاني سعير، والثالث سقر، والرابع جحيم، والخامس لظى، والسادس الحطمة، والسابع الهاوية. اختلفت الروايات في ذلك كما ترى وهو قول مجاهد، وعكرمة، والجبائي، قالوا: ان أبواب النيران كإطباق اليد على اليد والآخر: ما روي عن الضحاك قال: للنار سبعة أبواب، وهي سبعة ادراك، بعضها فوق بعض، فأعلاها فيه أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا، ثم يخرجون. والثاني فيه اليهود، والثالث فيه النصارى، والرابع فيه الصابئون، والخامس فيه المجوس، والسادس فيه مشركو العرب، والسابع فيه المنافقون، وذلك قوله * (ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * وهو قول الحسن، وأبي مسلم، والقولان متقاربان * (لكل باب منهم) * أي: من الغاوين * (جزء مقسوم) * أي: نصيب مفروض، عن ابن عباس. * (إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام ءامنين (46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48) * نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)) *. اللغة: الغل: الحقد الذي ينغل في القلب، ومنه الغل الذي يجعل في العنق. والغلول: الخيانة التي يطوق عارها صاحبها. والسرير: المجلس الرفيع موطأ للسرور، وجمعه الأسرة والسرر. والنصب: التعب والوهن الذي يلحق من
[ 119 ]
العمل، مشتق من الإنتصاب، لأن صاحبه ينتصب بالإنقطاع عن العمل للوهن الذي يلحقه. المعنى: لما ذكر سبحانه عباده المخلصين، عقبه بذكر حالهم في الآخرة، فقال: * (إن المتقين) * الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه * (في جنات) * أي: في بساتين خلقت لهم * (وعيون) * من ماء، وخمر، وعسل، يفور من الفوارة، ثم يجري في مجاريها * (ادخلوها بسلام) * أي: يقال لهم ادخلوا الجنات بسلامة من الآفات، وبراءة من المكاره والمضرات * (آمنين) * من الإخراج منها، ساكني النفس إلى انتفاء الضرر فيها * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * أي: وأزلنا عن صدور أهل الجنة ما فيها من أسباب العداوة من الغل أي: الحقد، والحسد، والتنافس، والتباغض * (إخوانا) * منصوب على الحال أي: وهم يكونون إخوانا متوادين، يريد مثل الإخوان، فيصفو لذلك عيشهم * (على سرر) * أي: كائنين على مجالس السرور * (متقابلين) * متواجهين ينظر بعضهم إلى بعض. قال مجاهد: لا يرى الرجل في الجنة قفا زوجته، ولا ترى زوجته قفاه، لأن الأسرة تدور بهم كيف ما شاءوا، حتى يكونوا متقابلين في عموم أحوالهم. وقيل: متقابلين في الزيارة. إذا تزاوروا استوت مجالسهم ومنازلهم، وإذا افترقوا كانت منازل بعضهم أرفع من بعض * (لا يمسهم فيها) * أي: في الجنة * (نصب) * أي: عناء وتعب، لأنهم لا يحتاجون إلى إتعاب أنفسهم، لتحصيل مقاصدهم، إذ جميع النعم حاصلة لهم * (وما هم منها بمخرجين) * أي: يبقون فيها مؤبدين. ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر عباده بكثرة عفوه ومغفرته ورحمته لأوليائه، وشدة عذابه لأعدائه، فقال: * (نبئ) * يا محمد * (عبادي أني أنا الغفور) * أي: كثير الستر لذنوب المؤمنين * (الرحيم) * كثير الرحمة لهم * (وأن عذابي هو العذاب الأليم) * فلا تعولوا على محض غفراني ورحمتي، وخافوا عقابي ونقمتي. * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشر تمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون (54) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين
[ 120 ]
(55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56) قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60)) *. القراءة: قرأ نافع وحده: * (فبم تبشرون) * خفيفة النون مكسورة، وقرأ ابن كثير وحده: * (فبم تبشرون) * مشددة النون مكسورة. وقرأ الباقون: * (تبشرون) * مفتوحة النون خفيفة. وروى أبو علي الضرير، عن روح وغيره، عن يعقوب: * (فبم تبشروني) * بإثبات الياء. وقرأ أبو عمرو والكسائي: بقنط ويقنطوا بكسر النون حيث كان. والباقون بفتح النون. وقرأ * (لمنجوهم) * خفيفة، أهل الكوفة غير عاصم، ويعقوب بالتشديد. وقرأ. * (قدرنا) * بالتخفيف أبو بكر عن عاصم، وكذلك في النمل. والباقون بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: الوجه في قراءة نافع أنه أراد تبشرونني، إلا أنه حذف النون الثانية استثقالا، لأن التكرير بها وقع، ولم يحذف النون الأولى التي هي علامة الرفع، وقد حذفوا هذه النون في كلامهم، لأنها زائدة، ولأن علامة الضمير الياء من دونها، قال: أبالموت الذي لابد إني ملاق لا أباك تخو فيني وقال: تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني (1) والوجه في تشديد ابن كثير النون أنه أدغم النون الأولى التي هي علامة الرفع في الثانية المتصلة بالياء التي هي المضمر المنصوب المتكلم. ومن فتح النون فلأنه لم يعد الفعل إلى المفعول به، كما عدى غيره، وحذف المفعول به كثير، والنون علامة الرفع. وقنط يقنط، وقنط يقنط، لغتان، وكان قنط يقنط أعلى، ويدل على ذلك إجماعهم في قوله قنطوا، وحكى ان يقنط لغة. وهذا يدل على أن يقنط أكثر، لأن مضارع فعل يجئ على يفعل ويفعل. وحجة من قرأ * (لمنجوهم) * قوله: * (ونجينا (1) البيت في (جامع الشواهد). (*)
[ 121 ]
الذين آمنوا) *. وحجة من قرأ بالتخفيف قوله * (فأنجاه الله من النار) * وقدرت بالتخفيف لغة في قدرت، يدل على ذلك قول الهذلي: ومفرهة عنس قدرت لساقها فخرت كما تتايع الريح بالقفل (1) والمعنى: قدرت ضربتي لساقها، فضربتها. فحذف لدلالة الكلام عليه، فمن قرأ * (قدرنا) * مخففا، كان في معنى التشديد. اللغة: الضيف: هو المنضوي إلى غيره لطلب القرى، وهو يقع على الواحد والإثنين والجمع، لأنه في الأصل مصدر وصف به، وقد يجمع بالأضياف والضيوف والضيفان. والوجل: الخوف، يقال: وجل يوجل، وياجل، وييجل، وييجل: إذا خاف، والخطب: الأمر الجليل، ومنه الخطبة، والخطبة. والمجرم: المنقطع عن الحق إلى الباطل، وهو القاطع لنفسه عن المحاسن إلى القبائح. والغابر: الباقي فيمن يهلك، قال الشاعر: فماونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى، وما غبر الإعراب: * (سلاما) *: منصوب على المصدر، كأنهم قالوا سلمنا إلا آل لوط. قال الزجاج: هو استثناء ليس من الأول. وقوله: * (إلا امرأته) * استثناء من الهاء والميم في قوله: * (إنا لمنجوهم) *، وقوله: قدرنا انها لمن الغابرين في معنى علمنا أنها لمن الغابرين، قال أبو عبيدة: في الآية معنى فقهي كان أبو يوسف يتأوله فيها، وهو أن الله استثنى آل لوط من المجرمين، ثم استثنى امرأة لوط من آل لوط، فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين، وكذلك كل استثناء في الكلام إذا جاء بعد استثناء آخر، دعا المعنى إلى أول الكلام، كقول الرجل لفلان علي عشرة دراهم إلا اربعة إلا درهما، فإنه يكون إقرارا بسبعة، وكذلك لو قال له: علي خمسة إلا درهما إلا ثلثا، كان إقرارا بأربعة وثلث. المعنى: لما ذكر سبحانه الوعد والوعيد، عقبه بذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وقوم لوط، مصدقا لما ذكره، وإرشادا إلى الدلالة بالعاجل على الآجل، فقال: * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * أي: وأخبرهم عن أضياف إبراهيم * (إذ دخلوا عليه) * يعني (1) العنس: الناقة القوية. ومفرهة: التي تلد الفرهة، يقال دابة فارهة أي: نشيطة حادة قوية. واتايعت الريح بورق الشجر: إذا ذهبت به، وأصله تتابعت به. والقفل: ما يبس من الشجر. (*)
[ 122 ]
الملائكة، وإنما سماهم ضيفا، لأنهم جاؤوه في صورة الأضياف * (فقالوا سلاما) * أي: سلموا عليه سلاما على وجه الدعاء والتحية، وبشروه بالولد، وبإهلاك قوم لوط * (قال) * إبراهيم: * (إنا منكم وجلون) * أي: خائفون * (قالوا لا توجل) * أي: لا تخف * (إنا نبشرك) * أي: نخبرك بما يسرك * (بغلام عليم) * أي: بولد يكون غلاما إذا ولد، ويكون عليما إذا بلغ * (قال) * إبراهيم * (أبشر تموني) * بالمولود * (على أن مسني الكبر) * أي: في حال الكبر الذي يوجب اليأس عن الولد * (فبم تبشرون) * أبأمر الله تعالى فأثق به، أم من جهة أنفسكم ؟ ومعنى مسني الكبر: غيرني الكبر عن حال الشباب الذي يطمع في الولد إلى حال الهرم. وقيل: معناه عن رأس الكبر. * (قالوا بشرناك بالحق) * أي: قالت الملائكة لابراهيم: إنا بشرناك بذلك على وجه الحقيقة بأمر الله * (فلا تكن من القانطين) * أي: اليائسين، فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأن * (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * أي: ومن الذي ييأس من رحمة الله، وحسن انعامه، إلا العادلون عن الحق الضالون، عن طريق الهدى، الجاهلون بقدرته على خلق الولد من الشيخ الكبير. وهذا القول من إبراهيم عليه السلام يدل على أنه لم يكن قانطا، ولكنه استبعد ذلك، فظنت الملائكة قنوطا، فنفى ذلك عن نفسه * (قال) * إبراهيم عليه السلام بعد ذلك للملائكة * (فما خطبكم أيها المرسلون) * أي: ما الأمر الجليل الذي بعثتم له، وما شأنكم ؟ وسماهم مرسلين لما علم أنهم ملائكة * (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * أي: مذنبين. وقيل: كافرين، أخبروه بهلاكهم، واقتصروا على هذا لأن من المعلوم ان الملائكة إنما يرسلون إلى المجرمين للهلاك * (إلا آل لوط) * استثنى منهم آل لوط، وهم خاصته وعشيرته، وإنما استثناهم منهم، وإن لم يكونوا مجرمين، من حيث كانوا من قوم لوط، وممن بعث إليهم. وقيل: إن معناه لكن آل لوط * (إنا لمنجوهم أجمعين) * أي: نخلصهم أجمعين من العذاب * (إلا امرأته) * استثنى امرأة لوط من آل لوط، لأنها كانت كافرة * (قدرنا إنها لمن الغابرين) * أي: من الباقين في المدينة مع المهلكين أي: قضينا أنها تهلك كما يهلكون. * (فلما جاء ءال لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون (64) فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث
[ 123 ]
تؤمرون (65) وقضينا إليه ذالك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66) وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أو لم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين (71) لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون (72)) *. اللغة: الإسراء: سير الليل: يقال سرى يسري. سرى وأسرى إسراء لغتان. قال امرؤ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم، وحتى الجياد ما يقدن بأرسان (1) والقطع: كأنه جمع قطعة مثل بسرة وبسر، وتمرة وتمر، والإتباع: اقتفاء الأثر. والاتباع في المذهب والإقتداء بمعنى. وخلافه الإبتداع. والأدبار: جمع دبر، هو جهة الخلف، والقبل: جهة القدام، وقد يكنى بهما عن الفرج. والدابر: الأصل، وقيل: ان الدابر الآخر. وعقب الرجل: دابره. والعمر والعمر واحد، غير انه لا يجوز في القسم إلا بالفتح، لأن الفتح أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمري، ولعمرك، فلزموا الأخف. الاعراب: * (أن دابر هؤلاء مقطوع) *: موضع * (ان) * نصب. بأنه دل من ذلك الأمر، لأنه تفسيره. ويجوز أن يكوزن نصبا على حذف الجار، فكأنه قال: وقضينا إليه بأن دابرهم مقطوع. وقوله: * (مصبحين) * نصب على الحال. و * (يستبشرون) * أيضا في موضع نصب على الحال. * (لعمرك) * مرفوع على الإبتداء، وخبره محذوف، والتقدير: لعمرك قسمي، أو لعمرك ما أقسم به، ولا يستعمل إظهار هذا الخبر. قال الزجاج: إن باب القسم يحذف معه الفعل، تقول: والله لأفعلن، وبالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فحذف الفعل للعلم به، فكذلك حذف خبر الإبتداء لدلالة الكلام عليه. المعنى: ثم أخبر سبحانه. ان الملائكة لما خرجوا من عند إبراهيم عليه السلام، أتوا لوطا عليه السلام يبشرونه بهلاك قومه، فقال: * (فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم (1) مر البيت في سورة هود في الجزء الخامس من هذا الكتاب. (*)
[ 124 ]
قوم منكرون) * وإنما قال لهم لوط ذلك، لأنهم جاءوه على صفة المرد علي هيئة وجمال لم ير مثلهم قط، فأنكر شأنهم وهيأتهم. وقيل: انه أراد: اني أنكركم فعرفوني أنفسكم ليطمئن قلبي * (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) * أي: بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه إذا خوفتهم به * (وأتيناك بالحق) * أي: بالعذاب المستيقن به * (وإنا لصادقون) * فيما أخبرناك به. وقيل: معناه وأتيناك بأمر الله تعالى، ولا شك أن أمره سبحانه حق. * (فأسر بأهلك بقطع من الليل) * ومعناه: سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل، ويبقى قطعة منه * (واتبع أدبارهم) * أي: اقتف أثرهم، وكن وراءهم لتكون عينا عليهم، فلا يتخلف أحد منهم * (ولا يلتفت منكم أحد) * أي: لا يلتفت أحد منكم إلى ما خلف وراءه في المدينة. وهذا كما يقول القائل: إمض لشأنك، ولا تعرج على شئ. وقيل: لا ينظر أحد منكم وراءه، لئلا يروا العذاب فيفزعوا، ولا يحتمل قلبهم ذلك، عن الحسن، وأبي مسلم * (وامضوا حيث تؤمرون) * أي: اذهبوا إلى الموضع الذي أمركم الله بالذهاب إليه، وهو الشام، عن السدي. * (وقضينا إليه ذلك الأمر) * أي: أعلمنا لوطا، وأخبرناه، وأوحينا إليه ما ننزل به من العذاب * (أن دابر هؤلاء مقطوع) * يعني: ان آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح، وهو قوله * (مصبحين) * أي: داخلين في وقت الصبح، والمراد: انهم مستأصلون بالعذاب وقت الصبح على وجه لا يبقى منهم أثر، ولا نسل، ولا عقب * (وجاء أهل المدينة يستبشرون) * يبشر بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط، وإنما فرحوا طمعا في ان ينالوا الفجور منهم * (قال) * لوط لهم * (إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون) * فيهم، والفضيحة: إلزام العار والشنار بالإنسان، ومعناه: لا تلزموني فيهم عارا بقصدكم إياهم بالسوء * (واتقوا الله) * باجتناب معاصيه * (ولا تخزون) * في ضيفي. والخزي: الإنقماع بالعيب الذي يستحيي منه. * (قالوا أولم ننهك عن العالمين) * معناه: أولم ننهك أن تجير أحدا، أو تضيف أحدا. قال الجبائي: وهذا القول إنما كان من لوط لقومه قبل أن يعلم أنهم ملائكة بعثوا لإهلاك قومه، وإنما ذكر مؤخرا، وهو في المعنى مقدم كما ذكر في غير هذه الصورة * (قال) * لوط لهم، وأشار إلى بناته لصلبه * (هؤلاء بناتي) * فتزوجوهن إن كان لكم رغبة في التزويج، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. وقوله: * (إن كنتم
[ 125 ]
فاعلين) * كناية عن النكاح إن كنتم متزوجين. قيل: وإنما ذلك للرؤساء الذين يكفون الأتباع، وقد كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر يومئذ، وقد كان ذلك أيضا جائزا في صدر شريعتنا، ثم حرم، عن الحسن، والجبائي. وقيل: انهن كن بنات قومه، عرضهن عليهم بالتزويج، والإستغناء بهن عن الذكران، والأول أو ضح * (لعمرك) * أي: وحياتك يا محمد، ومدة بقائك حيا. وقال المبرد: هو دعاء، ومعناه: أسأل الله عمرك. قال ابن عباس: ما خلق الله عزوجل، ولا ذرأ، ولا برأ، نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته، فقال: لعمرك * (إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * ومعناه: إنهم لفي غفلتهم يتحيرون، ويترددون، فلا يبصرون طريق الرشد. * (فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لأيات للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في ذلك لأية للمؤمنين (77) وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)) *. القراءة: قرأ جميع القراء: * (الأيكة) * هاهنا لأنها مكتوبة بالألف، إلا ورشا عن نافع، فإنه يترك الهمزة، ويرد حركتها إلى اللام. الحجة: إذا خففت الهمزة في * (الأيكة) * وقد ألحقتها الألف واللام، حذفتها، وألقيت حركتها على اللام، ويجوز فيه إذا استأنف لغتان فمن قال: الحمر (1) قال: أليكة، ومن قال لحمر، قال ليكة. اللغة: الأيكة: الشجر الملتف، وجمعها أيك مثل شجرة وشجر، قال أمية: كبكا الحمام على فرو ع الأيك في الطير الجوانح (2) (1) في قولهم الأحمر جاءني. (2) من قصيدة قالها في رثاء من أصيب من قريش يوم بدر، وقبل هذا البيت، وهو أول القصيدة: =
[ 126 ]
وقيل: الأيكة الغيضة. والمتوسم: الناظر في السمة الدالة وهي العلامة. ويقال: وسمت الشئ وسما: إذا أثرت فيه بسمة. ومنه الوسمي: أول المطر، لأنه يسم الأض بالنبات. وتوسم الرجل: طلب كلأ الوسمي، قال: وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من طاعن متوسم (1) وتوسم فيه الخير: إذا عرف سمة ذلك فيه. والأمام: الطريق، والإمام المبين: اللوح المحفوظ. والإمام في اللغة: هو المتقدم الذي يتبعه من بعده. الحجر: أخذ من الحجر الذي هو المنع، ومنه سمي العقل حجرا، لأنه يمنع من القبائح. الاعراب: إنتصب قوله: (مشرقين ومصبحين) على الحال، يقال: أشرقوا وهم مشرقون: إذا صادفوا شروق الشمس، وهو طلوعها، كما يقال: أصبحوا إذا صادفوا الصبح، فمعنى مشرقين: مصادفين لطلوع الشمس، وإن في قوله * (وإن كان أصحاب الأيكة) * مخففة من الثقيلة * (آمنين) *: منصوب على الحال. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن كيفية عذاب قوم لوط، فقال: * (فأخذتهم الصيحة مشرقين) * أي: أخذهم الصوت الهائل في حال شروق الشمس * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * مضى تفسيره في سورة هود * (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) * معناه: إن فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط، لدلالات للمتفكرين المعتبرين، عن قتادة، وابن زيد، وقيل: للمتفرسين، عن مجاهد. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله). وقال: (إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم). ثم قرأ هذه الآية. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (نحن المتوسمون، والسبيل فينا مقيم، والسبيل طريق الجنة). ذكره علي بن إبراهيم ني تفسيره * (وإنها لبسبيل مقيم) * معناه: إن مدينة لوط لبطريق مسلوك يسلكها الناس في حوائجهم، فينظرون إلى آثارها، ويعتبرون بها، لأن الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها، وهي مدينة = (الا بكيت على الكرام بني الكرام أولي الممادح) والجوانح: الموائل يقال: جنح إذا مال. (1) الدوم: شجر يشبه النخل. وشجرة ناعمة الورق ورقها كورق السلق، ولا تنبت إلا على ماء، ولا ثمر لها، وهي خضراء غليظة الساق. (*)
[ 127 ]
سدوم. وقال قتادة: إن قرى قوم لوط بين المدينة والشام * (إن في ذلك لآية) * أي: عبرة ودلالة * (للمؤمنين) * وخص المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بها * (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) * وأصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم شعيب عليه السلام، وأرسل إلى أهل مدين، فأهلكوا بالصيحة. وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها، عن قتادة، وجماعة من المفسرين. ومعنى الآية: انه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم، وكانوا أصحاب غياض، فعاقبهم الله تعالى بالحر سبعة أيام، ثم أنشأ سبحانه سحابة فاستظلوا بها، يلتمسون الروح فيها، فلما اجتمعوا تحتها، أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا. * (فانتقمنا منهم) * أي: من قوم شعيب، ومن قوم لوط أي: عذبناهم بما انتقمناه منهم. والإنتقام: هو المجازاة على جناية سابقة، وفرق علي بن عيسى بين الإنتقام والعقاب بأن الإنتقام هو نقيض الإنعام والعقاب هو نقيض الثواب * (وإنهما لبإمام مبين) * معناه: وإن مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة، بطريق يؤم ويتبع ويهتدى به، عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وسمي الطريق إماما، لأن الإنسان يؤمه، وقيل: معناه وإن حديث مدينتيهما لمكتوب مذكور في اللوح المحفوظ، أو حديث لوط، وحديث شعيب، عن الجبائي، فيكون نظير قوله: * (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) * والمبين: الظاهر. ثم أخبر سبحانه عن إهلاك قوم صالح فقال * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) * والحجر: إسم البلد الذي كان فيه ثمود، وإنما سموا أصحاب الحجر، لأنهم كانوا سكانه، كما يسمى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصحارى، لأنهم كانوا يسكنونها. وقيل: إن الحجر إسم لواد كان يسكنها هؤلاء، عن قتادة. وإنما قال تعالى * (المرسلين) * لأن في تكذيب صالح تكذيب المرسلين، لأنه كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون، وإلى الإيمان بالمرسلين، فكان في تكذيب أحدهم تكذيب الجميع. وقيل: بعث الله إليهم رسلا منهم صالح، عن الجبائي * (وآتيناهم آياتنا) * أي: آتينا أصحاب الحجر الحجج، والمعجزات، والدلالات الدالة على صدق الأنبياء، وقيل: آتينا الرسل الآيات عن الحسن * (فكانوا عنها) * أي: عن الآيات * (معرضين) * أعرضوا عن التفكر فيها، والإستدلال بها * (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) * أي: وكان قوم صالح في القوة بحيث ينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها، وكانوا آمنين من خرابها وسقوطها عليهم. وقيل: كانوا آمنين
[ 128 ]
من عذاب الله. وقيل: آمنين من الموت لطول أعمارهم * (فأخذتهم الصيحة مصبحين) * أي: فأهلكوا بالصيحة في وقت دخولهم في الصباح * (فما أغنى عنهم) * أي: فما دفع عنهم العذاب، ولم يغنهم * (ما كانوا يكسبون) * أي: يجمعون من المال، والأولاد، وأنواع الملاذ. * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لأتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلاق العليم (86) ولقد ءاتيناك سبعا من المثانى والقرءان العظيم (87) لاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إنى أنا النذير المبين (89) كمآ أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرءان عضين (91)) *. اللغة: عضين: جمع عضة: وأصله عضوة، فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين بالنون، كما قال عزة وعزون، والأصل عزوة. والتعضية: التفريق، مأخوذ من الأعضاء، يقال عضيت الشئ أي: فرقته وبعضته. قال رؤبة: (وليس دين الله بالمعضي) وقال آخر: تلك ديار تأزم المآزما وعضوات تقطع اللهازما (1) وقيل: أصل عضة عضهة، فحذفت الهاء، كما حذفت من شفة وشاة، وأصلها شفهة وشاهة، بدلالة أن الجمع شفاه وشياه بالهاء، والتصغير شفيهة وشويهة. المعنى: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * معناه: وما خلقناهما عبثا، بل لما اقتضته الحكمة، وهي أنا قد تعبدنا أهلها، ثم نجازيهم بما عملوا * (وإن الساعة) * وهي يوم القيامة * (لآتية) * أي: جائية بلا شك بعذابهم. وقيل: بمجازاة الخلائق كلهم. وقيل: هو تفسير قوله * (إلا بالحق) *. * (فاصفح (1) المآزم جمع المأزم: المضيق. وعضوات: جمع عضة: كل شجر له شوك. واللهازم: أصول الحنكين، واحدتها لهزمة - بالكسر - وفي (اللسان): (هذا طريق يأزم. ا. ه‍). وقال ابن منظور: ويروى (عصوات) جمع عصا. (*)
[ 129 ]
الصفح الجميل) * أي: فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين، وعن مجاوبتهم، واعف عنهم عفوا جميلا. واختلف في الآية فقيل: إنها منسوخة بآية القتال، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك. وقيل: لا نسخ فيه، بل هو فيما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبينهم، لا فيما أمر به من جهة جهادهم. أمره بالصفح عنهم في موضع الصفح لقوله * (فاعرض عنهم وعظهم) *، عن الحسن. قال القاضي: والصفح ممدوح في سائر الحالات، وهو كالحلم والتواضع، وقد يلزمنا الصفح الجميل مع لزوم التشديد في أمر الجهاد، وحكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: إن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب. وقيل: هو العفو بغير تعنيف، وتوبيخ * (إن ربك هو الخلاق) * للأشياء * (العليم) * بتدبير خلقه، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم. ويجوز أن يريد: إن ربك هو الذي خلقكم، وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح أصلح الآن إلى أن يؤمر بالسيف. ثم ذكر سبحانه ما خص به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، من النعم، فقال: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * وقد تقدم الكلام فيه وإن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وهو قول علي عليه السلام، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، ومجاهد، وقتادة، وروي ذلك عن أبي عبد الله، وأبي جعفر عليهما السلام. وقيل: هي السبع الطوال، وهي السور السبع، من أول القرآن، وإنما سميت مثاني لأنه يثني فيها الأخبار والعبر، عن ابن عباس، في رواية أخرى، وابن مسعود، وابن عمر، والضحاك. وقيل: المثاني القرآن كله لقوله * (كتابا متشابها مثاني) *، عن أبي مالك، وطاوس. وروي نحو ذلك عن ابن عباس، ومجاهد. ومن قال: هي فاتحة الكتاب، اختلفوا في سبب تسميتها مثاني، فقيل: لأنها تثنى قراءتها في الصلاة، عن الحسن، وأبي عبد الله عليه السلام. وقيل: لأنها تثني بها مع ما يقرأ من القرآن، عن الزجاج. وقيل: لأن فيها الثناء مرتين، وهو الرحمن الرحيم، وقيل: لأنها مقسومة بين الله وعبده، عل ما روي في الخبر. وقيل: لأن نصفها ثناء، ونصفها دعاء. وقيل: لأنها نزلت مرتين تعظيما وتشريفا لها. وقيل: لأن حروفها كلها مثناة، نحو الرحمن الرحيم، إياك وإياك، والصراط وصراط. وقيل: لأنها تثني أهل الفسق عن الفسق. ومن قال المراد بالمثاني القرآن كله فإن من
[ 130 ]
في قوله: * (من المثاني) * يكون للتبعيض. ومن قال انها الحمد، كان * (من) * للتبيين، وقال الراجز: نشدتكم بمنزل القرآن أم الكتاب السبع من مثاني ثنتين من آي من القرآن والسبع سبع الطول الدواني * (والقرآن العظيم) * تقديره: وآتيناك القرآن العظيم، وصفه بالعظيم، لأنه يتضمن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين، بأوجز لفظ، وأحسن نظم، وأتم معنى. * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) * أي: لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم، وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأموال، والأولاد، وغير ذلك من زهرات الدنيا، فإنها في معرض الزوال والفناء، مع ما يتبعها من الحساب والجزاء. وعلى هذا فيكون * (أزواجا) * منصوبا على الحال، والمراد به الأشباه والأمثال. وقيل: إن معناه لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم التي هي أشباه يشبه بعضها بعضا، فإن ما أنعمنا عليك وعلى من اتبعك، من أنواع النعم، وهي النبوة، والقرآن، والإسلام، والفتوح، وغيرها، أكثر وأوفر مما آتيناهم. وقيل: إن معناه: ولا تنظرن، ولا تعظمن في عينيك، ولا تمدهما إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين. والأزواج: الأصناف. ويكون على هذا مفعولا به، نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا، فحظر عليه أن يمد عينيه إليها، وكان رسول الله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا * (ولا تحزن عليهم) * أي: على كفار قريش، إن لم يؤمنوا، ونزل بهم العذاب، عن الكلبي. وقيل: لا تحزن عليهم بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم، عن الحسن، وقيل: لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك، عن الجبائي. * (واخفض جناحك للمؤمنين) * أي: ألن لهم جانبك، وارفق بهم، عن ابن عباس. والعرب تقول فلان خافض الجناح: إذا كان وقورا حليما، وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه، بسط جناحه، ثم خفضه، فالمعنى تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك * (وقل إني أنا النذير المبين) * معناه: وقل إني أنا المعلم بموضع المخافة ليتقى المبين لكم ما تحتاجون إليه، وما أرسلت به إليكم * (كما أنزلنا على المقتسمين) * قيل: فيه قولان أحدهما: إن معناه أنزلنا القرآن عليك كما أنزلنا على المقتسمين، وهم اليهود والنصارى.
[ 131 ]
* (الذين جعلوا القرآن عضين) * أي: فرقوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، عن قتادة، قال: آمنوا بما وافق دينهم، وكفروا بما خالف دينهم. وقيل: سماهم مقتسمين، لأنهم اقتسموا كتب الله تعالى فآمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها، عن ابن عباس والآخر: إن معناه إنى أنذركم عذابا كما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة، يصدون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإيمان به. قال مقاتل: وكانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، يقولون لمن أتى مكة: لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي النبوة، فأنزل الله بهم عذابا، فماتوا شر ميتة، ثم وصفهم فقال: * (الذين جعلوا القرآن عضين) * أي جزأوه أجزاء، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى، عن ابن عباس. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها، هو أن الأمم لما خالفوا الحق أهلكوا، لأن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق، وإن الساعة آتية للجزاء، وإن جميع ما خلق الله يرجع إلى عالم يدبره، واتصل قوله * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * بقوله * (فاصفح الصفح الجميل) * فإنه سبحانه لما أمره بالصفح عن أذاهم، بين ما خصه الله به من النعم، وما له من الحجة عليهم، واتصل قوله * (كما أنزلنا) * على القول الأول بهذا أي: كما أنزلنا عليهم أنزلنا إليك القرآن، وعلى القول الثاني، يتصل بقوله * (أنا النذير) *. * (فوربك لنسئلنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93) فاصدع بماتؤمر و أعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزءين (95) الذين يجعلون مع الله إلاها ءاخر فسوف يعلمون (96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)) *. اللغة: الصدع، والفرق، والفصل، نظائر. وصدع بالحق: إذا تكلم به جهارا، قال أبو ذؤيب: وكأنهن ربابة، وكأنه يسر يفيض على القداح، ويصدع (1) (1) الربابة جعبة يجعل فيها القدام. واليسر بمعنى الياسر: اللاعب بالقداح وأفاض القداح: ضرب = (*)
[ 132 ]
والصديع: الصبح، قال: (كأن بياض غرته الصديع) (1). الاعراب: * (فاصدع بما تؤمر) *: إن جعلت ما بمعنى الذي، كان العائد من الصلة إلى الموصول محذوفا، ويكون تقديره على استعمال الصيغة فيه، فاصدع بما تؤمر بالصدع به. ثم تحذف الباء التي في به فيصير بالصدعة، ولا يجوز الإضافة مع لام المعرفة، فتحذف لام المعرفة توصلا بحذفه إلى الإضافة، فيصير بما تؤمر بصدعه، ثم يحذف المضاف، ويقيم المضاف إليه مقامه، فيبقى بما تؤمر به. ثم يحذف حرف الجر على حد قولك أمرتك الخير في إمرتك بالخير، فيصير بما تؤمره. ثم يحذف العائد المنصوب من الصلة على ما قد تكرر بيانه في مواضع، فيصير بما تؤمر. وهذا من لطائف أسرار النحو. وإن جعلت ما مصدرية كان على تقدير: فاصدع بالأمر، كما تقول عجبت مما فعلت. والتقدير: عجبت من فعلك، ولا يحتاج هنا إلى عائد يعود إلى ما لأنه حرف. وحكى يونس النحوي، عن رؤبة أنه قال: في هذه اللفظة أفصح ما في القرآن. المعنى: لما بين سبحانه كفرهم بالقرآن، وتعضيتهم له، بين عقيب ذلك لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه يسألهم عما فعلوه، ويجازيهم عليه، فقال: * (فوربك) * يا محمد * (لنسئلنهم أجمعين) * أقسم بنفسه، وأضاف نفسه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، تشريفا له، وتنبيها للخلق على عظيم منزلته عنده، لنسألن هؤلاء الكفار سؤال توبيخ وتقريع، بأن نقول لهم: لم عصيتم ؟ وما حجتكم في ذلك ؟ فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم عند تعذر الجواب * (عما كانوا يعملون) * معناه: عما عملوا فيما عملوا، عن سفيان بن عيينة. وقيل: عن لا إله إلا الله، والإيمان برسله، عن الكلبي. وقيل: عما كانوا يعبدون، وبماذا أجابوا المرسلين، عن أبي العالية. * (فاصدع بما تؤمر) * أي: أظهر، وأعلن، وصرح، بما أمرت به، غير خائف، عن ابن عباس، وابن جريج، ومجاهد، وابن زيد، وقيل: معناه فافرق بين الحق والباطل بما أمرت به، عن الجبائي، والأخفش. وقيل: أبن ما تؤمر به، وأظهره، عن الزجاج، قال: وتأويل الصدع في الزجاج، وفي الحائط، أن تبين = بها يصف الخمار وحانته. (1) قائله: عمرو بن معد يكرب، وقبله: (ترى السرحان مفترشا يديه). والسرحان الأسد. (*)
[ 133 ]
بعض الشئ، عن بعض * (وأعرض عن المشركين) * أي: لا تخاصمهم إلى أن تؤمر بقتالهم. وقيل: معناه لا تلتفت إليهم، ولا تخف عنهم، عن أبي مسلم. وقيل: وأعرض عن مجاوبتهم إذا آذوك، عن الجبائي. * (إنا كفيناك المستهزئين) * أي: كفيناك شر المستهزئين واستهزاءهم، بأن أهلكناهم، وكانوا خمسة نفر من قريش: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، وأبو زمعة، وهو الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن قيس، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقيل: كانوا ستة رهط، عن محمد بن ثور، وسادسهم الحارث بن الطلاطلة، وأمه عيطلة، قالوا: وأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمستهزؤون يطوفون بالبيت، فقام جبرائيل ورسول الله إلى جنبه، فمر به الوليد بن المغيرة المخزومي، فأومى بيده إلى ساقه، فمر الوليد على قين لخزاعة، وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه شوكة، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى مات، ومر به العاص بن وائل السهمي، فأشار جبرائيل إلى رجله، فوطئ العاص على شوكة، فدخلت في أخمص رجله ! فقال: لدغت ! فلم يزل يحكها حتى مات، ومر به الأسود بن المطلب بن عبد مناف، فأشار إلى عينه فعمي. وقيل: رماه بورقة خضراء فعمي، وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات. وقيل: أصابه السموم، فصار أسود، فأتى أهله. فلم يعرفوه، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد ! ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأومى إلى رأسه فامتخط قيحا، فمات: وقيل: إن الحرث بن قيس، أكل حوتا مالحا، فأصابه العطش، فما زال يشرب حتى انقد بطنه فمات. ثم وصفهم سبحانه بالشرك فقال: * (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) * أي: اتخذوا معه إلها يعبدونه * (فسوف يعلمون) * هذا وعيد لهم، وتهديد * (ولقد نعلم أنك) * يا محمد * (يضيق صدرك) * أي: قلبك * (بما يقولون) * من تكذيبك، والإستهزاء بك، وهذا تعزية من الله تعالى لنبيه، وتطييب لقلبه * (فسبح بحمد ربك) * أي: قل سبحان الله و بحمده * (وكن من الساجدين) * أي: المصلين، عن الضحاك، وابن عباس، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا حزنه أمر، فزع إلى الصلاة. وقيل: معناه إحمد ربك على نعمه إليك، وكن من الذين يسجدون لله، ويوجهون بعبادتهم إليه * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * أي إلى أن يأتيك الموت، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. وقيل: حتى يأتيك اليقين من الخير والشر عند
[ 134 ]
الموت، عن قتادة، وسمي الموت يقينا، لأنه موقن به، ويحتمل أن يكون أراد حتى يأتيك العلم الضروري بالموت، والخروج من الدنيا الذي يزول معه التكليف. قال الزجاج: المعنى إعبد ربك أبد الآبدين، ولو قال إعبد ربك بغير توقيت، لجاز أن يكون الإنسان مطيعا إذا عبد الله مرة، فإذا قال: * (حتى يأتيك اليقين) * فقد أمر بالإقامة على العبادة أبدا، ما دام حيا.
[ 135 ]
16 - سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة أربعون آية من أولها مكية، والباقي من قوله * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم) * إلى آخر السورة مدنية، عن الحسن، وقتادة. وقيل: مكية كلها غير ثلات آيات، نزلت في انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من أحد * (وإن عاقبتم فعاقبوا) * إلى آخر السورة، نزلت بين مكة والمدينة، عن ابن عباس، وعطا، والشعبي. وفي إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكي، وبعضها مدني، فالمكي من أولها إلى قوله: * (ولكن عذاب عظيم) *، والمدني قوله: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * إلى قوله: * (بأحسن ما كانوا يعملون) *. عدد آيها: مائة وعشرون آية، ليس فيها اختلاف. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية، وإن مات في يوم تلاها، أو ليلة، كان له من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية. وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ سورة النحل في كل شهر، كفي المغرم في الدنيا، وسبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونه الجنون، والجذام، والبرص، وكان مسكنه في جنة عدن، وهي وسط الجنان. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار، كان افتتاح هذه السورة بوعيدهم أيضا، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1) ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا
[ 136 ]
فاتقون (2)) *. القراءة: * (تشركون) * بالتاء كوفي غير عاصم. والباقون بالياء. * (تنزل الملائكة) * بفتح التاء والزاي والتشديد ورفع * (الملائكة) * روح، وزيد عن يعقوب وسهل، وهي قراءة الحسن. والباقون بالياء بكسر الزاي ونصب * (الملائكة) * وابن كثير وأبو عمرو يخففان * (ينزل) * على أصلها، وكذلك رويس عن يعقوب، والباقون يشددون. اللغة: قيل إن التسبيح بالتشديد في اللغة على أربعة أقسام الأول: التنزيه كقوله: * (سبحان الذي أسرى) * والثاني: معنى الإستثناء كقوله: * (لولا تسبحون) * أي: تستثنون بقولكم إن شاء الله والثالث: بمعنى الصلاة كقوله * (فلولا أنه كان من المسبحين) * والرابع: بمعنى النور، كما جاء في الحديث فلولا سبحات وجهه أي: نوره. والروح يأتي على عشرة أقسام: الروح حياة النفوس بالإرشاد. والروح: الرحمة كما ورد في القراءة * (فروح وريحان) *. والروح: النبوة كقوله * (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) *. والروح: عيسى روح الله لأنه خلق من غير بشر. وقيل: من غير فحل. وقيل: لكونه رحمة على عباده بما يدعوهم إلى الله. والروح: جبرائيل عليه السلام. والروح: النفخ، يقال أحييت النار بروحي أي: بنفخي، قال ذو الرمة يصف الزند والزندة (1): فلما بدت كفنتها وهي طفلة بطلساء لم تكمل ذراعا ولاشبرا وقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا والروح: الوحي في قوله: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) *. وقيل: انه جبرائيل. والروح: ملك في السماء من أعظم من خلق الله، فإذا كان يوم القيامة وقف صفا، والملائكة كلهم صفا. والروح: روح الإنسان. وقال ابن عباس: في الإنسان روح ونفس. فالنفس: هي التي يكون فيها التمييز والكلام. والروح: هو الذي يكون به الغطيط والنفس، فإذا نام العبد خرجت نفسه، وبقي روحه، وإذا مات خرجت نفسه وروحه معا. (1) الزند: العود الذي يقتدح به النار. والزندة: العود الأسفل الذي فيه الفرصة. ويقال للنار ساعة تقدح: طفلة. (*)
[ 137 ]
المعنى: * (أتى أمر الله) * فيه أقوال: أحدها: إن معناه قرب أمر الله تعالى بعقاب هؤلاء المشركين المقيمين على الكفر والتكذيب، عن الحسن، وابن جريج. قال الحسن: إن المشركين، قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ائتنا بعذاب الله، فقال سبحانه: (إن أمر الله آت وكل ما هو آت قريب دان) وثانيها: إن أمر الله أحكامه وفرائضه، عن الضحاك. وثالثها: إن أمر الله هو يوم القيامة، عن الجبائي، وروي نحوه عن ابن عباس، وعلى هذا الوجه فيكون أتى بمعنى يأتي، وجاء وقوع الماضي ههنا لصدق المخبر بما أخبر به، فصار بمنزلة ما قد مضى، ولأن سبحانه قرب أمر الساعة، فجعله أقرب من لمح البصر، وقال: * (اقتربت الساعة) *. * (فلا تستعجلوه) * خطاب للمشركين المكذبين بيوم القيامة لعذاب الله، المستهزئين به، وكانوا يستعجلونه كما حكى الله سبحانه عنهم، قولهم: * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * وتقديره قل لهؤلاء الكفار: لا تستعجلوا القيامة والعذاب فإن الله سيأتي بكل منهما في وقته وحينه، كما تقتضيه حكمته * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * هذه كلمة تنزيه لله تعالى، عما لا يليق به وبصفاته، وتنزيه له من أن يكون له شريك في عبادته أي: جل وتقدس وتنزه من أن يكون له شريك، تعالى وتعظم وارتفع من جميع صفات النقص * (ينزل الملائكة) * أي: ينزل الله الملائكة، أو تنزل الملائكة. * (بالروح من أمره) * أي بالوحي عن ابن عباس، وقيل: بالقرآن عن ابن زيد، وهما واحد، وسمي روحا لأنه حياة القلوب والنفوس بالإرشاد إلى الدين. وقيل: بالنبوة عن الحسن وقوله * (من أمره) * أي: بأمره، ونظيره قوله * (يحفظونه من أمر الله) * أي بأمر الله، لأن أحدا لا يحفظه عن أمره * (على من يشاء من عباده) * ممن يصلح للنبوة والسفارة بينه وبين خلقه * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * هذا تفسير للروح المنزل، وبدل منه، فإن المعنى تنزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي، بأنه لا إله إلا أنا أي: مروهم بتوحيدي، وبأن لا يشركوا بي شيئا. ومعنى * (فاتقون) *: فاتقوا مخالفتي، وفي هذا دلالة على أن الغرض من بعثة الأنبياء الإنذار والدعاء إلى الدين. النظم: وجه اتصال قوله سبحانه وتعالى بما تقدم إن الكفار كانوا يستعجلون العذاب على وجه التكذيب به، ويكذبون البعث والقيامة، فبين سبحانه أنه منزه عما
[ 138 ]
يصفون به، فإن الحكيم إذا كلف وجب أن يجازي المكلف، فترك المجازاة قبيح. وقيل: إنهم كانوا ينكرون قدرة الله تعالى سبحانه على إعادة الخلق، فنزه نفسه عن قولهم واتصل قوله * (ينزل الملائكة) * بما تقدم، فإنه سبحانه لما أوعدهم بالعذاب، بين أنه ينزل الملائكة للتخويف، وأنه لا يأخذ أحدا من المشركين حتى يحتج عليه بالنذر. وقيل: انه سبحانه بين أن الحال حال التكليف، لا حال نزول العذاب، وإن الصلاح الآن إنزال الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالوحي والكتاب، للإنذار، وبيان الأدلة، ولذلك أتبعه بذكر الأدلة. * (خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4) والأنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر: * (بشق الأنفس) * بفتح الشين. والباقون بكسرها. الحجة: الشق، والشق بكسر الشين، وفتحها بمعنى، وكلاهما المشقة. قال عمرو بن ملقط، وهو جاهلي: (والخيل قد تجشم أربابها * الشق وقد تعتسف الراوية) (1). والرواية بفتح الشين. اللغة: الأنعام: جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لنعمة مشيها، بخلاف الحافر الذي يصلب مشيها. والدف ء: ما استدفأت به ودفؤ يومنا دفأ فهو دفئ. والإراحة: رد الماشية بالعشي من مراعيها إلى مباركها. والمكان الذي يراح فيه مراح. والسروح: خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال سرحت الماشية سرحا وسروحا، وسرحها أهلها، قال: كأن بقايا الإثر فوق متونه مدب الدبا فوق النقا، وهو سارح (2) (1) جشمه: تكلفه على مشقة. والراوية: البعير، أو البغل، أو الحمار الذي يستقى عليه الماء. (2) الدبا: الجراد قبل أن يطير. (*)
[ 139 ]
والأثقال: جمع الثقل، وهو المتاع الذي يثقل حمله. الاعراب: * (والأنعام) *: منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده، والتقدير وخلق الأنعام خلقها وقوله: * (لكم فيها دف ء) * جملة منصوبة الموضع على الحال من * (الأنعام) *، والتقدير كائنة بهذه الصفة. المعنى: لما تقدم ذكر بعث الملائكة للإنذار، وبيان التوحيد وشرائع الإسلام، أتبعه سبحانه بالإحتجاج على الخلق بالخلق، وتعداد صنوف الأنعام، فقال: * (خلق السماوات والأرض بالحق) * ومعناه: أنه خلقهما ليستدل بهما على معرفته، ويتوصل بالنظر فيهما إلى العلم بكمال قدرته وحكمته. وقيل: خلقهما لينتفع بهما في الدين والدنيا، وليعمل بالحق. * (تعالى عما يشركون) * أي: تقدس عن أن يكون له شريك. ثم بين سبحانه دلالة أخرى، فقال: * (خلق الإنسان من نطفة) * والنطفة: الماء القليل، غير أنه بالتعارف صار إسما لماء الفحل. * (فإذا هو خصيم مبين) * اختصرها هنا ذكر تقلب أحوال الإنسان لذكره ذلك في أمكنة كثيرة من القرآن، فالمعنى أنه خلق الإنسان من نطفه سيالة، ضعيفة، مهينة، دبرها وصورها بعد أن قبلها حالا بعد حال، حتى صارت إنسانا يخاصم عن نفسه، ويبين عما في ضميره، فبين سبحانه أنقص أحوال الإنسان وأكملها، منبها على كمال قدرته وعلمه. وقيل: خصيم مجادل بالباطل، مبين ظاهر الخصومة، عن ابن عباس، والحسن. فعلى هذا يكون المعنى أنه خلقه ومكنه، فأخذ يخاصم في نفسه، وفيه تعريض لفاحش ما ارتكبه الإنسان من تضييع حق نعمة الله عليه. ثم بين سبحانه نعمته في خلق الأنعام فقال * (والأنعام خلقها) * معناه: وخلق الأنعام من الماء، كما خلقكم منه، يدل عليه قوله * (والله خلق كل دابة من ماء) * وأكثر ما يتناول الأنعام الإبل، ويتناول البقر والغنم أيضا، وفي اللغة: هي ذوات الأخفاف والأظلاف دون ذوات الحوافر، * (لكم فيها دف ء) * أي: لباس، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: ما يستدفأ به مما يعمل من صوفها ووبرها، وشعرها، عن الحسن. فيدخل فيه الأكسية، واللحف، والملبوسات، وغيرها. قال الزجاج: أخبر سبحانه أن في الأنعام ما يدفئنا، ولم يقل ولكم فيها ما يكنكم من البرد، لأن ما ستر من الحر ستر من البرد. وقال في موضع آخر. * (سرابيل تقيكم الحر) * فعلم أنها تقي البرد أيضا، فكذلك هاهنا. وقيل: إن معناه وخلق الأنعام لكم أي:
[ 140 ]
لمنافعكم، ثم ابتدأ وأخبر وقال فيها دف ء، عن الحسن، وجماعة. * (ومنافع) * معناه: ولكم فيها منافع أخر من الحمل، والركوب، وإثارة الأرض، والزرع، والنسل * (ومنها تأكلون) * أي: ومن لحومها تأكلون * (ولكم فيها جمال) * أي: حسن منظر، وزينة * (حين تريحون) * أي: حين تردونها إلى مراحها، وهي حيث تأوي إليه ليلا. * (وحين تسرحون) * أي: حين ترسلونها بالغداة إلى مراعيها، وأحسن ما يكون النعم إذا راحت عظاما ضروعها، ممتلئة بطونها، منتصبة أسنمتها، وكذلك إذا سرحت إلى المراعي رافعة رؤوسها، فيقول الناس هذه جمال فلان ومواشيه، فيكون له فيها جمال * (وتحمل أثقالكم) * أي: أمتعتكم * (إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) * أي: وتحمل الإبل، وبعض البقر، أحمالكم الثقيلة إلى بلد بعيدة، لا يمكنكم أن تبلغوه من دون الأحمال، إلا بكلفة ومشقة تلحق أنفسكم، فكيف تبلغونه مع الأحمال لولا أن الله تعالى سخر هذه الأنعام لكم، حتى حملت أثقالكم إلى أين شئتم. وقيل: إن الشق معناه: الشطر والنصف. فيكون المراد إلا بأن يذهب شطر قوتكم أي: نصف قوة الأنفس. وقيل: معناه تحمل أثقالكم إلى مكة، لأنها من بلاد الفلوات، عن ابن عباس، وعكرمة * (إن ربكم لرؤوف) * أي: ذو رأفة * (رحيم) * أي: ذو رحمة، ولذلك أنعم عليكم بخلق هذه الأنعام ابتداء منه بهذه الأنعام. * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولوشآء لهداكم أجمعين (9) هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (11) وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون (12) وماذر ألكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لأية لقوم يذكرون (13)) *.
[ 141 ]
القراءة: قرأ حماد، ويحيى، عن أبي بكر، عن عاصم: * (ننبت) * بالنون. والباقون بالياء. وقرأ ابن عامر: * (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) * كلها بالرفع. وقرأ حفص عن عاصم: * (والشمس والقر) * بالنصب. * (والنجوم مسخرات) * بالرفع. وقرأ الباقون كل ذلك بالنصب. الحجة: من قرأ * (ينبت) * بالياء فلما تقدم من قوله * (هو الذي أنزل) * فالياء أشكل بما تقدم من الإفراد، والنون لا يمتنع أيضا، ويقال نبت البقل، وأنبته الله. قال أبو علي: والنصب في قوله * (والشمس والقمر) * أحسن ليكون معطوفا على ما قبله، وداخلا في إعرابه، ألا ترى أن ما في التنزيل من نحو قوله * (وكلا ضربنا له الأمثال والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * يختار فيه النصب، ليكون مثل ما يعطف عليه، ومشاكلا له، فكذلك هنا إذا حمل ذلك على التسخير، كان أشبه. فإن قلت: فقد جاء * (مسخرات) * بعد هذه الأشياء المنصوبة المحمولة على سخر، فإن ذلك لا يمتنع، لأن الحال تكون مؤكدة ومجئ الحال مؤكدة في التنزيل وغيره كثير كقوله: * (وهو الحق مصدقا) * وأنا ابن دارة معروفا (وكفى بالنأي من أسماء كاف) ويقوي النصب قوله تعالى * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) *، فكما حمل هنا على التسخير، كذلك في الأخرى، وكذلك النجوم قد حملت على التسخير في قوله * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) * وكأن ابن عامر قطعه عن سخر، لئلا يجعل الحال مؤكدة، فابتدأ الشمس والقمر والنجوم، وجعل مسخرات خبرا عنها. ويدل على جواز ذلك أنه إذا جاء سخر لكم الشمس والقمر والنجوم، علم من هذا أنها مسخرات، فجاز الإخبار بالتسخير عنها، لذلك، وأما حفص فإنما رفع * (والنجوم مسخرات) * لأنه لا يصح أن يقال وسخر النجوم مسخرات، فقطعها مما قبلها. فعلى هذا يكون حجة من نصب أن يقدر فعلا آخر، وتقديره وجعل النجوم مسخرات. اللغة: القصد: إستقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد: إذا قصد إلى ما يريد. والجائز المائل عن الحق. والشجر: ما ينبت من الأرض وقام على ساق وله ورق وجمعه أشجار، ومنه المشاجرة لتداخل بعض الكلام في بعض، كتداخل ورق الشجر. قال الأزهري: الشجر ما ينبت من الأرض، قام على ساق أو لم يقم. تسيمون: من الإسامة، يقال أسمت الإبل: إذا رعيتها وأطلقتها فترعى متصرفة حيث
[ 142 ]
شاءت. وسامت هي: إذا رعت، وهي تسوم، وإبل سائمة. ويقال سمتها: إذا قصرتها على مرعى بعينه. وسمتها الخسف: إذا تركتها على غير مرعى، ومنه قيل سيم فلان خسفا، إذا ذل واهتضم، قال الكميت في الإسامة: راعيا كان مسجحا ففقدناه، وفقد المسيم هلك السوام وقال آخر: وأسكن ما سكنت ببطن واد، وأظعن إن ظعنت فلا أسيم وذهب قوم إلى أن السوم في البيع من هذا، لأن كل واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن، أو نقصانه، إلى ما يهواه، كما تذهب السائمة حيث شاءت. وقد جاء في الحديث: لا سوم قبل طلوع الشمس، فحمله قوم على أن المواشي لا تسام قبل طلوع الشمس، لئلا تنتشر، وحمله آخرون على أن البيع في ذلك الوقت مكروه، لأن المبيع لا تنكسر عيوبه فيدخل في بيع الغرر المنهي عنه. والذرأ: إظهار الشئ بإيجاده، يقال: ذرأه يذرأه، وذرأه وفطره وأنشأه نظائر. وملح ذرء أي: ظاهر البياض. الاعراب: نصب * (الخيل والبغال والحمير) *: على أنها مفعول في المعنى أي: وخلق الخيل والبغال والحمير:، ونصب * (زينة) * لأنها مفعول لها. وخلقها زينة * (وما ذرأ) *: (ما) بمعنى الذي، وموضعه نصب على تقدير وخلق ما ذرأ لكم. وقيل: هو في موضع الجر بالعطف على ذلك أي. أن في ذلك ما ذرأ لكم. * (مختلفا) *: نصب على الحال. و * (ألوانه) *: فاعله. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما عدده من صنوف إنعامه، فقال: * (والخيل) * أي: وخلق لكم الخيل * (والبغال والحمير لتركبوها) * في حوائجكم، وتصرفاتكم * (وزينة) * أي: ولتتزينوا بها. من الله تعالى على خلقه بأن خلق لهم من الحيوان ما يركبونه، ويتجملون به، وليس في هذا ما يدل على تحريم أكل لحومها. وقد روى البخاري في الصحيح مرفوعا إلى أسماء بنت أبي بكر، قالت: أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه والله وآله وسلم. * (ويخلق ما لا تعلمون) * من أنواع الحيوان والنبات والجماد، لمنافعكم. * (وعلى الله قصد السبيل) * أي: بيان قصد السبيل، عن ابن عباس. ومعناه: واجب
[ 143 ]
على الله في عدله بيان الطريق المستقيم، وهو بيان الهدى من الضلالة والحلال من الحرام ليتبع الهدى والحلال، ويجتنب الضلالة والحرام، وهذا مثل قوله: * (إن علينا للهدى) * * (ومنها جائر) * معناه: من السبيل ما هو جائر أي: عادل عن الحق * (ولو شاء لهداكم أجمعين) * إلى قصد السبيل بالإلجاء والقهر، فإنه قادر على ذلك. وقيل: معناه لهداكم إلى الجنة والثواب تفضلا، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: إن معنى الآية وعلى الله الممر. ومن الطرق التي الممر فيها على الله جائر، وكلاهما على الله، لا يخرج أحدا عن قبضته وحكمه، كقوله * (إن ربك لبالمرصاد) *. وقيل: على الله ممر ذي السبيل القصد، والسبيل الجائر، وإليه مرجع كل واحد منهما، لا يخرج واحد عن سلطانه، ولو أراد أن يحمل الجميع على الحق لفعل. ومن عدل عن الطريق المستقيم، فليس ذلك لعجز من الله تعالى. ثم عد سبحانه نعمة أخرى دالة على وحدانيته، فقال: * (هو الذي أنزل من السماء ماء) * أي: مطرا * (لكم مفه شراب) * أي: لكم من ذلك الماء شراب تشربونه * (ومنه شجر) * فيه وجهان أحدهما: أن يكون المراد: ومنه شرب شجر، أو سقي شجر، فحذف المضاف والآخر: ان يكون المراد: ومن جهة الماء شجر، ومن سقيه وإنباته شجر، فحذف المضاف إلى الهاء في منه كما قال زهير: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحو مانة الدراج، فالمتثلم (1) أي: أمن ناحية أم أوفى، وقال أبو ذؤيب: أمنك البرق أرقبه فهاجا فبت إخاله دهما خلاجا (2) أي: أمن جهتك، وقال الجعدي: لمن الديار عفون بالتهطال بقيت على حجج خلون طوال أي: على مر حجج، والمعنى: وينبت منه شجر ونبات * (فيه تسيمون) * أي: ترعون أنعامكم من غير كلفة والتزام مؤنة لعلفها * (ينبث لكم به الزرع والزيتون (1) الدمنة: ما اسود من آثار الدار بالبعر، والرماد، وغيرهما. وحومانة الدراج، والمتثلم: موضعان قوله: لم تكلم. نعت لدمنة. والبيت من (المعلقة). (2) الخلاج جمع الخلوج: الناقة التي جذب عنها ولدها بذبح، أو موت. (*)
[ 144 ]
والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) * أي: ينبت الله لكم بذلك المطر هذه الأشياء التي عددها لتنتفعوا بها * (إن في ذلك لآية) * أي: دلالة، وحجة واضحة * (لقوم يتفكرون) * فيه فيعرفون الله تعالى به. وخص المتفكرين فيه لأنهم المنتفعون به * (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر) * قد مضى بيانه، والتسخير في الحقيقة للشمس والقمر، لأن النهار هو حركات الشمس من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس. والليل حركات الشمس تحت الأرض من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوع الفجر، إلا أنه سبحانه أجرى التسخير على الليل والنهار على سبيل التجوز والإتساع. * (والنجوم مسخرات بأمره) * مضى بيانه. * (إن في ذلك) * التسخير * (لآيات) * أي: دلالات * (لقوم يعقلون) * عن الله، وينبئون أن المسخر لذلك على هذا تقدير الذي لا يختلف لأجل منافع خلقه ومصالحهم، والمدبر لذلك، قادر، عالم، حكيم * (وما ذرأ لكم في الأرض) * أي: سخر لكم ما خلقه لكم في الأرض أي: لقوام أبدانكم من الملابس، والمطاعم، والمناكح، من أنواع الحيوان، والنبات، والمعادن، وسائر النعم * (مختلفا ألوانه) * لا يشبه بعضه بعضا * (إن في ذلك لآية) * أي: دلالة * (لقوم يذكرون) * أي: يتفكرون في الأدلة، فينظرون فيها، ويتعظون، ويعتبرون بها. * (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض روسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18)) *. القراءة: في الشواذ قراءة الحسن * (وبالنجم) * بضم النون. الحجة: هو جمع نجم مثل سقف وسقف، ورهن ورهن.
[ 145 ]
اللغة: المخر: شق الماء من عن يمين وشمال. مخرت السفينة الماء تمخر مخرا، فهي ماخرة، والمخر أيضا: صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها. ومخر الأرض: شقها للزراعة. ومخرها بالماء: إذا أرسل عليها الماء لتطيب. والميد: الميل يمينا وشمالا، وهو الإضطراب، ماد يميد ميدا. والعلامة: صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ، أو إشارة، أو هيئة، وقد تكون وضعية. وقد تكون برهانية. الاعراب: قوله: * (أن تميد بكم) * في موضع نصب بأنه مفعول له، وتقديره كراهة أن تميد بكم. وانتصب قوله * (وأنهارا وسبلا) * بمحذوف تقديره: وجعل لكم أنهارا، لدلالة قوله * (ألقى) * عليه لأنه لا يجوز أن يكون عطفا على * (ألقى) * ومثله قوله: (علفتها تبنا وماء باردا) (1)، وقول الآخر: تسمع في أجوافهن صردا، وفي اليدين جسأة، وبددا (2) أي: وترى في اليدين يبسا وتفرقا. و * (علامات) *: منصوب عطف على قوله * (وأنهارا وسبلا) * وقيل: وخلق لكم علامات. المعنى: ثم عدد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه، فقال: * (وهو الذي سخر البحر) * أي: ذلله لكم، وسهل لكم الطريق إلى ركوبه، واستخراج ما فيه من المنافع * (لتأكلوا منه لحما) * أي: لتصطادوا منه أنواع السمك، وتأكلوا لحمه * (طريا) *. ولا يجوز أن يهمز طريا، لأنه من الطراوة * (وتستخرجوا منه حلية) * يعني اللالئ التي تخرج من البحر بالغوص. * (تلبسونها) * وتتزينون بها، وتلبسونها نساءكم، ولولا تسخيره سبحانه ذلك لكم، لما قدرتم على الدنو منه، والغوص فيه * (وترى الفلك مواخر فيه) * أي: وترى أيها الإنسان السفن شواق في البحر، وقواطع لمائه، عن عكرمة. وقيل: جواري، عن ابن عباس * (ولتبتغوا من فضله) * أي: ولتركبوه للتجارة، وتطلبوا من فضل الله تعالى * (ولعلكم تشكرون) * أي: ولكي (1) هذا المصراع بجعله بعض العلماء صدرا عجزه: (حتى شتت همالة عيناها) كما في (جامع الشواهد)، ويجعله بعضهم عجزا، ويجعل صدره: (لما حططت الرحل عنها واردا) كما في شرح الأشموني. والشاهد في قوله (وماء) فإن معناه: وسقيتها ماء. (2) وفي رواية (التبيان) في سورة الأنفال: (تسمع للأحشاء منه لغطا). (*)
[ 146 ]
تشكروا الله على نعمه ليزيدكم منها، ويثيبكم. والواو إنما دخلت في ذلك للدلالة على أن الله سبحانه أراد جميع ما ذكره إنعاما منه على عباده. * (وألقى في الأرض رواسي) * أي: جبالا عالية ثابتة، واحدها راسية * (أن تميد بكم) * الأرض أي: كراهة أن تميد بكم، أو لئلا تميد بكم أي: تتحرك وتضطرب. * (وأنهارا) * أي: وجعل فيها أنهارا * (وسبلا) * أي: طرقا لكي تجروا الماء في الأنهار إلى بساتينكم، وحيث تريدون، وتهتدوا بالطرق إلى حيث شئتم من البلاد. وقيل: أراد بالأنهار النيل والفرات، ودجلة وسيحان وجيحان، وأمثالها * (لعلكم تهتدون) * قد ذكرنا معناه. وقيل: لتهتدوا بها إلى توحيد الله * (وعلامات) * وجعل لكم علامات أي: معالم تعلم بها الطرق. وقيل: العلامات الجبال يهتدى بها نهارا * (وبالنجم هم يهتدون) * ليلا، عن ابن عباس. والمراد بالنجم الجنس أي: جميع النجوم الثابتة. وقيل: تم الكلام عند قوله * (وعلامات) *. ثم ابتدأ * (وبالنجم هم يهتدون) *. وقيل: إن العلامات هي النجوم أيضا، لأن من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامات لا يهتدى بها، عن قتادة، ومجاهد. وقيل: أراد به الإهتداء في القبلة. قال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عنه فقال: الجدي علامة قبلتكم. وبه تهتدون في بركم وبحركم. وقال أبو عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن العلامات، والنجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء، وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض. * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * معناه: أفمن يخلق هذه الأشياء في استحقاق العبادة والإلهية، كالأصنام التي لا تخلق شيئا حتى يسوى بينها في العبادة، وبين خالق جميع ذلك * (أفلا تذكرون) * أي: أفلا تتذكرون أيها المشركون، فتعتبرون وتعرفون أن ذلك من الخطأ الفاحش، وجعل * (من) * فيما لا يعقل لما اتصل بذكر الخلق. ثم عطف سبحانه على ذلك تذكر كثرة نعمه، فقال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * معناه: وإن أردتم تعداد نعم الله سبحانه عليكم، ومعرفة تفاصيلها، لم يمكنكم إحصاؤها، ولا تعديدها، وإنما يمكنكم ان تعرفوا جملها، بين سبحانه أن من وراء النعم التي ذكرها نعما له لا تحصى * (إن الله لغفور) * لما حصل منكم من تقصير في شكر نعمه * (رحيم) * بكم لم يقطعها عنكم بتقصيركم في شكرها.
[ 147 ]
* (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) إلاهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالأخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لاجرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23)) *. القراءة: * (والذين يدعون) * بالياء، عن عاصم غير الأعشى والبرجمي، عن أبي بكر، ويعقوب. وسهل. والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ بالتاء فلان ما بعده وما قبله خطاب. ومن قرأ بالياء وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون الخبر عن المشركين. المعنى: لما قدم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه، وكمال قدرته، عقبه ببيان علمه بسريرة كل أحد، وعلى نيته. ثم ذكر بطلان الإشراك في عبادته، فقال: * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) * أخبر سبحانه أنه يعلم ما يسرونه، وما يظهرونه، فيجازيهم على أفعالهم. إذ لا يخفى عليه الجلي والخفي من أحوالهم * (والذين يدعون من دون الله) * إلها * (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * يعني الأصنام لا يمكنها خلق شئ، بل هي مخلوقة مربوبة، منحوتة من الحجر والخشب ونحوهما، مما هو مخلوق لله تعالى، ثم قال * (أموات) * أي: هي أموات * (غير أحياء) * أكد كونها أمواتا بقوله * (غير أحياء) *، لنفي الحياة عنها على الإطلاق. فإن من الأموات من سبقت له حالة في الحياة، وله حالة منتظرة في الحياة، بخلاف الأصنام، فإنه ليس لها حياة سابقة ولا منتظرة. وقال * (أموات) *، ولم يقل موات، وإن كان الأموات جمع الميت الذي كان فيه حياة فزالت، لأنهم صور. والأصنام على صور العقلاء وهيئاتهم، وعاملوها معاملة العقلاء تسمية واعتقادا. ولذلك قال: * (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) *. * (وما يشعرون أيان يبعثون) * معناه: وما تشعر هذه الأصنام متى تبعث، عن الفراء. وقيل في الآية: إن معناه هم أموات، يعني أن الكفار في حكم الأموات لذهابهم عن الحق والدين، ولا يدرون متى يبعثون. وقيل: ان المعنى ولا تدري الأصنام متى يبعث الخلق، عن الجبائي. و * (أيان) *: في موضع نصب * (يبعثون) *.
[ 148 ]
وقرئ في الشواذ: إيان بكسر الهمزة، والفتح أفصح وأصح. ثم خاطب سبحانه عباده فقال * (إلهكم إله واحد) * لا يقدر على ما يستحق به العبادة من خلق أصول النعم سواه، فاثبتوا على عبادته. * (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) * أي: جاحدة للحق، تستبعد ما يرد عليها من المواعظ * (وهم مستكبرون) * عن الإنقياد للحق، ذاهبون عنه، دافعون له من غير حجة. والإستكبار: طلب الترفع بترك الإذعان للحق. ثم قال سبحانه * (لا جرم) * أي: حقا وهو بمنزلة اليمين. قال الخليل: وهو كلمة تحقيق، ولا يكون إلا جوابا لقول فعلوا كذا فيقول السامع: لا جرم يندمون. وقال الزجاج: معناه حق أن الله، ووجب أن الله، ولا رد لفعلهم. قال الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا المعنى أحقت فزارة بالغضب. وقال أبو مسلم: أصله من الكسب، فكأنه قال: لا يحتاج في معرفة هذا الأمر إلى اكتساب علم، بل هو معلوم * (أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * وهذا تهديد لهم بأنه عالم بجميع أحوالهم، فيجازيهم على أقوالهم، وأفعالهم * (إنه لا يحب المستكبرين) * أي: المتعظمين الذين يأنفون أن يكونوا أتباعا للأنبياء، أي: لا يريد ثوابهم وتعظيمهم. * (وإذا قيل لهم ما ذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25) قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين (27) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ماكنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس
[ 149 ]
مثوى المتكبرين (29)) *. القراءة: قرأ نافع وحده: * (تشاقون) * بكسر النون. والباقون بفتحها. وقرأ حمزة، وخلف في الموضعين: * (يتوفاهم) * بالياء. والباقون بالتاء. وفي الشواذ قراءة مجاهد * (عليهم السقف) * بضم السين. وروي عن أهل البيت عليهم السلام: * (فأتى بنيتهم من القواعد) *. الحجة: قد تقدم الوجه في قراءة نافع في سورة الحجر عند قوله * (فبم تبشرون) * فأما قراءة حمزة * (يتوفاهم) * بالياء، فلأن الفعل مقدم، والإمالة حسنة في هذا النحو من الفعل. ومن قرأ بالتاء فلأن الجماعة مؤنثة كما جاء: * (وإذ قالت الملائكة) *. اللغة: قد مضى معنى الأساطير، والأوزار في سورة الأنعام. والقواعد: الأساس، والواحدة القاعدة، وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضات في أسفله. والشقاق: الخلاف في المعنى: وتشاقون: تكونون في جانب، والمسلمون في جانب. ومن ثم قيل لمن خرج عن طاعة الإمام، وعن جماعة المسلمين: شق عصا المسلمين أي: صار في جانب عنهم، فلم يكن مجتمعا معهم في كلمتهم، وهو مأخوذ من الشق: الذي هو النصف، كأنه صار في شق غير شقهم. الاعراب: * (ما أنزل) *: ما مبتدأ، وذا: بمعنى الذي. والمعنى: ما الذي أنزل بكم. و * (أساطير) *: مرفوعة على الجواب، كأنهم قالوا الذي أنزل أساطير الأولين، وتقديره: وإذا قيل لهم هذا القول، فالذي قام مقام فاعل قيل: هو المصدر، لا الجملة لأن الجملة نكرة، والفاعل يجوز اضماره، والمضمر لا يكون قط نكرة، بل هو أعرف المعارف. وقوله: * (ومن أوزار الذين يضلونهم) *: من زيادة على قول الأخفش أي: وأوزار الذين يضلونهم. وعلى قول سيبويه: هو صفة مصدر محذوف، وتقديره: وأوزارا من أوزار الذين يضلونهم. و * (ما يزرون) *: في موضع رفع، كما يرفع بعد بئس ونعم، وتقديره: وبئس الشئ وزرهم. فما حرف موصول، ويزرون: صلته. و * (ظالمي أنفسهم) *: نصب على الحال أي: في حال ظلمهم أنفسهم. المعنى: ثم أبان سبحانه عن أحوال المشركين، وأقوالهم، فقال: * (وإذا قيل
[ 150 ]
لهم) * أي: لمشركي قريش * (ماذا أنزل ربكم) * على محمد صلى الله عليه وآله وسلم * (قالوا أساطير الأولين) * أي: أجابوا فقالوا هذا المنزل في زعمكم هو عندنا أحاديث الأولين الكاذبة، عن ابن عباس وغيره، ويروى أنها نزلت في المقتسمين، وهم ستة عشر رجلا، خرجوا إلى عقاب مكة، أيام الحج، على طريق الناس، على كل عقبة أربعة منهم، ليصدوا الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا سألهم الناس عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم، عن الكلبي، وغيره. * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة) * اللام للعاقبة، والمعنى: كان عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن حملوا أوزار كفرهم تامة يوم القيامة * (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) * أي: ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار الذين أضلوهم عن سبيل الله، وأغووهم عن اتباع الحق، وهو وزر الإضلال والإغواء، ولم يحملوا وزر غوايتهم وضلالهم، وقوله * (بغير علم) * معناه: من غير علم منهم بذلك، بل جاهلين به. وعلى هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أيما داع دعا إلى الهدى، فاتبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع، فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا * (ألا ساء ما يزرون) * أي: بئس الحمل حملهم، وهو ما يحملونه من الآثام، لأنه إذا تحمل إثمه، ودخل النار، كان سببا، فكيف إذا تحمله بسبب فعل غيره. * (قد مكر الذين من قبلهم) * أي: من قبل هؤلاء المشركين بأنبيائهم من جهة التكذيب وغيره. وهذا على سبيل التسلية لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، والوعيد لقومه. * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * أي: أتى أمر الله بنيانهم التي بنوها من جوانب قواعدها، فهدمها، عن ابن عباس، قال: يعني نمرود بن كنعان بنى صرحا طويلا، ورام منه الصعود إلى السماء، ليقاتل أهلها بزعمه، فأرسل الله ريحا، فألقت رأس الصرح في البحر، وخر عليهم الباقي. وقال الزجاج: * (من القواعد) * يريد: من أساطين البناء التي تعمده. وقيل: هو بخت نصر. وقيل: إن هذا مثل ضربه الله سبحانه لاستئصالهم، ولا قاعدة هناك، ولا سقف، والمعنى: فأتى الله مكرهم من أصله أي: عاد ضرر المكر عليهم وبهم، عن الزجاج، وابن الأنباري. وهذا الوجه أليق بكلام العرب، كما قالوا: أتي فلان من مأمنه أي: أتاه الهلاك من جهة مأمنه، وإنما أسند سبحانه الإتيان إلى نفسه من حيث كان تخريب قواعدهم من جهته.
[ 151 ]
* (فخر عليهم السقف من فوقهم) * إنما قال * (من فوقهم) *، مع حصول العلم بأن السقف لا يكون إلا من فوق لأحد وجوه منها: إنه للتوكيد، كما تقول لمن خاطبته: قلت أنت كذا وكذا، وكما يقال: مشيت برجلي، وتكلمت بلساني. ومنها: إنما قال ذلك ليدل على أنهم كانوا تحته، فإن الإنسان قد يقول: بيتي قد تهدم علي، وإن لم يكن هو تحته ومنها: أن يكون على في قوله: * (فخر عليهم) *، بمعنى عن، فيكون المعنى فخر عنهم السقف من فوقهم، أي: خر عن كفرهم وجحدهم بالله وآياته. والمراد: من أجل كفرهم. كما يقال: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، أي: من أجل الدواء. قال الشاعر: (أرمي عليها وهي فرع أجمع) (1). أراد أرمي عنها. ولو قال على هذا المعنى فخر عليهم السقف، ولم يقل من فوقهم، لجاز أن يتوهم متوهم أن السقف خر، وليس هم تحته. والعرب لا تستعمل لفظة على في مثل هذا الموضع، إلا في الشر، والأمر المكروه. * (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * أي: جاءهم عذاب الإستئصال من حيث لا يعلمون، لأنهم ظنوا أنهم على حق، فكانوا لا يتوقعون العذاب. وهذا مثل قوله * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *. * (ثم يوم القيامة يخزيهم) * معناه: ثم إنه تعالى مع ذلك يذلهم ويفضحهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ويهينهم بالعذاب، أي: لا يقتصر بهم على عذاب الدنيا * (ويقول) * على سبيل التوبيخ لهم، والتهجين: * (أين شركائي) * الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة على زعمكم ؟ * (الذين كنتم تشاقون قيهم) * أي: تعادون المؤمنين على قراءة فتح النون، وعلى الكسر: تعادونني فيهم * (قال الذين أوتوا العلم) * بالله تعالى، وبدينه، وشرائعه من المؤمنين. وقيل: هم الملائكة، عن ابن عباس * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * أي: إن الهوان اليوم والعذاب الذي يسوء على الجاحدين لنعم الله، المنكرين لتوحيده، وصدق رسله. * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *: الذين في موضع جر بأنه بدل من الكافرين، أو صفة لهم، ومعناه: الذين يقبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم، ففارقوا الدنيا وهم ظالمون لأنفسهم بإصرارهم على الكفر * (فألقوا السلم) * أي: (1) قوس فرع أي: غير مشقوق. وقيل: التي عملت من رأس القضيب وطرفه. وهذا صدر بيت وبعده: (وهي ثلاث أذرع واصبع). (*)
[ 152 ]
استسلموا للحق، وانقادوا حين لا ينفعهم الإنقياد والإذعان * (ما كنا نعمل من سوء) * أي: يقولون ما كنا نعمل عند أنفسنا من سوء أي: من معصية، فكذبهم الله تعالى، وقال: * (بلى) * قد فعلتم. * (إن الله عليم بما كنتم تعملون) * في الدنيا من المعاصي وغيرها، وقيل: إنه يقول لهم ذلك المؤمنون الذين أوتوا العلم والملائكة * (فادخلوا أبواب جهنم) * أي: طبقات جهنم، ودركاتها * (خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) * أي: بئس منزل المتعظمين عن قبول الحق، واللام للتوكيد. * (* وقيل للذين اتقوا ماذآ أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الأخرة خير ولنعم دار المتقين (30) جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها مايشآءون كذلك يجزى الله المتقين (31) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (34)) *. الاعراب: * (ماذا أنزل ربكم) *: ما وذا هنا كالشئ الواحد، وتقديره: أي شئ أنزل ربكم ؟ * (وخيرا) *: منصوب على أنه جواب * (ماذا) * أي: أنزل خيرا، وقوله * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * يجوز أن يكون تفسيرا لقوله * (خيرا) * ويجوز أن يكون ابتداء كلام ولنعم دار المتقين المخصوص بالمدح محذوف، المعنى ولنعم دار اليقين دار الآخرة، والمبين لقوله * (دار المتقين جنات عدن) * وتقديره: هي جنات عدن، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يكون * (جنات عدن) * مرتفعة بالإبتداء، وتكون المخصوصة بالمدح، والتقدير جنات عدن نعم دار المتقين. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما أنزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، عقبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك، فقال: * (وقيل للذين اتقوا) * الشرك والمعاصي، وهم المؤمنون * (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) * أي: أنزل الله خيرا، لأن القرآن كله هدى، وشفاء، وخير * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام
[ 153 ]
من الله تعالى معناه: للمحسنين في هذه الدنيا حسنة، مكافأة لهم، وهي الثناء والمدح على ألسنة المؤمنين، والهدى والتوفيق للإحسان * (ولدار الآخرة خير) * أي: وما يصل إليهم من الثواب في الآخرة خير مما يصل إليهم في الدنيا، ويجوز أن يكون الجمع من كلام المتقين، وأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين وقوله: * (ولنعم دار المتقين) * أي: والآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. وقيل: معناه ولنعم دار المتقين الدنيا، لأنهم نالوا بالعمل فيها الثواب والجزاء، عن الحسن. وقيل: معناه: ولنعم دار المتقين * (جنات عدن يدخلونها) * كما يقال نعم الدار دار ينزلها * (تجري من تحتها الأنهار) * سبق معناه * (لهم فيها ما يشاؤون) * أي: يشتهون من النعم * (كذلك يجزي الله المتقين) * أي: كذلك يجازي الله الذين اتقوا معاصيه * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) * أي: طيبي الأعمال، طاهري القلوب من دنس الشرك. وقيل: معناه طيبة نفوسهم بالمصير إليه، لعلمهم بما لهم عنده من الثواب. وقيل: طيبين أي: صالحين بأعمالهم الجميلة. وقيل: بطيب وفاتهم، فلا يكون صعوبة فيها * (يقولون سلام عليكم) * أي: تقول الملائكة سلام عليكم أي: سلامة لكم من كل سوء * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) * قيل: إنهم لما بشروهم بالسلامة، صارت الجنة كأنها دارهم، وهم فيها، فقولهم: * (ادخلوا الجنة) * بمعنى حصلت لكم الجنة. وقيل: إنما يقولون ذلك عند خروجهم من قبورهم. * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) * قد مضى تفسيره في سورتي البقرة والأنعام. * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * أخبر سبحانه ان الذين مضوا من الكفار، فعلوا مثل ما فعل هؤلاء من تكذيب الرسل، وجحد التوحيد، فأهلكهم الله فما الذي يؤمن هؤلاء من أن يهلكهم الله. * (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك. * (فأصابهم سيئات ما عملوا) * أي: عقاب سيئاتهم. فسمى العقاب سيئة، كما قال * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *. * (وحاق بهم) * أي: وحل بهم جزاء * (ما كانوا به يستهزؤون) *. * (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا أآباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على
[ 154 ]
الرسل إلا البلاغ المبين (35) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين (37)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة: * (لا يهدي) * بفتح الياء. والباقون بضم الياء وفتح الدال. ولم يختلفوا في * (يضل) * أنها مضمومة الياء، مكسورة الضاد. الحجة: قال أبو علي: الراجع على اسم أن، هو الذكر الذي في قوله * (يضل) * في قراءة من قرأ * (يهدي) *. ومن قرأ * (يهدي) *. فمن جعل يهدي من هديته، جاز أن يعود الذكر الفاعل الذي فيه إلى اسم ان. ومن جعل * (يهدي) * في معنى يهتدي، وجعل من يضل مرتفعا به، فالراجع إلى اسم أن الذكر الذي في * (يضل) * كما كان كذلك في قول من قال يهدي. والراجع إلى الموصول الذي هو من الهاء المحذوفة من الصلة، وتقديره يضله، والمعنى: ان من حكم بإضلاله لكفره وتكذيبه، فلا يهدى، ومثل هذا المعنى قوله * (فمن يهديه من بعد الله) * تقديره من بعد إضلال الله إياه. والمفعول محذوف أي: من بعد حكمه بإضلاله. ومن قرأ * (لا يهدي) *: فهو في المعنى كقوله * (من يضل الله فلا هادي له) *. وهذا كقوله: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) *، وقوله: * (وما يضل به إلا الفاسقين) * فموضع من نصب بيهدي. وقد قيل: إن يهدي في معنى يهتدي بدلالة قوله * (لا يهدي إلا أن يهدى) * فموضع من على هذا رفع، كما أنه لو قال يهتدي كان كذلك. وقوله: * (لا يضل) * من قولك ضل الرجل وأضله الله أي: حكم بإضلاله، كقولك كفر زيد وكفره الناس، أي: نسبوه إلى الكفر، فقالوا إنه كافر، كما إن أسقيته قلت له: سقاك الله قال ذو الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره، وملاعبه (1) (1) هذا من كلمة لذي الرمة بائية ومطلعها: (وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه) والربع: الدار. وأبثه أي: أظهر له بثي أي: حزني. وملاعب: جمع ملعب، مكان اللعب. (*)
[ 155 ]
اللغة: البلاغ، والإبلاغ: إيصال المعنى إلى الغير، والحرص: طلب الشئ بجد واجتهاد، يقال: حرص يحرص حرصا، وحرص يحرص بكسر الراء في الماضي وفتحها في المستقبل، لغة. وقد روي في الشواذ عن الحسن، وإبراهيم * (أن تحرص) * بفتح الراء. والأول لغة أهل الحجاز، والأصل من السحابة الحارصة: وهي التي تقشر وجه الأرض. وشجة حارصة التي تقشر جلدة الرأس. وكذلك الحرص كان صاحبه ينال من نفسه لشدة اهتمامه بما هو حريص فيه. المعنى: ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المشركين، فقال: * (وقال الذين أشركوا) * مع الله إلها آخر * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ) * أي: لو أراد الله ما عبدنا من دونه شيئا من الأصنام، والأوثان * (نحن ولا آباؤنا) * الذين اقتدينا بهم * (ولا حرمنا من دونه من شئ) * من البحيرة والسائبة وغيرهما، بل شاء ذلك منا، وأراد بذلك فعلنا، فأنكر الله سبحانه هذا القول عليهم، وقال: * (كذلك) * أي: مثل ذلك * (فعل الذين من قبلهم) * من الكفار والضلال، كذبوا رسل الله، وجحدوا آياته، قالوا مثل قولهم، وفعلوا مثل فعلهم * (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) * أي: ليس عليهم إلا إبلاغ الرسالة، وقد سبق بيان مثل هذه الآية في سورة الأنعام. * (ولقد بعثنا في كل أمة) * أي: في كل جماعة، وقرن * (رسولا) * كما بعثناك يا محمد رسولا إلى أمتك * (ان اعبدوا الله) * أي: ليقول لهم أعبدوا الله * (واجتنبوا الطاغوت) * أي: عبادة الطاغوت، وأن هذه هي المفسرة، ويعني بالطاغوت: الشيطان، وكل داع يدعو إلى الضلالة. * (فمنهم من هدى الله) * معناه فمنهم من هداه الله، بأن لطف له بما علم أنه يؤمن عنده فآمن، فسمى ذلك اللطف هداية. ويجوز أن يريد: فمنهم من هداه الله إلى الجنة بإيمانه ولا يجوز أن يريد بالهداية هنا نصب الأدلة، كما في قوله * (فأما ثمود فهديناهم) *، لأنه سبحانه سوى في ذلك بين المؤمن و الكافر. * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * معناه: ومنهم من أعرض عما دعاه إليه الرسول، فخذله الله، فثبتت عليه الضلالة، ولزمته، فلا يؤمن قط. وقيل: معناه وجبت عليه الضلالة، وهي العذاب والهلاك. وقيل: معناه ومنهم من حقت عليه عقوبة الضلالة، عن الحسن. وقد سمى الله سبحانه العقاب ضلالا، بقوله * (ان المجرمين في ضلال وسعر) *.
[ 156 ]
* (فسيروا في الأرض) * أي: أرض المكذبين الذين عاقبهم الله إن لم تصدقوني * (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * أي: فانظروا كيف حقت عليهم العقوبة، وحلت بهم، فلا تسلكوا طريقهم، فينزل بكم مثل ما نزل بهم * (إن تحرص على هداهم) * أي: على أن يؤمنوا بك * (فإن الله لا يهدي من يضل) * هذا تسلية للنبي صلى الله عليه و آله وسلم في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة، لانهماكه في الكفر، وإشارة إلى أن ذلك ليس لتقصير وقع من جهته صلى الله عليه وآله وسلم وإعلام له أنهم لا يؤمنون أبدا، وإذا كانوا هكذا، فإن الله لا يهديهم، بل يضلهم على المعنى الذي فسرناه قبل * (وما لهم من ناصرين) * أي: ليس لهم من ناصر ينصرهم، ويخلصهم من العقاب، وفي هذا بيان أن الإضلال في الآية ليس المراد به ما ذكره أهل الجبر. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (39) إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)) * القراءة: قرأ ابن عامر، والكسائي: * (فيكون) * بالنصب، وفي يس مثله. والباقون بالرفع. الحجة: من نصب فإنه يحمله على أن. قال الزجاج: الرفع على، فهو يكون على معنى أن ما أراد الله فهو يكون. فالنصب على ضربين أحدهما: أن يكون عطفا على أن تقول. والآخر: أن يكون نصبا على جواب كن. قال أبو علي: إعلم أن الذي أجازه من النصب على أن يكون، جواب كن، لم يجزه أحد من أصحابنا غيره، لأن كن، وإن كان على لفظ الأمر، فليس القصد به هنا الأمر، إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشئ، وحدوثه. الاعراب: * (جهد أيمانهم) *: مصدر وضع موضع الحال، والتقدير يجتهدون اجتهادا في أيمانهم. وهذا مثل قولهم طلبته جهدك أي: تجهد جهدك. * (وعدا) * منصوب لتوكيد المعنى، فإن المعنى بلى يبعثهم الله وعد الله ذلك وعدا. وقوله: * (ليبين) * اللام فيه يتعلق بالبعث أيضا أي: يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم
[ 157 ]
كانوا كاذبين، ويجوز أن يتعلق بقوله: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) * أي: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم اختلافهم، و * (قولنا) *: مرفوع بالإبتداء وخبره أن القول. والمعنى: إنما قولنا لكل مراد قولنا له كن. النزول: قالوا: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين، فتقاضاه، فوقع في كلامه والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا. فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله الآية، عن أبي العالية. المعنى: ثم حكى سبحانه عن المشركين نوعا آخر من كفرهم، فقال: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * أي: حلفوا بالله مجتهدين في أيمانهم، والمعنى: إنهم قد بلغوا في القسم كل مبلغ * (لا يبعث الله من يموت) * أي: لا يحشر الله أحدا يوم القيامة، ولا يحيي من يموت، بعد موته، ثم كذبهم الله تعالى في ذلك، فقال: * (بلى) * يحشرهم الله، ويبعثهم * (وعدا) * وعدهم به * (عليه) * إنجازه وتحقيقه من حيث الحكمة * (حقا) * ذلك الوعد ليس له خلف، إذ لولا البعث لما حسن التكليف، لأن التكليف إنما يحسن لإثابة من عوض به * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * صحة ذلك لكفرهم بالله، وجحدهم نبوة أنبيائه. وقيل: لا يعلمون وجه الحكمة في البعث، فلا يؤمنون به * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) * هذا بيان من الله تعالى أنه إنما يحشر الخلائق يوم القيامة، ليبين لهم الحق فيما كانوا يختلفون فيه في دار الدنيا، لأنه يخلق فيهم العلم الضروري يوم القيامة، الذي يزول معه التكليف * (وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) * في الدنيا في قولهم إن الله لا يبعث أحدا بعد موته، وإذا تعلق اللام قوله * (ولقد بعثنا) * فالمعنى بعثنا إلى كل أمة رسولا، ليبين لهم ذلك الرسول ما يختلفون فيه، ويهديهم إلى طريق الحق، وينبههم عليه * (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * قد ذكرنا تفسيره في سورة البقرة، والمراد به هاهنا بيان أنه قادر على البعث، لا يتعذر عليه ذلك، فإنه إذا أراد شيئا كونه. * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42) وما أرسلنا من قبلك إلا رجا لانوحى إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
[ 158 ]
ولعلهم يتفكرون (44)) *. القراءة: قرأ حفص: * (نوحي) * بالنون. وقد تقدم ذكره في سورة يوسف. وروي عن علي عليه السلام: * (لنثوينهم) * بالثاء. والقراءة: * (لنبوءنهم) * بالباء. الحجة: قال ابن جني: نصب * (حسنة) * ههنا أي: نحسن إليهم إحسانا، ووضع حسنة موضع الإحسان، كأنه واحد من الحسن دال عليه. ودل قوله * (لنبوئنهم) * على ذلك الفعل، لأنه إذا أقرهم على الفعل، بإطالة مدتهم، فقد أحسن إليهم، كما قال: * (ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) *، وذلك ضد ما يعمل بالعاصين الذين يصطلمهم بذنوبهم، وجرائم أفعالهم. النزول: الآية الأولى نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، وغيرهم، مكنهم الله بالمدينة، وذكر أن صهيبا قال لأهل مكة: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنت عليكم لم يضركم، فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له أبو بكر: ربح البيع يا صهيب. ويروى أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء، قال له: خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما أخره لك أفضل. ثم تلا هذه الآية. المعنى: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) * معناه: والذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم، فرارا بدينهم، واتباعا لنبيهم في الله أي: في سبيله لابتغاء مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون، وعذبوهم بمكة، وبخسوهم حقوقهم * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) * أي: بلدة حسنة بدل أوطانهم، وهي المدينة، عن ابن عباس. وقيل: لنعطينهم حالة حسنة وهي النصر والفتح. وقيل: هي ما استولوا عليه في البلاد، وفتح لهم من الولايات * (ولأجر الآخرة أكبر) * مما أعطيناهم في الدنيا * (لو كانوا يعلمون) * أي: لو كان الكفار يعلمون ذلك. وقيل: معناه لو علم المؤمنون تفاصيل ما أعد الله لهم في الجنة، لازدادوا سرورا وحرصا على التمسك بالدين. * (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * هذا وصف لهؤلاء المهاجرين أي: صبروا في طاعة الله على أذى المشركين، وفوضوا أمورهم إلى الله تعالى، ثقة به. ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (وما أرسلنا من قبلك) * إلى الأمم الماضية * (إلا رجالا) * من البشر * (نوحي إليهم) * أي: أوحينا إليهم كما أوحينا إليك،
[ 159 ]
وأرسلناهم إلى أممهم كما أرسلناك إلى أمتك، وذلك أن مشركي مكة كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم، فبين سبحانه أنه لا يصلح أن يكون الرسل إلى الناس إلا من يشاهدونه، ويخاطبونه، ويفهمون عنه، وأنه لا وجه لاقتراحهم إرسال الملك. * (فاسألوا أهل الذكر) * فيه أقوال أحدها: ان المعني بذلك أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم، سواء أكانوا مؤمنين، أو كفارا. وسمي العلم ذكرا، لأن الذكر منعقد بالعلم، فإن الذكر هو ضد السهو، فهو بمنزلة السبب المؤدي إلى العلم في ذكر الدليل، فحسن أن يقع موقعه، وينبئ عن معناه إذا تعلق به هذا التعلق، عن الرماني، والزجاج، والأزهري وثانيها: ان المراد بأهل الذكر أهل الكتاب، عن ابن عباس، ومجاهد، أي: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل. * (إن كنتم لا تعلمون) * يخاطب مشركي مكة، وذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم، لأنهم كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشدة عداوتهم له وثالثها: ان المراد بهم أهل القرآن، لأن الذكر هو القرآن، عن ابن زيد. ويقرب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: نحن أهل الذكر، وقد سمى الله رسوله ذكرا في قوله * (ذكرا رسولا) * على أحد الوجهين. وقوله: * (بالبينات والزبر) * العامل فيه قوله * (أرسلنا) *، والتقدير: وما أرسلنا بالبينات والزبر أي: بالبراهين والكتب إلا رجالا نوحي إليهم. وقيل: إن في الكلام إضمارا وحذفا، والتقدير: أرسلناهم بالبينات، كما قال الأعشى: وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا (1) أي: أعني المتعيبا. ونظير الأول قول الشاعر: نبأتهم عذبوا بالنار جارتهم، وهل يعذب إلا الله بالنار * (وأنزلنا إليك الذكر) * يعني القرآن * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فيه من الأحكام، والشرائع، والدلائل على توحيد الله * (ولعلهم يتفكرون) * في ذلك فيعلموا أنه حق، وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة، بخلاف ما يقوله أهل الجبر. (1) وفي نسخة مخطوطة (المتعينا) بالنون. (*)
[ 160 ]
النظم: قيل في اتصال الآية الأولى بما قبلها وجوه أحدها أنها اتصلت بقوله * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) * فيكون المعنى: ليبين لهم، وليعلم الكافرين كونهم كاذبين وليجزي المؤمنين المهاجرين على ما فعلوه من الهجرة. وقيل: لما تقدم ذكر الكفار، وما أعد لهم من الدمار، ودخول النار، عقبه بذكر المؤمنين المهاجرين والأنصار، تحريضا لغيرهم في الاقتداء بهم، فاتصل به اتصال النقيض بالنقيض. وقيل: إنه لما تقدم ذكر البعث، بين بعده حكم يوم البعث، وأنه ينتصف فيه للمظلوم من الظالم. * (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في تقلبهم فماهم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم (47) أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدالله وهم داخرون (48) ولله يسجد مافى السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) يخافون ربهم فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50)) *. القراءة: قرأ * (أولم تروا) * بالتاء أهل الكوفة، غير عاصم. والباقون بالياء، وكذلك في العنكبوت. وقرأ أهل البصرة * (تتفيؤا) * بالتاء، والباقون بالياء. الحجة: حجة الياء ان ما قبله غيبة، وهو قوله * (ان يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم أو يأخذهم أولم يروا) *. ومن قرأ بالتاء أراد جميع الناس. والتأنيث والتذكير في قوله * (يتفيؤا ظلاله) * حسنان. وقد تقدم ذكر ذلك في عدة مواضع. اللغة: التخوف: التنقص، وهو أن يأخذ الأول فالأول، حتى لا يبقى منهم أحد، وتلك حالة يخاف معها الفناء، ويتخوف الهلاك. يقال تخوفه الدهر، قال الشاعر: تخوف السير منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن (1) (1) قائله: ابن مقبل. والسفن: الحديدة التي تبرد بها القسي، أي: تنقص كما تأكل هذه الحديدة خشب القسي. (*)
[ 161 ]
أي: ينقص السير سنامها، بعد تموكه، وقال آخر: تخوف عدوهم مالي، وأهدى سلاسل في الحلوق، لها صليل قال الفراء: تحوفته وتخوفته بالحاء والخاء: إذا تنقصته من حافاته، قال المبرد: لا يقال تحوفته، وإنما تحيفته بالياء. والتفيؤ: التفعل من الفئ، يقال فاء الفئ يفئ: إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه، ومنه في المسلمين: لما يعود عليهم وقتا بعد وقت من الخراج والغنائم ويعدى فاء بزيادة الهمزة نحو أفاء، وبالتضعيف نحو فاء الظل، وفيأه الله فتفيأ، والفئ: ما نسخه ضوء الشمس. والظل: ما كان قائما لم تنسخه الشمس، قال الشاعر: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه، ولا الفئ من برد العشي تذوق (1) فجعل الظل وقت الضحى، لأن الشمس لم تنسخه في ذلك الوقت، وجمع الفئ: أفياء وفيؤ، قال: أرى المال أفياء الضلال، فتارة يؤوب، وأخرى يحبل المال حابله (2) وقال النابغة الجعدي: فسلام الإله يغدو عليهم، وفيوء الفردوس ذات الظلال (3) وإنما قال عن اليمين، على التوحيد، والشمائل على الجمع، لأنه أراد باليمين الإيمان كما قال الشاعر: بفي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم والمعنى بأفواه. وقال آخر: الواردون، وتيم في ذرى سبأ، قد عض أعناقهم جلد الجواميس (4) والداخر: الخاضع الصاغر، قال: (1) قائله: حميد بن ثور، يصف سرحة، وكنى بها عن امرأة. (2) حبل الشئ: شده بالحبل. (3) يصف حال أهل الجنة. (4) كناية عن الإسارة. (*)
[ 162 ]
فلم يبق إلا داخر في مخيس، ومنجحر في غير أرضك في حجر (1) المعنى: ثم أوعد سبحانه المشركين، فقال: * (أفأمن الذين مكروا السيئات) * فاللفظ لفظ الإستفهام، والمراد به الإنكار، ومعناه: أي شئ أمن هؤلاء القوم الذين دبروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإطفاء نور الدين، وإيذاء المؤمنين من * (أن يخسف الله بهم الأرض) * من تحتهم، عقوبة لهم كما خسف بقارون * (أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) *. قال ابن عباس: يعني يوم بدر، وذلك أنهم أهلكوا يوم بدر، وما كانوا يقدرون ذلك، ولا يتوقعون. * (أو يأخذهم في تقلبهم) * يعني أو أن يأخذهم العذاب في تصرفهم في أسفارهم، وتجاراتهم. وقيل: يريد في تقلبهم في كل الأحوال، ليلا ونهارا، فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش، يمينا وشمالا، عن مقاتل. * (فما هم بمعجزين) * أي: فليسوا بفائتين، وما يريده الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه * (أو يأخدهم على تخوف) * قال أكثر المفسرين: معناه على تنقص إما بقتل أو موت أي: بنقص من أطرافهم ونواحيهم، فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي على جميعهم. وقيل: معناه في حال تخوفهم من العذاب أي: يعذب أهل قرية، ويخوف به أهل قرية أخرى، فيتخوفون أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بالأولى، عن الحسن. وقيل: معناه على تنقص من الأموال والأنفس، بالبلايا والأسقام، إن لم يعذبهم بعذاب الإستئصال، لينبه غيرهم، ويزجرهم، عن الجبائي * (فإن ربكم لرؤوف رحيم) * بكم، ومن رأفته ورحمته بكم أنه أمهلكم لتتوبوا وترجعوا، ولم يعاجلكم بالعقوبة، ثم بين سبحانه دلائل قدرته، فقال: * (أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ) * معناه ألم ينظروا هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ما خلق الله من شئ له ظل، من شجر، وجبل، وبناء، وجسم قائم * (يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله) * أي: يتميل ظلاله عن جانب اليمين، وجانب الشمال، وأضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، لأن الذي يعود إليه الضمير واحد يدل على الكثرة، وهو قوله * (ما خلق الله) * ومعنى تفيؤ الظلال يمينا وشمالا: أن الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى (1) نسبه في (التبيان) إلى ذي الرمة. وفي (اللسان) إلى الفرزدق. والخيس: السجن. (*)
[ 163 ]
القبلة، كان الظلال قدامك. وإذا ارتفعت كان عن يمينك. فإذا كان بعد ذلك كان خلفك. فإذا كان قبل أن تغرب الشمس، كان عن يسارك. فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل عن الكلبي. ومعنى سجود الظل لله: دورانه من جانب إلى جانب، لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير، وهذه الآية كقوله * (وظلالهم بالغدو والآصال) *. وقد مر تفسيره. وقيل: إن المراد بالظل هو الشخص بعينه، ويدل على ذلك قول علقمة: لما نزلنا رفعنا ظل أخبية، وفار للقوم باللحم المراجيل (1) ألا ترى أنهم لا ينصبون الظل، وإنما ينصبون الأخبية. ويقوي ذلك قول عمارة: كأنهن الفتيات اللعس كأن في أظلالهن الشمس (2) أي: في أشخاصهن. وقول الآخر: يتبع أفياء الظلال عشية على طرق كأنهن سيوف (3) أي: أفياء الشخوص. فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية، تأويل الأجسام التي عنها الظلال * (وهم داخرون) * أي: أذلة صاغرون. قد نبه الله بهذا على أن جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها بما لولاه لبطلت، ولم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله، الخاضع بذله. ثم قال سبحانه * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة) * أي: يسجد لله جميع ما في السماوات، وجميع ما في الأرض. ومعنى * (من) * في قوله * (من دابة) * تبيين الصفة أي: الذي هو دابة تدب على وجه الأرض * (والملائكة) * أي: وتسجد له الملائكة، وتخضع له بالعبادة، وإنما خص الملائكة بالذكر، تشريفا لهم، ولأن اسم الدابة يقع على ما يدب ويمشي، وهم أولو الأجنحة، فصفة الطيران أغلب عليهم. * (وهم لا يستكبرون) * عن عبادة الله تعالى. وهذا من صفة الملائكة لأنه قال (1) المراجيل جمع المرجل: القدر. (2) جارية لعساء: كان في لونها أدنى سواد فيه شربة حمرة. (3) وفي بعض النسخ (سبوب) بدل (سيوف). (*)
[ 164 ]
* (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * وإنما قال * (من فوقهم) * لوجهين أحدهما: إن المراد يخافون عقاب ربهم، وأكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق والآخر: إن الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال، بمعنى أنه قادر على الكمال، حسن أن يقال * (من فوقهم) * ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين. وعلى هذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد قال: ذلك مخافة الإجلال. واختاره الزجاج، فقال: يخافون ربهم خوف معظمين مجلين، ومثله في المعنى قوله * (وهو القاهر فوق عباده) * وقوله إخبارا عن فرعون * (وإنا فوقهم قاهرون) *. وذهب بعضهم إلى أن قوله * (من فوقهم) * من صفة الملائكة، والمعنى أن الملائكة من فوق بني آدم، وفوق ما في الأرض من دابة، يخافون الله مع علو رتبتهم، فلأن يخافه من دونهم أولى. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة، سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى، لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا، فإذا كان يوم القيامة، رفعوا رؤوسهم، وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك، أورد الكلبي في تفسيره. * (* وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إله واحد فإياى فارهبون (51) وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (52) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55)) *. اللغة: وصب الشئ وصوبا: إذا دام. ووصب الدين: وجب. وقال أبو الأسود: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا والوصب: الألم الذين يكون عن الإعياء بدوام العمل مدة. قال: لا يغمز الساق من أين، ومن وصب، ولا يعض على شرسوفه الصفر (1) (1) الشر سوف: رأس الضلع مما يلي البطن. والصفر: دابة تعفن الضلوع والشراسيف. وفي (اللسان) في (صفر) قال أعشى باهلة يرثي أخاه: = (*)
[ 165 ]
والجؤار: الإستغاثة برفع الصوت، ويقال جأر الثور يجأر جؤارا: إذا رفع صوته من جوع، أو غيره، قال الأعشى: وما أيبلي على هيكل بناه، وصلب فيه، وصارا (1) يراوح من صلوات المليك طورا سجودا، وطورا جؤارا وبناء الأصوات على فعال وفعيل نحو الصراخ والبكاء، والعويل، والصفير، والفعال أكثر. الاعراب: ذكر * (اثنين) * توكيدا لقوله * (إلهين) * كما ذكر الواحد في قوله * (إله واحد) * * (واصبا) * نصب على الحال. * (وما بكم) *: موصول، وصلة، في موضع الرفع بالإبتداء. ودخلت الفاء في خبره، وهو قوله * (فمن الله) * تقديره فهو من الله، ولا فعل هاهنا لأن قوله * (بكم) * قد تضمن معنى الفعل، فإنه بمعنى وما حل بكم من نعمة. المعنى: لما بين سبحانه دلائل قدرته، وإلهيته، عقبه بالتنبيه على وحدانيته، فقال: * (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين) * أي: لا تعبدوا مع الله إلها آخر، فتشركوا بينهما في العبادة، لأنه لا يستحق العبادة سواه، وذكر اثنين كما يقال فعلت ذلك لأمرين اثنين. وقيل: إن تقديره لا تتخذوا اثنين إلهين، يريد به نفسه، وغيره * (إنما هو إله واحد) * وإنما لإثبات المذكور، ونفي ما عداه، فكأنه قال: هو إله واحد لا إله غيره * (فإياي فارهبون) * أي: ارهبوا أعقابي وسطواتي، ولا تخشوا غيري، وورد عن بعض الحكماء أنه قال: نهاك ربك أن تتخذ إلهين، فاتخذت آلهة: عبدت نفسك، وهواك، ودنياك، وطبعك، ومرادك، وعبدت الخلق، فأنى تكون موحدا. * (وله ما في السماوات والأرض) * ملكا، وملكا، وخلقا * (وله الدين واصبا) * أي: وله الطاعة دائمة واجبة على الدوام، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، ومعناه: إنه سبحانه الذي يعبد دائما وغيره إنما يعبد في وقت دون وقت. وقيل: معناه وله الدين خالصا، عن الفراء، أي: يجب على العبد أن يطيعه مخلصا. وقيل: معناه وله الملك دائما لا يزول * (أفغير الله تتقون) * أي: أفغير الله = (لايتاري لما في القدر يرقبه ولا يعض عن شر سوفه الصفر) (1) الأيبلي: الراهب. وصلب الراهب: اتخذ في بيعته صليبا. وصار أي: صور. (*)
[ 166 ]
تخشون ؟ وهو استفهام فيه معنى التوبيخ أي: فكيف تعبدون غيره، ولا تتقونه * (وما بكم من نعمة فمن الله) * معناه: ان جميع ما بكم وما لكم من النعم، مثل الصحة في الجسم، والسعة في الرزق ونحو هما، فكل ذلك من عند الله، ومن جهته * (ثم إذا مسكم الضر) * مثل المرض، والشدة، والبلاء، وسوء الحال * (فإليه تجئرون) * أي: فإليه تتضرعون في كشفه، وإليه ترفعون أصواتكم بالدعاء والإستغاثة لصرفه. * (ثم إذا كشف الضر عنكم) * معناه: ثم إذا دفع ما حل بكم من الضر، ودفع ما مسكم من المرض، والفقر * (إذا فريق منكم بربهم يشركون) * أي: دعا طائفة منكم إلى الشرك بربهم في العبادة، جهلا منهم بربهم، ومقابلة لنعمه بالكفران والعصيان، وهذا عجب من فعل العاقل المميز * (ليكفروا بما آتيناهم) * معنى اللام هاهنا هو البيان عن العلة التي لأجلها وقع الفعل. والمعنى إنهم بمنزلة من أشرك في عبادة ربه. ليكفر بما آتاه من النعمة، كأنه كان لا غرض له في شركه، إلا هذا والمعنى: لأن يكفروا بأنعامنا عليهم، ورزقنا إياهم. وقيل: إن اللام للأمر على وجه التحديد أي: ليفعلوا ما شاؤوا، فإنه ينزل الله بهم عاقبة كفرهم. ويوافق هذا القول ما رواه مكحول، عن أبي رافع، قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم * (فيمتعوا فسوف يعلمون) * بالياء فيهما، فإن يمتعوا يكون معطوفا مجزوما، ويجوز أيضا أن يكون معطوفا منصوبا، والمعنى لأن يكفروا فيمتعوا فقوله * (فتمتعوا فسوف تعلمون) * يكون ابتداء خطاب لهم على التهديد والوعيد، يقول: فتمتعوا أيها الكفار في الدنيا قليلا، فسوف تعلمون ما يحل بكم في العاقبة من العقاب، وأليم العذاب، وحذف لدلالة الكلام عليه. * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون (56) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم مايشتهون (57) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء مابشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59) للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (60)) *.
[ 167 ]
اللغة: يقال: ظل يفعل كذا: إذا فعله في صدر النهار. ويقال: ظللت أظل ظلولا، ومثله أضحى، غير أنه كثر حتى صار بمنزلة أخذ يفعل. والكظيم: المغموم الذي يطبق فاه، لا يتكلم، للغم الذي به، مأخوذ من الكظامة: وهي اسم لما يشد به فم القربة. والكظامة، أيضا: العقب على رؤوس القذذ. والكظامة أيضا: البئر، ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى كظامة فتوضأ، ومسح على قدميه، وجمعها كظائم. والهون: الهوان والمشقة، وهي لغة قريش. قال الحطيئة: فلما خشيت الهون، والعين ممسك على رغمه ما أثبت الخيل حافره ودسست الشئ في التراب أدسه دسا: إذا أخفيته. والدساسة: حية صماء تندس تحت التراب. الاعراب: * (ولهم ما يشتهون) *: إن شئت جعلت * (ما) * في موضع نصب، بمعنى يجعلون لهم البنين الذين يشتهون هم، ويكون قوله سبحانه اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه. وإن شئت جعلته في موضع رفع على الإستئناف، فيكون مرفوعا على الإبتداء. * (ولهم) *: خبره أو مرفوعا على أن الظرف عمل فيه على ما ذكرنا من الإختلاف فيه فيما مضى. والهاء في * (يمسكه) * يعود إلى قوله * (ما بشر به) *، فلذلك ذكر. وقيل: معناه ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون، ولا يجعلون نصيبا من الأنعام والزرع، فكنى عن لفظة * (ما) * في قوله * (لما لا يعلمون) * بالواو، لأنهم جعلوا الأصنام هنا بمنزلة العقلاء، عن أبي علي الفارسي. وقال أيضا: يجوز أن يكون تقديره ويجعلون لما لا يعلمونه إلها نصيبا، ويكون الضميران في * (يجعلون) * و * (يعلمون) * للمشركين، وحذف المفعولان. المعنى: ثم ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين، دالا على جهلهم، فقال: * (ويجعلون لما لا يعلمون) * والواو في * (يعلمون) * تعود إلى المشركين أي: لما لا يعلمون أنه يضر، وينفع * (نصيبا مما رزقناهم) * يتقربون بذلك إليه كما يجب أن يتقرب إلى الله تعالى، وهو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام، من الحرث، وغير ذلك، وقولهم هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، عن مجاهد، وقتادة، وابن زيد. ثم أقسم تعالى فقال: * (تالله لتسألن) * في الآخرة * (عما كنتم تفترون) * أي: تكذبون به في دار الدنيا، لتلتزموا به الحجة، وتعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم، فقال: * (ويجعلون لله البنات) * أي: ويثبتون
[ 168 ]
لله البنات، ويضيفون إليه البنات، وهو قولهم الملائكة بنات الله، كما قال سبحانه: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) *. ثم نزه سبحانه نفسه عما قالوا، فقال: * (سبحانه) * أي تنزيها له عن اتخاذ البنات * (ولهم ما يشتهون) * أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، ويحبونه من البنين دون البنات. وعلى الوجه الآخر، ولهم ما يحبونه يعني البنين * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى) * أي: وإذا بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت * (ظل وجهه مسودا) * أي: صار لون وجهه متغيرا إلى السواد لما يظهر فيه من أثر الحزن والكراهة، فقد جعلوا لله ما يكرهونه لأنفسهم، وهذا غاية الجهل. * (وهو كظيم) * أي: ممتلئ غيظا وحزنا * (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) * يعني أن هذا الذي بشر بالبنت، يستخفي من القوم الذين يستخبرونه عما ولد له، استنكافا منه، وخجلا وحياء من سوء ما بشر من الأنثى، وقبحه عنده * (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) * يعني: يميل نفسه، ويدبر في أمر البنت المولودة له، أيمسكه على ذل وهو أن، أم يخفيه في التراب ويدفنه حيا، وهو الوأد الذي كان من عادة العرب، وهو أن أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة، وإذا ولد له انثى، جعلها فيها، وحثا عليها التراب حتى تموت تحته. وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن، فيطمع غير الأكفاء فيهن. * (ألا ساء ما يحكمون) * أي: بئس الحكم ما يحكمونه وهو أن يجعلوا لنفوسهم ما يشتهون، ولله ما يكرهون. وقيل: معناه ساء ما يحكمونه في قتل البنات مع مساواتهن للبنين في حرمة الولادة، ولعل الجارية خير من الغلام. وروي عن ابن عباس أنه قال: لو أطاع الله الناس في الناس، لما كان الناس، لأنه ليس أحد إلا ويحب أن يولد ذكر، ولو كان الجميع ذكورا، لما كان لهم أولاد، فيفنى الناس. ثم قال سبحانه: * (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) * أي: لهؤلاء الكفار الذين وصف الله بالولد صفة السوء أي: الصفة القبيحة التي هي سواد الوجه، والحزن، ولله الصفة العليا من السلطان والقدرة. وقيل: له صفات النقص من الجهل، والكفر، والضلال، والعمى، وصفة الحدوث، والضعف، والعجز، والحاجة إلى الأبناء، وقتل البنات خوف الفقر، ولله صفات الإلهية، والإستغناء عن الصاحبة والولد، والربوبية، واخلاص التوحيد. ويسأل فيقال: كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه وتعالى: * (ولله المثل
[ 169 ]
الأعلى) *، وقول: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * ؟ والجواب: إن المراد بالأمثال هناك: الأشباه أي: لا تشبهوا الله بشئ، والمراد بالمثل الأعلى هنا: الوصف الأعلى الذي هو كونه قديما، قادرا، عالما، حيا، ليس كمثله شئ. وقيل: إن المراد بقوله المثل الأعلى: المثل المضروب بالحق، وبقوله: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * الأمثال المضروبة بالباطل * (وهو العزيز) * أي: القادر الذي لا يمتنع عليه شئ. * (الحكيم) * الذي يضع الأشياء مواضعها على ما هو حكمة وصواب. وفي الآية دلالة على أنه لا يضاف إلى الله تعالى الا دون، فإن الله سبحانه قد عاب المشركين بإضافتهم إليه ما لا يرضونه لأنفسهم، فإذا كره الإنسان اضافة القبيح الى نفسه للنقص الذي فيه، فكيف يجوز أن يضيفه الى الله تعالى ؟. * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لايستئخرون ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لاجرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأية لقوم يسمعون (65)) *. القراءة: قرأ نافع، وقتيبة، عن الكسائي: * (مفرطون) * ساكنة الفاء، مكسورة الراء، خفيفة. وقرأ أبو جعفر عليه السلام: * (مفرطون) * مفتوحة الفاء، مكسورة الراء، مشددة. والباقون: * (مفرطون) * ساكنة الفاء، مفتوحة الراء خفيفة، وروي عن الأعرج بفتح الراء، وتشديده. الحجة: قال الزجاج: أما تفسير * (مفرطون) * فجاء عن ابن عباس متروكون. وقيل: معجلون. ومعنى الفرط في اللغة: التقدم، وقد فرط مني أي: تقدم. فمعنى مفرطون: مقدمون إلى النار، وكذلك مفرطون بالتشديد. ومن فسر متروكون: فهو كذلك أي: قد جعلوا مقدمين في العذاب أبدا، متروكين فيه. ومن
[ 170 ]
قرأ مفرطون فالمعنى أنه وصفهم الله بأنهم فرطوا في الدنيا، ولم يعملوا فيها للآخرة، وتصديقه قوله: * (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) *. ومن قرأ مفرطون فالمراد انهم أفرطوا في معصية الله، كما تقول أفرط فلان في مكروهي، وتأويله أنه آثر العجز وقدمه. قال أبو علي: وكأنه من أفرط أي: صار ذا فرط، مثل أقطف وأجرب فهو مقطف ومجرب، فمعناه أنهم ذوو فرط إلى النار، وسبق إليها. الاعراب: * (الكذب) * مفعول * (تصف) *. و * (أن لهم الحسنى) *: بدل من * (الكذب) *، وتقديره: وتصف ألسنتهم ان لهم الحسنى أي: تصفون ان لهم مع هذا الفعل القبيح الجزاء الحسن، و * (ان لهم النار) * في موضع نصب ب‍ * (جرم) *، والمعنى جرم فعلهم هذا أي: كسب أن لهم النار. وقيل: إن أن في موضع رفع عن قطرب قال: معناه انه وجب ان لهم النار، وانهم مفرطون فيها. * (لتبين لهم) *: أي: لأن تبين لهم. الجار والمجرور في محل النصب بأنه مفعول له، وكذلك قوله: * (وهدى ورحمة) * وكلاهما معطوف على ما قبله بأنه مفعول له أيضا، أي: أنزلنا عليك الكتاب بيانا وهدى ورحمة. قال الزجاج: ويجوز في هذا الموضع * (وهدى ورحمة) * بالرفع، فيكون المعنى: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا للبيان، وهو مع ذلك هدى ورحمة. المعنى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة) * أخبر سبحانه أنه لو كان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم، ويعاجلهم بالعقوبة، لما ترك على وجه الأرض أحدا ممن يستحق ذلك من الظالمين، وإنما قال * (عليها) *، ولم يجر ذكر للأرض في الظاهر، لأن الكلام يدل عليه، فإن العلم حاصل بأن الناس يكونون على ظهر الأرض، ومثله كثير في محاورات العرب، يقولون: ما بين لابتيها مثل فلان، يعنون المدينة. وأصبحت باردة: يريدون الغداة، إذ اللابتان بالمدينة، والإصباح لا يكون إلا غدوة. وقوله: * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) * أي: يمهلهم إلى وقت معلوم مسمى، وهو يوم القيامة. وقيل: إلى وقت يعلمه الله تعالى انه لا يكون في بقائهم فيه مصلحة، لأنهم لا يؤمنون، ولا يخرج من نسلهم مؤمن، وإنما يؤخرهم تفضلا منه سبحانه، ليراجعوا التوبة، أو لما في ذلك من المصلحة. واختلف أهل العدل في من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن فيما بعد، هل يجوز اخترامه ؟ فقال بعضهم:
[ 171 ]
يجوز، لأن التكليف تفضل، فلا تجب تبقية، وهو قول أبي هاشم، وإليه ذهب المرتضى، قدس الله روحه. وقال آخرون: لا يجوز اخترامه، ويجب تبقيته، وهو قول البلخي، وأبي علي الجبائي، وان اختلفا في علته، فقال الجبائي: لأنه مفسدة. وقال البلخي: لأنه الأصلح. وإليه ذهب الشيخ المفيد أبو عبد الله. وقيل: ان معنى الآية لو يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم، حتى تهلك كل دابة، عن السدي، وعكرمة. (سؤال): متى قيل ان المكلف الظالم يستحق العقوبة بظلمه، فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم ؟ (فجوابه): ان العذاب للظالم عقوبة، ولغير الظالم عبرة ومحنة، فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء، وغير المكلفين، فيعوضون عنها، وقيل: معناه لو هلك الآباء بكفرهم، لم يوجد الأبناء. وقيل: انه إذا هلك الظلمة، ولم يبق مكلف، لا يبقى غيرهم من الحيوانات، لأنها انما خلقت للمكلفين، فلا فائدة في بقائها بعدهم * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * قد سبق معناه فيما مضى. ثم حكى سبحانه عن الكفار، فقال: * (ويجعلون لله ما يكرهون) * يعني البنات أي: يحكمون لله بما يكرهونه لأنفسهم * (وتصف ألسنتهم الكذب) * أي: وتخبر ألسنتهم بالكذب، وهو ما يقولون * (أن لهم الحسنى) * وهي البنون، عن مجاهد. وقيل: معناه تصفون أن لهم مع قبيح قولهم من الله الجزاء الحسن، والمثوبة الحسنى، وهي الجنة، عن الزجاج، وغيره. فإن المشركين كانوا يقولون: إن كان ما يقوله محمد من أمر البعث والآخرة حقا، فنحن من أهل الجنة. وروي عن معاذ أنه قرأ وتصف ألسنتهم الكذب بضم الذال والباء، فعلى هذا يكون الكذب وصفا للألسنة، جمع كاذب، أو كذوب. ثم رد سبحانه قولهم فقال: * (لا جرم أن لهم النار) * أي: ليس الأمر على ما وصفوا جرم فعلهم وقولهم أي: كسب أن لهم النار. والمفسرون يقولون معناه حقا إن لهم النار، أو لا بد أن لهم النار * (وأنهم مفرطون) * أي: مقدمون أي: معجلون إلى النار. ثم أقسم سبحانه، فقال: * (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) * يا محمد * (فزين لهم الشيطان أعمالهم) * أي: كفرهم، وضلالهم، وتكذيبهم الرسل * (فهو وليهم اليوم) * معناه: إن الشيطان وليهم اليوم في الدنيا، يتولونه ويتبعون إغوائه، فأما يوم القيامة فيتبرأ بعضهم من بعض، عن أبي مسلم وقيل: معناه فهو وليهم يوم القيامة أي: يكلهم الله تعالى
[ 172 ]
إلى الشيطان، أياسا لهم من رحمته * (ولهم عذاب أليم) * أي: وللتابع والمتبوع عذاب مؤلم، وجميع. ثم بين سبحانه أنه قد أقام الحجة، وأزاح العلة، وأوضح المحجة، فقال: * (وما أنزلنا عليك) * يا محمد * (الكتاب) * أي: القرآن * (إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * معناه: إلا وقد أردنا منك أن تكشف لهم ما اختلفوا فيه من دلالة التوحيد والعدل، وتبين لهم الحلال والحرام * (وهدى) * أي: وأنزلناه دلالة على الحق * (ورحمة لقوم يؤمنون) *. ثم أخبر سبحانه عن نعمته على خلقه، فقال: * (والله أنزل من السماء ماء) * أي: غيثا، ومطرا * (فأحيا به) * أي: بذلك الماء * (الأرض بعد موتها) * أحياها بالنبات بعد جدوبها وقحطها. * (إن في ذلك لآية) * أي: حجة ودلالة * (لقوم يسمعون) * أي: يستصغون أدلة الله، ويتفكرون فيها، ويعتبرون بها. * (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لأية لقوم يعقلون (67) وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا من الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (69) والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70)) *. القراءة: قرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم، ويعقوب، وسهل: * (نسقيكم) * بفتح النون هاهنا، وفي المؤمنين. والباقون: * (نسقيكم) * بضمها في الموضعين. وقرأ أبو جعفر في المؤمنين * (تسقيكم) * بالتاء. الحجة: قيل: بين سقيت، وأسقيت فرق، وهو أن سقيته معناه: ناولته ليشرب. وأسقيته معناه: جعلت له ماء يشربه. وقيل: سقيته ماء وأسقيته، سألت الله أن يسقيه، وعليه بيت ذي الرمة:
[ 173 ]
وأسسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره، وملاعبه (1) وقيل: إذا سقاه مرة يقول: سقيته، وإذا سقاه دائما يقال: أسقيته، عن أبي عبيدة. وقيل هما بمعنى واحد، واستدل ببيت لبيد: سقى قومي بني مجد، وأسقي نميرا، والقبائل من هلال فإنه أتى باللغتين. اللغة: العبرة والعظة من النظائر، وهو: ما يعتبر به. والفرث: الثفل الذي ينزل إلى الكرش. وساغ الطعام في الحلق وسوغته وأسغته. السكر في اللغة: على أربعة أوجه الأول: ما أسكر من الشراب والثاني: ما طعم من الطعام، قال الشاعر: (جعلت عيب الأكرمين سكرا) (2) أي: جعلت ذمهم طعما لك والثالث: السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة: قال الشاعر: (وليست بطلق ولا ساكره) (3). ويقال: سكرت الريح سكنت. قال: (وجعلت عين الحرور تسكر) (4) والرابع: المصدر من قولك سكر سكرا، ومنه التسكير: التحيير في قوله: سكرت أبصارنا. والذلل: جمع الذلول، يقال دابة ذلول بين الذل، ورجل ذلول بين الذل. والذلة والرذل: الدون الردئ. وكذلك الرذال، يقال: رذل الشئ يرذل رذالة، وأرذلته أنا. الاعراب: الهاء في * (بطونه) * إلى ماذا يعود ؟ اختلف فيه، فقيل: إن الأنعام جمع، والجمع يذكر ويؤنث، فجاء هاهنا على لغة من يذكر. وجاء في سورة المؤمنين على لغة من يؤنث. وقيل: إنه رد على واحد الأنعام، وأنشد للراجز: (وطاب البان اللقاح فبرد) (5) رده إلى اللبن، عن الفراء، وقيل: إن الأنعام والنعم سواء، فحمل على المعنى، كما قال الصلتان العبدي: إن السماحة، والمروءة، ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح (1) مر البيت في ص 108 وص 154. (2) ورواية (اللسان) هكذا: (جعلت أعراض الكرام سكرا). (3) قائله أوس وقبله: (تزاد ليالي في طولها). (4) مر البيت بتمامه في ص 104. (5) وقبله: (بال سهيل في الفصيخ ففسد). و اللقاح: اسم ماء الفحل. (*)
[ 174 ]
فكأنه قال شيئان ضمنا، وقال الأعشى: فإن تعهديني، ولي لمة، فإن الحوادث أودى بها (1) حمله على الحدثان (2). ويجوز أن يكون التقدير: نسقيكم مما في بطون المذكور. وقيل: إن * (من) * يدل على التبعيض، فكأنه قال نسقيكم مما في بطون بعض الأنعام، لأنه ليس لجميعها لبن. وقوله: * (تتخذون منه) * الضمير في * (منه) * إلى ماذا يعود ؟ فيه وجهان أحدهما: إنه يعود إلى المذكور والثاني: انه يعود إلى معنى الثمرات، لأن الثمرات والثمر سواء. وكذا الهاء في قوله * (فيه شفاء للناس) * قيل: يعود إلى الشراب، وهو العسل. وقيل: يعود إلى القرآن، فإذا عاد الضمير إلى الشراب، ارتفع شفاء بالظرف على المذهبين، وتقديره شراب ثابت فيه شفاء. وإذا عاد الضمير إلى القرآن ففي رفع شفاء خلاف، فإن الظرف لم يجر على مذكور قبله، * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) *: إن نصبت شيئا بعلم، وهو مذهب سيبويه كنت قد أعملت الثاني، وأضمرت المفعول في يعلم على شريطة التفسير. وإن أعملت يعلم. وهو مذهب الفراء، أضمرت لعلم مفعولا، وفصلت بين المعمول والعامل، فجمعت بين مجازين بخلاف مذهب سيبويه. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد، وعجائب الصنعة، وبدائع الحكمة بقوله: * (وإن لكم في الأنعام) * يعني الإبل، والبقر، والغنم * (لعبرة) * أي: لعظة واعتبارا ودلالة على قدرة الله تعالى * (نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا) * وروى الكلبي عن ابن عباس قال: إذا استقر العلف في الكرش، صار أسفله فرثا، وأعلاه دما، ووسطه لبنا، فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو، فذلك قوله * (من بين فرث ودم لبنا خالصا) *، لا يشوبه الدم، ولا الفرث. * (سائغا للشاربين) * أي: جائزا في حلوقهم، والكبد مسلطة على هذه الأصناف، فيقسمها على الوجه الذي اقتضاه التدبير الإلهي. بين سبحانه لمن ينكر (1) اللمة: الشعر الجعد خلف الأذن. وأودى بها أي: أهلكها. ورواية اللسان: (فأما تريني ولي لمة ا ه‍). (2) أي كان عليه أن يقول: (أودت بها)، فذكر على إرادة الحدثان. (*)
[ 175 ]
البعث أن من قدر على إخراج لبن أبيض سائغ، من بين الفرث والدم، من غير أن يختلط بهما، قادر على إخراج الموتى من الأرض، من غير أن يختلط شئ من أبدانهم بأبدان غيرهم. ثم قال: * (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا) * قيل: معناه ولكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات النخيل والأعناب، عن الحسن. وقيل: معناه من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا. والعرب تضمر ما الموصولة كثيرا. قال سبحانه: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما) * أي: ما ثم. وقيل: إن تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب شئ تتخذون منه سكرا * (ورزقا حسنا) * فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه، والأعناب، عطف على الثمرات أي: ومن الأعناب شئ تتخذون سكرا، وهو كل ما يسكر من الشراب كالخمر. والرزق الحسن: ما أحل منهما كالخل والزبيب، والرب، والرطب، والتمر، عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم. وروى الحاكم في صحيحه بالإسناد عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: السكر: ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن: ما أحل من ثمرها. قال قتادة: نزلت الآية قبل تحريم الخمر، ونزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة. قال أبو مسلم: ولا حاجة إلى ذلك سواء كان الخمر حراما، أم لم يكن، لأنه تعالى خاطب المشركين، وعدد إنعامه عليهم بهذه الثمرات، والخمر من أشربتهم، فكانت نعمة عليهم. وقيل: إن المراد بالسكر: ما يشرب من أنواع الأشربة، مما يحل. والرزق الحسن: ما يؤكل. والحسن: اللذيذ، عن الشعبي، والجبائي. فالمعنى تتخذون منه أصنافا من الأشربة والأطعمة. وقد أخطأ من تعلق بهذه الآية في تحليل النبيذ، لأنه سبحانه إنما أخبر عن فعل كانوا يتعاطونه، فأي رخصة في هذا اللفظ، والوجه فيه أنه سبحانه أخبر أنه خلق هذه الثمار لينتفعوا بها، فاتخذوا منها ما هو محرم عليهم، ولا فرق بين قوله هذا، وبين قوله * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) *. * (إن في ذلك لآية) * أي: دلالة ظاهرة * (لقوم بعقلون) * عن الله تعالى ذلك، ويتفكرون فيه. بين الله سبحانه بذلك أنكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به، فكذلك الله يستخلص ما تبدد من الميت، مما هو مختلط به من التراب * (وأوحى ربك إلى النحل) * أي: ألهمها إلهاما، عن الحسن، وابن عباس، ومجاهد. وقيل: جعل ذلك في غرأئزها
[ 176 ]
بما يخفى مثله عن غيرها، عن الحسن. قال أبو عبيدة: الوحي في كلام العرب على وجوه، منها: وحي النبوة، ومنها: الإلهام، ومنها: الإشارة، ومنها: الكتاب، ومنها: الإسرار. فوحي النبوة في قوله: * (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه) *. والإلهام في قوله: * (وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى) * والإشارة في قوله: * (فأوحى إليهم أن سبحوا) * قال مجاهد: معناه أشار إليهم، وقال الضحاك: كتب لهم. والإسرار في قوله: * (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) *. وأصل الوحي عند العرب: أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالإستتار والإخفاء. وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: لا وحي إلا القرآن، فإن المراد به أن القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دون أن يكون أنكر ما قلناه. ويقال: أوحي له، وأوحي إليه، قال العجاج: (أوحي لها القرار فاستقرت) (1)، والمعنى أن الله تعالى ألهم النحل اتخاذ المنازل والمساكن، والأوكار، والبيوت في الجبال، والشجر، وغير ذلك، وتقديره * (أن اتخذي من الجبال بيوتا) * للعسل، ولا يقدر على مثلها أحد. * (ومن الشجر ومما يعرشون) * أي: ومن الكرم لأنه الذي يعرش، ويتخذ منه العريش، وفيه لغتان: يعرشون ويعرشون بضم الراء وكسرها، وقد قرئ بهما. وقيل: معنى يعرشون: يبنون. والعرش: سقف البيت، عن الكلبي. والمعنى ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسل فيها، ولولا إلهام الله إياها، ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها، وإنما أتى بلفظ الأمر، وإن كانت النحل لا تعقل الأمر، ولا تكون مأمورة، لأنه لما أتى بلفظ الوحي، أجرى عليه لفظ الأمر اتساعا * (ثم كلي من كل الثمرات) * أي: من أنواع الثمرات من أي ثمرة شئت. * (فاسلكي سبل ربك) * أي: فادخلي سبل ربك التي جعلها الله لك * (ذللا) * أي: مذللة موطأة للسلوك، واسعة، يمكن سلوكها، فيكون قوله * (ذللا) * صفة للسبل، وهي منصوبة على الحال، وهو قول مجاهد. وقيل: ذللا أي: مطيعة لله، منقادة، مسخرة، ويكون من صفة النحل، عن قتادة. * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه) * وهو العسل، فإن ألوانه مختلفة، (1) وبعده (وشدها بالراسيات الثبت) وقد مر. (*)
[ 177 ]
لأن منه ما هو شديد البياض، ومنه ما هو أصفر، ومنه ما يضرب إلى الحمرة، وذلك أن النحل تتناول ألوانا مختلفة من النبات والزهر، فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة، يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها، كالريق الذي يخرج من فم ابن آدم. وإنما قال سبحانه * (من بطونها) *، ولم يقل من فيها، لئلا يظن أنها تلقيه من فيها، ولم يخرج من بطنها * (فيه شفاء للناس) * من الأدواء، عن قتادة. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل. وقيل: معناه فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، عن السدي، والحسن. وروي عن مجاهد: أن الهاء في * (فيه) * راجعة إلى القرآن، أي: القرآن فيه شفاء للناس، يعني ما فيه من الحلال والحرام، والفتيا والأحكام. والأول قول أكثر المفسرين، وهو الأقوى، إذ لم يسبق للقرآن ذكر. وفي النحل والعسل وجوه من الإعتبار، منها: اختصاصه بخروج العسل من فيه. ومنها: جعل الشفاء من موضع السم، فإن النحل يلسع. ومنها: ما ركب الله من البدائع، والعجائب فيه، وفي طباعه. ومن أعجبها أن جعل سبحانه لكل فئة يعسوبا هو أميرها، يقدمها، ويحامي عنها، ويدبر أمرها، ويسوسها، وهي تتبعه، وتقتفي أثره. ومتى فقدته انحل نظامها، وزال قوامها، وتفرقت شذر مذر، وإلى هذا المعنى فيما قال أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: أنا يعسوب المؤمنين. * (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * معناه: ان فيما ذكرناه من بدائع صنع الله تعالى، دلالة بينة لمن تفكر فيه. ثم بين نعمته علينا في خلقنا، وأخرجنا من العدم إلى الوجود فقال: * (والله خلقكم) * أي: أوجدكم، وأنعم عليكم بضروب النعم الدينية والدنيوية * (ثم يتوفاكم) * ويقبضكم أي: يميتكم * (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * أي: أدون العمر وأوضعه، أي: يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم والخرف، فيظهر النقصان في جوارحه، وحواسه، وعقله. ورووا عن علي عليه السلام: إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وروي في مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن قتادة: تسعون سنة * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) * أي: ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علمه، لأجل الكبر، فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه. وقيل: ليقل علمه بخلاف ما كان عليه في حال شبابه * (إن الله عليم) * بمصالح عباده * (قدير) * على ما يشاء من تدبيرهم، وتقدير أحوالهم.
[ 178 ]
* (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون (71) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72) ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74)) *. القراءة: قرأ أبو بكر عن عاصم: * (تجحدون) * بالتاء. والباقون بالياء. الوجه: الوجه في القراءة بالياء أنه يراد به غير المسلمين، لأنه لا يخاطب المسلم بجحود نعم الله، والوجه في القراءة بالتاء قل لهم: أفبنعمة الله التي تقدم اقتصاصها تجحدون. ويقوي الياء قوله * (وبنعمة الله هم يكفرون) *. اللغة: الحفدة جمع حافد: وأصل الحفد الإسراع في العمل، ومنه ما جاء في الدعاء: (وإليك نسعى ونحفد). ومر البعير يحفد حفدا (1): إذا مر يسرع في سيره، قال الراعي: كلفت مجهولها نوقا يمانية * إذا الحداة على أكسائها حفدوا (2) ومنه قيل للأعوان حفدة، لإسراعهم في الطاعة. قال جميل: حفد الولائد حولها، واستسلمت * بأكفهن أزمة الأجمال (3) الاعراب: * (فهم فيه سواء) *: جملة إسمية، وقعت موقع جملة فعلية، في موضع النصب، لأنه جواب النفي بالفاء، والتقدير فيستووا * (شيئا) *: إنتصب على أحد وجهين: إما أن يكون بدلا من رزقا، بمعنى أنه لا يملك رزقا قليلا، ولا كثيرا، وهو قول الأخفش. وإما أن يكون مفعولا لقوله * (رزقا) * فكأنه قال ما لا يملك لهم أن (1) [ وحفدانا ]. (2) الحداة: جمع الحادي. وأكساء جمع كسئ: مؤخر الشئ. (3) الولائد: الشواب من الجواري. (*)
[ 179 ]
يرزق شيئا، وهو مما أعمل من المصادر المنونة. المعنى: ثم عدد سبحانه نعمة منه أخرى، فقال: * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) * فوسع على واحد، وقتر على آخر، على ما توجبه الحكمة * (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) * اختلف في معناه على قولين أحدهما أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم، حتى يكونوا فيه سواء، ويرون ذلك نقصا، فلا يرضون لأنفسهم به، وهم يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني، ويوجهون العبادة والقرب إليهم، كما يوجهونها إلي، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن عباس: يقول إذا لم ترضوا أن تجعلوا عبيدكم شركاءكم، فكيف جعلتم عيسى إلها معه، وهو عبده ؟ ونزلت في نصارى نجران. والثاني: إن معناه فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الأحرار، لا يرزقون مماليكهم، بل الله تعالى رازق الملاك والمماليك، فإن الذي ينفقه المولى على مملوكه، إنما ينفقه مما رزقه الله تعالى، فالله تعالى رازقهم جميعا، فهم سواء في ذلك. * (أفبنعمة الله يجحدون) * أي: أفبهذه النعمة التي عددتها واقتصصتها، يجحد هؤلاء الكفار ؟ ثم عدد سبحانه نعمة أخرى، قال: * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * أي: جعل لكم من جنسكم، ومن الذين تلدونهم، نساء جعلهن أزواجا لكم، لتسكنوا إليهن، وتأنسوا بهن، * (وجعل لكم من أزواجكم) * يعني من هؤلاء الأزواج * (بنين) * تسرون بهم، وتزينون بهم * (وحفدة) * احتلف في معناه فقيل: هم الخدم والأعوان، عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة. وفي رواية الموالبي: هم أختان الرجل على بناته، وهو المروي عن أبي عبد الله، وابن مسعود، وإبراهيم، وسعيد بن جبير. وقيل: هم البنون، وبنو البنين، عن ابن عباس في رواية أخرى، ونصه عنه أيضا أنهم بنو امرأة الرجل من غيره في رواية الضحاك. وقيل: البنون الصغار من الأولاد، والحفدة الكبار منهم، يسعون معه، عن مقاتل. * (ورزقكم من الطيبات) * أي: الأشياء التي تستطيبونها، قد أباحها لكم، وإنما دخلت * (من) * لأنه ليس كل ما يستطيبه الإنسان رزقا له، وإنما يكون رزقه ما له التصرف فيه، وليس لأحد منعه منه. * (أفبالباطل يؤمنون) * يريد بالباطل: الأوثان، والأصنام، وما حرم عليهم، وزينه الشيطان من البحائر، وغيرها أي: أفبذلك
[ 180 ]
يصدقون * (وبنعمة الله) * التي عددها * (هم يكفرون) * أي: يجحدون، ويريد بنعمة الله: التوحيد، والقرآن، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس. * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا) * أي: لا يملك أن يرزقهم * (من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون) * شيئا مما ذكرناه. وقيل: إن رزق السماء الغيث الذي يأتي من جهتها، ورزق الأرض النبات، والثمار، وغير ذلك من أنواع النعم التي تخرج من الأرض. * (فلا تضربوا لله الأمثال) * أي: لا تجعلوا لله الأشباه والأمثال في العبادة، فإنه لا شبه له، ولا مثل، ولا أحد يستحق العبادة سواه، وإنما قال ذلك في اتخاذهم الأصنام آلهة، عن ابن عباس، وقتادة. * (إن الله يعلم) * إن من كان إلها، فإنه منزه عن الشركاء * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك بل تجهلونه، ولو تفكرتم لعلمتم. وقيل: معناه والله يعلم ما عليكم من المضرة في عبادة غيره، وأنتم لا تعلمون، ولو علمتم لتركتم عبادتها. * (* ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لايأت بخيرهل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76) ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77)) *. القراءة: في الشواذ قراءة ابن مسعود، وعلقمة، والحسن، ومجاهد: * (أينما يوجه) *، وروي عن علقمة: * (يوجه) * بفتح الجيم. الحجة: قال ابن جني: أما * (يوجه) * بكسر الجيم فعلى حذف المفعول، أي: أينما يوجه وجهه، فحذف للعلم به. وأقول: إن نظيره ما جاء في المثل: (أينما أوجه ألق سعدا) ومعناه: أينما أوجه وجوه ركابي وسعد قبيلته، أي: كل الناس
[ 181 ]
مثل قبيلتي في التحاسد. وأما * (يوجه) * بفتح الجيم، فمعناه: أينما يرسل، أو يبعث، لا يأت بخير. اللغة: الأبكم: الذي يولد أخرس لا يفهم، ولا يفهم. وقيل: الأبكم الذي لا يمكنه أن يتكلم. والكل: الثقل. يقال كل عن الأمر يكل كلا، إذا ثقل عليه، فلم ينبعث فيه. وكلت السكين كلولا: إذا غلظت شفرتها. وكل لسانه: إذا لم ينبعث في القول لغلظه، وذهاب حده. فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ. والتوجيه: الإرسال في وجه من الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا، فتوجه إليه. الاعراب: * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) *: رزقا مفعول ثان * (لرزقناه) * وفي هذا دليل على أن رزق يتعدى إلى مفعولين، ألا ترى أن قوله * (رزقا حسنا) * لو كان مصدرا، لما جاز أن يقول فهو ينفق منه، لأن الإنفاق إنما يكون من المال، لا من الحدث الذي هو المصدر. المعنى: ثم بين سبحانه للمشركين أمر ضلالتهم، فقال: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) * أي: بين الله مثلا فيه بيان المقصود، تقريبا للخطاب إلى أفهامهم. ثم ذكر ذلك المثل، فقال: * (عبدا مملوكا لا يقدر من أمره على شئ) *. * (ومن رزقنا منا رزقا حسنا) * يريد وحرا رزقناه، وملكناه مالا، ونعمة * (فهو ينفق منه سرا وجهرا) * لا يخاف من أحد * (هل يستوون) * ولم يقل يستويان، لأنه أراد بقوله * (ومن رزقناه) * وقوله * (عبدا مملوكا) * الشيوع في الجنس، لا التخصيص، يريد أن الإثنين المتساويين في الخلق، إذا كان أحدهما مالكا قادرا على الإنفاق، والآخر عاجزا عن الإنفاق، لا يستويان، فكيف يستوي بين الحجارة التي لا تعقل، ولا تتحرك، وبين الله عز اسمه، القادر على كل شئ، الخالق الرازق لجميع خلقه ؟ وهذا معنى قول مجاهد، والحسن. وقيل: إن هذا المثل للكافر والمؤمن، فإن الكافر لا خير عنده، والمؤمن يكسب الخير، عن ابن عباس، وقتادة. نبه الله سبحانه على اختلاف حاليهما، ودعا إلى حال المؤمن، وصرف عن حال الكافر. * (الحمد لله) * أي: الشكر لله على نعمه، وفيه إشارة إلى أن النعم كلها منه. وقيل: معناه قولوا الحمدلله الذي دلنا على توحيده ومعرفته، وهدانا إلى شكر
[ 182 ]
نعمته، وأوضح لنا السبيل إلى جنته * (بل أكثرهم لا يعلمون) * يعني أن أكثر الناس وهم المشركون، لا يعلمون أن الحمد لي، وأن جميع النعمة مني. ثم ضرب سبحانه مثلا آخر، فقال: * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ) * من الكلام لأنه لا يفهم، ولا يفهم عنه. وقيل: معناه لا يقدر أن يدبر أمر نفسه * (وهو كل على مولاه) * أي: ثقل ووبال على وليه الذي يتولى أمره * (أينما يوجهه لا يأت بخير) * معناه أنه لا منفعة لمولاه فيه، أينما يرسله في حاجة، لا يرجع بخير، ولا يهتدي إلى منفعة * (هل يستوي هو) * أي: هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة * (ومن يأمر بالعدل) * أي: ومن هو فصيح يأمر بالعدل والحق، ويدعو إلى الثواب والبر * (وهو على صراط مستقيم) * أي: على دين قويم، وطريق واضح فيما يأتي به، ويذر. والمراد أنهما لا يستويان قط، لأنه لا جواب لهذا الكلام، إلا النفي، وهذا كما قال: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) *. وقيل: في معنى هذا المثل أيضا قولان أحدهما أنه مثل ضربه الله تعالى فيمن يؤمل الخير من جهته، ومن لا يؤمل منه، وأصل الخير كله من الله تعالى، فكيف يستوي بينه وبين شئ سواه في العبادة ؟ والآخر أنه مثل للكافر والمؤمن، فالإبكم الكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن، عن ابن عباس. وقيل: إن الأبكم أبي بن خلف، ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون، عن عطاء. وقيل: إن الأبكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشي، وكان قليل الخير، يعادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن مقاتل. ثم وصف سبحانه نفسه مؤكدا لما قدم ذكره من أوصاف الكمال، فقال: * (ولله غيب السماوات والأرض) * ومعناه أنه المختص بعلم الغيب، وهو ما غاب عن جميع الخلائق، مما يصح أن يكون معلوما. قال الجبائي: ويمكن أن يكون المعنى: ولله ما غاب عنكم مما في السماوات والأرض. ثم قال: * (وما أمر الساعة) * في قدرته * (إلا كلمح البصر) * أي: كطرف العين. وقيل: كرد البصر. قال الزجاج: وما أمر إقامة الساعة في قدرته، إلا كلمح البصر أي: لا يتعذر عليه شئ * (أو هو أقرب) * من ذلك، وهو مبالغة في ضرب المثل به في السرعة، ودخول * (أو) * هنا لأحد أمرين: إما للإبانة على أنه على إحدى هاتين المنزلتين، وإما لشك المخاطب. وقيل: معناه بل هو أقرب * (إن الله على كل شئ قدير) * فهو قادر على إقامة الساعة، وعلى كل شئ يريده، لأن القدير مبالغة في صفة القادر.
[ 183 ]
النظم: وجه إتصاله بما قبله أن أمر القيامة من الأمور الغائبة، ومن أعظمها وأهمها، لما فيه من الثواب والعقاب، والإنصاف والإنتصاف، والساعة إسم لإماتة الخلق، وإحيائهم. * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفدة لعلكم تشكرون (78) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لأيات لقوم يؤمنون (79) والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين (80)) *. القراءة: قد ذكرنا القراءة في * (أمهاتكم) * في سورة النساء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، وسهل، وخلف: * (ألم تروا) * بالتاء. والباقون بالياء. وقرأ أهل الكوفة، وابن عامر: * (ظعنكم) * ساكنة العين. والباقون بفتح العين. الحجة: من قرأ * (ألم تروا) * بالتاء، فإنه يدل عليه ما قبله من قوله: * (وجعل لكم السمع ولعلكم تشكرون) *. ومن قرأ بالياء فإنه على وجه التنبيه لمن تقدم ذكرهم من الكفار والظعن والظعن بفتح العين وسكونها: لغتان، ومثله النهر، والنهر. والشمع والشمع. قال الأعشى: فقد أشرب الراح قد تعلمين يوم المقام ويوم الظعن قال أبو علي: ولا يجوز أن يكون الظعن مخففا عن الظعن، كما أن عضدا مخفف عن عضد، وكتفا مخففا عن كتف، ألا ترى أن من قال ذلك لم يخفف، نحو جمل ورسن، كما أن الذي يقول * (والليل إذا يسر) *، وذلك ما كنا نبغ لا يقول: والليل إذا يغش، وحرف الحلق وغيره في ذلك سواء. اللغة: الأمهات: أصله الأمات، ولكن الهاء زيدت مؤكدة، كما زادوها في أهرقت الماء، والأصل أرقت الماء. والأفئدة: جمع فؤاد، كما يقال غراب وأغربة، ولم يجمع الفؤاد على أكثر العدد ولم يقل فيه فئدان، كما قالوا غربان. الجو: الهواء
[ 184 ]
البعيد من الأرض، وأبعد منه السكاك واللوح، وواحد السكاك سكاكة، عن الزجاج. قال الشاعر: ويلمها في هواء الجو طالبة، ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (1) والسكن: كل ما يسكن إليه. والسكن أيضا: المسكن. قال الفراء: السكن بفتح الكاف، الدار. وبسكونها: أهل الدار، ومنه الحديث: إن الرمانة لتشبع السكن. وأصله من السكون الذي هو ضد الحركة، وهما من جنس الأكوان التي يكون الجسم بها كائنا في الجهات، ومنه السكين لأنه يسكن حركة المذبوح. والأثاث: متاع البيت الكثير من قولهم: شعر أثيث أي: كثير. وأث النبت يإث أثا: إذا كثر والتف. وكذلك الشعر. ولا واحد للأثاث، كما أنه لا واحد للمتاع، قال لشاعر: أهاجتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث (2) الاعراب: قوله * (لا تعلمون شيئا) * في موضع نصب على الحال، من الكاف والميم وقوله * (شيئا) * يجوز أن يكون منتصبا على المصدر أي: لا تعلمون علما، ويجوز أن يكون مفعولا، ويكون * (تعلمون) * بمعنى تعرفون، لإقتصاره على مفعول واحد. و * (أثاثا ومتاعا) *: نصب بجعل أي: يجعل لكم أثاثا ومتاعا. المعنى: ثم عدد سبحانه نعما له أخر، فقال: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) * منعما عليكم بذلك، وأنتم * (لا تعلمون شيئا) * من منافعكم، ومضاركم، في تلك الحال. * (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) * أي: تفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هي طرق إلى العلم بالمدركات، وتفضل عليكم بالقلوب التي تفقهون بها الأشياء، إذ هي محل المعارف * (لعلكم تشكرون) * أي: لكي تشكروه على ذلك، وتحمدوه. ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الدلائل بدلالة أخرى، فقال: * (ألم تروا) * (1) قائله امرئ القيس، ورواية الديوان: (لا كالتي في هواه ا ه‍.) ونسبه في (التبيان) و (الطبري) إلى إبراهيم بن عمران الأنصاري. وقوله: (ويلمها) مخفف (ويل أمها). (2) قائله محمد بن نمير الثقفي. وفي بعض النسخ (الزي). ورواية اللسان: (أشاقتك الظعائن ا. ه‍). (*)
[ 185 ]
أي: ألم تتفكروا. وتنظروا * (إلى الطير مسخرات في جو السماء) * أي: كيف خلقها الله خلقة يمكنها معها التصرف في جو السماء، صاعدة ومنحدرة، وذاهبة وجائية، مذللات للطيران في الهواء بأجنحتها، تطير من غير أن تعتمد على شئ * (ما يمسكهن إلا الله) * أي: ما يمسكهن من السقوط على الأرض من الهواء إلا الله، فيمسك الهواء تحت الطير، حتى لا ينزل فيه، كإمساك الماء تحت السائح في الماء، حتى لا ينزل فيه، فجعل إمساك الهواء تحتها، إمساكا لها على التوسع، فإن سكونها في الجو، إنما هو فعلها. فالمعنى: ألم تنظروا في ذلك فتعلموا أن لها مسخرا ومدبرا لا يعجزه شئ، ولا يتعذر عليه شئ، وإنه إنما خلق ذلك، ليعتبروا به، فيصلوا إلى الثواب الذي عرضهم له، ولو كان فعل ذلك لمجرد الأنعام على العبيد، لكان حسنا، لكنه سبحانه وتعالى، ضم إلى ذلك التعريض للثواب. * (إن في ذلك لآيات) * أي: دلالات على وحدانية الله تعالى وقدرته * (لقوم يؤمنون) * لأنهم الذين انتفعوا به. ثم عدد سبحانه نعما أخر في الآية الأخرى، فقال: * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) * أي: موضعا تسكنون فيه، مما يتخذ من الحجر والمدر، وذلك أنه سبحانه خلق الخشب والمدر، والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت، وبناؤها * (وجعل لكم من جلود الأنعام) * يعني الإنطاع والأدم * (بيوتا تستخفونها) * أي: قبابا وخياما يخف عليكم حملها في أسفاركم * (يوم ظعنكم) * أي: ارتحالكم من مكان إلى مكان. وقيل: معنى الظعن سير أهل البوادي لنجعة، أو حضور ماء، أو طلب مرتع. * (ويوم إقامتكم) * أي: اليوم الذي تنزلون موضعا تقيمون فيه، أي: لا يثقل عليكم في الحالتين * (ومن أصوافها) * وهي للضأن * (وأوبارها) * وهي للإبل * (وأشعارها) * وهي للمعز * (أثاثا) * أي: مالا عن ابن عباس. وقيل: نوعا من متاع البيت من الفراش والأكسية. وقيل: طنافس وبسطا، وثيابا وكسوة، والكل متقارب * (ومتاعا) * تتمتعون به، ومعاشا تتجرون فيه * (إلى حين) * أي: إلى يوم القيامة، عن الحسن. وقيل: إلى وقت الموت، عن الكلبي. ويحتمل أن يكون أراد به موت المالك، أو موت الأنعام. وقيل: إلى وقت البلى والفناء. وفيه إشارة إلى أنها فانية، فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.
[ 186 ]
* (والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81) فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83) ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولاهم يستعتبون (84) وإذا رءا الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولاهم ينظرون (85)) *. اللغة: الأكنان: جمع كن، وهو الموضع الذي يستتر صاحبه فيه، ويقال: كننت الشئ في كنه أي: صنته وأكننته أي: أخفيته، وكل ما لبسته من قميص، أو درع، أو جوشن، أو غيره، فهو كن. قال الزجاج. والعتب الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب: إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه، قالوا عاتبه، وإذ رجع إلى مسرته، قيل: أعتب. والإسم العتبى: وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتبه: طلب منه أن يعتب، قال أبو مسلم: الإستعتاب مأخوذ من العتاب، والعتب، وأصله دبغ الأديم، وهو عتابه. وفي المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، يقال: عتبت على فلان، واستعتبته: إذا أنكرت منه فعلا، واستنزلته عنه، وأردت إصلاحه. وأعتبك فلان. إذا صار لك إلى ما تحب، وزال عما تكره. الاعراب: * (فإن تولوا) *: شرط، وتقديره فإن تولوا لم يلزمك تقصير من أجل توليتهم، فإن الذي عليك هو البلاغ، إلا أنه حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه. * (للذين كفروا) *: في محل الرفع لوقوع الإذن عليه. المعنى: ثم عدد سبحانه نعما أخر، أضافها إلى ما عدده قبل من نعمه، فقال: * (والله جعل لكم مما خلق) * من الأشجار، والأبنية * (ظلالا) * أي: أشياء تستظلون بها في الحر والبرد. * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) * أي: مواضع تسكنون بها من كهوف وثقوب، وتأوون إليها، * (وجعل لكم سرابيل) * أي: قميصا من القطن والكتان والصوف، عن ابن عباس، وقتادة. * (تقيكم الحر) * ولم يقل، وتقيكم البرد، لأن ما وقى الحر وقى البرد. وإنما خص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر،
[ 187 ]
لأن الذين خوطبوا بذلك. أهل حر في بلادهم، فحاجتهم إلى ما يقي الحر أكثر، عن عطا. على أن العرب تكتفي أحد الشيئين عن الآخر للعلم به، كما قال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني (1) فكنى عن الشر، ولم يذكره، لأنه مدلول عليه، ذكره الفراء. * (وسرابيل تقيكم بأسكم) * يعني دروع الحديد، تقيكم شدة الطعن والضرب، وتدفع عنكم سلاح أعدائكم * (كذلك) * أي: مثل ما جعل لكم هذه الأشياء، وأنعم بها عليكم * (يتم نعمته عليكم) * يريد نعمة الدنيا. ويدل عليه قوله * (لعلكم تسلمون) * قال ابن عباس: معناه لعلكم يا أهل مكة تعلمون أنه لا يقدر على هذا غيره. فتوحدوه، وتصدقوا رسوله. * (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) * هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: فإن أعرضوا عن الإيمان بك يا محمد، والقبول عنك، وعن التدبر، لما عددته في هذه السورة من النعم، وبينت فيها من الدلالات، فلا عتب عليك، ولا لوم، فإنما عليك البلاغ الظاهر. وقد بلغت كما أمرت، والبلاغ الإسم، والتبليغ المصدر، مثل الكلام والتكليم. ثم أخبر سبحانه عن الكفار، فقال: * (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) * أي: يعرفون نعم الله تعالى عليهم، بما يجدونه من خلق نفوسهم، وإكمال عقولهم، وخلق أنواع المنافع التي ينتفعون بها لهم، ثم إنهم مع ذلك ينكرون تلك النعم، أن تكون من جهة الله تعالى خاصة، بل يضيفونها إلى الأوثان، ويشكرون الأوثان عليها، يقولون: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا، فيشركونهم معه فيها، وقيل: إن معناه يعرفون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من نعم الله سبحانه، ثم يكذبونه ويجحدونه، عن السدي * (وأكثرهم الكافرون) * إنما قال أكثرهم لأن منهم من لم تقم الحجة عليه، إذ لم يبلغ حد التكليف لصغره، أو كان ناقص العقل مأوفا، أو لم تبلغه الدعوة، فلا يقع عليه إسم الكفر. وقيل: إنما ذكر الأكثر، لأنه علم سبحانه أن فيهم من يؤمن. وقيل: إنه من الخاص في الصيغة، العام في المعنى، عن الجبائي. وقريب منه قول الحسن، (1) قائله المثقب العبدي، ومرجع الضمير في قوله: (أيهما) في بيت بعده وهو: (أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني)
[ 188 ]
أراد جميعهم الكافرون، وإنما عدل عن البعض، احتقارا له أن يذكره. وفي هذه الآية دلالة على فساد قول المجبرة، أنه ليس الله تعالى على الكافر نعمة، وأن جميع ما فعله بهم، إنما هو خذلان ونقمة، لأنه سبحانه نص في هذه الآية على خلاف قولهم. * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) * يعني يوم القيامة، بيق سبحانه أنه يبعث فيه من كل أمة شهيدا، وهم الأنبياء والعدول من كل عصر، يشهدون على الناس بأعمالهم. وقال الصادق عليه السلام: لكل زمان وأمة إمام، تبعث كل أمة مع إمامها. وفائدة بعث الشهداء مع علم الله سبحانه بذلك، أن ذلك أهول في النفس، وأعظم في تصور الحال، وأشد في الفضيحة إذا قامت الشهادة بحضرة الملأ، مع جلالة الشهود وعدالتهم عند الله تعالى، ولأنهم إذا علموا أن العدول عند الله يشهدون عليهم بين يدي الخلائق، فإن ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي. وتقديره: واذكر يوم نبعث * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) * أي: لا يؤذن لهم في الكلام والإعتذار، عن ابن عباس. كما قال: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) *. وقيل: معناه لا يؤذن لهم في الرجوع إلى الدنيا. وقيل: معناه لا يسمع منهم العذر، يقال: أذنت له أي: استمعت كما قال عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له، وحديث مثل ماذي مشار (1) عن أبي مسلم * (ولا هم يستعتبون) * أي: لا يسترضون، ولا يستصلحون كما كان يفعل بهم في دار الدنيا، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ومعناه: لا يسألون أن يرضوا الله بالكف عن معصية يرتكبونها * (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) * معناه: إذا رأى الذين أشركوا بالله تعالى النار * (فلا يخفف عنهم) * العذاب * (ولا هم ينظرون) * أي: لا يمهلون، ولا يؤخرون، بل عذابهم دائم في جميع الأوقات، فإن وقت التوبة والندم قد فات. النظم: وجه اتصال قوله * (فإن تولوا) * بما قبله، أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكرهم بهذه النعم، ويحتج عليهم بهذه الحجج، فإن أسلموا فذاك، وإن أعرضوا فلا شئ على الرسول، فإنما عليه البلاغ المبين فقط. ووجه اتصال الآية الآخيرة بما قبلها، وهي قوله: * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) * أنها تتصل بقوله: * (فإنما عليك (1) الماذي: العسل الأبيض. والمشار: من أشرت العسل: إذا جنيته.
[ 189 ]
البلاغ) * لأن المعنى أن نجازيهم على أعمالهم، يوم نبعث من كل أمة شهيدا. وقال أبو مسلم: إنه عطف على قوله * (والله خلقكم ثم يتوفاكم) * يريد ثم يبعثكم يوم يبعث من كل أمة شهيدا. * (وإذا رءا الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون (87) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88) ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89) * إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآى ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون (90)) *. اللغة: تقول ألقيت الشئ: إذا طرحته. واللقي: الشئ الملقى. وألقيت إليه مقالة أي: قلتها له وتلقاها إذا قبلها. والسلم: الإستسلام والإنقياد. والتبيان والبيان واحد. الأزهري قال: العرب تقول بينت الشئ تبيينا وتبيانا. المعنى: ثم أبان سبحانه عن حال المشركين يوم القيامة، فقال: * (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم) * يعني الأصنام والشياطين الذين أشركوهم مع الله في العبادة. وقيل: سماهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من الزرع والأنعام، فهم إذا شركاؤهم على زعمهم. * (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك) * أي: يقولون هؤلاء شركاؤنا التي أشركناها معك في الإلهية والعبادة، وأضلونا عن دينك، فحملهم بعض عذابنا * (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * معناه: فقالت الأصنام وسائر ما كانوا يعبدونه من دون الله بإنطاق الله تعالى إياهم لهؤلاء، إنكم لكاذبون في أنا أمرناكم بعبادتنا، ولكنكم اخترتم الضلال بسوء اختياركم لأنفسكم. وقيل: إنكم لكاذبون في قولكم إنا آلهة، وإلقاء المعنى إلى النفس: إظهاره لها حتى تدركه، متميزا عن غيره * (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) * معناه: واستسلم المشركون
[ 190 ]
وما عبدوهم من دون الله، لأمر الله، وانقادوا لحكمه يومئذ، عن قتادة. وقيل: معناه إن المشركين زال عنهم نخوة الجاهلية، وانقادوا قسرا لا اختيارا، واعترفوا بما كانوا ينكرونه من توحيد الله تعالى، * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي: بطل ما كانوا يأملونه ويتمنونه من الأماني الكاذبة من أن آلهتهم تشفع لهم، وتنفع * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * أي أعرضوا عن دين الله. وقيل: صدوا غيرهم عن اتباع الحق الذي هو سبيل الله. وقيل: صد المسلمين عن البيت الحرام، عن أبي مسلم. * (زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * أي: عذبناهم على صدهم عن دين الله زيادة على عذاب الكفر. وقيل: زدناهم الأفاعي والعقارب في النار، لها أنياب كالنخل الطوال، عن ابن مسعود. وقيل: هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذبون بها، عن ابن عباس، ومقاتل. وقيل: زيدوا حيات كأمثال الفيلة، والبخت، وعقارب كالبغال الدلم، عن سعيد بن جبير. * (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) * أي: من أمثالهم من البشر، ويجوز أن يكون ذلك الشهيد نبيهم الذي أرسل إليهم. ويجوز أن يكون المؤمنون العارفون يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي. وفي هذا دلالة على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممن يكون قوله حجة على أهل عصره، وهو عدل عند الله تعالى، وهو قول الجبائي، وأكثر أهل العدل. وهذا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا، وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجة منه هو * (وجئنا بك) * يا محمد * (شهيدا على هؤلاء) * يريد على قومك وأمتك. وإنما أفرده بالذكر تشريفا له. وتم الكلام هاهنا. ثم قال سبحانه: * (ونزلنا عليك الكتاب) * يعني القرآن * (تبيانا لكل شئ) * أي: بيانا لكل أمر مشكل، ومعناه: ليبين كل شئ يحتاج إليه من أمور الشرع، فإنه ما من شئ يحتاج الخلق إليه في أمر من أمور دينهم، إلا وهو مبين في الكتاب، إما بالتنصيص عليه، أو بالإحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحجج القائمين مقامه، أو إجماع الأمة، فيكون حكم الجميع في الحاصل مستفادا من القرآن * (وهدى ورحمة) * أي: ونزلنا عليك القرآن دلالة إلى الرشد، ونعمة على الخلق، لما فيه من الشرائع والأحكام، ولأنه يؤذي إلى نعم الآخرة. * (وبشرى للمسلمين) * أي: بشارة لهم بالثواب الدائم، والنعيم المقيم * (إن الله يأمر بالعدل) * وهو الإنصاف بين الخلق، والتعامل بالإعتدال الذي ليس فيه ميل، ولا
[ 191 ]
عوج * (والإحسان) * إلى الناس، وهو التفضل. ولفظ الإحسان جامع لكل خير، والأغلب عليه استعماله في التبرع بإيتاء المال، وبذل السعي الجميل. وقيل: العدل: التوحيد، والإحسان: أداء الفرائض، عن ابن عباس، وعطاء. وقيل: العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال، فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن. وقيل: العدل أن ينصف، وينتصف، والإحسان أن ينصف، ولا ينتصف * (وإيتاء ذي القربى) * أي: ويأمركم بإعطاء الأقارب حقهم بصلتهم، وهذا عام. وقيل: المراد بذي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين أرادهم الله بقوله: * (فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) * على ما مر تفسيره، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: نحن هم. * (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * إنما جمع بين الأوصاف الثلاثة في النهي، مع أن الكل منكر فاحش، ليبين بذلك تفصيل ما نهى عنه، لأن الفحشاء قد يكون ما يفعله الإنسان في نفسه من القبيح، مما لا يظهره. والمنكر: ما يظهره للناس مما يجب عليهم انكاره. والبغي: ما يتطاول به من الظلم لغيره. وقيل: إن الفحشاء الزنا، والمنكر ما ينكره الشرع، والبغي الظلم والكبر، عن ابن عباس. وقيل: إن العدل استواء السريرة والعلانية، والإحسان أن تكون السريرة أحسن من العلانية، والفحشاء والمنكر أن تكون العلانية أحسن من السريرة، عن سفيان بن عيينة. * (يعظكم لعلكم تذكرون) * معناه: يعظكم بما تضمنت هذه الآية من مكارم الأخلاق، لكي تتذكروا، وتتفكروا، وترجعوا إلى الحق. قال عبد الله بن مسعود: هذه الآية أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. قال قتادة: أمر الله سبحانه بمكارم الأخلاق، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق (1). وجاءت الرواية أن عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام، ولما يقر الإسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده، حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء، كأنه يستفهم شيئا، فلما سري عنه، سألته عن حاله، فقال: نعم بينا أنا أحدثك، إذ رأيت جبرائيل في الهواء، فأتاني بهذه الآية: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * وقرأها علي إلى آخرها. فقر الإسلام في قلبي. (1) السفساف: الردئ من كل شئ. (*)
[ 192 ]
وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته، فقال: يا آل قريش ! اتبعوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ترشدوا، فإنه لا يأمركم إلا بمكارم الأخلاق. وأتيت الوليد بن المغيرة، وقرأت عليه هذه الآية، فقال: إن كان محمد قاله فنعم ما قال، وإن قاله ربه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله * (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى) * يعني قوله فنعم ما قال. ومعنى قول * (وأكدى) *: أنه لم يقم على ما قاله وقطعه. وعن عكرمة قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة، فقال: يا بن أخي ! أعد. فأعاد، فقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو قول البشر ! ! النظم: وجه اتصال قوله * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * بما قبله أنه سبحانه لما بين أن الأنبياء تشهد على أممهم يوم القيامة، بين عقيبه أنه سبحانه قد كلف الجميع، وأزاح عللهم في التكليف، بأن أنزل القرآن بما فيه من البيان، والهداية، والرحمة، والبشارة لأهل الإيمان، وأنهم إذا عوقبوا فإنما أتوا في ذلك من قبل نفوسهم، وهذا كله مما يدخل في الشهادة. ووجه اتصال قوله * (إن الله يأمر بالعدل) * الآية بما قبله أنه سبحانه لما ذكر القرآن، بين عقيبه ما يأمر به وينهى عنه فيه. وقيل: انه يتصل بقوله * (ويوم نبعث) * كأنه قال بعد ذكر القيامة والشهود إنه يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، فاعلموا أنه سبحانه لا يظلم أحدا، بل يعدل ويتفضل، ولذلك جاء بالشهود ليشهدوا على أممهم، أنهم أتوا فيما لاقوه من العذاب من قبل أنفسهم. * (وأوفوا بعهد الله إذا عهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92) ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسئلن عما كنتم تعملون (93) ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله
[ 193 ]
ولكم عذاب عظيم (94)) *. اللغة: التوكيد: التشديد. وأوكد عقدك أي: شده، وهي لغة أهل الحجاز، وأهل نجد، يقولون أكدت تأكيدا. والأنكاث: الأنقاض، واحدها نكث. والنكث المصدر. وهذا قول لا نكثة فيه أي: لا خلف. وكل شئ نقض بعد الفتل فهو انكاث، حبلا كان أو غزلا. والحبل منتكث أي: منتقض، ومنه سموا من تابع الإمام طائعا، ثم خرج عليه ناكثا، لأنه نقض ما وكد على نفسه بالإيمان والعهود، كفعل الناكثة غزلها. والدخل: ما أدخل في الشئ على فساد. وقيل: الدخل الدغل والخديعة، وإنما قيل الدخل، لأن داخل القلب على ترك الوفاء، والظاهر على الوفاء. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا، فهو دخل، وكل ما دخله عيب فهو مدخول. وأربى: أفعل من الربا، وهو الزيادة، ومنه الربوة، والربا في المال، وأربى فلان للزيادة التي تريدها على عزيمة في رأس ماله، قال الشاعر: وأسمر خطي كأن كعوبه نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر (1) الاعراب: * (أنكاثا) *: منصوب لأنه في معنى المصدر. * (دخلا بينكم) *: منصوب لأنه مفعول له، والمعنى: تتخذون أيمانكم للدخل والغش. وقوله: * (أن منصوب لأنه مفعول له، والمعنى: تتخذون أيمانكم للدخل والغش. وقوله: * (أن تكون أمة) *: على تقدير بأن تكون أمة. و * (هي أربى) *: موضع * (أربى) * رفع مبتدأ، وخبر، وكلاهما في محل النصب بأنه خبر كان. وقال الفراء: ان موضع * (أربى) * نصب، وهي عماد. وهذا لا يجوز، لأن الفصل الذي يسميه الكوفيون عمادا، لا يدخل بين النكرة وخبره، وقد أخطأ أيضا بأن شبه ذلك بقوله * (تجدوه عند الله هو خيرا) * فإن الهاء في * (تجدوه) * معرفة، وهاهنا * (أمة) * نكرة، فلا يشبه ذلك. ويجوز أن تكون الجملة صفة لأمة، ولا يحتاج * (تكون) * إلى خبر، لأنه بمعنى يحدث، ويقع و * (أمة) * فاعله، وتقديره: كراهة أن تكون، فهو مفعول له، ولئلا يكون، عند الكوفيين. المعنى: لما تقدم ذكر الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن المنكر والعدوان، (1) البيت منسوب إلى حاتم الطائي والخطي: الرمح المنسوب إلى الخط، وهو موضع باليمامة. والقسب: نوع من التمر الياس، ونواه أصلب النوى. وفي بعض الكتب (أرمى) بالميم. وأرمى وأربى لغتان. يصف الشاعر رمحا. وشبه كعوبه بنوى القسب. (*)
[ 194 ]
عقبه سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد، والنهي عن نقض الإيمان، فقال: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * قال ابن عباس: الوعد من العهد، وقال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به. والوعد هو الذي يحسن فعله، وعاهد الله ليفعلنه، فإنه يصير واجبا عليه. * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) *: هذا نهي منه سبحانه عن نكث الأيمان، وهو أن ينقضها بمخالفة موجبها، وارتكاب ما يخالف عقدها. وقوله * (بعد توكيدها) * أي: بعد عقدها، وإبرامها، وتوثيقها، باسم الله تعالى. وقيل: بعد تشديدها وتغليظها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، عن أبي مسلم. * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) * أي: حسيبا فيما عاهدتموه عليه، وقيل: كفيلا بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف. وقيل: إنه قولهم الله علي كفيل، أو وكيل. وقيل: أراد به أن الكفيل بالشئ يكون حفيظا له، والإنسان إنما يؤكد الأمر على نفسه بذكر اسم الله تعالى على جهة اليمين، ليحفظ سبحانه ذلك الأمر * (إن الله يعلم ما تفعلون) * من نقض العهد والوفاء به، فإياكم أن تلقوه، وقد نقضتم. وهذه الآية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام، فقال سبحانه للمسلمين الذين بايعوه: لا يحملنكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة، فإن الله حافظكم أي: اثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول، وأكدتموه بالأيمان. وقيل: نزلت في قوم خالفوا قوما، فجاءهم قوم، وقالوا: نحن أكثر منهم، وأعز، وأقوى، فانقضوا ذلك العهد، وحالفونا. * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة) * أي: لا تكونوا كالإمرأة التي غزلت، ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفتل للغزل، وهي امرأة حمقاء من قريش، كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، ولا يزال ذلك دأبها، واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمى خرقاء مكة، عن الكلبي. وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى، شبه فيه حال ناقض العهد، بمن كان كذلك * (أنكاثا) * جمع نكث: وهو الغزل من الصوف والشعر، يبرم، ثم ينكث، وينقض، ليغزل ثانية * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * أي: دخلا وخيانة ومكرا، وذلك أنهم كانوا يخلفون في عهودهم، ويضمرون الخيانة. وكان الناس يسكنون إلى عهدهم، ثم ينقضون العهد، فقد اتخذوا أيمانهم
[ 195 ]
مكرا وخيانة * (أن تكون أمة هي أربى من أمة) * أي: لا تنقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم، وأمة أعلى من أمة. ولأجل ذلك، وتقديره: ولا تنكثوا أيمانكم متخذيها دغلا، وغدرا، وخديعة، لمداراتكم قوما هم أكثر عددا ممن حلفتم له، ولقلتكم وكثرتهم، بل عليكم الوفاء بما حلفتم، والحفظ لما عاهدتم عليه. * (إنما يبلوكم الله به) * أي: إنما يختبركم الله بالأمر بالوفاء. والهاء في * (به) * عائدة على الأمر، وتحقيقه أنه يعاملكم معاملة المختبر، ليقع الجزاء بحسب العمل * (وليبينن) * أي: وليفصلن * (لكم يوم القيامة ما كنتم فيه) * أي: في صحته * (تختلفون) * وليظهرن لكم حكمه حتى يعرف الحق من الباطل * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * أي: لجعلكم مهتدين، يعني به مشيئة القدرة، كما قال: * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) *. * (ولكن يضل من يشاء) *، بالخذلان، أو بالحكم عليه بالضلال * (ويهدي من يشاء) * بالتوفيق، وبالحكم عليه بالهداية. وقد ذكرنا معاني الضلال والهدى في سورة البقرة. * (ولتسئلن عما كنتم تعملون) * من الطاعات والمعاصي، فستجازون على كل منهما بقدرة. * (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) *: نهى سبحانه عن الحلف على أمر يكون باطنه بخلاف ظاهره، فيضمر خلاف ما يظهر أي: يضمر الخلف والحنث فيه * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * هذا مثل ضربه الله تعالى، ومعناه فتضلوا عن الرشد بعد أن تكونوا على هدى، يقال: زل قدم فلان في أمر كذا: إذا عدل عن الصواب. وقيل: معناه فيسخط الله عليكم بعد رضاه عنكم، لأن ثبات القدم تكون برضاء الله سبحانه، وزلة القدم تكون بسخطه. وقيل: إنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نصرة الإسلام وأهله، فنهوا عن نقض ذلك. * (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله) * أي: تذوقوا العذاب بما منعتم الناس عن اتباع دين الله * (ولكم) * مع ذلك * (عذاب عظيم) * يريد عذاب الآخرة، وروي عن سلمان الفارسي (ره) أنه قال: تهلك هذه الأمة بنقض مواثيقها، و روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: نزلت هذه الآيات في ولاية علي عليه السلام، وما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلموا على علي بإمرة المؤمنين !. النظم: وجه اتصال قوله * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) * الآية، بما قبله،
[ 196 ]
أنه أخبر في الآية المتقدمة أنه يبين لهم في الآخرة الحق من الباطل، والمحق من المبطل، بيان ضرورة، فأخبر عقيب ذلك أنه يقدر على ذلك أيضا في الدنيا، ولكنه لم يفعل ذلك ليستحق الناس الثواب بأعمالهم. * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97) فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وعاصم: * (ولنجزين) * بالنون. والباقون بالياء. وروى عياش، عن أبي عمرو بالنون أيضا. الحجة: حجة الياء * (وما عند الله باق) *. والنون في المعنى مثل الياء. اللغة: النفاد: الفناء، ونفد الشئ ينفد نفادا: إذا فني. وأنفد القوم: إذا فني زادهم. ونافدت الرجل مثل حاكمته ومعناه يرجع إلى أن كل واحد من الخصمين يريد نفاد حجة الآخر، ومنه الحديث: إن نافدتهم نافدوك. ومن الناس من يرويه بالقاف. والمعنى: إن قلت قالوا لك. والباقي: هو الموجود المستمر وجوده. وقيل: الموجود عن وجود من غير فصل، وضده الفاني: وهو المعدوم، بعد الوجود، واختلف المتكلمون في الباقي، فقال البلخي: إنه يبقى بمعنى هو بقاء. وقال الأكثرون: لا يحتاج إلى معنى به يبقى، والبقاء: هو استمرار الوجود. والإستعاذة: طلب المعاذ، استفعال من العوذ والعياذ. والله سبحانه معاذ: من عاذ به، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة التي قالت له أعوذ بالله منك: لقد عذت بمعاذ، فالحقي بأهلك. وأصل السلطان: من التسلط، وهو القهر، وإنما سميت الحجة سلطانا، لأن الخصم به يقهر. وقيل: اشتق من السليط، وهو دهن الزيت. وسميت
[ 197 ]
الحجة سلطانا: لإضاءتها. وفي الحديث عن ابن عباس: أرأيت عليا، وكأن عينيه سراجا سليط ! الاعراب: * (ما عند الله) *: اسم أن، وهو فصل وخير، وخبره * (وما عندكم) * مبتدأ، و * (ينفد) *: خبره. وكذلك: ما عند الله باق. وإنما قال * (ولنجزينهم) * بلفظ الجمع: لأن لفظ * (من) * يقع على الواحد والجمع، فرد الضمير على المعنى. النزول: قال ابن عباس: إن رجلا من * (حضرموت) * يقال له عبدان الأشرع قال: يا رسول الله ! إن امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي، فاقتطع من أرضي، فذهب بها مني، والقوم يعلمون أني لصادق، ولكنه أكرم عليهم مني. فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأ القيس عنه، فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه. فلما قام ليحلف، أنظره فانصرفا فنزل قوله * (ولا تشتروا بعهد الله) * الآيتان. فلما قرأهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال امرؤ القيس: أما ما عندي فينفد، وهو صادق فيما يقول. لقد اقتطعت أرضه، ولم أدركم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، ومثلها معها، بما أكلت من ثمرها. فنزل فيه * (ومن عمل صالحا) * الآية. المعنى: لما تقدم النهي عن نقض العهد، أكد سبحانه، فقال: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * أي: لا تخالفوا عهد الله بسبب شئ يسير تنالونه من حطام الدنيا، فتكونوا قد بعتم عظيم ما عند الله، بالشئ الحقير. * (إن ما عند الله هو خير لكم) * معناه: إن الذي عند الله من الثواب على الوفاء بالعهود، خير لكم، وأشرف مما تأخذونه من عرض الدنيا على نقضها، فإن القليل الذي يبقى، خير من الكثير الذي يفنى، فكيف بالكثير الذي يبقى في مقابلة القليل الذي يفنى. * (إن كنتم تعلمون) * الفرق بين الخير والشر، والتفاوت الذي بين القليل الفاني، والكثير الباقي. * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * بين سبحانه بهذا أن العلة التي لأجلها كان الثواب خيرا من متاع الدنيا، هو أن الثواب الذي عند الله يبقى، والذي عندكم من نعيم الدنيا يفنى، ثم أخبر سبحانه أنه يجزي الصابرين، فقال: * (ولنجزين الذين صبروا) * أي: لنكافئن الذين ثبتوا على الطاعات، وعلى الوفاء بالعهود * (أجرهم) * وثوابهم * (بأحسن ما كانوا يعملون) * أي بالطاعات من الواجبات والمندوبات، فإن أفعال المكلف قد تكون طاعة، وقد تكون مباحا لا يقع الجزاء عليه، ولا يستحق
[ 198 ]
عليه أجر، ولا حمد، فلذلك قال سبحانه * (بأحسن) *. فإن الطاعة أحسن من المباح. وهذا يدل على فساد قول من يقول إنه لا يكون حسن، أحسن من حسن. * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * هذا وعد من الله سبحانه أي. من عمل عملا صالحا، سواء كان ذكرا أو أنثى، وهو مع ذلك مؤمن، مصدق بتوحيد الله، مقر بصدق أنبيائه. * (فلنحيينه حياة طيبة) * قيل فيه أقوال أحدها: إن الحياة الطيبة: الرزق الحلال، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء وثانيها: إنها القناعة والرضا بما قسم الله، عن الحسن، ووهب، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثالثها: إنها الجنة، عن قتادة، ومجاهد، وابن زيد. قال الحسن: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال ابن زيد: ألا ترى إلى قوله * (يا ليتني قدمت لحياتي) * ورابعها: إنها رزق يوم بيوم وخامسها: إنها حياة طيبة في القبر. * (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * مر تفسيره، وإنما كرره تأكيدا * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * معناه: إذا أردت يا محمد قراءة القرآن، فاستعذ بالله من شر الشيطان المرجوم المطرود الملعون، وهذا كما يقال إذا أكلت فاغسل يديك، وإذا صليت فكبر، ومنه * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) *. والإستعاذة: استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع والتذلل، وتأويله: استعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك، لتسلم في التلاوة من الزلل، وفي التأويل من الخطل، و الإستعاذة عند التلاوة مستحبة غير واجبة بلا خلاف، في الصلاة، وخارج الصلاة. وقد تقدم ذكر اختلاف القراء في لفظ الإستعاذة في أول الفاتحة. * (إنه) * يعني الشيطان * (ليس له سلطان) * أي: تسلط وقدرة * (على الذين آمنوا) * بالله * (وعلى ربهم يتوكلون) * والمعنى أنه لا يقدر على أن يكرههم على الكفر والمعاصي. وقيل: معناه ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي، عن قتادة * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * معناه: إنما تسلطه على الذين يطيعونه، فيقبلون دعاءه، ويتبعون إغواءه * (والذين هم به) * أي: بسبب طاعته * (مشركون) * بالله. وقيل: معناه والذين هم بالله مشركون أي: يشركون مع الله سبحانه غيره في العبادة، عن مجاهد. النظم: اتصل قوله * (فإذا قرأت القرآن) * الآيات، بما قدمه سبحانه من الأمر
[ 199 ]
بالطاعات، فعقب ذلك بالإستعاذة من الشيطان الآمر بالمعاصي، تحذيرا منه. وإنما خص بالقرآن، لأن القرآن هو العمدة في جميع أمور الدين. وقيل: اتصل بقوله * (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * ثم اعترض ذكر الأوامر والنواهي. ثم عاد الكلام إلى ذكر القرآن، والأمر بالإستعاذة عند قراءته. * (وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102) ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين (103) إن الذين لا يؤمنون بايات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بايات الله وأولئك هم الكاذبون (105)) *. القراءة: قرأ * (يلحدون) * بفتح الياء والحاء، أهل الكوفة، غير عاصم. والباقون: * (يلحدون) * بضم الياء، وكسر الحاء، وروي في الشواذ، عن الحسن * (اللسان الذي يلحدون إليه) * بالألف واللام. الحجة: حجة من قرأ * (يلحدون) * قوله: ومن يرد فيه بإلحاد. ومن قرأ * (يلحدون) * فلأن لحد لغة في الحد، وذلك إذا مال، ومنه أخذ اللحد، لأنه في جانب القبر. ويكون الضم أرجح من حيث لغة التنزيل. اللغة: التبديل في اللغة: رفع الشئ مع وضع غيره مكانه، يقال: بدله وأبدله، واستبدل به بمعنى، واللسان: العضو المعروف. ويقال للغة: اللسان، وتقول العرب للقصيدة: هذه لسان فلان قال الشاعر: لسان السوء تهديها إلينا، وحنت وما حسبتك أن تحينا (1) المعنى: ثم قال سبحانه مخبرا عن أحوال الكفار: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * (1) أي ضللت وما ظننتك أن تضل. (*)
[ 200 ]
معناه وإذا نسخنا آية، وآتينا مكانها آية أخرى، إما نسخ الحكم والتلاوة، وإما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، * (والله أعلم بما ينزل) * معناه: والله أعلم بمصالح ما ينزل، فينزل كل وقت ما توجبه المصلحة، وقد تختلف المصالح باختلاف الأوقات، كما تختلف باختلاف الأجناس والصفات. * (قالوا إنما أنت مفتر) * أي: قال المشركون: إنما أنت كاذب على الله. قال ابن عباس: كانوا يقولون يسخر محمد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وغدا يأمرهم بأمر، وإنه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أي: لا يعلمون أنه من عند الله، أو لا يعلمون جواز النسخ، ولأي سبب ورد النسخ. * (قل) * يا محمد * (نزله روح القدس) * أي: أنزل الناسخ جبرائيل عليه السلام * (من ربك بالحق) * أي: بالأمر الحق الصحيح الثابت * (ليثبت الذين آمنوا) * بما فيه من الحجج والآيات، فيزدادوا تصديقا ويقينا. ومعنى تثبيته: استدعاؤه لهم بألطافه، ومعونته إلى الثبات على الإيمان، والطاعة * (وهدى) * أي: وهو هدى، فيكون * (هدى) * خبر مبتدأ محذوف. * (وبشرى للمسلمين) * أي: بشارة لهم بالجنة والثواب * (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) * يقول سبحانه: إنا نعلم أن الكفار يقولون إن القرآن ليس من عند الله، و إنما يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر. قال ابن عباس: قالت قريش: إنما يعلمه بلعام، وكان قينا بمكة، روميا نصرانيا، وقال الضحاك: أراد به سلمان الفارسي (ره)، قالوا: إنه يتعلم القصص منه. وقال مجاهد، وقتادة: أرادوا به عبدا لبني الحضرمي روميا، يقال له يعيش، أو عائش، صاحب كتاب، أسلم وحسن إسلامه. وقال عبد الله بن مسلم: كان غلامان في الجاهلية نصرانيان، من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار، واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرآن كتابا لهما بلسانهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما مر بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما. ثم ألزمهم الله تعالى الحجة، وأكذبهم، بأن قال * (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) * أي: لغة الذي يضيفون إليه التعليم، ويميلون إليه القول، أعجمية، ولم يقل عجمي، لأن العجمي: هو المنسوب إلى العجم، وإن كان فصيحا. والأعجمي: هو الذي لا يفصح، وإن كان عربيا، ألا ترى أن سيبويه كان عجميا، وإن كان لسانه لسان اللغة العربية. وقيل: يلحدون إليه: يرمون إليه، ويزعمون أنه
[ 201 ]
يعلمك أي: لسان هذا البشر الذي يزعمون أنه يعلمك أعجمي، لا يفصح، ولا يتكلم بالعربية، فكيف يتعلم منه ما هو في أعلى طبقات البيان ؟ * (وهذا) * القرآن * (لسان عري مبين) * أي: ظاهر بين، لا يشكك، يعني إذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله، وهو بلغتهم، فكيف يأتي الأعجمي بمثله ؟ قال الزجاج: وصفه بأنه عربي أي: صاحبه يتكلم بالعربية. ثم اتبع سبحانه هذه الآية بذكر الوعيد للكفار على ما قالوه، فقال: * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) * أي: بحجج الله التي أظهرها، والمعجزات التي صدق بها قومك يا محمد * (لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم) * أي: لا يثبتهم الله على الإيمان، أو لا يهديهم إلى طريق الجنة، بدلالة أنه إنما نفى هداية من لا يؤمن. فالظاهر أنه أراد بذلك الهدى الذي يكون ثوابا على الإيمان، لا الهداية التي في قوله * (فأما ثمود فهديناهم) *. ثم بين سبحانه أن هؤلاء هم المفترون، فقال: * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) * أي إنما يخترع الكذب الذين لا يصدقون بدلائل الله تعالى، دون من آمن بها، لأن الإيمان يحجز عن الكذب * (وأولئك هم الكاذبون) * لا أنت يا محمد. فحصر فيهم الكذب بمعنى أن الكذب لازم لهم، وعادة من عاداتهم. وهذا ما تقول: كذبت، وأنت كاذب، فيكون قولك أنت كاذب، زيادة في الوصف بالكذب. وفي الآية زجر عن الكذب حيث أخبر سبحانه أنه إنما يفتري الكذب من لا يؤمن. وقد روي مرفوعا أنه قيل: يا رسول الله ؟ المؤمن يزني ؟ قال: قد يكون ذلك. قيل يا رسول الله المؤمن يسرق ؟ قال: قد يكون ذلك. قيل: يا رسول الله المؤمن يكذب ؟ قال: لا، ثم قرأ هذه الآية. النظم: قيل في اتصال قوله: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * بما تقدم وجهان أحدهما أنه من تمام صفة أولياء الشيطان المذكورين في قوله * (على الذين يتولونه) * وتقديره يتولون الشيطان، ويشركون بالآية المنزلة، ويقولون عند تبديل الآية مكان الآية الأخرى * (إنما أنت مفتر) * والآخر أن الآية منقطعة عما قبلها، وهي معطوفة على الآي المتقدمة التي فيها وصف أفعال الكافرين، والأول أوجه. * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم
[ 202 ]
عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الأخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لاجرم أنهم في الأخرة هم الخاسرون (109) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110)) *. القراءة: قرأ ابن عامر * (فتنوا) * بفتح الفاء، والتاء والباقون * (فتنوا) * بضم الفاء، وكسر التاء. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ * (فتنوا) * أن الآية في المستضعفين المقيمين الذين كانوا بمكة، وهم صهيب، وعمار، وبلال، فتنوا وحملوا على الإرتداد عن دينهم، فمنهم من أعطى التقية، وعمار منهم، فإنه ممن أظهر ذلك تقية، ثم هاجر. ومن قرأ * (فتنوا) * فيكون على معنى فتن نفسه بإظهار ما أظهر من التقية، فكأنه يحكي الحال التي كانوا عليها من إظهار ما أخذوا به من التقية، لأن الرخصة فيه لم تكن نزلت بعد وهي قوله * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *، إلى قوله: * (إلا المستضعفين) *، وقوله: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *. الاعراب: قال الزجاج: قوله * (من كفر بالله) * في موضع رفع عل البدل من الكاذبين، وهو تفسير للكاذبين. ولا يجوز أن يكون رفعا بالإبتداء، لأنه لا خبر هاهنا للإبتداء، فإن قوله * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * ليس بكلام تام. وقوله: * (فعليهم غضب من الله) * خبر قوله * (من شرح بالكفر صدرا) * وقال الكوفيون: من كفر شرط، وجوابه يدل عليه جواب من شرح، فكأنه قيل: من كفر فعليه غضب من الله. وهذا كقوله من يأتنا فمن يحسن نكرمه، فجواب الأول محذوف. وقوله: * (إنهم في الآخرة هم الخاسرون) * يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون قوله * (لا) * من * (لا جرم) *، ردا للكلام، والمعنى: وجب أنهم.
[ 203 ]
ويجوز أن يكون في موضع نصب على أن يكون المعنى: جرم فعلهم هذا، أنهم الخاسرون. وتكون * (لا) * مزيدة. ويجوز أن يكون معناه لابد أنهم، فيكون على حذف الجار أي: لا بد من ذلك: * (ثم إن ربك) * خبر أن. قوله: * (غفور رحيم) * وهذا من باب ما جاء في التنزيل ان فيه مكررا، وكذلك الآية التي تأتي بعد ثم * (إن ربك للذين عملوا السوء) * الآية. النزول: قيل نزل قوله: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * في جماعة أكرهوا وهم: عمار، وياسر أبوه، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب، عذبوا وقتل أبو عمار وأمه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال قوم: كفر عمار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم ما وراءك فقال شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه، ويقول: إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت ! فنزلت الآية، عن ابن عباس، وقتادة وقيل: نزلت في أناس من أهل مكة، آمنوا وخرجوا، يريدرن المدينة، فأدركهم قريش، وفتنوهم فتكلموا بكلمة الكفر كارهين، عن مجاهد. وقيل: إن ياسرا وسمية أبوي عمار، أول شهيدين في الإسلام. وقوله * (من كفر بالله) *، و * (من شرح بالكفر صدرا) * وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي. وأما قوله * (ثم إن ربك للذين هاجروا) * الآية. فقيل: إنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أخي أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن المغيرة، وغيرهم من أهل مكة، فتنهم المشركون، فأعطوهم بعض ما أرادوا. ثم إنهم هاجروا بعد ذلك، وجاهدوا، فنزلت الآية فيهم. المعنى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه) * اختلف في تقديره، فقيل: إن تقديره وتلخيص معناه من كفر بالله بأن يرتد عن الإسلام، وشرح بالكفر صدرا، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم * (إلا من أكره) * فتكلم بكلمة الكفر على وجه التقية مكرها. * (وقلبه مطمئن) * أي: ساكن * (بالإيمان) * ثابت عليه، فلا حرج عليه في ذلك. وقيل: انه يتصل بما تقدم فمعناه: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه. ثم استثنى من ذلك من أكره على ذلك، وكان مطمئن القلب إلى الإيمان
[ 204 ]
في باطنه، فإنه بخلافه. * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) * أي: من اتسع قلبه للكفر، وطابت نفسه به * (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * وله العذاب في الآخرة. ثم أشار سبحانه إلى العذاب العظيم، فقال: * (ذلك بأنه استحبوا) * أي: آثروا * (الحياة الدنيا) * والتلذذ فيها، والركون إليها * (على الآخرة) * عنى بذلك أنهم فعلوا ما فعلوه للدنيا، طلبا لها، دون طلب الآخرة * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) * قد سبق معناه * (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) * قد سبق معنى الطبع على القلوب، والسمع، والأبصار، في سورة البقرة * (وأولئك هم الغافلون) * وصفهم بعموم الغفلة، مع أن الخواطر تزعجهم لجهلهم عما يؤدي إليه حالهم في الآخرة. وقيل: أراد أنهم بمنزلة الغافلين، فيكون تهجينا لهم، وذما. ثم قال: * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * هذا تأكيد لحكم الخسار عليهم، يعني أنهم هم المغبونون إذ حرموا الجنة ونعيمها، وعذبوا في النار * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) * أي عذبوا في الله، وارتدوا على الكفر، فأعطوهم بعد ما أرادوا، ليسلموا من شرهم * (ثم جاهدوا) * مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم * (وصبروا) * على الدين، والجهاد * (إن ربك من بعدها) * أي: من بعد تلك الفتنة، أو تلك الفعلة التي فعلوها من التفوه بكلمة الكفر * (لغفور رحيم) *. النظم: واتصلت هذه الآية الأخيرة بقوله: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، فبين سبحانه حالهم بعدما تخلصوا من المشركين، وهاجروا وجاهدوا، عن أبي مسلم، وقيل إنه لما تقدم ذكر الخاسرين، أتبعه سبحانه بذكر من ربحت صفقته، وهو من هاجر وجاهد. * (* يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111) وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذ هم العذاب وهم ظالمون (113) فكلوا مما رزقكم الله
[ 205 ]
حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115)) *. القراءة: قرأ عباس بن الفضل عن أبي عمرو: * (والخوف) * بالنصب. والباقون بالجر. وفي الشواذ قراءة الأعرج، وابن يعمر، وابن إسحاق، وعمرو بن نعيم بن ميسرة: * (لما تصف ألسنتكم الكذب) * بالجر. وقراءة مسلم بن محارب: * (الكذب) *. الحجة: من قرأ * (والخوف) * بالنصب فإنه حمله على الإذاقة، والخوف لا يذاق على الحقيقة، فحمله على اللباس أولى. وقوله * (والكذب) * بالجر، يكون على البدل من ما تصف. وأما * (الكذب) * فهو وصف الألسنة، وهو جمع كاذب، أو كذوب. اللغة: الأنعم: جمع نعمة، فهو مثل شدة وأشد. وقيل: إن واحدها نعم، فهو كغصن وأغصن. وقيل: واحدها نعماء، فيكون كبأساء وأبؤس وقوله * (أذاقها الله) * استعارة، تقول العرب إركب هذا الفرس وذقه أي: اختبره. قال الشماخ: فذاق فأعطته من اللين جانبا كفى ولها أن يغرق السهم حاجز (1) يصف قوسا. وقال الآخر: وإن الله ذاق حلوم قيس فلما راء خفتها قلاها (2) الاعراب: * (يوم تأتي) * منصوب على أحد شيئين: إما على معنى ربك لغفور رحيم يوم تأتي، وإما أن يكون على معنى العظة والتذكير أي: اذكر يوم تأتي، عن الزجاج. المعنى: * (يوم تأتي كل نفس) * أراد به يوم القيامة * (تجادل عن نفسها) * أي: (1) أغرق السهم: بالغ في نزعه وقوله: (حاجز). أي: لها حاجز يمنع من إغراق أي: فيها لين وشدة. وفي المنقول، عن الأساس: (لها ولها أن يغرق ا ه‍). وفي اللسان: (أن يغرق النبل). (2) راء لغة في رأى. (*)
[ 206 ]
تخاصم الملائكة عن نفسها، وتحتج بما ليس فيه حجة، وتقول: والله ربنا ما كنا مشركين. ويقول أتباعهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ويحتمل أن يكون المراد أنها تحتج عن نفسها بما تقدر به إزالة العقاب عنها * (وتوفى كل نفس ما عملت) * أي: جزاء ما عملت من خير وشر * (وهم لا يظلمون) * في ذلك * (وضرب الله مثلا قرية) * أي: مثل قرية * (كانت آمنة) * أي: ذات أمن، يأمن فيها أهلها، لا يغار عليهم * (مطمئنة) * قارة ساكنة بأهلها، لا يحتاجون إلى الإنتقال عنها بخوف، أو ضيق. * (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) * أي يحمل إليها الرزق الواسع من كل موضع، ومن كل بلد، كما قال سبحانه: * (يجبى إليه ثمرات كل شئ) * * (فكفرت بأنعم الله) * أي فكفر أهل تلك القرية بأنعم الله، ولم يؤدوا شكرها * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) * أي: فأخذهم الله بالجوع والخوف بصنيعهم، وسوء فعالهم. وسمى أثر الجوع والخوف لباسا، لأن أثر الجوع والهزال يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس. وقيل: لأنهم شملهم الجوع والخوف، كما يشمل اللباس البدن. وقيل: إن هذه القرية هي مكة، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا القد والعلهز، وهو الوبر، يخلط بالدم، والقراد، ثم يؤكل، وهم مع ذلك خائفون وجلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، يغيرون عليهم قوافلهم، ذلك حين دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعل عليهم سنين كسني يوسف. وقيل إنها قرية كانت قبل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بعث الله إليهم نبيا، فكفروا بذلك النبي وقتلوه، فعذبهم الله بعذاب الإستئصال * (ولقد جاءهم رسول منهم) * يعني أهل مكة، بعث الله عليهم رسولا من صميمهم، ليتبعوه، لا من غيرهم * (فكذبوه) * وجحدوا نبوته * (فأخذهم العذاب وهم ظالمون) * أي: في حال كونهم ظالمين، وعذابهم ما حل بهم من الجوع والخوف المذكورين في الآية المتقدمة، وما نالهم يوم بدر وغيره، من القتل. ومن قال: إن المراد بالقرية غير مكة، قال: هذه صورة القرية المذكورة. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: * (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) * صيغته صيغة الأمر، والمراد به الإباحة، أي: كلوا مما أعطاكم الله من الغنائم، وأحلها لكم * (واشكروا نعمة الله) * فيما خلقه لكم، وأحله
[ 207 ]
لكم * (إن كنتم إياه تعبدون) * وهذه الآية مع التي بعدها مفسرة في سورة البقرة (1). * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالا وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب أليم (117) وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119)) *. الاعراب: * (متاع قليل) *: خبر مبتدأ محذوف، وتقديره متاعهم بهذا الذي فعلوه متاع قليل. وتم الكلام عند قوله * (لا يفلحون) *. المعنى: لما تقدم ذكر ما أحله الله سبحانه لهم، وحرمه عليهم، عقبه سبحانه بالنهي عن مخالفة أوامره ونواهيه في التحليل والتحريم، فقال: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) * وتقديره لوصف ألسنتكم الكذب * (هذا حلال وهذا حرام) * أي: لا تقولوا لما حللتموه بأنفسكم مثل الميتة، هذا حلال، ولما حرمتموه مثل السائبة، هذا حرام * (لتفتروا على الله الكذب) * أي: لتكذبوا على الله في إضافة التحريم إليه * (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * أي: لا ينجون من عذاب الله، ولا ينالون خيرا * (متاع قليل) * معناه: الذين هم فيه من الدنيا بشئ قليل، ينتفعون به أياما قلائل * (ولهم عذاب أليم) * في الآخرة. * (وعلى الذين هادوا) * يعني اليهود * (حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * يعني بذلك ما ذكره في سورة الأنعام من قوله: * (على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) * الآية عن الحسن، وقتادة وعكرمة، وعنى بقوله من قبل نزول هذه الآية، لأن ما في سورة الأنعام نزل قبل هذه الآية، * (وما ظلمناهم) * بتحريم ذلك عليهم * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * بالعصيان والكفر ينعم الله تعالى، والجحود بأنبيائه. (1) راجع الجزء الأول من هذه الطبعة. (*)
[ 208 ]
واستحقوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم، لتغيير المصلحة عند كفرهم وعصيانهم. ثم ذكر سبحانه التائبين بعد تقدم الوعد والوعيد، فقال: * (ثم إن ربك) * الذي خلقك يا محمد * (للذين عملوا السوء) * أي: المعصية * (بجهالة) * أي: بداعي الجهل، فإنه يدعو إلى القبيح، كما أن داعي العلم يدعو إلى الحسن. وقيل: بجهالة السيئات، أو بجهالتهم للعاقبة. وقيل: بجهالة أنها سوء. وقيل: الجهالة هو أن يعجل بالإقدام عليها، ويعد نفسه التوبة عنها. * (ثم تابوا) * عن تلك المعصية * (من بعد ذلك وأصلحوا) * نياتهم، وأفعالهم * (إن ربك من بعدها) * أي: من بعد التوبة، أو الجهالة، أو المعصية * (لغفور رحيم) * وأعاد قوله * (إن ربك) * للتأكيد، وليعود الضمير في قوله من بعدها إلى الفعلة. النظم: إنما إتصل قوله * (وعلى الذين هادوا) * * (وحرمنا ما قصصنا عليك) * بما تقدم ذكره من التحريم والتحليل، ليبين أن ما كانوا يحرمونه ويحللونه بزعمهم، ليس في التوراة، كما أنه ليس ذلك في القرآن. وقيل: ليبين أنه إذا لم يحرم على اليهود جميع الطيبات بعصيانهم، فكيف يحرم على المسلمين ذلك. * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وءاتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الأخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (124)) *. المعنى: * (إن إبراهيم كان أمة) * اختلف في معناه، فقيل: قدوة ومعلما للخير. قال ابن الأعرابي: يقال للرجل العالم أمة، وهو قول أكثر المفسرين، وقيل: أراد إمام هدى، عن قتادة وقيل: سماه أمة لأن قوام الأمة كان به وقيل: لأنه قام بعمل أمته وقيل لأنه انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا وحده، والناس كفارا، عن مجاهد * (قانتا لله) * أي: مطيعا له، دائما على عبادته، عن ابن مسعود. وقيل: مصليا عن الحسن * (حنيفا) * أي: مستقيما على الطاعة، وطريق الحق، وهو الإسلام * (ولم يك من المشركين) * بل كان موحدا * (شاكرا لأنعمه) * أي: لأنعم الله، معترفا
[ 209 ]
بها * (اجتباه) * الله أي: اختاره الله، واصطفاه * (وهداه إلى صراط مستقيم) * أي: دله إلى الدين المستقيم وهو الإسلام والتوحيد. * (وآتيناه) * أي: أعطيناه * (في الدنيا حسنة) * أي: نعمة سابغة في نفسه، وفي أولاده، وهو قول هذه الأمة: كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. وقيل: هي النبوة والرسالة، عن الحسن، وقيل هي أنه ليس أهل دين إلا وهو يرضاه ويتولاه، عن قتادة. وقيل: هي تنويه الله بذكره بطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، حتى صار إماما يقتدى به، ويهتدى بهداه، وقيل: هي إجابة الله دعوته حتى أكرم بالنبوة ذريته * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * ولم يقل لفي أعلى منازل الصالحين، مع اقتضاء حاله ذلك، ترغيبا في الصلاح، فإنه عز اسمه بين أنه عليه السلام من جملة الصالحين، مع علو رتبته، وشرف منزلته تشريفا لهم، وتنويها بذكر من هو منهم، وناهيك بهذا الترغيب في الصلاح، وبهذا المدح لإبراهيم عليه السلام أن يشرف جملة هو منها حتى يصير الإستدعاء إليها بأنه فيها. * (ثم أوحينا إليك) * يا محمد * (أن اتبع ملة إبراهيم) * أي أمرناك باتباع ملة إبراهيم * (حنيفا) * أي: مستقيم الطريقة في الدعاء إلى توحيد الله، وخلع الأنداد له، وفي العمل بسنته * (وما كان) * إبراهيم * (من المشركين) * ومتى قيل: إن نبينا كان أفضل منه فكيف أمر الفاضل باتباع المفضول ؟ فجوابه: إن إبراهيم عليه السلام سبق إلى اتباع الحق، ولا يكون في سبق المفضول إلى متابعة الحق زراية على الفاضل في اتباعه * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * معناه: إنما جعل السبت لعنة ومسخا على الذين اختلفوا فيه وحرموه، ثم استحلوه، فلعنهم الله ومسخهم، عن الحسن ويجوز أن يكون اختلافهم فيه أنهم نهوا عن الصيد فيه فنصبوا الشباك يوم الجمعة، ودخل فيه السمك يوم السبت، وأخذوه يوم الأحد. وقيل: معناه إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا في أمر الجمعة، وهم اليهود، وكانوا قد أمروا بتعظيم الجمعة، فعدلوا عما أمروا به، عن مجاهد، وابن زيد. وقيل: إن الذين اختلفوا فيه هم اليهود والنصارى، قال بعضهم: السبت أعظم الأيام، لأن الله سبحانه فرغ فيه من خلق الأشياء. وقال الآخرون: بل الأحد أعظم لأنه ابتدأ بخلق الأشياء فيه، فهذا اختلافهم * (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * من أمور دينهم، ويفصل بين المحق والمبطل منهم.
[ 210 ]
النظم: وجه اتصال الآية الأخيرة بما قبلها أنه لما أمر سبحانه باتباع الحق حذر من الإختلاف فيه، بما ذكر من أحوال المختلفين في السبت، كيف شدد عليهم فرضه، وضيق عليهم أمره. وقيل: إنه سبحانه رد على اليهود والنصارى دعوتهم أن إبراهيم كان منهم، ثم رد عليهم في هذه الآية ما أوجبوه من تعظيم أمر السبت، وأنه لا يجوز نسخه، كما رد علهيم ذلك، عن أبي مسلم. * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) *. القراءة: قرأ ابن كثير وحده: * (في ضيق) * بكسر الضاد. وكذلك في النمل. والباقون بفتح الضاد. الحجة: قال الزجاج: من فتح أراد ضيق، فخفف مثل سيد، وهين، ولين، ويجوز أن يكون بمعنى الضيق، فيكون مصدرا. قال أبو الحسن: الضيق والضيق لغتان في المصدر. قال أبو علي: ينبغي أن يحمل على أنه مصدر، لأنك إذا حملته على أنه مخفف من ضيق، فقد أقمت الصفة مقام الموصوف من غير ضرورة. والمعنى: لا تكن في ضيق أي: لا يضيق صدرك من مكرهم، كما قال * (وضائق به صدرك) * وليس المراد لا تكن في أمر ضيق، قال أبو عبيدة: الضيق بالكسر: في المعاش والمسكن. والضيق بالفتح: في القلب. وقال علي بن عيسى يقال في صدري ضيق من هذا الأمر بالفتح، وهو أكثر من الكسر. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه بالدعاء إلى الحق، فقال: * (ادع إلى سبيل ربك) * أي: ادع إلى دينه لأنه الطريق إلى مرضاته * (بالحكمة) *: أي بالقرآن وسمي القرآن حكمة، لأنه يتضمن الأمر بالحسن، والنهي عن القبيح. وأصل الحكمة: المنع، ومنه حكمة اللجام. وإنما قيل لها حكمة، لأنها بمنزلة المانع من
[ 211 ]
الفساد، وما لا ينبغي أن يختار. وقيل: إن الحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح، والصلاح والفساد، لأن بمعرفة ذلك يقع المنع من الفساد، والإستعمال للصدق والصواب في الأفعال والأقوال. * (والموعظة الحسنة) * معناه الوعظ الحسن، وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه، والتزهيد في فعله، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع. وقيل: إن الحكمة هي النبوة، والموعظة الحسنة مواعظ القرآن، عن ابن عباس. * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * أي: ناظرهم بالقرآن، وبأحسن ما عندك من الحجج، وتقديره بالكملة التي هي أحسن. والمعنى: اقتل المشركين واصرفهم عما هم عليه من الشرك، بالرفق والسكينة، ولين الجانب في النصيحة، ليكونوا أقرب إلى الإجابة فإن الجدل هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه، كما جاء في الحديث: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم). * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) * أي: عن دينه * (وهو أعلم بالمهتدين) * أي: القابلين للهدى، وهو يأمرك في الفريقين بما فيه الصلاح * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * معناه: وإن أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة والمكافأة، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به، ولا تزيدوا عليه، وقالوا: إن المشركين لما مثلوا بقتلى أحد، وبحمزة بن عبد المطلب، فشقوا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة كبده، فجعلت تلوكه، وجدعوا أنفه وأذنه، وقطعوا مذاكيره، قال المسلمون: لئن أمكنا الله منهم لنمثلن بالأحياء، فضلا عن الأموات، فنزلت الآية عن الشعبي، وقتادة، وعطا بن يسار. وقيل: إن الآية عامة في كل ظلم، كغصب أو نحوه، فإنما يجازى بمثل ما عمل، عن مجاهد، وابن سيرين، وإبراهيم. وقال الحسن: نزلت الآية قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بقتال المشركين على العموم، وأمر بقتال من قاتله، ونظيره قوله * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) *، * (ولئن صبرتم) * أي: تركتم المكافأة والقصاص، وجرعتم مرارته * (لهو خير للصابرين) * معناه: الصبر خير وأنفع للصابرين، لما فيه من جزيل الثواب. * (واصبر) * يا محمد فيما تبلغه من الرسالة، وفيما تلقاه من الأذى. وقيل: معناه إصبر على ما يجب الصبر عليه، وعما يجب الصبر عنه * (وما صبرك إلا
[ 212 ]
بالله) * أي: وليس صبرك إلا بتوفيق الله، وإقداره، وتيسيره، وترغيبه فيه * (ولا تحزن عليهم) * أي: ولا تحزن على المشركين في إعراضهم عنك، فإنه يكون الظفر والنصرة لك عليهم، ولا عتب عليك في إعراضهم، فقد بلغت ما أمرت به وقضيت ما عليك. وقيل: معناه ولا تحزن على قتلى أحد، فإن الله تعالى فد نقلهم إلى ثوابه، وكرامته * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * أي: ولا يكن صدرك في ضيق من مكرهم بك، وبأصحابك فإن الله سبحانه يرد كيدهم في نحورهم، ويحفظكم من شرورهم، * (إن الله مع الذين اتقوا) * الشرك، والفواحش، والكبائر، بالنصرة، والحفظ، والكلاءة * (و) * مع * (الذين هم محسنون) * قال الحسن: اتقوا ما حرم عليهم، وأحسنوا فيما فرض عليهم.
[ 213 ]
17 - سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة هي مكية كلها. وقيل: مكية إلا خمس آيات * (ولا تقتلوا النفس) *، الآية * (ولا تقربوا الزنى) *، الآية * (أولئك الذين يدعون) *، الآية * (أقم الصلاة) *، الآية * (وآت ذا القربى حقه) * الآية، عن الحسن وقيل: مكية إلا ثماني آيات: * (وإن كادوا ليفتنونك) * إلى قوله * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * الآية عن قتادة، والمعدل عن ابن عباس. عدد آيها: مائة وإحدى عشرة آية كوفي، وعشر آيات في الباقين. اختلافها: آية * (للأذقان سجدا) * كوفي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: من قرأ سورة بني إسرائيل، فرق قلبه عند ذكر الوالدين، أعطي في الجنة قنطارين من الأجر، والقنطار: ألف أوقية ومائتا أوقية. والأوقية منها خير من الدنيا وما فيها. وروى الحسن بن أبي العلاء، عن الصادق عليه السلام أنه قال: من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة، لم يمت حتى يدرك القائم، ويكون من أصحابه. تفسيرها: ختم الله تعالى سورة النحل بذكر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وافتتح سورة بني إسرائيل أيضا بذكره، وبيان إسرائه إلى المسجد الأقصى، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير (1) وءاتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبنى إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)) *.
[ 214 ]
القراءة: قرأ أبو عمرو وحده: * (ألا يتخذوا) * بالياء والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ بالياء فلأن ما تقدمه على لفظ الغيبة، والمعنى: هديناهم لأن لا يتخذوا. ومن قرأ بالتاء فللإنصراف من الغيبة إلى الخطاب، كما في قوله * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) * ثم قال: * (إياك نعبد) * والضمير في * (ألا تتخذوا) * وإن كان على لفظ الخطاب، فإنما يعني به الغيب في المعنى. الاعراب: * (سبحان) *: منصوب على المصدر على معنى أسبح لله تسبيحا. قال. أبو علي: من زعم أن ألا تتخذوا على إضمار القول، فكأنه يراد قال أن لا تتخذوا، لم يكن قوله هذا مستقيما، وذلك لأن القول لا يخلو من أن يكون بعده جملة تحكى، أو معنى جملة يعمل فيه لفظ القول، فالأول كقوله: قال زيد عمرو منطلق، فموضع الجملة نصب بالقول والآخر: نحو أن يقول القائل: لا إله إلا الله، فتقول قلت حقا. أن يقول: الثلج حار، فتقول، قلت باطلا. فهذا معنى ما قاله، وليس نفس المقول. وقوله * (أن لا تتخذوا) * خارج من هذين الوجهين، ألا ترى أن لا تتخذوا ليس هو القول، كما أن قولك حقا إذا سمعت كلمة الإخلاص بمعنى القول، وليس قوله أن لا تتخذوا الجملة، فيكون كقولك: قال زيد عمرو منطلق. ويجوز أن تكون * (أن) * بمعنى أي التي للتفسير، وانصرف الكلام في الغيبة إلى الخطاب كما انصرف منها إلى الخطاب في قوله * (وانطلق الملأ منهم أن امشوا في الأمر) * فكذلك انصرف في الغيبة إلى الخطاب في النهي في * (أن لا تتخذوا) * وكذلك قوله: * (ان اعبدوا الله ربي وربكم) * في وقوع الأمر بعد الخطاب. ويجوز أن يضمر القول، ويحمل * (يتخذوا) * على القول المضمر، إذا جعلت * (أن) * زائدة، فيكون التقدير: وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وقلنا: لا تتخذوا. فيجوز إذا في قوله * (ألا تتخذوا) * ثلاثة أوجه أحدها: أن تكون * (أن) * الناصبة للفعل، فيكون المعنى وجعلناه هدى كراهة أن يتخذوا من دوني وكيلا، أو لأن لا يتخذوا والآخر: أن يكون بمعنى أي، لأنه بعد كلام تام، فيكون التقدير أي لا تتخذوا والثالث: أن تكون * (أن) * زائدة، ويضمر القول. فأما قوله * (ذرية من حملنا) * فإنه يجوز أن يكون مفعول الإتخاذ لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، وأفرد الوكيل، وهو في معنى الجمع، لأن فعيلا يكون مفردا للفظ، والمعنى على الجمع
[ 215 ]
نحو قوله * (وحسن أولئك رفيقا) * فإذا حمل على هذا، كان مفعولا ثانيا في قراءة من قرأ بالتاء والياء. ويجوز أن يكون نداء، وذلك على قراءة من قرأ بالتاء، لأن النداء للخطاب. ولو رفع * (ذرية) * على البدل من الضمير المرفوع في * (أن لا تتخذوا) * كان جائزا، ويكون التقدير ألا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا. ولو جعلته مجردا بدلا من قولك بني إسرائيل، جاز، وكان التقدير: وجعلناه هدى لذرية من حملنا مع نوح. النزول: قيل: نزلت الآية في إسرائه، وكان ذلك بمكة. صلى المغرب في المسجد الحرام. ثم أسري به في ليلته. ثم رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام. فأما الموضع الذي أسري إليه أين كان: فإن الإسراء إلى بيت المقدس، وقد نطق به القرآن، ولا يدفعه مسلم. وما قاله بعضهم: إن ذلك كان في النوم، فظاهر البطلان، إذ لا معجز يكون فيه، ولا برهان. وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، إلى السماء، ورواه كثير من الصحابة مثل ابن عباس، وابن مسعود، وأنس، وجابر بن عبد الله، وحذيفة، وعائشة، وأم هاني، وغيرهم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزاد بعضهم ونقص بعض. وتنقسم جملتها إلى أربعة أوجه أحدها: ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به، وإحاطة العلم بصحته وثانيها: ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول، ولا تأباه الأصول، فنحن نجوزه، ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول، إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوله على ما يطابق الحق والدليل ورابعها: ما لا يصح ظاهره، ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد، فالأولى أن لا نقبله. فأما الأول المقطوع به: فهو أنه أسري به على الجملة. وأما الثاني: فمنه ما روي أنه طاف في السماوات ورأى الأنبياء، والعرش، والسدرة المنتهى، والجنة والنار، ونحو ذلك. وأما الثالث: فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها، وقوما في النار يعذبون فيها، فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم. وأما الرابع: فنحو ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم، كلم الله سبحانه جهرة، ورآه، وقعد معه على سريره، ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه يتقدس عن ذلك، وكذلك ما روي أنه شق بطنه وغسله، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم، كان طاهرا مطهرا من كل سوء
[ 216 ]
وعيب، وكيف يطهر القلب وما فيه من الإعتقاد بالماء. فمن جملة الأخبار الواردة في قصة المعراج ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتاني جبرائيل عليه السلام وأنا بمكة، فقال: قم يا محمد. فقمت معه، وخرجت إلى الباب، فإذا بجبرائيل، ومعه ميكائيل، وإسرافيل. فأتى جبرائيل عليه السلام بالبراق، وكان فوق الحمار ودون البغل، خده كخد الإنسان، وذنبه كذنب البقر، وعرفه كعرف الفرس، وقوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنة، وله جناحان من فخذيه، خطوه منتهى طرفه، فقال: إركب. فركبت ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس. ثم ساق الحديث إلى أن قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس، إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة، وصليت في بيت المقدس، وفي بعضها بشر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء. ثم وصف موسى وعيسى. ثم أخذ جبرائيل عليه السلام بيدي إلى الصخرة، فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا، فصعدت إلى السماء الدنيا، ورأيت عجائبها وملكوتها، وملائكتها يسلمون علي. ثم صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية، فرأيت فيها عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فرأيت فيها يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فرأيت فيها إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فرأيت فيها هارون. ثم صعد بي إلى السماء السادسة، فإذا فيها خلق كثير، يموج بعضهم في بعض، وفيها الكروبيون. ثم صعد بي إلى السابعة. بأبصرت فيها خلقا وملائكة. وفي حديث أبي هريرة: رأيت في السماء السادسة موسى، ورأيت في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام، قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين، ووصف ذلك، إلى أن قال: ثم كلمني ربي وكلمته، ورأيت الجنة والنار، ورأيت العرش وسدرة المنتهى. ثم رجعت إلى مكة فلما أصبحت، حدثت به بالناس، فكذبني أبو جهل والمشركون، وقال مطعم بن عدي: أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة، أشهد أنك كاذب. قالوا: ثم قالت قريش: أخبرنا عما رأيت فقال: مررت بعير بني فلان، وقد أضلوا بعيرا لهم، وهم في طلبه، وفي رحلهم قعب (1) مملو من ماء، (1) القعب: القدح الضخم الغليظ. (*)
[ 217 ]
فشربت الماء، ثم غطيته كما كان. فسألوهم هل وجدوا الماء في القدح، قالوا: هذه آية واحدة. قال: ومررت بعير بني فلان، فنفرت بكرة فلان،. فانكسرت يدها، فسألوهم عن ذلك، فقالوا: هذه آية أخرى. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا ؟ قال: مررت بها بالتنعيم، وبين لهم إجمالها وهيئاتها. وقال: تقدمها جمل أورق، عليه قرارتان محيطتان، ويطلع عليكم عند طلوع الشمس. قالوا: هذه آية أخرى. ثم خرجوا يشتدون نحو التيه، وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بينا. وجلسوا ينتظرون حتى تطلع الشمس فيكذبوه. فقال قائل: والله إن الشمس قد طلعت. وقال آخر والله هذه الإبل قد طاعت، يقدمها بعير أورق، فبهتوا ولم يؤمنوا. وفي تفسير العياشي بالإسناد عن أبي بكر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى السماء الدنيا، لى يمر بأحد من الملائكة إلا استبشر، قال: ثم مر بملك حزين كئيب، فلم يستبشر به، فقال: يا جبرائيل ما مررت بأحد من الملائكة إلا استبشر بي إلا هذا الملك، فمن هذا ؟ فقال: هذا مالك خازن جهنم، وهكذا جعله الله. قال: فقال له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل ! اسأله أن يرينيها. قال: فقال جبرائيل عليه السلام: يا مالك: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شكا إلي. فقال: ما مررت بأحد من الملائكة إلا استبشر بي، إلا هذا، فأخبرته أن هكذا جعله الله، وقد سألني أن أسألك أن تريه جهنم ؟ قال: فكشف له عن طبق من أطباقها، قال: فما رئي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ضاحكا حتى قبض. وعن أبي بصير قال: سمعته يقول: إن جبرائيل احتمل رسول الله حتى انتهى به إلى مكان من السماء، ثم تركه وقال له: ما وطأ نبي قط مكانك. المعنى: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * سبحان كلمة تنزيه وإبراء لله، عز اسمه، عما لا يليق به من الصفات، وقد يراد به التعجيب، يعني: سبحان الذي سير عبده محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عجيب من قدرة الله تعالى، وتعجيب ممن لم يقدر الله حق قدره، وأشرك به غيره، وسرى بالليل، وأسرى بمعنى. وقد عدي هنا بالباء، والوجه في التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سببا للتسبيح صار التسبيح تعجبا، فقيل: سبح أي: عجب * (ليلا) * قالوا: كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة * (من المسجد الحرام) * وقال أكثر المفسرين: أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من دار أم هاني، أخت علي بن أبي طالب، وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي،
[ 218 ]
وكان صلى الله عليه وآله وسلم نائما تلك اليلة في بيتها، وإن المراد بالمسجد الحرام هنا: مكة، ومكة والحرم كلها مسجد. وقال الحسن، وقتادة: كان الإسراء من نفس المسجد الحرام. * (إلى المسجد الأقصى) * يعني بيت المقدس. وإنما قال الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام * (الذي باركنا حوله) * أي: جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار، والأثمار، والنبات، والأمن، والخصب، حتى لا يحتاجوا إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. وقيل: باركنا حوله أي: البركة فيما حوله بأن جعلناه مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة، عن مجاهد، وبذلك صار مقدسا عن الشرك، لأنه لما صار متعبدا للأنبياء، ودار مقام لهم، تفرق المشركون عنهم، فصار مطهرا من الشرك والتقديس التطهير، فقد اجتمع فيه بركات الدين والدنيا. * (لنريه من آياتنا) * أي: من عجائب حججنا، ومنها: اسراؤه في ليلة واحدة من مكة إلى هناك. ومنها: أن أراه الأنبياء واحدا بعد واحد وأن عرج به إلى السماء، وغير ذلك من العجائب التي أخبر بها الناس * (إنه هو السميع) * لأقوال من صدق بذلك، أو كذب * (البصير) * بما فعل من الإسراء، والمعراج * (وآتينا موسى الكتاب) * يعني التوراة * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * أي: وجعلنا التوراة حجة ودلالة، وبيانا وإرشادا، لبني إسرائيل يهتدون به * (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) * أي: أمرهم أن لا يتخذوا من دوني معتمدا يرجعون إليه في النوائب. وقيل: ربا يتوكلون عليه * (ذرية من حملنا مع نوح) * أي: أولاد من حملنا مع نوح في السفينة، فأنجيناه من الطوفان. وقد ذكرنا وجوه ذلك في الإعراب، وعلى هذا يدور المعنى * (إنه كان عبدا شكورا) * معناه: إن نوحا كان عبدا لله كثير الشكر، وكان إذا لبس ثوبا، أو أكل طعاما، أو شرب ماء، حمدالله، وشكر له، وقال: الحمدلله. وقيل: إنه كان يقول في ابتداء الأكل والشرب: بسم الله، وفي انتهائه: الحمدلله. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وأبي جعفر عليه السلام: إن نوحا كان إذا أصبح وأمسى، قال: اللهم إني أشهدك أن ما أصبح، أو أمسى بي من نعمة، في دين أو دنيا، فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد، ولك الشكر بها علي، حتى ترضى، وبعد الرضى. وهذا كان شكره. النظم: وجه اتصال قوله * (وآتينا موسى الكتاب) * بما قبله: أن المعنى فيه
[ 219 ]
سبحان الذي أسرى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأراه الآيات كلها، كما أرى موسى الآيات والمعجزات الباهرات، وقيل: إن معناه إن كونك نبيا ليس ببدع، فقد آتيناك الكتاب والحجج، كما آتينا موسى التوراة، فلم أقروا به، وأنكروا أمرك، والطريق فيهما واحد ؟ وقيل: إن معناه إنهم كفروا بموسى كما كفروا بما أخبرتهم به من إسرائك. * (وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجا سوا خلالا الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الأخرة ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8)) *. القراءة: * (ليسوء) * بفتح الهمزة شامي كوفي، غير حفص، إلا أن الكسائي يقرأ بالنون. والباقون: * (ليسوءوا) * بالياء، وضم الهمزة، على وزن ليسوعوا. وفي الشواذ قراءة ابن عباس: * (لتفسدن) * بضم التاء وفتح السين. وعيسى الثقفي: * (لتفسدن) * بفتح التاء، وضم السين. وقراءة علي عليه السلام: * (عبيدا لنا) * وقراءة أبي السماك: * (فحاسوا) * بالحاء. وقراءة أبي بن كعب: * (ليسوءا) * بالتنوين. الحجة: من قرأ * (ليسوء) * بالياء: ففاعل ليسو يجوز أن يكون أحد شيئين: إما اسم الله تعالى، لأن الذي تقدم بعثنا ورددنا لكم، وأمددناكم بأموال وبنين. وإما البعث، ودل عليه بعثنا المتقدم كقوله * (لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) * أي: البخل خيرا لهم. ومن قرأ * (لنسوء) * بالنون: كان في المعنى، كقول من قدر أن الفاعل ما تقدم من اسم الله تعالى، وجاز أن ينسب المساءة إلى الله تعالى، وإن كانت من الذين جاسوا خلال الديار في الحقيقة، لأنهم فعلوا المساءة بقوة الله تعالى، فجاز أن ينسب إليه. وأما قوله: * (ليسوؤا) * فمعناه: إذا جاء وعد الآخرة أي: وعد المرة الأخرى من قوله * (لتفسدن في الأرض مرتين) *
[ 220 ]
بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذف بعثناهم، لأن ذكره قد تقدم، والحجة في * (ليسوؤا) * أنه أشبه بما قبله وما بعده، ألا ترى أن قبله: ثم بعثناهم، وبعده: ليدخلوا المسجد الحرام، والمبعوثون في الحقيقة هم الذين يسوءونهم بقتلهم إياهم، وأسرهم لهم، فهو وفق المعنى. وقال * (وجوهكم) *، على أن الوجوه مفعول به * (ليسوء) * وعدي إلى الوجوه، لأن الوجوه قد يراد به ذو الوجوه، كقوله * (كل شئ هالك إلا وجهه) * وقوله * (وجوه يومئذ ناضرة) * و * (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) *، وقال النابغة: أقارع عوف، لا أحاول غيرها، وجوه قرود تبتغي من تجادع (1) وأما قراءة أبي: * (ليسوءا) * فالوجه فيه على قول ابن جني، أن يكون على حذف الفاء كما يقال إذ سألتني فلأ عطك، كأنك تأمر نفسك، ومعناه فلا عطينك. واللامان بعده للأمر أيضا، وهما وليدخلوا المسجد، وليتبروا، ويقوي ذلك أنه لم يأت لإذا جواب فيما بعد. وأما من قرأ * (لتفسدن) * و * (لتفسدن) * فإحدى القراءتين شاهدة للأخرى، لأن من أفسد فقد فسد. وأما * (حاسوا) * فمعناه معنى جلسوا بعينه. اللغة: القضاء: فصل الأمر على إحكام، ومنه سمي القاضي. ثم يستعمل بمعنى الخلق والإحداث، كما قال * (فقضاهن سبع سماوات) *. وبمعنى الإيجاب كما قال: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *. وبمعنى الإعلام والإخبار بما يكون من الأمر. وهو المعني هاهنا، وأصله الإحكام. والعلو الإرتفاع. وعلا فلان الشئ: إذا أطاقه، ويقال: علا في المكارم يعلى علا، فهو علي. وعلا في المكان يعلو علوا فهو عال. والجوس: التخلل في الديار، يقال: تركت فلانا يجوس بني فلان، ويجوسهم ويدوسهم أي: يطأهم. قال أبو عبيد: كل موضع خالطته ووطئته فقد حسته وجسته. قال حسان: ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر (2) وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء. والكرة: معناه الرجعة، والدولة. والنفير: العدد من الرجال، قال الزجاج: ويجوز أن يكون جمع نفر، كما قيل العبيد (1) جادعه مجادعة: شاتمه وشاره كأن كل واحد منها جدع أنف صاحبه. (2) العرض: الجيش الضخم. (*)
[ 221 ]
والضئين، والمعيز والكليب. ونفر الإنسان ونفره ونفيره ونافرته: رهطه الذين ينصرونه، وينفرون معه. والتتبير: الإهلاك. والتبار والهلاك والدمار واحد. وكل ما يكسر من الحديد والذهب تبر. والحصير: الحبس، ويقال للملك حصير، لأنه محجوب. قال لبيد: وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام (1) والحصير: البساط المرمول لحصر بعضه على بعض بذلك الضرب من النسج. المعنى: لما تقدم أمره سبحانه لبني إسرائيل، عقب ذلك بذكر ما كان منهم، وما جرى عليهم، فقال: * (وقضينا إلى بني إسرائيل) * أي: أخبرناهم، وأعلمناهم * (في الكتاب) * أي: في التوراة * (لتفسدن في الأرض مرتين) * أي: حقا لا شك فيه أن خلافكم سيفسدون في البلاد التي تسكنونها كرتين، وهي بيت المقدس. وأراد بالفساد: الظلم، وأخذ المال، وقتل الأنبياء، وسفك الدماء. وقيل: كان فسادهم الأول قتل زكريا، والثاني قتل يحيى بن زكريا، عن ابن عباس، وابن مسعود وابن زيد، قالوا: ثم سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف، ملكا من ملوك فارس، في قتل زكريا، وسلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر، وهو رجل خرج من بابل. وقيل: الفساد الأول قتل شعيا، والثاني قتل يحيى، وإن زكريا مات حتف أنفه، عن محمد بن إسحاق، قال: وأتاهم في الأول بخت نصر، وفي الثاني ملك من ملوك بابل. وقيل: كان الأول جالوت، فقتله داود عليه السلام، والثاني بخت نصر، عن قتادة. وقيل: انه سبحانه ذكر فسادهم في الأرض، ولم يبين ما هو، فلا يقطع على شئ مما ذكر، عن أبي علي الجبائي * (ولتعلن علوا كبيرا) * أي: ولتستكبرن، ولتظلمن الناس ظلما عظيما. والعلو: نطير العتو هنا، وهو الجرأة على الله تعالى، والتعرض لسخطه * (فإذا جاء وعد أولاهما) * معناه: فإذا جاء وقت أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما، والوعد هنا: بمعنى الموعود، ووضع المصدر موضع المفعول به أي: إذا جاء الوقت الموعود لإفسادكم في المرة الأولى * (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) * أي: سلطنا عليكم عبادا لنا أولي شوكة وقوة ونجدة، وخلينا بينكم (1) القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير، وغلب جمع أغلب: الغليظ الرقبة، وهم يصفون أبدا السادة بغلظ الرقبة وطولها. (*)
[ 222 ]
وبينهم، خاذلين لكم جزاء على كفركم وعتوكم، وهو مثل قوله * (أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) * عن الحسن. وقيل معناه أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم وجهادكم، لأن ظاهر قوله تعالى: * (عبادا لنا) *، وقوله: * (بعثنا) *، يقتضي ذلك، عن الجبائي. وقيل: يجوز أن يكونوا مؤمنين، أمرهم الله بجهاد هؤلاء. ويجوز أن يكونوا كافرين، فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء، وسلطهم على نظرائهم من الكفار والفساق، عن أبي مسلم. * (فجاسسوا خلال الديار) * أي: فطافوا وسط الديار يترددون وينظرون، هل بقي منهم أحد لم يقتلوه، عن الزجاج. * (وكان وعدا مفعولا) * أي موعودا كائنا لا خلف فيه * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) * أي: رددنا لكم يا بني إسرائيل الدولة، و أظهرناكم عليهم، وعاد ملككم على ما كان عليه * (وأمددناكم بأموال وبنين) * أي: وأكثرنا لكم أموالكم وأولادكم، ورددنا لكم العدة والقوة * (وجعلناكم أكثر نفيرا) * أي: أكثر عددا وأنصارا من أعدائكم * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) * معناه: إن أحسنتم في أقوالكم وأفعالكم، فنفع إحسانكم عائد عليكم، وثوابه واصل إليكم، تنصرون على أعدائكم في الدنيا، وتثابون في العقبى. * (وإن أسأتم فلها) * معناه: وإن أسأتم فقد أساتم إلى أنفسكم أيضا، لأن مضرة الإساءة عائدة إليها، وإنما قال * (فلها) * على وجه التقابل، لأنه في مقابلة قوله * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) * كما يقال أحسن إلى نفسه، ليقابل أساء إلى نفسه، ولأن معنى قولك أنت منتهى الإساءة، وأنت المختص بالإساءة، متقارب. فلذلك وضع اللام موضع إلى. وقيل: إن قوله * (فلها) * بمعنى فعليها، كقوله تعالى: * (لهم اللعنة) * أي: عليهم اللعنة. وقيل: معناه فلها الجزاء والعقاب، وإذا أمكن حمل الكلام على الظاهر، فالأولى أن لا يعدل عنه. وهذا الخطاب لبني إسرائيل، ليكون الكلام جاريا على النسق والنظام. ويجوز أن يكون خطابا لأمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون اعتراضا بين القصة، كما يفعل الخطيب والواعظ، يحكي شيئا ثم يعظ، ثم يعود إلى الحكاية. فكأنه لما بين أن بني إسرائيل لما علوا وبغوا في الأرض، سلط عليهم قوما، ثم لما تابوا قبل توبتهم، وأظفرهم على عدوهم، خاطب أمتنا بأن من أحسن عاد نفع إحسانه إليه،
[ 223 ]
ومن أساء عاد ضرره إليه ترغيبا وترهيبا * (فإذا جاء وعد الآخرة) * أي: وعد المرة الأخرى من قوله * (لتفسدن في الأرض مرتين) *، والمراد به جاء وعد الجزاء على الفساد في الأرض في المرة الأخيرة، أو جاء وعد فسادكم في الأرض في المرة الأخيرة، أي: الوقت الذي يكون فيه ما أخبر الله عنكم من الفساد والعدوان على العباد * (ليسوءوا وجوهكم) * أي: غزاكم أعداؤكم، وغلبوكم، ودخلوا دياركم ليسوءوكم بالقتل والأسر. يقال: سئته أسوؤه مساءة ومسائية وسوائية. إذا أحزنته. وقيل: معناه ليسوءوا كبراءكم ورؤساءكم وفي مساءة الأكابر وإهانتهم مساءة الأصاغر. * (وليدخلوا المسجد) * أي: بيت المقدس ونواحيه. فكنى بالمسجد، وهو المسجد الأقصى، عن البلد، كما كنى بالمسجد الحرام عن الحرم. ومعناه: وليستولوا على البلد، لأنه لا يمكنهم دخول المسجد إلا بعد الإستيلاء * (كما دخلوه أول مرة) * دل بهذا على أن في المرة الأولى قد دخلوا المسجد أيضا، وإن لم يذكر ذلك، ومعناه: وليدخل هؤلاء المسجد كما دخله أولئك أول مرة * (وليتبروا ما علوا تتبيرا) * أي: وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا. ويجوز أن يكون * (ما) * مع الفعل بتأويل المصدر، والمضاف محذوف، أي: ليتبروا مدة علوهم * (عسى ربكم) * يا بني إسرائيل. * (أن يرحمكم) * بعد انتقامه منكم إن تبتم ورجعتم إلى طاعته * (وإن عدتم عدنا) * معناه: وإن عدتم إلى الفساد، عدنا بكم إلى العقاب لكم، والتسليط عليكم، كما فعلناه فيما مضى، عن ابن عباس، قال: إنهم عادوا بعد الأولى والثانية، فسلط الله عليهم المؤمنين يقتلونهم، ويأخذون منهم الجزية إلى يوم القيامة * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * أي: سجنا ومحبسا، عن ابن عباس. القصة: اختلف المفسرون في القصة عن هاتين الكرتين، اختلافا شديدا، فالأولى أن نورد من جملتها ما هو الأهم على سبيل الإيجاز، قالوا: لما عتا بنو إسرائيل في المرة الأولى، سلط الله عليهم ملك فارس. وقيل: بختنصر. وقيل ملكا من ملوك بابل. فخرج إليهم وحاصرهم، وفتح بيت المقدس. وقيل: إن بخت نصر ملك بابل بعد سنحاريب، وكان من جيش نمرود، وكان لزانية لا أب له، فظهر على بيت المقدس، وخرب المسجد، وأحرق التوراة، وألقى الجيف في المسجد، وقتل على دم يحيى سبعين ألفا، وسبى ذراريهم، وأغار عليهم، وأخرج أموالهم، وسبى
[ 224 ]
سبعين ألفا، وذهب بهم إلى بابل فبقوا في يده مائة سنة، يستعبدهم المجوس وأولادهم. ثم تفضل الله عليهم بالرحمة، فأمر ملكا من ملوك فارس، عارفا بالله سبحانه وتعالى، فردهم إلى بيت المقدس. فأقاموا به مائة سنة على الطريق المستقيم، والطاعة والعبادة. ثم عادوا إلى الفساد والمعاصي، فجاءهم ملك من ملوك الروم اسمه انطياخوس، فخرب بيت المقدس، وسبى أهله. وقيل: غزاهم ملك الرومية، وسباهم، عن حذيفة. وقال محمد بن إسحاق كان بنو إسرائيل يعصون الله تعالى، وفيهم الأحداث، والله يتجاوز عنهم. وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أن الله تعالى بعث إليهم شعيا قبل مبعث زكريا، وشعيا هو الذي بشر بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لبني إسرائيل ملك كان شعيا يرشده ويسدده، فمرض الملك، وجاء سنحاريب إلى باب بيت المقدس بستمائة ألف راية فدعا الله سبحانه شعيا، فبرأ الملك، ومات جمع سنحاريب، ولم ينج منهم إلا خمسة نفر، منهم سنحاريب، فهرب وأرسلوا خلفه من أخذه. ثم أمر سبحانه بإطلاقه ليخبر قومه بما نزل بهم، فأطلقوه، وهلك سنحاريب بعد ذلك بسبع سنين، واستخلف بخت نصر ابن ابنه، فلبث سبع عشرة سنة وهلك ملك بني إسرائيل، ومرج أمرهم، وتنافسوا في الملك، فقتل بعضهم بعضا، فقام شعيا فيهم خطيبا، ووعظهم بعظات بليغة، وأمرهم ونهاهم، فهموا بقتله، فهرب ودخل شجرة، فقطعوا الشجرة بالمنشار. فبعث الله إليهم إرميا من سبط هارون، ثم خرج من بينهم لما رأى من أمرهم. ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، وفعل ما فعل، ثم رجع إلى بابل بسبايا بني إسرائيل. وكانت هذه الدفعة الأولى. وقيل أيضا: إن سبب ذلك كان قتل يحيى بن زكريا، وذلك ان ملك بني إسرائيل أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه يحيى، وبلغ أمها، فحقدت عليه، وبعثته على قتله، فقتله. وقيل: إنه لم يزل دم يحيى بن زكريا يغلي، حتى قتل بخت نصر منهم سبعين ألفا، أو اثنين وسبعين ألفا، ثم سكن الدم. وذكر الجميع: إن يحيى بن زكريا هو المقتول في الفساد الثاني، قال مقاتل: كان بين فساد الأول والثاني مائتا سنة وعشر سنين. وقيل: إنما غزا بني إسرائيل في المرة الأولى بخت نصر، وفي المرة الثانية ملوك فارس والروم، وذلك حين فتلوا يحيى، فقتلوا منهم
[ 225 ]
مائة ألف وثمانين ألفا، وخرب بيت المقدس. فلم يزل بعد ذلك خرابا حتى بناه عمر بن الخطاب، فلم يدخله بعد ذلك رومي إلا خائفا. وقيل: إنما غزاهم في المرة الأولى جالوت، وفي الثانية بخت نصر والله أعلم. * (إن هذا القرءان يهدى للتى هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالأخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (11) وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا (12)) *. اللغة: مبصرة أي: مضيئة منيرة نيرة. قال أبو عمرو: أراد تبصر بها، كما يقال: ليل نائم وسر كاتم. وقال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار: إذا أضاء. وقيل: المبصرة التي أهلها بصراء فيها، كما يقال رجل مخبث أي: أهله خبثاء، ومضعف أي: أهله ضعفاء، ولا يكتب الواو في يدع في المصحف، وهي ثابتة في المعنى. الاعراب: * (أن لهم أجرا كبيرا) *: فتح * (أن) * على تقدير حذف الباء أي: يبشرهم بأن لهم الجنة. وأن الثانية معطوفة عليها، ولو كسرت على الإستئناف لجاز، وإن لم يقرأ به أحد و * (أعتدنا) *: أصله أعددنا، فقلبت إحدى الدالين تاء، فرارا من التضعيف إلى حرف من مخرج الدال. * (وكل شئ) * منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وهو قوله: * (فصلناه) *، والتقدير: وفصلنا كل شئ. المعنى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * معناه: إن هذا القرآن يهدي إلى الديانة، والملة، والطريقة التي هي أشد استقامة، يقال: هذه الطريق، وللطريق، وإلى الطريق. وقيل: معناه يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات وأصوبها، وهي كلمة التوحيد. وقيل: يهدي إلى الحال التي هي أعدل الحالات، وهي توحيد الله، والإيمان به وبرسله، والعمل بطاعته، عن الزجاج. * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم) * أي: بأن لهم * (أجرا كبيرا) * أي: ثوابا عظيما على طاعاتهم * (و) * يبشرهم أيضا ب‍ * (أن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * أي
[ 226 ]
بالنشأة الآخرة * (أعتدنا لهم) * أي: هيأنا لهم * (عذابا أليما) * وهو عذاب النار. وإنما سمي العذاب أجرا لأنه يستحق في مقابلة عمل، كالأجرة التي تجب في مقابلة عمل، يعود نفعه إلى المستأجر. والثواب يستحق على الله تعالى، وإن كان نفعه يعود إلى العامل، لأنه سبحانه أوجب ذلك على نفسه في مقابلة عمل العد، فضلا منه وكرما. * (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير) * قيل في معناه أقوال أحدها: إن الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه، وأهله، وماله، بما لا يحب أن يستجاب له فيه، كما يدعو لنفسه بالخير. فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه، لكنه لا يجيب بفضله ورحمته، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة والآخر: إن معناه أن الإنسان قد يطلب الشر لاستعجاله المنفعة وثالثها: إن معناه: ويدعو في طلب المحظور، كدعائه في طلب المباح. * (وكان الإنسان عجولا) * يعجل بالدعاء في الشر، عجلته بالدعاء في الخير، عن مجاهد. وقيل: يريد ضجرا لا صبرا له على ضراء، ولا على سراء، عن ابن عباس. وروي عنه أيضا أنه أراد به آدم عليه السلام، لما انتهت النفخة إلى سرته، أراد أن ينهض، فلم يقدر، فشبه الله سبحانه ابن آدم بأبيه في الإستعجال، وطلب الشئ، قبل وقته * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * أي: دلالتين يدلان على وحدانية خالقهما، لما في كل واحد منهما من الفوائد، من الكسب بالنهار، والإستراحة بالليل، والزيادة في أجزاء أحدهما بالنقصان من أجزاء الآخر، ولأن كل واحد منهما ينقضي لمجئ الآخر، وذلك يدل على حدوثهما، إذ القديم لا يجوز عليه الإنقضاء، وعلى أن لهما محدثا قادرا عالما، وقد علمنا ضرورة أن أحدا من البشر لم يحدثهما، لعجز البشر عن ذلك، فدل على أنه من صنع القديم القادر لذاته، العالم لذاته، الذي ليس كمثله شئ، ولا يتعذر عليه شئ. وقيل: إن الآيتين هنا الشمس والقمر. * (فمحونا آية الليل) * وهي القمر أي: طمسنا نورها بما جعلنا فيها من السواد، عن ابن عباس * (وجعلنا آية النهار) * يعني الشمس * (مبصرة) * أي: نيرة مضيئة للأبصار، يبصر أهل النهار النهار بها. وقيل: إن معناه جعلنا آية الليل ممحوة، والمراد جعلنا الليل مظلما، لا يبصر فيه، كما لا يبصر ما يمحى من الكتاب، وجعلنا آية النهار مبصرة أي: جعلنا النهار مضيئا، يبصر فيه، وتدرك الأشياء فيه.
[ 227 ]
وعلى هذا فتكون آية الليل هي الليل نفسه، وآية النهار هي النهار نفسه، كما يقال نفس الشئ، وعين الشئ، وهذا من عجيب البلاغة. وقيل: إن آية الليل ظلمته، وآية النهار ضوؤه، فالمراد محونا ظلمة الليل بضوء النهار، ومحونا ضوء النهار بظلمة الليل، إلا أنه ذكر أحدهما، وحذف الآخر، لدلالة المذكور على المحذوف. ثم بين سبحانه الغرض في ذلك، وقال: * (لتبتنوا فضلا من ربكم) * أي: لتسكنوا بالليل، وتطلبوا الرزق بأنواع التصرف في النهار، إلا أنه حذف لتسكنوا بالليل، لما ذكره في مواضع أخر * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) * أي: لتعلموا بالليل والنهار عدد السنين والشهور، وآجال الديون، وغير ذلك من المواقيت، ولتعلموا حسنات أعماركم وآجالكم. ولولا الليل والنهار لما علم شئ من ذلك * (وكل شئ فصلناه تفصيلا) * أي: ميزناه تمييزا ظاهرا بينا، لا يلتبس، وبيناه تبيانا شافيا، لا يخفى. النظم: اتصلت الآية الأولى بقوله * (عسى ربكم أن يرحمكم) * والوجه فيه أنه لما أمر بني إسرائيل بالرجوع إلى الطريق المستقيم، من التوبة، وقبول الإسلام، بين أن ذلك الطريق هذا الكتاب الذي يدل على ما هو أحسن الأديان. وقيل: يتصل بقوله * (وآتينا موسى الكتاب) * أي كما آتينا التوراة، آتينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، الذي يهدي إلى الأحسن الأقوم. وقيل: اتصل بقوله * (سبحان الذي أسرى) * كأنه قال: أسرى بعبده وأتاه الكتاب الذي هذه صفته، وإنما اتصل قوله * (يدعو الإنسان بالشر) * الآية، مما تقدم من بشارة الكفار بالعذاب، فبين عقيبه أنهم يستعجلون العذاب جهلا وعنادا. ثم بين أنه يستجيب لهم ما فيه صلاحهم. ثم بين بالآية الأخرى أنه أنعم عليهم بوجوه النعم، كالليل والنهار، ونحو ذلك، وإن لم يشكروه. * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتبا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14) من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر * (ويخرج له) * بضم الياء وفتح الراء. وقرأ يعقوب:
[ 228 ]
* (ويخرج له) * بفتح الياء وضم الراء والباقون: * (ونخرج) * بالنون. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: * (تلقيه) * بضم التاء، وفتح اللام، وتشديد القاف. والباقون: * (يلقاه) * بفتح الياء، وسكون اللام. الحجة: من قرأ * (ويخرج له) * فمعناه أنه يخرج له عمله، أو يخرج له طائره يوم القيامة، كتابا، ويكون * (كتابا) * منصوبا على الحال. ومن قرأ * (ويخرج) * فتقديره فيخرج له عمله، أو طائره، ويكون * (كتابا) * حالا أيضا من الضمير في * (يخرج) * كما في الأول. ومن قرأ * (ونخرج) * بالنون، فيكون * (كتابا) * مفعولا لنخرج. ويجوز أن يكون منصوبا على التمييز على معنى: ونخرج طائره له كتابا. ويجوز أن يكون نصبا على الحال، فيكون بمعنى ذا كتاب أي: مثبتا في الكتاب الذي قال فيه * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * وقوله: * (منشورا) *: يكون منصوبا على الحال من الهاء في * (يلقاه) * على القراءات جميعا. ومن قرأ * (يلقاه منشورا) * فإنه يدل عليه قوله * (وإذا الصحف نشرت) * ومن قرأ * (يلقاه) *: فيدل عليه قوله: * (ويلقون فيها تحية وسلاما) *. اللغة: الإنسان: يقع على المذكر والمؤنث، فإذا أردت الفصل، قلت: رجل وامرأة، مثل ذلك فرس يقع على المذكر والمؤنث، فإذا أردت الفصل، قلت: حصان وحجر، وفي الهماليج برذون ورمكة. وكل بعير يقع على المذكر والمؤنث، فإذا فصلت قلت: جمل وناقة، واشتقاق الإنسان من الإنس، أو الأنس، وهو فعلان عند البصريين. وقال الكوفيون: هو من النسيان، وأصله إنسيان، حذفت الياء منه استخفافا، واحتجوا على ذلك بقول العرب في تصغيره: إنيسيان، وهذه الياء عند البصريين زائدة، وهو من التصغير الشاذ عندهم، مثل عشيشة ومغيربان الشمس، ولييلية، وأشباه ذلك. والطائر: هاهنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح، ويتبرك به، والطائر الذي يبرح فيتشاءم به. والسانح: الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك. والبارح: الذي يجعل مياسره إلى ميامنك. والأصل في هذا أنه إذا كان سانحا، أمكن الرامي، وإذا كان بارحا لم يمكنه. قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر، أو ظبي، أو غيره، فهو عندهم طائر، وأنشد لكثير: فلست بناسيها ولست بتارك إذا أعرض الأدم الجواري سؤالها
[ 229 ]
أأدرك من أم الحكيم غبيطة بها خبرتني الطير أم قد أتى لها (1) يخبر في البيت الأخير أن الذي زجره طائر، وأنشد لزهير في ذلك: فلما أن تفرق آل ليلى جرت بيني، وبينهم، ظباء جرت سنحا، فقلت لها: مروعا نوى مشمولة، فمتى اللقاء (2) وقال: وقولهم سألت الطير، وقلت للطير، إنما هو زجرتها من خير أو شر. ويقوي ما ذكره قول الكميت: ولا أنا ممن يزجر الطير، همه: أصاح غراب، أم تعرض ثعلب (3) وأنشد لحسان بن ثابت: ذريني وعلمي بالأمور، وشيمتي، فما طائري فيها عليك بأخيلا (2) أي: ليس رأيي بمشؤوم، وأنشد لكثير: أقول إذا ما الطير مرت مخيلة (5) لعلك يوما فانتظر أن تنالها وإنما قال * (طائره في عنقه) *، ولم يقل في يده، لينبه على لزوم ذلك له، وتعلقه به، كما يقال طوقتك كذا أي: قلدتك كذا، وألزمته إياك، ومنه قلده السلطان كذا أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق. قال الأعشى: قلدتك الشعريا سلامة ذا الإ فضال، والشعر حيث ما جعلا (1) الادم من الظباء: بيض تعلوهن جدد فيهن غبرة، وقوله، (سؤالها) مفعول (تارك). والغبيطة: شبه هودج للنساء. (2) السانح: ما أتاك من يمينك من ظبي، أو طائر. ومقابله البارح. والعرب يتبرك بالسانح، وبتشأم بالبارح. وقد يتشأم بالسانح كما في هذا البيت وفي (اللسان): (فقلت لها أجيزي). والنوى: الموضع الذي تنويه. ومشمولة أي: شاملة. وقيل: أخذ بها ذات الشمال. (3) يجب الوقوف على (الطير) ثم يبدأ (بهمه) ليعلم الغرض، والزجر هنا: التيمن أو التشاؤم بالطير وغيره. (4) أخيل: طائر أخضر يتشاءم العرب به. (5) مخيلة أي: مكروهة من الأخيل. (*)
[ 230 ]
وقال الآخر: إن لي حاجة إليك فقالت: بين أذني، وعاتقي، ما تريد والعرب تقيم هذا العضو مقام الذات، فتقول: أعتقت رقبة، وطوقت عنقي أمانة. ولذلك قال أبو حنيفة: إذا قال الإنسان عنقك، أو رقبتك حر، عتق، لأنه يعبر بذلك عن جميع البدن. ولو قال يدك أو شعرك حر لا يعتق، لأنه لا يعبر بذلك عن جميع البدن. وقال اليافعي: هما سواء يعتق في الحالين. الاعراب: موضع * (بنفسك) *: رفع، لأنه فاعل * (كفى) *. و * (حسيبا) * نصب على التمييز له. وقال أبو بكر السراج: المعنى كفى الإكتفاء بنفسك، فالفاعل على هذا محذوف، والجار والمجرور في موضع النصب على أصله. * (حسيبا) *: نصب على الحال من * (كفى) *. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الوعيد، أتبع ذلك بذكر كيفيته، فقال: * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * معناه: وألزمنا كل إنسان عمله من خير أو شر، في عنقه، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. يريد جعلناه كالطوق في عنقه، فلا يفارقه. وإنما قيل للعمل طائرا على عادة العرب في قولهم جرى طائره بكذا، ومثله قوله سبحانه * (قالوا طائركم معكم) * وقوله * (إنما طائرهم عند الله) * وقيل: طائره يمنه وشؤمه، عن الحسن، وهو ما يتطير منه. وقيل: طائره حظه من الخير والشر، عن أبي عبدة، والقتيبي. وخص العنق لأنه محل الطوق الذي يزين المحسن والغسل الذي يشين المسئ. وقيل: طائره كتابه. وقيل: معناه جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه، لأن الطائر عندهم يستدل به على الأمور الكائنة، فيكون معناه: كل إنسان دليل نفسه، وشاهد عليها، إن كان محسنا فطائره ميمون، وإن ساء فطائره مشؤوم. * (ونخرج له يوم القيامة كتابا) * وهو ما كتبه الحفظة عليهم من أعمالهم * (يلقاه) * أي: يرى ذلك الكتاب * (منشورا) * أي: مفتوحا معروضا عليه ليقرأه، ويعلم ما فيه. والهاء في * (له) * يجوز أن تكون عائدة إلى الإنسان، ويجوز أن تكون عائدة إلى العمل * (إقرأ كتابك) * فهاهنا حذف أي: ويقال له إقرأ كتابك. قال قتادة: يقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا. وروى جابر بن خالد بن نجيح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يذكر العبد جميع
[ 231 ]
أعماله، وما كتب عليه، حتى كأنه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: * (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) *. * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * أي: محاسبا، وإنما جعله محاسبا لنفسه، لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة، ورأى جزاء أعماله مكتوبا بالعدل، لم ينقص عن ثوابه شئ، ولم يزد على عقابه شئ، أذعن عند ذلك وخضع، وتضرع، واعترف، ولم يتهيأ له حجة ولا إنكار، وظهر لأهل المحشر أنه لا يظلم. قال الحسن: يا ابن آدم ! لقد أنصفك من جعلك حسيب نفسك * (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) * أي: من اهتدى في الدنيا إلى دين الله وطاعته، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه * (ومن ضل فإنما يضل عليها) * أي: ومن ضل عن الدين، فضرر ضلاله راجع إلى نفسه، وعقوبة ضلاله على نفسه * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى أي: ثقل ذنوب غيرها، ولا يعاقب أحد بذنوب غيره وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: لا تحن يمينك على شمالك، وهذا مثل ضربه عليه السلام. وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول من يقول إن أطفال الكفار يعذبون مع آبائهم في النار. * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * معناه: وما كنا معذبين قوما بعذاب الإستئصال، إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم بأبلغ الوجوه، وهو إرسال الرسل إليهم مظاهرة في العدل، وإن كان يجوز مؤاخذتهم على ما يتعلق بالعقل معجلا. فعلى هذا التأويل تكون الآية عامة في العقليات والشرعيات. وقال الأكثرون من المفسرين وهو الأصح: إن المراد بالآية أنه لا يعذب سبحانه في الدنيا، ولا في الآخرة، إلا بعد البعثة. فتكون الآية خاصة فيما يتعلق بالسمع من الشرعيات. فأما ما كانت الحجة فيه من جهة العقل، وهو الإيمان بالله تعالى، فإنه يجوز العقاب بتركه، وإن لم يبعث الرسول عند من قال إن التكليف العقلي ينفك من التكليف السمعي. على أن المحققين منهم يقولون: إنه وإن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول، فإنه سبحانه لا يفعل ذلك مبالغة في الكرم والفضل والإحسان والطول، فقد حصل من هذا أنه سبحانه لا يعاقب أحدا حتى ينفذ إليهم الرسل المنبهين إلى الحق، الهادين إلى الرشد، استظهارا في الحجة، لأنه إذا اجتمع داعي العقل، وداعي السمع، تأكد الأمر، وزال الريب، فيما يلزم العبد، وقد أخبر سبحانه في هذه الآية عن
[ 232 ]
ذلك. وهذا لا يدل على أنه لو لم يحسن منه أن يعاقب، إذا ارتكب القبائح العقلية، إلا أن يفرض في بعثة الرسول لطفا، فإن عند ذلك لا يحسن منه سبحانه أن يعاقب أحدا، إلا بعد أن يوجه إليه مما هو لطف له فيزاح بذلك علته. * (وإذآ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها عليها القول فد مرناها تدميرا (16) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء رب وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21) لا تجعل مع الله إلها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا (22)) *. القراءة: القراءة العامة: * (أمرنا) * بالتخفيف غير ممدود. وقرأ يعقوب: * (آمرنا) * بالمد، وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وجماعة. وقرأ * (أمرنا) * بالتشديد للميم: ابن عباس، وأبو عثمان النهدي، وأبو جعفر محمد بن علي، بخلاف. وقرأ * (أمرنا) * بكسر الميم بوزن عمرنا: الحسن، ويحيى بن يعمر. الحجة: قال أبو عبيدة: أمرنا أكثرنا، من قولهم: أمر بنو فلان أي كثروا، وأنشد للبيد: إن يغبطوا يهبطوا، وإن أمروا يوما يصيروا للهلك، والنفد قال أبو علي: لا يخلو قوله * (أمرنا) * مخففة الهمزة، من أن يكون فعلنا من الأمر، أو من أمر القوم، وأمرتهم. مثل شترت عينه، وشترتها، ورجع ورجعته، وسار وسرته. فمن لم ير أن يكون * (أمرنا) * من أمر القوم إذا كثروا، كما حكى ذلك يونس عن أبي عمرو، فإنه ينبغي أن يكون من الأمر الذي هو خلاف النهي، ويكون
[ 233 ]
المعنى: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا. ومن قرأ * (آمرنا) * فإنه يكون أفعلنا من أمر القوم، إذا كثروا، وأمرهم الله، وكذلك إن ضاعف العين، فقال * (أمرنا) *، ويقوي حمل أمرنا على النقل من أمر، وأن لا يجعل من الأمر الذي هو خلاف النهي، أن الأمر بالطاعة على هذا يكون مقصورا على المترفين، فقد أمر الله بطاعته جميع خلقه من مترف وغيره، ويحمل * (أمرنا) * على أنه مثل أمرنا. ونظير هذا كثر، وأكثره الله، وكثره، ولا يحمل * (أمرنا) * على أن المعنى جعلناهم أمراء، لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة جماعة أمراء. فإن قلت: يكون منهم الواحد بعد الواحد، فإنهم إذا كانوا كذلك لا يكثرون في حال، وإنما يهلك بكثرة المعاصي في الأرض، وعلى هذا جاء الأمر في التنزيل: * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) * فأمرنا بالخروج من الأرض التي تكثر فيها المعاصي إلى ما كان بخلاف هذه الصفة. ومما جاء فيه أمر بمعنى الكثرة، قول زهير: والإثم من شر ما يصال به، والبر كالغيث نبته أمر وأما * (أمرنا) * فقد روى ابن جني بإسناده، عن أبي حاتم قال: قال أبو زيد: يقال: أمر الله ماله وآمره. ومن قال إن أمرنا لا يكون بمعنى أكثرنا، قال في قوله * (خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة) * (1) إن معنى مأمورة مؤمرة، فإنما قال هذه لمكان الإزدواج، كما قالوا الغدايا والعشايا والغداة لا تجمع على الغدايا، لكن قيل ذلك ليزدوج الكلام. اللغة: الترفه: النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء، ولا يمنع منه. والتدمير، والإهلاك، والدمار: الهلاك. ويقال: ذممته وذاميته، وذمته، فهو مذموم ومذؤوم ومذيم بمعنى. ويكون ذأمته بمعنى طردته. ويقال: إصنع ذاك وخلاك ذم أي: ولاذم عليك. والدحر: الإبعاد والمدحور: المبعد والمطرود، يقال: اللهم إدحر عنا الشيطان أي: أبعده. الاعراب: * (كم أهلكنا) *: موضع * (كم) * نصب بأهلكنا، ودخلت الباء في (1) الحديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بعض الكتب: (أو مهرة مأمورة) والسكة: الطريقة المصطفة بالنخل. والمأبورة: الملحفة. وقيل: السكة سكة الحرث، والمأبورة: المصلحة له. والمهر: ولد الفرس، والأنثى المهرة، أراد صلى الله عليه وآله وسلم خير المال: نتاج أو زرع.
[ 234 ]
قولك * (بربك) * للمدح، كما تقول ناهيك به رجلا، وجاد بثولك ثوبا، وطاب بطعامك طعاما، وأكرم به رجلا، ويكون في كل ذلك في موضع رفع، كما قال الشاعر: ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا (1) فرفع لما أسقط الباء و * (يصلاها) *: في موضع نصب على الحال. * (لمن نريد) * بدل من قوله * (عجلنا له فيها ما نشاء) * وأعاد اللام لما كان البدل في تقدير جملة أخرى كقوله * (لمن آمن منهم) *. و * (مذموما) *: حال من الضمير المستكن في * (يصلاها) *. * (كلا نمد) *: نصب * (كلا) * بنمد، وهؤلاء بدل من قوله * (كلا) * أي: نمد كل واحد من هؤلاء، وهؤلاء. المعنى: * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * لما لم يجز في العقول تقديم إرادة العذاب على المعصية، لأنه عقوبة عليها، ويستحقه لأجلها، فمتى لم توجد المعصية، لم يحسن فعل العقاب، وإذا لم يحسن فعله، لم تحسن إرادته، اختلفوا في تأويل الآية وتقديرها على وجوه (أحدها): إن معناه وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية، بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم، أمرنا مترفيها أي: رؤساءها وساداتها بالطاعة، واتباع الرسل، أمرا بعد أمر، نكرره عليهم، وبينة بعد بينة، نأتيهم بها، إعذارا للعصاة، وإنذارا لهم، وتوكيدا للحجة، ففسقوا فيها بالمعاصي، وأبوا إلا تماديا في العصيان، والكفران. * (فحق عليها القول) * أي: فوجب حينئذ عليها الوعيد * (فدمرناها تدميرا) * أي: أهلكناها إهلاكا. وإنما خص المترفين، وهم المنعمون والرؤساء بالذكر، لأن غيرهم تبع لهم، فيكون الأمر لهم أمرا لأتباعهم. وعلى هذا فيكون قوله * (أمرنا مترفيها) * جوابا لإذا. وإليه يؤول ما روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، أن معناه أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا، ومثله أمرتك فعصيتني. ويشهد بصحة هذا التأويل الآية المتقدمة وهي قوله * (من اهتدى) * فإنما يهتدي لنفسه إلى قوله * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. وثانيها: إن قوله * (أمرنا مترفيها) * من صفة القرية، وتقديره وإذا أردنا أن نهلك قرية، صفتها أنا كنا قد أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فلا يكون لإذا جواب (1) قائله زيادة بن زيد العدوي. والهدى: الطريقة، والسيرة. (*)
[ 235 ]
ظاهر في اللفظ للإستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه، ونظيره قوله سبحانه * (حتى إذ جاؤوها وفتحت أبوابها) * إلى قوله * (ونعم أجر العاملين) * فلم يأت لإذا جواب في طول الكلام، للإستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة. ومما يشهد بصحة ذلك قول الهذلي: حتى إذا سلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا (1) فحذف جواب إذا لأن هذا البيت آخر القصيدة وثالثها: إن الآية محمولة على التقديم والتأخير، وتقديرها إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة، فعصوا، أردنا إهلاكهم، ومما يمكن أن يكون شاهدا لهذا الوجه قوله * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) *. وقيام الطائفة معه، يكون قبل إقامة الصلاة، لأن إقامتها هي الإتيان بجميعها على الكمال، وكذلك قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * والطهارة إنما تجب قبل القيام إلى الصلاة ورابعها: إنه سبحانه ذكر الإرادة على وجه المجاز والإتساع، وإنما عني بها قرب الهلاك، والعلم بكونه لا محالة، كما يقال إذا أراد العليل أن يموت خلط في مأكله، ويسرع إلى ما تتوق نفسه إليه، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل وجه، ومعلوم أن العليل والتاجر لم يريدا في الحقيقة شيئا، لكن لما كان من المعلوم من حال هذا الهلاك، ومن حال ذلك الخسران، حسن هذا الكلام، واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه. ولكلام العرب إشارات واستعارات ومجازات لأجلها كان كلامهم في الغاية القصوى من الفصاحة. والوجه الأول عندي أصح الوجوه، وأقربها إلى الصواب، إذا تأولت الآية على الأمر الذي هو ضد النهي. إذا تأولت الآية على معنى القراءتين الأخيرتين من * (آمرنا) * بالمد و * (أمرنا) * بالتشديد، فلن يخرج على هذا الوجه، وتكون محمولة على أحد الأوجه الثلاثة الأخر. ثم بين سبحانه ما فعله من ذلك بالقرون الخالية، فقال: * (وكم أهلكنا من القرون) * أي: من الأمم الكثيرة المكذبة * (من بعد نوح) * أي: من بعد زمان نوح إلى زمانك هذا، لأن * (كم) * تفيد التكثير، كما أن * (رب) * تفيد التقليل. والقرن مائة (1) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي. وقتائدة: موضع. والجمالة: أصحاب الجمال، كالبغالة، والحمارة، وانتصاب (شلا) على المصدر، يعني إذا سلكوهم هذا الموضع، شلوهم شلا يشبه طرد الشرد من الجمال إذا تزاحمت على الماء.
[ 236 ]
وعشرون سنة، عن عبد الله بن أبي أوفى. وقيل: مائة سنة، عن محمد بن القسم المازني، وروي ذلك مرفوعا. وقيل: ثمانون سنة، عن الكلبي. وقيل: أربعون سنة، ورواه ابن سيرين مرفوعا * (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا) * أي: كفى ربك عالما بذنوب خلقه * (بصيرا) * بها، يجازيهم عليها، ولا يفوته شئ منها. ثم بين سبحانه أنه يدبر عباده بحسب ما يراه من المصلحة، فقال: * (من كان يريد العاجلة) * أي: النعم العاجلة، وهي الدنيا، فعبر عنها بصفتها * (عجلنا له فيها ما نشاء) * من البسط والتقتير. وعلق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد، فقد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله، فلا يعطيه لكونه مفسدة * (لمن نريد) * أي: لمن نريد إعطاءه. بين بذلك أنه ربما يكون حريصا يريد الدنيا، فلا يعطى، وإن أعطي أعطي قليلا * (ثم جعلنا له جهنم يصلاها) * أي يصير بصلاها، ويحترق بنارها * (مذموما) * ملوما * (مدحورا) * مبعدا من رحمة الله. وروي عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: معنى الآية من كان يريد ثواب الدنيا بعمله الذي افترضه الله عليه، لا يريد به وجه الله والدار الآخرة، عجل له فيها ما يشاء الله من عرض الدنيا، وليس له ثواب في الآخرة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يؤتيه ذلك ليستعين به على الطاعة، فيستعمله في معصية الله، فيعاقبه الله عليه. * (ومن أراد الآخرة) * أي: ومن أراد خير الآخرة، ونعيم الجنة * (وسعى لها سعيها وهو مؤمن) * أي: فعل الطاعات، وتجنب المعاصي، وهو مع ذلك مصدق بتوحيد الله، مقر بأنبيائه * (فأولئك كان سعيهم مشكورا) * أي: تكون طاعتهم مقبولة. وقيل: شكره أنه سبحانه يضاعف حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، عن قتادة. والمعنى أنا أحللنا سعيهم محل ما يشكر عليه في حسن الجزاء. وروي عن الحسن أنه قال: اطلبوا الآخرة، فما رأيت طالبا لها إلا نالها، وربما نال الدنيا. وما رأيت طالب دنيا نال الآخرة، وربما لا ينال الدنيا أيضا * (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء) * أي: كل واحد من هذين الفريقين ممن يريد الدنيا، وممن يريد الآخرة، نمدهم أي: نزيدهم. وقيل: كلا نعطي من الدنيا البر والفاجر، عن الحسن. والمعنى أنا نعطي المؤمن والكافر في الدنيا وأما الآخرة فللمتقين خاصة * (من عطاء ربك) * أي: نعمة ربك، ورزقه * (وما كان عطاء ربك محظورا) * معناه: وما كان رزق ربك محبوسا عن الكافر لكفره، ولا عن الفاسق لفسقه.
[ 237 ]
(سؤال): فإن قيل هل يجوز أن يريد المكلف بعمله العاجل والآجل ؟ والجواب: نعم إذا جعل العاجل تبعا للآجل، كالمجاهد في سبيل الله، يقاتل لإعزاز الدين، ويجعل الغنيمة تبعا * (أنظر) * يا محمد * (كيف فضلنا بعضهم على بعض) * بأن جعلنا بعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي، وبعضهم عبيدا، وبعضهم أصحاء، وبعضهم مرضى، على حسب ما علمناه من المصالح * (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * أي: درجاتها ومراتبها أعلى وأفضل، وهي مستحقة على قدر الأعمال، فينبغي أن تكون رغبتهم في الآخرة، وسعيهم لها أكثر. قد روي أن ما بين أعلى درجات الجنة، وأسفلها، ما بين السماء والأرض. وفي الآية دلالة على أن الطاعة لا تزيد في رزق الدنيا، وإنما تزيد في درجات الآخرة. * (لا تجعل مع الله إلها آخر) * قيل: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به أمته وقيل: معناه لا تجعل أيها السامع، أو أيها الإنسان، مع الله إلها آخر في اعتقادك وإقرارك، ولا في عبادتك، ولا في رغبتك ورهبتك * (فتقعد مذموما مخذولا) * معناه: فإنك إن فعلت ذلك، قعدت وبقيت ما عشت مذموما على لسان العقلاء، مخذولا، ولا ناصر لك يمنع الله نصرته عنك، ويكلك إلى ما أشركت به. وقيل: معنى القعود: الذل، والخزي، والخسران، والعجز، لا الجلوس كما يقال قعد به الضعف عن القتال أي: عجز عنه. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها، أنها اتصلت بقوله * (حتى يبعث رسولا) * والمعنى: انه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل، وتقديم الأمر والنهي، وإتمام النعمة في الإنذار والإعذار، وظهور العصيان من الكفار والفجار. وقيل: إنها تتصل بما تقدم من قصة بني إسرائيل، وما فعل بهم في الكرة الأولى والثانية، فبين سبحانه أن ما فعله موافق لعادته فيمن يريد إهلاكه، فإنما يهلك القرى إذا أمر مترفيها بالطاعة ففسقوا، فيكون إهلاكهم بالإستحقاق، لا على الإبتداء. * (* وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24) ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين
[ 238 ]
غفورا (25)) *. القراءة: * (يبلغان) * بالألف وكسر النون كوفي، غير عاصم. والباقون: * (يبلغن) *. * (أف) *: بفتح الفاء هاهنا وفي الأنبياء والأحقاف، مكي شامي. ويعقوب، وسهل: * (واف) * بالكسر والتنوين في الجميع مدني. وحفص والباقون: * (إف) * بالكسر غير منون. وفي الشواذ قراءة أبي السماك * (أف) * مضمومة غير منونة. وقرأ ابن عباس: * (أف) * خفيفة، و * (جناح الذل) * بكسر الذال. الحجة: قال أبو علي قوله: * (إما يبلغن) * يرتفع أحدهما به، وقوله: * (كلاهما) * معطوف عليه، والذكر الذي عاد من قوله * (أحدهما) * يغني عن إثبات علامة الضمير في * (يبلغان) *، فلا وجه لقول من قال: إن الوجه إثبات الألف، لتقدم ذكر الوالدين عني به الفراء. وإنما الوجه في ذلك أنه على الشئ الذي يذكر على وجه التوكيد، ولو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال نحو قوله: * (أموات غير أحياء) *. فقوله: * (غير أحياء) * توكيد، لأن قوله * (أموات) * يدل عليه، فيكون الألف مجردة لمعنى التثنية، ولاحظ للإسمية فيها. ويرتفع * (أحدهما أو كلاهما) * بالفعل. وقال الزجاج: يكون * (أحدهما أو كلاهما) * بدلا من الألف في * (يبلغان) *. قال أبو علي: من قرأ * (أف) * بالفتح فإنه بناه على الفتح، كقولهم سرعان ذا إهالة، وهو إسم لسرع، ومثله وشكان. قال: لو شكان (1) ما عنيتم، وشمتم بإخوانكم، والعز لم يتجمع وكذلك * (أف) * إسم لأتضجر، وأتكره، ونحو ذلك. من قرأ * (أف) * فإنه بدخول التنوين يدل على التنكير مثله: مه، وصه، ومثله قولهم: (فداء لك) بنوه على الكسر، وإن كان في الأصل مصدرا كما كان * (أف) * في الأصل مصدرا من قولهم أفة وتفة، يراد بها نتنا ودفرا. ومن قرأ * (أف) * ولم ينون جعله معرفة، فلم ينون، كما أن من قال: صه وغاق، فلم ينون، أراد به المعرفة. فإن قلت: ما موضع * (أف) * في هذه اللغات بعد القول، هل يكون موضعه نصبا كما ينتصب المفرد بعده، أو يكون كما تكون الجمل ؟ فالقول: إن موضعه موضع الجمل، كما أنك لو قلت رويد لكان موضعه موضع الجمل. قال الزجاج: في * (أف) * سبع لغات: أف (1) وفي اللسان: (أو شكان). (*)
[ 239 ]
بالضم منونا وغير منون، وأف بالكسر منونا وغير منون، وأف وأفا وأوفي ممالة، وزاد ابن الأنباري أف خفيفة (1) مفتوحة. قال أبو الحسن: وقول الذين قالوا * (أف) * أكثر وأجود. ولو قلت: أف لك، وأفا لك، لاحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الذي صار إسما للفعل لحقه التنوين علامة للتنكير والآخر: أن يكون نصبا معربا، وكذا الضم، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا. ألا ترى أنك لا تقول: ويل، ولو قلته لم يستقم حتى يوصل به لك فيكون في موضع الخبر. والذل ضد الصعوبة. والذل: ضد العز. والأول في الدابة، والثاني في الإنسان. الاعراب: قوله * (وبالوالدين إحسانا) *: العامل في الباء * (قضى) *، والتقدير وقضى بالوالدين إحسانا. ويجوز أن يكون على تقدير وأوصى بالوالدين إحسانا، وحذف لدلالة الكلام عليه، قال الشاعر: عجبت من دهماء إذ تشكونا، ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيرا بها كأننا خافونا فاعمل يوصينا في الخير. * (كما ربياني) * أي: كرحمة تربيتهما يعني رحمة تحدث عند التربية، كما تقول ضرر التلف. وقيل: الكاف بمعنى على، ارحمهما على ما ربياني، عن الأخفش. وكذا قال في قوله: * (كما أمرت أن تكونوا صالحين) * فإنه كان للأوابين منكم، فحذف. ويجوز أن يكون على كان لكم، فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنهم الصالحون. المعنى: لما تقدم النهي عن الشرك والمعاصي، عقب سبحانه بالأمر بالتوحيد والطاعات، فقال سبحانه: * (وقضى ربك) * أي: أمر ربك أمرا باتا، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. وقيل: ألزم وأوجبه ربك، عن الربيع بن أنس. وقيل: أوصى عن مجاهد. * (أن لا تعبدوا إلا إياه) * معناه: أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره. فإن قيل: إن الأمر لا يكون أمرا بأن لا يكون الشئ، لأن الأمر يقتضي إرادة المأمور به، والإرادة لا تتعلق بأن لا يكون الشئ، وإنما تتعلق بحدوث الشئ ؟ فالجواب: إن المعنى أراد منكم عبادته على وجه الإخلاص، وكره منكم عبادة غيره، وعبر عن ذلك بقوله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه * (وبالوالدين إحسانا) * أي: وقضى بالوالدين إحسانا، (1) [ ساكنة وأف خفيفة ]. (*)
[ 240 ]
أو أوصى بالوالدين إحسانا، ومعناهما واحد، لأن الوصية أمر * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * يعني به الكبر في السن، والمعنى إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا، أو عاش أحدهما حتى يكبر، يريد إن بلغا في السن مبلغا يصيران بمنزلة الطفل الذي يحتاج إلى متعهد، وخص حال الكبر، وإن كان من الواجب طاعة الوالدين على كل حال، لأن الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهد والخدمة. وهذا مثل قوله: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * مع أن الناس كلهم يتكلمون في حال الكهولة. والوجه فيه أنه سبحانه أخبر أن عيسى يكلم الناس في المهد، وأنه يعيش حتى يكهل، ويتكلم بعد الكهولة، ونحو ذلك قوله: * (والأمر يومئذ لله) *. وإنما خص ذلك اليوم لأنه لا يملك فيه أحد سواه. وقيل: إن الكبر في الآية راجع إلى المخاطب أي: إن بلغت حال الكبر، وهو حال التكليف، وقد بقي معك أبواك أو أحدهما. * (فلا تقل لهما أف) * وروي عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده أبي عبد الله عليه السلام قال: لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من * (أف) * لأتى به. وفي رواية أخرى عنه قال: أدنى العقوق * (أف) *، ولو علم الله شيئا أيسر منه وأهون منه، لنهى عنه. وفي خبر آخر: فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل، فلن يدخل الجنة. فالمعنى لا تؤذيهما بقليل ولا كثير. قال مجاهد: معناه إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان، فلا تتقذرهما، وأمط عنهما كما كانا يميطان عنك في حال الصغر. والمتبرم يكثر قول * (أف) *، وهي كلمة تدل على الضجر. وقيل: إن (الأف، والتف) وسخ الأصابع إذا فتلته، عن أبي عبيدة. وقيل: هي كلمة كراهة، عن ابن عباس. وقيل: معناه النتن، وجاء في المثل: أبر من النسر، قالوا: لأن النسر إذا كبر ولم ينهض للطيران، جاء الفرخ فزقه كما كان أبواه يزقانه. * (ولا تنهرهما) * أي: لا تزجرهما بإغلاظ وصياح. وقيل: معناه لا تمتنع من شئ أراده منك، كما قال * (وأما السائل فلا تنهر) *. * (وقل لهما قولا كريما) * أي: وخاطبهما بقول رقيق لطيف، حسن جميل، بعيد عن اللغو والقبيح، يكون فيه كرامة لهما، ويدل على كرامة المقول له على القائل. وقيل: معناه قل لهما قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ، عن سعيد بن المسيب. * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * أي: وبالغ في التواضع والخضوع لهما، قولا وفعلا، برا بهما، وشفقة
[ 241 ]
عليهما، والمراد بالذل هاهنا اللين والتواضع، دون الهوان، من خفض الطائر جناحه: إذا ضم فرخه إليه، فكأنه سبحانه قال: ضم أبويك إلى نفسك، كما كانا يفعلان بك، وأنت صغير. وإذا وصفت العرب إنسانا بالسهولة، وترك الآباء، قالوا: هو خافض الجناح. وقال أبو عبد الله عليه السلام: معناه لا تملأ عينيك من النظر إليهما، إلا برأفة ورحمة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يديك فوق أيديهما، ولا تتقدم قدامهما. * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * معناه: ادع لهما بالمغفرة والرحمة في حياتهما، وبعد مماتهما، جزاء لتربيتهما إياك في صباك. وهذا إذا كانا مؤمنين. وفي هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع، وإلا لم يكن للأمر به معنى. وقيل: إن الله تعالى أوصى الأبناء بالوالدين لقصور شفقتهم، ولم يوص الوالدين بالأبناء لوفور شفقتهم، وذكر حال الكبر لأنهما أحوج في تلك الحال إلى البر. لضعفهما وكونهما كلا على الولد. ففي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رغم أنفه ! رغم أنفه ! رغم أنفه ! قالوا: من يا رسول الله ؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ولم يدخل الجنة. أورده مسلم في الصحيح. وروى أبو أسيد الأنصاري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله ! هل بقي من بر أبوي شئ أبرهما به بعد موتهما ؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والإستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، قال قتادة: هكذا علمتم، وبهذا أمرتم، فخذوه بتعليم الله وأدبه * (ربكم أعلم) * أي: أكثر معلوما. وقيل: أثبت علما، فإنه سبحانه أعلم بأن الجسم حادث من الإنسان العالم بذلك * (بما في نفوسكم) * أي: بما تضمرون من البر والعقوق، فمن ندرت منه نادرة، وهو لا يضمر عقوقا، غفر الله له ذلك. وقيل: معناه إنه أعلم بجميع ما في ضمائركم. وهذ أوجه * (إن تكونوا صالحين) * أي: طائعين لله. * (فإنه كان للأوابين غفورا) * والأواب: التواب المتعبد، الراجع عن ذنبه عن مجاهد. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إن الأولين المطيعون المحسنون، عن قتادة. وقيل: إنهم الذين يذنبون ثم يتوبون. ثم يذنبون ثم يتوبون، عن سعيد بن المسيب. وقيل: هم الراجعون إلى الله فيما ينوبهم، عن ابن
[ 242 ]
عباس. وقيل: هم المسبحون عن ابن عباس في رواية أخرى، ويعضده قوله * (يا جبال أوبي معه) *. وقيل: إنهم الذين يصلون بين المغرب والعشاء، روي ذلك مرفوعا. وروى هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: صلاة أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة خمسين مرة * (قل هو الله أحد) * هي صلاة الأوابين. * (وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين لربه كفورا (27) وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28) ولا تجعل يديك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29) إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30)) *. اللغة: التبذير: التفريق بالإسراف، وأصله أن يفرق كما يفرق البذر، إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، وما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا، وإن كثر. قال النابغة: ترائب يستضئ الحلي فيها كجمر النار بذر بالظلام (1) والإعراض: صرف الوجه عن الشئ، وقد يكون عن قلى، وقد يكون للإشتغال بما هو الأولى، وقد يكون للإذلال، كما قال: * (وإعرض عن الجاهلين) *. وأصل الحسر: الكشف من قولهم: حسر عن ذراعه يحسر حسرا: إذا كشف عنه. والحسرة: الغم لانحسار ما فات. ودابة حسير: إذا كلت لشدة السير لانحسار قوتها بالكلال. ومنه قوله: * (ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير) *. والمحسور: المنقطع به لذهاب ما في يده، وانحساره عنه، قال الهذلي: إن العسير بها داء مخامرها فشطرها نظر العينين محسور (2) (1) الترائب: موضع القلادة من الصدر. (2) العسير: الناقة التي لم ترض، والتي لم تحمل. وخامره الداء: خالطه ونصب شطرها على الظرف أي نحوها. (*)
[ 243 ]
ويقال: حسرت الرجل بالمسألة: إذا أفنيت جميع ما عنده. الاعراب: * (وإما تعرضن) *. تقديره وإن تعرض. وما: مزيدة. و * (ابتغاء) *: مفعول له. وقيل: هو مصدر وضع موضع الحال أي: مبتغيا رحمة من ربك ترجوها أي: راجيا إياها. و * (ترجوها) *: جملة في موضع الجر بكونها صفة لرحمة. ويجوز أن يكون في موضع النصب على الحال من الضمير في * (تعرضن) *. المعنى: ثم حث سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على إيتاء الحقوق لمن يستحقها على كيفية الإنفاق، فقال: * (وآت ذا القربى حقه) * معناه: وأعط القرابات حقوقهم التي أوجبها الله لهم في أموالكم، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: إن المراد قرابة الرسول، عن السدي قال: إن علي بن الحسين عليه السلام، قال لرجل من أهل الشام، حين بعث به عليه السلام عبيدالله بن زياد إلى يزيد بن معاوية: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم قال: أما قرأت * (وآت ذا القربى حقه) * قال: وإنكم ذوالقربى الذي أمر الله أن يؤتى حقه ؟ قال: نعم. وهو الذي رواه أصحابنا عن الصادقين عليهم السلام. وأخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني قراءة، قال: حدثنا أبو القاسم عبيدالله بن عبد الله الحسكاني قال: حدثنا الحاكم الواحد أبو محمد قال: حدثنا [ عبد الله ] (1) عمر بن أحمد بن عثمان ببغداد شفاها قال: أخبرني عمربن الحسن بن علي بن مالك قال: حدثنا جعفر بن محمد الأحمسي قال: حدثنا حسن بن حسين قال: حدثنا أبو معمر سعيد بن خثيم، وعلي بن القاسم الكندي، ويحيى بن يعلى، وعلي بن مسهر، عن فضل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله * (وآت ذا القربى حقه) * أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكا. قال عبد الرحمن بن صالح: كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك، فكتب إليه عبد الله بهذا الحديث رواه الفضيل بن مرزوق، عن عطية، فرد المأمون فدكا إلى ولد فاطمة عليهما السلام. * (والمسكين وابن السبيل) * معناه: وآت المسكين حقه الذي جعله الله له من الزكاة وغيرها، وآت المجتاز المنقطع عن بلاده حقه أيضا * (ولا تبذر تبذيرا) * قيل: إن المبذر الذي ينفق المال في غير حقه، عن ابن عباس، وابن مسعود. وفال (1) ما بين المعقفتين ليس في المخطوطة. (*)
[ 244 ]
مجاهد: لو أنفق مدا في باطل كان مبذرا، ولو أنفق جميع ماله في الحق، لم يكن مبذرا. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لعناية: كن زاملة للمؤمنين، وإن خير المطايا أمثلها وأسلمها ظهرا، ولا تكن من المبذرين. * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * معناه إن المسرفين أتباع الشياطين سالكون طريقهم. وهذا كما يقال لمن لازم السفر هو أخو السفر. وقيل معناه: إنهم قرناء الشياطين في النار. * (وكان الشيطان لربه كفورا) * أي: كان الشيطان في قديم مذهبه كثير الكفر مرة بعد أخرى. * (وإما تعرضن عنهم) * أي: وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إياك، لأنك لا تجد ذلك حياء منهم * (ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * أي: لتبتغي الفضل من الله، والسعة التي يمكنك معها البذل بأمل تلك السعة، وذلك الفضل. * (فقل لهم قولا ميسورا) * أي: عدهم عدة حسنة، وقل لهم قولا سهلا لينا يتيسر عليك. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لما نزلت هذه الآية إذا سئل، ولم يكن عنده ما يعطي، قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * أي: لا تكن ممن لا يعطي شيئا، ولا يهب، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل وهذا مبالغة في النهي عن الشح والإمساك * (ولا تبسطها كل البسط) * أي: ولا تعط أيضا جميع ما عندك، فتكون بمنزلة من بسط يده، حتى لا يستقر فيها شئ. وهذا كناية عن الإسراف * (فتقعد ملوما) * تلوم نفسك وتلام * (محسورا) * منقطعا به، وليس عندك شئ، عن السدي، وابن عباس. وقيل عاجزا نادما عن قتادة وقيل: محسورا من الثياب. والمحسور: العريان عن أبي عبد الله عليه السلام، وقيل: معناه إن أمسكت قعدت ملوما مذموما، وإن أسرفت بقيت متحسرا مغموما، عن الجبائي. وقال الكلبي: لا تعط ما عندك جميعا، فيجئ الآخرون يسألونك، فلا تجد ما تعطيهم فيلومونك. وروي أن امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت: قل له إن أمي تستكسيك درعا، فإن قال: حتى يأتينا شئ، فقل له: إنها تستكسيك قميصك ! فأتاه فقال ما قالت له. فنزع قميصه فدفعه إليه، فنزلت الآية. ويقال: إنه عليه السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئا يلبسه، ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة، فلامه الكفار، وقالوا: إن محمدا اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة.
[ 245 ]
* (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أي: يوسع مرة، ويضيق مرة، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * أي: عالما بأحوالهم، بصيرا بمصالحهم، فيبسط على واحد، ويضيق على آخر، يدبرهم على ما يراه من الصلاح. النظم: وإنما اتصلت هذه الآية الأخيرة بما قبلها، من حيث إن فيها حثا على الإعطاء، اعتمادا على الله تعالى، ونهيا عن البخل، وحتما على القصد، إذ هو سبحانه مع غناه وكمال قدرته، يوسع مرة، ويضيق مرة أخرى، مراعاة للمصلحة، فمن هو دونه أولى أن يراعي الصلاح، ويملك طريق القصد. * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31) ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32) ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر، برواية ابن ذكوان: * (كان خطأ) * بفتح الخاء والطاء من غير ألف بعدها. وقرأ ابن كثير: * (خطاء) * بكسر الخاء ممدودا. والباقون: * (خطا) * بكسر الخاء من غير مد. وفي الشواذ قراءة الزهري، وأبي رجاء * (خطا) * بكسر الخاء غير ممدود. وقراءة الحسن: * (خطاء) * بالمد. وفي رواية أخرى عنه * (خطا) * بفتح الخاء والطاء خفيفة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم: * (فلا تسرف) * بالتاء. والباقون بالياء وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر * (القسطاس) * بكسر القاف. والباقون بضمها الحجة: الخطأ ما لم يتعمد. وكان المأثم فيه موضوعا عن صاحبه. قال أبو علي: قالوا أخطأ في معنى خطئ، كما أن خطئ في معنى أخطأ في مثل قوله:
[ 246 ]
عبادك يخطئون، وأنت رب كريم، لا يليق بك الذموم فمجرى الكلام أنهم خاطئون وفي التنزيل * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *. والمؤاخذة عن المخطئ موضوع، فهذا يدل على ان * (أخطأنا) * في معنى خطئنا. وكما جاء أخطأ في معنى خطئ كذلك جاء خطئ في معنى الخطأ في قوله: (يا لهف هند إذ خطئن كاهلا) (1) وفي قول لآخر: والناس يلحون الأمير إذا هم خطئوا الصواب، ولا يلام المرشد فكذلك قراءة ابن عامر: خطأ في معنى أخطأ، كما جاء خطئ بمعنى أخطأ. ويجوز أن يكون الخطأ بمعنى الخطء. أيضا، كالمثل والمثل، والشبه والشبه، والبدل والبدل. وأما قراءة ابن كثير * (خطاء) * فإنه يجوز أيضا أن يكون مصدر خاطأ، وإن لم يسمع خاطأ، ولكن جاء ما يدل عليه وهو قوله: (تخاطأت النبل أحشاءه قال: وأنشدنا محمد ابن السري في وصف كمأة: وأشعث قد ناولته أحرش القرى أدرت عليه المدجنات الهواضب تخاطأه القناص حتى وجدته، وخرطومه في منقع الماء راسب (2) تخاطأ يدل على خاطأ، لأن تفاعل مطاوع فعل، كما أن تفعل مطاوع فعل. ووجه من قرأ * (خطأ) * بين، فإنه يقال خطئ يخطأ خطأ إذا تعمد الشئ، والفاعل منه خاطئ. وقد جاء الوعيد فيه في قوله تعالى * (لا يأكله الا الخاطئون) * وأما خطاء: فهو اسم بمعنى المصدر، ومن أخطأت كالعطاء من أعطيت. وقال ابن جني: يقال خطئ يخطأ خطأة وخطأ في الدين، وأخطاء الغرض ونحوه، وقد يتداخلان. وأما خطأ وخط فتخفيف خطاء وخطاء. قال أبو علي: وأما قوله * (فلا يسرف) * بالياء فإن فاعل يسرف يجوز أن يكون على وجهين أحدهما. أن يكون القاتل الأول فيكون تقديره فلا يسرف القاتل في (1) هذا صدر بيت لامرئ القيس قاله عندما أغار على بني أسد. وبعده: (نحن جلبنا القرح القوافلا). (2) كل شئ خشن فهو أحرش وحرش، وفي بعض النسخ: (احوش) بالواو. وفي (التبيان) والمنقول من تفسيري القرطبي، وروح المعاني: (أحرس) بالسين. والراء والقرى: الطعام للضيف. وسحابة مدجنة: ذات المطر الكثير. والهضبة: المطرة الدائمة العظيمة القطر والقناص: الصيادون. (*)
[ 247 ]
القتل، ويكون مضمرا، وإن لم يجر له ذكر، لأن الحال تدل عليه. فإن قلت: كيف يكون في القتل قصد بين شيئين حتى ينهى عن الإسراف فيه الذي هو ترك القصد ؟ فالجواب: إنه لا يمتنع أن يكون فيه الإسراف، كما جاء في أموال اليتامى * (ولا تأكلوها إسرافا) *، ولم يجز أن يؤكل منه، لا على الإقتصاد، ولا على غيره لقوله * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * الآية فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول لا يسرف في القتل، لأنه بقتله يكون مسرفا، ويكون الضمير على هذا في قوله * (إنه كان منصورا) * لقوله * (ومن قتل مظلوما) * تقديره: فلا يسرف القاتل المبتدئ بقتله في القتل، لأن من قتل مظلوما كان منصورا، بأن يقتص له وليه، أو السلطان، إن لم يكن له ولي غيره، فيكون هذا ردعا للقاتل عن القتل، كما أن قوله * (ولكم في القصاص حياة) * كذلك. فالولي إذا اقتص فإنما يقتص للمقتول، ومنه انتقل الى الولي بدلالة أن المقتول لو أبرئ من السبب المؤدي إلى القتل، لم يكن للولي أن يقتص. ولو صالح الولي من العمد على مال كان للمقتول أن يؤدي منه دينه، ولا يمتنع أن يقال في المقتول منصور، لأنه قد جاء * (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) *. والآخر: أن يكون في يسرف ضمير الولي أي: فلا يسرف الولي في القتل، وإسرافه فيه أن يقتل غير الذي قتل، أو يقتل أكثر من قاتل وليه، وكان مشركو العرب يفعلون ذلك. والتقدير: فلا يسرف الولي في القتل، إذ الولي كان منصورا بقتل قاتل وليه، والإقتصاص من القاتل. ومن قرأ: * (فلا تسرف) * بالتاء احتمل وجهين أيضا أحدهما: أن يكون المبتدئ القاتل ظلما، فقيل له: لا تسرف أيها الإنسان فتقتل ظلما من ليس لك قتله. إن من قتل مظلوما كان منصورا بأخذ القصاص له والآخر: أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير فلا تسرف أيها الولي في القتل، فتتعدى قاتل وليك إلى من لم يقتله، إن المقتول ظلما كان منصورا. وكل واحد من المقتول ظلما، ومن ولي المقتول، قد تقدم ذكره في قوله * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وإما القسطاس والقسطاس فهما لغتان مثل القرطاس والقرطاس، والضم أكثر. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم، فقال: * (ولا تقتلوا أولادكم) * أي: بناتكم * (خشية إملاق) * أي: خوف فقر وعجز عن النفقة عليهن، ويحتمل أن يكون
[ 248 ]
قوله * (ولا تقتلوا) * منصوبا عطفا على قوله * (أن لا تعبدوا) * ويجوز أن يكون على النهي، فيكون مجزوما، وإنما نهاهم الله عن ذلك، لأنهم كانوا يئدون البنات فيدفنونهن أحياء * (نحن نرزقهم وإياكم) * أخبر سبحانه أنه متكفل برزق أولادهم، ورزقهم * (إن قتلهم كان خطأ كبيرا) * يعني: إن قتلهم في الجاهلية كان إثما عظيما عند الله، وهو اليوم كذلك * (ولا تقربوا الزنى) * وهو وطء المرأة حراما بلا عقد، ولا شبهة عقد * (إنه كان فاحشة) * أي: معصية كبيرة عظيمة. والمراد أنه كان عندهم في الجاهلية فاحشة، وهو الآن كذلك ومثل هذا في القرآن كثير * (وساء سبيلا) * أي: وبئس الطريق الزنى وفيه إشارة إلى أن العقل يقبح الزنى، من حيث إنه لا يكون للولد نسب، إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض، فيؤدي إلى قطع الأنساب، وإبطال المواريث، وإبطال صلة الرحم، وحقوق الآباء على الأولاد، وذلك مستنكر في العقول. وأخبرني المفيد عبد الجبار بن عبد الله بن علي قال: حدثنا الشيخ أبو جعفر الطوسي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن حبيب الفارسي، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الجرجرائي قال: سمعت أبا عمرو عثمان بن الخطاب المعروف بأبي الدنيا يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: في الزنا ست خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفنا. وأما اللواتي في الآخرة: فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النار، أو الخلود في النار. * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * وهو أن يجب عليه القتل، إما لكفره، أو ردته، أو لأنه قتل نفسا بغير حق، أو زنى، وهو محصن * (ومن قتل مظلوما) * بغير حق * (فقد جعلنا لوليه سلطانا) * أي: قد أثبتنا لوليه سلطان القود على القاتل، أو الدية، أو العفو، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: سلطان القود، عن قتادة * (فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) * مر تفسيره قبل * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) * فسرناه في سورة الأنعام * (وأوفوا بالعهد) * في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل: إن كل ما أمر الله به، ونهى عنه، فهو من العهد. وقد يجب الشئ أيضا بالنذر، والعهد به، وإن لم يجب ابتداء، وإنما يجب
[ 249 ]
عند العقد * (إن العهد كان مسؤولا) * عنه للجزاء عليه، فحذف عنه لأنه مفهوم. وقيل: ان معناه إن العهد يسأل فيقال له: بما نقضت كما تسأل الموؤودة: بأي ذنب قتلت * (وأوفوا الكيل إذا كلتم) * أي: أتموه. ولا تبخسوا منه، ومعناه: وأوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم * (وزنوا بالقسطاس) * وهو الميزان، صغر أم كبر، عن الزجاج. وقيل: هو القبان، عن الحسن. وقيل: هو العدل بالرومية، عن مجاهد. فيكون محمولا على موافقة اللغتين و * (المستقيم) * الذي لا بخس فيه، ولا غبن * (ذلك خير) * أي: خير ثوابا، عن قتادة. وقيل: أقرب إلى الله، عن عطا وقيل: معناه أن إيفاء الكيل والوزن خير لكم في دنياكم، فإنه يكسب اسم الأمانة في الدنيا * (وأحسن تأويلا) * أي: وأحسن عاقبة في الآخرة، ومرجعا من آل يؤول: إذا رجع. حث الله سبحانه بهذه الآية على إتمام الوزن والكيل في المعاملات والبياعات. وإيفاء حقوق العباد. * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (36) ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (38) ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلاها ءاخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39) أفأصفاكم ربكم بالبينين واتخذ من الملئكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40)) *. القراءة: قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة: * (كان سيئه) * بضم الهمزة مضافا إلى الهاء. وقرأ الباقون: * (سيئة) * منصوبا منونا غير مضاف. الحجة: من قرأ * (سيئه) * مضافا قال: لأنه قد تقدم ذكر أمور منها سئ، ومنها حسن، فخص الله سبحانه السئ منها بأنه مكروه عنده، لأنه عز اسمه لا يكره الحسن، ويقوي ذلك قوله * (مكروها) * ولو كان سيئة غير مضاف، لوجب أن تكون مكروهة. فإن قيل: إن التأنيث غير حقيقي، فلا يمتنع أن يذكر ؟ قيل: إن هاهنا التذكير لا يحسن، وإن لم يكن حقيقيا، لأن المؤنث قد تقدم ذكره فإن قوله: (ولا أرض أبقل أبقالها) (1) مستقبح عندهم، ولو قال أبقل الأرض لم يستقبح، وذلك ان (1) عجز بيت قاله عامر بن جوين الطائي، وقبله: (فلا مزنة ودقت ودقها) والمزنة: القطعة من = (*)
[ 250 ]
المتقدم الذكر ينبغي أن يكون الراجع إليه وفقه، كما يكون وفقه في التثنية والجمع، وإذا لم يتقدم له ذكر، لم يلزم أن يراعى ذلك. ومن قرأ * (سيئة) * فإنه يشبه أن يكون لما رأى الكلام اقتطع عند قوله * (وأحسن تأويلا) *، وكان الذي بعده من قوله * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * لا أمر حسنا فيه، قال: كل ذلك كان سيئة، فأفرد ولم يضف، فإن قلت: كيف ذكر المؤنث، ثم قال * (مكروها) * ؟ قلت: فإنه يجوز أن لا نجعل * (مكروها) * صفة لسيئة، ولكن نجعله بدلا. ولا يلزم أن يكون في البدل ذكر المبدل منه، كما يجب ذلك في الصفة. ويجوز أن يكون * (مكروها) * حالا من الذكر الذي في قوله * (عند ربك) * على أن تجعل * (عند ربك) * صفة للنكرة، قال النحوي البصير: ليس هذا بصحيح لأن الضمير الذي في الظرف مؤنث. كما ان السيئة مؤنث، فيلزم منه ما لزم من الأول، إذا جعلته صفة للسيئة. وإن حمله على التأنيث غير الحقيقي، يجئ منه ما قال في قوله: (ولا أرض أبقل أبقالها). اللغة: القفو: اتباع الأثر، ومنه القيافة، فكأنه يتبع قفا المتقدم، قال: ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء، لايشعن التقافيا (1) أي: التقاذف. قال أبو عبيدة: القفو العضيهة. يقال: قافه يقوفه. وقفاه يقفوه بمعنى، فهو مثل جذب وجبذ. وأصل الخرق: القطع. ورجل خرق: يتخرق في السخاء. والخرق: الفلاة لانقطاع أطرافها بتباعدها. قال رؤبة: (وقاتم الأعماق خاوي المخترق) (2) أي: خاوي المقطع. والمرح شدة الفرح. الاعراب: قال * (كل أولئك) *: لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل من المذكر والمؤنث. وإذا أريد الكثير، يقال كل هذه وتلك قال الشاعر: ذم المنازل بعد منزلة اللوى، والعيش بعد أولئك الأيام فأولئك كما يكون إشارة إلى العقلاء، يكون إشارة إلى غيرهم. وقوله * (كان عنه مسؤولا) *: الهاء تعود إلى * (كل) * أي: يسأل عن استعمال هذه الأشياء. وإن = السحاب. والولق: المطر. وأبقل: أخرج البقل. والشاهد في (أبقل) حيث لم يفل أبقلت. (1) قائله النابغة الجعدي. والشمم: ارتفاع قصبة الأنف. والعرنين: الأنف وشمم الأنف من صفات المدح. (2) وبعده: (مشتبه الأعلام لماع الخفق) ومكان قاتم الأعماق أي: مغبر النواحي. (*)
[ 251 ]
شئت كان الهاء يعود إلى الإنسان أي: يسأل عن الإنسان فيما استعمل هذه الأشياء، ويكون في * (مسؤولا) * ضمير يعود إلى * (كل) * وقدره أبو علي أن أفعال السمع والبصر والفؤاد كل أفعال أولئك. طولا، مصدر وضع موضع الحال. أما عن الفاعل في * (لن تبلغ) * أو من الجبال. وجوز الأمرين أبو علي. و * (فتلقى) *: منصوب بإضمار أن لكونه جواب النهي بالفاء. * (ملوما مدحورا) *: نصب على الحال. و * (مرحا) * نصب على التمييز. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال، كقولهم: جاء زيد ركضا، وجاء زيد راكضا. فركضا أوكد في الإستعمال، لأن ركضا يدل على توكيد الفعل، وتقديره: يركض ركضا، وعلى هذا يكون معناه، ولا تمش في الأرض مختالا. وقيل: إن * (طولا) * نصب على التمييز. المعنى: ثم قال سبحانه: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * ومعناه: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي: إذا مر بك فلا تغتبه، عن الحسن. وقيل: هو شهادة الزور، عن محمد بن الحنفية. والأصل أنه عام في كل قول، وفعل، أو عزم، يكون على غير علم، فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يقال، ولا تفعل إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يفعل، ولا تعتقد إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد. وقد استدل جماعة من أصحابنا بهذا على أن العمل بالقياس، وبخبر الواحد غير جائز، لأنهما لا يوجبان العلم، وقد نهى الله سبحانه عن اتباع ما هو غير معلوم. * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * معناه: إن السمع يسأل عما سمع، والبصر عما رأى، والقلب عما عزم عليه. ذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد، والمراد أن أصحابها هم المسؤولون، ولذلك قال * (كل أولئك) * وقيل: المعنى كل أولئك الجوارح يسأل عما فعل بها. قال الوالبي عن ابن عباس يسأل الله العباد فيما استعملوها. وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يزول قدم عبد يوم القيامة، بين يدي الله، عزوجل، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين كسبته، وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت * (ولا تمش في الأرض مرحا) * معناه: لا تمش على وجه الأشر والبطر، والخيلاء
[ 252 ]
والتكبر. قال الزجاج: معناه لا تمش في الأرض مختالا فخورا. وقيل: المرح شدة الفرح بالباطل. * (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) * هذا مثل ضربه الله تعالى قال: إنك أيها الإنسان لن تشق الأرض من تحت قدمك بكبرك، ولن تبلغ الجبال بتطاولك. والمعنى أنك لن تبلغ مما تريد كثير مبلغ، كما لا يمكنك أن تبلغ هذا. فما وجه المنابزة على ما هذا سبيله، مع أن الحكمة زاجرة عنه. وإنما قال ذلك، لأن من الناس من يمشي في الأرض بطرا، يدق قدميه عليها، ليري بذلك قدرته وقوته، ويرفع رأسه وعنقه، فبين سبحانه أنه ضعيف مهين، لا يقدر أن يخرق الأرض بدق قدميه عليها، حتى ينتهي إلى آخرها، وإن طوله لا يبلغ طول الجبال، وإن كان طويلا. علم الله سبحانه عباده التواضع، والمروءة، والوقار. * (كل ذلك) * إشارة إلى جميع ما تقدم ذكره مما نهى الله سبحانه عنه في هذه الآيات * (كان سيئه) * أي: معصيته * (عند ربك مكروها) * له سبحانه يكرهها، ولا يريدها، ولا يرضاها. وعلى القراءة الثانية، فيكون ذلك إشارة إلى جميع ما أمر به من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات، أي: كان سئ ما سبق من هذه الأشياء، مكروها عند ربك. وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول المجبرة، فإنه سبحانه صرح بأنه يكره المعاصي والسيئات، وإذا كرهها فكيف يريدها، فإن من المحال أن يكون الشئ الواحد مرادا مكروها عنده * (ذلك) * الذي تقدم ذكره من الأوامر، والنواهي * (مما أوحى إليك ربك) * يا محمد * (من الحكمة) * المؤدية إلى المعرفة بالحسن، والقبح، والفرق بينهما * (ولا تجعل مع الله إلها آخر) * في إقرارك وقولك. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به غيره، ليكون أبلغ في الزجر، كقوله: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *. * (فتلقى) * أي: فتطرح بمعنى أنك إذا فعلت ذلك القيت وطرحت * (في جهنم ملوما) * يلومك الناس * (مدحورا) * أي: مطرودا، مبعدا عن رحمة الله تعالى. * (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا) *: هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات الله تعالى، ومعناه: أخلصكم الله سبحانه بالبنين، وخضكم بهم، واتخذ لنفسه الإناث، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، واختصكم بالأرفع، وجعل لنفسه الأدون، تقول: أصفيت فلانا بالشئ: إذا آثرته به * (إنكم لتقولون قولا عظيما) *
[ 253 ]
أي: كبيرا في الإثم، واستحقاق العقوبة، حيث أضفتم إلى الله سبحانه ما لم ترضوا لأنفسكم به، وجعلتم الملائكة، وهم أعلى خلق الله وأشرفهم، أدون خلق الله، وهم الإناث. * (ولقد صرفنا في هذا القرءان ليذكروا ما يزيدهم إلا نفورا (41) قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا (42) سبحانه وتعلى عما يقولون علوا كبيرا (43) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: * (ليذكرو) * ساكنة الذال خفيفة، وفي سورة الفرقان مثله. والباقون: * (ليذكروا) * بفتح الذال والكاف وتشديد هما في السورتين. وقرأ * (كما يقولون) * بالياء. * (يسبح له) * بالياء: أهل المدينة، والشام، وأبو بكر. وقرأ أهل البصرة: * (كما تقولون) * بالتاء * (عما يقولون) * بالياء * (تسبح له) * بالتاء. وقرأ حفص: * (كما يقولون) * * (عما يقولون) * بالياء، * (تسبح) * بالتاء. وقرأ الجميع بالياء ابن كثير. وقرأ الجميع بالتاء، حمزة، والكسائي، وخلف. الحجة: قال أبو علي: حجة من قال * (ليذكروا) * قوله: * (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) * فالتذكر هنا أشبه من الذكر، لأنه كان يراد به التدبر، وليس يراد الذكر الذي هو ضد النسيان، ولكنه كما قال: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) *، وليس المراد ليتذكروه بعد نسيانهم، بل المراد ليتدبروه بعقولهم. ووجه التخفيف أن التخفيف قد جاء في هذا المعنى: * (خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه) * فهذا ليس على معنى لا تنسوه، ولكن تدبروه. ومن قرأ * (كما يقولون) * بالياء فالمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه، فهو مثل قوله تعالى * (قل للذين كفروا ستغلبون) * لأنهم غيب. فأما من قرأ * (سبحانه وتعالى عما يقولون) *. فإنه يحتمل وجهين أحدهما: أن يعطف على * (كما يقولون) *. والآخر: أن يكون نزه سبحانه نفسه عن دعوتهم، مال * (سبحانه وتعالى عما يقولون) *. ومن قرأ * (كما تقولون) * بالتاء. و * (عما يقولون) * بالياء فإن الأول على ما تقدم، والثاني على أنه نزه نفسه عن قولهم. ويجوز أن تحمله على القول، كأنه قال قل أنت سبحانه
[ 254 ]
وتعالى عما يقولون. وأما قوله * (تسبح له السماوات) * فكل واحد من الياء والتاء حسن. المعنى: ثم احتج سبحانه على الذين تقدم ذكرهم، فقال: * (ولقد صرفنا) * أي: كررنا الدلائل، وفصلنا المعاني، والأمثال، وغير ذلك مما يوجب الإعتبار به * (في هذا القرآن ليذكروا) * أي: ليتفكروا فيها، فيعلموا الحق. وحذف ذكر الدلائل والعبر، لدلالة الكلام عليه وعلم السامع به * (وما يزيدهم إلا نفورا) * أي: وما يزداد هؤلاء الكفار عند تصريف الأمثال والدلائل لهم إلا تباعدا عن الإعتبار، ونفورا عن الحق. وأضاف النفور إلى القرآن، لأنهم ازدادوا النفور عند نزوله كقوله * (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) *. فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن، فما المعنى في إنزاله ؟ وما وجه الحكمة فيه ؟ قيل: الحكمة فيه إلزام الحجة، وقطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف، وأنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، ولو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان، يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور. فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، وإنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات والدلائل، لاعتقادهم أنها شبه، وحيل، وقلة تفكرهم فيها. * (قل) * يا محمد لهؤلاء المشركين: * (لو كان معه آلهة كما يقولون) * هم، أو تقولون أنتم على القراءتين * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * أي: لطلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش، والتمسوا الزلفة عنده، لعلمهم بعلوه عليهم، وعظمته، عن مجاهد، وقتادة. وقال أكثر المفسرين: معناه لطلبوا سبيلا إلى معازة مالك العرش، ومغالبته، ومنازعته، فإن المشتركين في الإلهية يكونان متساويين في صفات الذات، ويطلب أحدهما مغالبة صاحبه، ليصفو له الملك. وفي هذا إشارة إلى دليل التمانع. ثم نزه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهية، فقال: * (سبحانه وتعالى عما يقولون) * أي: عن قولهم * (علوا كبيرا) * وإنما لم يقل تعاليا كبيرا، لأنه وضع مصدر مكان مصدر، نحوه قوله: * (تبتل إليه تبتيلا) *. ومعنى تعالى أن صفاته في أعلى المراتب، ولا مساوي له فيها، لأنه قادر لا أحد أقدر منه، وعالم لا أحد أعلم منه وخص العرش بإضافته إليه تعظيما للعرش. ويجوز أن يريد بالعرش الملك. * (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) * معنى التسبيح هاهنا: الدلالة
[ 255 ]
على توحيد الله، وعدله، وأنه لا شريك له في الإلهية، وجرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ. وربما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى، لأنه يؤدي إلى العلم * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * أي: ليس شئ من الموجودات إلا ويسبح بحمدالله تعالى من جهة خلقته، إذ كل موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير مصنوع صنعه، أو صنع من صنعه، فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شئ سواه، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات. وقيل: إن معناه وما من شئ من الأحياء إلا يسبح بحمده، عن الحسن. وقيل: إن كل شئ على العموم من الوحوش والطيور والجمادات، يسبح الله تعالى، حتى صرير الباب، وخرير الماء، عن إبراهيم وجماعة * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * أي: لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء، حيث لم تنظروا فيها، فتعلموا كيف دلالتها على توحيده * (إنه كان حليما) * يمهلكم ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفركم * (غفورا) * لكم إذا تبتم، وأنبتم إليه. * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالأخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفئ اذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذهم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48)) *. اللغة: الوقر: بالفتح، الثقل في الأذن. وبالكسر: الحمل. والأصل فيه الثقل، إلا أنه خولف بين البناءين للفرق. والنفور: جمع نافر. وهذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول، مثل ركوع، وسجود، وشهود. والنجوى: مصدر يوصف به الواحد، والإثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهو مقر على لفظه. الاعراب: قوله * (أن يفقهوه) *: في موضع نصب بأنه مفعول له، على كراهة أن يفقهوه. * (نفورا) *: نصب على الحال، وتقديره ولوا نافرين. وقيل: انه مصدر، ولو أخرج على غير لفظه، لأن معنى ولوا نفروا، فكأنه قال: نفروا نفورا
[ 256 ]
النزول: قيل: نزل قوله: * (وإذا قرأت القرآن) * الآية، في قوم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل إذا تلا القرآن، وصلى عند الكعبة. وكانوا يرمونه بالحجارة، ويمنعونه عن دعاء الناس إلى الدين، فحال الله سبحانه بينه وبينهم، حتى لا يؤذوه، عن الزجاج، والجبائي. المعنى: لما تقدم قوله: * (ولقد صرفنا في هذا القرآن) * بين سبحانه حالهم عند قراءة القرآن، فقال: * (وإذ قرأت القرآن) * يا محمد * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) * وهم المشركون * (حجابا مستورا) * قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحرث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يأتونه ويمرون به، ولا يرونه. وقيل أراد حجابا ساترا، عن الأخفش. والفاعل قد يكون في لفظ المفعول يقال: مشؤوم وميمون، إنما هو شائم ويا من. وقيل: هو على بناء النسب، لا على أن المفعول بمعنى الفاعل، والفاعل بمعنى المفعول. والمعنى، حجابا ذا ستر، وهذا هو الصحيح، وقيل: حجابا مستورا عن الأعين، لا يبصر، إنما هو من قدرة الله تعالى، حجب نبيه بحجاب لا يرونه، ولا يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: إن المعنى في الآية (جعلنا بينك وبينهم حجابا) بمعنى باعدنا بينك وبينهم في القرآن، فهو لك وللمؤمنين معك، شفاء وهدى، وهو للمشركين في آذانهم، وقر وعليهم عمى، فهذا هو الحجاب، عن أبي مسلم. وهذا بعيد والأول أوجه لأنه الحقيقة * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * مر تفسيره في سورة الأنعام * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) * معناه: وإذا ذكرت الله بالتوحيد، وأبطلت الشرك * (ولوا على أدبارهم نفورا) * أي: أعرضوا عنك مدبرين نافرين، والمعني بذلك كفار قريش. وقيل: هم الشياطين، عن ابن عباس. وقيل: معناه إذا سمعوا بسم الله الرحمن الرحيم، ولوا. وقيل: إذا سمعوا قول لا إله إلا الله * (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك) * معناه: ليس يخفى علينا حال هؤلاء المشركين، وغرضهم في الإستماع إليك، وقد علمنا سبب استماعهم، وهذا كما يقال فعلت ذلك بحرمتك. * (وإذ هم نجوى) * أي: متناجون. وقيل: هم ذوو نجوى، والمعنى: إنا نعلمهم في حال ما يصغون إلى سماع قراءتك، وفي حال ما يقومون من عندك، ويتناجون فيما بينهم، فيقول
[ 257 ]
بعضهم: هو ساحر وبعضهم: هو كاهن، وبعضهم: هو شاعر. وقيل: يعني به أبا جهل، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وخويطب بن عبد العزى، اجتمعوا وتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو جهل: هو مجنون، وقال زمعة: هو شاعر، وقال خويطب: هو كاهن. ثم أتوا الوليد بن المغيرة، وعرضوا ذلك عليه. فقال: هو ساحر * (إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) * قيل. فيه وجوه أحدها أنهم يقولون ما يتبعون إلا رجلا قد سحر، فاختلط عليه أمره، وإنما يقولون ذلك للتنفير عنه. وثانيها: إن المراد بالمسحور المخدوع المعلل، كما في قول امرئ القيس: أرانا موضعين لحتم غيب، ونسحر في الطعام، وفي الشراب (1) وقول أمية بن أبي الصلت: فإن تسألينا: فيم نحن ؟ فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر (2) وثالثها: إن المعنى إن تتبعون إلا رجلا ذا سحر أي: رئة خلقه الله بشرا مثلكم، ورابعها: إن المسحور بمعنى الساحر، كما قيل في قوله * (حجابا مستورا) * أي: ساترا وقد زيف هذا الوجه. والوجوه الثلاثة أوضح، وعلى هذا فمعنى الآية البيان عما توجبه حال المعادي للدين، الناصب للحق اليقين، وإن قلبه كأنه في كنان عن تفهمه، وكأن في أذنيه وقرا عن استماعه، فهو مول نافر عنه، يناجي في حال الإنحراف عنه، جهالا أمثاله، قد بعدوا بالحجة حتى نسبوا صاحبها إلى أنه مسحور، لما لم يكن لهم إلى مقاومة ما أتى به سبيل، ولا على كسره بالمعارضة دليل. ثم قال سبحانه على وجه التعجيب: * (انظر) * يا محمد * (كيف ضربوا لك الأمثال) * أي: شبهوا لك الأشياء، فقالوا مجنون، وساحر، وشاعر * (فضلوا) * بهذا القول عن الحق * (فلا يستطيعون سبيلا) * أي: لا يجدون حيلة، ولا طريقا، إلى بيان تكذيبك إلا البهت الصريح. وقيل: لا يجدون سبيلا أي: لا يجدون حيلة وطريقا إلى صد الناس عنك، وإلى اثبات ما ادعوا عليك، وقيل: ضلوا عن الطريق المستقيم، وهو الدين والإسلام فلا يجدون إليه طريقا بعد ما ضلوا عنه. (1) قوله مرضعين أي: مسرعين. وأراد من قوله (لحتم غيب): الموت الذي قد غيب عنا وقته، وقد مر البيت أيضا في الجزء الخامس من هذا التفسير. (2) نسبه في (التبيان) (واللسان) (والصحاح) إلى لبيد، وهو موجود في ديوانه: 1: 80. (*)
[ 258 ]
* (وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) * قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيد ناقل الذى فطركم أول مرة فسينغضون إليك رء وسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (51) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52)) *. اللغة: الرفات: ما تكسر وبلى من كل شئ، ويكثر بناء فعال في كل ما يحطم ويرضض، يقال: حطام، ودقاق، وتراب، وقال المبرد: كل شئ مدقوق، مبالغ في دقه حتى انسحق، فهو رفات، وقال الفراء: لا واحد له من لفظه. يقال: رفت الشئ رفتا فهو مرفوت: إذا صير كالحطام. ويقال: انغض رأسه ينغضه، ونغض رأسه ينغضه نغضا: إذا حركه. قالوا: والنغض تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض، ومنه قيل للظليم (1) نغض لأنه يحرك رأسه في مشيه بارتفاع وانخفاض. قال العجاج: (أصك نغضا لا يني مستهدجا) (2). ونغض السن: إذا تحركت، قال: (فنغضت من هرم أسنانها). الاعراب: * (إذا) *: في موضع نصب بفعل يدل عليه قوله * (أإنا لمبعوثون) *، وتقديره أنبعث في ذلك الوقت. ولايجوز أن يكون ظرفا لقوله * (مبعوثون) *، لأن ما بعد أن ولام الإبتداء، لا يجوز أن يعمل فيما قبلهما. والباء في * (بحمده) * باء الحال أي: تستجيبون حامدين له. و * (يدعوكم) *: في موضع الجر بإضافة يوم إليه * (وتستجيبون) *: عطف عليه. * (وتظنون) *: ليس في موضع الجر، لأن الواو للحال، وتقديره: وحالكم إذ ذاك أن تظنوا. و * (قليلا) *: نصب على الظرف. وتقديره إن لبثتم إلا زمنا قليلا. المعنى: لما تقدم ذكر البعث والنشور، حكى سبحانه عن الكفار ما قالوا في إنكاره، فقال: * (وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا) * أي: غبارا، عن ابن عباس، وقيل: (1) الظليم: الذكر من النعام. (2) هذا عجز بيت صدره: (واستبدلت رسومه سفنجا) والصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبتين من الإنسان وغيره. ومستهدجا أي: مستعجلا. (*)
[ 259 ]
ترابا، عن مجاهد * (ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا) * والمعنى: قال المنكرون للبعث: إنا إذا متنا، وانتثرت لحومنا، وصرنا عظاما وترابا، أنبعث بعد ذلك خلقا جديدا، أي: متجددا، وهو إنكار في صورة الإستفهام * (قل) * يا محمد لهم * (كونوا حجارة أو حديدا) * أي: اجهدوا في أن لا تعادوا، وكونوا إن استطعتم حجارة في القوة، أو حديدا في الشدة. * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) * أي: خلقا هو أعظم من ذلك عندكم وأصعب، فإنكم لا تفوتون الله تعالى، وسيحييكم بعد الموت، وينشركم. إلا أن الكلام خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل يعني بقوله: ما يكبر في صدوركم الموت، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، أي: لو كنتم الموت، لأماتكم الله تعالى، وليس شئ أكبر في صدور بني آدم من الموت. وقيل: يعني به السماوات، والأرض، والجبال، عن مجاهد. * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) * معناه: فإنك إذا قلت لهم ذلك، سيقولون لك: من يحيينا بعد الموت ؟ قل يا محمد: يحييكم من خلقكم أول مرة، فإن من قدر على ابتداء الشئ، كان على إعادته أقدر، ما لم تبطل قدرته، ولم يتغير. فإن إبتداء الشئ أصعب من إعادته. وإنما قال ذلك لهم، لأنهم كانوا يقرون بالنشأة الأولى. * (فسينغضون إليك رؤوسهم) * أي: فسيحركون إليك رؤوسهم، تحريك المستهزئ المستخف المستبطئ، لما تنذرهم به. * (ويقولون متى هو) * أي: متى يكون البعث * (قل عسى أن يكون قريبا) * لأن ما هو آت قريب. ومن كلام الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * معناه: عسى أن يكون بعثكم قريبا أيها المشركون، يوم يدعوكم من قبوركم إلى الموقف على ألسنة الملائكة، وذلك عند النفخة الثانية، فيقولون: أيتها العظام النخرة، والجلود البالية ! عودي كما كنت. فتستجيبون مضطرين بحمده أي: حامدين لله على نعمه، وأنتم موحدون. وهذا كما يقول القائل جاء فلان بغضبه أي: جاء غضبان. وقيل: معنى تستجيبون بحمده: إنكم تستجيبون معترفين بأن الحمدلله على نعمه، لا تنكرونه، لأن المعارف هناك ضرورية. قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم، يقولون: سبحانك وبحمدك، ولا ينفعهم في ذلك اليوم، لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * أي: وتظنون أنكم لم تلبثوا في
[ 260 ]
الدنيا إلا قليلا، لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة. قال الحسن، وقتادة: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا، لما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة. ومن المفسرين من يذهب إلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم الذين يستجيبون لله بحمده، ويحمدونه على إحسانه إليهم، ويستقلون مدة لبثهم في البرزخ، لكونهم في قبورهم منعمين غير معذبين، وأيام السرور والرخاء قصار. * (وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (53) ربكم أعلم بكم إن يشأير حكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا (54) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وءاتينا داود زبورا (55) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)) *. اللغة: الوسيلة: القربة. والواسل: الراغب. قال لبيد: (بلى كل ذي دين إلى الله واسل). قال الزجاج: الوسيلة، والسؤال، والطلبة، في معنى واحد. الاعراب: * (يقولوا) *: جواب شرط محذوف تقديره قل لعبادي قولوا التي هي أحسن يقولوا. وكان أبو عثمان يزعم أن * (يقولوا) * واقع موقع قولوا، وهو مبني لأنه وقع موقع قولوا، ووقوع الفعل موقع الفعل المبني، لا يوجب له البناء. ألا ترى أن قوله * (تؤمنون بالله ورسوله) * واقع موقع * (آمنوا) * وهو معرب. وإنما ذلك في الأسماء نحو يا زيد بني لوقوعه موقع يا أنت. (أولئك): رفع بالإبتداء. و * (الذين يدعون) *: صفة لهم. و * (يبتغون) *: خبر الإبتداء. وقوله * (أيهم أقرب) *: قال الزجاج: إن شئت كان * (أيهم) * رفعا بالإبتداء، والخبر وقوله * (أقرب) * ويكون معناه: ينظرون أيهم أقرب إليه فيتوسلون به. والجملة متعلقة بينظرون المضمرة. ويجوز أن يكون * (أيهم أقرب) * بدلا من الواو في * (يبتغون) *. النزول: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بمكة فيقولون: يا
[ 261 ]
رسول الله ! إئذن لنا في قتالهم ؟ فيقول لهم: إني لم أؤمر بشئ. فأنزل الله سبحانه * (قل لعبادي) * الآية، عن الكلبي. المعنى: ثم أمر سبحانه عباده باتباع الأحسن من الأقوال والأفعال، فقال: * (وقل) * يا محمد * (لعبادي) * وهذا إضافة تخصيص وتشريف، أراد به المؤمنين. وقيل: هو عام في جميع المكلفين * (يقولوا التي هي أحسن) * أي: يختاروا من المقالات والمذاهب، المقالة التي هي أحسن المقالات، والمذاهب. وقيل: مرهم يقولوا الكلمة التي هي أحسن الكلمات، وهي كلمة الشهادتين، وكل ما ندب الله إليه من الأقوال. وقيل: معناه يأمروا بما أمر الله به، وينهوا عما نهى الله عنه، عن الحسن. وقيل: معناه قل لهم يقل بعضهم لبعض أحسن ما يقال، مثل: رحمك الله، ويغفر الله لك. وقيل: معناه قل لعبادي إذا سمعوا قولك الحق، وقول المشركين، يقولوا ما هو أولى، ويتبعوا ما هو أحسن، عن أبي مسلم. وقال نظيره: * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) *. * (إن الشيطان ينزغ بينهم) * أي: يفسد بينهم، ويغري بعضهم ببعض، ويلقي بينهم العداوة. * (إن الشيطان كان) * في جميع الأوقات * (للإنسان) * أي: لآدم وذريته * (عدوا مبينا) * مظهرا للعداوة. ثم خاطب سبحانه الفريقين، فقال: * (ربكم أعلم بكم) * معناه: إنه أعلم بأحوالكم، فيدبر أموركم على ما يعلمه من المصلحة لكم * (إن يشأ يرحمكم أو إن يشا يعذبكم) * قيل: أراد أنه سبحانه مالك للرحمة والعذاب، فيكون الرجاء إليه، والخوف منه، عن الجبائي. وقيل: معناه إن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو إن يشأ يعذبكم بالإصرار على المعصية، عن الحسن: وقيل: معناه إن يشأ يرحمكم بإخراجكم من مكة، وتخليصكم من إيذاء المشركين، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم. وقيل: إن يشأ يرحمكم بفضله، وإن يشأ يعذبكم بعدله، وهو الأظهر. ثم عاد إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (وما أرسلناك عليهم وكيلا) * أي: وما أرسلناك موكلا عليهم، حفيظا لأعمالهم، يدخل الإيمان في قلوبهم، شاؤوا أم أبوا. ومعناه: إنك لا تؤاخذ بأعمالهم، فإنا أرسلناك داعيا لهم إلى الإيمان، فإن أجابوك وإلا فلا شئ عليك، فإن عتاب ذلك يحل بهم، واللائمة تلزمهم * (وربك أعلم بمن في السماوات والأرض) * أي: هو أعلم بمن في السماوات من الملائكة، وبمن في الأرض من الأنبياء. بين سبحانه بهذا أنه لم يختر الملائكة
[ 262 ]
والأنبياء للميل إليهم، وإنما اختارهم لعلمه بباطنهم. وقيل: معناه إنه أعلم بالجميع، فجعلهم مختلفين في الصور والرزق والأحوال، كما اقتضته المصلحة، كما فضل بعض النبيين على بعض * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) * والمعنى: إن الأنبياء وإن كانوا في أعلى مراتب الفضل، فإنهم طبقات في ذلك، وبعضهم أعلى من بعض، بزيادة الدرجة والثواب، وبالمعجزات والكتاب. ولما كان سبحانه عالما ببواطن الأمور، إختارك للنبوة، وفضلك على الأنبياء، كما فضل بعضهم على بعض، فسخر لبعضهم النار، وألان لبعضهم الحديد، وآتى بعضهم الملك، وكلم بعضهم، وكذلك خصك بخصائص لم يعطها أحدا، وختم بك النبوة. ثم قال: * (وآتينا داود زبورا) * قال الحسن: كل كتاب زبور، إلا أن هذا الإسم غلب على كتاب داود عليه السلام، كما غلب إسم الفرقان على القرآن، وإن كان كل كتاب من كتب الله فرقانا، لأنه يفرق بين الحق والباطل. وقال الزجاج: معنى ذكر داود هنا: إنه يقول لا تنكروا تفضيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإعطاءه القرآن، فقد أعطينا داود الزبور. ثم قال سبحانه لنبيه، صلى الله عليه وآله وسلم: * (قل) * يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله * (ادعوا الذين زعمتم من دونه) * أنها آلهة عند ضر ينزل بكم، ليكشفوا ذلك عنكم، أو يحولوا تلك الحالة إلى حالة أخرى. * (فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) * للحالة التي تكرهونها إلى حالة تحبونها، يعني تحويل حال القحط إلى الخصب، والفقر إلى الغنى، والمرض إلى الصحة. وقيل: معناه لا يملكون تحويل الضر عنكم إلى غيركم. بين سبحانه أن من كان بهذه الصفة، فإنه لا يصلح للإلهية، ولا يستحق العبادة. والمراد بالذين من دونه هم الملائكة، والمسيح، وعزير، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: هم الجن، لأن قوما من العرب كانوا يعبدون الجن، عن ابن مسعود، وقال: وأسلم أولئك النفر من الجن، وبقي الكفار على عبادتهم. قال الجبائي: ثم رجع سبحانه إلى ذكر الأنبياء في الآية الأولى، فقال: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * ومعناه: أولئك الذين يدعون إلى الله تعالى، ويطلبون القربة إليه بفعل الطاعات * (أيهم أقرب) * أي: ليظهر أيهم الأفضل والأقرب منزلة منه، وتأويله: إن الأنبياء مع علو رتبهم، وشرف منزلتهم إذا لم يعبدوا غير الله، فأنتم أولى أن لا تعبدوا غير الله، وإنما ذكر ذلك حثا على الإقتداء بهم. وقيل: إن معناه أولئك الذين يدعونهم
[ 263 ]
ويعبدونهم، ويعتقدون أنهم آلهة من المسيح والملائكة، يبتغون الوسيلة والقربة إلى الله تعالى، بعبادتهم، ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته، أو يطلب كل منهم أن يعلم أيهم أقرب إلى رحمته، أو إلى الإجابة. * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) * أي: وهم مع ذلك يستغفرون لأنفسهم، فيرجون رحمته، إن أطاعوا، ويخافون عذابه إن عصوا، ويعملون عمل العبيد * (إن عذاب ربك كان محذورا) * أي: متقى يجب أن يحذر منه لصعوبته. وقد ذكرنا ما جاء في معنى الوسيلة عند قوله * (وابتغوا إليه الوسيلة) *. * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58) وما منعنا أن نرسل بالأيات إلا أن كذب بها الأولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالأيات إلا تخويفا (59) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60) *. اللغة: المسطور: المكتوب. قال العجاج: واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى الذي كان سطر والمنع: وجود ما لا يصح معه وقوع الفعل من القادر عليه. وإنما جاز في وصف الله تعالى منعا للمبالغة في أنه لا يقع منه الفعل، فكأنه قد منع منه الفعل، وإن كان لا يجوز إطلاق مثل هذه الصفة عليه سبحانه، لأنه قادر لذاته، ومقدوراته غير متناهية، فلا يصح أن يمانعه شئ. الاعراب: * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن. كذب بها الأولون) *: أن الأولى نصب، وأن الثانية رفع، والمعنى: وما منعنا الإرسال إلا تكذيب الأولين. و * (مبصرة) *: نصب على الحال. * (والشجرة الملعونة) *: تقديرها وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس أيضا. والمعنى الشجرة الملعونة أهلها وآكلوها،
[ 264 ]
وهم الكفرة والفجرة، فلما حذف المضاف إستتر الضمير في إسم المفعول، فأنث المفعول لما جرى على الشجرة. وقوله: * (فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) * أي: فما يزيدهم التخويف، فأضمر التخويف لجري ذكر الفعل. وانتصب قوله * (طغيانا) * على أنه مفعول ثان لقوله يزيد. المعنى: ثم زاد سبحانه في الموعظة، فقال: * (و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) * معناه: وما من قرية إلا نحن مهلكوها بإماتة أهلها * (أو معذبوها عذابا شديدا) * وهو عذاب الإستئصال، فيكون هلاك الصالحين بالموت، وهلاك الطالحين بالعذاب في الدنيا، فإنه يفني الناس، ويخرب البلاد قبل يوم القيامة، ثم تقوم القيامة، عن الجبائي، و مقاتل. وقيل: إن المراد بذلك قرى الكفر والضلال، دون قرى الإيمان، والمراد بالإهلاك: التدمير، عن أبي مسلم * (كان ذلك في الكتاب مسطورا) * أخبر أن ذلك كائن لا محالة، ولا يكون خلافه، ومعناه: كان ذلك الحكم في الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته، وهو اللوح المحفوظ مكتوبا. * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلى أن كذب بها الأولون) * ذكر فيه أقوال أحدها: إن التقدير ما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين، ومعناه: إنا لم نرسل الآيات التي اقترحتها قريش في قولهم: حول لنا الصفا ذهبا، وفجر لنا الأرض ينبوعا، إلى غير ذلك، لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة، كما أنا لما أجبنا الأولين من الأمم إلى آيات اقترحوها، فكذبوا بها، عذبناهم بعذاب الإستئصال، لأن من حكم الآية المقترحة أنه إذا كذب بها، وجب عذاب الإستئصال، ومن حكمنا النافذ في هذه الآيات أن لا نعذبهم بعذاب الإستئصال، لشرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولما يعلم في ذلك من المصلحة، ولأن فيهم من يؤمن به وينصره، ومن يولد له ولد مؤمن، ولأن أمته باقية، وشريعته مؤبدة إلى يوم القيامة، فلذلك لم نجبهم إلى ذلك، وأنزلنا من الآيات الواضحات، والمعجزات البينات، ما تقوم به الحجة، وتنقطع به المعذرة. والثاني: إن معناه: إنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها، فيكون إنزالنا إياها عبثا لا فائدة فيه، كما أن من كان قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات، والمعجزات ضربان: أحدهما: ما لا يصح معرفة النبوة إلا به، وهذا الضرب لابد من إظهاره، سواء وقع منه الإيمان، أو لم يقع والثاني: ما يكون لطفا في الإيمان، فهذا أيضا يظهره الله سبحانه، وما خرج عن هاتين الصفتين من المعجزات، لا يفعله
[ 265 ]
سبحانه والثالث: إن المعنى أنا لا نرسل الآيات، لأن آباءكم وأسلافكم سألوا مثلها، ولم يؤمنوا عندها، وأنتم على آثار أسلافكم مقتدون. فكما لم يؤمنوا هم، لا تؤمنون أنتم، عن أبي مسلم. * (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) * أي: بينة أراد آية مبصرة. كما قال * (وجعلنا آية النهار مبصرة) * ومعناه: دلالة واضحة ظاهرة. وقيل: ذات إبصار. وقيل: تبصرهم وتبين لهم حتى يبصروا بها الهدى من الضلالة، وهي ناقة صالح المخرجة من الصخرة على الصفة التي اقترحوها * (فظلموا بها) * أي: فكفروا بتلك الآية وجحدوا بأنها من عند الله. وقيل: ظلموا أنفسهم بسببها، وبعقرها * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * أي: لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلا عظة للناس، وزجرا أو تخويفا لهم من عذاب الله، إن لم يؤمنوا. ثم خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (وإذ قلنا لك) * أي: واذكر الوقت الذي قلنا لك يا محمد * (إن ربك أحاط بالناس) * أي: أحاط علما بأحوالهم، وبما يفعلونه من طاعة أو معصية، وما يستحقونه على ذلك من الثواب والعقاب، وهو قادر على فعل ذلك بهم، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته، وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل: إن المراد به أنه عالم بجميع الأشياء، فيعلم قصدهم إلى إيذائك، إذا لم تأتهم ما اقترحوا منك من الآيات. وهذا حث للرسول صلى الله عليه وآله وسلم على التبليغ، ووعد له بالعصمة من أذية قومه، وهذا معنى قول الحسن. وقيل: معناه إنه أحاط بأهل مكة، فيستفتحها لك، عن مقاتل. وقال الفراء: معناه أحاط أمره بالناس. وقيل: معناه أنه قادر على ما سألوه من الآيات، عالم بمصالحهم، فلا يفعل إلا ما هو الصلاح، فامض لما أمرت به من التبليغ، فإن الله سبحانه إن أنزلها، فلما يعلم في إنزالها من اللطف، وإن لم ينزلها، فلما يعلم من المصلحة، عن الجبائي. * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) * فيه أقوال أحدها: إن المراد بالرؤيا، رؤية العين، وهي ما ذكره في أول السورة في إسراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مكة إلى بيت المقدس، وإلى السماوات، في ليلة واحدة، إلا أنه لما رأى ذلك ليلا، وأخبر بها حين أصبح، سماها رؤيا، وسماها فتنة، لأنه أراد بالفتنة الإمتحان، وشدة التكليف، ليعرض المصدق بذلك لجزيل ثوابه، والمكذب لأليم عقابه، وهذا معنى قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد وثانيها: ما روي عن ابن عباس في رواية أخرى: إنها رؤيا نوم رآها
[ 266 ]
أنه سيدخل مكة، وهو بالمدينة، فقصدها فصده المشركون في الحديبية عن دخولها، حتى شك قوم، ودخلت عليهم الشبهة، فقالوا: يا رسول الله ! أليس قد أخبرتنا أنا ندخل المسجد الحرام آمنين ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أو قلت لكم إنكم تدخلونها العام ؟ قالوا: لا. فقال: لندخلها إن شاء الله ورجع. ثم دخل مكة في العام القابل، فنزل * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * وهو قول الجبائي، وأبي مسلم. وإنما كان فتنة وامتحانا وابتلاء لما ذكرناه وثالثها: إن ذلك رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه ان فرودا تصعد منبره وتنزل، فساءه ذلك، واغتم به. روى سهل بن سعيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك، وقال إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستجمع بعد ذلك ضاحكا حتى مات، وروى سعيد بن يسار أيضا، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام وقالوا على هذا التأويل: إن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية، أخبره الله سبحانه بتغلبهم على أنامه، وقتلهم ذريته. روي عن المنهال بن عمرو قال: دخلت على علي بن الحسين عليه السلام فقلت له: كيف أصبحت يا بن رسول الله ؟ فقال: أصبحنا والله بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وأصبح خير البرية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يلعن على المنابر، وأصبح من يحبنا منقوصا حقه بحبه إيانا. وقيل للحسن: يا أبا سعيد ! قتل الحسين بن علي عليه السلام ! فبكى حتى اختلج جنباه، ثم قال: واذلاه لأمة قتل ابن دعيها ابن بنت نبيها ! وقيل: إن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: الشجرة الملعونة هي اليهود، عن أبي مسلم، وتقدير الآية * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة إلا فتنة للناس) * قالوا: وإنما سمى شجرة الزقوم فتنة، لأن المشركين قالوا: إن النار تحرق الشجرة، فكيف تنبت الشجرة في النار ؟ وصدق بها المؤمنون. وروي أن أبا جهل قال: إن محمدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها الشجرة، وقوله * (في القرآن) * معناه التي ذكرت في القرآن * (ونخوفهم) * أي: نرهبهم بما نقص عليهم من هلاك الأمم الماضية. وقيل: بما نرسل من الآيات * (فما يزيدهم) * ذلك * (إلا طغيانا كبيرا) * أي: عتوا في الكفر عظيما، وتماديا في الغي كبيرا، لأنهم لا يرجعون عنه.
[ 267 ]
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس قال ءأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرءيتك هذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا (62) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)) *. القراءة: قرأ حفص: * (ورجلك) * بكسر الجيم. والباقون بسكونها. الحجة: من سكن الجيم فهو جمع راجل، مثل راكب وركب، وصاحب وصحب، وتاجر وتجر. وأما قراءة حفص بكسر الجيم فروى أبو علي عن أبي زيد: يقال رجل رجل للراجل، ويقال: جاءنا حافيا رجلا. وأنشد: أما أقاتل عن ديني على فرس، ولا كذا رجلا إلا بأصحاب (1) كأنه قال: أما أقاتل فارسا وراجلا. وروى ابن جني عن قطرب أنه قال: الرجل الرجال وعليه قراءة عكرمة، وقتادة: ورجالك. قال زهير في الرجل: هم ضربوا عن فرجها بكتيبة كبيضاء حرس في جوانبها الرجل (2) اللغة: الإحتناك: الإقتطاع من الأصل، يقال إحتنك فلان ما عند فلان من مال، أو علم: إذا استقصاه فأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع: إذا أكله كله. قال الشاعر: (1) قائله: يحيى بن وائل. قيل إنه خرج يقاتل السلطان، فقيل له: أتخرج راجلا تقاتل ؟ فقال البيت. وكأنه قال: أما أقاتل فارسا، ولا راجلا، إلا ومعي أصحابي. (2) الفرج: الثغر. وحرس: جبل. ورواية الحموي في معجم البلدان: (كبيضاء حرس في طوائفها الرجل). (*)
[ 268 ]
أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا، وأضعفت واحتنكت أموالنا وجلفت (1) وقيل: إنه من قولهم حنك الدابة يحنكها: إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. والموفور: المكمل. يقال وفرته أفره وفرا. قال زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره، ومن لايتق الشتم يشتم والإستفزاز: الإزعاج والإستنهاض على خفة وإسراع، وأصله القطع. وتفزز الثوب: إذا تخرق، وفززته تفزيزا. فكأن معنى استفزه إستزله بقطعه عن الصواب. ورجل فز أي: خفيف. والإستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل، ومنه الطوع والطاعة، وهو الإنقياد للفعل. والإجلاب: السوق بجلبة من السائق والجلبة شدة الصوت. وقال ابن الأعرابي: أجلب الرجل على صاحبه: إذا توعده بالشر، وجمع عليه الجيش. الاعراب: قال الزجاج: * (طينا) * منصوب على الحال، بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين. ويجوز أن يكون تقديره من طين، فحذف من فوصل الفعل ومثله قوله * (أن تسترضعوا أولادكم) * أي: لأولادكم. وقيل: إنه منصوب على التمييز، والكاف في قوله * (أرأيتك) * لا موضع لها من الإعراب، لأنها حرف خطاب جاء للتوكيد، وموضع * (هذا) * نصب بأرأيت، والجواب محذوف. المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي، ولم كرمته علي، وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين ؟ فحذف ما ذكرناه لأن في الكلام دليلا عليه. المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة آدم عليه السلام وإبليس، فقال: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) * قد مر تفسيره في سورة البقرة (2). * (قال) * إبليس: * (أأسجد لمن خلقت طينا) *، وهو استفهام بمعنى الإنكار أي: كيف أسجد له وأنا أفضل منه، وأصلي أشرف من أصله ؟ وفي هذا دلالة على أن إبليس فهم من ذلك تفضيل آدم على الملائكة، ولولا ذلك لما كان لإمتناعه من السجود وجه. وإنما جاز أن يأمرهم سبحانه بالسجود لآدم عليه السلام، ولم يجز أن يأمرهم بالعبادة له، لأن السجود (1) جلفه يجلفه - بالضم -: نزعه. ويقال للسنة الشديدة التي تذهب بالأموال: جالفة. (2) راجع الجزء الأول من هذا التفسير. (*)
[ 269 ]
يترتب في التعظيم حسب ما يراد به، وليس كذلك العبادة، التي هي خضوع بالقلب، ليس فوقه خضوع، لأنه يترتب في التعظيم لجنسه. يبين ذلك أنه لو سجد ساهيا، لم يكن له منزلة في التعظيم، على قياس غيره من أفعال الجوارح. * (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي) * أي: قال إبليس أرأيت يا رب هذا الذي فضلته علي، يعني آدم عليه السلام. * (لئن أخرتني إلى يوم القيامة) * أي: لئن أخرت أجل موتي * (لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * أي: لأغوين ذريته، وأقودنهم معي إلى المعاصي، كما تقاد الدابة بحنكها، إذا شد فيها حبل تجر به، إلا القليل الذين تعصمهم، وهم المخلصون، عن أبي مسلم، وقيل: لأحتنكنهم أي: لأ ستولين عليهم، عن ابن عباس. وقيل: لأستأصلنهم بالإغواء من احتناك الجراد الزرع، وهو أن يأكله ويستأصله، عن الجبائي وإنما طمع الملعون في ذلك، لأن الله سبحانه أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها، فكأن العلم قد سبق له بذلك، عن الجبائي. وقيل: لأنه وسوس إلى آدم، فلم يجد له عزما، فقال: إن أولاده أضعف منه، عن الحسن. * (قال) * الله سبحانه له، على وجه الإستهانة والإستصغار * (اذهب) * يا إبليس * (فمن تبعك منهم) * أي: من ذرية آدم عليه السلام واقتفى أثرك. وقبل منك * (فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) * أي: موفرا كاملا، لا نقصان فيه، عن الإستحقاق * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) * أي: واستزل من استطعت منهم، أضلهم بدعائك ووسوستك، من قولهم صوت فلان بفلان إذا دعاه. وهذا تهديد في صورة الأمر، عن ابن عباس. ويكون كما يقول الإنسان لمن يهدده: اجهد جهدك، فسترى ما ينزل بك. وإنما جاء التهديد في صورة الأمر، لأنه بمنزلة أن يؤمر الغير بإهانة نفسه. وقيل: بصوتك أي: بالغناء، والمزامير، والملاهي، عن مجاهد، وقيل: كل صوت يدعى به إلى الفساد، فهو من صوت الشياطين * (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) * أي: اجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك، وأتباعك، وذريتك، وأعوانك. وعلى هذا فيكون الباء مزيدة في * (بخيلك) * وكل راكب أو ماش في معصية الله من الإنس والجن، فهو من خيل إبليس ورجله. وقيل: هو من أجلب القوم وجلبوا أي: صاحوا: أي صح بخيلك ورجلك، واحشرهم عليهم بالإغواء * (وشاركهم في الأموال والأولاد) * وهو كل مال أصيب من حرام وأخذ بغير حقه، وكل ولد زنا، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقيل: إن مشاركتهم في الأموال أنه
[ 270 ]
أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة، وغير ذلك، وفي الأولاد أنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم، عن قتادة. وقيل: إن كل مال حرام، أو فرج حرام، فله فيه شرك، عن الكلبي. وقيل: إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس، وعبد الحرث، ونحوهما، وقيل: هو قتل الموؤودة من أولادهم. والقولان مرويان عن ابن عباس. * (وعدهم) * أي: ومنهم البقاء، وطول الأمل، وأنهم لا يبعثون. وكل هذا زجر وتهديد في صورة الأمر * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * هذا إخبار من الله، عز وجل، أن مواعيد الشيطان تكون غرورا أي: يزين لهم الخطأ أنه صواب، وهو اعتراض * (إن عبادي) * يعني الذين يطيعوني، أضافهم إلى نفسه تشريفا لهم * (ليس لك عليهم سلطان) * أي: قوة ونفاذ، لأنهم يعلمون أن مواعيدك باطلة، فلا يغترون بها. وقيل: معناه لا سلطان لك على جميع عبادي، إلا في الوسوسة والدعاء إلى المعصية. فأما في أن تمنعهم عن الطاعة، وتحملهم على المعصية، جبرا وكرها، فلا، عن الجبائي. * (وكفى بربك وكيلا) * أي: حافظا لعباده من شرك. النظم: الوجه في اتصال الآيات بما قبلها، على تقدير: وما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا، محققين ظن إبليس فيهم، يوم قيل له: اسجد، فقال: كذا وكذا، عن علي بن عيسى. وقيل: اتصلت بقوله: * (إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) *. ثم عاد إلى ذكر الشيطان لزيادة الإيضاح والبيان بما أبان عن قصته مع آدم عليه السلام، عن أبي مسلم. * (ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69)) *. القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (نخسف، ونرسل، ونعيدكم، فنرسل
[ 271 ]
عليكم، فنغرقكم) كله بالنون. وقرأ أبو جعفر، ويعقوب: (فتغرقكم) بالتاء. و الباقي بالياء. وقرأ الباقون كلها بالياء. الحجة: من قرأ الجميع بالياء فلما تقدم من قوله * (ضل من يدعون إلا إياه فلما نجاكم) *. ومن قرأ بالنون فلان هذا النحو قد تقطع بعضه من بعض، ولأن الإنتقال من الغيبة إلى الخطاب جائز. ومن قرأ * (فتغرقكم) * بالتاء فإنه رد الضمير المؤنث في * (فتغرقكم) * إلى * (الريح) *. اللغة: الإزجاء: سوق الشئ حالا بعد حال. والحاصب من قولهم حصبه بالحجارة يحصبه حصبا: إذا رماه بها رميا متتابعا. قال القتيبي: الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء، وهي الحصا الصغار، قال الفرزدق: مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن مندوف (1) والقاصف: الكاسر بشدة، قصفه يقصفه قصفا. المعنى: لما تقدم ذكر الشيطان، وذكر المشركين، وعبدة الاوثان، إحتج عليهم سبحانه بدلائل التوحيد والإيمان، فقال: * (ربكم) * أي: خالقكم ومدبركم * (الذي يزجي لكم الفلك) * أي: يجري لكم السفن * (في البحر) * بما خلق من الرياح، وبأن جعل الماء على وجه يمكن جري السفن فيه * (لتبتغوا من فضله) * أي: لتطلبوا من فضل الله تعالى بركوب السفن على وجه الماء، فيما فيه صلاح دنياكم من التجارة، أو صلاح دينكم من الغرق * (إنه كان بكم رحيما) * حيث أنعم عليكم بهذه النعم * (وإذا مسكم الضر) * أي: الشدة * (في البحر) * بسكون الرياح واحتباس السفن، أو باضطراب الأمواج، وغير ذلك من أهوال البحر * (ضل من تدعون إلا إياه) * أي: ذهب عنكم ذكر كل معبود إلا الله، فلا ترجون هناك النجاة إلا من عنده، فتدعونه، ولا تدعون غيره * (فلما نجاكم) * من البحر * (إلى البر) * وأمنتم الغرق * (أعرضتم) * عن الإيمان به، وعن طاعته، كفرانا للنعمة * (وكان الإنسان كفورا) * أي: كثير الكفران * (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) * معناه: إن فعلكم هذا فعل من يتوهم أنه إذا صار إلى البر، أمن المكاره حتى أعرضتم عن شكر الله وطاعته، فهل أمنتم أن يخسف بكم أي: يغيبكم ويذهبكم في جانب البر، وهو الأرض، (1) الندف: طرق القطن بالمندف. والنديف: القطن المندوف. وفي رواية التبيان: (كنديف القطن منثور). (*)
[ 272 ]
يقال: خسف الله به الأرض أي: غاب به فيها. وأراد به بعض البر، وهو موضع حلولهم فيه، فسماه جانبا، لأنه يصير بعد الخسف جانبا، وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر، كما حذرهم ما خافوه من البحر * (أو يرسل عليكم حاصبا) * أي: أو هل أمنتم أن يرسل عليكم حجارة تحصبون بها أي: ترمون بها. والمعنى: إنه سبحانه قادر على إهلاككم في البر، كما أنه قادر على إغراقكم في البحر. * (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) * أي: حافظا يحفظكم عن عذاب الله، ودافعا يدفعه عنكم * (أم أمنتم) * أي: أم هل أمنتم * (أن يعيدكم فيه تارة أخرى) * أي: في البحر مرة أخرى، بأن يجعل لكم حاجة، أو يحدث لكم رغبة، أو رهبة، فترجعون إلى البحر مرة أخرى * (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) * أي: فإذا ركبتم البحر، أرسل عليكم ريحا شديدة كاسرة للسفينة. وقيل: الحاصب: الريح المهلكة في البر. والقاصف: المهلكة في البحر * (فيغرقكم بما كفرتم) * من نعم الله * (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) * أي: تابعا يتبع إهلاككم للمطالبة بدمائكم، ويقول: لم فعلت هذا بهم ؟ وهذا في معنى قول المفسرين يعني: ثائرا، ولا ناصرا. * (* ولقد كرمنا بنئ ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا (72)) *. القراءة: قرأ أهل البصرة: * (أعمى) * الأولى بالإمالة، و * (أعمى) * الثانية بالتفخيم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة فيهما. والباقون بالتفخيم فيهما. وقرأ زيد عن يعقوب * (يوم يدعوا) * بالياء. والباقون بالنون. وفي الشواذ قراءة الحسن * (يوم يدعوا) * بضم الياء، وفتح العين (1). الحجة: قال أبو علي: من أمالهما، فإنه حسن، لأنه ينحو بالألف نحو الياء، (1) وفي نسخة (بضم الياء والعين). (*)
[ 273 ]
ليعلم أنها ينقلب إلى الياء، وإن كانت فاصلة أو مشبهة بالفاصلة. فالإمالة فيها حسنة، لأن الفاصلة موضع وقف، والألف تخفى في الوقف، فإذا أمالها نحى بها نحو الياء، ليكون أظهر لها، وأبين، ومما يقوي ذلك أن من العرب من يقلب هذه الألفات في الوقف ياءات، ليكون أبين لها. قالوا: أفعى، وحبلى، ومنهم من يقول أفعو، وهم، كأنهم أحرص على البيان من الأولين، من حيث كانت الواو أظهر من الياء، والياء أخفى منها من حيث كانت أقرب إلى الألف من الواو إليها. وأما من أمال الألف من الكلمة الأولى، ولم يمل من الثانية فإنه يجوز أن لا يجعل أعمى الكلمة الثانية، عبارة عن المؤوف الجارحة، ولكنه جعله أفعل من كذا، مثل أبلد من فلان، فجاز أن يقول فيه أفعل من كذا وإن لم يجز أن يقول ذلك في المصاب ببصره. فإذا جعله كذلك لم يقع الألف في آخر الكلمة، لأن آخرها إنما هو من كذا وإنما تحسن الإمالة في الأواخر لما تقدم. وقد حذف من أفعل الذي هو للتفضيل، الجار والمجرور، وهما مرادان في المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله * (فإنه يعلم السر وأخفى) * المعنى من السر. وكذلك قولهم عام أول أي: أول من عامك وكذلك قوله * (فهو في الآخرة أعمى) * أي. أعمى منه في الدنيا. و معنى أعمى في الآخرة: إنه لا يهتدي إلى طرق الثواب. ويؤكد ذلك ظاهر ما عطف عليه من قوله * (وأضل سبيلا) * فكما أن هذا لا يكون إلا على أفعل، فكذلك المعطوف عليه. ومعنى أضل سبيلا في الآخرة: إن ضلاله في الدنيا قد كان ممكنا من الخروج منه، وضلاله في الآخرة لا سبيل له إلى الخروج منه، ويجوز أن يكون أعمى فيمن تأوله أفعل من كذا على هذا التأويل أيضا. قال ابن جني: قراءة الحسن * (يوم يدعو) * على لغة من أبدل الألف في الوصل واوا، نحو أفعو وحبلو، ذكر ذلك سيبويه، وأكثر هذا في الوقف. المعنى: لما تقدم قول إبليس هذا الذي كرمت علي، ذكر سبحانه بعد ذلك تكرمه لبني آدم بأنواع الإكرام، وفنون الإنعام، فقال * (ولقد كرمنا بني آدم) * أي: فضلناهم، عن ابن عباس. وأجريت الصفة على جميعهم من أجل من كان فيهم على هذه الصفة، كقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * وقيل: إنما عمهم بالتكرمة مع أن فيهم الكافر المهان، لأن المعنى أكرمناهم بالنعم الدنيوية، كالصور الحسنة، وتسخير الأشياء لهم، وبعث الرسل إليهم. وقيل: معناه عاملناهم معاملة المكرم على وجه المبالغة في الصفة. واختلف فيما كرموا به فقيل: بالقوة، والعقل،
[ 274 ]
والنطق، والتمييز، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: إنهم يأكلون باليد، وكل دابة تأكل بفمها، رواه ميمون بن مهران، عن ابن عباس. وقيل: بتعديل القامة وامتدادها، عن عطاء. وقيل: بالأصابع، يعملون بها ما يشاؤون، روى ذلك جابر بن عبد الله. وقيل: بتسليطهم على غيرهم، وتسخير سائر الحيوانات لهم، عن ابن جرير. وقيل: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، منهم، عن محمد بن كعب. وقيل: بأنهم يعرفون الله، ويأتمرون بأمره. وقيل: بجميع ذلك وغيره من النعم التي خصوا بها، وهو الأوجه. * (وحملناهم في البر والبحر) * في البر: على الإبل، والخيل، والبغال، والحمير. وفي البحر: على السفن * (ورزقناهم من الطيبات) * أي: من الثمار والفواكه والأشياء الطيبة، وسائر الملاذ التي خص بها بنو آدم، ولم يشركهم شئ من الحيوان فيها * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * إستدل بعضهم بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، قال: لأن قوله * (على كثير) * يدل على أن ههنا من لم يفضلهم عليه، وليس إلا الملائكة، لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالإتفاق. وهذا باطل من وجوه أحدها: إن التفضيل ههنا لم يرد به الثواب، لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، وإنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي عددنا بعضها وثانيها: إن المراد بالكثير الجميع، فوضع الكثير موضع الجميع، والمعنى: إنا فضلناهم على من خلقنا، وهم كثير، كما يقال: بذلت له العريض من جاهي، وأبحته المنيع من حريمي، ولا يراد بذلك أني بذلت له عريض جاهي، ومنعته ما ليس بعريض، وأبحته منيع حريمي، ولم أبحه ما ليس منيعا. بل المقصود أني بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض. وفي القرآن ومحاورات العرب من ذلك ما لا يحصى، ولا يخفى ذلك على من عرف كلامهم. قال سويد بن أبي كاهل في شعره: من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش، ولاسوء الجزع ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا، ولو أراد ذلك لم يكن مادحا لهم وثالثها: إنه إذا سلم أن المراد بالتفضيل زيادة الثواب، وإن لفظة من في قوله * (ممن خلقنا) * بفيد التبعيض، فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم، لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم، أو أكثرهم، والفضل في بني آدم يختص بقليل
[ 275 ]
من كثير. وعلى هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة، وإن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم. ومتى قيل: إذا كان معنى التكريم والتفضيل، واحدا، فما معنى التكرار ؟ فجوابه: إن قوله * (كرمنا) * ينبئ عن الإنعام، ولا ينبئ عن التفضل، فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه. وقيل: إن التكريم يتناول نعم الدنيا، والتفضيل: يتناول نعم الآخرة. وقيل: ان التكريم. بالنعم التي لا يصح بها التكليف، والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * فيه أقوال أحدها: إن معناه بنبيهم، عن مجاهد، وقتادة، ويكون المعنى على هذا أن ينادى يوم القيامة فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء، فيأخذون كتبهم بأسمائهم. ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان، وهاتوا متبعي رؤساء الضلالة. وهذا معنى ما رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وروي أيضا عن علي عليه السلام: إن الائمة إمام هدى وإمام ضلالة. ورواه الوالبي عنه بأئمتهم في الخير والشر وثانيها: معناه بكتابهم الذي أنزل عليهم من أوامر الله ونواهيه، فيقال: يا أهل القرآن ! ويا أهل التوراة ! عن ابن زيد، والضحاك وثالثها: إن معناه بمن كانوا يأتمون به من علمائهم وأئمتهم، عن الجبائي، وأبي عبيدة. ويجمع هذه الأقوال ما رواه الخاص والعام: عن الرضا علي بن موسى عليه السلام، بالأسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام زمانهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ألا تحمدون الله إذا كان يوم القيامة، فدعا كل قوم إلا من يتولونه، ودعانا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفزعتم إلينا، فإلى أين ترون يذهب بكم ؟ إلى الجنة ورب الكعبة ! قالها ثلاثا. ورابعها: إن معناه بكتابهم الذي فيه أعمالهم، عن ابن عباس في رواية أخري، والحسن، وأبي العالية وخامسها: معناه بأمهاتهم، عن محمد بن كعب * (فمن أتى كتابه بيمينه) * أي: فمن أعطي كتاب عمله الذي فيه طاعاته وثواب أعماله بيمينه * (فأولئك يقرأون كتابهم) * فرحين مسرورين، لا يجنبون عن قراءته لما يرون فيه من الجزاء، والثواب * (ولا يظلمون فتيلا) * أي: لا ينقصون ثواب أعمالهم مقدار فتيل، وهو المفتول الذي في شق النواة، عن قتادة. وقيل: الفتيل في بطن النواة، والنقير في ظهرها، والقطمير قشر النواة، عن الحسن. جعل الله إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا والخلاص، وإعطاء الكتاب باليسار، ومن ورإء الظهر،
[ 276 ]
علامة السخط والهلاك. * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * ذكر في معناه أقوال أحدها: إن هذه إشارة إلى ما تقدم ذكره من النعم، ومعناه: إن من كان في هذه النعم، وعن هذه العبر، أعمى، فهو عما غيب عنه من أمر الآخرة أعمى، عن ابن عباس وثانيها: إن هذه إشارة إلى الدنيا: ومعناه: من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله، ضالا عن الحق، ذاهبا عن الدين، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة، أو عن الحجة إذا سئل، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا، يكون يوم القيامة منقطع الحجة، فالأول إسم، والثاني فعل من العمى. وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، وقتادة وثالثها: إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب، فإنه في الآخرة أعمى العين، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا، عن أبي مسلم، قال: وهذا كقوله * (ونحشره يوم القيامة أعمى) * وتأول قوله سبحانه * (فبصرك اليوم حديد) * بأن معناه الأخبار عن قوة المعرفة، والجاهل بالله سبحانه يكون عارفا به في الآخرة، وتقول العرب: فلان بصير بهذا الأمر، وإنما أرادوا بذلك العلم والمعرفة، لا الإبصار بالعين، وعلى هذا فليس يكون قوله * (فهو في الآخرة أعمى) * على سبيل المبالغة والتعجب. وإن عطف عليه بقوله * (وأضل سبيلا) *: ويكون التقدير وهو أضل سبيلا، قال: ويجوز أن يكون أعمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط، فإنه إذ لم ير إلا ما يسوء، فكأنه أعمى، كما يقال فلان سخين العين ورابعها: إن معناه من كان في الدنيا ضالا، فهو في الآخرة أضل، لأنه لا يقبل توبته، عن الحسن، واختاره الزجاج على هذا القول، وقال: تأويله أنه إذا عمي في الدنيا، وقد عرفه الله الهدى، وجعل له إلى التوبة وصلة، فعمي عن رشده، ولم يتب، فهو في الآخرة أشد عمى، وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية. النظم: قيل في وجه اتصال قوله * (يوم ندعو كل إناس بإمامهم) * بما قبله، وجوه أحدها: إنه سبحانه ذكر تفضيل بني آدم. ثم بين أن ذلك التفضيل إنما يكون في ذلك اليوم فيستحق المهتدون الثواب بهدايتهم وثانيها: إنها اتصلت بقوله * (إن عذاب ربك كان محذورا) * أي: فاحذروا يوم يدعى كل أمة بإمامهم وثالثها: إنها اتصلت بقوله * (يعيدكم) * أي: يعيدكم يوم يدعو ورابعها: إنه تعالى ذكر فيما تقدم من آمن،
[ 277 ]
ومن كفر. ثم بين في هاتين الآيتين ما أعد للفريقين من ثواب وعقاب، وأنه يعطيهم ذلك على ما هو مكتوب في كتبهم، عن أبي مسلم. * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيرا (75)) *. الاعراب: * (لولا أن ثبتناك) * تقديره لولا تثبيتنا إياك، فأن هاهنا في موضع رفع بالإبتداء وخبره مضمر. وهذا يدل على بطلان مذهب أبي سعيد، حيث قال: (لولا حددت ولا عدوى لمحدود) واستدل به على أن لولا تدخل على الفعل، وخفي عليه إضمار أن في البيت. النزول: في سبب نزوله أقوال أحدها: إن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ندعك تستلم الحجر، حتى تلم بآلهتنا، فحدث نفسه، وقال: ما علي في أن ألم بها والله يعلم أني لكاره لها، ويدعوني أستلم الحجر ! فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن سعيد بن جبير. وثانيها: إنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان (1)، حتى نجالسك، ونسمع منك ! فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية. وثالثها. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخرج الأصنام من المسجد، فطلبت إليه قريش أن يترك صنما على المروة، فهم بتركه، ثم أمر بعد بكسره، فنزلت الآية، رواه العياشي بإسناده ورابعها: إنها نزلت في وفد ثقيف، قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. لا ننحني بفنون الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وتمتعنا باللات سنة. فقال، صلى الله عليه وآله وسلم: لا خير في دين ليس فيها ركوع ولا سجود ! فأما كسر أصنامكم بأيديكم فذاك لكم. وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها. وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضأ، فقال عمر بن الخطاب: ما بالكم آذيتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه لا يدع الأصنام في أرض العرب ؟ فما زالوا به حتى أنزل هذه الآيات، عن ابن عباس وخامسها: إن وفد ثقيف قالوا: (1) الصنان: نتن الإبط. (*)
[ 278 ]
أجلنا سنة حتى نقبض ما يهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا ذلك كسرناها، وأسلمنا. فهم بتأجيلهم فنزلت الآية، عن الكلبي، رواه عن عطية، عن ابن عباس. المعنى: ثم حكى الله سبحانه عن الكفار، فقال: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) *: * (إن) * هذه مخففة من الثقيلة، والمعنى: إن المشركين الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة، هموا وقاربوا أن يزلوك ويصرفوك عن القرآن الذي أوحينا إليك أي: من حكمه * (لتفتري علينا غيره) * أي: لتخترع علينا غير ما أوحيناه إليك، والمعنى: لتحل محل المفتري، لأنك تخبر أنك لا تنطق إلا عن وحي، فإذا اتبعت أهواءهم، أو هممت أنك تفعله بأمر الله، فكنت كالمفتري * (وإذا لاتخذوك خليلا) * معناه: وإنك لو أجبتهم إلى ما طلبوا منك، لتولوك، وأظهروا خلتك، أي: صداقتك، لموافقتك معهم. وقيل: هو من الخلة التي هي الحاجة أي: فقيرا محتاجا إليهم، والأول أوجه * (ولولا أن ثبتناك) * أي: ثبتنا قلبك على الحق والرشد بالنبوة والعصمة والمعجزات. وقيل: بالألطاف الخفية * (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * أي: ركونا قليلا، والمعنى، لقد قاربت أن تسكن إليهم بعض السكون، وأن تميل إليهم ميلا قليلا، فتعطيهم بعض ما سألوك، يقال: كدت أفعل كذا: أي قاربت أن أفعله، ولم أفعله. وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قوله: (وضع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به، أو تتكلم به) قال ابن عباس: يريد حيث سكت عن جوابهم، والله أعلم بنبيه. ثم توعده سبحانه على ذلك لو فعله، فقال * (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * أي: لو فعلت لعذبناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، أي: مثلي ما نعذب به المشرك في الدنيا، ومثلي ما نعذب به المشرك في الآخرة، لأن ذنبك يكون أعظم. وقيل: إن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه، والمعنى: لأذقناك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، عن أبان بن تغلب، وأنشد قول الشاعر: لمقتل مالك إذ بان سني أبيت الليل في ضعف أليم أي عذاب. قال ابن عباس: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، معصوم، ولكن هذا تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين، في شئ من أحكام الله وشرائعه * (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) * أي: ناصرا ينصرك. وقال: إنه لما نزلت
[ 279 ]
هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، عن قتادة. * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)) *. القراءة: قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو، وأبو بكر: * (خلفك) * بغير ألف. والباقون: * (خلافك) * بالألف. وقرأ رويس عن يعقوب: بالوجهين. الحجة: قال أبو علي: زعم أبو الحسن أن * (خلافك) * في معنى * (خلفك) *، ومعناه بعدك، فمن قرأ خلفك أو خلافك: فهو في القراءتين جميعا على تقدير حذف المضاف أي: بعد خروجك فيكون مثل قول ذي الرمة: له واجف بالقلب حتى تقطعت خلاف الثريا من أريك مآ ربه (1) والمعنى: خلاف طلوع الثريا، وكذلك من جعل قوله (خلاف) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إسما للجهة، كان على حذف المضاف، كأنه خلاف خروج رسول الله. ومن جعله مصدرا، جعله مضافا إلى مفعول به، وعلى أي الأمرين حمل ذلك في سورة التوبة كان بمقعدهم المقعد فيه مصدر لا إسم المكان، لأن اسم المكان لا يتعلق به شئ. الاعراب: قال * (لا يلبثون) * بالرفع: لأن * (إذا) * إذا وقعت بعد الواو، جاز فيها الإلناء، لأنها متوسطة في الكلام، كما أنه لا بد من أن تلقى إذا وقعت حشوا. و * (سنة من قد أرسلنا) * إنتصب بمعنى قوله * (لا يلبثون) * لأن تأويله: إنا سننا هذه السنة فيمن أرسلناهم قبلك. والتقدير: أهلكناهم إهلاكا وسنة مثل سنة من قد أرسلنا قبلك. النزول: نزلت في أهل مكة، لما هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مكة، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: نزلت في اليهود بالمدينة، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (1) وجف القلب: خفق. واريك: اسم واد أو جبل على خلاف ذكره الحموي في المعجم. (*)
[ 280 ]
المدينة قالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء الشام، فأت الشام، عن ابن عباس. المعنى: ثم بين سبحانه أن الكفار لما يئسوا من إجابته إياهم فيما التمسوه منه، كادوا له، فقالوا: * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها) * معناه: وإن المشركين أرادوا أن يزعجوك من أرض مكة بالإخراج، عن قتادة، ومجاهد. وقيل: عن أرض المدينة، يعني اليهود، عن ابن عباس. وقيل: يعني جميع الكفار أرادوا أن يخرجوك من أرض العرب، عن الجبائي. وقال الحسن: ليستفزونك معناه: ليقتلونك. * (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا) * معناه: إنهم لو أخرجوك، لكانوا لا يلبثون بعد خروجك إلا زمانا قليلا، ومدة يسيرة. قيل: وهي المدة بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مكة، وقتلهم بدر، عن الضحاك، وقيل: إنهم أخرجوه وأهلكوا، والمراد بقوله * (إلا قليلا) * إلا ناسا قليلا منهم، يريد من انفلت منهم يوم بدر، وآمنوا بعد ذلك. * (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) * معناه: إنهم لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك، كسنتنا فيمن قبلك، قال سفيان بن عيينة: يقول لم نرسل قبلك رسولا، فأخرجه قومه إلا أهلكوا، فقد سننا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم * (ولا تجد لسنتنا تحويلا) * أي: تبديلا، ومعناه: ما يتهيأ لأحد أن يقلب سنة الله ويبطلها. والسنة: هي العادة الجارية. والصحيح أن المعنيين في الآية مشركو مكة، وأنهم لم يخرجوه من مكة، ولكنهم هموا بإخراجه، كما في قوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * إلى قوله: * (أو يخرجوك) *. ثم خرج عليه السلام، لما أمر بالهجرة خوفا منهم، وندموا على خروجه، ولذلك ضمنوا الأموال في رده، فلم يقدروا على ذلك، ولو أخرجوه لاستؤصلوا بالعذاب، ولماتوا طرا. * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا (78) ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79) وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا (80) وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)) *.
[ 281 ]
اللغة: الدلوك: الزوال: وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها. وقيل: هو الغروب، وأصله من الدلك، فسمي الزوال دلوكا، لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدة شعاعها. وسمي الغروب دلوكا، لأن الناظر يدلك عيينه ليتبينها. قال ثعلب: دلكت الشمس مالت. وقال الزجاج: يقال دلكت براح وبراح أي: مالت للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعاع عن بصره براحته، قال الراجز: هذا مقام قدمي رباح للشمس حتى دلكت براح (1) ورباح: اسم ساقي الإبل. ومن قال براح بفتح الباء جعلها إسما للشمس مبنيا على فعال، مثل قطام وحذام. ومن روى براح بكسر الباء أراد براحته. وقال الفراء: أي قال بالراحة على العين لينظر هل غابت الشمس بعد. وغسق الليل: ظهور ظلامه، يقال: غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر ما فيها. والتهجد: التيقظ والسهر بما ينفي النوم. والهجود: النوم وهو الأصل هجد يهجد: نام وقد هجدته إذا نومته، قال لبيد: قلت هجدنا، وقد طال السرى، وقدرنا إن خنا الدهر غفل (2) وقال آخر: ألا طرقتنا، والرفاق هجود، فباتت بعلات النوال تجود وقال الحطيئة: ألا طرقت هند الهنود، وصحبتي بحوران حوران الجنود هجود (3) قال المبرد: التهجد السهر للصلاة، أو لذكر الله. وقال علقمة: التهجد يكون بعد نومة. والنافلة والنفل: الغنيمة، قال لبيد: (1) وفي رواية الجوهري: (ذبب حتى دلكت. ا ه‍) وذبب أي: كثرت عليه الذباب. وفي رواية الغنوي: (بكرة حتى دلكت. أ ه‍). ذكره في (اللسان). (2) السرى: سير الليل كله. وقدرنا أي: قدرنا على التهجيد، أو على السير. وخنى الدهر: آفته وفساده أي: إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا. (3) حكي عن الثعلب أنه قال: إن أهل الشام يسمون كل كورة جنيدا. وحوران: كورة واسعة من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة وحوران الجنود أي: بها جنود. (*)
[ 282 ]
إن تقوى ربنا خير نفل، وبإذن الله ريثي، وعجل (1) أي: وعجلي. وعسى من الله واجبة، وقد أنشد لابن مقبل في وجوبها: ظني بهم كعسى، وهم بتنوفة (2) يتنازعون جوائز الأمثال يريد كيقين. والزهوق: الهلاك والبطلان، يقال: زهقت نفسه: إذا خرجت، فكأنه قد خرجت إلى الهلاك. الاعراب: * (قرآن الفجر) *: منصوب على تقدير وأقم قرآن الفجر. وانتصب قوله * (نافلة لك) * لأنه في موضع الحال. المعنى: ثم أمر سبحانه بعد إقامة البينات، وذكر الوعد والوعيد، بإقامة الصلاة فقال مخاطبا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد هو وغيره، * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * اختلف المفسرون في الدلوك، فقال قوم: دلوك الشمس زوالها، وهو قول ابن عباس، بخلاف، وابن عمر، وجابر، وأبي العالية، والحسن، والشعبي وعطا، ومجاهد، وقتادة. والصلاة المأمور بها على هذا هي صلاة الظهر، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. ومعنى قوله * (لدلوك الشمس) * أي: عند دلوكها. وقال قوم: دلوكها غروبها، وهو قول النخعي، والضحاك، والسدي. والصلاة المأمور بها على هذا هي المغرب، وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس. والقول الأول هو الأوجه لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس. فصلاتا دلوك الشمس: الظهر والعصر. وصلاتا غسق الليل: هما المغرب والعشاء الآخرة. والمراد بقرآن الفجر: صلاة الفجر، فهذه خمس صلوات. وهذا معنى قول الحسن، واختاره الواحدي. وغسق الليل: وهو أول بدء الليل، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: هو غروب الشمس، عن مجاهد. وقيل: هو سواد الليل وظلمته، عن الجبائي. وقيل: هو انتصاف الليل، عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. واستدل قوم من أصحابنا بالآية أن وقت صلاة الظهر موسع إلى آخر النهار، لأنه سبحانه أوجب إقامة الصلاة من وقت دلوكها إلى غسق الليل، وذلك يقتضي أن ما بينهما وقت، ولم يرتضه الشيخ أبو جعفر، قدس الله روحه، قال: لأن من قال إن (1) مر البيت في الجزء الثاني من هذا التفسير. (2) التنوفة: القفر من الأرض. (*)
[ 283 ]
الدلوك هو الغروب، فلا دلالة فيه عنده، بل يقول أوجب سبحانه إقامة المغرب من عند الغروب إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق. ومن قال الدلوك هو الزوال أمكنه أن يقول إن المراد بالآية بيان وجوب الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن، لابيان وقت صلاة واحدة. وأقول: إنه يمكن الإستدلال بالآية على ذلك بأن يقال: إن الله سبحانه جعل من دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق الليل، وقتا للصلوات الأربع، إلا أن الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال الى الغروب. والمغرب، والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من الغروب إلى الغسق. وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله * (وقرآن الفجر) * ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس، وبيان أوقاتها. ويؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي هذه الآية قال: إن الله افترض أربع صلوات، أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها، إلا ان هذه، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل، إلا أن هذه قبل هذه. وإلى هذا ذهب المرتضى علم الهدى، قدس روحه، في أوقات الصلوات. وقال الزجاج: إن في قوله * (وقرآن الفجر) * فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة، لأن قوله * (أقم الصلاة) * وأقم قرآن الفجر، قد أمر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا، فلا يكون صلاة إلا بقراءة * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * كلهم قالوا معناه: إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا، ويجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر، أورده البخاري في الصحيح. * (ومن الليل فتهجد به) * خطاب للنبي صلى الله عليه و آله وسلم أي: فصل بالقرآن، عن ابن عباس، ولا يكون التهجد إلا بعد النوم، عن مجاهد، والأسود وعلقمة، وأكثر المفسرين. وقال بعضهم: ما تنفلت به في كل الليل يسمى تهجدا، والمتهجد الذي يلقي الهجود عن نفسه، كما يقال المتحرج والمتأثم * (نافلة لك) * أي: زيادة لك على الفرائض، وذلك ان صلاة الليل كانت فريضة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مكتوبة عليه، ولم تكتب على غيره، وكانت فضيلة لغيره، عن ابن عباس. وقيل: كانت واجبة عليه، فنسخ وجوبها بهذه الآية. وقيل: إن معناه فضيلة لك، وكفارة لغيرك،
[ 284 ]
فإن كل إنسان يخاف أن لا يقبل فرضه، فيكون نفله كفارة، والنبي لا يحتاج إلى كفارة، عن مجاهد. وقيل: معناه نافلة لك ولغيرك، وإنما اختصه بالخطاب لما في ذلك من دعاء الغير إلى الإقتداء به، والحث على الإستنان بسنته * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * عسى من الله واجبة. والمقام بمعنى البعث، فهو مصدر من غير جنسه أي: يبعثك يوم القيامة بعثا أنت محمود فيه. ويجوز أن يجعل البعث بمعنى الإقامة، كما يقال: بعثت بعيري أي: أثرته وأقمته. فيكون معناه يقيمك ربك مقاما محمودا يحمدك فيه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة، تشريف فيه على جميع الخلائق، تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع. وقد أجمع المفسرون على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، وهو المقام الذي يشفع فيه للناس، وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد، فيوضع في كفه، ويجتمع تحته الأنبياء والملائكة، فيكون صلى الله عليه وآله وسلم أول شافع، وأول مشفع * (وقل) * يا محمد. * (رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * المدخل والمخرج هنا مصدر الإدخال والإخراج، فالتقدير: أدخلني إدخال صدق، وأخرجني إخراج صدق. وفي معناه أقوال: أحدها: إن المعنى أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال صدق، وأخرجني منه سالما إخراج صدق أي: أعني على الوحي والرسالة، عن مجاهد وثانيها: ان معناه أدخلني المدينة، وأخرجني منها إلى مكة للفتح، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير وثالثها: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر، أو خرج من أمر، والمراد: أدخلني كل أمر مدخل صدق، عن أبي مسلم ورابعها: إن المعنى أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، عن عطية، عن ابن عباس. ومدخل الصدق: ما تحمد عاقبته في الدنيا والدين. وإنما أضاف الإدخال والإخراج إليه سبحانه، وإن كانا من فعل العبد، لأنه سأله اللطف المقرب إلى خير الدين، والدنيا. * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * أي: اجعل لي عزا أمتنع به ممن يحاول صدي عن إقامة فرائضك، وقرة تنصرني بها على من عاداني فيك. وقيل: إجعل لي ملكا عزيزا أقهر به العصاة، فنصر بالرعب حتى خافه العدو على مسيرة شهر. وقيل: حجة بينة أتقوى بها على سائر الأديان الباطلة، عن مجاهد قال: وسماه نصيرا، لأنه تقع به النصرة على الأعداء، فهو كالمعين * (وقل) * يا محمد: * (جاء الحق) * أي: ظهر الحق، وهو الاسلام والدين * (وزهق الباطل) * أي: وبطل الباطل وهو الشرك،
[ 285 ]
عن السدي. وقيل: الحق التوحيد، وعبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، عن مقاتل. وقيل: الحق القرآن، والباطل الشيطان، وزهق بطل واضمحل، عن قتادة. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها، ويقول * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * أورد ه البخاري في الصحيح. قال الكلبي: فجعل الصنم ينكب لوجهه، إذ قال ذلك، وأهل مكة يقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمد * (إن الباطل كان زهوقا) * أي: مضمحلا ذاهبا هالكا، لا ثبات له. * (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82) وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونابجانبه وإذا مسه الشركان يوسا (83) قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر، برواية ابن ذكوان: * (وناء بجانبه) * ممدودة مهموزة. وفي حم مثله. وقرأ حمزة إلا العجلي، وأبو بكر برواية حماد، وعياش، وأبو شعيب السوسي، عن اليزيدي، ونصير عن الكسائي: * (نئي) * بفتح النون وكسر الهمزة. وقرأ حمزة برواية العجلي، وخلف، والكسائي: * (نئي) * بكسر النون والهمزة. وقرأ الباقون: * (نأى) * بفتح النون والهمزة. في وزن نعى. الحجة: قال أبو علي: ناء مثل فاع، وهو على القلب، وتقديره فلع، ومثله رأى وراء قال: فكل خليل راءني فهو قائل من أجلك هذا هامة اليوم أوغد (1) ومن أمال الفتحتين فلأن الألف منقلبة من الياء التي في النأي، فإذا أراد أن ينحو نحوها أمال فتحة النون لإمالة فتحة الهمزة. وقد قالوا: رأيت عمادا، فأمالوا الألف، لإمالة الألف، فكذلك أمالوا الفتحة لإمالة الفتحة، لأنهم يجرون الحركة مجرى الحرف في أشياء ومن فتح النون وكسر الهمزة فإنه لم يمل الفتحة الأولى لإمالة الفتحة الثانية، كما لم يميلوا الألف لإمالة الألف في: رأيت عمادا. (1) قائله كثير. وهاهة اليوم أو غد أي: يموت اليوم أو غدا (*)
[ 286 ]
اللغة: الشاكلة: الطريقة، والمذهب. يقال: هذا طريق ذو شواكل أي: ينشعب منه طرق جماعة. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن القرآن، فقال: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) * ووجه الشفاء فيه من وجوه: منها: ما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل، وحيرة الشك. منها: ما فيه من النظم والتأليف والفصاحة البالغة حد الإعجاز الذي يدل على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل، والشك، والعمى في الدين، ويكون شفاء للقلوب ومنها: إنه يتبرك به وبقراءته، ويستعان به على دفع العلل والأسقام، ويدفع الله به كثيرا من المكاره والمضار، على ما تقتضيه الحكمة ومنها: ما فيه من أدلة التوحيد والعدل، وبيان الشرائع والأمثال والحكم، وما في التعبد بتلاوته من الصلاح الذي يدعو إلى أمثاله بالمشاركة التي بينه وبينه، فهو شفاء للناس في دنياهم وآخرتهم، ورحمة للمؤمنين أي: نعمة لهم، وخصهم بذلك لأنهم المنتفعون به. * (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) * ومعناه: انهم لا يزدادون عنده إلا خسارا يخسرون الثواب، ويستحقون العقاب، لكفرهم به، وتركهم التدبر له، والتفكر فيه. وهذا كقوله: * (فلم يزدهم دعائي إلا قرارا) *. ويحتمل أن يريد: إن القرآن يظهر خبث سرائرهم، وما يأتمرون به من الكيد والمكر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيفتضحون بذلك * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) * عن ذكرنا أي: ولى كأنه لم يقبل علينا بالدعاء، والإبتهال * (ونأى بجانبه) * أي: بعد بنفسه عن القيام بحقوق إنعامنا فلا يشكره، كما أعرض عن النعمة بالقرآن. وقال مجاهد: معناه تباعد منا. وعلى هذا فيكون معناه تجبر وتكبر، وأعجب بنفسه، لأن المعجب نافر عن الناس، متباعد عنهم. * (وإذا مسه الشركان يؤوسا) * معناه: وإذا أصابه المحنة والشدة والفقر، لم يصبر، وكان قنوطا من رجاء الفرج من الله تعالى، بخلاف المؤمن الذي يرجو الفرج والروح، فيكون المراد بالآية خاصا، وإن كان اللفظ عاما. وسمى الأمراض والبلايا شرا، لكونها شرا عند الكافر من حيث لا يرجو ثوابا، ولا عوضا، ولأن الطباع تنفر عنها، وتكرهها، وإلا فهي في الحقيقة صلاح، وحكمة، وصواب. * (قل) * يا محمد لهم * (كل يعمل على شاكلته) * أي: كل واحد من المؤمن، والكافر، يعمل
[ 287 ]
على طبيعته، وخليقته التي تخلق بها، عن ابن عباس. وقيل: على طريقته وسنته التي اعتادها، عن الفراء، والزجاج. وقيل: على ما هو أشكل بالصواب، وأولى بالحق عنده، عن الجبائي، قال، ولهذا قال * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) * أي: إنه يعلم أي الفريقين على الهدى، وأيهما على الضلالة. وقيل معناه: إنه أعلم بمن هو أصوب دينا، وأحسن طريقا. وقال بعض أرباب اللسان: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، لأن الأليق بكرمه سبحانه، وجوده، العفو عن عباده، فهو يعمل به. * (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85) ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لاتجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) ولقد صرفنا للناس في هذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89) *. اللغة: الظهير: المعين، وهو المظاهر. وأصله من الظهر. كأن كل واحد يسند ظهره إلى ظهر صاحبه، فيتقوى به. والتصريف: تصيير الشئ دائرا في الجهات، وكذلك تصريف الكلام: هو تصييره دائرا في المعاني المختلفة. الاعراب: * (إلا رحمة من ربك) *: الرحمة استثناء من الأول، والمعنى: ولكن الله تعالى رحمك فأثبت ذلك في قلبك. * (لا يأتون) *: مرفوع لأنه غلب جواب القسم على جواب أن، واللام في * (لئن) * موطئة للقسم، دالة عليه، والتقدير فو الله لا يأتون بمثله، ومثله قول كثير: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها، * وأمكنني منها، إذا لا أقيلها (1) المعنى: ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (ويسئلونك) * يا محمد * (عن الروح) * (1) مر البيت في الجزء الخامس، سورة هود، آية 10. (*)
[ 288 ]
أختلف في الروح المسؤول عنه على أقوال أحدها: إنهم سألوه عن الروح الذي هو في بدن الإنسان ما هو، ولم يجبهم. وسأله عن ذلك قوم من اليهود، عن ابن مسعود، وابن عباس، وجماعة، واختاره الجبائي. وعلى هذا فإنما عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جوابهم، لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين، ولأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين، فلو صدر الجواب لازدادوا عنادا. وقد قيل: إن اليهود قالت لكفار قريش: سلوا محمدا عن الروح، فإن أجابكم فليس بنبي، وإن لم يجبكم، فهو نبي، فإنا نجد في كتبنا ذلك. فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم، وأن يكلهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم، ليكون ذلك علما على صدقه، ودلالة لنبوته وثانيها: إنهم سألوا عن الروح أهي مخلوقة محدثة، أم ليست كذلك، فقال سبحانه: * (قل الروح من أمر ربي) * أي: من فعله وخلقه، وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه. وعلى هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوا عنه هو الذي به قوام الجسد، على قول ابن عباس، وغيره. أم جبرائيل عليه السلام على قول الحسن، و قتادة. أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، يسبح الله بجميع ذلك على ما روي عن علي عليه السلام. أم عيسى عليه السلام فإنه قد سمي بالروح وثالثها: إن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن، كيف يلقاك به الملك، أو كيف صار معجزا، وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار. وقد سمى الله تعالى القرآن روحا في قوله * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * فقال سبحانه: قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي، أنزله دلالة علي، دلالة نبوتي، وليس من فعل المخلوقين، ولا مما يدخل في إمكانهم، وعلى هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه. وأما على القول الأول فيكون معنى قوله * (الروح من أمر ربي) *: هو من الأمر الذي يعلمه ربي، ولم يطلع عليه أحد. واختلف العلماء في ما هية الروح، فقيل: إنه جسم رقيق هوائي، متردد في مخارق الحيوان، وهو مذهب أكثر المتكلمين، واختاره الأجل المرتضى، علم الهدى، قدس الله روحه. وقيل: جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة، عن علي بن عيسى قال: فلكل حيوان روح وبدن، إلا أن منه من الأغلب عليه الروح، ومنه من الأغلب عليه البدن. وقيل: إن الروح عرض. ثم اختلف فيه فقيل: هو الحياة التي يتهيأ به المحل لوجود القدرة والعلم والإختيار، وهو مذهب
[ 289 ]
الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (ره)، والبلخي، وجماعة من المعتزلة البغداديين. وقيل: هو معنى في القلب، عن الاسواري. وقيل: إن الروح الإنسان، وهو الحي المكلف، عن ابن الأخشيد، والنظام. وقال بعض العلماء: ان الله تعالى خلق الروح من ستة أشياء: من جوهر النور، والطيب، والبقاء، والحياة، والعلم، والعلو، ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين، ويسمع بالأذنين، ويكون طيبا، فإذا خرج من الجسد نتن الجسد، ويكون باقيا، فإذا فارقه الروح، بلي وفني، ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا، ويكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا، ويكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء * (بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين) * وأجسامهم قد بليت في التراب. وقوله * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * قيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره، إذا لم يبين له الروح، ومعناه: وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي: شيئا يسيرا، لأن غير المنصوص عليه أكثر، فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها، وقيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت له اليهود عند ذلك: كيف، وقد أعطانا الله التوراة ؟ فقال: التوراة في علم الله قليل: ثم قال سبحانه * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * يعني القرآن، ومعناه: إني أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعت غيرك، ولكني دبرتك بالرحمة لك، فأعطيتك ما تحتاج إليه، ومنعتك ما لا تحتاج إلى النص عليه، وإن توهم قوم أنه مما تحتاج إليه، فتدبر أنت بتدبير ربك، وارض بما اختاره لك * (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) * أي: ثم لو فعلنا ذلك، لم تجد علينا وكيلا يستوفي ذلك منا، وقيل: معناه ولو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك، وصدر أمتك، حتى لا يوجد له أثر، ثم لا تجد له حفيظا يحفظه عليك، ويحفظ ذكره على قلبك، عن الحسن، وأبي مسلم، والأصم، قالوا: وفي هذا دلالة على أن السؤال وقع عن القرآن. * (إلا رحمة من ربك) * معناه: لكن رحمة من الله ربك لك، أعطاك ما أعطاك من العلوم، ومنعك ما منعك منها، وأثبت القرآن في قلبك، وقلوب المؤمنين * (إن فضله كان) * فيما مضى، وفيما يستقبل * (عليك كبيرا) * عظيما إذ اختارك للنبوة، وخصك بالقرآن، فقابله بالشكر. وقال ابن عباس: يريد حيث جعلك سيد ولد آدم، وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود.
[ 290 ]
ثم احتج سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن، فقال: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) * معناه: قل يا محمد لهؤلاء الكفار: لئن اجتمعت الإنس والجن، متعاونين متعاضدين، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه، على الوجوه التي هو عليها، من كونه في الطبقة العليا من البلاغة، والدرجة القصوى من حسن النظم، وجودة المعاني، وتهذيب العبارة، والخلو من التناقض، واللفظ المسخوط. والمعنى: الدخول على حد يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت، لعجزوا عن ذلك، ولم يأتوا بمثله. * (ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * أي: معينا على ذلك، مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر. فيقيمونه، عن ابن عباس. وفي هذا تكذيب للنضر بن الحارث، حين قال: لو نشاء لقلنا مثل هذا. قال أبو مسلم: وفي هذا أيضا دلالة على أن السؤال بالروح، وقع عن القرآن، لأنه من تمام ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيئهم به. * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * معناه: لقد بينا لهم في هذا القرآن من كل ما يحتاج إليه من الدلائل والأمثال، والعبر والأحكام، وما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، ليتفكروا فيها * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * أي: جحودا للحق، والمثل قد يكون الشئ بعينه، وقد يكون صفة للشئ، وقد يكون شبهه. * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه وقل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا (93) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، ويعقوب: * (حتى تفجر لنا) * بفتح التاء، وضم
[ 291 ]
الجيم. والباقون: * (تفجر) * بضم التاء، وتشديد الجيم. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: * (كسفا) * بفتح السين هاهنا، وفي سائر القرآن * (كسفا) * ساكنة السين. وقرأ حفص بالفتح في جميع القرآن، إلا في الطور. وقرأ أهل العراق، وابن كثير بالسكون في جميع القرآن، إلا في الروم. ولم يقرأ في الروم بسكون السين إلا أبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، وابن عامر: * (قال سبحان ربي) *. والباقون: * (قل) * على الأمر. الحجة: من قرأ * (تفجر) * بالتشديد فلأنهم أرادوا كثرة الإنفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحدا، فلتكثير الإنفجار منه حسن أن يقال بتكرير العين، كما يقال ضرب زيد إذ كثر منه فعل الضرب. ومن قرأ (تفجر) فلأن الينبوع واحد. فلا يكون كقوله * (فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) *، لأن فجرت الأنهار مثل غلقت الأبواب، فلذلك اتفق الجميع على التثقيل فيه. و (الكسف): القطع، واحدتها كسفة. ومن سكنه جاز أن يريد الجمع، مثل سدرة وسدر. قال أبو زيد: كسفت الثوب أكسفه كسفا: إذا قطعته. قال أبو علي: إذا كان المصدر الكسف، فالكسف الشئ المقطوع، كالطحن والطحن، والسقي والسقي، ونحو ذلك. فجاز أن يكون قوله. * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * بمعنى: ذات كسف، وذلك أن أسقط لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، فوجب أن ينتصب * (كسفا) * على الحال. والحال ذو الحال في المعنى. وإذا كان كذلك وجب أن يكون الكسف، هو السماء، فيصير المعنى: أو تسقط السماء علينا مقطعة، أو قطعا، ومن قرأ * (قال سبحان ربي) *: فالوجه فيه أن الرسول قال عند اقتراحهم هذه الأشياء: سبحان ربي. ومن قرأ * (قل) * فهو على الأمر له، بأن يقول ذلك. اللغة: التفجير: التشقيق عما يجري من ماء، أو ضياء، ومنه سمي الفجر، لأنه ينشق عن عمود، ومنه الفجور لأنه خروج إلى الفساد، يشقق به عمود الحق. والينبوع: يفعول من نبع الماء ينبع فهو نابع: إذا فار. والقبيل: الكفيل، من قبلت به أقبل قبالة أي: كفلت. وتقبل فلان بالشئ: إذا تكفل به، قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى: تأتي بهم حتى نراهم مصابلة أي: معاينة، وأنشد غيره: نصالحكم حتى تبوؤا بمثلها كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها (1) (1) ويروى (بشرتها - يسرتها قبيلها - قبولها) والقبيل والقبول: كلاهما بمعنى القابلة، سميت بذلك = (*)
[ 292 ]
أي: قابلتها التي هي مقابلتها، والعرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر، فلا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث. وأصل الزخرف: من الزخرفة، وهي الزينة. وزخرفت الشئ: إذا أكملت زينته، ولا شئ في تحسين بيت، وتزيينه، وزخرفته، كالذهب. ويقال في الصعود: رقيت أرقي رقيا. وفيما تداويه بالرقية: رقيت أرقي رقية، ورقيا. النزول: قال ابن عباس: إن جماعة من قريش، وهم عتبة وشيبة، ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه، ابنا الحجاج، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، اجتمعوا عند الكعبة، وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد، فكلموه وخاصموه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فبادر صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، ظنا منه أنهم بدا لهم في أمره، وكان حريصا على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا: يا محمد ! إنا دعوناك لنعذر إليك، فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، وإن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء ! فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: ليس شئ من ذلك، بل بعثني الله إليكم رسولا، وأنزل كتابا، فإن قبلتم ما جئت به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا. قالوا: فإذن ليس أحد أضيق بلدا منا، فاسأل ربك أن يسير هذه الجبال، ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يبعث لنا من مضى، وليكن فيهم قصي، فإنه شيخ صدوق، لنسألهم عما تقول أحق أم باطل ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت. قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، ويجعل لنا جنات، وكنوزا، وقصورا من ذهب. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت، وقد جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم وإلا فهو يحكم بيني وبينكم. قالوا فأسقط علينا السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك. قال: ذاك إلى الله، إن شاء فعل. وقال قائل منهم: لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقام معه = لقبولها الولد. وقوله: (أسلمتها فبيلها) أي: يئست منها قاله في (اللسان). (*)
[ 293 ]
عبد الله بن أبي أمية المخزومي، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد ! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله. ثم سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل. ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به فلم تفعل. فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر، ويأتي معك نفر من الملائكة، يشهدون لك، وكتاب يشهد لك. وقال أبو جهل: إنه أبى إلا سب الآلهة، وشتم الآباء، وأنا أعاهد الله لأحملن حجرا فإذا سجد، ضربت به رأسه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حزينا لما رأى من قومه، فأنزل الله سبحانه الآيات. المعنى: لما بين سبحانه فيما تقدم إعجاز القرآن، عقب ذلك البيان بأنهم أبوا إلا الكفر والطغيان، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك، فقال: * (وقالوا لن نؤمن لك) * أي: لن نصدقك فيما تدعي من النبوة * (حتى تفجر لنا من الأرض) * أي: تشقق لنا من أرض مكة، فإنها قليلة الماء * (ينبوعا) * أي: عينا ينبع منه الماء في وسط مكة * (أو تكون لك جنة) * وهي ما تجنه الأشجار أي: تستره * (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار) * من الماء * (خلالها) * أي: وسطها * (تفجيرا) * أي: تشقيقا حتى يجري الماء تحت الأشجار * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * أي: قطعا قد تركب بعضها على بعض، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقوله * (كما زعمت) * معناه: كما خوفتنا به من انشقاق السماء وانفطارها. وقيل: معناه كما زعمت أنك نبي تأتي بالمعجزات. * (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) * أي: كفيلا، ومعناه: تأتي بكل واحد حتى يكون كفيلا ضامنا لنا بما تقول، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: هو جمع القبيلة أي: تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، عن مجاهد. وقيل: معناه مقابلين لنا كالشئ يقابل الشئ حتى نشاهدهم قبيلا أي: مقابلة، نعاينهم، ويشهدون بأنك حق، ودعوتك صدق، عن الجبائي، وقتادة. وهذا يدل على أن القوم كانوا مشبهة مع شركهم * (أو يكون لك بيت من زخرف) * أي: من ذهب عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، وقيل: الزخرف النقوش، عن الحسن * (أو ترقى في السماء) * أي: تصعد * (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) * أي: ولو فعلت ذلك لم نصدقك حتى تنزل على كل واحد منا كتابا من الله، شاهدا بصحة نبوتك، نقرؤه، وهو مثل قوله: * (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) *.
[ 294 ]
* (قل سبحان ربي) * أي: تنزيها له من كل قبيح، وبراءة له من كل سوء. وفي ذلك من الجواب انكم تتخيرون الآيات، وهي إلى الله سبحانه، فهو العالم بالتدبير، الفاعل لما توجبه المصلحة، فلا وجه لطلبكم إياها مني. وقيل: معناه تعظيما له عن أن يحكم عليه عبيده، لأن له الطاعة عليهم. وقيل: إنهم لما قالوا تأتي بالله، وترقى في السماء إلى الله، لاعتقادهم أن الله تعالى جسم، قال * (قل سبحان ربي) * عن كونه بصفة الأجسام، حتى تجوز عليه المقابلة والنزول. وقيل: معناه تنزيها له عن أن يفعل المعجزات تابعا للإقتراحات * (هل كنت إلا بشرا رسولا) * معناه: إن هذه الأشياء ليس في طاقة البشر أن يأتي بها، وأن يفعلها، فلا أقدر بنفسي أن آتي بها، كما لم يقدر من كان قبلي من الرسل، والله تعالى إنما يظهر الآيات المعجزة على حسب المصلحة، وقد فعل، فلا تطلبوني بما لا يطالب به البشر * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * أي: وما صرف المشركين عن الإيمان أي: التصديق بالله وبرسوله * (إذ جاءهم الهدى) * أي: حين أتاهم الحجج والبينات. * (إلا أن قالوا) * أي: إلا قولهم * (أبعث الله بشرا رسولا) * دخلت عليهم الشبهة في أنه لا يجوز أن يبعث الله رسولا إلا من الملائكة، كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله، فوجهوها إلى الأصنام، فعظموا الله بجهلهم بما ليس فيه تعظيم. وإنما ذكر سبحانه هنا لفظ المنع مبالغة في وصف الصرف، وإلا فالمنع يستحيل معه الفعل، فلا يجوز أن يكون مرادا هنا، ولكن شبه الصرف بالمنع * (قل) * يا محمد * (لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) * أي: ساكنين قاطنين * (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) * منهم، عن الحسن. وقيل: معناه مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها، غير خائفين، ولا متعبدين بشرع، لأن المطمئن: من زال الخوف عنه، عن الجبائي. وقيل: معناه لو كان أهل الأرض ملائكة، لبعثنا إليهم ملكا ليكونوا إلى الفهم إليه أسرع، عن أبي مسلم. وقيل: إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين، فجاء محمد، فأزعجنا، وشوش علينا أمرنا، فبين سبحانه أنهم لو كانوا ملائكة مطمئنين، لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم، فكذلك كون الناس مطمئنين لا يمنع من إرسال الرسول إليهم، إذ. هم أحوج إليه من الملائكة، فكيف أنكروا إرسال الرسول إليهم مع كونهم مطمئنين. سؤال: قالوا إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبي ملكا ليس من جنسه، فالأ جأز
[ 295 ]
أن يكون الرسول إلى الناس أيضا ملكا، ليس من جنسهم ؟ وجوابه: إن صاحب المعجزة قد اختير للنبوة، فصارت حاله مقاربة لحال الملك، وليس كذلك غيره من الأمة، لأنه يجوز أن يرى الملائكة، كما يرى بعضهم بعضا، بخلاف الأمة، وأيضا فإن النبي يحتاج إلى معجزة تعرف بها رسالة نفسه، كما احتاجت إليه الأمة، فجعل، الله المعجزة رؤيته الملك. * (قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96) ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا باياتنا وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا (98) * أولم يروا أن الله الذى خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لاريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا (100)) *. اللغة: الخبو: سكون النار عن الإلتهاب، يقال: خبت النار تخبو، قال عدي بن زيد: وسطه كاليراع، أو سرج المجدل، حينا يخبو، وحينا ينير (1) وقال آخر: وكنا كالحريق أصاب غابا فيخبو ساعة، وينير ساعا والقتر: التضييق. والقتور فعول منه للمبالغة، ويقال: قتر يقتر وتقتر، وأقتر، وقتر: إذا قدر في النفقة. (1) هذا البيت من قصيدة يعظ فيها النعمان بن المنذر، ومطلعها: (أرواح مودع أم بكور أنت فانظر لأي ذاك تصير) (*)
[ 296 ]
الاعراب: * (كفى بالله) * المفعول محذوف وهو الكاف. والباء زيادة. و * (شهيدا) *: تمييز. والتقدير كفاك الله من جملة الشهداء. * (من يهد) * الله * (ومن يضلل) *. كلاهما شرط ووحد الضمير المتصل بيهدي ويضلل على اللفظ. ثم قال: * (فلن تجد لهم أولياء ونحشرهم.... الخ) * فجمع الضمير في كل ذلك على المعنى. وقوله * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * الجملة في موضع الحال من * (جهنم) * لأن جهنم توضع موضع متلظ ومتسعر، ولولا ذلك لم يجز مجئ الحال عنها. ويجوز أن تكون الجملة لا محل لها من الإعراب، ويكون في تقدير العاطفة، والتقدير: وكلما خبت، فحذف الواو. * (على وجوههم) *: في موضع نصب على الحال، وتقديره مجرورين على وجوههم. وقوله: * (لو أنتم تملكون) *: أنتم مرفوع بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر الذي هو قوله * (تملكون) * لأن * (لو) * يقع بها الشئ لوقوع غيره، فلا يليها إلا الفعل، وإذا وليها اسم، عمل فيه فعل مضمر، قال: لو غيركم علق الزبير بحبله أدى الجوار إلى بني العوام (1) المعنى: ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (قل) * يا محمد لهؤلاء المشركين * (كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) * إني رسول الله إليكم. وقد مر معناه في سورة الرعد (2) * (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * لا يخفى عليه من أحوالهم شئ. والمراد به تأكيد الوعيد * (ومن يهد الله فهو المهتدي) * أي: من يحكم الله بهداه فهو المهتدي بإخلاصه، وطاعته على الحقيقة * (ومن يضلل) * أي: ومن يحكم بضلاله * (فلن تجد لهم أولياء من دونه) * أي: لن تجد لهم أنصارا يقدرون على إزالة اسم الضلال عنهم. وقد ذكرنا وجوه الهدى والضلال في سورة البقرة * (ونحشرهم) * أي: نجمعهم. * (يوم القيامة على وجوههم) * أي: يسحبون على وجوههم إلى النار كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه. وروى أنس بن مالك أن رجلا قال: يا نبي الله ! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال: إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة. أورده البخاري، ومسلم، في الصحيح * (عميا وبكما وصما) * قيل: المعنى عميا عما يسرهم بكما عن التكلم بما ينفعهم، صما عما يمتعهم، عن. ابن عباس أي: كأنهم عدموا هذه الجوارح. (1) مر البيت في الجزء الثاني من هذا التفسير. (2) في صفحة 53 من هذا الجزء. (*)
[ 297 ]
وقيل: يحشرون على هذه الصفة عميا، كما عموا عن الحق في دار الدنيا بكما جزاء على سكوتهم عن كلمة الإخلاص، وصما لتركهم سماع الحق، وإصغائهم إلى الباطل. قال مقاتل: هذا حين يقال لهم إخسئوا فيها، ولا تكلموني. وقيل: يحشرون كذلك ثم يجعلون يبصرون، ويسمعون، وينطقون، عن الحسن. * (مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا) * أي: مستقرهم جهنم، كلما سكن التهابها، زدناهم اشتعالا، فيكون كذلك دائما. ومتى قيل: كيف يبقى الحي حيا في تلك الحالة من الإحتراق دائما ؟ قلنا: إن الله تعالى قادر على أن يمنع وصول النار إلى مقاتلهم * (ذلك) * أي: ذلك الذي تقدم ذكره من العقاب * (جزاؤهم) * استحقوه * (بأنهم كذبوا) * [ كذا في النسخ، والصواب كفروا ] (1) * (بآياتنا) * أي: بتكذيبهم بآيات الله. * (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) * مثل التراب مترضضين * (أإنا لمبعوثون خلقا جديدا) * مر معناه في هذه السورة * (أو لم يروا) * أي: أو لم يعلموا * (أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم) * لأن القادر على الشئ، قادر على أمثاله إذا كان له مثل، أو أمثال في الجنس، وإذا كان قادرا على خلق أمثالهم، كان قادرا على إعادتهم، إذ الإعادة أهون من الإنشاء في الشاهد. وقيل: أراد قادر على أن يخلقهم ثانيا، وأراد بمثلهم إياهم، وذلك أن مثل الشئ مساو له في حالته، فجاز أن يعبر به عن الشئ نفسه. يقال: مثلك لا يفعل كذا، بمعنى أنت لا تفعله، ونحوه * (ليس كمثله شئ) * وتم الكلام ههنا. ثم قال سبحانه: * (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) * أي: وجعل لإعادتهم وقتا لا شك فيه أنه كائن لا محالة. وقيل: معناه وضرب لهم مدة ليتفكروا ويعلموا فيها أن من قدر على الإبتداء قدر على الإعادة. وقيل: وجعل لهم أجلا يعيشون إليه، ويخترمون عنده لا شك فيه * (فأبى الظالمون) * لنفوسهم، الباخسون حقها بفعل المعاصي. * (إلا كفورا) * أي: جحودا بآيات الله ونعمه. وفي الآية دلالة على أن القادر على الشئ يجب أن يكون قادرا على جنس مثله، إذا كان له مثل، وعلى أنه يجب أن يكون قادرا على ضده، لأن منزلته في المقدور منزلة مثله. وفيه دلالة أيضا على أنه يقدر على إعادته إذا كان مما يفنى، وتصح عليه الإعادة. (1) قد خلت المخطوطة مما أوردناه بين المعقفتين، وكأنه مكتوبا في هامش بعض النسخ، فأدخله الناسخ في المتن سهوا. (*)
[ 298 ]
ثم قال سبحانه: * (قل) * يا محمد لهؤلاء الكفار: * (لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي) * أي: لو ملكتم خزائن أرزاق الله. وقيل: لو ملكتم مقدورات ربي أي: ما يقدر عليه ربي من النعم، إذ لا يكون له سبحانه موضع يخزن فيه الرحمة، ثم يخرج منه، كما يكون للعباد. ورحمته: نعمته * (إذا لأمسكتم) * شحا، وبخلا * (خشية الإنفاق) * أي: خشية الفقر والفاقة، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: خشية أن تنفقوا فتفتقروا، عن السدي، والمعنى لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر للإنفاق * (وكان الإنسان قتورا) * أي: بخيلا، عن ابن عباس، وقتادة. وهذا جواب لقولهم: * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * ويقال: نفقت نفقات القوم: إذا نفدت، وأنفقها صاحبها أي: أنفدها حتى افتقر. وظاهر قوله * (وكان الإنسان قتورا) * العموم. وقد علمنا أن في الناس الجواد، والوجه فيه أحد أمرين: وهو أن يكون الأغلب عليهم من ليس بجواد، فجاز الإطلاق تغليبا للأكثر، وأيضا فإن ما يعطيه الإنسان، وإن عد جوادا، بخل في جنب ما يعطيه الله سبحانه، لأن الإنسان إنما يعطي ما يفضل عن حاجته، ويمسك ما يحتاج إليه، والله سبحاته لا تجوز عليه الحاجة، فيفيض من النعم على المطيع والعاصي، إفاضة من لا يخاف الحاجة. * (ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات فسئل بنى إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لأظنك يا موسى مسحورا (101) قال لقد علمت مآ أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإنى لأظنك يا فرعون مثبورا (102) فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبنى إسراءيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الأخرة جئنا بكم لفيفا (104) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105)) *. القراءة: قرأ الكسائي وحده: * (لقد علمت) * بضم التاء. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي:: حجة من فتح أن فرعون، ومن كان يتبعه، قد علموا صحة أمر موسى، بدلالة قوله * (لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك) *، وقوله: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * ومن قال: لقد علمت إذا قيل له: كيف يصح الإحتجاج عليهم بعلمه، وعلمه لا يكون حجة على فرعون، وإنما يكون علم فرعون
[ 299 ]
بما علم من صحة أمر موسى حجة عليه ؟ فالقول: انه لما قيل له ان رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون، كان ذلك قدحا في علمه، لأن المجنون لا يعلم، فكأنه نفى ذلك، فقال: لقد علمت صحة ما أتيت به، وأنه ليس بسحر، علما صحيحا، كعلم العقلاء، فصير العقل حجة عليه من هذا الوجه، وزعموا أن هذه القراءة رويت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. اللغة: الثبور: الهلاك. ثبره الله يثبره، ويثبره لغتان. ورجل مثبور: محبوس عن الخيرات قال: إذ أجاري الشيطان في سنن الغي، ومن قال مثله مثبور وتقول العرب: ما ثبرك عن هذا الأمر أي: ما صرفك عنه، وما منعك منه. ولفيف: مصدر قولك لففت الشئ أي: جمعته، يقال: لففته لفا، ولفيفا. ومن ذلك قولهم: لففت الجيوش: ضربت بعضها ببعض، فاختلط الجميع. قال الزجاج: اللفيف الجماعات من قبائل شتى. المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة موسى عليه السلام، فقال: * (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) * أي: ولقد أعطينا موسى تسع دلالات، وحجج واضحات، واختلف في هذه الآيات التسع، فقيل: هي يد موسى، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والعصا، والطمسة، والحجر، عن محمد بن كعب، وعن أبي علي الجبائي أيضا، إلا أنه ذكر بدل الطمسة اليد. وعن قتادة، ومجاهد، وعكرمة، وعطا، كذلك، إلا أنهم ذكروا بدل البحر والطمسة والحجر، اليد والسنين، ونقص من الثمرات. والطمسة: هي دعاء موسى وتأمين هارون. وقال الحسن مثل ذلك، إلا أنه جعل الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات آية واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وقيل: إنها تسع آيات في الاحكام: روى عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي. قال: فأتى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن هذه الآية: فقال: هو أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا بالبرئ إلى سلطان ليقتله، ولا
[ 300 ]
تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة يا يهود أن لا تعتدوا في السبت. فقبل يده وقال: أشهد أنك نبي * (فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم) * هذا أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل بني إسرائيل، لتكون الحجة عليهم أبلغ. وقيل: إن المعنى فاسأل أيها السامع، لأن العلم قد وقع بخبر الله تعالى، فلا حاجة إلى الرجوع إلى أهل الكتاب. وقيل: إن معنى السؤال أن تنظر ما في القرآن من أخبار بني إسرائيل، عن الحسن. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: * (فسأل بني إسرائيل) *، بمعنى فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم * (فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا) * أي: معطى على السحر، فهذه العجائب التي فعلتها من سحرك. وقيل: معناه إني لأظنك ساحرا، فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال مشؤوم وميمون في معنى شائم ويامن. وقيل: معناه إنك سحرت، فأنت تحمل نفسك على ما تقوله للسحر الذي بك. وقيل: مسحورا أي مخدوعا، عن ابن عباس * (قال) * موسى * (لقد علمت) * أنت يا فرعون * (ما أنزل هؤلاء) * أي: هذه الآيات * (إلا رب السماوات والأرض) * الذي خلقهن * (بصائر) * أي: أنزلها حججا وبراهين للناس يبصرون بها أمور دينهم. وقيل: أدلة على نبوتي، لأنك تعلم أنها ليست من السحر. وروي أن عليا عليه السلام قال في * (علمت) *: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم فقال: لقد علمت. * (وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) * معناه: وإني لأعلمك يا فرعون هالكا لكفرك وإنكارك، عن قتادة، والحسن. وقيل: أعلمك ملعونا، عن ابن عباس. وقيل: مخبولا لا عقل لك، عن ابن زيد. وقيل: بعيدا عن الخير، مصروفا عنه، عن الفراء. وقيل: المراد به الظن على الظاهر، لأن الهلاك يكون بشرط الإصرار، ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الله * (فأراد أن يستفزهم من الأرض) * معناه: فأراد فرعون أن يزعج موسى ومن معه، من أرض مصر، وفلسطين، والأردن، بالنفي عنها. وقيل: بأن يقتلهم * (فأغرقناه ومن معه) * من جنوده * (جميعا) * لم ينج منهم أحد، ولم يهلك من بني إسرائيل أحد. * (وقلنا من بعده) * أي: من بعد هلاك فرعون وقومه * (لبني إسرائيل اسكنوا الأرض) * أي: أرض مصر والشام * (فإذا جاء وعد الآخرة) * يعني يوم القيامة، عن أكثر المفسرين أي: وعد الكرة الآخرة. وقيل: أراد نزول عيسى، عن الكلبي، وقتادة * (جئنا بكم لفيفا) *
[ 301 ]
معناه: جئنا بكم من القبور إلى الموقف، للحساب والجزاء، مختلطين التف بعضكم ببعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته، وقيل: لفيفا أي: جميعا أولكم وآخركم، عن ابن عباس، ومجاهد * (وبالحق أنزلناه) * معناه: وبالحق أنزلنا القرآن عليك * (وبالحق نزل) * القرآن. وتأويله: أردنا بإنزال القرآن الحق والصواب، وهو أن يؤمن به، ويعمل بما فيه. ونزل بالحق لأنه يتضمن الحق، ويدعو إلى الحق. وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد أنزلنا موسى، فيكون كقوله: * (وأنزلنا الحديد) *. ويجوز أن يكون المراد وأنزلنا الآيات أي: وأنزلنا ذلك كما قال أبو عبيدة: أنشدني رؤبة: فيه خطوط من سواد، وبلق، كأنه في العين توليع البهق (1) فقلت له: إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبياض فقل: كأنهما (2). قال: فقال لي: كأن ذا ويلك توليع البهق * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) * مبشرا بالجنة لمن أطاع، ومنذرا بالنار لمن عصى. * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106) قل ءامنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110) وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا (111)) *. القراءة: القراءة المشهورة في * (فرقناه) * بالتخفيف. وروي عن علي عليه السلام، (1) وفي (اللسان): في مادة ولع (فيها خطوط ا ه‍). والتوليع: التلميع من البرص. والبهق: بياض دون البرص. (2) قال ابن المنظور بعد ذكر القصة قال ابن بري: ورواية الأصمعي كأنها أي: كأن الخطوط (انتهى). (*)
[ 302 ]
وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، والشعبي، والحسن بخلاف. وقتادة، وعمرو بن فائد: * (فرقناه) * بالتشديد. الحجة: معنى فرقناه: فصلناه ونزلناه آية آية، وسورة سورة. ويدل عليه قوله * (على مكث) * والمكث، والمكث، لغتان. الاعراب: * (قرآنا) *: منصوب بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر أي: وفرقنا قرآنا فرقناه. وجاء بالنصب ولم يأت فيه الرفع، لأن صدره فعل وفاعل، وهو قوله: * (وبالحق أنزلناه) *. * (على مكث) * في موضع نصب على الحال أي: متمهلا متوقفا غير مستعجل. * (يخرون للأذقان) *: في موضع رفع بكونه خبر إن. و * (سجدا) *: نصب على الحال. * (إن كان وعد ربنا) * إن هذه مخففة من الثقيلة، وهي واللام دخلتا للتأكيد. * (أيا ما تدعوا) *: تدعوا مجزوم بالشرط الذي يتضمنه أي، وعلامة الجزم فيه سقوط النون. و * (ما) *: مزيدة مؤكدة للشرط. و * (أيا) *: منصوب بتدعوا. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم، فقال * (وقرآنا فرقناه) * أي: وأنزلنا عليك يا محمد قرآنا فصلناه سورا وآيات، عن أبي مسلم. وقيل: معناه فرقنا به الحق عن الباطل، عن الحسن. وقيل: معناه جعلنا بعضه خبرا، وبعضه أمرا، وبعضه نهيا، وبعضه وعدا، وبعضه وعيدا، وأنزلناه متفرقا لم ننزله جميعا إذ كان بين أوله وآخره نيف وعشرون سنة * (لتقرأه على الناس على مكث) * أي: على تثبت وتؤدة، فترتله ليكون أمكن في قلوبهم، ويكونوا أقدر على التأمل والتفكر فيه، ولا تعجل في تلاوته، فلا يفهم عنك، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه لتقرأه عليهم مفرقا شيئا بعد شئ * (ونزلناه تنزيلا) * على حسب الحاجة، ووقوع الحوادث. وروي عن ابن عباس أنه قال: لئن أقرأ سورة البقرة وأرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذا (1). وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تقرأوا القرآن في أقل من ثلاث، واقرأوا في سبع * (قل) * يا محمد لهؤلاء المشركين: * (آمنوا به) * أي: بالقرآن * (أولا تؤمنوا) فإن إيمانكم ينفعكم، ولا ينفع غيركم، وترككم الإيمان يضركم ولا يضر غيركم، وهذا تهديد لهم، وهو جواب لقولهم: * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا) * (1) الهذ: سرعة القراءة. (*)
[ 303 ]
* (إن الذين أوتوا العلم من قبله) * أي: أعطوا علم التوراة من قبل نزول القرآن كعبد الله بن سلام وغيره، فعلموا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه، عن ابن عباس. وقيل: إنهم أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم. وقيل: إنهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن * (إذا يتلى عليهم) * القرآن * (يخرون للأذقان سجدا) * أي: يسقطون على الوجوه ساجدين، عن ابن عباس، وقتادة. وإنما خص الذقن لأن من سجد كان أقرب شئ منه إلى الأرض ذقنه، والذقن مجمع اللحيين. * (ويقولون سبحان ربنا) * أي: تنزيها لربنا عز اسمه عما يضيف إليه المشركون * (إن كان وعد ربنا لمفعولا) * إنه كان وعد ربنا مفعولا حقا يقينا، ولم يكن وعد ربنا إلا كائنا * (ويخرون للأذقان يبكون) * أي: ويسجدون باكين إشفاقا من التقصير في العبادة، وشوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب * (ويزيدهم) * ما في القرآن من المواعظ * (خشوعا) * أي: تواضعا لله تعالى، واستسلاما لأمر الله، وطاعته. ثم قال سبحانه: * (قل) * يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين نبوتك * (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * وذكر في سببه أقوال أحدها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ساجدا ذات ليلة بمكة، يدعو: يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أن له إلها واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، عن ابن عباس وثانيها: إن المشركين قالوا: أما الرحيم فنعرفه، وأما الرحمن فلا نعرفه، عن ميمون بن مهران وثالثها: إن اليهود قالوا: إن ذكر الرحمن في القرآن قليل، وهو في التوراة كثير، عن الضحاك. * (أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) * معناه: أي أسمائه تدعو. و * (ما) * ها هنا: صلة، كقوله: * (عما قليل ليصبحن نادمين) *. وقيل: هي بمعنى أي شئ كررت مع أي لاختلاف اللفظين توكيدا، كما قالوا: ما رأيت كالليلة ليلة، وتقديره: أي شئ من أسمائه تدعونه به كان جائزا، فإن معنى * (أو) * في قوله * (أو ادعوا الرحمن) * الإباحة أي: إن دعوتم بأحدهما كان جائزا، وإن دعوتم بهما كان جائزا، فله الأسماء الحسنى، فإن أسماءه تنبئ عن صفات حسنة، وأفعال حسنة. فأما أسماؤه المنبئة عن صفات ذاته، فهو: القادر، العالم، الحي، السميع، البصير، القديم. وأما أسماؤه المنبئة عن صفات أفعاله الحسنة فنحو: الخالق، والرازق، والعدل، والمحسن، والمجمل، والمنعم، والرحمن، والرحيم. وأما ما أنبأ عن المعاني الحسنة فنحو: الصمد، فإنه يرجع إلى أفعال عباده، وهو أنهم يصمدونه في الحوائج. ونحو: المعبود والمشكور.
[ 304 ]
بين سبحانه في هذه الآية أنه شئ واحد، وإن اختلفت أسماؤه وصفاته. وفي الآية دلالة على أن الإسم عين المسمى، وعلى أن تقديم أسمائه الحسنى قبل الدعاء والمسألة مندوب إليه مستحب. وفيها أيضا دلالة على أنه سبحانه لا يفعل القبائح مثل الظلم وغيره، لأن أسماءه حينئذ لا تكون حسنة، فإن الأسماء قد تكون مشتقة من الأفعال، فلو فعل الظلم لاشتق منه اسم الظالم، كما اشتق من العدل العادل وقوله * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * اختلف في معناه على أقوال أحدها: إن معناه لا تجهر بإشاعة صلاتك عند من يؤذيك، ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك، عن الحسن. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى، فجهر في صلاته، تسمع له المشركون، فشتموه وآذوه، فأمره سبحانه بترك الجهر، وكان ذلك بمكة في أول الأمر، وبه قال سعيد بن جبير. وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام وثانيها: إن معناه لا تجهر بدعائك، ولا تخافت بها، ولكن بين ذلك، فالمراد بالصلاة الدعاء، عن مجاهد، وعطا، ومكحول، ونحوه روي عن ابن عباس. وثالثها: إن معناه لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها. * (وابتغ بين ذلك سبيلا) * بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النهار، عن أبي مسلم ورابعها: لا تجهر جهرا يشغل به من يصلي بقربك، ولا تخافت بها حتى لا تسمع نفسك، عن الجبائي، وقريب منه ما رواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الجهر بها رفع الصوت شديدا، والمخافتة ما لم تسمع أذنيك، واقرأ قراءة وسطا ما بين ذلك، وابتغ بين ذلك سبيلا أي: بين الجهر والمخافتة، ولم يقل بين ذينك، لأنه أراد به الفعل، فهو مثل قوله * (عوان بين ذلك) *. * (وقل الحمدلله الذي لم يتخذ ولدا) * فيكون مربوبا لا ربا، لأن رب الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد * (ولم يكن له شريك في الملك) * فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه، ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة. * (ولم يكن له ولي من الذل) * أي: لم يكن له حليف حالفه لينصره على من يناوئه، لأن ذلك من صفة الضعيف العاجز، ولا يجوز أن يكون الإله بهذه الصفة. قال مجاهد: لم يذل فيحتاج إلى من يتعزز به، يعني أنه القادر بنفسه، وكل ما عبد من دونه، فهو ذليل مقهور. وقيل: معناه ليس له ولي من أهل الذل، لأن الكافر والفاسق لا يكون وليا لله. * (وكبره تكبيرا) * أي: عظمه تعظيما لا يساويه تعظيما، ولا يقاربه. وروي أن
[ 305 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أهله هذه الآية وما قبلها، عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير. وقيل: إن في هذه الآية ردا على اليهود والنصارى، حين قالوا اتخذ الله الولد، وعلى مشركي العرب حيث قالوا: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا: لولا أولياء الله لذل الله، عن محمد بن كعب القرظي. سؤال: قالوا كيف يحمد سبحانه أن لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك، والحمد إنما يستحق على فعل له صفة التفضل ؟ والجواب: إنه ليس له الحمد في الآية على أنه لم يفعل، وإنما الحمد له سبحانه على أفعاله المحمودة، وتوجه الحمد إلى من هذه صفته، كما يقال أنا أشكر فلانا الجميل، ولا نشكره على جماله بل على أفعاله.
[ 306 ]
18 - سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة مكية قال ابن عباس، إلا آية * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) * فإنها نزلت بالمدينة في قصة عيينة بن حصن الفزاري. عدد آيها: مائة وإحدى عشرة آية بصري، وعشر كوفي، وست شامي، وخمس حجازي. اختلافها: إحدى عشرة آية فزدناهم هدى غير الشامي إلا قليل مدني الأخير إني فاعل ذلك غدا غير الأخير ذرعا ومن كل شئ سببا عراقي شامي، والأخير، هذه أبدا غير شامي والأخير، عندها قوما غير الكوفي، والأخير فاتبع سببا الثلاث عراقي بالأخسرين أعمالا عراقي شامي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأها فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة، فإن خرج الدجال في تلك الثمانية الأيام، عصمه الله من فتنة الدجال. ومن قرأ الآية التي في آخرها * (قل إنما أنا بشر مثلكم...) * الآية حين يأخذ مضجعه، كان له في مضجعه نور يتلألأ إلى الكعبة. حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه، حتى يقوم من مضجعه. فإن كان في مكة فتلاها، كان له نورا يتلألأ إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ. سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفطا، لم تضره فتنة الدجال، ومن قرأ السورة كلها، دخل الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض ؟ قالوا: بلي. قال: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة، غفر الله له إلى الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام، وأعطي نورا يبلغ السماء، ووقي فتنة الدجال. وروى الواقدي بإسناده عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، ثم أدرك الدجال، لم
[ 307 ]
يضره. ومن حفظ خواتيم سورة الكهف، كانت له نورا يوم القيامة. وروى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمد الجزمي، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ستة أيام، من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم منه. وروى العياشي بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة، لم يمت إلا شهيدا، وبعثه الله مع الشهداء، ووقف يوم القيامة مع الشهداء. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة بني إسرائيل بالتحميد، والتوحيد، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، وافتتح سورة الكهف أيضا بالتحميد، والتوحيد، وذكر القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليتصل أول هذه بآخر تلك، اتصال الجنس بالجنس، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (الحمدلله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4) ما لهم به من علم ولا لأبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5) فلعلك باخع نفسك علئ ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)) *. القراءة: قرأ أبو بكر برواية يحيى: * (من لدنه) * بإشمام الدال الضم، وكسر الهاء. والنون. وقرأ الباقون بضم الدال وسكون النون. وفي الشواذ * (كبرت كلمة) * برفع كلمة، قرأه يحيى بن يعمر، والحسن، وابن المحيصن، وابن أبي إسحاق، والثقفي، والأعرج بخلاف، وعمرو بن عبيد. الحجة: قال أبو علي: في * (لدن) * ثلاث لغات. لدن: مثل سبع، ويخفف الدال، ويكون على ضربين أحدهما: أن يحذف الضمة من الدال، فيقال لدن والآخر: أن يحذف الضمة من الدال، وينتقل إلى اللام، فيقال * (لدن) * مثل
[ 308 ]
عضد في عضد. وفي كلا الوجهين يجتمع في الكلمة ساكنان. فمن قرأ * (من لدنه) * بكسر النون فإن الكسرة فيه ليست كسرة إعراب، وإنما هي كسرة لالتقاء الساكنين، وذاك أن الدال أسكنت كما أسكنت الباء في سبع، والنون ساكنة، فالتقى الساكنان، فكسر الثاني منهما. فأما إشمام الدال الضمة، فليعلم أن الأصل كان في الكلمة الضمة، ومثل ذلك قولهم: أنت تغرين، وقولهم قيل أشمت الكسرة فيهما الضمة، ليدل على أن الأصل فيهما التحريك بالضم، وإن كان الإشمام في * (لدنه) * ليس في حركة خرجت إلى اللفظة، وإنما هو بهيئة العضو لإخراج الضمة. وأما الجار في قوله * (من لدنه) * فيحتمل ضربين أحدهما: أن يكون صفة متعلقا بشديد والآخر: أن يكون صفة للنكرة، وفيها ذكر للموصوف. اللغة: العوج: بالفتح فيما يرى كالقناة والخشبة. وبالكسر: فيما لا يرى شخصا قائما كالدين والكلام، والقيم. والمستقيم. والباخع: القاتل المهلك، يقال: بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا. قال ذو الرمة: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه (1) لشئ نحته عن يديه المقادر يريد نحته، فخفف. والأسف: المبالغة في الحزن والغضب، يقال: أسف الرجل فهو آسف وأسيف. قال الأعشى: ترى رجلا منهم أسيفا كأنه يضم إلى كشحيه كفا مخضبا قيما: نصب على الحال من الكتاب، والعامل فيه أنزل. وقوله: * (إن لهم أجرا) * تقديره بأن لهم أجرا، فحذف الجار. و * (ماكثين) *: نصب على الحال في معنى خالدين. وقوله * (كبرت كلمة) *: اختلف في نصب * (كلمة) * فقال السراج: انتصب على تفسير المضمر على حد قولهم: نعم رجلا زيد، والتقدير على هذا كبرت الكلمة كلمة، ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه. ومثله كرم رجلا زيد، ولؤم صاحبا عمرو. ويكون المخصوص بالتكبير في هذه المسألة محذوفا، لدلالة صفته عليه، والتقدير: كلمة تخرج من أفواههم أي: كلمة خارجة من أفواههم، فيكون مرفوعا على وجهين أحدهما: أن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر والآخر: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي كلمة تخرج. وقيل: انتصب كلمة على التمييز المنقول (1) الوجد: الحزن. (*)
[ 309 ]
عن الفاعل، على حد قولك تصببت عرقا، وتفقأت شحما، والأصل كبرت كلمتهم الخارجة من أفواههم، قال الشاعر: ولقد علمت إذا الرياح تناوحت (1) هدج الريال تكبهن شمالا أي: تكبهن الرياح شمالا. ومن قرأ * (كبرت كلمة) * فإنه جعل * (كلمة) * فاعل * (كبرت) *، وجعل قولهم * (اتخذ الله ولدا) * كلمة، كما قالوا للقصيدة كلمة. وعلى هذا فيكون قوله * (تخرج من أفواههم) * في موضع رفع بكونه صفة لكلمة. ولا يجوز أن يكون وصفا لكلمة الظاهرة المنصوبة، لأن الوصف يقرب النكرة من المعرفة، والتمييز لا يكون معرفة البتة، ولا يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من كلمة المنصوبة لوجهين أحدهما أن الحال يقوم مقام الوصف، والثاني أن الحال لا يكون من نكرة في غالب الأمر. و * (أسفا) * منصوب بأنه مصدر وضع موضع الحال، ولو كان في غير القرآن لجاز أن لم يؤمنوا بالفتح كما في قول الشاعر: أتجزع أن بان الخليط المودع، وحبل الصفا من عزة المتقطع المعنى: * (الحمد لله) * يقول سبحانه لخلقه: قولوا كل الحمد والشكر لله * (الذي أنزل على عبده) * محمد صلى الله عليه وآله وسلم * (الكتاب) * أي: القرآن، وانتجبه من خلقه، وخصه برسالته، فبعثه نبيا رسولا * (ولم يجعل له عوجا قيما) * فيه تقديم وتأخير، وتقديره الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا، وعنى بقوله قيما: معتدلا مستقيما مستويا، لا تناقض فيه، عن ابن عباس. وقيل: قيما على سائر الكتب المتقدمة، يصدقها ويحفظها، وينفي الباطل عنها، وهو ناسخ لشرائعها، عن الفراء. وقيل: قيما لأمور الدين، يلزم الرجوع إليه فيها، فهو كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها، عن أبي مسلم. وقيل: قيما دائما يدوم ويثبت إلى يوم القيامة، لا ينسخ، عن الأصم. ولم يجعل له عوجا أي: لم يجعله ملتبسا لا يفهم، ومعوجا لا يستقيم، وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: لم يجعل فيه اختلافا، كما قال عزوجل اسمه * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *، عن الزجاج، ومعنى العوج في الكلام: أن يخرج من الصحة إلى الفساد، ومن الحق إلى الباطل، ومما فيه فائدة إلى ما لا فائدة فيه. ثم بين سبحانه الغرض (1) تناوح الرياح: تقابلها في المهب. (*)
[ 310 ]
في إنزاله فقال: * (لينذر بأسا شديدا من لدنه) * ومعناه: ليخوف العبد الذي أنزل عليه الكتاب الناس عذابا شديدا، ونكارا، وسطوة من عند الله تعالى، إن لم يؤمنوا به * (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) * معناه: وليبشر المصدقين بالله ورسوله، الذين يعملون الطاعات بعد الإيمان، ان لهم ثوابا حسنا في الآخرة على إيمانهم وطاعاتهم في الدنيا، وذلك الثواب هو الجنة * (ماكثين فيه أبدا) * أي: لابثين في ذلك الثواب، خالدين مؤبدين، لا ينتقلون عنه * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * أي: وليحذر الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله، وهم قريش، عن الحسن، ومحمد بن إسحاق. وقيل: هم اليهود والنصارى، عن السدي، والكلبي. فعم جميع الكفار بالإنذار في الآية الأولى، وخص في هذه الآية القائلين بهذه المقالة منهم، لتقليدهم الآباء في ذلك، ولإصرارهم على الجهل، وقلة التفكر، ولصدهم الناس عن الدين * (ما لهم به من علم ولا لآبائهم) * أي: ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع علم به، ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل ما هم عليه اليوم، وإنما يقولون ذلك عن جهل وتقليد من غير حجة. وقيل: معناه ليس لهم بالله من علم، ولا لآبائهم. * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * أي: عظمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء الكفار، ووصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسعا ومجازا، وإن كانت الكلمة عرضا لا يجوز عليها الدخول والخروج، ولا الحركة والسكون، ولكن لما كانت الكلمة قد تحفظ وتثبت، وتوجد مكتوبة ومقروءة في غير الموضع الذي فعلت فيه، وصفها بالخروج، وذكر الأفواه تأكيدا، والمعنى أنهم صرحوا بهذه الكلمة العظيمة في القبح، وأظهروها * (إن يقولون إلا كذبا) * أي: ما يقول هؤلاء إلا كذبا وافتراء على الله * (فلعلك) * يا محمد * (باخع نفسك على آثارهم) * أي مهلك وقاتل نفسك على آثار قومك الذين قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، تمردا منهم على ربهم * (إن لم يؤمنوا) * أي: إن لم يصدقوا * (بهذا الحديث) * أي: بهذا القرآن الذي أنزل عليك * (أسفا) * أي حزنا وتلهفا ووجدا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عن قبول ما آتيتهم به. وقيل: على آثارهم أي: بعد موتهم لشدة شفقتك عليهم. وقيل: معناه من بعد توليتهم وإعراضهم عنك. وقيل: أسفا أي غيظا وغضبا، عن ابن عباس، وقتادة. وهذه معاتبة من الله سبحانه لرسوله على شدة وجده، وكثرة حرصه على إيمان قومه، حتى بلغ ذلك به مبلغا يقربه إلى الهلاك.
[ 311 ]
* (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8)) *. اللغة: الصعيد: ظهر الأرض. وقال الزجاج: الصعيد الطريق الذي لا نبات به. والجرز: الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا، يقال: أرض جرز، وأرضون أجراز. وقال سيبويه: يقال جرز الأرض فهي مجروزة وجرز هما الجراز والنعم، ويقال للسنة المجدبة: الجرز، لجدوبها ويبسها، وقلة أمطارها. قال الراجز: (قد جرفتهن السنون الأجراز). ويقال: أجرز القوم إذا صارت أرضهم جرزا، وجرزوهم أرضهم: إذا أكلوا نباتها كله. الاعراب: * (أيهم) * مرفوع بالإبتداء، لأن لفظه لفظ الإستفهام، والإستفهام له صدر الكلام، أي: لنختبر أهذا أحسن عملا، أم هذا، وهو تعليق لما في الخبرة من معنى العلم. المعنى: ثم بين سبحانه أنه ابتداء خلقه بالنعم، وأن إليه مصير الأمم فقال * (إنا جعلنا ما على الأرض) * من الأنهار والأشجار، وأنواع المخلوقات من الجماد، والحيوان، والنبات * (زينة لها) * أي: حلية للأرض، ولأهلها * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * أي: لنختبرهم ونمتحنهم، والمعنى لنعامل عبادنا معاملة المبتلى، وقد سبق ذكر أمثاله. والأحسن عملا: الأعمل بطاعة الله، والأطوع له. وقيل: إن معنى الإبتلاء الأمر والنهي، لأن بهما يظهر المطيع من العاصي. وقيل: أراد بالزينة الرجال، لأنهم زينة الأرض. وقيل: أراد الأنبياء والعلماء * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * معناه: وإنا مخربون الأرض بعد عمارتها، وجاعلون ما عليها مستويا من الأرض، يابسا لا نبات عليه. وقيل: بلاقع، عن مجاهد وفي قوله * (أيهم أحسن عملا) *: دلالة على أنه سبحانه أراد من الخلق العمل الصالح، وعلى أن أفعالهم الصادرة منهم حادثة من جهتهم، ولولا ذلك لما صح الإبتلاء، وفي ذلك بطلان قول أهل الجبر. * (أمر حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من ءاياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا ءاتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا
[ 312 ]
رشدا (10) فضربنا علئ اذانهم في الكهف سنين عددا (11) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)) *. اللغة: الكهف: المغارة في الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار. والرقيم: أصله من الرقم، وهو الكتابة. يقال: رقمت الكتاب أرقمه، فهو فعيل بمعنى مفعول، كالجريح والقتيل، ومنه الرقم في الثوب، لأنه خط يعرف به ثمنه. والأرقم: الحية المنقشة لما فيه من الخطوط. وتقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضفة أي: عليك برقمة الوادي، حيث الماء، ودع الجانب. و الأوى: الرجوع. والفتية. جمع فتى، وفعلة من أسماء الجمع، وليس بناء يقاس عليه، يقال: صبي وصبية، وغلام وغلمة، ولا يقال غني وغنية، لأنه غير مطرد في بابه. والضرب: معروف، ومعنى ضربنا على آذانهم: سلطنا عليهم النوم، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة، يقال: ضربه الله بالفالج: إذا ابتلاه الله به. قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان: إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر، وكان ضريرا: ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد (1) والحزب: الجماعة والأمد: الغاية. قال النابغة: إلا لمثلك، أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد (2) الاعراب: * (سنين) *: نصب على الظرف. و * (عددا) *: منصوب على ضربين أحدهما على المصدر، المعنى تعد عددا. ويجوز أن يكون نعتا لسنين، المعنى سنين ذات عدد. قال الزجاج: والفائدة في قولك عدد في الأشياء المعدودات، أنك تريد توكيد كثرة الشئ، لأنه إذا قل فهم مقداره ومقدار عدده، فلم يحتج إلى أن يعد. فالعدد في قولك أقمت أياما عددا، انك تريد بها الكثرة. وجائز أن يؤكد بعدد معنى الجماعة، في أنها قد خرجت من معنى الواحد، قال: وأمدا منصوب على نوعين أحدهما: التمييز والآخر على أحصى أمدا، فيكون العامل فيه أحصى، كأنه (1) سدت علي الطريق أي: عميت علي مذاهبي. وواحد الإسداد أسد. (2) أمد الخيل في الرهان: مدافعها في السباق، ومنتهى غاياتها الذي تسبق إليه. (*)
[ 313 ]
قال: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد، أم هؤلاء. ويكون منصوبا بلبثوا، ويكون أحصى متعلقا بلما. فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد. قال أبو علي: ان انتصابه على التمييز عندي غير مستقيم، وذلك لأنه لا يخلو من أن يحمل أحصى على أن يكون فعلا ماضيا، أو أفعل، نحو أحسن وأعلم، فلا يجوز أن يكون أحصى بمعنى أفعل من كذا، وغير مثال للماضي من وجهين أحدهما: إنه يقال أحصى يحصي، وفي التنزيل * (أحصاه الله ونسوه) * وأفعل يفعل لا يقال فيه هو أفعل من كذا. وأما قولهم ما أولاه بالخير، وما أعطاه الدرهم، فمن الشاذ النادر الذي حكمه أن يحفظ، ولا يقاس عليه والآخر: إن ما ينتصب على التمييز في نحو قولهم هو أكثر مالا، وأعز علما، يكون في المعنى فاعلا. ألا ترى أن المال هو الذي كثر، والعلم هو الذي عز، وليس ما في الآية كذلك، ألا ترى أن الأمد ليس هو الذي أحصى، فهو خارج عن حد هذه الأسماء. وإذا كان ماضيا كان المعنى لنعلم أي الحزبين أحصى أمدا للبثهم، فيكون الأمد على هذا منتصبا بأنه مفعول به، والعامل فيه أحصى. النزول: محمد بن إسحاق بإسناده عن سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن عباس أن النضر بن الحرث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالا لهم ما قالت قريش، فقال لهما أحبار اليهود: إسألوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فهو رجل متقول، فرأوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو. وفي رواية أخرى فإن أخبركم عن الثنتين، ولم يخبركم بالروح، فهو نبي. فانصرفا إلى مكة، فقالا: يا معاشر قريش ! قد جئناكم بفصل ما بينكم، وبين محمد. وقصا عليهم القصة. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسألوه، فقال: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث صلى الله عليه وآله وسلم، خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل، حتى أرجف أهل مكة، وتكلموا
[ 314 ]
في ذلك، فشق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما يتكلم به أهل مكة عليه. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام، عن الله سبحانه، بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه، عن أمر الفتية، والرجل الطواف، وأنزل عليه * (ويسألونك عن الروح) * الآية. قال إبن اسحق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال لجبرائيل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبرائيل ؟ ! فقال له جبرائيل عليه السلام: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا) * الآية. المعنى: * (أم حسبت) * معناه بل أحسبت يا محمد * (أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) * فلخلق السماوات والأرض أعجب من هذا، عن مجاهد، وقتادة. ويحتمل أنه لما استبطأ الجواب حين سألوه عن القصة، قيل له: أحسبت أن هذا شئ عجيب، حرصا على إيمانهم، حتى قوي طمعك، أنك إذا أخبرتهم به آمنوا. والمراد بالكهف. كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قص الله أخبارهم. واختلف في معنى الرقيم، فقيل: إنه اسم الوادي الذي كان فيه الكهف، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: الكهف غار في الجبل. والرقيم: الجبل نفسه، عن الحسن. وقيل: الرقيم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف، عن كعب، والسدي. وقيل: هو لوح من حجارة، كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف، عن سعيد بن جبير، واختاره البلخي، والجبائي. وقيل: جعل ذلك اللوح في خزائن الملوك، لأنه من عجائب الأمور، وقيل: الرقيم كتاب، ولذلك الكتاب خبر، فلم يخبرالله تعالى عما فيه، عن ابن زيد. وقيل: إن أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسد عليهم، فقالوا: ؟ ليدع الله تعالى كل واحد منا بعمله، حتى يفرج الله عنا. ففعلوا، فنجاهم الله. ورواه النعمان بن بشير مرفوعا * (إذ أوى الفتية إلى الكهف) * أي: اذكر لقومك إذ التجأ أولئك الشبان إلى الكهف، وجعلوه مأواهم هربا بدينهم إلى الله * (فقالوا) * حين آووا إليه * (ربنا آتنا من لدنك رحمة) * أي: نعمة ننجو بها من قومنا، وفرج عنا ما نزل بنا * (وهئ لنا من أمرنا رشدا) * أي: هئ وأصلح لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد. وقيل: هئ لنا مخرجا من الغار في سلامة، عن ابن عباس. وقيل: معناه دلنا على مر فيه نجاتنا، لأن الرشد والنجاة بمعنى. وقيل: يسر لنا من أمرنا ما نلتمس به رضاك، وهو الرشد.
[ 315 ]
وقالوا: هؤلاء الفتية قوم آمنوا بالله تعالى، وكانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم، وكان اسم الملك دقيانوس، واسم مدينتهم أفسوس، وكان ملكهم يعبد الأصنام، ويدعو إليها، ويقتل من خالفه. وقيل: إنه كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس، والفتية كانوا على دين المسيح، لما برح أهل الإنجيل. وقيل: كانوا من خواص الملك، وكان يسر كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه، ثم اتفق أنهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم، فأووا إلى الكهف، عن عبيد بن عمير. وقيل: إنهم كانوا قبل بعث عيسى عليه السلام. * (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا) * معناه: أنمناهم سنين ذات عدد، وتأويله: فأجبنا دعاءهم، وسددنا آذانهم بالنوم الغالب على نفوذ الأصوات إليها، سنين كثيرة، لأن النائم إنما ينتبه بسماع الصوت. ودل سبحانه بذلك على أنهم لم يموتوا، وكانوا نياما في أمن وراحة وجمام نفس. وهذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ * (ثم بعثناهم) * أي: أيقظناهم من نومهم * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * أي: ليظهر معلومنا على ما علمناه، وذكرنا الوجه في أمثاله فيما سبق. والمعنى: لننظر أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عد أمد لبثهم، وعلم ذلك، وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بيتهم، فبعثهم الله ليبين ذلك، ويظهر. وقيل: يعني بالحزبين أصحاب الكهف، لما استيقظوا اختلفوا في تعداد لبثهم، وذلك قوله: * (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) * الآية. النظم: اتصل قوله * (أم حسبت أن أصحاب الكهف) * الآية. بما قبلها من وجوه أحدها: إنه لما أخبر عن زينة الأرض، وعن الإبتلاء، عقبة بذكر الفتية التي تركت زينة الدنيا، واختارت طاعة الله، وفارقت ديارها وأموالها، حثا على الإقتداء بهم والآخر: إنه اتصل بقوله * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) * أي: فلا تأسف عليهم، لأنه لا يضرك كفرهم والله ناصرك وحافظك من أعدائك، كما حفظ أصحاب الكهف والثالث: إنه اتصل بقوله * (ويبشر المؤمنين) * أي وينصرهم كما نصر أصحاب الكهف. * (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدناهم
[ 316 ]
هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنآ إذا شططا (14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم يسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15) وإذ اعتز لتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا (16)) *. القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر، والأعشى، والبرجمي، عن أبي بكر: * (مرفقا) * بفتح الميم، وكسر الفاء، والباقون: * (مرفقا) * بكسر الميم، وفتح الفاء. الحجة: قال الزجاج: وذكر قطرب وغيره اللغتين جميعا في مرفق الأمر، ومرفق اليد. ومرفق اليد بالكسر أجود. قال أبو الحسن: مرفقا أي: شيئا يرتفقون به مثل المقطع ونحوه. ومرفقا جعله إسما مثل المسجد، أو يكون لغة، قال أبو علي: قوله جعله إسما أي: جعل المرفق إسما، ولم يجعلوه إسم المكان، ولا المصدر، من رفق يرفق، كما أن المسجد ليس باسم الموضع من سجد يسجد وقوله، أو يكون لغة أو يجعله في اسم المصدر، كما جاء المطلع، ونحوه، ولو كان على القياس لفتحت اللام. اللغة: الشطط: الخروج عن الحد بالغلو فيه، وأصله مجاوزة الحد في البعد. وشطت الجارية شططا وشطاطة: إذا جاوزت الحد في الطول. وأشط في السوم: إذا جاوز القدر بالغلو فيه. والإعتزال: التنحي عن الأمر، والتعزل بمعناه. قال: يا بيت عاتكة التي أتعزل حذر العدى، وبه الفؤاد موكل (1) وسمي عمرو بن عبيد، وأصحابه، معتزلة لما اعتزلوا حلقة الحسن. الاعراب: كسر * (إنهم فتية) * على الإستئناف. * (إذ قاموا) *: يتعلق بربطنا أي: في الوقت الذي قاموا فيه. و * (شططا) *: منصوب على المصدر. المعنى: (1) قائله الأحوص. (*)
[ 317 ]
لقد قلنا قولا شططا. * (وما يعبدون) *: في موضع نصب عطفا على الهاء والميم في * (إعتزلتموهم) *، والمراد الأصنام التي يعبدونها من دون الله. ويجوز أن تكون * (ما) * مصدرية أي: وعبادتهم إلا عبادة الله، فحذف المضاف، والإستثناء على هذا من الهاء والميم، وإن جعلت * (ما) * موصولة، كان الإستثناء من مفعول * (يعبدون) * إستثناء منقطعا. المعنى: ثم بين سبحانه قصة أصحاب الكهف، فقال: * (نحن نقص عليك) * أي: نتلو عليك يا محمد * (نبأهم) * أي: خبرهم * (بالحق) * أي: بالصدق، والصحة * (إنهم فتية) * أي: أحداث وشباب * (آمنوا بربهم وزدناهم هدى) * أي: بصيرة في الدين، ورغبة في الثبات عليه بالألطاف المقوية لدواعيهم إلى الإيمان. وحكم لهم سبحانه بالفتوة، لأن رأس الفتوة الإيمان. وقيل: الفتوة بذل الندى، وترك الأذى، وترك الشكوى، عن مجاهد. وقيل: هي اجتناب المحارم، واستعمال المكارم. * (وربطنا على قلوبهم) * أي: شددنا عليها بالألطاف والخواطر المقوية للإيمان، حتى وظنوا أنفسهم على إظهار الحق، والثبات على الدين، والصبر على المشاق، ومفارقة الوطن. * (إذ قاموا) * أي: حين قاموا بين يدي ملكهم الجبار دقيانوس الذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم * (فقالوا) * بين يديه * (ربنا رب السماوات والأرض) * أي: ربنا الذي نعبده خالق السماوات والأرض * (لن ندعوا من دونه إلها) * أي: لن نعبد إلها سواه معه * (لقد قلنا إذا شططا) * معناه: إن دعونا مع الله إلها آخر، فلقد قلنا إذا قولا مجاوزا للحق، غاية في البطلان * (هؤلاء قومنا) * أي: أهل بلدنا * (اتخذوا من دونه) * أي: من دون الله * (آلهة) * يعبدونها * (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) * أي: هلا يأتون على عبادتهم غير الله بحجة ظاهرة. وفي هذا دم زجر للتقليد، وإشارة إلى أنه لا يجوز أن يقبل دين إلا بحجة واضحة. * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * فزعم أن له شريكا في العبادة * (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) * قال ابن عباس: وهذا من قول * (تمليخا) * وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: فإذا فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا، يعني عبدة الأصنام، وفارقتم ما يعبدون أي: أصنامهم إلا الله، فإنكم لن تتركوا عبادته، وذلك ان أولئك كانوا يشركون بالله. ويجوز أنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الأصنام،
[ 318 ]
فقال: إذا اعتزلتم الأصنام، ولم تعتزلوا الله، ولا عبادته فيكون الإستثناء متصلا، ويجوز أن يكون جميعهم كانوا يعبدون الأوثان من دون الله، فيكون الإستثناء منقطعا. * (فأووا إلى الكهف) * أي: صيروا إليه، واجعلوه مأواكم * (ينشر لكم ربكم من رحمته) * أي: يبسط عليكم ربكم من نعمته * (ويهئء لكم من أمركم مرفقا) * أي: ويسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف، عن ابن عباس. وكلما ارتفقت فهو مرفق. وقيل: معناه ويصلح لكم من أمر معاشركم ما ترتفقون به. وفي هدا دلالة على عظم منزلة الهجرة في الدين، وعلى قبح المقام في دار الكفر، إذا كان لا يمكن المقام فيها، إلا بإظهار كلمة الكفر، وبالله التوفيق. * (* وترى الشمس إذا طلعت تزاورعن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من ءايات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له وليا مرشدا (17) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)) *. القراءة: قرأ ابن عامر، ويعقوب: * (تزور) * بتشديد الزاي. وقرأ أهل الكوفة: * (تزاور) * بالتخفيف. والباقون: * (تزاور) * بتشديد الزاي. وقرأ أهل الحجاز: * (لملئت) * بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وفي الشواذ قراءة الجحدري: * (تزوار) * وقراءة الحسن: * (وتقلبهم) بفتح التاء والقاف والباء، وضم اللام. الحجة: من قرأ * (تزاور) * فإنه تتزاور، فأدغم التاء في الزاي. ومن قرأ * (تزاور) *: حذف الثانية وخفف الكلمة بالحذف، كما حذف أولئك بالإدغام. ومن قرأ * (تزور) * فقد قال أبو الحسن: لا معنى له في هذا الموضع، إنما يقال هو مزور عني أي: منقبض عني، يدل عليه قول عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه، وشكا إلى بعبرة و تحمحم (1) (1) يصف فرسه وشكواه من وقوع الرماح على صدره في الحرب. واللبان: الصدر. والتحمحم: حنين الفرس في صهيله. (*)
[ 319 ]
قال أبو علي: والذي حسن القراءة به قول جرير: عسفن عن الأداعس من مهيل، وفي الأظعان عن طلح ازورار (1) فظاهر استعمال هذا في الإظعان مثل استعماله في الشمس. وتزاور: على وزن تفاعل. وتزوار: على وزن تفعال من الأزويرار. وقوله * (لملئت منهم) * بالتشديد: للتكثير. قال أبو الحسن: الخفيفة أجود لا يكادون يقولون ملأ مني رعبا، وإنما يقولون: ملأتني رعبا. قال أبو علي: يدل على قول أبي الحسن، قول امرئ القيس: (فتملأ بيتنا أقطا وسمنا) (2). وقول الأعشى: (وقد ملئت بكر، ومن لف لفها) وأنشدوا في التثقيل، قول المخبل السعدي: (فملأ من كعب بن عوف سلاسله). ومن قرأ * (وتقلبهم) * فإنه نصبه بفعل مضمر دل عليه ما قبله، فكأنه قال: وترى، أو تشاهد تقلبهم. اللغة: القرض: القطع، يقال قرضت الموضع: إذا قطعته وجاوزته. قال الكسائي: هو المجازاة، يقال: قرضني فلان، يقرضني، وجذاني يجذوني بمعنى، قال ذو الرمة: إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس (3) ويستعمل القرض في أشياء غير هذا منه: القطع للثوب، وغيره. ومنه: المقراض. ومنه: قرض الفأر. قال: أبو الدرداء: (إن قارضتهم قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك)، يعني: إن طعنت فيهم وعبتهم، فعلوا بك مثله، وإن تركتهم من ذلك، لم يتركوك، والقراض بلغة الحجاز المضاربة. والقرض: هو قول الشعر، القصيدة منه خاصة، دون الرجز. ومنه قيل للشعر: القريض. قال الأغلب العجلي: (أرجزا تريد أم قريضا). والفجوة: المتسع من الأرض، وجمعه فجوات، وفجاء ممدود. وفجوة الدار: ساحتها. والأيقاظ: جمع يقظ ويقظان: قال الراجز: (ووجدوا إخوتهم أيقاظا). والرقود: جمع راقد: ورقد يرقد رقادا ورقودا، والوصيد: من أوصدت الباب أي: أغلقته، وجمعه وصائد. ويقال: وصيد وأصيد، وأوصدت (1) الدعس: الأثر. والمهيل: التل من الرمل. والطلح: موضع. (2) بعده: (وحسبك من غنى شبع وري). (3) الظعن: جمع الظعينة: الهودج. والأجواز جمع الجوز: وسط الشئ. ومشرف و الفوارس: موضعان يقول نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين. (*)
[ 320 ]
وأصدت، مثل ورخت الكتاب، وأرخته، ووكدت الأمر وأكدته. الاعراب: * (وترى الشمس) * إلى قوله: * (وهم في فجوة منه) * متعلق بالرؤية، وقوله * (إذا طلعت) * * (وإذا غربت) * كلاهما بجوابهما في موضع المفعول الثاني، والحال والجملة التي هي * (وهم في فجوة منه) * في موضع الحال. * (وكلبهم باسط ذراعيه) * أعمل اسم الفاعل حيث نصب به ذراعيه، وإن كان بمعنى الماضي، لأنه حكاية حال، كما قال: هذا من شيعته، وهذا من عدوه. وهذا يشار به إلى الحاضر، ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه على تلك الحال قص القصة. * (فهو المهتدي) * كتب في المصحف هنا بغير ياء، وفي الأعراف بالياء، وحذف الياء جائز في الأسماء خاصة، ولا يجوز في الأفعال، لأن حذف الياء في الفعل، دليل الجزم، وحذف الياء في الأسماء واقع إذا لم يكن الألف واللام، نحو مهتد، فأدخلت الألف واللام، وترك الحرف على ما كان عليه. ودلت الكسرة على الياء المحذوفة. قال الزجاج: لو اطلعت بكسر الواو، ويجوز الضم والكسر أجود، لأن الواو ساكنة، والطاء ساكنة، والأصل في التقاء الساكنين الكسر. وجاز الضم لأن الضم من جنس الواو، ولكنه إذا كان بعد الساكن مضموم، فالضم هناك أحسن، نحو أو انقص قرئ بالضم والكسر. * (فرارا) * منصوب على المصدر، لأن معنى وليت فررت. و * (رعبا) *: منصوب على التمييز يقال امتلأت فرقا، وامتلأ الإناء ماء. المعنى: ثم بين سبحانه حالهم في الكهف، فقال: * (وترى الشمس) * أي: لو رأيتهما لرأيت * (إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين) * أي: تميل وقت طلوعها عن كهفهم إلى جهة اليمين * (وإذا غربت تقرضهم) * أي: تعدل عنهم، وتتركهم * (ذات الشمال) * إلى جهة الشمال، شمال الكهف أي: لا تدخل كهفهم. وقيل: تقرضهم أي: تجاوزهم منحرفة عنهم، عن ابن عباس. * (وهم في فجوة منه) * أي: في متسع من الكهف. وقيل: في فضاء منه، عن قتادة. وقيل: كان متسعا داخل الكهف بحيث لا يراه من كان ببابه، وينالهم نسيم الريح. ثم أخبر سبحانه عن لطفه بهم، وحفظه إياهم في مضجعهم، واختياره لهم أصلح المواضع لرقادهم، فبوأهم مكانا من الكهف، مستقبلا بنات النعش، تميل الشمس عنهم طالعة وغاربة، كيلا يؤذيهم حرها، أو تغير ألوانهم، أو تبلي ثيابهم،
[ 321 ]
وهم في متسع ينالهم فيه روح الريح، وكان باب الغار مقابل القطب الشمالي * (ذلك من آيات الله) * أي: من أدلته وبرهانه * (من يهد الله فهو المهتدي) * مثل أصحاب الكهف * (ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) * مثل قوم أصحاب الكهف * (وتحسبهم أيقاظا) * أي: لو رأيتهم لحسبتهم منتبهين * (وهم رقود) * أي: نائمون في الحقيقة. قال الجبائي وجماعة: لأنهم مفتحو العيون، يتنفسون كأنهم يريدون أن يتكلموا، ولا يتكلمون. وقيل: إنهم ينقلبون كما ينقلب اليقظان * (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) * معناه: ونقلبهم تارة عن اليمين إلى الشمال، وتارة عن الشمال إلى اليمين، كما يتقلب النائم، لأنهم لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض، ولبليت ثيابهم لطول مكثهم على جانب واحد. وقيل: كانوا يقلبون كل عام تقلبتين، عن أبي هريرة: وقيل: كان تقلبهم كل عام مرة، عن ابن عباس. وقوله: * (وكلبهم) * قال ابن عباس وأكثر المفسرين: إنهم هربوا من ملكهم ليلا، فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم، وتبعه كلبه. وقيل: إنهم مروا بكلب فتبعهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني لا تخشوا خيانة، فأنا أحب أولياء الله فناموا حتى أحرسكم ! عن كعب. وقيل: كان ذلك كلب صيدهم. وقيل: كان ذلك الكلب أصفر اللون، عن مقاتل. وقيل: كان أنمر واسمه قطمير، عن ابن عباس. وفي تفسير الحسن: إن ذلك الكلب مكث هناك ثلاث مائة وتسع سنين بغير طعام، ولا شراب، ولا نوم، ولا قيام. * (باسط ذراعيه) * هو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع * (بالوصيد) * أي: بفنا الكهف، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقيل: بالباب. وقيل: بباب الفجوة، أو فناء الفجوة، لا باب الكهف، لأن الكفار خرجوا إلى باب الكهف في طلبهم، ثم انصرفوا ولو رأوا الكلب على باب الغار لدخلوه، وكذلك لو كان بالقرب من الباب، ولما انصرفوا آيسين عنهم، فإنهم سدوا باب الغار بالحجارة. فجاء رجل بماشيته إلى باب الغار، وأخرج الحجارة، واتخذ لماشيته كنا عند باب الغار، وهم كانوا في فجوة من الغار، عن الجبائي. وقيل الوصيد عتبة الباب، عن عطا. * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * معناه: لو أشرفت عليهم، ورأيتهم في كهفهم على حالتهم، لفررت عنهم، وأعرضت عنهم، هربا لاستيحاشك الموضع * (ولملئت منهم رعبا) * أي: ولملئ قلبك خوفا وفزعا. وذلك أن الله منعهم بالرعب
[ 322 ]
لئلا يصل إليهم أحد، حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم. وقيل: كانوا في مكان موحش، من رآه فزع، ولا يمتنع أن الكفار لما أتوا باب الكهف فزعوا من وحشة المكان، فسدوا باب الكهف، ليهلكوا فيه. وجعل سبحانه ذلك لطفا، لئلا ينالهم مكروه، من سبع وغيره، وليكونوا محروسين من كل سوء. وقيل: إنهم كانت أظفارهم قد طالت، وكذلك شعورهم، ولذلك يأخذ الرعب منهم. وهذا لا يصح لقوله تعالى حكاية عنهم * (لبثنا يوما أو بعض يوم) *. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: غزوت مع معاوية نحو الروم، فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ! فقلت له: ليس هذا لك، فقد منع ذلك من هو خير منك، قال الله تعالى: * (لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) * فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث رجالا فلما دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحا أخرجتهم. * (وكذلك بعثناهم ليتسآء لوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19) إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)) *. القراءة: قرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، وخلف: * (بورقكم) * ساكنة الراء. والباقون بكسر الراء. وروي عن أبي عمرو بإدغام الكاف في القاف. وفي الشواذ قراءة أبي رجاء: * (بورقكم) * بكسر الواو، والإدغام. الحجة: في ورقكم أربع لغات: فتح الواو، وكسر الراء، وهو الأصل. وفتح الواو، وسكون الراء. وكسر الواو، وسكون الراء. والإدغام. قال ابن جني: هذا عند أصحابنا مخفي غير مدغم، لكنه أخفى كسرة القاف، فظنها القراء مدغمة، ومعاذ الله ! لو كانت مدغمة لوجب نقل كسرة القاف إلى الراء، كقولهم برد وبرق.
[ 323 ]
وللقراء في هذا عادة أن يعبروا عن المخفي بالمدغم للطف ذالك عليهم. الاعراب: * (كم لبثتم) * تقديره كم يوما لبثتم، فكم: منصوبة بلبثتم. والمميز محذوف ألا ترد أن جوابه * (لبثنا يوما أو بعض يوم) *. * (فلينظر أيها أزكى طعاما) *: الجملة التي هي * (أيها أزكى) * مفعول * (فلينظر) *، و * (طعاما) *: تمييز. المعنى: * (وكذلك بعثناهم) * معناه: وكما فعلنا بهم الأمور العجيبة، وحفظناهم تلك المدة المديدة، بعثناهم من تلك الرقدة، وأحييناهم من تلك النومة التي أشبهت الموت * (ليتساءلوا بينهم) * أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فينتبهوا بذلك على معرفة صانعهم، ويزدادوا يقينا إلى يقينهم * (قال قائل منهم كم لبثتم) * في نومكم * (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) * قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا يوما. فلما رأوا الشمس قالوا: أو بعض يوم، وكان قد بقيت من النهار بقية * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) * وهذا القائل هو تمليخا رئيسهم، عن ابن عباس رد علم ذلك إلى الله تعالى * (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه) * والورق: الدراهم، وكان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم، عن ابن عباس * (إلى المدينة) * يعني المدينة التي خرجوا منها * (فلينظر أيها أزكى طعاما) * أي: أطهر وأحل ذبيحه، عن ابن عباس قال: لأن عامتهم كانت مجوسا، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. وقيل: أطيب طعاما، عن الكلبي. وقيل: أكثر طعاما من قولهم زكى المال إذا زاد، عن عكرمة. وذلك لأن خير الطعام إنما يوجد عند من كثر طعامه. وقيل: كان من طعام أهل المدينة ما لا يستحله أصحاب الكهف * (فليأتكم برزق منه) * أي: فليأتكم بما ترزقون أكله * (وليتلطف) * أي: وليدقق النظر، ويتحيل حتى لا يطلع عليه. وقيل: وليتلطف في الشراء، فلا يماكس البائع، ولا ينازعه. * (ولا يشعرن بكم أحدا) * أي: لا يخبرن بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة * (إنهم إن يظهروا عليكم) * أي: يشرفوا ويطلعوا عليكم، ويعلموا بمكانكم. * (يرجموكم) * أي: يقتلوكم بالرجم، وهو من أخبث القتل، عن الحسن. وقيل: معناه يؤذوكم ويشتموكم، يقال رجمه بلسانه، عن ابن جريج * (أو يعيدوكم في ملتهم) * أي: يردوكم إلى دينهم. * (ولن تفلحوا إذا أبدا) * معناه: ومتى فعلتم ذلك لن تفوزوا أبدا بشئ من الخير. ومتى قيل: من أكره على الكفر فأظهره فإنه مفلح،
[ 324 ]
فكيف تصح الآية ؟ فالجواب: يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالإستدعاء دون الإكراه. ويجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية في إظهار الكفر. * (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21) سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22) ولا تقولن لشائ إنى فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا (24)) *. اللغة: عثر على الشئ يعثر عثرا: إذا طلع عليه. وأعثرت عليه غيري. والعاثور: حفرة تحفر ليصطاد به الأسد، يقول للرجل إذا تورط: وقع في عاثور، وأصله من العثار. والمراء: الجدال، ما ريت الرجل أماريه مراء. الاعراب: * (إذ يتنازعون) *: يجوز أن يكون منصوبا بقوله * (أعثرنا) * أي: أطلعنا عليهم في وقت المنازعة في أمرهم. ويجوز أن يكون منصوبا بقوله * (ليعلموا) * وإنما دخلت الواو في قوله * (وثامنهم) * ولم يدخل في الأولين، لأن هاهنا عطف جملة على جملة، وهناك وصف النكرة بجملة، فإن التقدير هم سبعة، وهم ثلاثة: فثلاثة مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف. * (ورابعهم كلبهم) *: وصف لثلاثة، وكذلك * (سادسهم كلبهم) *: صفة لخمسة، وهذا قول علي بن عيسى قال: وفرق ما بينهما أن السبعة أصل للمبالغة في العدد، لأن جلائل الأمور سبعة سبعة وأقول: قد وجدت لأبي علي الفارسي في هذا كلاما طويلا، سألخصه لك، وأهذبه أفضل تهذيب. قال: إن الجملتين الملتبسة إحداهما بالأخرى، وهي أن تكون غير أجنبية منها على ضربين أحدهما: أن تعطف بحرف العطف، والآخر: أن توصل بها بغير حرف
[ 325 ]
العطف، فما يوصل بها بما قبلها بغير حرف العطف من الجملة على أربعة أضرب أحدها: أن تكون صفة والآخر: أن تكون حالا والثالث: أن تكون تفسيرا والرابع أن لا تكون على أحد هذه الأوجه الثلاثة لكن يكون في الجملة الثانية ذكر مما في الأولى، أو ممن فيها. فالأول: نحو مررت برجل أبوه قائم، وبغلام يقوم. ولا وجه لإدخال حرف العطف على هذا، لأن الصفة تبين الموصوف وتخصصه. فلو عطفت لخرجت بالعطف من أن تكون صفة، لأن العطف ليس الثاني، وهو المعطوف فيه بالأول، وإنما يشرك الثاني في إعراب الأول، والصفة هو الموصوف في المعنى (وأما) الثاني: وهو أن تكون حالا، فلا مدخل لحرف العطف عليه أيضا، لأن الحال مثل الصفة في أنها تفرق بين هيأتين أو هيآت، كما أن الصفة تفرق بين موصوفين أو موصوفات، وهي مثل المفعول في أنها تكون بعد كلام تام. فكما لا يدخل الحرف العاطف بين الصفة والموصوف، ولا بين المفعول وما عمل فيه، كذلك لا يدخل بين الحال وذي الحال. والجمل الواقعة موقع الحال: إما أن تكون من فعل وفاعل، أو من مبتدأ وخبر، نحو: رأيت زيدا يضحك، وجاء زيد أبوه منطلق، قال الشاعر: ولولا جنان الليل ما آب عامر إلى جعفر سرباله لم يمزق (1) (وأما) الثالث: وهي الجملة التي تكون تفسيرا لما قبلها، فنحو قوله * (وعد الله الذين آمنوا) *، ثم قال * (لهم مغفرة وأجر عظيم) *. فالمغفرة تفسير الوعد الذي وعدوا. فأما قوله تعالى: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم) *. ثم قال * (تؤمنون بالله) *. فتؤمنون على لفظ الخبر، ومعناه الأمر بدلالة قوله * (يغفر لكم) *. وحسن أن يكون الأمر على لفظ الخبر لوقوعه كالتفسير لما قبله من ذكر التجارة. وحكم التفسير أن يكون خبرا، فلذلك حسن كون الأمر على لفظ الخبر هنا. (وأما) الرابع: الذي لا يكون اتصاله على الوجوه الثلاثة، ويكون في الجملة الثانية ذكر مما في الأولى، فإن هذا الوجه يتصل بما قبله على وجهين أحدهما: بحرف عطف كما يتبع الأجنبية إياها بحرف عطف، وذلك نحو زيد أبوك، وأخوه عمرو، فهذه قد نزلت منزلة (1) قائله سلامة بن جندل وجنان الليل أي: ما ستر من ظلمته. وآب: رجع والشاهد في (سرباله لم يمزق) فإن هذه جملة اسمية من مبتدأ وخبر، وقد وقعت حالا من (عامر) الذي هو فاعل (آب). وقد ربط الشاعر جملة الحال الإسمية بالضمير. (*)
[ 326 ]
الأجنبية من الأولى في العطف بالواو، نحو قام زيد، وخرج عمرو، وزيد قائم، وبكر خارج. والآخر: أن يتبع الثانية الأولى بغير حرف عطف، كقوله سبحانه * (انهم كانوا قبل ذلك محسنين) * * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) *. ويقول في آية أخرى * (وكانوا يصرون) * بالواو. وقوله * (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) *. والدليل على أن هذا نوع آخر خارج عن الأنواع الثلاثة، أن قوله * (وثامنهم كلبهم) * بعد الجملة المحذوف مبتدأها، لا يخلو من أن يكون حالا، أو صفة، أو تفسيرا، أو جملة منقطعة من الأول. ولا يجوز أن يكون في موضع الحال، لأن ما قبلها من الكلام لا معنى فعل فيه عاملا في الحال. والحال لا بدلها من عامل فيها. ولا يمكن أن يجعل المبتدأ المضمر هذا وما أشبهه من أسماء الإشارة، فينتصب الحال عنها، لأن المخبر عنهم هاهنا ليسوا بمشار إليهم في وقت الإخبار، وإنما المراد الإخبار عن عددهم. ولو كانوا بحيث يشار إليهم، لم يقع الإختلاف في عددهم. ولا يجوز أن يكون تفسيرا، لأن التفسير هو المفسر في المعنى. ولا يجوز أن يكون شئ من جزء الجملة التي هي * (رابعهم كلبهم) * شيئا من جزء التي هي هم ثلاثة، ولا يجوز أيضا أن يكون صفة للنكرة التي قبلها، لأنه لا يخلو في الوصف من أحد أمرين: إما أن يعمل اسم فاعل، كما يعمل سائر أسماء الفاعلين الجارية على أفعالها، فيرتفع ما بعده به. وإما أن يجعل جملة في موضع وصف، ولا يعمل اسم الفاعل عمل الفعل، فيكون مبتدأ وخبرا، ولا يجوز الأول، لأنه في معنى الماضي، والماضي لا يقدر فيه الإنفصال، وإنما يقدر في الحاضر والآتي، لأنه كما أعرب من الأفعال المضارعة ما كان حاضرا وآتيا، كذلك لم يعمل الماضي من أسماء الفاعلين. ولولا المضي لم يمتنع إعمال قوله رابعهم وسادسهم، ولا تكون أيضا الجملة صفة لثلاثة، كما توصف النكرات بالجمل، لأن هذه جملة مستأنفة، وليست على حد الصفة، بل على حد ما بعدها من قوله * (وثامنهم كلبهم) *، فحذفت الواو، واستغني عنها. إذا كانت إنما تذكر لتدل على الإتصال. وما في الجملة من ذكر ما في الأولى، كأنه يستغنى به عن ذكر الواو، لأن الحرف يدل على إيصاله، وما في الجملة من ذكر ما تقدمها اتصال أيضا، فيستغنى به، ويكتفى بذلك منه. وهذا فصل جامع في النحو جليل الموقع، كثير الفائدة، إذا تأمله المتأمل حق التأمل، وأحكمه، أشرف به على كثير من المسائل إن شاء الله. وأما من قال: إن هذه الواو
[ 327 ]
واو الثمانية، واستدل بقوله: * (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) * لأن للجنة ثمانية أبواب، فشئ لا يعرفه النحويون. المعنى: * (وكذلك أعثرنا عليهم) * أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأعثرنا عليهم أهل المدينة. و جملة أمرهم وحالهم على ما قاله المفسرون: إنهم لما هربوا من ملكهم، ودخلوا الكهف، أمر الملك أن يسد عليهم باب الكهف، ويدعوهم كما هم في الكهف، فيموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ. ثم إن رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية، وأنسابهم، وأسماءهم، وخبرهم، في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلا التابوت في البنيان الذي بنوا على باب الكهف، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين، قبل يوم القيامة، ليعلموا خبرهم حين يقرأون هذا الكتاب. ثم انقرض أهل ذلك الزمان، وخلفت بعدهم قرون وملوك كثيرة، و ملك أهل تلك البلاد رجل صالح، يقال له ندليس، وقيل: بندوسيس، عن محمد بن إسحاق، وتحزب الناس في ملكه أحزابا، منهم من يؤمن بالله، ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب. فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله، وتضرع وقال: أي رب ! قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم بها أن البعث حق، وأن الساعة حق، آتية لا ريب فيها، فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، ففعل ذلك. وبعث الله الفتية من نومهم فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما، فاطلع الناس على أمرهم، وبعثوا إلى الملك الصالح يعلمونه الخبر، ليعجل القدوم عليهم، وينظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكه. فلما بلغه الخبر حمد الله، وركب معه مدينته حتى أتوا أهل الكهف، فذلك قوله * (وكذلك أعثرنا عليهم) *. * (ليعلموا أن وعد الله) * بالبعث، والثواب، والعقاب * (حق وأن الساعة لا ريب فيها) * أي: إن القيامة لا شك فيها، فإن من قدر على أن ينيم جماعة تلك المدة المديدة أحياء، ثم يوقظهم، قدر أيضا على أن يميتهم، ثم يحييهم، بعد ذلك * (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) * أي: فعلنا ذلك حين تنازعوا في البعث، فمنهم من أنكره، ومنهم من قال يبعث الأرواح دون الأجسام، ومنهم من أثبت البعث فيهما، وأضاف الأمر إليهم
[ 328 ]
لتنازعهم فيه، كما يقال ما صنعتم في أمركم، عن عكرمة. وقيل: إن معناه إذ يتنازعون في قدر مكثهم في الكهف، وفي عددهم، وفيما يفعل بهم بعد أن اطلعوا عليهم، وذلك أنه لما دخل الملك عليهم مع الناس، وجعلوا يسألونهم، سقطوا ميتين، فقال الملك: إن هذا الأمر عجيب، فما ترون ؟ فاختلفوا، فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا كما تبنى المقابر. وقال بعضهم: اتخذوا مسجدا على باب الكهف. وهذا التنازع كان منهم بعد العلم بموتهم، عن ابن عباس. * (فقالوا) * أي: قال مشركو ذلك الوقت * (ابنوا عليهم بنيانا) * أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان، كما يقال: بنى عليه جدارا: إذا حوطه، وجعله وراء الجدار * (ربهم أعلم بهم) * معناه: ربهم أعلم بحالهم فيما تنازعوا فيه. وقيل: إنه قال ذلك بعضهم، ومعناه ربهم أي: خالقهم الذي أنامهم وبعثهم، أعلم بحالهم، وكيفية أمرهم. وقيل: معناه ربهم أعلم بهم أأحياء نيام هم، أم أموات. فقد قيل: إنهم ماتوا. وقيل: إنهم لا يموتون إلى يوم القيامة * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * يعني الملك المؤمن وأصحابه. وقيل: أولياء أصحاب الكهف من المؤمنين. وقيل: رؤساء البلد الذين استولوا على أمرهم، عن الجبائي * (لنتخذن عليهم مسجدا) * أي: معبدا وموضعا للعبادة والسجود، يتعبد الناس فيه ببركاتهم. ودل ذلك على أن الغلبة كانت للمؤمنين. وقيل: مسجدا يصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا، عن الحسن. وقد روي أيضا أن أصحاب الكهف، لما دخل صاحبهم إليهم، وأخبرهم بما كانوا عنه غافلين من مدة مقامهم، سألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى حالتهم الأولى، فأعادهم إليها، وحال بين من قصدهم وبين الوصول إليهم، بأن أضلهم عن الطريق إلى الكهف الذي كانوا فيه، فلم يهتدوا إليه. ثم بين سبحانه تنازعهم في عددهم، فقال: * (سيقولون) * أي: سيقول قوم من المختلفين في عددهم * (ثلاثة) * أي: هم ثلاثة * (رابعهم كلبهم ويقولون) * أي: ويقول آخرون هم * (خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب) * أي: قذفا بالظن من غير يقين، عن قتادة * (ويقولون) * أي: ويقول آخرهم هم * (سبعة وثامنهم كلبهم) * وقيل: إن هذا إخبار من الله تعالى بأنه سيقع نزاع في عددهم، ثم وقع ذلك، لما وفد نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية منهم: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم.
[ 329 ]
وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم * (قل) * يا محمد * (ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) * من الناس، عن قتادة. وقيل: قليل من أهل الكتاب، عن عطا. وقال ابن عباس: انا من ذلك القليل هم سبعة وثامنهم كلبهم، والأظهر أن يكون عرف ذلك من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه قال: هم مكسلمينا، وتمليخا، ومرطولس، ونينونس، وسارينونس، ودربونس، وكشوطبونس وهو الراعي. * (فلا تمار فيهم) * أي: فلا تجادل الخائضين في عددهم، وشأنهم * (إلا مراء ظاهرا) * فيه وجوه أحدها: إن معناه إلا تجادلهم إلا بما أظهرنا لك من أمرهم، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد. أي: لا تجادل إلا بحجة، ودلالة، وإخبار من الله سبحانه، وهو المراء الظاهر. وثانيها: إن المراد لا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا، وهو أن تقول لهم أثبتم عددا، وخالفكم غيركم، وكلا القولين يحتمل الصدق والكذب، فهلموا بحجة تشهد لعم وثالثها: إن المراد إلا مراء يشهده الناس ويحضرونه. فلو أخبرتهم في غير ملأ من الناس، لكذبوا عليك، ولبسوا على الضعفة، فادعوا أنهم كانوا يعرفونه، لأن ذلك من غوامض علومهم * (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) * معناه: ولا تستخبر في أهل الكهف، وفي مقدار عددهم من أهل الكتاب أحدا، ولا تستفتهم من جهتهم، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره، لئلا يرجعوا في ذلك إلى مسألة اليهود، فإنه كان واثقا بخبرالله تعالى. * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * قد ذكر في معناه وجوه أحدها: إنه نهي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: إني أفعل شيئا في الغد، إلا أن يقيد ذلك بمشيئة الله تعالى، فيقول: إن شاء الله، لأ: لأ إضمار القول، وتقديره إلا أن تقول إن شاء الله. ولما حذف تقول: نقل إن شاء الله، إلى لفظ الإستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد، و تعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع، فلا يلزمهم كذب، أو حنث، إذا لم يفعلوا ذلك، لمانع. وهذا معنى قول ابن عباس. وثانيها: إن قوله * (أن يشاء الله) * بمعنى المصدر، وتعلق بما تعلق به على ظاهره، وتقديره: ولا تقولن إني فاعل شيئا غدا إلا مشية الله، عن الفراء. وهذا وجه حسن يطابق الظاهر، ولا يحتاج فيه إلى بناء الكلام على محذوف، ومعناه: ولا تقل
[ 330 ]
إني أفعل إلا ما يشاء الله ويريده. وإذا كان الله تعالى لا يشاء إلا الطاعات، فكأنه قال: لا تقل إني أفعل إلا الطاعات، ولا يطعن على هذا جواز الإخبار عما يفعل من المباحات التي لا يشاءها الله تعالى، لأن هذا النهي نهي تنزيه، لا نهي تحريم، بدلالة أنه لو لم يقل ذلك، لم يأثم بلا خلاف. وثالثها: إنه نهى عن أن يقول الإنسان سأفعل غدا، وهو يجوز الإحترام قبل أن يفعل ما أخبر به، فلا يوجد مخبره على ما أخبر به، فهو كذب، ولا يأمن أيضا أن لا يوجد مخبره بحدوث شئ من فعل الله تعالى، نحو المرض والعجز، وبأن يبدو له هو في ذلك، فلا يسلم خبره من الكذب إلا بالإستثناء الذي ذكره الله تعالى. فإذا قال: إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله، أمن من أن يكون خبره هذا كذبا، لأن الله تعالى إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد عدا، حصل المصير إليه منه لا محالة، فلا يكون خبره هذا كذبا. وإن لم يوجد المصير منه إلى المسجد، لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى، عن الجبائي. وقد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، فقال: أخبركم عنه غدا، ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أياما، حتى شق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية بأمره بالإستثناء بمشيئة الله تعالى وقوله * (واذكر ربك إذا نسيت) * فيه وجهان: أحدهما: إنه كلام متصل بما قبله. ثم اختلف في ذلك فقيل: معناه واذكر ربك إذا نسيت الإستثناء، ثم تذكرت، فقل: إن شاء الله. وإن كان بعد يوم، أو شهر، أو سنة، عن ابن عباس، وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام. ويمكن أن يكون الوجه فيه أنه إذا استثنى بعد النسيان، فإنه يحصل له ثواب المستثنى من غير أن يؤثر الإستثناء بعد انفصال الكلام في الكلام، وفي إبطال الحنث، وسقوط الكفارة في اليمين، وهو الأشبه بمراد ابن عباس في قوله. وقيل: فاذكر الإستثناء ما لم تقم من المجلس، عن الحسن، ومجاهد. وقيل: فاذكر الإستثناء إذا تذكرت ما لم ينقطع الكلام، وهو الأوجه. وقيل: معناه واذكر ربك إذا نسيت الإستثناء بأن تندم على ما قطعت عليه من الخبر، عن الأصم. والآخر: إنه كلام مستأنف غير متعلق بما قبله. ثم اختلف في معناه فقيل: معناه واذكر ربك إذا غضبت بالإستغفار، ليزول عنك الغضب، عن عكرمة. وقيل: إنه أمر بالإنقطاع إلى الله تعالى، ومعناه واذكر ربك إذا نسيت شيئا بك إليه حاجة بذكره لك، عن الجبائي. وقيل: المراد به الصلاة، والمعنى: إذا نسيت صلاة
[ 331 ]
فصلها إذا ذكرتها، عن الضحاك، والسدي. قال السيد الأجل المرتضى، قدس الله روحه: إعلم أن للإستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة، فقد يدخل في الإيمان، والطلاق، والعتاق، وسائر العقود، وما يجري مجراها من الأخبار، فإذا دخل في ذلك اقتضى التوقف عن إمضاء الكلام، والمنع من لزوم ما يلزم به، ولذلك يصير ما يتكلم به، كأنه لا حكم له. ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني الإنسان في الماضي، فيقول: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى، ليخرج بهذا الإستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا، أو يلزم به حكم، وإنما لم يصح دخوله في المعاصي، على هذا الوجه، لأن فيه إظهار الإنقطاع إلى الله تعالى، والمعاصي لا يصح ذلك فيها. وهذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية. وقد يدخل الإستثناء في الكلام، ويراد به اللطف، والتسهيل، وهذا الوجه يختص بالطاعات، ولهذا جرى قول القائل: لأقضين غدا ما علي من الدين، أو لأصلين غدا إن شاء الله، مجرى أن يقول: إني فاعل إن لطف الله تعالى فيه وسهله. ومتى قصد الحاف هذا الوجه، لم يجب إذا لم يقع منه الفعل، أن يكون حانثا، أو كاذبا، لأنه إذا لم يقع، علمنا أنه لم يلطف فيه، لأنه لا لطف له. وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية، لأنه يختص الطاعات، والآية تتناول كل ما لم يكن قبيحا، بدلالة إجماع المسلمين على حسن استثناء ما تضمنه في كل فعل لم يكن قبيحا. وقد يدخل الإستثناء في الكلام، ويراد به التسهيل، والإقدار، والتخلية، والبقاء على ما هو عليه، من الأحوال. وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات، وهذا الوجه يمكن في الآية، وقد يدخل. في الكلام استثناء المشيئة في الكلام، وإن لم يرد به شئ من المتقدم ذكره، بل يكون الغرض الإنقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد به إلى شئ من هذه الوجوه. ويكون هذا الإستثناء غير معتد به في كونه كاذبا أو صادقا، لأنه في الحكم كأنه قال: لأفعلن كذا إن وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى، وإظهاري الحاجة إليه. وهذا الوجه أيضا يمكن في الآية، ومتى تؤمل جملة ما ذكرناه من الكلام، عرف به الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها من يذهب إلى خلاف العدل من قولهم لو كان الله تعالى إنما يريد الطاعات من الأفعال، دون المعاصي، لوجب إذا قال عليه الدين لغيره، وطالبه به: والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا، أو حانثا، إذا لم يفعل، لأن الله تعالى قد شاء ذلك
[ 332 ]
منه عندكم، وإن كان لم يقع، ولكان يجب أن تلزمه به الكفارة، وأن لا يؤثر هذا الإستثناء في يمينه، ولا يخرجه من كونه حانثا، كما أنه لو قال: والله لأعطينك حقك غدا إن قام زيد، فقام ولم يعطه يكون حانثا. وفي التزلل الحنث خروج من الإجماع. انتهى كلامه، رضي الله عنه. وقوله: * (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) * معناه: قل عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة، ما يكون أقرب من الرشد، وأدل من قصة اصحاب الكهف، عن الزجاج. ثم إن الله سبحانه فعل به ذلك، حيث آتاه من علم غيوب أخبار المرسلين وآثارهم، ما هو واضح في الدلالة، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل: إن معناه أدع الله أن يذكرك إذا نسيت شيئا، وقل: إن لم يذكرني الله ذلك الذي نسيت، فإنه يذكرني ما هو أنفع لي منه، عن الجبائي. * (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) قل الله أعلم بما لبثوا له، غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولى ولا يشرك في حكمه أحدا (26) واتل مآ أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا (27)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: * (ثلاثمائة سنين) * مضافا. والباقون بالتنوين. وقرأ: * (ولا تشرك) * بالتاء مجزوما ابن عامر، وروح، وزيد، عن يعقوب، وسهل. والباقون * (ولا يشرك) * بالرفع، والياء. الحجة: قال أبو الحسن: يكون السنين لثلاثمائة. قال: ولا تحسن إضافة المائة إلى السنين، لأنه لا تكاد العرب تقول مائة سنين. قال: وهو جائز في ذا المعنى، وقد يقوله بعض العرب. قال أبو علي: ومما يدل على صحة قول من قال * (ثلاثمائة سنين) *: إن هذا الضرب من العدد الذي يضاف في اللغة المشهورة إلى الآحاد، نحو ثلاثمائة رجل، وأربعمائة ثوب، قد جاء مضافا إلى الجمع في قول الشاعر:
[ 333 ]
فما زودوني غير سحق عمامة، وخمس مئ منها قسي وزايف (1) وذلك أن قوله مئ لا يخلو من أن يكون في الأصل كأنه فعلة، فجمع على فعل، مثل سدرة وسدر، أو يكون فعلة فجمع على فعول، مثل بدرة وبدور، ومانة (2) ومؤن. قال: (عظيمات الكلاكل والمؤون). والأولى حمله على فعول، وأنه خفف كما يخفف في القوافي، كقوله: (كنهور كان من أعقاب السمى) (3). ثم كسر فاؤه، كما يكسر في نحو حلى. وقال غيره: إن العرب قد تضع الجمع هنا موضع الواحد، لأن الأصل ان تكون الإضافة إلى الجمع، قال الشاعر: ثلاثمائين قد مضين كواملا، وها أنا ذا قد أبتغي مر رابع فجاء به على الأصل. ومن نون * (ثلاثمائة) *: ففي نصب * (سنين) * قولان أحدهما: أن يكون * (سنين) * بدلا من * (ثلاثمائة) *، أو عطف بيان والآخر: أن يكون تمييزا كما تقول عندي عشرة أرطال زيتا، قال الربيع بن ضبيع الفزاري: إذا عاش، الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة و الفتاء قال الزجاج: ويجوز أن يكون * (سنين) * من نعت المائة، فيكون مجرورا، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث، كما قال عنترة: فيها اثنتان و أربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم فجعل سودا نعتا لحلوبة، وهو في المعنى نعت لجملة العدد. قال أبو علي: لا يمتنع أن يكون الشاعر جعل * (حلوبة) * جمعا، وجعل سودا وصفا لها، وإذا كان المراد به الجمع، فلا يمتنع أن يكون الشاعر جعل حلوبة جمعا، وجعل سودا وصفا لها، وإذا كان المراد به الجمع، فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد، من حيث كان على لفظ الآحاد، كما يقال عشرون نفرا، وثلاثون قبيلا. ومن قرأ * (ولا تشرك) * بالتاء فإنه على النهي عن الإشراك. والقراءة الأخرى أشيع وأولى لتقدم (1) السحق: الثوب الخلق البالي. ودرهم قسي زائف: ردئ. (2) المانة: الخاصرة. (3) الكنهور من السحاب: المتراكب الثخين. والسمى على فعول جمع سماء: المطر. وذكر في هامش (اللسان) أن هذا الشطر لا وزن له معروف. (*)
[ 334 ]
أسماء الغيبة، وهو قوله * (ما لهم من دونه من ولي) *، والمعنى: ولا يشرك الله في حكمه أحدا. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن مقدار مدة لبثهم، فقال: * (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين) * معناه: وأقام أصحاب الكهف من يوم دخلوا الكهف إلى أن بعثهم الله، وأطلع عليهم الخلق ثلاثمائة سنة * (وازدادوا تسعا) * أي: تسع سنين، إلا أنه استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر تفسير التسع، كما يقال: عندي مائة درهم وخمسة * (قل الله أعلم بما لبثوا) * معناه: إن حاجك يا محمد أهل الكتاب في ذلك، فقل: الله أعلم بما لبثوا. وذلك أن أهل نجران قالوا: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها. وقيل: إن معناه الله أعلم بما لبثوا إلى أن ماتوا. وحكي عن قتادة أنه قال قوله: * (ولبثوا في كهفهم) * الآية. حكاية عن قول اليهود، وقوى ذلك بقوله * (قل الله أعلم بما لبثوا) * فذكر أنه سبحانه العالم بمقدار لبثهم دون غيره. وقد ضعف هذا الوجه بأن أخبار الله لا ينبغي صرفها إلى الحكاية، إلا بدليل قاطع، ولو كان الامر على ما قاله، لم تكن مدة لبثهم مذكورة. ومن المعلوم أن الله سبحانه أراد بالاية الاستدلال على عجيب قدرته، وباهر آيته، وذلك لا يتم إلا بعد معرفة مدة لبثهم. فالمراد بقوله * (قل الله أعلم بما لبثوا) * بعد بيان مدة لبثهم، إبطال قول أهل الكتاب واختلافهم في مدة لبثهم، فتقديره قل يا محمد: الله أعلم بمدة لبثهم. وقد أخبر بها فخذوا بما أخبر الله تعالى، ودعوا قول أهل الكتاب فهو أعلم بذلك منهم * (له غيب السماوات والارض) * والغيب: أن يكون الشئ بحيث لا يقع عليه الادراك، أي: لا يغيب عن الله سبحانه شئ، لانه لا يكون بحيث لا يدركه، فيعلم ما غاب في السماوات والارض، عن إدراك العباد * (أبصر به وأسمع) * هذا لفظ التعجب، ومعناه: ما أبصره وأسمعه أي: ما أبصر الله تعالى لكل مبصر، وما أسمعه لكل مسموع، فلا يخفى عليه من ذلك. وإنما أخرجه مخرج التعجب، على وجه التعظيم. وروي أن يهوديا سأل علي بن أبي طالب عليه السلام عن مدة لبثهم، فأخبر بما في القرآن، فقال: إنا نجد ني كتابنا ثلاثمائة. فقال عليه السلام: ذاك بسني الشمس، وهذا بسني القمر. وقوله: * (ما لهم من دونه من ولي) * أي: ليس لأهل السماوات
[ 335 ]
والارض من دون الله من ناصر يتولى نصرتهم * (ولا يشرك) * الله * (في حكمه أحدا) * فلا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم الله تعالى به. وقيل معناه: إنه لا يشرك الله في حكمه بما يخبر به من الغيب أحدا. وعلى القراءة الاخرى معناه: ولا تشرك أنت أيها الانسان في حكمه أحدا. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك) * أي: واقرأ عليهم ما أوحى الله إليك من أخبار أصحاب الكهف وغيرهم، فإن الحق فيه. وقيل: معناه اتبع القرآن واعمل به * (لا مبدل لكلماته) * أي: لا مغير لما أخبر الله به فيه، وما أمر به. وعلى هذا فيكون التقدير: لا مبدل لحكم كلماته * (ولن تجد من دونه ملتحدا) * معناه: إن لم تتبع القرآن، فلن تجد من دون الله ملجأ، عن مجاهد. وقيل: حرزا، عن ابن عباس. وقيل: موئلا، عن قتادة. وقيل: معدلا ومحيصا، عن الزجاج، وأبى مسلم. والاقوال متقاربة في المعنى، يقال: لحد إلى كذا، أو التحد: إذا مال إليه. * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28) وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)) *. القراءة: قرأ ابن عامر وحده: * (بالغداوة) *. والباقون * (بالغداة) *. وفي الشواذ قراءة الحسن: * (ولا تعد عينيك) *، وقراءة عمرو بن فائد: * (من أغفلنا قلبه) *. الحجة: قال أبو علي: أما غدوة فهو اسم موضوع للتعريف، وإذا كان كذلك، فلا ينبغي أن تدخل عليه الالف واللام، كما لا تدخل على سائر الاعلام، وإن كانت قد كتبت في المصحف بالواو ولم يدك على ذلك كما أنهم كتبوا الصلاة بالواو، وهي ألف. وحجة من أدخل اللام المعرفة عليها أنه قد يجوز، وان كانت معرفة، أن تتنكر، كما حكاه أبو زيد من أنهم يقولون لقيته فينة والفينة بعد الفينة. ففينة مثل غدوة في التعريف، بدلالة امتناع الانصراف. وقد دخلت عليه لام التعريف، وذلك أن يقدر من أمة كلها له مثل هذا الاسم، فيدخل التنكير لذلك.
[ 336 ]
ويقوي هذا تثنية الاعلام، وجمعها، وقوله: (لا هيثم الليلة للمطي)، وقولهم: أما النضرة فلا نضرة لك فأجرى مجرى ما يكون شائعا في الجنس، وكذلك الغدوة. وأما قوله * (ولا تعد عينيك) *: فإنه منقول من عدت عيناك إذا جاوزتا، وهو من قولهم جاء القوم عدا زيدا، أي: جاوز بعضهم زيدا، ثم نقل إلى أعديت عيني عن كذا أي: صرفتها عنه، قال الشاعر: حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا كأننارعن قف يرفع الالا (1) أي: تعدى فوارسنا خيلهم عن كذا، فحذف المفعول بعد المفعول، أو تعديها، من عدا الفرس أي: جرى. وعلى أن أصلهما واحد، لان الفرس إذا عدا فقد جاوز مكانا إلى غيره. وأما من قرأ * (من أغفلنا قلبه) * فمعناه ولا تطع من ظننا غافلين عنه، وهو من قولهم: أغفلت الرجل أي: وجدته غافلا، قال الاعشى: أثوى، وقصر ليلة ليزودا، فمضى وأخلف من قتيلة موعدا (2) أي: صادفه مخلفا. اللغة: الفرط: التجاوز للحق، والخروج عنه، من قولهم: أفرط إفراطا: إذا أسرف. والسرادق: الفسطاط المحيط بما فيه. ويقال: السرادق ثوب يدار حول الفسطاط، قال رؤبة: يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود والمهل: خثارة الزيت. وقيل: هو النحاس الذائب. والمرتفق: المتكأ من المرفق، يقال: ارتفق إذا اتكأ على مرفقه، قال أبو ذؤيب: بات الخلي، وبت الليل مرتفقا، كأن عيني فيها الصاب مذبوح (3) ويقال إنه مأخوذ من الرفق والمنفعة. (1) الرعن: الانف العظيم من الجبل تراه متقدما. والقف: ما ارتفع من الارض والال: شئ كالسراب تراه في أول النهار وآخره، كأنه يرفع الشخوص. وقوله: (يرفع الالا) مقلوب أي. يرفعه الال. (2) قوله فمضى أي: مضى العاشق. (3) الخلي: الفارغ. والصاب: شجر مر. وقيل: عصارة شجر مر، وربما نزت منه قطرة فتقع في العين، كأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر. (*)
[ 337 ]
النزول: نزلت الاية الاولى في سلمان، وأبي ذر، وصهيب، وعمار، وحباب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم: عيينة بن الحصين، والاقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله ! إن جلست في صدر المجلس، ونحيت عنا هؤلاء روائح صنانهم (1)، وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك، وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء ! فلما نزلت الاية قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتمسهم، فأصابهم في مؤخر المسجد، يذكرون الله، عزوجل، فقال: الحمدلله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا، ومعكم الممات ! المعنى: ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر مع المؤمنين، فقال: * (واصبر نفسك) * يا محمد أي: احبس نفسك * (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) * أي: يداومون على الصلاة والدعاء عند الصباح والمساء، لا شغل لهم غيره، ويستفتحون يومهم بالدعاء، ويختمونه بالدعاء * (يريدون وجهه) * أي: رضوانه. وقيل: يريدون تعظيمه والقربة إليه، دون الرياء، والسمعة * (ولا تعد عيناك عنهم) * أي: ولا تتجاوز عيناك عنهم، بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا. * (تريد زينة الحياة الدنيا) * تريد في موضع الحال أي: مريدا مجالسة أهل الشرف والغنى. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على إيمان العظماء من المشركين، طمعا في إيمان أتباعهم، ولم يمل إلى الدنيا وزينتها قط، ولا إلى أهلها، وإنما كان يلين في بعض الاحايين للرؤساء، طمعا في إيمانهم، فعوتب بهذه الاية، وأمر بالاقبال على فقراء المؤمنين، وأن لا يرفع بصره عنهم، مريدا مجالسة الاشراف * (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) * قيل في معناه أقوال أحدها: إن معناه ولا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بتعريضه للغفلة، ولهذا قال * (واتبع هواه) *. ومثله * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وثانيها: أغفلنا قلبه أي: نسبنا قلبه إلى الغفلة، كما يقال أكفره إذا نسبه إلى الكفر، وسماه كافرا، كقول الكميت: وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسئ ومذنب (1) الصنان: نتن الابط. (*)
[ 338 ]
وثالثها: أغفلنا قلبه: صادفناه غافلا عن ذكرنا، كما قالت العرب سألناكم فما أقحمناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم ورابعها: أغفلنا قلبه أي: جعلناه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين، ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة. تقول العرب: أغفل فلان ماشيته: إذا لم يسمها بسمة تعرف وخامسها: إن معناه: ولا تطع من تركنا قلبه خذلناه، وخلينا بينه وبين الشيطان بتركه أمرنا، عن الحسن * (واتبع هواه) * أي: لا تطع من اتبع هواه في شهواته وأفعاله * (وكان أمره فرطا) * أي: سرفا وإفراطا، عن مقاتل، والجبائي. وقيل: تجاوزا للحد، عن الاخفش. وقيل: ضياعا وهلاكا، عن مجاهد، والسدي. قال الزجاج: ومن قدم العجز في أمره، أضاعه وأهلكه. فيكون المعنى في هذا أنه ترك الايمان والاستدلال بآيات الله، واتبع الهوى. ثم قال سبحانه: * (وقل) * يا محمد لهؤلاء الذين أمروك بتنحية الفقراء * (الحق من ربكم) * أي: هذا الحق من ربكم يعني القرآن. وقيل: معناه الذي أتيتكم به الحق، عن الزجاج. من ربكم: يعني لم آتكم به من قبل نفسي، وإنما أتيتكم به من قبل الله. وقيل: معناه ظهرت الحجة، ووضح الحق من ربكم، وزالت الشبهة. * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * هذا وعيد من الله سبحانه وإنذار، ولذلك عقبه بقوله * (إنا أعتدنا) * وإنما جاز التهديد بلفظ الامر، لان المهدد كالمأمور بإهانة نفسه، ومعناه: فليختر كل لنفسه ما شاء، فإنهم لا ينفعون الله تعالى بإيمانهم، ولا يضرونه بكفرهم، وإنما يرجع النفع، والضر، إليهم * (إنا أعتدنا) * أي: هيأنا وأعددنا * (للظالمين) * أي: الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله تعالى * (نارا أحاط بهم سرادقها) * والسرادق: حائط من نار يحيط بهم، عن ابن عباس. وقيل: هو دخان النار ولهبها، يصل إليهم قبل وصولهم إليها، وهو الذي في قوله: * (إلى ظل ذي ثلاث شعب) *، عن قتادة. وقيل: أراد أن النار أحاطت بهم من جميع جوانبهم، فشبه ذلك في السرادق، عن أبي مسلم. * (وإن يستغيثوا) * من شدة العطش، وحر النار * (يغاثوا بماء كالمهل) * وهو كل شئ أذيب كالرصاص، والنحاس، والصفر، عن ابن مسعود. وقيل: كعكر الزيت إذا قرب إليه، سقطت فروة رأسه، روى ذلك مرفوعا. وقيل: كدردي الزيت، عن ابن عباس. وقيل: هو القيح والدم، عن مجاهد. وقيل: هو الذي انتهى حره،
[ 339 ]
عن سعيد بن جبير. وقيل: إنه ماء أسود، وان جهنم سوداء، وماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود، عن الضحاك * (يشوي الوجوه) * أي: ينضجها عند دنوه منها، ويحرقها، وإنما جعل سبحانه ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاغاثة * (بئس الشراب) * ذلك المهل * (وساءت) * النار * (مرتفقا) * أي: متكئا لهم. قيل: ساءت مجتمعا مأخوذ من المرافقة: وهي الاجتماع، عن مجاهد. وقيل: منزلا ومستقرا، عن ابن عباس، وعطاء. * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الارائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (31)) *. اللغة: العدن: الاقامة، يقال: عدن بالمكان يعدن عدنا. والأساور: جمع أسوار على حذف الزيادة، لان الاصل أساوير، عن قطرب، وأبي عبيدة. وقيل: جمع اسورة. وأسورة: جمع سوار، عن الزجاج، وهو سوار، عن الزجاج. وهو سوار اليد بالكسر. وقد حكي سوار بالضم. والسندس: ما رق من الديباج، واحده سندسة. والاستبرق: الغليظ من الديباج. وقيل: هو الحرير قال المرقش: تراهن يلبسن المشاعر مرة، وإستبرق الديباج طورا لباسها (1) والارائك: جمع أريكة، وهي السرير، قال: خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الارائك (2) قال الزجاج. الارائك الفرش في الحجال، قال الاعشى: بين الرواق، وجانب من سترها منها، وبين أريكة الانضاد (3) الاعراب: قيل في خبر * (إن الذين آمنوا) * أقوال أحدها: إنه قوله * (إنا لا نضيع (1) المشاعر جمع المشعر بمعنى الشعار: ما تحت الدثار من اللباس، وهو ما يلي شعر الجسد. (2) المعزاء: الارض الحزنة ذات الحجارة. (3) الانضاد جمع النضد: السرير يجعل عليه المتاع، والثياب. (*)
[ 340 ]
أجر من أحسن عملا) *. وعلى هذا فيكون في الخبر محذوفا، كأنه لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، والثاني: أن يكون الخبر * (أولئك لهم جنات عدن) * ويكون * (إنا لا نضيع).... الخ اعتراضا بين الاسم والخبر والثالث: إن المعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لان من أحسن عملا في المعنى، هم الذين آمنوا. المعنى: لما تقدم الوعيد، عقبه سبحانه بذكر الوعد، فقالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * من الطاعات * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * أي: لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا، بل نجازيهم ونوفيهم أجورهم من غير بخس * (أولئك لهم جنات عدن) * أي: إقامة لهم، لانهم يبقون فيها ببقاء الله دائما أبدا. وقيل: عدن بطنان الجنة أي: وسطها وهي جنة من الجنان، عن ابن مسعود، وعلى هذا فإنما جمع لسعتها، ولان كل ناحية منها تصلح أن تكون جنة * (تجري من تحتهم الانهار) * لانهم على غرف في الجنة، كما قال: * (وهم في الغرفات آمنون) *. وقيل: إن أنهار الجنة تجري في أخاديد من الارض، فلذلك قال * (تجري من تحتهم الانهار) *. * (يحلون فيها من أساور من ذهب) * أي: يجعل لهم فيها حلي من أساور. وقيل: إنه يحلى كل واحد بثلاثة أساور: سوار من فضة، وسوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ وياقوت، عن سعيد بن جبير. * (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق) * أي: من الديباج الرقيق والغليظ. وقيل: إن الاستبرق فارسي معرب أصله استبره. قيل: هو الديباج المنسوج بالذهب * (متكئين فيها على الارائك) * أي: متنعمين في تلك الجنات على السرر في الحجال، وإنما قال * (متكئين) * لان الاتكاء يفيد أنهم منعمون في الامن والراحة، فإن الانسان لا يتكئ إلا في حال الامن والسلامة * (نعم الثواب) * أي: طاب ثوابهم، وعظم، عن ابن عباس * (وحسنت) * الارائك * (مرتفقا) * أي: موضع ارتفاق. وقيل: منزلا، ومجلسا، ومجتمعا. * (* واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعزنفرا (34) ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هذه أبدا
[ 341 ]
(35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا (36)) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وعاصم، ويعقوب، وسهل: * (وكان له ثمر) * * (وأحيط بثمره) * في الموضعين بالفتح، ووافق رويس في الاول. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الموضعين. والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين. وقرأ أهل الحجاز، وابن عامر * (خيرا منهما) * بزيادة ميم، وكذلك هو في مصاحفهم. وقرأ أهل العراق: * (منها) * بغير ميم. الحجة: قال أبو علي: الثمرة ما يجتنى من ذي الثمر، وجمعها ثمرات، ويجمع على ثمر كبقرة وبقر، وعلى ثمار كرقبة ورقاب. وعلى هذا تشبيه المخلوقات بغير المخلوقات، وقد يشبه كل واحد منهما بالاخر. ويجوز في القياس أن يكسر ثمار على ثمر، ككتاب وكتب، وقراءة أبي عمرو: * (وكان له ثمر) *: يجوز أن يكون جمع ثمار، كما يخفف كتب. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة كبدنة وبدن وخشبة وخشب. ويجوز أن يكون ثمر واحدة، كعنق وطنب فعلى أي هذه الوجوه كان جاز إسكان العين منه كذلك في قوله * (وأحيط بثمره) * وقال بعض أهل اللغة: الثمر المال. والثمر: المأكول. وجإء في التفسير قريب من هذا قالوا: الثمر النخل والشجر، ولم يرد به الثمرة والثمر على ماروي عن عدة من السلف، بل الاصول التي تحمل الثمرة، لا نفس الثمر، بدلالة قوله * (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها) * أي: في الجنة. والنفقة: إنما تكون على ذوات الثمرة في أغلب العرف، وكانت الافة التي أرسلت إليها، اصطلمت الاصول واجتاحتها، كما جاء في صفة الجنة الاخرى * (فأصبحت كالصريم) * أي: كالليل في سوادها لاحتراقها، وكالنهار في بياضها، وما بطل من خضرتها بالافة النازلة بها. وحكي عن أبي عمرو: ثمر. والثمر: أنواع المال، فإذا اصطلم الثمر فاجتيح، دخلت الثمرة فيه، ولا يمكن أن يصاب الاصل، ولا تصاب الثمرة. وإذا كان كذلك، فمن قرأ بثمره وثمره، كان قوله أبين ممن قرأ بالفتح. ويجوز القراءة بالفتح، كأنه أخبر عن بعض ما أصيب، وأمسك عن بعض. وقوله * (خيرا منها منقلبا) *: فالإفراد لانه أقرب إلى الجنة المفردة في قوله * (ودخل جنته) *. والتثنية لتقدم ذكر الجنتين.
[ 342 ]
اللغة: حف القوم بالشئ: إذا أطافوا به وحفافا الشئ: جانباه، كأنهما أطافا به. قال طرفة: كان جناحى مضر حى تكنفا حفا فيه شكا في العسيب بمسرد (1) والمحاورة: مراجعة الكلام في المخاطبة، ويقال: كلمت فلانا فما رجع الى حوارا، ومحورة، وحويرا. الاعراب: انما قال * (آتت) * على لفظ كلتا، فلنه بمنزلة كل في أنه مفرد اللفظ. ولو قال أتتا على المعنى لجاز. قال الشاعر في التوحيد: وكلتاهما قد خط لى في صحيفتي فلا العيش أهواه، ولا الموت أروح (2) المعنى: ثم ضرب الله لعباده مثلا يستفيئهم به الى طاعته، ويزجرهم عن معصيته، وكفران نعمته، فقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (واضرب لهم مثلا رجلين) * روى عن ابن عباس أنه قال: يريد ابني ملك كان في بنى اسرائيل، توفى وترك ابنين، وترك مالا جزيلا، فأخذ أحدهما حقه منه، وهو المؤمن منهما، فتقرب الى الله تعالى، وأخذ الاخر حقه فتملك به ضياعا، منها هاتان الجنتان. وفى تفسير على بن ابراهيم بن هاشم: انه يريد رجلا كان له بستانان كبيران، كثيرا الثمار، كما حكى سبحانه، وكان له جار فقير، فافتخر الغنى على الفقير، وقال له: أنا أكثر منك مالا، وأعز نفرا. وهذا أليق بالظاهر * (جعلنا لاحدهما جنتين) * أي: بستانين أجنهما الا شجار * (من أعناب وحففناهما بنخل) * أي: جعلنا النخل مطيفا بهما * (وجعلنا بينهما زرعا) * أي: وجعلنا بين البستانين مزرعة، فكملت النعمة بالعنب، والتمر، والزرع * (كلتا الجنتين آتت أكلها) * أي: كل واحدة من البستانين آتت غلتها، وأخرجت ثمرتها، وسماه أكلا لانه مأكول * (ولم تظلم منه شيئا) * أي: لم تنقص منه شيئا، بل أدته على التمام والكمال، كما قال الشاعر: ويظلمنى مالى كذا، ولوى يدى لوى يده الله الذى هو غالبه (3) (1) يصف ناحيتى عسيب ذنب الناقة، وشبه شعر ذنبها في طوله بجناحي النسر. والمضرحى: النسر. وشك الشئ بالشئ: انتظمه. والعسيب: عظم الذنب. والمسرد: الابرة. (2) أروح الشئ: وجد ريحه. (3) قائله: فرعون بن أعرف التميمي، وكان له ابن عاق يقال له منازل، وفيه يقول البيت. وفى رواية (اللسان): (تظلم مالى هكذا. ا ه‍) وفى رواية غيره: (تغمط حقى باطلا. ا ه‍). (*)
[ 343 ]
أي: ينقصني مالى * (وفجرنا خلالهما نهرا) * أي: شققنا وسط الجنتين نهرا يسقيهما، حتى يكون الماء قريبا منهما، يصل اليهما من غير كد وتعب، ويكون ثمرهما وزرعهما بدوام الماء فيهما، أوفى، وأروى * (وكلن له ثمر) * قيل: ان معناه وكان للنخل الذى فيهما ثمر. وقيل: معناه وكان للرجل ثمر ملكه من غير جنتيه، كما يمللك الناس ثمارا لا يملكون أصلها، عن ابن عباس. وقيل: كان لهذا الرجل مع هذين البستانين الذهب والفضة، عن مجاهد. وقيل: كان له معهما جميع الاموال، عن قتادة، وابن عباس في رواية أخرى * (فقال لصاحبه وهو يحاوره) * أي: فقال الكافر لصاحبه المؤمن، وهو يخاطبه ويراجعه في الكلام * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * أي: أعز عشيرة ورهطا. وسمى العشيرة نفرا لانهم ينفرون معه في حوائجه وقيل: معناه أعز خدما وولدا، عن قتادة، ومقاتل * (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه) * أي: ودخل الكافر بستانه وهو ظالم لنفسه بكفره وعصيانه. * (قال ما أظن أن تبيد أبدا) * أي: ما أقدر أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار أبدا. وقيل: يريد ما أظن هذه الدنيا تفنى أبدا * (وما أظن الساعة قائمة) * أي: وما أحسب القيامة آتية كائنة على ما يقوله الموحدون * (ولئن رددت الى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا) * معناه: ولئن كانت القيامة والبعث حقا، كما يقوله الموحدون، لاجدن خيرا من هذه الجنة. قال الزجاج: وهذا يدل على أن صاحبه المؤمن قد أعلمه أن الساعة تقوم، وأنه يبعث، فأجابه بأن قال له: ويئن رددت الى ربى أي: كما أعطاني هذه في الدنيا، سيعطيني في الاخرة أفضل منها، لكرامتي عليه. ظن الجاهل أنه أوتى ما أوتى لكرامته على الله تعالى. وقيل معناه لاكتسبن في الاخرة خيرا من هذه التى اكتسبتها في الدنيا. ومن قرأ * (منهما) * رد الكناية الى الجنتين تقدم ذكرهما. وفى هذا دلالة على أنه لم يكن قاطعا على نفى المعاد، بل كان شاكا فيه. * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربي أحدا (38) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله قوة الا بالله ان ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39)
[ 344 ]
فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41) وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول يليتنى لم أشلرك بربي أحدا (42) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43) هنالك الولاية لله الحق هو خيرا ثوابا وخير عقبا (44)) *. القراءة: قرأ ابن عامر، وابن فليح، والبرجمى، ويعقوب: * (لكنا) * باثبات الالف في الوصل والوقف. وقرأ الباقون: * (لكن) * بحذف الالف في الوصل. وقرأ البخاري لورش بالوجهين بالوصل، ولا خلاف في اثبات الالف في الوقف الا قتيبة، فانه قرأ بغير ألف في الوصل والوقف. وفى الشواذ قراءة أبى بن كعب، والحسن: * (لكن أنا) *. وقراءة عيسى الثقفى: * (لكن هو الله ربى) *. وقرأ البرجمى، عن أبى بكر: * (غورا) * بضم الغين هاهنا، وفى الملك. وقرأ: * (ولم يكن له فئة) * بالياء أهل الكوفة، غير عاصم. والباقون: * (ولم تكن) * بالتاء. وقرأ أبو عمرو: * (الولاية) * بفتح الواو و * (الحق) * بالجر. وقرأ عاصم، وحمزة، وخلف: * (عقبا) * ساكنة القاف. والباقون بضم القاف. الحجة: قال الزجاج: من قرأ * (لكن) * بتشديد النون فهو لكن أنا في الاصل، فطرحت الهمزة على النون، فتحركت بالفتح، فصارت لكنن بنونين مفتوحين، فاجتمع الحرفان من جنس واحد، فأدغمت النون الاولى في الثانية، وحذفت الالف في الوصل، لان ألف أنا تثبت في الوقف، وتحذف في الاصل في أجود اللغات، نحو أن قمت بغير الالف، ويجوز أنا قمت باثبات الالف وهو ضعيف جدا. ومن قرأ * (لكنا) * فأثبت الالف في الوصل فانه على لغة من قال أنا قمت، فأثبت الالف. قال الشاعر: أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما (1) (1) سنام كل شئ: أعلاه. وتذريت السنام أي علوته وفرعته (*)
[ 345 ]
الا أن اثبات الالف في * (لكنا) * هو الجيد، لان الهمزة قد حذفت من أنا، فصار اثبات الالف عوضا من الهمزة. قال أبو على: لا أرى قولة (ان اثبات الالف هو الجيد) لانه صار عوضا من الهمزة، كما قال، لان هذه الالف تلحق للوقف، مثل الهاء في * (ماهيه) *، و * (حسابيه) * والهاء في مثل هذا الطرف، مثل ألف الوصل في ذلك تالطرف. فكما ان اثبات همزة الوصل في الوصل خطأ، كذلك الهاء والالف في الوصل خطأ، فلا يلزم أن يثبت عوض من الهمزة المحذوفة. ألا ترى أن الهمزة في ويلمه قد حذفت حذفا على غير ما يوجبه قياس التخفيف، ولا يعوض منها فأن لا يعوض منها في التخفيف القياسي أجدر، لان الهمزة هنا في تقدير الثبات، ولولا ذلك لم يحرك حرف تااين في نحو جيل في جيال، ومؤنة في مؤنة. قال: وقد تجئ هذه الالف مثبتة في الشعر، نحو قول الاعشى: فكيف أنا، وانتحالي القوافى بعد المشيب كفى ذلك عارا وقول الاخر: أنا شيخ العشيرة (البيت). ولا يكون ذلك مختارا في القراءة. ومن قرأ لكنا في الوصل فانه يحتمل أمرين أحدهما: أن يجعل الضمير المتصل مثل المنفصل الذى هو نحن، فيدغم النون من لكن لسكونها في النون من علامة الضمير، فيكون على هذا * (لكنا) * باثبات الالف وصلا ووقفا لاغير. ألا ترى أن أحدا لا يحذف الالف م نحو فعلنا. وقوله * (هو) * من * (هو الله ربى) * ضمير الحديث والقصة، كما أنه في قوله * (فإذا هي شاخصة) * وقوله * (قل هو الله أحد) * كذلك. والتقدير الامر الله أحد، لان هذا الضمير يدخل على المبتدأ والخبر، فيصير المبتدأ والخبر موضع خبره، كما أنه في أن، وكأن، وظننت، وما يدخل على المبتدأ والخبر كذلك. وعاد الضمير على الضمير الذى دخلت عليه * (لكن) * على المعنى. ولو عاد على اللفظ لكان * (لكنا ه ه ؟ الله ربنا) * ودخلت * (لكن) * مخففة على الضميلر كما دخلت في قوله * (ان معكم) * والوجه الاخر: ان سيبويه حكى أنه سمع من يقول: أعطني ابيضه، فشدد، وألحق الهاء بالتشديد للوقف. والهاء مثل الالف في سبسبا، والياء في عيهلى. وأجرى الهاء مجراهما في الاطلاق، كما كانت مثلهما في نحو قوله: صفية قومي، ولا تجزعي وبكى النساء على حمزة فهذا الذى حكاه سيبويه في الكلام، وليس في شعر، وكذلك الاية يكون الالف فيها كالهاء، ولا يكون الهاء للوقف. ألا ترى أن الهاء للوقف لا بين بها
[ 346 ]
المعرب، ولا ما ضارع المعرب. فعلى أحد هذين الوجهين، يكون قول من أثبت الالف في الوصل، أو عليهما جميعا. ولو كانت فاصلة، لكانت نثل: فأصلونا السبيلا. وأما قراءة أبى * (لكن أنا) * فهى الاصل في قراءة الجماعة، لكن على ما تقدم بيانه، لان ألف أنا محذوف في الوصل. قال الشاعر: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب، وتقليننى لكن اياك لا أقلى أي: لكن أنا. وأنا مرفوع بالابتداء، وخبره الجملة المركبة من المبتدأ والخبر التى هي * (هو الله ربى) *. والعائد على المبتدأ من الجملة الياء في * (ربى) *. ومن قرأ * (لكن هو الله ربى) * فاعرابه واضح. وأما من قرأ * (غورا) * فيمكن أن يكون غورا لغة في غور، وانما جاز أن يقع المصدر موقع الصفة للمبالغة، كما قال الشاعر: تظل جياده نوحا عليه، مقلدة أعنتها، صفونا وأما قوله: * (ولم له فئة) * بالياء فان الياء والتاء هنا حسن. وأما قوله * (هنالك الولاية لله الحق) * فقد حكى أبو عبيدة، عن أبى عمرو: ان الولاية هنا لحن، لان الكسر في فعالة يجئ فيما كان صنعة. ومعنى متقلدا كالكتابة والامارة والخلافة وما أشبه ذلك، وليس هنا معنى تولى أمر انما هو الولاية من الدين، كذلك التى في الانفال * (ما لكم من ولايتهم من شئ) *. وقال بعض أهل اللغة: الولاية النصر، يقال هم أهل ولاية عليك أي: متناصرون عليك. والولاية: ولاية السلطان. قال: وقد يجوز الفتح في هذه، والكسر في تلك، كما قالوا الوكالة والوكالة، والوصاية بمعنى واحد، فعلى هذا يجوز الكسر في الولاية في هذا الموضع. ومن كسر القاف من * (الحق) * فجعله من وصف الله تعالى وصفه بالحق، وهو مصدر، كما وصفه بالعدل والسلام. والمعنى: ذو الحق وذو السلام. وكذلك الاله معنى دو العبادة، ويدل عليه قوله * (وعلمون أن الله هو الحق المبين) *. ومن رفع الحق جعله صفة للولاية، ومعنى وصف الولاية بالحق، أنه لا يشوبها غيره، ولا يخاف فيها ما يخاف في سائر الولايات من غير الحق. وأما قوله * (عقبا) * فان ما كان على فعل، جز تخفيفه على ما تقدم ذكره. اللغة: أصل الحسبان: السهام التى ترمى لتجرى في طلق واحد، وكأن ذلك من رمى الاساورة. ول صل الباب الحساب، وانما يقال لما يرمى به حسبان، لانه يكثر كثرة الحساب قال الزجاج: الععيد الطريق الذي لا نبات فيه. والزلق:
[ 347 ]
الارض الملساء المستوية، لانبات فيها، ولا شئ. واصل الزلق: ما تزلق عنه الاقدام، فلا يثبت عليه. الاعراب: (ما شاء الله): يحتمل أن يكون (ما) رفعا، وتقديره الامر ما شاء الله، فيكون موصولا والضمير العائد إليه يكون محذوفا لطول الكلام. ويجوز أن يكون التقدير ما شاء الله كائن، ويحتمل أن يكون (ما) في موضع نصب على معنى الشرط والجزاء. ويكون الجواب محذوقا، وتقديره أي شئ شاء الله كان، ومثله في حذف الجواب قوله (فان استطعت أن تبتغي نفقا في الارض). (إن ترن أنا أقل): أقل منصوب بأنه مفعول ثان لترن. و (أنا): إن شئت كان توكيدا، أو وصفا لياء المتكلم، وان شئت كان فصلا كما تقول كنت أنت القائم يا هذا، قاله الزجاج. ويجوز رفع (أقل). وقد قرأ بها عيسى بن عمر، فيكون (أنا) مبتدأ، و (أقل) خبره، والجملة في موضع نصب بان يكون المفعول الثاني لترني. وقوله: (فعسى): الفاء جواب قوله (إن ترن) و (ثوابا) و (عقابا): منصوبان على التمييز. المعنى: ثم بين سبحانه جواب المؤمن للكافر، فقال: (قال له صاحبه وهو يحاوره) أي: يخاطبه، ويجيبه، مكفرا له بما قاله (أكفرت بالذي خلقك من تراب) يعني أصل الخلقة أي: خلق أباك من تراب، وهو آدم عليه السلام. وقيل: لما جاز أن يقول خلقك من تراب (ثم من نطفة ثم سواك رجلا) أي: نقلك من حال إلى حال، حتى جعلك بشرا سويا، معتدل الخلقة والقامة، وانما كفره بانكاره المعاد. وفي هذا دلالة على أن الشك في البعث والنشور كفر (لكنا هو الله ربي) تقديره: لكن أنا أقول هو الله ربي، وخالقي، ورازقي، فان افتخرت علي بدنياك، فان افتخاري بالتوحيد (ولا أشرك بربي أحدا) أي: لا أشرك بعبادتي أياه أحدا سواه، بل أوجهها إليه وحده، خالصا، وانما استحال الشرك في العبادة، لانها لا تستحق، إلا باصول النعم وبالنعمة التي لا يوازنها نعمة منعم، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. ثم قال: (ولولا، إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة لا بالله) معناه: وقال لصاحبه الكافر: هلا حين دختل بستانك، فرأيت تلك الثمار والزرع، شكرت الله تعالى، وقلت: ما شاء الله كان، واني وان تعبت في جمعه، وعمارته،
[ 348 ]
فليس ذلك إلا بقدرة الله وتيسيره، ولو شاء لحال بيني وبين ذلك، ولنزع البركة عنه، فانه لا يقوى أحد على ما في يديه من النعمة إلا بالله، ولايكون له إلا ما شاء الله، ثم رجع إلى نفسه فقال: (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك) معناه: إن كنت تراني اليوم فقيرا، أقل منك ملا وعشيرة واولادا، فلعل الله أن يؤتيني بستانا خيرا من بستانك في الاخرة، أو في الدنيا والاخرة (ويرسل عليها حسبانا من السماء) أي: ويرسل على جنتك عذابا، أو نارا من السماء فيحرقها، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: يرسل علليها عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك، عن الزجاج. وقيل: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما بردا، واما حجارة، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب. (فتصبح صعيدا زلقا) أي: أرضا مستوية لانبات عليها تزلق عنها القدم، فتصير أضر أرض من بعد أن كانت أنفع أرض (أو يصبح ماؤها غورا) أي: غائرا ذاهبا في باطن غامض، منقطعا فيكون أعدم أرض للماء، بعد أن كان أوجد أرض للماء (فلن تستطيع له طلبا) أي: فلن تستطيع طلب غير ذلك الماء بدلا عنه. إلى هنا انتهى مناظرة صاحبه وانذاره. ثم قال سبحانه (واحيط بثمره) معناه: أهلك واحيط العذاب باشجاره ونخيله، فهلكت عن آخرها، تقول: أحيط ببني فلان إذا هلكوا عن آخرهم. واصل الاحاطة: إدارة الحائط على الشئ. وفي الخبر: إن الله عز وجل أرسل عليها نارا فاهلكها، وغار ماؤها. (فاصبح) هذا الكافر (يقلب كفيه) تأسفا، وتحسرا (على ما أنفق فيها) من المال وهو أن يضرب يديه واحدج على الاخرى، عن ابن عباس. وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا، فصار عبارة عن الندم (وهي خاوية على عروشها) أي: ساقطة على سقوفها، وما عرش لكرومها، وذلك أن السقف ينهدم أولا، ثم ينهدم الحائط على السقف. وقيل: إن العروش الابنية، ومعناه: خالية على بيوتها قد ذهب شجرها، وبقيت جدرانها، لاخير فيها. (ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا) ندم على الكفر لفناء ماله، لا لوجوب الايمان، فلم ينفعه، لوندم على الكفر فآمن بالله تحقيقا، لانتفع به. وقيل: إنه ندم على ما كان منه من الشرك بالله تعالى، وآمن (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون
[ 349 ]
الله) أي: لم يكن لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب الله عنه. وقيل: الفئة الجند، قال العجاج: (كما يجوز الفئة الكمي). (وما كان منتصرا) أي: وما كان ممتنعا، عن قتادة. قيل معناه: وما كان مستردا بدل ما ذهب عنه. قال ابن عباس: وهذان الرجلان هما اللذان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات في قوله تعالى أئنك لمن المصدقين (إني كان لي قرين) إلى قوله (فاطلع فرآه في سواء الجحيم). وروى هشام بن سالم، وابان بن عثمان، عن الصادق عليه السلام قال: عجبت لمن خاف كيف لا يفرع، الى قوله سبحانه (حسبنا الله ونعم الوكيل) فاني سمعت الله يقول بعقبها: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء). وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فاني سمعت الله سبحانه يقول بعقبها (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين). وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله (وافوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد) فاني سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: (فوقاه الله سيئات ما مكروا). وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها، كيف لا يفزع، الى قوله (ما شاء الله لاقوة إلا بالله) فاني سمعت الله يقول بعقبها (فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك) وعسى موجبة. وقوله: (هنالك الولاية لله الحق): أخبر سبحانه أن في ذلك الموضع، وفي ذلك الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن الولاية بالنصرة، والاعزاز لله عز وجل، فهو الذي يتولى أمر عباده المؤمنين، ويملك النصرة لمن أراد. وقيل: هنالك إشارة إلى يوم القيامة، وتقديره الولاية يوم القيامة لله، يريد: يومئذ يتولون الله، ويؤمنون به، ويتبرؤون مما كانوا يعبدون، عن القتيبي. وقيل: معناه هنالك ينصر المؤمنين، ويخذل الكافرين، فالولاية يومئذ خالصة له لا يملكها أحد من العباد (هو خير ثوابا) أي: هو أفضل ثوابا ممن يرجى ثوابا على تقدير لو كان يثيب غيره، لكان هو خيرا ثوابا (وخير عقبا) أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة غيره، فهو خير عقب طاعة، ثم حذف المضاف إليه. والعقب والعقبى، والعاقبة، بمعنى. (واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فاصبح هشيما تذروه الريح وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) المال والبنون زية الحيوة الدنيا والبقيت الصلحت خير عند ربك ثوابا وخير أملا
[ 350 ]
(46) ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا). القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (ويوم تسير) بضم التاء وفتح الياء، (الجبال) رفع. والباقون: (نسير) بالنون وكسر الياء، و (الجبال) نصب. الحجة: قال أبو علي: حجة من بنى الفعل للمفعول به قوله (وسيرت الجبال) وقوله (وإذا الجبال سيرت). ومن قرأ (نسير) فلانه أشبه بما بعده من قوله (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا). اللغة: الهشيم: ما يكسر ويحطم من يبس النبات. والذر والتذرية: تطيير الريح الاشياء الخفيفة في كل جهة، يقال: ذرته الريح تذروه، وذرته، وأذرته. وأذريت الرجل عن الدابة: إذا ألقيته عنها، قال الشاعر: فقلت له: صوب، ولا تجهدنه، * فيذرك من أخرى القطاة فتزلق (1) والمغادرة: الترك، ومنه الغدر، لانه ترك الوفاء. ومنه الغدير: لترك الماء فيه. والاشفاق: الخوف من وقوع مكروه مع تجويز أن لا يقع، وأصله الرقة، ومنه الشفق: الحمرة الرقيقة التي تكون في السماء. وشفقة الانسان على ولده: رقته عليه. الاعراب: (صفا) نصب على الحال أي: مصفوفين. (أن لن نجعل): أن هذه مخففة من الثقيلة. و (لن نجعل لكم موعدا) خبره. وقال: قد كتبت في المصحف اللام مفصولة، ولا وجه له. (لا يغادر): في موضع نصب على الحال. صوب الفرس: أرسله في الجري. والقطاة: مقعد الرديف من الدابة (*)
[ 351 ]
المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يضرب المثل للدنيا، تزهيدا فيها، وترغيبا في الاخرة، فقال: (واضرب) يا محمد (لهم مثشل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض) أي: نبت بذلك الماء نبات التف بعضه ببعض، يروق حسنا وغضاضة. وهذا مفسر في سورة يونس عليه السلام (فاصبح هشيما) أي: كسيرا مفتتا (تذروه الرياح) فتنقله من موضع الى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات (وكان الله على كل شئ مقتدرا) أي: قادرا لا يجوز عليه المنع. قال الحسن: أي كان الله مقتدرا على كل شئ قبل كونه. قال الزجاج: وتاويله إن ما شاهدتم من قدرته، ليس بحادث، وانه كذلك كان لم يزل، هذا مذهب سيبويه. وقيل: إنه إخبار عن الماضي، ودلالة على المستقبل. وهذا المثل إنما هو للمتكبرين الذين اعتوروا باموالهم، واستنكفوا عن مجالسة فقراء المؤمنين، أخبرهم الله سبحانه أن ما كان من الدنيا لايراد الله سبانه به، فهو كالنتت الحسن على المطر، لامادة له، فهو يروق ما خالطه ذلك الماء، فإذا انقطع عنه، عاد هشيما لا ينتفع به. ثم قال: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) أي: يتفاخر بهما، ويتزين بهما في الدنيا، ولا ينتفع بهما في الاخرة، وانما سماهم زينة لان في المال جمالا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، وكلاهما لا يبقى للانسان، فينتفع به في الاخرة (والباقيات الصالحات) وهي الطاعات لله تعالى، وجميع الحسنات، لان ثوابها يبقى أبدا، عن ابن عباس، وقتادة. (خير عند ربك ثوابا وخير أملا) أي: أفضل ثوابا، واصدق أملا من المال، والبنين، وسائر زهرات الدنيا، فان من الامال كواذب، وهذا أمل لا يكذب، لان من عمل الطاعة، وجد ما يامله عليها من الثواب. وقيل: إن الباقيات الصالحات هي ما كان ياتي به سلمان، وصهيب، وفقراء المسلمين، وهو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، عن ابن عباس، في رواية عطا، ومجاهد، وعكرمة. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال لجلسائه: خذوا جنتكم. قالوا: احذر عدو. قال: خذوا جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فانهم المقدمات، وهن المنجيات، وهن المعقبات، وهن الباقيات الصالحات. ورواه أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال: ولذكر الله عندما أحل أو حرم. وروى
[ 352 ]
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فانهن الباقيات الصالحات، فقولوها. وقيل: هي الصلوات الخمس، عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومسروق، والنخعي. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وروي عنه أيضا: أن الباقيات الصالحات هن البنات الصالحات، والاولى حملها على العموم، فيدخل فيها جميع الطاعات والخيرات. وفي كتاب ابن عقدة: إن أبا عبد الله عليه السلام قال للحصين بن عبد الرحمن: يا حصين ! لا تستصغر مودتنا، فانها من الباقيات الصالحات. قال: يا بن رسول الله ! ما أستصغرها، ولكن أحمد الله عليها. وانما سميت الطاعات صالحات، لانها أصلح الاعمال للمكلف من حيث أمر بها، ووعد الثواب عليها، وتوعد بالعقاب على تركها (ويوم نسير الجبال) قيل: إنه يتعلق بما قبله، وتقديره: واذكر يوم نسير الجبال، يعني يوم القيامة، وتسيير الجبال: قلعها عن أماكنها، فان الله سبحانه يقلعها، ويجعلها هباء منثورا. وقيل: نسيرها على وجه الارض، كما تسير السحاب في السماء، ثم يجعلها كثيبا مهيلا كما قال (يوم ترجف الارض والجبال) الاية. ثم يصيرها كالعهن المنفوش، ثم يصيرها هباء منبثا في الهواء، كما قال (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا)، ثم يصيرها بمنزلة السراب، كما قال: (وسيرت الجبال فكانت سرابا). (وترى الارض بارزة) أي: ظاهرة ليس عليها شئ من جبل، أو بناء أو شجر يسترها عن عيون الناظرين. وقيل: إن معناه وترى باطن الارض ظاهرا قد برز من كان في بطنها، فصاروا على ظهرها، عن عطا، وتقديره: وترى ما في الارض بارزا، فهو مثل قول النبي صلى الله عليه وآله: ترمي الارض بافلاذ كبدها. (وحشرناهم) أي: وبعثناهم من قبورهم، وجمعناهم في الموقف (فلم نغادر منهم أحدا) أي: فلم نترك منهم أحدا إلا حشرناه. (وعرضوا على ربك) يعني المحشورين يعرضون على الله تعالى يوم القيامة (صفا) أي: مصفوفين كل زمرة وامة صفا. وقيل: يعرضون صفا بعد صف كالصوف في الصلاة. وقيل: يعرضون صفا واحدا لا يحجب بعضهم
[ 353 ]
بعضا. ويقال لهم: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) معناه: لقد جئتمونا ضعفاء فقراء فقراء عاجزين في الموضع الذي لا يمل كفيه الحكم غيرنا، كما كنتم في ابتداء الخلق، لا تمكلون شيئا. وقيل: معناه ليس معكم شئ مما اكتسبتموه في الدنيا من الاموال، والاولاد، والخدم، تنتفعون به كما كنتم في أول الخلق. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة، حفاة عراة غرلا (1). فقالت عائشة: يارسول الله ! أما يستحي بعضهم من بعض ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه. (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) أي: ويقال لهم أيضا: بل زعمتم في دار الدنيا أن الله لم يجعل لكم موعدا للبعث، والجزاء والحساب، يوم القيامة (ووضع الكتاب) أي: ووضع الكتب، فان الكتاب إسم جنس، والمعنى: ووضعت صحائف بني آدم في أيديهم. وقيل: معناه ووضع الحساب، فعبر عن الحساب بالكتاب، لانهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة، عن الكلبي. (فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي: خائفين مما فيه من الاعمال السيئة (ويقولون يا ويلتنا) هذه لفظة يقولها الانسان إذا وقع في شدة، فيدعو على نفسه بالويل والثبور (ما لهذا الكتاب) أي لا يترك صغيرة من الذنوب، ولا كبيرة إلا عدها واثبتها وحواها، وقد مر تفسير الصغيرة والكبيرة في سورة النساء. وانث الصغيرة والكبيرة بمعنى الفعلة والخصلة (ووجدوا ما عملوا حاضرا) أي: مكتوبا في الكتاب، مثبتا. وقيل: معناه وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا، فجعل وجود الجزاء كوجود الاعمال توسعا (ولا يظلم ربك أحدا) معناه: ولا ينقص ربك ثواب محسن، ولا يزيد في عقاب مسئ. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه، لا يعاقب الاطفال، لانه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب، فكيف يعاقب من ليس بمذنب. (واذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتخذونه وذريته أولياء أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظلمين بدلا (50) ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم (1) الغرل جمع الاغرل: الاقلف (*)
[ 354 ]
وما كنت متخذ المضلين عضدا (51) ويوم يقول نادوا شركاءى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52). القراءة: قرأ أبو جعفر: (ما أشهدناهم) بالنون على التعظيم. والباقون: (ما أشهدتهم) بالتاء. وقرأ حمزة: (ويوم نقول) بالنون. والباقون بالياء. الحجة: من قرأ (نقول) بالنون حمله على ما تقدم في المعنى، فكما إن كنت للمتكلم فكذلك نقول. ومن قرأ بالياء فحجته أن الكلام قد انقضى، فالمعنى ويوم يقول الله نادوا شركائي، وهذا يقوي القراءة بالياء، لانه لو كانت بالنون، لكان الاشبه أن يقول: نادوا شركاءنا. اللغة: الفسق: الخروج إلى حال تضر، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفارة: إذا خرجت من جحرها، قال رؤبة: يهوين في نجد، وغورا غائرا، فواسقا عن قصدها جوائرا قال أبو عبيدة: هذه التسمية لم نسمعها في شئ من أشعار الجاهلية، ولا أحاديثها، وانما تكلم بها العرب بعد نزول القرآن. وقال المبرد: الامر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب. وقال قطرب: فسق عن أمر ربه أي عن رد أمر ربه كقولهم كسوته عن عرى، واطعمته عن جوع. والعضد: ما بين المرفق الى الكتف، وفيه خمس لغات: عضد، وعضد، وعضد، وعضد، وعضد. وعضدت فلانا: أعنته. وفلان عضدي: استعارة. واعتضد به أي: استعان. قال ثعلب: كل شئ حال بين شيئين، فهو موبق من وبق يبق وبوقا: إذا هلك، وحكى الزجاج: وبق الرجل يوبق وبقا. الاعراب: (بئس للظالمين بدلا): اسم بئس مضمر فسر بقوله بدلا. وقوله (للظالمين) فصل بين بئس، وبين ما انتصب على التمييز. والتقدير بئس البدل للظالمين ذرية إبليس، فذرية إبليس هو المخصص بالذم، عن أبي علي الفارسي. المعنى: ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه واله وسلم أن يذكر هؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء، قصة إبليس، وما أورثه الكبر، فقال: (واذ قلنا) أي: واذكر يا محمد إذ قلنا (للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس) قد مر تفسيره فيما تقدم، وانما
[ 355 ]
تكرر هذا القول في القرآن، لاجل ما بعده مما يحتاج اتصاله به، فهو كالمعنى الذي يفيد أمرا في مواضع كثيرة للاخبار عنه باخبار مختلفة. وقوله (كان من الجن) من قال: إن إبليس لم يكن من الملائكة، استدل بهذا، لان الجن غير الملائكة، كما أنهم غير الانس. ومن قال: إنه كان من الملائكة، قال: إن المعنى كان من الذين يستترون عن الابصار، ماخوذ من الجن: وهو الستر. وقيل: كان من قبيل من الملائكة، يقال لهم الجن، كانوا خزان الجنان فاضيفوا إليها، كقولك كوفي بصري. وضعف الاولون هذين الوجهين، لان لفظ الجن إذا اطلق، فالمفهوم منه هذا الجنس المعروف، لا الملائكة. (ففسق عن أمر ربه) أي خرج عن طاعة ربه. ثم خاطب الله سبحانه المشركين، فقال: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) معناه: أفتتبعون أمر إبليس، وامر ذريته، وتتخذونهم أولياء تتولونهم بالطاعة من دوني، وهم جميعا أعداء لكم ! والعاقل حقيق بان يتهم عدوه على نفسه. وهذا استفهام بمعنى الانكار والتوبيخ قال مجاهد: ذريته الشياطين. وقال الحسن: الجن من ذريته (بئس للظالمين بدلا) تقديره: بئس البدل للظالمين بدلا، ومعناه: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس، عن الحسن. وقيل: بئس البدل طاعة الشيطان عن طاعة الرحمن، عن قتادة. (وما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم) أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السموات والارض، ولاخلق، أنفسهم، مستعينا بهم على ذلك ولا استعنت ببعضهم على خلق بعض. وهذا إخبار عن كمال قدرته، واستناده عن الانصار والاعوان. ويدل عليه قوله (وما كنت متخذ المضلين عضدا) أي: الشياطين الذين يضلون الناس أعوانا يعضدونني عليه، وكثيرا ما يستعمل العضد بمعنى العون، وانما وحده هنا لوفاق الفواصل. وقيل: إن معنى الاية أنكم اتبعتم الشيطان كما يتبع من يكون عنده عليم لا ينال إلا من جهته، وانا ما أطلعتهم على خلق السموات والارض، ولا على خلق، أنفسهم، ولم اعطهم العلم بانه كيف تخلق الاشياء، فمن أين تتبعونهم ؟ وقيل: معناه ما أحضرت مشركي العرب، وهؤلاء الكفار، خلق السماوات والارض، ولا خلق أنفسهم، أي: وما أحضرت بعضهم خلق بعض، بل لم يكونوا موجودين فخلقتهم، فمن أين قالوا: إن الملائكة بنات الله ؟ ومن أين ادعوا ذلك ؟
[ 356 ]
* (ويوم يقول) * يريد يوم القيامة، يقول الته للمشركين، وعبدة الاصنام * (نادوا شركائي الذين زعمتم) * في الدنيا انهم شركائي ليدفعوا عنكم العذاب * (فدعوهم) * يعني المشركين يدعون أولئك الشركاء الذين عبدوهم مع الله * (فلم يستجيبوا لهم) * أي: فلا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم شيئا. * (وجعلنا بينهم) أي: بين المؤمنين والكافرين * (موبقا) * وهو اسم واد عميق، فرق الله به سبحانه، بين أهل الهدى وأهل الضلالة، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: بين المعبودين وعبدتهم موبقا أي: حاجزا عن ابن الاعرابي أي: فأدخلنا من كانوا يزعمون أنهم معبودهم مثل الملائكة، والمسيح الجنة، وأدخلنا الكفار النار، وقيل: معناه جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا أي: مهلكا لهم في الاخرة، عن الفراء، وروي ذلك عن قتادة، وابن عباس. فالبين على هذا القول معناه التواصل. والمعنى: إن واد في جهنم من قيح ودم. النظم: وجه اتصال قوله * (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) * بما قبله أنه يتصل اتصال الحجة التي تكشف حيرة الشبهة، لأنه بمنزلة أن يقال: إنكم قد أقبلتم على اتباع إبليس وذريته، وتركتم أمر الله تعالى مع كثرة الحجج، ولو أشهدتهم خلق السماوات والأرض، لم يزيدوا على ما فعلتم من اتباعهم. وقيل: إنه سبحانه بين بذلك أنه المتفرد بالخلق والإختراع، لا شريك له فيه، فلا ينبغي أن تشركوا معه في العبادة غيره، أو تدعوا غيره إلها. * (ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53) ولقد صرفنا في هذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شئ جدلا (54) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا
[ 357 ]
ءاياتى وما أنذروا هزوا (56)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة: * (قبلا) * بضمتين. والباقون: * (قبلا) *. الحجة: قد ذكرنا الوجه في سورة الأنعام (1). اللغة: المواقعة: ملابسة الشئ بشدة، ومنه وقائع الحروب، وأوقع به إيقاعا. والتوقع: الترقب لوقوع الشئ. والمصرف: المعدل، قال أبو كثير: أزهير هل عن شيبة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف والتصريف: تنقيل المعنى في الجهات المختلفة. والإدحاض: الإذهاب بالشئ إلى الهلاك. ومكان دحض أي: مزلق مزل لا يثبت عليه خف، ولا حافر، ولا قدم، قال: (وحاد كما حاد البعير عن الدحض) (2). الاعراب: * (أن يؤمنوا) *: في موضع نصب، والمعنى ما منع الناس من الإيمان إلا طلب أن يأتيهم، فيكون أن يأتيهم في موضع رفع. * (وما أنذروا) *: في موضع نصب عطفا على * (آياتي) *. و * (هزوا) *: هو المفعول الثاني لاتخذوا. المعنى: ثم بين سبحانه حال المجرمين، فقال: * (ورأى المجرمون النار) * يعني المشركين رأوا النار، وهي تتلظى حنقا عليهم، عن ابن عباس. وقيل: هو عام في أصحاب الكبائر * (فظنوا أنهم مواقعوها) * أي: علموا أنهم داخلون فيها، واقعون في عذابها * (ولم يجدوا عنها مصرفا) * أي: معدلا وموضعا ينصرفون إليه ليتخلصوا منها * (ولقد صرفنا) * أي: بينا * (في هذا القرآن للناس من كل مثل) * وتصريفها ترديدها من نوع واحد، وأنواع مختلفة، ليتفكروا فيها. وقد مر تفسيره في بني إسرائيل * (وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) * يريد بالإنسان النضر بن الحارث، عن ابن عباس. ويريد أبي بن خلف، عن الكلبي. وقال الزجاج: معناه وكأن الكافر يدل عليه قوله: * (ويجادل الذين كفروا بالباطل) *. * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم) * معناه: ما (1) راجع ج 2 من هذه الطبعة. (2) هذا عجز بيت قاله طرفة وقبله: (رديت ونجى اليشكري حذاره). (*)
[ 358 ]
منعهم من الإيمان بعد مجئ الدلالة، ومن أن يستغفروا ربهم على ما سبق من معاصيهم * (إلا أن تأتيهم سنة الأولين) * أي: إلا طلب أن تأتيهم العادة في الأولين، من عذاب الإستئصال، حيث آتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، حين امتنعوا من قبول الهدى والإيمان * (أو يأتيهم العذاب قبلا) * أو طلب أن يأتيهم العذاب عيانا مقابلة، من حيث يرونه، وتأويله أنهم بامتناعهم من الإيمان، بمنزلة من يطلب هذا حتى يؤمنوا كرها، لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وهذا كما يقول القائل لغيره: ما منعك أن تقبل قولي إلا أن تضرب. على أن المشركين قد طلبوا مثل ذلك، فقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. ومن قرأ * (قبلا) *: فهو في معنى الأول، ويجوز أن يكون أيضا جمع قبيل: وهو الجماعة، أي: يأتيهم العذاب ضروبا من كل جهة. ثم بين سبحانه أنه قد أزاح العلة، وأظهر الحجة، وأوضح المحجة، فقال: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) * أي: لم نرسل الرسل إلى الخلق إلا مبشرين لهم بالجنة إذا أطاعوا، أو ومخوفين لهم بالنار إذا عصوا * (ويجادل الذين كفروا بالباطل) * أي: ويناظر الكفار دفعا عن مذاهبهم بالباطل * (ليدحضوا به الحق) * أي: ليزيلوا الحق عن قراره. قال ابن عباس: يريد المستهزئين والمقتسمين وأتباعم، وجدالهم بالباطل، أنهم ألزموه أن يأتي بالآيات على أهوائهم، على ما كانوا يقترحونه، ليبطلوا به ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقال أدحضت حجته أي: أبطلتها * (واتخذوا آياتي) * يعني القرآن * (وما أنذروا) * أي: ما تخوفوا به من البعث والنار * (هزوا) * مهزوا به: استهزؤوا به. * (ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفئ اذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59)) *.
[ 359 ]
القراءة: قرأ حفص عن عاصم: * (لمهلكهم) * بفتح الميم وكسر اللام، وكذلك في النمل: * (وما شهدنا مهلك) *. وقرأ حماد، ويحيى، عن أبي بكر بفتح الميم واللام. وقرأ الأعشى، والبرجمي، عنه هاهنا بالضم، وهناك بالفتح. وقرأ الباقون: * (لمهلكهم) * و * (مهلك) * بضم الميم، وفتح اللام. الحجة: من قرأ * (لمهلكهم) * فإن المهلك يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون وقتا، فيكون معناه لإهلاكهم، أو لوقت إهلاكهم. ومن قرأ * (لمهلكهم) *: فالمراد لوقت هلاكهم. ومن قرأ بفتح الميم واللام فهو مصدر مثل الهلاك. وقد حكي أن تميما يقول: هلكني زيد. وعلى هذا حمل بعضهم قوله: (ومهمه هالك من تعرجا) (1) فقال: هو بمعنى مهلك، فيكون هالك مضافا إلى المفعول به، وإذا لم يكن بمعنى مهلك، يكون هالك مضافا إلى الفاعل، مثل حسن الوجه، وكذلك قوله * (لمهلكهم) * على قراءة حفص، أو * (لمهلكهم) * بفتح اللام والميم، فإنه مصدر فعلى، قول من عدى هلكت يكون مضافا إلى المفعول به، وعلى قول من لم يعده يكون مضافا إلى الفاعل. الاعراب: * (تلك القرى) *: تلك رفع بالابتداء. و * (القرى) *: صفة لها مبينة لها. و * (أهلكناهم) *: في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ويجوز أن يكون موضع * (تلك القرى) * نصبا بفعل مضمر يكون * (أهلكناهم) * مفسرا لذلك الفعل، وتقديره: وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم. المعنى: ثم قال سبحانه: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) * معناه: ليس أحد أظلم لنفسه ممن ذكر أي: وعظ بالقرآن وآياته، ونبه على أدلة التوحيد، فأعرض عنها جانبا. * (ونسي ما قدمت يداه) * أي: نسي المعاصي التي استحق بها العقاب. وقيل: معناه تذكر واشتغل عنه استخفافا به، وقلة معرفة بعاقبته، لأنه نسي ذلك. ثم قال سبحانه: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) * وهي جمع كنان * (أن يفقهوه) * أي: كراهة أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه * (وفي آذانهم وقرا) * أي: (1) هذا صدر بيت قاله العجاج، وبعده: (هائلة أهواله من أدلجا) والمه مه: المفازة البعيدة. وحكي عن الأصمعي في قوله هالك من تعرجا أي: هالك المتعرجين إن لم يهذبوا في السير أي: من تعرض فيه هلك. (*)
[ 360 ]
ثقلا. وقد تقدم بيان هذا فيما مضى، وجملته أنه على التمثيل، كما قال في موضع آخر. * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) *. فالمعنى: كأن على قلوبهم أكنة أن يفقه، وفي آذانهم وقرا أن يسمع. * (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا) أخبر سبحانه أنهم لا يؤمنون أبدا، وقد خرج مخبره موافقا لخبره، فماتوا على كفرهم * (وربك الغفور ذو الرحمة) * معناه: وربك الساتر على عباده، الغافر لذنوب المؤمنين، ذو النعمة والأفضال على خلقه. وقيل: الغفور التائب ذو الرحمة للمصر، بأن يمهل ولا يعجل. وقيل: الغفور لا يؤاخذهم عاجلا، ذو الرحمة يؤخرهم ليتوبوا * (لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) * في الدنيا * (بل لهم موعد) * وهو يوم القيامة، والبعث * (لن يجدوا من دونه موئلا) * أي: ملجأ، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: محرزا، عن مجاهد. وقيل: منجا ينجيهم، عن أبي عبيد قال: يقال لا وألت نفسه، أي: لا نجت، قال الأعشى: وقد أخالس رب البيت غفلته، وقد يحاذر مني ثم لا يئل وقال الآخر: لا وألت نفسك خليتها للعامريين، ولم تكلم (1) * (وتلك القرى) *: إشارة إلى قرى عاد، وثمود، وغيرهم. * (أهلكناهم لما ظلموا) * بتكذيب أنبياء الله، وجحود آياته. * (وجعلنا لمهلكهم) * أي: وجعلنا لوقت إهلاكهم، أو لوقت هلاكهم. * (موعدا) * معلوما يهلكون فيه لمصلحة اقتضت تأخيره إليه. وإنما قال سبحانه * (تلك القرى) * ثم قال * (أهلكناهم) *، ولم يقل أهلكناها، لأن القرية هي المسكن نحو المدينة والبلدة، وهي لا تستحق الهلاك، وإنما يستحق الهلاك اهلها، ولذلك قال لما ظلموا يعني أهل القرية الذين أهلكناهم. * (وإذ قال موسى لفتاه لآ أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا (60) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61) فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62) (1) كلمه كلما: جرحه. (*)
[ 361 ]
قال أرءيت إذ أوينآ إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا علئ اثارهما قصصا (64)) *. القراءة: قرأ حفص: * (ما أنسانيه) * بضم الهاء، وفي الفتح: * (بما عاهد عليه الله) * بضم الهاء. والباقون بكسر الهاء من غير بلوغ الياء، إلا ابن كثير فإنه يثبت الياء في الوصل. وقد تقدم القول في وجه ذلك. اللغة: لا أبرح: أي لا أزال، ولو كان معناه لا أزول كان محالا، لأنه إذا لم يزل من مكانه، لم يقطع أرضا، قال الشاعر: وأبرح ما أدام الله قومي، رخي البال منتطقا مجيدا (1) أي: لا أزال. والحقب: الدهر والزمان، وجمعه أحقاب. قال الزجاج: والحقب ثمانون سنة. والسرب: المسلك والمذهب، ومعناه في اللغة: المحفور في الأرض، لا نفاذ له، ويقال للذاهب في الأرض: سارب، قال الشاعر: أنى سربت، وكنت غير سروب، وتقرب الأحلام غير قريب (3) والنصب، والوصب، والتعب، نظائر: وهو الوهن الذي يكون على الكد. الاعراب: * (سربا) *: منصوب على وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لأتخذ يقال اتخذت طريقي مكان كذا، واتخذت طريقي في السرب. والآخر: أن يكون مصدرا يدل عليه اتخذ سبيله في البحر، فكأنه قال فسرب الحوت سربا. وقوله * (أن اذكره) *: في موضع نصب بدل من الهاء في * (أنسانيه) *، والمعنى: وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان. و * (عجبا) *: منصوب على وجهين: أحدهما: أن يكون على قول يوشع اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا والآخر: أن يكون قال يوشع واتخذ سبيله في البحر، فأجابه موسى عليه السلام فقال عجبا، فكأنه قال أعجب عجبا. (1) قائله خداش بن زهير وفي رواية الأشموني: (بحمدالله منتطقا ا ه‍). ومنتطقا أي: لا يزال بجنب فرسه الجواد من قولهم جاء فلان منتطقا فرسه: إذا جنبه ولم يركبه. وقيل: أراد انه لا يزال ينطق القول. (*)
[ 362 ]
و * (قصصا) *: وضع موضع الحال تقديره: يقصان الأثر قصصا. والقصص: اتباع الأثر. وقال أحد المحققين: عجبا: في موضع حال تقديره: قال ذلك متعجبا. و * (قصصا) *: مصدر لفعل مضمر يدل عليه قوله * (فارتدا على آثارهما) * فإن معناه: فاقتصا الأثر. النزول: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره قال: لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بخبر أصحاب الكهف، قالوا: أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يتبعه، من هو ؟ كيف تبعه ؟ وما قصته ؟ فأنزل الله تعالى: المعنى: * (وإذ قال موسى لفتاه) * أكثر المفسرين: على أنه موسى بن عمران، وفتاه يوشع بن نون، وسماه فتاه، لأنه صحبه، ولازمه سفرا، وحضرا، للتعلم منه. وقيل: لأنه كان يخدمه. ولهذا قال له: * (آتنا غداءنا) *، وهو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب. وقال محمد بن إسحاق: يقول أهل الكتاب: إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف، وكان نبيا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران، إلا أن الذي عليه الجمهور: أنه موسى بن عمران، ولأن إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران، كما أن إطلاق محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينصرف إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. قال علي بن إبراهيم: حدثني محمد بن علي بن بلال، قال: اختلف يونس، وهشام بن إبراهيم، في العالم الذي أتاه موسى، أيهما كان أعلم ؟ وهل يجوز أن يكون على موسى حجة في وقته، وهو حجة الله على خلقه ؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام يسألونه عن ذلك، فكتب في الجواب: (أتى موسى العالم، فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، فسلم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كان بأرض ليس بها سلام، قال: من أنت ؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما ؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك ؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه)... الخبر بطوله. * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) * معناه: لا أزال أمضي وأمشي، ولا أسلك طريقا آخر حتى أبلغ ملتقى البحرين بحر فارس، وبحر الروم، ومما يلي المغرب بحر الروم، ومما يلي المشرق بحر فارس، عن قتادة. وقال محمد بن
[ 363 ]
كعب: هو طنجة، وروي عنه أفريقية. وكان وعد أن يلقى عنده الخضر * (أو أمضي حقبا) * أي: دهرا، عن ابن عباس. وقيل: سبعين سنة، عن مجاهد. وقيل: ثمانين سنة، عن عبد الله بن عمر * (فلما بلغا مجمع بينهما) * أي: فلما بلغا الموضع الذي يجتمع فيه رأس البحرين * (نسيا حوتهما) * أي: تركاه. وقيل: إنه ضل الحوت عنهما، حين اتخذ سبيله في البحر سربا، فسمي ضلاله عنهما نسيانا منهما له. وقيل: إنه من النسيان، والناسي له كان أحدهما، وهو يوشع، فأضيف النسيان اليهما، كما يقال: نسي القوم زادهم: إذا نسيه متعهد أمرهم. وقيل: إن النسيان وجد منهما جميعا، فإن يوشع نسي أن يحمل الحوت، أو أن يذكر موسى ما قد رأى من أمره، ونسي موسى أن يأمره فيه بشئ، فصار كل واحد منهما ناسيا لغيره، ما نسيه الآخر. وقوله: * (فاتخذ سبيله في البحر سربا) * أي: فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا يذهب فيه، وذلك أن موسى وفتاه، تزودا حوتا مملوحا، عن ابن عباس. وقيل: حوتا طريا، عن الحسن. ثم انطلقا يمشيان على شاطئ البحر، حتى انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر، فأويا إليها، وعنده عين ماء تسمى عين الحياة. فجلس يوشع بن نون، وتوضأ من تلك العين، فانتضح على الحوت شئ من ذلك الماء، فعاش ووثب في الماء، وجعل يضرب بذنبه الماء، فكان لا يسلك طريقا في البحر إلا صار الماء جامدا، فذلك معنى قوله: * (فاتخذ سبيله في البحر سربا) *. * (فلما جاوزا) * ذلك المكان * (قال) * موسى * (لفتاه آتنا غداءنا) * قيل: إنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان من الغد، قال موسى ليوشع: آتنا غداءنا أي: أعطنا ما نتغدى به، والغداء: طعام الغداة، والعشاء: طعام العشي. والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء * (لقد لقينا مهن سفرنا هذا نصبا) * أي: تعبا وشدة. قالوا: إن الله تعالى ألقى على موسى الجوع، ليتذكر حديث الحوت * (قال) * له يوشع عند ذلك * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) * ومعناه أن يوشع تذكر قصة الحوت، لما دعا موسى بالطعام ليأكل، فقال له: أرأيت حين رجعنا إلى الصخرة، ونزلنا هناك، فإني تركت الحوت وفقدته. وقيل: نسيته، ونسيت حديثه. وقيل: فيه إضمار أي: نسيت أن أذكر لك أمر الحوت. ثم اعتذر فقال: * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * وذلك أنه لو ذكر
[ 364 ]
لموسى عليه السلام قصه الحوت عند الصخرة، لما جاوزها موسى، ولما ناله النصب الذي أشكاه، ولم يلق في سفره النصب إلا يومئذ، * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) * أي: سبيلا عجبا، وهو أن الماء انجاب عنه، وبقي كالكوة لم يلتئم. وقيل: ان كلام يوشع قد انقطع عند قوله * (واتخذ سبيله في البحر) * فقال موسى عند ذلك: عجبا كيف كان ذاك. وقيل: إن معناه واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا، عن ابن عباس. والمعنى: دخل موسى الكوة على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر * (قال ذلك ما كنا نبغ) * قال موسى عليه السلام: ذلك ما كنا نطلب من العلامة * (فارتدا على آثارهما) * أي: رجعا وعادا عودهما على بدئهما في الطريق الذي جاءا منه، يقصان آثارهما * (قصصا) * أي: ويتبعانها، ويوشع أمام موسى عليه السلام، حتى انتهيا إلى مدخل الحوت. القصة: سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم ؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك ! قال موسى: يا رب ! فكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل (1). ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه، فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد، قال موسى لفتاه: * (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * قال: ولم يجد موسى النصب، حتى جاوز المكان الذي أمر الله تعالى به. فقال فتاه * (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) * الآية. قال: وكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا. فقال موسى: * (ذلك ما كنا نبغ) * الآية. قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فوجدا رجلا مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام ؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال: * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه، علمنيه، (1) المكتل: الزنبيل يجعل فيه التمر وغيره. (*)
[ 365 ]
وأنت على علم من علم الله علمك لا أعلمه انا. فقال له موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا، لا أعصي لك أمرا) * فقال له الخضر: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) *. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة، وكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوه بغير نول. فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم (1). فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا امرا. قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا. قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأولى من موسى عليه السلام نسيانا. وقال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله، إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذا أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فأقلعه فقتله. فقال له موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال: وهذه أشد من الأولى. قال: * (إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني) * إلى قوله * (يريد أن ينقض) * كان مائلا فقال الخضر عليه السلام بيده فأقامه، فقال موسى عليه السلام: قوم قد أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا. قال: هذا فراق بيني وبينك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما. قأل سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ: وكان إمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا، وكان أبواه مؤمنين، رواه البخاري ومسلم في الصحيحين. وروى أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام أيضا: إنه كان يقرأ: كل سفينة صالحة غصبا. وروي ذلك أيضا عن أبي جعفر، قال: وهي قراءة أمير المؤمنين عليه السلام. (1) القدوم: آلة النجر والنحت. (*)
[ 366 ]
* (فوجدا عبدا من عبادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معى صبرا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شآء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا (69) قال فإن اتبعتنى فلا تسئلنى عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70) فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا (72)) *. القراءة: قرأ أبو عمرو، ويعقوب: * (رشدا) * بالفتح. والباقون: * (رشدا) * بضم الراء، وسكون الشين. وقرأ: * (فلا تسألني) * مشددة النون مدني شامي. والباقون: خفيفة النون. ولم يخالفوا في إثبات الياء فيه وصلا ووقفا، لأنها مثبتة في جميع المصاحف. وقرأ: * (ليغرق) * بفتح الياء والراء، * (أهلها) * بالرفع كوفي غير عاصم. ولباقون: * (لتغرق) * بضم التاء * (أهلها) * بالنصب. وقرأ زكية بغير ألف كوفي وشامي، وسهل. والباقون: * (زاكية) *. وقرأ: * (نكرا) * بضمتين مدني غير اسماعيل، وأبو بكر، ويعقوب، وسهل وابن ذكوان. والباقون. * (نكرا) * ساكنة الكاف. الحجة: قال أبو علي: والرشد والرشد لغتان، وقد أجرى العرب كل واحد منهما مجرى الآخر، فقالوا أسد وأسد، وخشب وخشب، فجمعوا فعلا على فعل، ثم فعلا أيضا على فعل، وذلك قوله: * (والفلك التي تجري في البحر) *، وفي آية أخرى * (في الفلك المشحون) *. فهذا يدلك على أنهم أجروهما مجرى واحد. ومن قرأ * (فلا تسألني) * بالتشديد فإنه لما أدخل النون الثقيلة بني الفعل معها على الفتح، قال: والقراءة بالتاء في * (لتغرق) * أولى، ليكون الفعل مسندا إلى المخاطب، كما كان المعطوف عليه كذلك، وهو * (أخرقتها) *. وهذا يأتي في معنى الياء أيضا، لأنهم إذا أغرقهم غرقوا. وقوله * (نكرا) * فعل، وهو من أمثلة الصفات، قالوا ناقة أجد، ومشية سحج، فمن خفف ذلك كما يخفف نحو العنق، والطنب، والشغل،
[ 367 ]
فالتخفيف فيه مستمر. اللغة: الإمر: الداهية العظيمة، قال الشاعر: لقد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إذا إمرا (1) وهو مأخوذ من الأمر لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه إلى الصلاح، ومنه رجل إمر: إذا كان ضعيف الرأي، لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوى رأيه، ومنه أمر القوم أي: كثروا ومعناه احتاجوا إلى من يأمرهم وينهاهم، ومنه الأمر من الأمور أي: الشئ الذي من شأنه أن يؤمر فيه. الاعراب: قوله * (رشدا) * يجوز أن ينتصب على أنه مفعول له، ويكون المعنى: هل أتبعك للرشد، أو لطلب الرشد على أن تعلمني، فيكون * (على أن تعلمني) * حالا من قوله * (أتبعك) *. ويجوز أن يكون قوله * (رشدا) * مفعولا به، وتقديره: أتبعك على أن تعلمني رشدا مما علمته، ويكون العلم الذي يتعدى إلى مفعول واحد، فيتعدى بتضعيف العين إلى مفعولين. والمعنى: على أن تعلمني أمرا ذا رشد، وعلما ذا رشد، أو خبرا نصب على المصدر، والمعنى: لم يخبره خبرا. المعنى: * (فوجدا عبدا من عبادنا) * أي: صادف موسى وفتاه، وأدركا عبدا من عبادنا، قائما على الصخرة يصلي، وهو الخضر عليه السلام، واسمه بليا بن ملكان. وإنما سمي خضرا لأنه إذا صلى في مكان، اخضر ما حوله. وروي مرفوعا أنه قعد على فروة بيضاء، فاهتزت تحته خضراء. وقيل: انه رآه على طنفسة خضراء، فسلم عليه، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال له موسى: وما أدراك من أنا ؟ ومن أخبرك أني نبي ؟ قال: من دلك علي. واختلف في هذا العبد، فقال بعضهم: إنه كان ملكا أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه ما حمله إياه من علم بواطن الأشياء. وقال الأكثرون: إنه كان من البشر. ثم اختلفوا، فقال الجبائي وغيره: إنه كان نبيا لأنه لا يجوز أن يتبع النبي من ليس بنبي، ليتعلم منه العلم، لما في ذلك من الغضاضة على النبي. وكان ابن الأخشيد يجوز أن لا يكون نبيا، ويكون عبدا صالحا أودعه الله من علم باطن الأمور، ما لم يودعه غيره، وهذا ليس بالوجه. ومتى قيل: كيف يكون نبي أعلم من موسى في وقته ؟ قلنا: يجوز أن يكون (1) قائله الراجز وفي اللسان (قد لقى ا ه‍). (*)
[ 368 ]
الخضر خص بعلم ما لا يتعلق بالأداء، فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط، وإن كان موسى أعلم منه في العلوم التي يؤديها من قبل الله تعالى * (آتيناه رحمة من عندنا) * يعني: النبوة. وقيل: طول الحياة * (وعلمناه من لدنا علما) * أي: علما من علم الغيب، عن ابن عباس. قال الصادق عليه السلام: كان عنده علم لم يكتب لموسى عليه السلام في الألواح، وكان موسى يظن أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته، وأن جميع العلم قد كتب له في الألواح * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) * أي: علما ذا رشد. قال قتادة: لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجي الله موسى، ولكنه قال: * (هل أتبعك) *. الآية. عظمه عليه السلام بهذا القول غاية التعظيم، حيث أضاف العلم إليه، ورضي باتباعه، وخاطبه بمثل هذا الخطاب. والرشد: العلوم الدينية التي ترشد إلى الحق. وقيل: هو علوم الألطاف الدينية التي تخفى على الناس. * (قال) * العالم * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * أي: يثقل عليك الصبر، ولا يخف عليك، ولم يرد أنه لا يقدر على الصبر، وإنما قال ذلك لأن موسى عليه السلام كان يأخذ الأمور على ظواهرها، والخضر كان يحكم بما علمه الله من بواطنها، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك. ثم قال * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) * أي: كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر، وأنت لم تعرف باطنه، ولم تعلم حقيقته. والخبر: العلم. وفي هذا دلالة على أنه لم يرد بقوله * (لن تستطيع معي صبرا) * نفي الإستطاعة للصبر، لأنه لو أراد ذلك، لكان لا يستطيع الصبر، سواء علم أو لم يعلم. * (قال) * موسى: * (ستجدني إن شاء الله صابرا) * أي أصبر على ما أرى منك. * (ولا أعصي لك أمرا) * تأمرني به، ولا أخالفك فيه. قال الزجاج: وفيما فعله موسى عليه السلام، وهو من جملة الأنبياء، من طلب العلم، والرحلة فيه، ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأنه يجب أن يتواضع لمن هو أعلم منه. وإنما قيد عليه السلام صبره بمشيئة الله، لأنه أخبر به على ظاهر الحال، فجوز أن لا يصبر فيما بعد، بأن يعجز عنه، فقال: إن شاء الله، ليخرج بذلك من أن يكون كاذبا * (قال) * الخضر له * (فإن اتبعتني) * واقتفيت أثري * (فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) * أي: لا تسألني عن شئ أفعله مما تنكره، ولا تعلم باطنه، حتى أكون أنا الذي أفسره لك * (فانطلقا) * يمشيان على شاطئ البحر
[ 369 ]
* (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) * ومعناه: إنهما أرادا أن يعبرا في البحر إلى أرض أخرى، فأتيا معبرا فعرف صاحب السفينة الخضر عليه السلام، فحملهما. فلما ركبا في السفينة خرق الخضر عليه السلام السفينة أي: شقها حتى دخلها الماء. وقيل: إنه قلع لوحين مما يلي الماء، فحشاهما موسى عليه السلام بثوبه و * (قال) * منكرا عليه * (أخرقتها لتغرق أهلها) * ولم يقل لنغرق، وإن كان في غرقها غرق جميعهم، لأنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه، جريا على عادة الأنبياء. ثم قال بعد إنكاره ذلك: * (لقد جئت شيئا إمرا) * أي: منكرا عظيما يقال أمر الأمر أمرا: إذا كبر. والإمر: الإسم منه ف‍ * (قال) * له الخضر: * (ألم أقل) * لك * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * أي: ألم أقل حين رغبت في اتباعي، إن نفسك لا تطاوعك على الصبر معي، فتذكر موسى ما بذل له من الشرط ثم * (قال) * معتذرا مستقيلا * (لا تؤاخذني بما نسيت) * أي: غفلت من التسليم لك، وترك الإنكار عليك، وهو من النسيان الذي هو ضد الذكر وروي عن أبي بن كعب قال انه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام. وقيل: بما تركت من وصيتك وعهدك، عن ابن عباس. وعلى هذا فيكون من النسيان بمعنى الترك، لا بمعنى الغفلة والسهو. * (ولا ترهقني من أمري عسرا) * أي: لا تكلفني مشقة تقول: أرهقته عسرا: إذا كلفته ذاك. والمعنى عاملني باليسر، ولا تعاملني بالعسر، ولا تضيق علي الأمر في صحبتي إياك * (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله) * ومعناه: فخرجا من البحر، وانطلقا يمشيان في البر، يعني موسى والخضر، ولم يذكر يوشع، لأنه كان تابعا لموسى، أو كان قد تأخر عنهما، وهو الأظهر، لاختصاص موسى بالنبوة، واجتماعه مع الخضر عليه السلام في البحر، فلقيا غلاما يلعب مع الصبيان، فذبحه بالسكين، عن سعيد بن جبير. وكان من أحسن أولئك الغلمان، وأصبحهم. وقيل: صرعه، ثم نزع رأسه من جسده. وقيل: ضربه برجله فقتله. وقال الأصم: كان شابا بالغا لأن غير البالغ لا يستحق القتل، وقد يسمى الرجل غلاما، قالت ليلى الأخيلية: شفاها من العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها (1) * (قال أقتلت نفسا زكية) * أي: طاهرة من الذنوب، وزكية بريئة من الذنوب. (1) داء عضال: شديد معي غالب. (*)
[ 370 ]
وقيل: الزاكية التي لم تذنب. والزكية: التي أذنبت، ثم تابت. حكي ذلك عن أبي عمرو بن العلاء. وقيل: الزكية أشد مبالغة من الزاكية، عن تغلب. وقيل: الزاكية في البدن، والزكية في الدين * (بغير نفس) * أي: بغير قتل نفس، يريد القود * (لقد جئت شيئا نكرا) * أي: قطعيا منكرا، لا يعرف في شرع. والمنكر أشد من الأمر، عن قتادة. وإنما قال ذلك لأن قلبه صار كالمغلوب عليه حين رأى قتله * (قال) * العالم * (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) * أعاد هذا القول لتأكيد الأمر عليه، والتحقيق لما قاله أولا، مع النهي عن العود بمثل سؤاله. * (قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا (73) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا (75) قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنى عذرا (76) فانطلقا حتى إذا أتيآ أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا (77) قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78) أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فأردنا أن يبد لهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما (81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشد هما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذالك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)) *. القراءة: قرأ يعقوب برواية روح وزيد: * (فلا تصحبني) * والباقون: * (فلا تصاحبني) *. وقرأ أهل المدينة، وأبو بكر عن عاصم: * (من لدني) * خفيفة النون. والباقون: * (لدني) * بالتشديد. وقرأ ابن كثير، وأهل البصرة: * (لتخذت) * بكسر
[ 371 ]
الخاء مخففة، وابن كثير: يظهر منه الذال. والباقون: * (لتخذت) *، وعاصم يظهر الذال. والآخرون يدغمون. وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو: * (أن يبدلهما) * بفتح الباء، وتشديد الدال، وكذلك في التحريم: * (أن يبدله) *، وفي القلم: * (أن يبدلنا) *. والباقون بسكون الباء، وتخفيف الدال. وقرأ * (رحما) * بضم الحاء أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وعباس، ويعقوب، وسهل. والباقون بسكون الحاء. وفي الشواذ قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: * (جدارا يريد أن ينقض) * بضم الياء. وقراءة علي بن أبي طالب عليه السلام، وعكرمة، ويحيى بن يعمر: * (ينقاص) * بصاد غير معجمة، وبالألف. وقراءة عبد الله، والأعمش: * (يريد لينقض) *. الحجة: من قرأ * (فلا تصحبني) * فمعناه: لا تكون صاحبي. ومن قرأ * (فلا تصاحبني) * فمعناه: إن طلبت صحبتك فلا تتابعني على ذلك. وأما قوله * (من لدني) *: فإن الأجود تشديد النون لأن أصل لدن الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك، زدت نونا لتسلم سكون النون الأولى، تقول: من لدن زيد، ومن لدني، كما تقول: عن زيد، وعني. ومن قرأ * (لدني) *: لم يجز له أن يقول عني، لأن لدن اسم غير متمكن. ومن وعن: حرفان جاء المعنى ولدن مع ذلك اثقل من من وعن والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون، قولهم: قدني في معنى حسبي. ويجوز قدي، قال: (قدني من نصر الخبيبين قدي) (1). فجاء باللغتين. وقال أبو زيد: اتخذنا مالا نتخذه اتخاذا، وتخذت أتخذ تخذا. وقال أبو علي: وجه الإدغام أن هذه الحروف متقاربة، فيدغم بعضها في بعض، كما يدغم سائر المتقاربة. فالتاء، والدال، والطاء، والظاء، والذال، والثاء، يدغم بعضها في بعض للمقاربة. فأما الصاد، والسين، والزاي فيدغم بعضها في بعض، ويدغم فيها الحروف الستة، ولا يدغمن في الستة لما يختل من إدغامها في مقاربها من الصفير. وأما قوله: * (أن يبدلهما) * فإن أبدل وبدل متقاربان في المعنى، كما أن أنزل ونزل كذلك. وأما قوله * (رحما) *: فإن الرحم والرحم (1) هذا صدر بيت، وبعده: (ليس الإمام بالشحيح الملحد). ونسبه الجوهري إلى حميد بن ثور الهلالي. وفي كلام غيره إلى حميد الأرقط. تعرض فيه بعبدالله بن الزبير و (الخبيبين) يروى على صيغة المثنى، ويروى على الجمع: فعلى الأول: عنى عبد الله وأخاه مصعب، أو هو وابنه خبيبا. وعلى الثاني: أراد هو وشيعته. (والملحدا) من ألحد الرجل أي: ظلم في الحرم، وانتهك حرمته. (*)
[ 372 ]
هاهنا: الرحمة، قال رؤبة: يا منزل الرحم على إدريس، ومنزل اللعن على إبليس قال ابن جني: قوله * (يريد أن ينقض) * معناه: قد قارب أو شارف ذلك، فهو عائد إلى معنى يكاد، وقد جاء ذلك عنهم، وأنشد أبو الحسن: كادت، وكدت (1)، وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى وحسن هنا لفظ الإرادة، لأنه أقوى في وقوع الفعل، وذلك أنها داعية إلى وقوعه وهي أيضا لا تصح إلا مع الحياة، ولا يصح الفعل إلا لذي الحياة، وليس كذلك كاد، لأنه قد يقارب الأمر ما لا حياة له نحو ميل الحائط، وإشراق ضوء الفجر، وينقاص أي: ينكسر يقال قصته نقاص قال: فراق كقيص السن، فالصبر إنه لكل أناس كسرة، وجبور (2) وقالوا أيضا: قضته فانقاض بضاد معجمة، يعني هدمته فانهدم. قال: (كأنها هدم في الجفر منقاض) (3). وقراءة العامة * (ينقض) * يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون ينفعل من القضة، وهي الحصى الصغار والآخر: أن يكون يفعل من نقضت الشئ كقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم * (يريد أن ينقض) * فيكون كيزور ويرعوي ونحوهما مما جاء من غير الألوان والعيوب. ومن قرأ * (لينقض) * فإن شئت قلت اللام زائدة فيه، واحتججت فيه بقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن شئت قلت تقديره إرادته لكذا، كقولك قيامه لكذا، وجلوسه لكذا. ثم وضع الفعل موضع مصدره، كما أنشد أبو زيد: فقالوا ما تشاء، فقلت ألهو إلى الأصباح، آثر ذي أثير (4) أي: اللهو، فوضع ألهو موضع مصدره، وأنشد أيضا: وأهلكني لكم في كل يوم تعوجكم علي، وأستقيم أي: واستقامتي. وكاللام هنا اللام في قوله: (1) أي: أرادت وأردت. (2) قائله أبو ذؤيب. وفي (اللسان): (عثرة وجبور) ويروى (كقيض) بالضاد أيضا. (3) الجفر: البئر الواسعة التي لم تطو. (4) قائله عروة بن الورد. وآثر ذي أثير أي: أول كل شئ. (*)
[ 373 ]
أريد لأنسى ذكرها، فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل فيحتمل اللام هنا الوجهين اللذين تقدم ذكرهما: اللغة: الإنقضاض: السقوط بسرعة. قال ذو الرمة: (فأنقض كالكوكب الدري منصلتا) والوراء والخلف واحد، وهو نقيض جهة القدام، ويستعمل وراء بمعنى القدام أيضا، على الاتساع، لأنها جهة مقابلة لجهة، فكأن كل واحد من الجهتين وراء الأخرى. قال الشاعر: أترجو بنو مروان سمعي، وطاعتي، وقومي تميم، والفلاة ورائيا وقال لبيد: أليس وراءي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنو عليها الأصابع وقال الفراء: يجوز ذلك في الزمان دون الأجسام. قال علي بن عيسى وغيره: ويجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، والإرهاق: إدراك الشئ بما يغشاه، ورهقه الفارس أي: غشيه. وأدركه غلام مراهق: إذا قارب أن يغشاه حال البلوغ، ويقال: أرهقه أمرا أي: ألحقه إياه. قال الأزهري: الرهق: جهل الإنسان. وأرهقه عسرا: كلفه إياه. وجاء في الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل مكة مراهقا، خرج إلى عرفة) أي: ضاق عليه الوقت. الاعراب: قال الزجاج: قوله * (هذا فراق بيني وبينك) * زعم سيبويه أن معنى مثل هذا التوكيد يعني هذا فراق بيننا أي: هذا فراق اتصالنا، ومثله من الكلام أخزى الله الكاذب مني ومنك. وهذا لا يكون إلا بالواو، ولا يجوز هذا فرق بيني فبينك، لأن معنى الواو الإجتماع، ومعنى الفاء أن يأتي الثاني في أثر الأول. و * (مساكين) *: لا ينصرف لأنه جمع ليس له في الآحاد نظير. * (رحمة من ربك) *: منصوب على ضربين أحدهما: أن المعنى فعلنا ذلك رحمة أي: للرحمة، كما تقول أنقذتك من الهلكة رحمة لك والآخر: أن يكون منصوبا على المصدر، لأن معنى قوله * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) * رحمهما الله بذلك. المعنى: * (قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني) * أي: قال له موسى جوابا: إن سألتك عن شئ بعد هذه المرة، أو بعد هذه النفس، وقتلها، فلا تتركني
[ 374 ]
أصحبك * (قد بلغت من لدني عذرا) * أي: قد أعذرت فيما بيني وبينك، وقد أخبرتني أني لا أستطيع معك صبرا، عن ابن عباس. وهذا إقرار من موسى عليه السلام بأن الخضر قد قدم إليه ما يوجب العذر عنده، فلا يلزمه ما أنكره. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية فقال: إستحيى نبي الله موسى، ولو صبر لرأى ألفا من العجائب. * (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) * وهي انطاكية، عن ابن عباس. وقيل ايلة، عن ابن سيرين، ومحمد بن كعب. وقيل: هي قرية على ساحل البحر. يقال لها ناصرة وبها سميت النصارى نصارى، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. * (استطعما أهلها) * أي: سألاهم الطعام * (فأبوا أن يضيفوهما) * والتضييف والإضافة بمعنى واحد أي: لم يضيفهما أحد من أهل القرية. وروى أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانوا أهل قرية لئام. وقال أبو عبد الله عليه السلام: لم يضيفوهما ولا يضيفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) * وصف الجدار بالإرادة مجاز، ومعناه: قرب أن ينقض، وأشرف على أن ينهدم، وذلك على التشبيه بحال من يريد الفعل في الثاني. وهذا من فصيح كلام العرب، ومثله في أشعارهم كثير، قال الراعي يصف الإبل: في مهمه قلقت بهاها ماتها قلق الفؤوس إذا أردن فصولا وقال الآخر: يريد الرمح صدر أبي براء، ويرغب عن دماء بني عقيل وقريب منه قول الآخر: إن دهرا يلف شملي بسعدى لزمان يهم بالإحسان أي كأنه يهم، وقال عنترة يصف فرسه: فازور من وقع القنا بلبانه، وشكا إلي بعبرة وتحمحم (1) * (فأقامه) * أي: سواه. قيل: إنه دفع الجدار بيده فاستقام، عن سعيد بن جبير * (قال لو شئت لتخذت عليه أجرا) * معناه: إنهم لما بخلوا عليهما بالطعام، وأقام (1) مر البيت في ص 318 من هذا الجزء. (*)
[ 375 ]
الخضر جدارهم المشرف على الإنهدام، عجب موسى من ذلك، فقال: لو شئت لعملت هذا بأجر تأخذه منهم، حتى كنا نسد به جوعتنا. * (قال هذا فراق بيني وبينك) * معناه: هذا الكلام والإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا. وقيل معناه: هذا وقت فراق اتصالنا، وكرر بين تأكيدا، عن الزجاج. وقيل معناه: هذا الذي قلته سبب الفراق بيني وبينك. ثم قال له: * (سأنبئك) * أي: سأخبرك * (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * أي: بتفسير الأشياء التي لم تستطع على الإمساك عن السؤال عنها صبرا * (أما السفينة فكانت لمساكين) * معناه: أما السبب في خرقي السفينة، فهو أنها كانت لفقراء لا شئ لهم يكفيهم، قد سكنتهم قلة ذات أيديهم * (يعملون في البحر) * أي: يعملون بها في البحر، ويتعيشون بها * (فأردت أن أعيبها) * أي: أحدث فيها عيبا * (وكان وراءهم) * أي: وكان قدامهم * (ملك يأخذ كل سفينة) * صحيحة، أو غير معيبة * (غصبا) * عن قتادة، وابن عباس. قال عباد بن صهيب: قدمت الكوفة لأسمع من إسماعيل بن أبي خالد، فمررت بشيخ جالس، فقلت: يا شيخ ! كيف أمر إلى منزل إسماعيل بن أبي خالد ؟ فقال لي: وراءك. فقلت: أرجع ؟ فقال: أقول وراءك وترجع ؟ فقلت: أليس ورائي خلفي ؟ قال: لا. ثم قال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس: وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا. قال: ولو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ولكن كان بين أيديهم. قال الخضر: إنما خرقتها لأن الملك إذا رآها منخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشب فانتفعوا بها وقيل: يحتمل أن الملك كان خلفهم، وكان طريقهم في الرجوع عليه، ولم يعلم به أصحاب السفينة، وعلم به الخضر عليه السلام. * (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) * وروي عن أبي، وابن عباس: أنهما كانا يقرءآن: * (وأما الغلام فكان كافرا وأبواه مؤمنين) * وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام ومعناه: وأما الغلام الذي قتله، فإنما قتلته لأنه كان كافرا * (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) * أي: فعلمنا أنه إن بقي يرهق أبويه أي: يغشيهما طغيانا وكفرا، وهو من كلام الله تعالى. وقيل: معناه فخفنا أن يحمل أبويه على الطغيان والكفر، بأن يباشر ما لا يمكنهما منعه منه، فيحملهما على الذب عنه، والتعصب له، فيؤدي ذلك إلى أمور يكون مجاوزة للحد في العصيان والكفر، وهو من كلام الخضر، لأن الله تعالى لا يجوز
[ 376 ]
عليه الخشية. وقيل: معناه فكرهنا أن يرهق الغلام أبويه، إثما وظلما، بطغيانه وكفره * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) * أي: ولدا خيرا منه دينا، وطهارة، وصلاحا، * (وأقرب رحما) * أي: وأرحم بهما، عن قتادة. والزكاة: الصلاح. والزكي: الصالح. والرحم: العطف، والرحمة. وقيل: معناه أبر بوالديه، وأوصل للرحم، عن ابن عباس. وقيل: معناه وأقرب أن يرحما به. قال قتادة: قال مطرف: أيم الله ! إنا لنعلم أنهما فرحا به يوم ولد، وحزنا عليه يوم قتل، ولو عاش كان فيه مهلكتهما، فرضي رجل ما قسم الله له، فإن قضاء الله للمؤمن خير من قضائه لنفسه، وما قضى لك يا بن آدم فيما تكره، خير مما قضى لك فيما تحب، فاستخر الله، وارض بقضائه. وروي أنهما أبدلا بالغلام المقتول جارية، فولدت سبعين نبيا، عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إنه تزوجها نبي من الأنبياء، فولدت له نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم، عن الكلبي. وفي قتل الغلام دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه، لأن المفهوم من الآية أنه تدبير من الله تعالى، لم يكن يجوز خلافه، وأنه إذا علم من حال الإنسان أنه يفسد عند شئ، يجب عليه في الحكمة أن يذهب ذلك الشئ، حتى لا يقع هذا الفساد. ومتى قيل: إنه لو حصل لنا العلم بذلك، كما حصل لذلك العالم، هل كان يحسن منا القتل ؟ قلنا: إن هذا العلم لا يحصل إلا للأنبياء، وعند حصول العلم به يحسن ذلك. ومتى قيل: إن الله كان قادرا على إزالة حياة الغلام بالموت من غير ألم، فتزول التبقية التي هي المفسدة من غير إدخال إيلام عليه بالقتل، فلم أمر بالقتل ؟ فالجواب من وجهين أحدهما: إن الله تعالى قد علم أن أبويه لا يثبتان على الإيمان إلا بقتل هذا الغلام، فتعين وجه الوجوب في القتل والآخر: إن تبقية الغلام إذا كانت مفسدة، فالله تعالى مخير في إزالتها بالموت من غير ألم، وبالقتل، لأن القتل وإن كان فيه ألم يلحق المقتول، فإن بإزائه أعواضا كثيرة توازي ذلك الألم، ويزيد عليه أضعافا كثيرة، فيصير القتل بالمنافع العظيمة التي بإزائه، كأنه ليس بألم، ويدخل في قبيل النفع والإحسان. * (وأما الجدار فكان) * أي: فإنما أقمته لأنه كان * (لغلامين يتيمين في المدينة) * يعني القرية المذكورة في قوله * (أتيا أهل قرية) *. * (وكان تحته كنز لهما) * والكنز هو كل مال مذخور من ذهب، أو فضة، وغير ذلك. واختلف في هذا الكنز، فقيل:
[ 377 ]
كانت صحف علم مدفونة تحته، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد. وقال ابن عباس: ما كان ذلك الكنز إلا علما. وقيل: كان كنزا من الذهب، والفضة، عن قتادة، وعكرمة، واختاره الجبائي، ورواه أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: كان لوحا من ذهب، وفيه مكتوب: عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ! عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح ! عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ! عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. عن ابن عباس، والحسن، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي بعض الروايات زيادة ونقصان. وهذا القول يجمع القولين الأولين، لأنه يتضمن ان الكنز كان مالا كتب فيه علم، فهو مال وعلم. * (وكان أبوهما صالحا) * بين سبحانه أنه حفظ الغلامين بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاحا، عن ابن عباس. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله * (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) * أي: ينتهيا إلى الوقت الذي يعرفان فيه نفع أنفسهما، وحفظ مالهما، وهو أن يكبرا ويعقلا * (ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) * أي: نعمة من ربك، والمعنى: إن كل ما فعلته رحمة من الله تعالى، أي: رحم الله بذلك المساكين، وأبوي الغلام، واليتيمين، رحمة * (وما فعلته عن أمري) * أي: وما فعلت ذلك من قبل نفسي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى. قال ابن عباس: يريد انكشف لي من الله علم، فعملت به. ثم قال * (ذلك) * الذي قلته لك * (تأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * أي: ثقل عليك مشاهدته ورؤيته، واستنكرته. يقال: استطاع يستطيع، واسطاع يسطيع. قال أبو علي الجبائي: لا يجوز أن يكون الخضر حيا إلى وقتنا هذا، لأنه لو كان، لعرفه الناس، ولم يخف مكانه، ولأنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لأن تبقيته في مقدور الله تعالى، ويجوز أن تنخرق العادة للأنبياء، صلوات الله عليهم، بالإجماع، ولا يمتنع أيضا أن يكون بحيث لا يتعرف إلى أحد، وأن الناس وإن كانوا يشاهدونه لا يعرفونه، وقوله: (إنه لا نبي بعد نبينا) مسلم، ولكن نبوة الخضر عليه السلام كانت ثابتة قبل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأما شرعه لو كان له
[ 378 ]
شرع خاص، فإنه منسوخ بشريعة نبينا، ولو كان داعيا إلى شريعة من تقدمه من الأنبياء، فإن شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لها، فلا يؤدي إلى ما قاله الجبائي. * (ويسئلونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض وءاتيناه من كل شئ سببا (84) فأتبع سببا (85) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا بانكرا (87)) *. القراءة: قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة: * (فأتبع) * ثم * (أتبع) * بهمزة القطع وفتحها، وتخفيف التاء وسكونها. والباقون: * (فاتبع) * بهمزة الوصل، وتشديد التاء، وفتحها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأهل الكوفة، غير حفص: * (حامية) * والباقون: * (حمئة) * بغير ألف مهموز. الحجة: قال أبو علي: تبع فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة، تعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله * (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) *. وأما * (اتبع) *: فإنه افتعل يتعدى إلى مفعول واحد، كما يتعدى فعل إليه مثل: حفرته واحتفرته، وشويته واشتويته. ومن قرأ * (فأتبع سببا) *: تقديره فأتبع سببا سببا، أو أتبع أمره سببا، أو أتبع ما هو عليه سببا، فحذف أحد المفعولين كما حذف في قوله * (لينذر بأسا شديدا) * و * (لا يكادون يفقهون قولا) *. والمعنى: لينذر الناس بأسا شديدا، ولا يكادون يفقهون أحدا قولا. ومن قرأ * (فأتبع سببا) * فالمعنى: اتجه في كل وجه وجهناه له، وأمرناه به، السبب الذي ينال به صلاح ما مكن منه. وقال أبو عبيدة معناه: اتبع طريقا وأثرا. ومن قرأ * (حمئة) *: فعلى فعلة. ومن قرأ * (حامية) *: فهي فاعلة من حيث تحمي، فهي حامية. وروي عن الحسن أنه قال: حارة. ويجوز فيمن قرأ * (حامية) * أن يكون فاعلة من الحماة، فخفف الهمزة على قياس قول أبي الحسن، فيقلبها ياء محضة، وإن خففها على قول الخليل، كانت بين بين. قال سيبويه: وهو قول العرب.
[ 379 ]
اللغة: القرن: قرن الشاة وغيرها. وقرون الشعر: الذوائب. ومنه قول أبي سفيان: (ولا الروم ذوات القرون) أراد: قرون شعورهم، لأنهم كانوا يطولونه. والذكر: حضور المعنى للنفس، وقد يكون بالقلب، وهو التفكر. وقد يكون باللسان. وكل ما وصل شيئا إلى شئ فهو سبب. يقال للطريق إلى الشئ سبب، وللحبل سبب، وللباب سبب. والحمأة: الطين الأسود، يقال: حمئت البئر تحمأ فهي حمئة: إذا صار فيها الحمأة. قال أبو الأسود: تجئ بملئها طورا، وطورا تجئ بحمأة، وقليل ماء وحمأت البئر: أخرجت منه الحمأة. وأحمأتها: ألقيت فيها الحمأة. الاعراب: * (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * أن مع الفعل في موضع نصب بفعل مضمر، كما أن قوله: * (فأما منا بعد واما فداء) * كذلك، ويجوز أن يكون * (أن) * مع الفعل في موضع المتبدأ، والخبر مضمر أي: أما العذاب واقع منك فيهم، وأما اتخاذ أمر ذي حسن واقع منك فيهم، فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة، وهذا أظهر. والأول، عن أحمد بن يحيى. المعنى: ثم بين سبحانه قصة ذي القرنين، فقال: * (ويسألونك) * يا محمد * (عن ذي القرنين) * أي: عن خبره وقصته، لا عن شخصه. واختلف فيه، فقيل: إنه نبي مبعوث فتح الله على يديه الأرض، عن مجاهد، وعبد الله بن عمر. وقيل: إنه كان ملكا عادلا. وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: إنه كان عبدا صالحا، أحب الله، وأحبه الله وناصح الله وناصحه، قد أمر قومه بتقوى الله، فضربوه على قرنه، ضربة بالسيف، فغاب عنهم ما شاء الله. ثم رجع إليهم فدعاهم إلى الله، فضربوه على قرنه الآخر بالسيف، فذلك قرناه، وفيكم مثله - يعني نفسه عليه السلام. وفي سبب تسميته بذي القرنين أقوال أخر منها إنه سمي به لأنه كانت له ضفيرتان، عن الحسن ومنها إنه كان على رأسه شبه القرنين تواريه العمامة، عن يعلى بن عبيد ومنها إنه بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب، فسمي بذلك لاستيلائه على قرن الشمس من مغربها، وقرنها من مطلعها، عن الزهري، واختاره الزجاج ومنها: إنه رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقص رؤياه على قومه، فسموه ذا القرنين، عن وهب ومنها: إنه عاش
[ 380 ]
عيش قرنين، فانقرض في وقته قرنان من الناس، وهو حي ومنها: أنه كان كريم الطرفين من أهل بيت الشرف، من قبل أبيه وأمه. قال معاذ بن جبل: كان من أبناء الروم، واسمه الإسكندر، وهو الذي بنى الإسكندرية. * (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) * معناه: قل يا محمد سأقرأ عليكم منه خبرا، وقصة. * (إنا مكنا له في الأرض) * أي: بسطنا يده في الأرض، وملكناه حتى استولى عليها، وقام بمصالحها. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: سخر الله له السحاب، فحمله عليها، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء. فهذا معنى تمكينه في الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فيها، وذلل له طريقها وحزونها، حتى تمكن منها أنى شاء. * (وآتيناه من كل شئ سببا) * أي: فأعطيناه من كل شئ علما يتسبب به إلى إرادته، ويبلغ به إلى حاجته، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقيل: معناه وآتيناه من كل شئ يستعين به الملوك على فتح البلاد، ومحاربة الأعداء، عن الجبائي. وقيل: معناه وآتيناه من كل شئ سبيلا، كما قال سبحانه * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) * أي: سبلها * (فأتبع سببا) * معناه فأتبع طريقا واحدا في سلوكه، قال الزجاج: معناه فأتبع سببا من الأسباب التي أوتي بها، وذلك أنه أوتي من كل شئ سببا، فاتبع من تلك الأسباب التي أوتي سببا في المسير إلى المغرب. ومن قرأ * (فاتبع سببا) * فمعناه: لحق كقوله فأتبعه الشيطان. والأصل فيه ما مر ذكره في الحجة * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) * أي: موضع غروبها أنه انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب، وبلغ قوما لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس، ولم يرد بذلك أنه بلغ إلى موضع الغروب، لأنه لا يصل إليه أحد * (وجدها تغرب) * معناه: وجدها كأنها تغرب * (في عين حمئة) * وإن كانت تغرب في ورائها، عن الجبائي، وأبي مسلم، والبلخي، لأن الشمس لا تزايل الفلك، ولا تدخل عين الماء. ولأنه قال * (وجد عندها قوما) *. ولكن لما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع، تراءى له كأن الشمس تغرب في عين، كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والعين الحمئة: هي ذات الحمأة، وهي الطين الأسود المنتن. والحامية: الحارة. وعن كعب قال: أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. وقوله: * (ووجد عندها قوما) * معناه: ووجد
[ 381 ]
عند العين ناسا * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا، والمعنى: إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر، لتعلمهم الهدى، وتستنقذهم من العمى. وقيل: معناه وإما أن تعفو عنهم. واستدل من ذهب إلى أن ذو القرنين كان نبيا بهذا، قال: لأن أمر الله تعالى لا يعلم إلا بالوحي، والوحي لا يجوز إلا على الأنبياء. وقال الكلبي: إن الله تعالى ألهمه، ولم يوح إليه. وقال ابن الأنباري: إن كان ذو القرنين نبيا، فإن الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء، إما بتكليم، أو بوحي، وإن لم يكن نبيا، فإن معنى قلنا: ألهمنا، لأن الإلهام ينوب عن الوحي. قال سبحانه: * (وأوحينا إلى أم موسى) * أي: وألهمناها. قال قتادة: فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى، وكان عالما بالسياسة. * (قال أما من ظلم) * أي: أشرك، عن ابن عباس * (فسوف نعذبه) * أي: نقتله إذا لم يرجع عن الشرك * (ثم يرد إلى ربه) * بعد قتلي إياه * (فيعذبه عذابا نكرا) * أي: منكرا غير معهود، يعني في النار، وهو أشد من القتل في الدنيا. * (وأما من ءامن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88) ثم أتبع سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا (91) ثم أتبع سببا (92)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر، ويعقوب: * (فله جزاء) * بالنصب والتنوين. والباقون: * (جزاء الحسنى) * بالرفع، والإضافة. الحجة: قال أبو علي: من قال * (فله جزاء الحسنى) * كان المعنى: فله جزاء الخلال الحسنى التي عملها، لأن الإيمان والعمل الصالح خلال. ومن قال * (فله جزاء الحسنى) * فالمعنى: له الحسنى جزاء. فجزاء مصدر وقع موقع الحال، أي: فله الحسنى مجزية. وقال أبو الحسن: وهذا لا يكاد العرب تتكلم به مقدما إلا في الشعر. المعنى: * (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى) * مر معناه * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي: سنقول له قولا جميلا، وسنأمره بما يتيسر عليه، ولا نؤاخذه
[ 382 ]
بما مضى من كفره. * (ثم أتبع سببا) * أي: طريقا آخر من الأرض، ليؤديه إلى مطلع الشمس، ويوصله إلى المشرق، * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) * أي: بلغ موضع ابتداء العمارة من الجانب الذي تطلع منه الشمس * (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) * معناه أنه لم يكن بها جبل، ولا شجر، ولا بناء، لأن أرضهم لم يكن يثبت عليها بناء، فكانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه والأسراب، وإذا غربت، تصرفوا في أمورهم، عن الحسن، وقتادة، وابن جريج. وروى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لم يعلموا صنعة البيوت. وقوله * (كذلك) * معناه: مثل ذلك القبيل. الذي كانوا عند مغرب الشمس، في أن حكمهم حكم أولئك. قيل: إن معناه أنه اتبع سببا إلى مطلع الشمس، مثل ما اتبع سببا إلى مغرب الشمس. وتم الكلام عند قوله * (كذلك) *. ثم ابتدأ سبحانه فقال: * (وقد أحطنا بما لديه خبرا) * أي: علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجيوش، والعدة، وآلات السياسة. وقيل: معناه أحطنا علما بصلاحه واستقلاله بما ملكناه، قبل أن يفعله، كما علمناه بعد أن فعله، ولم يخف علينا حاله. وفي قوله * (بما لديه) *: إشارة إلى حسن الثناء عليه، والرضا بأفعاله لامتثاله أمر الله تعالى في كل أحواله * (ثم أتبع سببا) * معناه: ثم اتبع مسلكا بالغا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض. وهذا يقوي قول من قال: إن الأرض كروية الشكل، لأنه لم يأخذ في الطريق الذي كان قد عاد فيه، وإنما أخذ في طريق آخر. * (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهمون قولا (93) قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال مامكنى فيه ربى خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال ءاتونى أفرغ عليه قطرا (96) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97) قال هذا رحمة من ربى فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء وكان وعد ربى حقا (98)) *. القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: * (بين السدين) *، و * (سدا) * بالفتح هنا،
[ 383 ]
وفي ياسين بالضم. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: * (بين السدين) * بضم السين، و * (سدا) * حيث كان بالفتح. وقرأ حفص: * (الجميع) * بالفتح وقرأ الباقون: الجميع بالضم كل القرآن. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: * (يفقهون) * بضم الياء، وكسر القاف. والباقون بفتح الياء والقاف. وقرأ عاصم: * (يأجوج ومأجوج) * بالهمزة، ومثله في الأنبياء. وقرأ الباقون بغير همزة فيهما في السورتين. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: * (خراجا) * وفي المؤمنين: * (خراجا) * * (فخراج ربك) * كله بالألف. والباقون: * (خرجا) * بغير ألف في الموضعين * (فخراج ربك) * بالألف. وقرأ ابن كثير: * (ما مكنني) * بنونين. والباقون بنون واحدة مشددة. وقرأ يحيى، عن أبي بكر: * (ردما اتوني) * بالوصل. وقرأ حمزة، ويحيى، عن أبي بكر: * (قال ايتوني) * بالوصل أيضا. والباقون: * (آتوني) * بقطع الألف في الحرفين. وقرأ أهل المدينة، والكوفة، غير أبي بكر: * (بين الصدفين) * بفتح الصاد، والدال. وقرأ الباقون بضم الصاد والدال، غير أبي بكر، فإنه قرأ بضم الصاد، وسكون الدال. وقرأ حمزة، غير خلاد: * (فما اسطاعوا) * مشددة الطاء. والباقون: خفيفة الطاء. وقرأ أهل الكوفة: * (دكاء) * بالمد والهمزة. والباقون: * (دكا) * منونا غير مهموز. الحجة: قال أبو عبيدة: كل شئ وجدته العرب من فعل الله، من الجبال، والشعاب، فهو سد بالضم. وما بناه الآدميون فهو سد. وقال غيره: هما لغتان كالضعف والضعف، والفقر والفقر قال أبو علي: يجوز أن يكون السد بالفتح مصدرا. والسد بالضم المسدود، كالأشياء التي يفصل فيها بين المصادر والأسماء، نحو السقي والسقي. والشرب والشرب. فإذا كان كذلك، فالأشبه بين السدين، لأنه المسدود. ويجوز فيمن فتح السدين أن يجعله إسما للمسدود، نحو: نسج اليمن، وضرب الأمير، بمعنى المنسوج والمضروب. ومن قرأ * (لا يكادون يفقهون) * فإن فقهت يتعدى إلى مفعول واحد، نحو فقهت السنة. فإذا نقلته تعدى إلى مفعولين، فيكون المعنى فيمن ضم: لا يكادون يفقهون أحدا قولا، فحذف أحد المفعولين كما حذف من قوله * (فاتبعوهم مشرقين) *، والمعنى: فاتبعوهم جندهم مشرقين. وقوله * (فأتبعهم فرعون وجنود ه) * أي: فأتبعهم فرعون طلبه إياهم، أو تتبعه لهم، والحذف في هذا النحو كثير. قال أبو علي: يأجوج إن جعلته عربيا فهو يفعول من أج، نحو يربوع. ومن لم
[ 384 ]
يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة، فقلبها ألفا، فهو على قوله يفعول أيضا. وإن كانت الألف في * (يأجوج) * ليس على التخفيف، فإنه فاعول من ي ج ج فإن جعلت الكلمة من هذا الأصل، كانت الهمزة فيها كمن قال سأق (1)، ونحو ذلك مما جاء مهموزا. ولم يتبع أن يهمز، ويكون الإمتناع من صرفه على هذا للتأنيث، والتعريف، كأنه اسم القبيلة كمجوس. وأما مأجوج فمن همز فمفعول من اج فالكلمتان على هذا من أصل واحد، ومن لم يهمز فإنه فاعول من مج فالكلمتان على هذا من أصلين، وليسا من أصل واحد. ويكون ترك الصرف فيه أيضا للتعريف والتأنيث، فإن جعلتهما من العجمية فهذه التمثيلات لا تصح فيهما، وإنما امتنعا من الصرف للعجمة والتعريف، وقوله * (هل نجعل لك خرجا) * أي: هل نجعل لك عطية نخرجها إليك من أموالنا، وكذلك قوله * (أم تسألهم خرجا) * أي: مالا يخرجونه إليك. فأما المضروب على الأرض فالخراج، وقد يجوز في غير ضرائب الأرض الخراج، بدلالة قول العجاج: (يوم خراج يخرج السمرجا) (2) فهذا ليس على الضرائب التي ألزمت الأرضين، لأن ذلك لا يضاف إلى وقت من يوم وغيره، وإنما هو شئ مؤبد لا يتغير. وقوله * (ما مكني) *: بإظهار المثلين، فلأن الثاني منهما غير لازم لأنك قد تقول: قد مكنتك، ومكنته، فلا تلزم النون. فلما لم تلزم لم يعتد بها. كما أن التاء في * (اقتتلوا) * كذلك ومن أدغم لم ينزله منزلة ما لا يلزمم، فأدغم كما أن من قال قتلوا في اقتتلوا كان كذلك. قال أبو علي: ومكن مكانه فهو مكين، فعل غير متعد، فإذا ضعفت العين، عديته بذلك. وحجة من قرأ * (ردما ايتوني) *: ايتوني إن أشبه بأعينوني بقوة، لأنه كلفهم المعونة على عمل السد، ولم يقبل الخرج الذي بذلوه له. وقوله: * (ايتوني) * الذي معناه: جيؤني، إنما هو معونة على ما كلفهم في قوله * (فأعينوني بقوة) * وأما آتوني فمعناه: أعطوني، فأعطوني يجوز أن يكون على المناولة، ويجوز أن يكون على الاتهاب. وائتوني المقصورة لا يحتمل الاجيئوني، فيكون أحسن هنا، لاختصاصه (1) السأق: لغة في الساق. (2) السمرج: إستخراج الخراج في ثلاث مرات، فارسي معرب. (*)
[ 385 ]
بالمعونة فقط، دون أن يكون سؤال عين، والعطية قد تكون هبة قال: ومنا الذى أعطى الرسول عطية أسارى تميم، والعيون دوامع فالعطية تجري مجرى الهبة لهم، والإنعام عليهم، في فك الأسر. وقد تكون بمعنى المناولة. ووجه قراءة من قرأ * (آتوني) *: إنه لم يرد بآتوني العطية والهبة، ولكن تكليف المناولة بالأنفس، كما كان قراءة من قرأ * (أيتوني) * لا يصرف إلى استدعائه تمليك عين بهبة، ولا بغيرها. فأما انتصاب * (زبر الحديد) *: فإنك تقول أئتيك بدرهم قال: أتيت بعبد الله في القيد موثقا، فهلا سعيدا ذا الخيانة، والغدر فيصل الفعل إلى المفعول الثاني بحرف جر. ثم يجوز أن يحذف الحرف اتساعا فيصل الفعل إلى المفعول الثاني على حد أمرتك الخير، ونحوه. والصدف، والصدف، والصدف، لغات فاشية. قال أبو عبيدة: الصدفان جنبتا الجبل. ومن قرأ * (ائتوني أفرغ عليه قطرا) * فمعناه: جيئوني به كما قلناه في * (ائتوني زبر الحديد) * في اتصال الفعل إلى المفعول الثاني بحرف الجر، إلا أنه أعمل الفعل الثاني، فلو أعمل الفعل الأول، لكان ائتوني أفرغه عليه بقطر، إلا أن يقدر أن الفعل يصل إلى المفعول الثاني بلا حرف، كما كان كذلك في قوله * (ائتوني زبر الحديد) *. وجميع ما مر بنا في التنزيل من هذا النحو، إنما هو على إعمال الثاني، كما يختاره سيبويه. فمن ذلك قوله. * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) *، ومنه قوله: * (هاؤم اقرأوا كتابيه) *. ووجه من قرأ * (آتوني) *: إن المعنى ناولوني قطرا أفرغ عليه قطرا، إلا أنه أعمل الثاني من الفعلين، كما أعمل الثاني من قصر ائتوني. وقراءة حمزة * (فما اسطاعوا) *: إنما هو على ادغام التاء في الطاء، ولم يلق حركتها على السين، فيحرك ما لا يتحرك، ولكن أدغم مع أن الساكن الذي قبل المدغم ليس حرف مد وقد قرأت القراء غير حرف من هذا النحو، وقد تقدم ذكر وجه هذا النحو ومما يؤكد ذلك أن سيبويه أنشد: كأنه بعد كلال الزاجر ومسحه مر عقاب كاسر (1) (1) مر البيت مفسرا في ج 1 من هذا التفسير فراجع. (*)
[ 386 ]
والحذف في اسطاعوا. والإثبات في استطاعوا. كل واحد منهما أحسن من الإدغام على هذا الوجه الذي هو جمع بين السين الساكنة، والتاء المدغمة، وهي ساكنه أيضا. وأما قوله: * (جعله دكا) * فإنه يحتمل أمرين أحدهما: إنه لما قال جعله دكا، كان بمنزلة خلق وعمل، فكأنه قال: دكه دكا، فحمله على الفعل الذي دل عليه قوله * (جعله) * والوجه الآخر: أن يكون جعله ذا دك، فحذف المضاف، ويمكن أن يكون حالا في هذا الوجه. ومن قرأ * (دكاء) *: فعلى حذف المضاف، كأنه جعله مثل دكاء. قالوا: ناقة دكاء أي: لا سنام لها. ولا بد من تقدير الحذف، لأن الجبل مذكر، فلا يوصف بدكاء. اللغة: السد: وضع ما ينتفي به الخرق، يقال: سده يسده، ومنه سدد السهم، لأن سد عليه طرق الإضطراب. ومنه السداد: الصواب. والردم: السد، والحاجز، يقال ردم فلان موضع كذا يردمه ردما. والثوب المردم: الخلق المرقع، ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم ؟ أم هل عرفت الدار بعد توهم أي: هل تركوا من قول يؤلف تأليف الثوب المرقع. والزبرة: الجملة المجتمعة من الحديد، والصفر ونحوهما، وأصله الإجتماع، ومنه الزبور. وزبرت الكتاب: إذا كتبته، لأنك جمعت حروفه. قال أبو عبيدة: القطر: الحديد المذاب، وأنشد: حسام كلون الملح صاف حديده جراز من أقطار الحديد المنعت (1) وأصله من القطر، لأن الرصاص والحديد إذا أذيب قطر، كما يقطر الماء. وفي استطاع ثلاث لغات: استطاع يستطيع، واسطاع يسطيع، واستاع يستيع، بحذف الطاء، استثقلوا اجتماعهما، وهما من مخرج واحد. فأما اسطاع يسطيع بقطع الألف، وهو أطاع أفعل، فزادوا السين عوضا من ذهاب حركة الواو، لأن أصل أطاع أطوع. ومثله: اهراق يهريق، زادوا الهاء في أراق يريق. وليس هذا العوض بلازم. ألا ترى أن ما كان نحوه لم يلزمه هذا العوض. (1) سيف جراز: قاطع. (*)
[ 387 ]
المعنى: * (حتى إذا بلغ بين السدين) * ثم أخبر سبحانه عن حال ذي القرنين بعد منصرفه عن المشرق، أنه سلك طريقا إلى أن بلغ بين السدين، ووصل إلى ما بينهما، وهما الجبلان اللذان جعل الردم بينهما، وهو الحاجز بين يأجوج ومأجوج، ومن وراءهم، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقيل: أراد بالسدين الموضع الذي فيه السدان اليوم، لأنه لو كان هناك سد، لم يكن لطلبهم السد معنى. والسد: الموضع المسدود، لا المنفتح * (وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا) * أي خصوا بلغة كادوا لا يعرفون غيرها. قال ابن عباس: كادوا لا يفقهون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم. وإنما قال * (لا يكادون) * لأنهم فهموا بعض الأشياء عنهم، وإن كان بعد شدة، ولذلك حكى الله عنهم أنهم * (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) * ويجوز أن يكون الله سبحانه فهم ذا القرنين لسانهم، كما فهم سليمان عليه السلام منطق الطير، أو قالوا له بترجمان: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في أرضهم، وفسادهم أنهم كانوا يخرجون فيقتلونهم، ويأكلون لحومهم ودوابهم. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يدعون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، عن الكلبي. وقيل: أرادوا أنهم سيفسدون في المستقبل عند خروجهم. وورد في الخبر عن حذيفة قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه، كل قد حمل السلاح. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول الله ! وما الأرز ؟ قال: شجر بالشام، طوال. وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم خيل، ولا حديد. وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه، ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل، ولا وحش، ولا جمل، ولا خنزير، إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان. يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية. قال وهب، ومقاتل: إنهم من ولد يافث بن نوح أبي الترك. وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجه. وقال قتادة: إن ذا القرنين بنى السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة منهم قبيلة دون السد، فهم الترك. وقال كعب: هم نادرة في ولد بني آدم، وذلك أن آدم عليه السلام احتلم ذات يوم، وامتزجت نطفته بالتراب، فخلق الله
[ 388 ]
من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم. وهذا بعيد وقوله * (فهل نجعل لك خرجا) * أو خراجا معناه: فهل نجعل لك بعضا من أموالنا * (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) * أي: حائطا. وقيل في الفرق بين الخرج والخراج: إن الخراج اسم لما يخرج من الأرض. والخرج: اسم لما يخرج من المال. وقيل: الخراج: الغلة، والخرج: الأجرة. وقيل: الخراج: ما يؤخذ عن الأرض، والخرج ما يؤخذ عن الرقاب، قاله أبو عمرو. وقيل: الخراج: ما يؤخذ في كل سنة. والخرج: ما يؤخذ دفعة عن تغلب. * (قال) * ذو القرنين * (ما مكني فيه ربي خير) * أي: أعطاني ربي من المال، ومكني فيه من الإتساع في الدنيا، خير مما عرضتموه علي من الأجر * (فأعينوني بقوة) * أي: برجال، فيكون معناه: بقوة الأبدان. وقيل: بعمل تعملونه معي، عن الزجاج. وقيل: بآلة العمل وذلك زبر الحديد، والصفر * (أجعل بينكم وبينهم ردما) * أي: سدا وحاجزا. قال ابن عباس: الردم أشد الحجاب. وقيل: هو السد المتراكب بعضه على بعض * (آتوني زبر الحديد) * أي: أعطوني قطع الحديد، أو جيئوا بقطع الحديد على القراءة الأخرى. وفي الكلام حذف، وهو أنهم أتوه بما طلبه منهم من زبر الحديد، ليعمل الردم في وجوه يأجوج ومأجوج، فبناه. * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) * أي: سوى بين جانبي الجبل، بما جعل بينهما من الزبر. قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان، لتصادفهما أي: تحاذيهما وتلاقيهما. وقيل: هما جبلان كل واحد منهما منعدل عن الآخر، كأنه قد صدف عنه. وقوله: * (قال انفخوا) * معناه: قال ذو القرنين انفخوا النار على الزبر. أمرهم أن يؤتى بمنافخ الحدادين، فينفخوا في نار الحديد التي أوقدت فيه. * (حتى إذا جعله نارا) * أي: حتى إذا جعل الحديد كالنار في منظره من الحمي، واللهب، فصار قطعة واحدة، لزم بعضها بعضا * (قال آتوني أفرغ عليه قطرا) * أي: أعطوني نحاسا مذابا، أو صفرا مذابا، أو حديدا مذابا، أصبه على السدين الجبلين، حتى ينسد الثقب الذي فيه، ويصير جدارا مصمتا. فكانت حجارته الحديد، وطينه النحاس الذائب، عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. قال قتادة: فهو كالبرد المحبر: طريقة سوداء، وطريقة حمراء. * (فما اسطاعوا أن يظهروه) * معناه: فلما تم لم يستطع يأجوج ومأجوج أن يعلوه
[ 389 ]
ويصعدوه. يقال: ظهرت السطح: إذا علوته * (وما استطاعوا له نقبا) * أي: ولم يستطيعوا أن ينقبوا أسفله، لكثافته وصلابته. ونفى بذلك كل عيب يكون في السد وقيل: إن هذا السد وراء بحر الروم، بين جبلين هناك، يلي مؤخرهما البحر المحيط. وقيل: إنه وراء دربند، وخزران، من ناحية أرمينية، واذربيجان. وقيل: إن مقدار ارتفاع السد مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعا * (قال) * ذو القرنين: * (هذا رحمة من ربي) * أي: هذا السد نعمة من الله لعباده، أنعم بها عليهم في دفع شر يأجوج ومأجوج عنهم * (فإذا جاء وعد ربي) * يعني: إذا جاء وقت أشراط الساعة، ووقت خروجهم الذي قدره الله تعالى * (جعله دكاء) * أي: جعل السد أرضا مستويا مع الأرض مدكوكا، أو ذا دك، وإنما يكون ذلك بعد قتل عيسى بن مريم الدجال، عن ابن مسعود. وجاء في الحديث: إنهم يد أبون في حفره نهارهم، حتى إذا أمسوا وكادوا يبصرون شعاع الشمس، قالوا: نرجع غدا ونفتحه، ولا يستثنون. فيعودون من الغد، وقد استوى كما كان، حتى إذا جاء وعد الله، قالوا: غدا نفتح ونخرج إن شاء الله. فيعودون إليه، وهو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه، ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء، فترجع وفيها كهيئة الدماء، فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم (1)، فيدخل في آذانهم فيهلكون بها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفس محمد بيده ! إن دواب الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكرا. وفي تفسير الكلبي: إن الخضر وأليسع، يجتمعان كل ليلة على ذلك السد، يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج * (وكان وعد ربي حقا) * أي: وكان ما وعد الله بأن يفعله لا بد من كونه، فإنه حق، إذ لا يجوز أن يخلف وعده. * (* وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99) وعرضنا جهنم يؤمئذ للكافرين عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا (101) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا (1) النغف: دود يسقط من أنوف الإبل والغنم. وقيل: دود أبيض يكون في النوى إذا انقع. (*)
[ 390 ]
أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102) قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بايات ربهم ولقآئه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى ورسلي هزوا (106)) *. القراءة: قرأ أبو بكر في رواية الأعشى، والبرجمي عنه، وزيد عن يعقوب: * (أفحسب الذين كفروا) * برفع الباء، وسكون السين، وهو قراءة أمير المؤمنين عليه السلام، وابن يعمر، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن أبي ليلى، وهذا من الأحرف التي اختارها أبو بكر وخالف عاصما فيها، وذكره أنه أدخلها في قراءة عاصم من قراءة أمير المؤمنين عليه السلام حتى استخلص قراءته. وقرأ الباقون: * (أفحسب) * بكسر السين، وفتح الباء. الحجة: قال ابن جني معناه: أفحسب الكافرين وحظهم ومطلوبهم، أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، بل يجب أن يعبدوا أنفسهم مثلهم، فيكون كلهم عبيدا وأولياء لي، ونحوه قوله تعالى * (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) * أي: اتخذتهم عبيدا لك. وهذا أيضا هو المعنى إذا كانت القراءة * (أفحسب الذين كفروا) * إلا أن * (حسب) * ساكنة السين، أذهب في الذم لهم، وذلك لأنه جعله غاية مرادهم، ومجموع مطلوبهم، وليست القراءة الأخرى كذلك. اللغة: الترك: التخلية. والتريكة: بيضة النعام، كأنها تركت بالعراء. والتريكة أيضا: الروضة يغفلها الناس فلا يرعونها. والترك ضد الأخذ. والترك في الحقيقة لا يجوز على الله تعالى، وإنما يجوز على العاذر بعذره، إلا أنه يتوسع فيه فيعبر فيه عن الإخلال بالشئ بالترك. والموج: اضطراب الماء بتراكب بعضه على بعض. والنزل: ما يهيأ للنزيل، وهو الضيف. قال الشاعر: نزيل القوم أعظمهم حقوقا، وحق الله في حق النزيل وطعام ذو نزل ونزل بفتح النون والزاي أيضا: ذو فضل. الاعراب: * (أن يتخذوا) * في موضع نصب بوقوع حسب عليه. ومن قرأ
[ 391 ]
* (فحسب) * بالرفع، وسكون السين، فإن يتخذوا في موضع رفع. * (أعمالا) * منصوب على التمييز، لأنه لما قال بالأخسرين كان مبهما، لا يدل على ما خسروه، فبين ذلك الخسران في أي نوع وقع. * (والذين) *. يصلح أن يكون في موضع جر على الصفة للأخسرين، ويصلح أن يكون في موضع رفع على الاستئناف أي: هم الذين ضل سعيهم. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال تلك الأمم، فقال: * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * أي: وتركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد، يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم، ويكون حالهم كحال الماء يتموج باضطراب أمواجه. وقيل: إنه أراد سائر الخلق من الجن والإنس، أي: وتركناهم يوم خروج يأجوج ومأجوج، يختلطون بعضهم ببعض، لأن ذلك علم للساعة. ثم ذكر سبحانه نفخ الصور، فقال: * (ونفخ في الصور) * لأن خروج يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة. واختلف في الصور، فقيل: هو قرن ينفخ فيه، عن ابن عباس، وابن عمر. وقيل: هو جمع صورة، فإن الله سبحانه يصور الخلق في القبور، كما صورهم في أرحام الأمهات، ثم ينفخ فيهم الأرواح، كما نفخ وهم في أرحام أمهاتهم، عن الحسن، وأبي عبيدة. وقيل: إنه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات، فالنفخة الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، التي يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، فيحشر الناس بها من قبورهم. * (فجمعناهم جمعا) * أي: حشرنا الخلق يوم القيامة كلهم في صعيد واحد * (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) * أي: أظهرنا جهنم وأبرزناها لهم حتى شاهدوها، ورأوا ألوان عذابها قبل دخولها. ثم وصف الكافرين، فقال: * (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) * ذكر سبحانه السبب الذي استحفوا به النار، يعني الذين غفلوا عن الإعتبار بقدرتي، الموجب لذكري، وأعرضوا عن التفكر في آياتي ودلائلي، فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك * (وكانوا لا يستطيعون سمعا) * أي: وكان يثقل عليهم سماع القرآن، وذكر الله تعالى كما يقال: فلان لا يستطيع النظر إليك، ولا يستطيع أن يسمع كلامك أي: يثقل عليه ذلك. وأراد بالعين هنا عين القلب، كما يضاف العمى إلى القلب * (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) * معناه: أفحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا
[ 392 ]
من دوني أربابا ينصرونهم، ويدفعون عقابي عنهم، والمراد بالعباد: المسيح والملائكة الذين عبدوهم من دون الله، وهم براء منهم، ومن كل مشرك بالله تعالى. وقيل: معناه أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا من دوني آلهة، وأنا لا أغضب لنفسي عليهم، ولا أعاقبهم، عن ابن عباس. ويدل على هذا المحذوف قوله: * (إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) * أي: منزلا، عن الزجاج، وهو معنى قول ابن عباس، يريد هي مثواهم ومصيرهم. وقيل: معناه إنا جعلنا جهنم معدة، مهيأة للكافرين عندنا، كما يهيأ النزل للضيف. * (قل) * يا محمد * (هل ننبئكم) * أي: هل نخبركم * (بالأخسرين أعمالا) * أي: بأخسر الناس أعمالا، والمعنى بالقوم الذين هم أخسر الناس فيما عملوا وهم كفار أهل الكتاب، اليهود، والنصارى * (الذين ضل سعيهم) * أي: بطل عملهم واجتهادهم. * (في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * أي: يظنون أنهم بفعلهم محسنون، وأن أفعالهم طاعة وقربة. وروى العياشي بإسناده قال: قام ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فسأله عن أهل هذه الآية، فقال: أولئك أهل الكتاب، كفروا بربهم، وابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم، وما أهل النهر منهم ببعيد - يعني الخوارج - * (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم) * أي: جحدوا بحجج الله وبيناته، ولقاء جزائه في الآخرة، فبطلت وضاعت أعمالهم التي عملوها، لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه الذي أمرهم الله به * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * أي: لا قيمة لهم عندنا، ولا كرامة، ولا نعتد بهم، بل نستخف بهم، ونعاقبهم. تقول العرب: ما لفلان عندنا وزن أي: قدر ومنزلة. ويوصف الجاهل بأنه لا وزن له، لخفته بسرعة بطشه، وقلة تثبته. وروي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن جناح بعوضة * (ذلك جزاؤهم جهنم) * معناه: الأمر ذلك الذي ذكرت من حبوط أعمالهم، وخيبة قدرهم. ثم ابتدأ سبحانه فقال: جزاؤهم جهنم * (بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) * أي: بكفرهم واتخاذهم آياتي أي: أدلتي الدالة على توحيدي، يعني القرآن، ورسلي هزوا أي مهزوءا به. * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107) خالدين
[ 393 ]
فيها لا يبغون عنها حولا (108) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا (109) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: * (أن ينفد) * بالياء. والباقون: * (تنفد) * بالتاء. وفي الشواذ قراءة ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وسليمان التيمي: * (ولو جئنا بمثله مدادا) *. الحجة: قال أبو علي: تنفد بالتاء أحسن، لأن المسند إليه للفعل مؤنث، والمذكر حسن أيضا، لأن التأنيث ليعر بحقيقي. ومن قرأ * (مددا) * فهو منصوب على الحال، كما يقال: جئتك بزيد عونا لك، ومددا لك. ويجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مضمر يدل عليه قوله * (ولو جئنا بمثله) * فكأنه قال: أمددنا به امدادا. ثم وضع مددا موضع امدادا. وقال الزجاج: هو منصوب على التمييز. ومن قال: * (جئنا بمثله مدادا) * فإنه ينتصب على التمييز، والمعنى بمثله من المداد، ويكون مثل قولك لي مثله عبدا أي: من العبيد، وعلى التمرة مثلها زبدا أي: من الزبد. اللغة: الفردوس: البستان الذي يجتمع فيه التمر، والزهر، وسائر ما يمتع ويلذ، قال الزجاج: هو البستان الذي يجمع محاسن كاط بستان. قال: وقال قوم: إن الفردوس الأودية التي تنبت ضروبا من النبت. وقالوا: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، ولم نجده في أشعار العرب إلا في بيت حسان: فإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد والحول: التحول، يقال: قد حال من مكانه حولا، كما قالوا في المصادر صغر صغرا، وعظم عظما، وعاد في حبها عودا. وقيل: إن الحول أيضا الحيلة. وقيل: إن الحول بمعنى التحويل، يقال: حولوا عنها تحويلا، وحولا، عن الأزهري، وابن الأعرابي. والمداد: التي يكتب به. والمدد: المصدر، وهو مجئ شئ بعد شئ. والكلمة: الواحدة من الكلام، وقد يقال للقصيدة كلمة، لأنها قطعة واحدة من الكلام ومما يسأل عنه فيقال: وإن الكلمات لأقل العدد، فكيف جاء بها هاهنا ؟ والجواب: إن العرب تستغني بالجمع القليل عن الجمع الكثير،
[ 394 ]
وبالكثير عن القليل، قال الله تعالى: * (وهم في الغرفات آمنون) * والغرف في الجنة أكثر من أن تحصى. وقال * (هم درجات عند الله) * وقال حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (1) وكان أبو علي الفارسي ينكر الحكاية التي تروى عن النابغة، وأنه قال لحسان: قللت جفناتكم وأسيافكم (2). فقال: لا يصح هذا عن النابغة. الاعراب: إن جعلت * (نزلا) * بمعنى المنزل فهو خبر كان على ظاهره. وإن جعلته بمعنى ما يقام للنازل قدرت المضاف على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمهما نزلا. ويجوز أن يكون * (نزلا) * جمع نازل، فيكون نصبا على الحال من الضمير في * (لهم) *. ومعنى كان أنه كان في علم الله تعالى قبل أن يخلقوا، عن ابن الأنبازي. وقوله * (فليعمل) * يجوز كسر اللام وإسكانها، والأصل الكسر إلا أنه يثقل في الفظ. المعنى: لما تقدم ذكر حال الكافرين، عقبه سبحانه بذكر حال المؤمنين، فقال: * (إن الذين آمنوا) * أي: صدقوا الله ورسوله * (وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس) * أي: كان في حكم الله وعلمه لهم بساتين الفردوس، وهو أطيب موضع في الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأرفعها، عن قتادة. وقيل: هو الجنة الملتفة الأشجار، عن قتادة. وقيل: هو البستان الذي فيه الأعناب، عن كعب. وروى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس. (1) الجفنات: القصاع. والغر: البيض. أراد أنها بيض من كثرة الشحم، وبياض اللحم. يصف قومه بالجود والشجاعة. (2) حكي أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. فصدف أن أنشده حسان يوما هذا البيت، فقال النابغة: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك، أراد إن أسياف: جمع لأدنى العدد، والكثير السيوف، والجفنات كذلك لأدنى العدد، والكثير الجفان. وفي هذا البيت كلام للخنساء أيضا فإنها قالت لحسان: لقد قلت: (يلمعن بالضحى) وكان حقه بالدجى، وقلت: (الغر) وكان حقه البيض. (ويقطرن) وكان الأجمل يسلن، أو يفضن. (*)
[ 395 ]
* (نزلا) * أي منزلا ومأوى. وقيل: ذات نزول * (خالدين فيها) * أي: دائمين فيها * (لا يبغون عنها حولا) * أي: لا يطلبون عن تلك الجنات تحولا إلى موضع آخر لطيبتها، وحصول مرادهم فيها. ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (قل) * يا محمد لجميع المكلفين * (لو كان البحر) * وهو اسم الجنس أي: لو كان البحر بمائه * (مدادا لكلمات ربي) * أي: مدادا ليكتب به ما يقدر الله عليه من الكلام والحكم. وقيل: أراد بالكلمات ما يقدر سبحانه على أن يخلقه من الأشياء، ويأمر به، كما قال في عيسى عليه السلام: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) *. وقيل: أراد بالكلمات ما وعد لأهل الثواب، وأوعد لأهل العقاب، عن أبي مسلم * (لنفد البحر) * أي: لفني ماء البحر * (قبل أن تنفد كلمات ربي) * وقيل: إن كلماته المراد بها مقدوراته، وحكمته، وعجائبه. وقوله: * (ولو جئنا بمثله مددا) * أي. ولو جئنا بمثل البحر مددا له أي: عونا وزيادة، لما نفد ذلك. وقيل: أراد بكلمات ربي: معاني كلمات ربي، وفوائدها، وهي القرآن، وسائر كتبه، ولم يرد بذلك أعيان الكلمات، لأنه قد فرغ من كتابتها، فيكون تقدير قل لو كان البحر مدادا لكتابة معاني كلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كتابة معاني كلمات ربي. فحذف، لأن المعنى مفهوم. والمداد: هو الجائي والآتي شيئا بعد شئ. قال ابن الأنباري: سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب. ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مدادا. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال لما نزل قوله * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، وفيها علم كثير، فأنزل الله هذه الآية. ولذلك قال الحسن: أراد بالكلمات العلم، فإنه لا يدرك، ولا يحصى، ونظيره * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) * الآية. ثم قال: * (قل) * يا محمد * (إنما أنا بشر مثلكم) * قال ابن عباس: علم الله نبيه لتواضع، لئلا يزهى على خلقه، فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله * (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) * لا شريك له أي: لا فضل لي عليكم إلا بالدين والنبوة ولا علم لي إلا ما علمنيه الله تعالى * (فمن كان يرجوا لقاء ربه) * أي: فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه، ويأمله، ويقر بالبعث إليه، والوقوف بين يديه. وقيل: معناه فمن كان يخشى لقاء عقاب ربه. وقيل: إن الرجاء يشتمل على كلا المعنيين الخوف والأمل. وأنشد في ذلك قول الشاعر:
[ 396 ]
فلا كل ما ترجو من الخير كائن، ولا كل ما ترجو من الشر واقع * (فليعمل عملا صالحا) * أي: خالصا لله تعالى يتقرب به إليه * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * غيره من ملك، أو بشر، أو حجر، أو شجر، عن الحسن. وقيل: معناه لا يرائي في عبادته أحدا، عن سعيد بن جبير. وقال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني أتصدق، وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيذكر ذلك مني، وأحمد عليه، فيسرني ذلك، وأعجب به ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل شيئا فنزلت الآية. قال عطاء: عن ابن عباس: إن الله تعالى قال: * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * ولم يقل، ولا يشرك به، لأنه أراد العمل الذي يعمل لله، ويحب أن يحمد عليه. قال: ولذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها، كيلا يعظمه من يصله بها. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: قال الله، عزوجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه برئ) فهو للذي أشرك. أورده مسلم في الصحيح. وروي عن عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: من صلى صلاة يرائي بها، فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به، فقد أشرك، ثم قرأ هذه الآية. وروي أن أبا الحسن الرضا عليه السلام، دخل يوما على المأمون، فرآه يتوضأ للصلاة، والغلام يصب على يده الماء، فقال: لا تشرك بعبادة ربك أحدا ! فصرف المأمون الغلام، وتولى إتمام وضوئه بنفسه. وقيل: إن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن. وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: ما من عبد يقرأ * (قل إنما أنا بشر مثلكم) * إلى آخره، إلا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام، فإن كان من أهل البيت الحرام، كان له نورا إلى بيت المقدس. وقال أبو عبد الله عليه السلام: ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم، إلا يتيقظ في الساعة التي يريدها. النظم: وجه اتصال الآية الثانية وهي قوله: * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * بما قبلها، أنه لما تقدم الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وعقب ذلك سبحانه ببيان أن مقدوراته لا تتناهى، وأنه قادر على ما يشاء في أفعاله وأوامره، على حسب المصالح، فمن الواجب على المكلف أن يمتثل أمره ونهيه، ويثق بوعده، ويتقي وعيده.
[ 397 ]
19 - سورة مريم مكية وآياتها ثمان وتسعون وهي مكية بالإجماع. عدد آيها: وهي ثمان وتسعون آية عراقي شامي، والمدني الأول، وتسع مكي، والمدني الأخير. إختلافها: ثلاث آيات كهيعص كوفي الرحمن مدا غير الكوفي في الكتاب، إبراهيم مكي، والمدني الأخير. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا، وكذب به، ويحيى، ومريم، وعيسى، وموسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، عشر حسنات، وبعدد من دعى لله ولدا، وبعدد من لم يدع له ولدا. وقال الصادق عليه السلام: من أدمن قراءة سورة مريم، لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه، وماله، وولده، وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام، وأعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة الكهف بذكر التوحيد، والدعاء إليه، وافتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الذين كانوا على تلك الطريقة، بعثا على الإقتداء بهم، والإهتداء بهديهم، وحثا عليه، فقال: بسم الله الرحمان الرحيم * (كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه ندآء خفيا (3) قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم
[ 398 ]
أكن بدعآئك رب شقيا (4) وإنى خفت الموالى من ورآءى وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا (5) يرثنى ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا (6)) *. القراءة: قرأ أبو عمرو: * (كهيعص) * بإمالة ها، وفتح يا وقرأ ابن عامر، برواية ابن ذكوان، وحمزة، وخلف بفتح ها وإمالة يا. وقرأ الكسائي بإمالة ها ويا وروي ذلك عن اليزيدي، عن أبى عمرو، وعن يحيى، عن أبي بكر. والباقون بفتحها. وقرأ أبو عمرو والكسائي: * (يرثني ويرث) * بالجزم فيهما. والباقون بالرفع فيهما. وفي الشواذ قراءة الحسن: * (ذكر رحمة ربك) * وقراءة عثمان وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي الباقر، وابن يعمر، وسعيد بن جبير: * (وأني خفت الموالي) * بفتح الخاء، وتشديد الفاء، وكسر التاء. وقراءة علي بن أبي طالب عليه السلام، وابن عباس، وجعفر بن محمد، وابن يعمر، والحسن، والجحدري، وقتادة، وأبي نهيك: * (يرثني وأرث من آل يعقوب) *. الحجة: قال أبو علي: القول في إمالة هذه الحروف، إنها لا تمتنع، لأنها ليست بحروف معنى، وإنما هي أسماء لهذه الأصوات. قال سيبويه: قالوا بإمالاتها، لأنها أسماء لما يتهجى به، فجازت فيها الإمالة، كما جازت في الأسماء. ويدلك على أنها أسماء، أنك إذا أخبرت عنها، أعربتها، وإن كنت لا تعربها قبل ذلك، كما أن أسماء العدد، إذا أخبرت عنها أعربتها، فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء، فكذلك هذه الحروف. وإذا كانت أسماء ساغت الإمالة فيها فأما من لم يمل، فعلى مذهب أهل الحجاز، وكلهم أخفى نون عين إلا حفصا، فإنه بين النون. وقال أبو عثمان: وبيان النون مع حروف الفم لحن، إلا أن هذه الحروف تجري على الوقف عليها، والقطع لها، عما بعدها، فحكمها البيان، وأن لا تخفى. فكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف، وعلى أنها منفصلة عما بعدها. ومما يبين أنها على الوقف أنهم قالوا ئلاثة أربعة، نقلوا حركة الهمزة إلى الهاء لسكونها، ولم يقلبوها تاء، وإن كانت موصولة. لما كانت النية بها الوقف، فكذلك النون ينبغي أن تبين، لأنها في نية الوقف والإنفصال مما بعدها، ولمن لم يبين أن يستدل بتركهم قطع الهمزة في * (ألم الله) * ألا ترى أن الهمزة لم تقطع، وإن كان ما
[ 399 ]
هي منه في تقدير الإنفصال مما قبله، فكذلك لم يبين النون من عين، لأنها جعلت في حكم الإتصال كما كانت الهمزة فيما ذكرنا، كذلك قال أبو الحسن: التبيين يعني تبيين النون أجود في العربية، لأن حروف الهجاء والعدد يفصل بعضها من بعض. قال: وعامة القراء على خلاف التبيين، ووجهه الرفع في قوله * (يرثني ويرث) * أنه سأل ربه وليا وارثا، وليس المعنى على الجزاء أي: إن وهبته يرث. ووجه الجزم أنه على الجزاء، وجواب الدعاء. ومن قرأ * (يرثني وأرث) * فمعناه التجريد وتقديره: فهب لي وليا يرثني منه وأرث من آل يعقوب، وهذا الوارث نفسه. قال ابن جني: قال: وهذا ضرب من العربية غريب، فكأنه جرد منه وارثا. ومثل قوله تعالى: * (لهم فيها دار الخلد) * وهي نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا، وعليه قول الأخطل: بنزوة لص بعد ما مر مصعب بأشعث لايفلى، ولا هو يقمل ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث. وأما قراءة الحسن * (ذكر رحمة ربك) * فإن فاعل * (ذكر) * ضمير ما تقدم أي: هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف أوله وفاتحته يذكر رحمة ربك. وعلى هذا أيضا يرتفع قوله * (ذكر رحمة ربك) * أي: هذا القرآن ذكر رحمة ربك. وإن شئت كان التقدير: ومما نقص عليك ذكر رحمة ربك. فيكون على الوجه الأول: ذكر خبر مبتدأ. وعلى الوجه الثاني: يكون مبتدأ. ومن قال * (خفت الموالي) * فمعناه: قل بنو عمي وأهلي، ومعنى * (من ورائي) * أي: من أخلفه بعدي. فقوله * (من ورائي) * حال متوقعة محكية أي: متصورا متوقعا كونهم بعدي. ومثله مسألة الكتاب مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي: متصورا به صيده به غدا. اللغة: الوهن: الضعف ونقصان القوة. يقال: وهن يهن وهنا. والإشتعال: إنتشار شعاع النار، وقوله * (واشتعل الرأس شيبا) * من أحسن الإستعارات، والمعنى اشتعل الشيب في الرأس، وانتشر كما ينتشر شعاع النار. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدا: قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد: إن تري رأسي أمسى واضحا سلط الشيب عليه فاشتعل والدعاء: طلب الفعل من المدعو، وفي مقابلته الإجابة. كما أن في مقابلة الأمر الطاعة. والمولى: أصله من الولي، وهو القرب، وسمي ابن العم مولى، لأنه
[ 400 ]
يليه في النسب. وقال ابن الأنباري، في كتاب مشكل القرآن: المولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام: المنعم المعتق، والمنعم عليه المعتق، والولي، والأولى بالشئ، وابن العم، والجار، والصهر، والحليف. واستشهد على كل قسم من هذه الأقسام بشئ من الشعر، ومما استشهد به في أنه بمعنى الولي، والأولى قول الأخطل: فأصبحت مولاها من الناس بعده، وأحرى قريش أن تهاب، وتحمدا وقوله أيضا يخاطب بني أمية: أعطاكم الله جدا تنصرون به لاجد إلا صغير بعد محتقر لم يأشروا فيه إذ كانوا مواليه، ولو يكون لقوم غيرهم أشروا والعاقر: المرأة التي لا تلد، يقال: إمرأة عاقر، ورجل عاقر لا يولد له ولد. قال الشاعر: لبئس الفتى إن كنت أسود عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر والعقر في البدن: الجرح، ومنه أخذ العاقر، لأنه نقص أصل الخلقة، إما بالجراحة، وإما بامتناع الولادة. وعقرت الفرس بالسيف: ضربت قوائمه. والجعل: على أربعة أقسام: بمعنى الإحداث كقولهم جعل البناء أي: أحدثه، وبمعنى أن يحدث ما يتغير به، كقولهم: جعل الطين خزفا. وبمعنى أن يحدث فيه حكما كقولهم: جعل فلانا فاسقا أي: بما أحدث فيه من حكمه وتسميته. وبمعنى أن يحدث ما يدعوه إلى أن يفعل كقولهم: جعله أن يقتل زيدا أي: بأن أمره به، ودعاه إلى قتله. الاعراب: * (ذكر) *: مرتفع بالمضمر، وتقديره هذا الذي يتلوه عليك ذكر رحمة ربك، وهو مصدر مضاف إلى ما هو المفعول في المعنى. و * (رحمة) *: مصدر مضاف إلى الفاعل. و * (عبده) *: مفعول رحمة. و * (زكريا) *: بدل من * (عبده) *، أو عطف بيان. ويقرأ بالقصر والمد. وقوله * (قال رب إني وهن العظم مني) * بيان، وتفسير للنداء الخفي. و * (شيبا) *: منصوب على التمييز، والتقدير واشتعل الرأس من الشيب بدعائك تقديره بدعائي إياك، فالمصدر مضاف إلى المفعول كقوله من دعاء الخير، وبسؤال نعجتك.
[ 401 ]
المعنى: * (كهيعص) * قد بينا في أول البقرة اختلاف العلماء في الحروف المعجم التي في أوائل السور، وشرحنا أقوالهم هناك. وحدث عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: إن كاف: من كريم. وها: من هاد. وياء: من حكيم. وعين: من عليم. وصاد: من صادق. وفي رواية عطا، والكلبي عنه: إن معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده. وعلى هذا فإن كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله، عزوجل. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص. * (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) * أي: هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده، ويعني بالرحمة: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. وزكريا اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل، كان من أولاد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران. وقيل: إن معناه ذكر ربك عبده بالرحمة * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * أي: حين دعا ربه دعاء خفيا خافيا، سرا غير جهر، يخفيه في نفسه، لا يريد به رياء. وفي هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء، وأن ذلك أقرب إلى الإجابة. وفي الحديث: (خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي). وقيل إنما أخفاه لئلا يهزأ به الناس، فيقول: انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر. * (قال رب إني وهن العظم مني) * أي: ضعف، وإنما أضاف الوهن إلى العظم، لأن العظم مع صلابته إذا ضعف وتناقص، فكيف باللحم والعصب. وقيل: إنما خص العظم، لأنه شكا ضعف البطش. والبطش إنما يكون بالعظم دون اللحم وغيره. * (واشتعل الرأس شيبا) * معناه: إن الشيب قد عم الرأس، وهو نذير الموت، عن أبي مسلم. وقيل: معناه تلألا الشيب في رأسي لكثرته، عن ابن الأنباري وصف حاله خضوعا، وتذللا، لا تعريفا. * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * أي: ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيبا محروما. والمعنى: إنك قد عودتني حسن الإجابة، وما خيبتني فيما سألتك، ولا حرمتني الإستجابة فيما دعوتك، فلا تخيبني فيما اسألك، ولا تحرمني إجابتك فيما أدعوك. يقال: شقي فلان بحاجته: إذا تعب بسببها، ولم يحصل مطلوبه منها. * (وإني خفت الموالي) * وهم الكلالة، عن ابن عباس. وقيل: العصبة عن مجاهد. وقيل هم: العمومة وبنو العم، عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: بنو العم،
[ 402 ]
وكانوا أشرار بني إسرائيل، عن الجبائي. وقيل: هم الورثة، عن الكلبي. * (من ورائي) * أي: من خلفي * (وكانت امرأتي عاقرا) * أي: عقيما لا تلد * (فهب لي من لدنك وليا) * أي: ولدا يليني، فيكون أولى بميراثي * (يرثني) * إن قرأته بالجزم فالمعنى إن تهبه لي يرثني. وإن رفعته جعلته صفة لولي، والمعنى وليا وارثا لي * (ويرث من آل يعقوب) * وهو يعقوب بن ماتان، وأخوه عمران بن ماتان، أبو مريم، عن الكلبي، ومقاتل. وقيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، لأن زكريا كان متزوجا بأخت أم مريم بنت عمران، ونسبها يرجع إلى يعقوب، لأنها من ولد سليمان بن داود عليه السلام، وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون، وهو من ولد لاوي بن يعقوب، عن السدي. ثم اختلف في معناه فقيل: معناه يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، عن أبي صالح. وقيل: معناه يرث نبوتي، ونبوة آل يعقوب، عن الحسن، ومجاهد. واستدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يورثون المال، وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة، بأن قالوا: إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة، لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث، كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضا، فإن زكريا عليه السلام قال في دعائه * (واجعله رب رضيا) * أي: إجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك، ممتثلا لأمرك. ومتى حملنا الإرث على النبوة، لم يكن لذلك معنى، وكان لغوا عبثا. ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد اللهم إبعث لنا نبيا، واجعله عاقلا مرضيا في أخلاقه، لأنه إذا كان نبيا، فقد دخل الرضا، وما هو أعظم من الرضا في النبوة. ويقوي ما قلناه: إن زكريا صرح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: * (وإني خفت الموالي من ورائي) * وإنما يطلب وارثا لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة. والعلم، لأنه عليه السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل للنبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته. فإن قيل: إن هذا يرجع عليكم في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه ؟ قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يرزق المؤمن
[ 403 ]
والكافر، والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد، أن يظفروا بماله، فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية الفساق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة، محظورة في الدين. فمن عد ذلك بخلا وضنا، فهو غير منصف. وقوله * (خفت الموالي من ورائي) * يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم، ومعاني فيهم لا من أعيانهم، كما أن من خاف الله تعالى، فإنما خاف عقابه. فالمراد به: خفت تضييع الموالي مالي، وإنفاقهم إياه في معصية الله تعالى. * (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7) قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) قال رب اجعل لئ اية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11)) *. القراءة: قرأ حمزة والكسائي عتيا، وصليا، وجثيا، وبكيا بكسر أوائلها. وحفص كذلك إلا في * (بكيا) * فإنه يضم الباء منها. والباقون بالضم في الجميع. وقرأ حمزة والكسائي: * (خلقناك) *. والباقون: * (خلقتك) *. الحجة: قال أبو على: إعلم أن ما كان على فعول كان على ضربين أحدهما: أن يكون جمعا. والآخر: أن يكون مصدرا. وقد جاءت أحرف في غير المصادر، وهي قليلة. والجمع إذا كان على فعول من معتل اللام، جاء على ضربين أحدهما: أن يكون اللام واوا والآخر: أن يكون ياء. فما كانت اللام منه واوا من هذه الجموع، قلبت إلى الياء، وذلك نحو حقو، وحقي، وعصا وعصي. وقد جاءت حروف قليلة من ذلك على الأصل. فمن ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم: إنكم لتنظرون في نجو كثيرة. وقولهم: فتو في جمع فتى. فما كان كذلك، فإن كسر الفاء فيه مطرد، وذلك نحو ولي، وحقي، وعصي، وإنما جاز ذلك، لأنها غيرت
[ 404 ]
تغييرين، وهما: إن الواو التي هي لام قلبت، والواو التي كانت قبلها قلبت أيضا، فلما غيرت تغييرين، قويا على هذا التغيير من كسر الفاء، وأما ما كان لامه ياء، نحو: ثدي، وحلي، ونجي: فقد كسروا الفاء أيضا منه، فقالوا: حلي وثدي، وإن لم يغير تغييرين. فقد أجروا الياء هاهنا مجرى الواو. كما أجروا الياء في أتسر واتبس، افتعل من اليسر واليبس، مجرى الواو. وفي اتصل واتهب. فأما ما كان من ذلك مصدرا فما كان من الواو فالقياس فيه أن يصح نحو العتو والعلو، لأن واوه لم يلزمها الإنقلاب، كما لزمها الإنقلاب في الجمع، ولكن لما كانوا قد قلبوا الواو في هذا النحو، وإن كان مفردا نحو معدى ومرضى، قلبوا ذلك أيضا في نحو عتي. ثم أجرى المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه. فأما ما كان من هذه المصادر من الياء فليس يستمر الكسر في فائه، كما استمر في الجمع، وفي المصادر التي من الواو. ألا ترى أن المضي في نحو فما استطاعوا مضيا ليس أحد يروي فيه الكسر، فيما علمنا. وحكى أبو عمرو، عن أبي زيد آوى إليه، إويا، ومما يؤكد الكسر في هذا النحو، أنهم قد قالوا قسي، فألزموها كسر القاف، وذلك أنه قلبت الواو إلى موضع اللام. فلما وقعت موقعها، قلبت كما تقلب الواو إذا كانت لاما، وكسرت الفاء، وألزمت الكسرة. وحجة من قال قد خلقتك أن قبله * (قال ربك) *. وحجة من قال * (خلقناك) * قوله فيما بعد: * (وحنانا من لدنا) *، ولأنه قد جاء بلفظ الجمع بعد لفظ الإفراد، قال سبحانه: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * ثم قال * (وآتينا موسى الكتاب) *. اللغة: الغلام: اسم المذكر أول ما يبلغ، ومنه اشتق اغتلم الرجل: إذا اشتدت شهوته للجماع. ثم يستعمل في التلميذ، فيقال: غلام تغلب. العتي والعسي بمعنى، يقال: عتا يعتو عتوا وعتيا، وعسى يعسو عسوا وعسيا، فهو عات وعاس: إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبسس والجفاف. وفي حرف أبي * (وقد بلغت من الكبر عسيا) * والإيحاء: إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، وأصله من قولهم: ألوحى ألوحى أي: الإسراع الإسراع. الاعراب: * (إسمه يحيى) * جملة إسمية مجرورة الموضع صفة الغلام كذلك في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر كما قيل لك. * (ولم تك) *: أصله
[ 405 ]
لم تكن، حذفت النون منه لكثرته في الكلام، فكأنه جزم مرتين. و * (سويا) * منصوب على الحال. * (أن سبحوا) * يجوز أن يكون التقدير أي: سبحوا، ويجوز أن يكون أنه سبحوا، فخفف وأضمر الاسم، ولم يعرض من المضمر شيئا كقوله * (لولا أن من الله علينا) * كما جاء العوض في قوله * (ليعلم أن قد أبلغوا) * وعلم أن سيكون منكم مرضى، وحسبوا أن لا تكون فتنة، فيمن رفع. و * (بكرة وعشيا) *: منصوبان على الظرف. المعنى: * (يا زكريا إنا نبشرك بغلام) * هاهنا حذف معناه، فاستجاب الله دعاء زكريا، وأوحى إليه: يا زكريا إنا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر، يرى السرور به في وجهك، وهو أن يولد لك ابن * (اسمه يحيى) * وقد تقدم تفسيره في سورة آل عمران (1) * (لم نجعل له من قبل سميا) * أي: لم يسم أحد قبله باسمه، عن قتادة، وابن جريج، والسدي، وابن زيد. وفي هذا تشريف له من وجهين أحدهما: إن الله سبحانه تولى تسميته، ولم يكلها إلى الأبوين. والآخر: إنه سماه باسم لم يسبق إليه، يدل ذلك الإسم على فضله. وقال أبو عبد الله عليه السلام، وكذلك الحسين عليه السلام: لم يكن له من قبل سميا، ولم تبك السماء إلا عليهما أربعين صباحا. قيل له: وما كان بكاؤها ؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء، وكان قاتل يحيى ولد زنا، وقاتل الحسين عليه السلام ولد زنا. وروى سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد، عن علي بن الحسين عليه السلام قال: خرجنا مع الحسين عليه السلام، فما نزل منزلا، ولا ارتحل منه، إلا ذكر يحيى بن زكريا، وقال يوما: ومن هوان الدنيا على الله، عزوجل، أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وقيل: إن معنى قوله * (لم نجعل له من قبل سميا) * لم تلد العواقر مثله ولدا، وهو كقوله: * (هل تعلم له سميا) * أي مثلا عن ابن عباس، ومجاهد. * (قال ربي أنى يكون لي غلام) * فسرناه في سورة آل عمران (2). * (وكانت امرأتي عاقرا) * قال الحسن: إنما قال ذلك على جهة الإستخبار أي أتعيدنا شابين، أم ترزقنا الولد شيخين * (وقد بلغت هن الكبر عتيا) * معناه: وقد بلغت من كبر السن إلى حال اليبس والجفاف، ونحول العظم، عن قتادة، ومجاهد. قال قتادة: كان له (1) و (2) راجع الجزء الأول من هذا التفسير (*)
[ 406 ]
بضع وتسعون سنة * (قال كذلك) * أي: قال الله سبحانه: الأمر على ما أخبرتك من هبة الولد على الكبر. * (قال ربك هو علي هين) * أرد عليك قوتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد، عن ابن عباس * (وقد خلقتك من قبل) * أي: من قبل يحيى * (ولم تك شيئا) * أي: أنشأتك وأوجدتك، ولم تك شيئا موجودا. فإزالة عقر زوجتك، وإزالة ما يمنع قبول الولد، أيسر في الإعتبار من إبتداء الإنشاء. وروى الحكم بن عيينة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنما ولد يحيى بعد البشارة له من الله بخمس سنين. * (قال) * زكريا يا * (ربي اجعل لي آية) * أي: دلالة وعلامة استدل بها على وقت كونه * (قال) * الله تعالى * (آيتك) * أي: علامتك على ذلك * (أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * أي: وأنت سوي صحيح سليم من غير علة. قال ابن عباس: إعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيام. وقال قتادة، والسدي: إعتقل لسانه من غير بأس، ولا خرس، فإنه كان يقرأ الزبور، ويدعو إلى الله، ويسبحه، ولا يمكنه أن يكلم الناس، وهذا أمر خارج عن العادة. * (فخرج على قومه من المحراب) * أي: من مصلاه، عن ابن زيد. وسمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته. والأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. قالوا: وكان زكريا قد أخبر قومه بما بشر به، فلما خرج عليهم، وامتنع من كلامهم، علموا إجابة دعائه، فسروا به * (فأوحى إليهم) * أي: أشار إليهم، وأومى بيده. وقيل: كتب لهم في الأرض، عن مجاهد. * (أن سبحوا بكرة وعشيا) * أي: صلوا بكرة وعشيا، عن الحسن، وقتادة. وتسمى الصلاة سبحة، وتسبيحا، لما فيها من التسبيح. وقيل: أراد التسبيح بعينه. وقال ابن جريج: أشرف عليهم زكريا من فوق غرفة كان يصلي فيها، لا يصعد إليها إلا بسلم، وكانوا يصلون معه الفجر والعشاء، فكان يخرج إليهم، فيأذن لهم بلسانه. فلما اعتقل لسانه، خرج على عادته، وأذن لهم بغير كلام، فعرفوا عند ذلك أنه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى، فمكث ثلاثة أيام لا يقدر على الكلام معهم، ويقدر على التسبيح والدعاء.
[ 407 ]
* (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وءاتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15)) *. اللغة: أصل الحنان: الرحمة، يقال: حنانك وحنانيك. وقال امرؤ القيس: ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان (1) وقال آخر: قالت حنان: ما أتى بك هاهنا ؟ أذو نسب، أم أنت بالحي عارف أي: أمرنا حنان. قال أبو عبيدة: وأكثر ما يستعمل بلفظ التثنية، قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض وتحنن عليه أي: تعطف عليه، قال الحطيئة لعمربن الخطاب: تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وحننت عليه أحن حنينا وحنانا. وحنة الرجل: امرأته. والجبار: الذي لا يرى لأحد عليه حقا، وفيه جبرية وجبروت. والجبار من النخل: ما فات اليد. الاعراب: * (بقوة) *: الباء في موضع الحال أي: خذ الكتاب مجدا مجتهدا. المعنى: ثم قال سبحانه * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * هاهنا اختصار عجيب، تقديره فوهبنا له يحيى، وأعطيناه الفهم والعقل، وقلنا له: يا يحيى ! خذ الكتاب، يعنى التوراة، بما قواك الله عليه، وأيدك به. ومعناه: وأنت قادر على أخذه، قوي على العمل به. وقيل: معناه بجد وصحة عزيمة، على القيام بما فيه * (وآتيناه الحكم (1) بنو شمجى بن جرم: حي من قضاعة والمعيز: جمع المعز. وقوله * (ويمنحها) * أي يعطيها وهو على رواية الأصمعي كما في اللسان لكن في رواية ابن الأعرابي * (ويمنعها) * وقوله * (حنانك) * ا. ه‍ قال ابن المنظور فسره إبن الأعرابي فقال: معناه رحمتك يا رحمان فأغنني عنهم. وفسر الأصمعي حنانك برحمتك أيضا أي أنزل عليهم رحمتك ورزقك فرواية ابن الأعرابي وتفسيره تسخط وذم. ورواية الأصمعي وتفسيره تشكر وحمد. (*)
[ 408 ]
صبيا) * أي: آتيناه النبوة في حال صباه، وهو ابن ثلاث سنين، عن ابن عباس. وروى العياشي بإسناده، عن علي بن اسباط، قال: قدمت المدينة وأنا أريد مصر، فدخلت على أبي جعفر، محمد بن علي الرضا عليه السلام، وهو إذ ذاك خماسي، فجعلت أتأمله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إلي، فقال لي: يا علي ! إن الله قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوة، قال: * (فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما) *. وقال: * (وآتيناه الحكم صبيا) * فقد يجوز أن يعطي الحكم ابن أربعين سنة، ويجوز أن يعطاه الصبي. وقيل: إن الحكم الفهم، وهو أنه أعطي فهم الكتاب، حتى حصل له عظيم الفائدة، عن مجاهد وعن معمر قال: إن الصبيان قالوا ليحيى: إذهب بنا لنلعب. فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله فيه * (وآتيناه الحكم صبيا) *. وروي ذلك عن أبي الحسن الرضا عليه السلام. * (وحنانا من لدنا) * والحنان: العطف والرحمة، أي: وآتيناه رحمة من عندنا، عن ابن عباس، وقتادة، والحسن. وقيل: معناه تحننا على العباد، ورقة قلب عليهم، ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى، عن الجبائي. وقيل: معناه محبة منا، عن عكرمة، وأصله الشفقة والرقة، ومنه حنين الناقة: وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها. وقيل: معناه تحنن الله عليه، كان إذا قال: يا رب ! قال الله: لبيك يا يحيى. وهو المروي عن الباقر عليه السلام. وقيل: معناه تعطفا منا، عن مجاهد. فهذه خمسة أقوال. * (وزكاة) * أي: وعملا صالحا زاكيا، عن قتادة، والضحاك، وابن جريج. وقيل: زكاة لمن قبل دينه حتى يكونوا أزكياء، عن الحسن. وقيل: يعني بالزكاة طاعة الله، والإخلاص، عن ابن عباس. وقيل: معناه وصدقة تصدق الله به على أبويه، عن الكلبي. وقيل: معناه وزكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود الإنسان، عن الجبائي. فهذه خمسة أقوال. * (وكان تقيا) * أي: مخلصا مطيعا متقيا لما نهى الله عنه. قالوا: وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة، ولم يهم بها. (سؤال): يقال لم أضاف الله سبحانه كونه زكاة إلى نفسه، وهو إنما كان مطيعا زكيا بفعله ؟ (وجوابه): إنه إنما صار كذلك بإلطاف من الله، لا سيما في تلك الحالة من الصغر، ولأنه إنما اهتدى بهداية الله إياه. * (وبرا بوالديه) * أي: بارا بوالديه، محسنا إليهما، مطيعا لهما، لطيفا بهما، طالبا مرضاتهما.
[ 409 ]
* (ولم يكن جبارا) * أي: متكبرا متطاولا على الخلق. وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب، عن ابن عباس. * (عصيا) * أي: عاصيا لربه، فعيل بمعنى فاعل. * (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) * أي: سلام عليه منا في هذه الأيام، عن عطاء. وقيل: وسلامة وأمان له منا، عن الكلبي، ومعناه: سلامة وأمن له يوم ولد من عبث الشيطان به، وإغوائه إياه، ويوم يموت من بلاء الدنيا، ومن عذاب القبر، ويوم يبعث حيا من هول المطلع، وعذاب النار. وإنما قال * (حيا) * تأكيدا لقوله * (يبعث) * وقيل: يعني أنه يبعث مع الشهداء، لأنهم وصفوا بأنهم أحياء. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه. ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، وأحكاما ليس له بها عهد. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة، والسلام، والسلامة، في المواطن الثلاثة. وقيل: إن السلام الأول يوم الولادة تفضل، والثاني والثالث على وجه الثواب والجزاء. * (واذكر في الكتاب مريم إذا نتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20)) *. القراءة: قرأ أبو عمرو، وورش، وقالون، برواية الحلواني، ويعقوب: * (ليهب) * بالياء. والباقون: * (لأهب) * بالهمزة. الحجة: قال أبو علي: حجة من قال * (لأهب) * فأسند الفعل إلى المتكلم. والهبة لله تعالى، ومنه إن الرسول والوكيل قد يسند هذا النحو إلى نفسه، وإن كان الفعل للموكل، أو المرسل، للعلم بأنه مترجم عنه. ومن قال * (ليهب لك) * فهو على تصحيح اللفظ في المعنى. ففي قوله تعالى * (ليهب) * ضمير من قوله * (ربك) *. وهو سبحانه الواهب. وزعموا أن في حرفي أبي وابن مسعود * (ليهب) *. ولو خففت
[ 410 ]
الهمزة من * (لأهب) * لكان في قول أبي الحسن * (ليهب) * فتقلبها ياء محضة. وفي قول الخليل * (لأهب) * يجعلها بين الياء والهمزة. اللغة: النبذ: أصله الطرح. والإنتباذ: إفتعال منه. ومنه قوله * (فنبذوه وراء ظهورهم) * أي: ألقوه. وانتبذ فلان ناحية أي: تنحى ناحية. وجلس فلان نبذة من الناس. ونبذة بفتح النون وضمها أي: ناحية، وإنما يقال ذلك إذا جلس قريبا منهم حتى لو نبذوا إليه شيئا، لوصل إليه. فالإنتباذ: إتخاذ الشئ بإلقاء غيره عنه. والمكان الشرقي: الذي كان في جهة الشرق قال جرير: هبت جنوب فذكرى ما ذكرتكم عند الصفاة إلى شرقي حورانا الاعراب: * (مكانا) *: نصب على الظرف. * (بشرا سويا) *. منصوب على الحال. المعنى: ثم عطف سبحانه قصة مريم وعيسى عليه السلام على قصة زكريا ويحيى عليه السلام فقال: * (واذكر في الكتاب) * أي: في كتابك هذا، وهو القرآن * (مريم) * أي: حديث مريم وولادتها عيسى، وصلاحها ليقتدي الناس بها، ولتكون معجزة لك * (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * أي: انفردت من أهلها إلى مكان في جهة المشرق، وقعدت ناحية منهم. قال ابن عباس: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأنها انتبذت مكانا شرقيا. وقيل: اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة، لئلا تشتغل بكلام الناس، عن الجبائي. وقيل: تباعدت عن قومها حتى لا يرونها، عن الأصم، وأبي مسلم. وقيل: إنها تمنت أن تجد خلوة فتفلي رأسها، فخرجت من يوم شديد البرد، فجلست في مشرقة للشمس، عن عطا. * (فاتخذت من دونهم حجابا) * أي: فضربت من دون أهلها لئلا يروها، سترا وحاجزا بينها وبينهم. * (فأرسلنا إليها روحنا) * يعني جبرائيل عليه السلام، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم. وسماه الله روحا لأنه روحاني، وأضافه إلى نفسه تشريفا له * (فتمثل لها بشرا سويا) * معناه: فأتاها جبرائيل فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح، لم ينقص منه شئ. وقال أبو مسلم: إن الروح الذي خلق منه المسيح، تصور لها إنسان. والأول هو الوجه لإجماع المفسرين عليه. وقال عكرمة: كانت مريم إذا حاضت خرجت من المسجد، وكانت عند خالتها امرأة زكريا أيام حيضها،
[ 411 ]
فإذا طهرت عادت إلى بيتها في المسجد. فبينا هي في مشرقة لها في ناحية الدار، وقد ضربت بينها وبين أهلها سترا لتغتسل وتمتشط، إذ دخل عليها جبرائيل في صورة رجل شاب أمرد، سوي الخلق، فأنكرته فاستعاذت بالله منه * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * معناه: إني أعتصم بالرحمن من شرك، فاخرج من عندي إن كنت تقيا (سؤال): يقال كيف شرطت في التعوذ منه أن يكون تقيا، والتقي لا يحتاج أن يتعوذ منه، وإنما يتعوذ من غير التقي ؟ (والجواب): إن التقي إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله، ففي ذلك تخويف وترهيب له، وهذا كما تقول: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني. فالمعنى: إن كنت تقيا فاتعظ واخرج. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: علمت أن التقي ينهاه التقى عن المعصية. وقيل: إن معنى قوله * (إن كنت تقيا) * ما كنت تقيا حيث استحللت النظر إلي، وخلوت بي. فلما سمع جبرائيل عليه السلام منها هذا القول * (قال) * لها * (إنما أنا رسول ربك لأهب لك) * وقد بينا معنى القراءتين * (غلاما زكيا) * أي: ولدا طاهرا من الأدناس. وقيل: ناميا في أفعال الخير. وقيل: يريد نبيا، عن ابن عباس * (قالت) * مريم * (أنى يكون لي غلام) * أي: كيف يكون لي ولد * (ولم يمسسني بشر) * على وجه الزوجية * (ولم أك بغيا) * أي: ولم أكن زانية، وإنما قالت ذلك لأن الولد في العادة يكون من إحدى هاتين الجهتين، والمعنى: إني لست بذات زوج، وغير ذات الزوج لا تلد إلا عن فجور، ولست فاجرة، وإنما يقال للفاجرة بغي بمعنى أنها تبغي الزنا أي: تطلبه. وفي هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء، لأن من المعلوم أن مريم ليست بنبية، وإن رؤية الملك على صورة البشر، وبشارة الملك إياها، وولادتها من غير وطئ إلى غيرها من الآيات التي أتاها الله بها، من أكبر المعجزات. ومن لم يجوز إظهار المعجزات على غير النبي، إختلفت أقوالهم في ذلك، قال الجبائي، وابنه: إنها معجزات لزكريا عليه السلام. وقال البلخي: إنها معجزات لعيسى على سبيل الإرهاص والتأسيس لنبوته. * (قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)، فحملته فانتبذت به، مكانا قصيا (22)
[ 412 ]
فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلني نبيا (30)) *. القراءة: قرأ حمزة وحفص: * (نسيا) * بفتح النون. والباقون: * (نسبا) * بكسر النون. وقرأ: * (من تحتها) * بكسر الميم أهل المدينة، والكوفة، غير أبي بكر، وسهل. فالباقون * (من تحتها) *. وقرأ حفص عن عاصم: * (تساقط) * بضم التاء، وكسر القاف. وقرأ حماد، عن عاصم، وبصير، عن الكسائي، ويعقوب وسهل: * (يساقط) * بالياء، وتشديد السين. وقراءة حمزة: * (تساقط) * بفتح التاء، وتخفيف السين. والباقون: * (تساقط) * بفتح التاء، وتشديد السين. وفي الشواذ قراءة مسروق * (يساقط) * بضم الياء، وتخفيف السين. وقرأ طلحة بن سليمان: * (رطبا جنيا) * بكسر الجيم * (فإما ترين) * بسكون الياء، والتخفيف. الحجة: قال أبو علي: قال أبو الحسن النسي: هو الشئ الحقير ينسى نحو النعل والسوط. وقال غيره: النسي أغفل ما من شئ حقير. وقال بعضهم: ما إذا ذكر لم يطلب. وقالوا: الكسر على اللغتين، قال الشنفرى: كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها، وإن تخاطبك تبلت (1) وقال في قوله * (من تحتها) * إنه جبرائيل، أو عيسى. وقال بعفن أهل التأويل: لا يكون إلا عيسى عليه السلام، ولا يكون جبرائيل، لأنه لو كان جبرائيل لناداها من فوقها. (1) النسي: الشئ المطروح لا يؤبه له. وبلت - بالفتح -: إذا قطع. وبالكسر: إذا سكن. قيل: إنه يصف جارية بالحياء. (*)
[ 413 ]
وقد يجوز أن يكون جبرائيل. وليس قوله * (من تحتها) * يراد به الجهة السفلى. وإنما المراد من دونها بدلالة قوله * (قد جعل ربك تحتك سريا) * ولم يكن النهر محاذيا لهذه الجهة، ولكن المعنى جعله دونك. وقد يقال: فلان تحتنا أي: دوننا في الموضع. والأشبه أن يكون المنادي لها عيسى، فإنه أشد إزالة لما خامر قلبها من الإغتمام. وإذا قال * (من تحتها) * كان عاما، وضع موضع الخاص، والمراد به عيسى. قال: والوجوه كلها كما في * (تساقط) * متفقة في المعنى إلا قراءة حفص. ألا ترى أن من قرأ * (تساقط) * إنما هي تتساقط، فحذف التاء التي يدغمها غيره، وكلهم جعل فاعل الفعل الذي هو تساقط، أو تساقط، في رواية حفص، النخلة. ويجوز أن يكون فاعل تساقط أو تساقط، هي جذع النخلة، إلا أنه لما حذف المضاف، أسند الفعل إلى النخلة في اللفظ. فأما تعديتهم تساقط فهو تفاعل، لأن تفاعل مطاوع فاعل. فكما عدي نحو تفعل في نحو تجرعته وتمززته، فكذلك عدى تفاعل فمما جاء من ذلك في الشعر قول أوفى بن مطر: تخاطأت النبل أحشاءه، وأخر يومي فلم يعجل (1) وقول الآخر: تطالعنا خيالات لسلمى كما يتطالع الدين الغريم وقول امرئ القيس: ومثلك بيضاء العوارض طفلة لعوب تناساني إذا قمت سر بالي (2) أراد تنسيني. ومن قرأ بالياء أمكن أن يكون فاعله الهز، لأن قوله * (هزي) * قد دل عليه. فإذا كان كذلك، جاز أن يضمره، كما أضمر الكذب في قوله (من كذب كان شرا له) ويمكن أن يكون الجذع. ويجوز في الفعل إذا أسند إلى الجذع وجهان أحدهما: إن الفعل أضيف إلى الجذع كما أضيف إلى النخلة برمتها، لأن الجذع معظمها والآخر: أن يكون الجذع منفردا عن النخلة، يسقط عليها، ويكون سقوط الرطب من الجذع آية لعيسى عليه السلام، ويصير سقوط الرطب من الجذع أسكن لنفسها، (1) وقبل هذا البيت قوله: ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل (2) جارية طفلة: ناعمة. (*)
[ 414 ]
وأشد إزالة لاهتمامها، وسقوط الرطب من الجذع منفردا من النخل، مثل رزقها الذي كان يأتيها المحراب في قوله تعالى * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * إلى قوله * (هو من عند الله) *. وقوله * (رطبا) * في هذه الوجوه منصوب على أنه مفعول به، و يجوز في قوله * (تساقط عليك) * أي: تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا، فحذف المضاف الذي هو الثمرة، ويكون انتصاب رطب على الحال. وجاز أن يضمر الثمر. وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر النخلة يدل عليها. فأما الباء في قوله * (وهزي إليك بجذع النخلة) * فيحتمل أمرين أحدهما: أن يكون زيادة كقوله ألقى بيده، وألقى يده وقوله: بواد يمان ينبت الشث صدره، وأسفله بالمرخ، والشبهان (1) ونحو ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: وهزي إليك بهز جذع النخلة رطبا، كما قال ذو الرمة: وصوح البقل نأ آج تجئ به هيف يمانية في مرها نكب أي: تجئ بمجيئة هيف، يعني: إذا جاء النئاج، جاء الهيف. وكذلك إذا هزت الجذع، هزت بهزه رطبا أي: فإذا هززت الرطب، سقط. وأما قراءة مسروق * (يساقط) * فإنه بمعنى يسقط شيئا بعد شئ، وأنشد ابن جني قول ضابئ البرجمي: يساقط عنه روقه ضارباتها سقاط حديد القين أخول أخولا أي: يسقط قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد، لطعنه إياها به شيئا بعد شئ. وأما قراءة طلحة * (رطبا جنيا) * فإنه أتبع كسرة الجيم كسرة النون. قال ابن جني: شبه النون، وإن لم يكن من حروف الحلق بهن في نحو الشخير، والنخير، والرغيف. و * (أما ترين) * فهي شاذ، لكنه جاء في لغة إثبات النون في الجزم، وأنشد أبو الحسن: لولا فوارس من قيس، وأسرتهم، يوم الصليفاء، لم يوفون بالجار (2) (1) نسبه في (اللسان) إلى الأحول اليشكري. والشث: شجر طيب الريح. والمرخ والشبهان أيضا: قسمان من الأشجار البرية. (2) وفي اللسان: (لولا فوارس من نعم وأسرتهم. ا. ه‍) وقال ابن المنظور: صليفاء: موضع. (*)
[ 415 ]
اللغة: القصي: البعيد. والقاصي: خلاف الداني. وقوله * (فأجاءها) * أي: جاء بها المخاص، وهو مما يعدى تارة بالباء، وتارة بهمزة النقل. قال زهير: وجار سار معتمدا علينا، أجاءته المخاوف، والرجاء أي: جاءت به. ويروى جاء. قال الكسائي: تميم تقول: ما أجاءك إلى هذا، وما أمشاك إليه. ومن أمثالهم: (شر أجاءك إلى مخة عرقوب) (1) وتميم تقول: أمشاك. والسري: النهر، لأنه يسري بجريانه، قال لبيد: فتوسطا عرض السري، فصدعا مسجورة، متجاورا قلامها (2) ويقال: قررت به عينا، أقر قرورا، فهي لغة قريش. وأهل نجد يقولون: قررت به، بفتح العين أقر قرارا، كما يقولون: قررت بالمكان بالفتح. والجني بمعنى المجني من جنيت الثمرة وأجنيتها: إذا قطعتها. وقال ابن أخت جذيمة: هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه (3) وفي معناه قول الكميت يمدح أهل البيت عليهم السلام: خيارها يجتنون فيه إذ ال‍ * جانون في ذي أكفهم أربوا (4) قال أبو مسلم: الفري مأخوذ من فرى الأديم: إذا قطعه على وجه الإصلاح. ثم يستعمل في الكذب. وقال الزجاج: يقال فلان يفري الفري: إذا كان يعمل عملا يبالغ فيه. قال الراجز: (قد كنت تفرين به الفريا) (5). (1) المخة: القطعة من المخ. مثل يضرب في الحاجة إلى لئيم، لأن المراد من العرقوب عرقوب الرجل، وأنه لا مخ له. (2) البيت من معلقته المشهورة. وضمير التثنية من توسطا وصدعا يرجع إلى العير والأتان. والتصديع: التشقيق: ومسجورة أي: مملوءة ماء. والقلام: ضرب من النبت. قال الزوزني: وتحرير المعنى أنهما قد وردا عين ممتلية ماء فدخلا فيها من عرض نهرها، وقد تجاوز نبتها. (3) قائله عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، وله في هذا البيت قصة. ذكره الميداني في (مجمع الأمثال ج 2: 361) وقد تمثل به أمير المؤمنين عليه السلام حين أمر بكنس بيت المال ورشه، وقد قسم بين المسلمين ما فيه من الأموال. (4) أربت يده: أي: قطعت وافتقر صاحبها. (5) ذكره بتمامه في (اللسان) في مادة (فرى). (*)
[ 416 ]
الاعراب: * (عينا) * منصوب على التمييز * (فإما ترين) * أصله ترأين، إلا أن الإستعمال بغير همز. والياء فيه ضمير المؤنث، وإنما حركت لالتقاء الساكنين، وهما الياء والنون الأولى من المشددة، كما تقول للمرأة: أرضين زيدا. وقوله * (من كان في المهد صبيا) *: كان هنا بمعنى الحدوث والوقوع، والتقدير: كيف نكلم من وجد في المهد (صبيا): نصب على الحال من كان. ومثل كان هاهنا قوله: * (وإن كان ذو عسرة) *، ومثله قول الربيع: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء (1) ويجوز أن يكون كان هنا مزيدة، كما في قول الشاعر: جياد بني أبي بكر تسامى على كان المسومة العراب (2) فعلى هذا يكون العامل في الحال نكلم. قال الزجاج: الأجود أن يكون من في معنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه ويكون صبيا حالا كما تقول: من كان لا يسمع، ولا يعقل، فكيف أخاطبه. المعنى: * (قال كذلك) * أي: قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة: الأمر كذلك أي: كما وصفت لك * (قال ربك هو علي هين) * أي: إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل متأت، لا يشق علي * (ولنجعله آية للناس) * معناه: ولنجعله علامة ظاهرة، وآية باهرة للناس على نبوته، ودلالة على براءة أمه * (ورحمة منا) * له، ولنجعله نعمة منا على الخلق، يهتدون بسببه. * (وكان أمرا مقضيا) * أي: وكان خلق عيسى من غير ذكر، أمرا كائنا مفروغا عنه، محتوما، قضى الله سبحانه بأن يكون، وحكم به * (فحملته) * أي: فحملت مريم بعيسى، فحبلت في الحال. قيل: إن جبرائيل أخذ ردن قميصها بإصبعه، فنفخ فيه، فحملت مريم من ساعتها، ووجدت حس الحمل. وقيل: نفخ في كمها، فحملت، عن ابن جريج. (1) أدفأه: أسخنه. وقائله ربيع بن ضبع الفزاري، وهو من المعمرين. وهذا البيت من قصيدة قالها بعد ما بلغ من العمر مأتي سنة. ذكره الشريف المرتضى (ره) في (الأمالي ج 1: 254) فراجع. (2) قوله: تسامى أصله تتسامى، من السمو بمعنى الرفعة. وفي رواية الأشموني: (سراة بني أبي بكرا ه‍). (*)
[ 417 ]
وروي عن الباقر عليه السلام أنه تناول جيب مدرعتها، فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرحم من ساعته، كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر، فخرجت من المستحم، وهي حامل محج مثقل. فنظرت إليها خالتها فأنكرتها. ومضت مريم على وجهها مستحية من خالتها، ومن زكريا * (فانتبذت به مكانا قصيا) * أي: تنحت بالحمل إلى مكان بعيد. وقيل: معناه انفردت به مكانا بعيدا من قومها، حياء من أهلها، وخوفا من أن يتهموها بسوء. واختلفوا في مدة حملها، فقيل: ساعة واحدة. قال ابن عباس: لم يكن بين الإنتباذ والحمل إلا ساعة واحدة، لأنه تعالى لم يذكر بينهما فصلا، لأنه قال * (فحملته فانتبذت به) * * (فأجاءها) *، والفاء للتعقيب. وقيل: حملت به في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زاغت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين، عن مقاتل. وقيل: كانت مدة حملها تسع ساعات وهذا مروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: ستة أشهر. وقيل: ثمانية أشهر. وكان ذلك آية، وذلك أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره * (فأجاءها المخاض) * أي: ألجأها الطلق أي: وجع الولادة * (إلى جذع النخلة) * فالتجأت إليها لتستند إليها، عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي. وقيل: أجاءها أي: جاء بها. قال ابن عباس: نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها، فإذا عليها جذع نخلة نخرة، ليس لها سعف. والجذع: ساق النخلة. والألف واللام دخلت للعهد، لا للجنس أي: النخلة المعروفة. فلما ولدت * (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) * أي: شيئا حقيرا متروكا، عن ابن عباس. وقيل: شيئا لا يذكر، ولا يعرف، عن قتادة. وقيل: حيضة ملقاة، عن عكرمة، والضحاك، ومجاهد. قال ابن عباس: فسمع جبرائيل كلامها، وعرف جزعها * (فناداها من تحتها) * وكان أسفل منها تحت أكمة. * (ألا تحزني) * وهو قول السدي، وقتادة، والضحاك. إن المنادي جبرائيل ناداها من سفح الجبل. وقيل: ناداها عيسى، عن مجاهد، والحسن، ووهب، وسعيد بن جبير، وابن زيد، وابن جرير، والجبائي. وإنما تمنت عليهما السلام الموت كراهية لأن يعصي الله فيها. وقيل: استحياء من الناس أن يظنوا بها سوءا، عن السدي، وروي عن الصادق عليه السلام. لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء * (قد جعل ربك تحتك سريا) * أي: ناداها جبرأئيل، أو عيسى، ليزول ما عندها من الغم والجزع. لا تغتمي، قد جعل ربك تحت قدميك نهرا تشربين منه،
[ 418 ]
وتتطهرين من النفاس، عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، قالوا: وكان نهرا قد انقطع الماء عنه، فأرسل الله الماء فيه لمريم، وأحيا ذلك الجذع، حتى أثمر وأورق. وقيل: ضرب جبرائيل عليه السلام برجله، فظهر ماء عذب. وقيل: بل ضرب عيسى برجله، فظهرت عين ماء تجري، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقيل: السري عيسى عليه السلام، عن الحسن، وابن زيد، والجبائي. والسري: وهو الشريف الرفيع. قال الحسن: كان والله عبدا سريا. * (وهزي إليك بجذع النخلة) * معناه: اجذبي إليك بجذع النخلة. والباء مزيدة. وقال الفراء: العرب تقول هزه وهز به. * (تساقط عليك رطبا جنيا) * مر معناه. وقال الباقر عليه السلام: لم تستشف النفساء بمثل الرطب، إن الله أطعمه مريم في نفاسها. وقالوا: إن الجذع كان يابسا لا ثمر عليه، إذ لو كان عليه ثمر، لهزته من غير أن تؤمر به، وكان في الشتاء، فصار معجزة بخروج الرطب في غير أوانه، وبخروجه دفعة واحدة، فإن العادة أن يكون نورا أولا، ثم يصير بلحا، ثم بسرا. وروي أنه لم يكن للجذع رأس، فضربته برجلها، فأورقت وأثمرت، وانتثر عليها الرطب جنيا. والشجرة التي لا رأس لها لا تثمر في العادة. وقيل: إن تلك النخلة كانت برنية. وقيل: كانت عجوة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. * (فكلي واشربي) * أي: كلي يا مريم من هذا الرطب، واشربي من هذا الماء * (وقري عينا) * جاء في التفسير: وطيبي نفسا. وقيل: معناه لتقر عينك سرورا بهذا الولد الذي ترين، لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة. وقيل: معناه لتسكن عينك سكون سرور برؤيتك ما تحبين * (فإما ترين من البشر أحدا) * فسألك عن ولدك * (فقولي إني نذرت للرحمن صعوما) * أي: صمتا، عن ابن عباس. والمعنى أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلم. وقيل: صوما أي: إمساكا عن الطعام، والشراب، والكلام، عن قتادة. وإنما أمرت الصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ به ساحتها، عن ابن مسعود، وابن زيد، ووهب. وقيل: كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام، كما يصوم عن الطعام، فلا يتكلم الصائم حتى يمسي. يدل على هذا قوله * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * أي: إني صائم فلن أكلم اليوم أحدا. وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر، ثم تسكت، ولا تتكلم بشئ آخر، عن السدي. وقيل: كان الله تعالى أمرها بأن تنذر لله الصمت، وإذا كلمها أحد تومئ
[ 419 ]
بأنها نذرت لله صمتا، لأنه لا يجوز أن يأمرها بأن تخبر بأنها نذرت، ولم تنذر، لأن ذلك كذب، عن أبي علي الجبائي. * (فأتت به قومها تحمله) * أي: فأتت مريم بعيسى، حاملة له، وذلك أنها لفته في خرقة، وحملته إلى قومها * (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا) * أي: أمرا عظيما بديعا، إذ لم تلد أنثى قبلك من غير رجل، عن مجاهد، وقتادة، والسدي. وقيل: أمرا قبيحا منكرا من الإفتراء: وهو الكذب، عن الجبائي * (يا أخت هارون) * قيل فيه أقوال أحدها: إن هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، عن ابن عباس، وقتادة، وكعب، وابن زيد، والمغيرة بن شعبة، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: انه لما مات شيع جنازته أربعون ألفا، كلهم يسمى هارون. فقولهم * (يا أخت هارون) * معناه: يا شبيهة هارون في الصلاح، ما كان هذا معروفا منك وثانيها: إن هارون كان أخاها لأبيها، ليس من أمها، وكان معروفا بحسن الطريقة، عن الكلبي وثالثها: إن هارون أخو موسى عليه السلام فنسبت إليه، لأنها من ولده، كما يقال يا أخا تميم، عن السدي ورابعها: انه كان رجلا فاسقا، مشهورا بالعهر والفساد، فنسبت إليه. وقيل لها: يا شبيهته في قبح فعله، عن سعيد بن جبير. * (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * أي: كان أبواك صالحين، فمن أين جئت بهذا الولد * (فأشارت إليه) * أي: فأومت إلى عيسى عليه السلام بأن كلموه، واستشهدوه على براءة ساحتي، فتعجبوا من ذلك ثم * (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) * معناه: كيف نكلم صبيا في المهد. وقيل: صبيا في الحجر رضيعا. وكان المهد حجر أمه الذي تربيه فيه، إذ لم تكن هيأت له مهدا، عن قتادة. وقيل: إنهم غضبوا عند إشارتها إليه، وقالوا: لسخريتها بنا أشد علينا من زناها ! فلما تكلم عيسى عليه السلام قالوا: إن هذا الأمر عظيم، عن السدي. * (قال) * عيسى عليه السلام * (إني عبد الله) * قدم إقراره بالعبودية ليبطل به قول من يدعي له الربوبية، وكأن الله سبحانه أنطقه بذلك، لعلمه بما يقوله الغالون فيه. ثم قال * (آتاني الكتاب وجعلني نبيا) * أي: حكم لي بإتيان الكتاب والنبوة. وقيل: إن الله تعالى أكمل عقله في صغره، وأرسله إلى عباده، وكان نبيا مبعوثا إلى الناس في ذلك الوقت، مكلفا عاقلا. ولذلك كانت له تلك المعجزة، عن الحسن، والجبائي.
[ 420 ]
وقيل: إنه كلمهم، وهو ابن أربعين يوما، عن وهب. وقيل: يوم ولد، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين هو الظاهر. وقيل: إن معناه إني عبد الله سيؤتيني الكتاب، وسيجعلني نبيا. وكان ذلك معجزة لمريم عليه السلام على براءة ساحتها. * (وجعلني مباركا أين ماكنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون (34) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35)) *. القراءة: قرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب: * (قول الحق) * بالنصب. والباقون بالرفع. وفي الشواذ قراءة أبي مجلز، وأبي نهيك: * (وبرا بوالدتي) * بكسر الباء. الحجة: قال أبو علي: * (قول الحق) * الرفع فيه على أن قوله * (ذلك عيسى بن مريم) * كلام والمبتدأ المضمر ما دل عليه هذا الكلام أي: هذا الكلام قول الحق. ويجوز أن يضمر هو ويجعله كناية عن عيسى عليه السلام أي: هو قول الحق، لأنه قد قيل فيه * (روح الله وكلمته) *. والكلمة قول. وأما النصب فعلى أن قوله * (ذلك عيسى بن مريم) * يدل على أحق قول الحق، وتقول: هذا زيد الحق، لا الباطل، لأن قولك هذا زيد عندك بمنزلة أحق، فكأنك قلت أحق الحق وأحق قول الحق. ومن قال * (وبرا بوالدتي) *: فكأنه قال وألزمني برا بوالدتي، ويكون معطوفا على موضع الجار والمجرور من قوله * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * وعليه بيت الكتاب: (يذهبن في نجد وغورا غائرا) أي: ويسلكن غورا. وإن شئت حملته على حذف المضاف بمعنى وجعلني ذا بر، وإن شئت جعلته إياه على المبالغة، كقول الخنساء: (فإنما هي إقبال وإدبار) (1). (1) وقبله: (ترتع ما رتعت حتى إذا أدكرت) وقد مر في ص 17 سورة الرعد، آية: 8. (*)
[ 421 ]
اللغة: السلام: مصدر سلمت. والسلام: جمع سلامة. والسلام: اسم من أسماء الله تعالى. وسلام: مما يبتدأ به في النكرة، لأنه اسم يكثر استعماله، يقال: سلام عليك، والسلام عليك، وأسماء الأجناس يكثر الإبتداء بها. وفائدة نكرتها قريب من فائدة معرفتها، تقول: لبيك وخير بين يديك. وإن شئت قلت: والخير بين يديك، إلا أنه لما جرى ذكر سلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يرد ثانية بالألف واللام. المعنى: ثم بين سبحانه تمام كلام عيسى عليه السلام فقال * (وجعلني مباركا أينما كنت) * أي: وجعلني معلما للخير، عن مجاهد. وقيل: نفاعا حيث ما توجهت. والبركة: نماء الخير. والمبارك: الذي ينتمي الخير به. وقيل: ثابتا دائما على الإيمان والطاعة. وأصل البركة: الثبوت، عن الجبائي. * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * أي: بإقامة الصلاة، وأداء الزكاة * (ما دمت) * أي: ما بقيت * (حيا) * مكلفا * (وبرا بوالدتي) * أي: واجعلني بارا بها، أؤدي شكرها فيما قاسته بسببي * (ولم يجعلني جبارا) * أي: متجبرا * (شقيا) * والمعنى: إني بلطفه وتوفيقه كنت محسنا إلى والدتي، متواضعا في نفسي، حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء. * (والسلام علي) * أي: والسلامة علي من الله * (يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * أي: في هذه الأحوال الثلاث. وقد مر تفسيرها قبل في قصة يحيى. وفي هذه الآيات دلالة على أنه يجوز أن يصف الإنسان نفسه بصفات المدح، إذا أراد تعريفها إلى غيره، لا على وجه الإفتخار. قيل: ولما كلمهم عيسى عليه السلام بهذا، علموا براءة مريم، ثم سكت عيسى عليه السلام، فلم يتكلم بعد ذلك، حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان * (ذلك عيسى بن مريم) * معناه: ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى بن مريم، لا ما يقوله النصارى من أنه ابن الله، وأنه إله * (قول الحق) * مر معناه في الحجة * (الذي فيه يمترون) * أي: يشكون، يعني اليهود والنصارى. فزعمت اليهود أنه ساحر كذاب، وزعمت النصارى أنه ابن الله، وثالث ثلاثة. وقيل: وهو افتراء النصارى، واختلافهم، فبعضهم قالوا: هو الله، وقال بعضهم: ابن الله. وقال بعضهم: ثالث ثلاثة. ثم كذبهم الله تعالى فقال: * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * معناه: ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد أي: ما يصلح له، ولا يستقيم، عن ابن الأنباري قال: فنابت
[ 422 ]
اللام عن الفعل، وذلك أن من اتخذ ولدا، فإنما يتخذه من جنسه، لأن الولد مجانس للوالد، والله تعالى ليس كمثله شئ، فلا يكون له سبحانه ولد، ولا يتخذ ولدا. وقوله * (من ولد) *: من هذه هي الذي تدل على نفي الواحد والجماعة. فالمعنى: إنه لا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا، ولا أكثر. ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك، فقال: * (سبحانه) * ثم بين السبب في كون عيسى من غير أب، فقال: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * وقد مر تفسيره فيما مضى، والمعنى أنه لا يتعذر عليه إيجاء شئ على الوجه الذي أراده. * (وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمروهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، وابن عامر، وروح، وزيد، عن يعقوب: * (وإن الله) * بكسر الهمزة. والباقون بالفتح. الحجة: قال أبو علي: حجة من كسر، أنه جعله مستأنفا، كما أن المعطوف عليه مستأنف. وحجة من فتح أنه حمله على قوله * (وأوصاني بالصلاة والزكاة) *، وبأن الله ربي وربكم. الاعراب والمعنى: قوله * (وإن الله ربي وربكم) * من فتح الهمزة، ففيه أربعة أوجه: أحدها: إن المعنى وقضى أن الله ربي وربكم، عن أبي عمرو بن العلاء والثاني: إنه معطوف على كلام عيسى أي: وأوصاني بأن الله ربي وربكم والثالث: ذلك عيسى بن مريم وذلك أن الله ربي وربكم، عن الفراء والرابع: أن العامل فيه فاعبدوه، والتقدير ولأن الله ربي وربكم * (فاعبدوه) * فحذف الجار. ومن كسر الهمزة جاز أن يكون معطوفا على قوله * (قال إني عبد الله) أي: وقال إن الله ربي وربكم. وجاز أن يكون ابتداء كلام من الله تعالى، أو أمر من الله لرسوله أن يقول ذاك. وقوله * (هذا صراط مستقيم) * معناه: هذا طريق واضح فالزموه. وقيل: إن المعنى هذا الذي أخبرتكم أن الله أمرني به هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
[ 423 ]
* (فاختلف الأحزاب من بينهم) * الإختلاف في المذهب: أن يعتقد كل قوم خلاف ما يعتقده الآخرون. والأحزاب: جمع حزب، وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره. وتحزبوا: أي: صاروا أحزابا. فالمعنى أن الأحزاب من أهل الكتاب اختلفوا في عيسى عليه السلام. فقال قوم منهم: هو الله وهم اليعقوبية. وقال آخرون: هو ابن الله وهم النسطورية. وقال آخرون: هو ثالث ثلاثة وهم الإسرائيلية. وقال المسلمون: هو عبد الله، عن قتادة، ومجاهد. وإنما قال * (من بينهم) * لأن منهم من ثبت على الحق. وقيل: إن * (من) * زائدة، والمعنى اختلفوا بينهم * (فويل) * أي: فشدة عذاب، وهي كلمة وعيد * (للذين كفروا) * بالله بقولهم في المسيح * (من مشهد يوم عظيم) * المشهد بمعنى الشهود والحضور أي: من حضورهم ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، وسمي عظيما لعظم أهواله. وقيل: ويل لهم من مجمع يوم أي: من الفضيحة على رؤوس الجمع يومئذ * (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) * قيل فيه وجهان أحدهما: ان التقدير صاروا ذوي سمع وبصر، والجار والمجرور، في موضع رفع، لأنه فاعل أسمع. والمعنى ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، وإن كانوا في الدنيا صما وبكما عن الحق، عن الحسن. ومعناه: الإخبار عن قوة علومهم بالله تعالى في تلك الحال. ومثله قوله * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) *. * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * يعني أن الكافرين في الدنيا آثروا الهوى على الهدى، فهم في ذهاب عن الدين، وعدول عن الحق، والمراد أنهم في الدنيا جاهلون، وفي الآخرة عارفون، حيث لا تنفعهم المعرفة. وقال أبو مسلم: وهذا يدل على أن قوله سبحانه * (صم بكم عمي) * ليس معناه الآفة في الأذن، واللسان، والعين، بل هو إنهم لا يتدبرون ما يسمعون، ويرون، ولا يعتبرون. ألا ترى أنه جعل قوله * (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) * في مقابلته، فأقام السمع والبصر مقام الهدى، إذ جعله في مقابلة الضلال المبين والثاني: إن معناه أسمعهم وأبصرهم أي: بصرهم، وبين لهم أنهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء، سيكونون في ضلال مبين. عن الجنة، والثواب، عن الجبائي، قال: ويجوز أن يكون المعنى: أسمع الناس بهؤلاء الأنبياء، وأبصرهم بهم ليعرفوهم، ويعرفوا خبرهم، فيؤمنوا بهم، لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم يعني يوم القيامة في ضلال عن الجنة، وهذا يعيد. وقد استدرك على الجبائي في قوله، والأولى والأظهر في الآية الوجه الأول.
[ 424 ]
* (وأنذرهم يوم الحسرة) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى خوف يا محمد كفار مكة، يوم يتحسر المسئ هلا أحسن العمل، والمحسن هلا ازداد من العمل، وهو يوم القيامة. وقيل: إنما يتحسر المستحق للعقاب، فأما المؤمن فلا يتحسر. وروى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة ! فيشرئبون وينظرون. وقيل: يا أهل النار ! فيشرئبون، وينظرون، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: تعرفون الموت ؟ فيقولون: هذا هذا وكل قد عرفه. قال: فيقدم فيذبح. ثم يقال: يا أهل الجنة ! خلود فلا موت. ويا أهل النار ! خلود فلا موت. وقال: وذلك قوله * (وأنذرهم يوم الحسرة) * الآية. ورواه أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحا، لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا لماتوا. * (إذ قضي الأمر) * أي: فرغ من الأمر، وانقطعت الآمال، وادخل قوم النار، وقوم الجنة. وقيل: معناه انقضى أمر الدنيا فلا يرجع إليها الإستدراك الفائت. وقيل: معناه حكم بين الخلائق بالعدل. وقيل: قضي على أهل الجنة بالخلود، وقضي على أهل النار بالخلود * (وهم في غفلة) * في الدنيا عن ذلك، ومعناه: إنهم مشغولون اليوم بما لا يعنيهم، غافلون عن أحوال الآخرة * (وهم لا يؤمنون) * أي: لا يصدقون بذلك. ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال: * (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) * أي: نميت سكانها فنرثها ومن عليها من العقلاء، لأنا نميتهم ونهلكهم، فلا يبقى فيها مالك، ومتصرف * (وإلينا يرجعون) * أي: إلينا يردون بعد الموت أي: إلى حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا. * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا (42) يا أبت إنى قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا (44) يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشطان وليا (45) قال أراغب أنت عن ءالهتى يا إبراهيم لئن لم تنته
[ 425 ]
لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربى عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50)) *. القراءة: قد ذكرنا الإختلاف بين القراء في قوله * (يا أبت) *، والوجه في ذلك في سورة يوسف عليه السلام. اللغة: الصديق: هو كثير التصديق بالحق حتى يصير علما فيه. والرغبة عن الشئ نقيض الرغبة فيه. والترغيب: الدعاء إلى الرغبة في الشئ. والإنتهاء: الإمتناع من الفعل المنهي عنه، يقال: نهاه عن الأمر فانتهى، وأصله النهاية. والنهي: زجر عن الخروج من النهاية المذكورة. والتناهي: بلوغ نهاية الحد. والرجم: الرمي بالحجارة. والرجم: الشتم، وأصله من الرجم، والرجام: وهو الحجارة. والملي: الدهر الطويل. قال الفراء: يقال كنت عندنا ملوة، وملوة، وملوة، وملاوة، وملاوة، وكله من طول المقام. والحفي: المستقصي في السؤال. والخفي: اللطيف بعموم النعمة. وأصل الباب الإستقصاء، تقول: تحفيت به أي: بالغت في إكرامه. وحفوته من كل خير: بالغت في منعه. وأحفيت شاربي: بالغت في أخذه حتى استأصلته. وأحفيت في السؤال: بالغت. وكل شئ استوصل، فقد احتفى. وتقول العرب: جاءني لسان فلان أي: مدحه وذمه. قال عامر بن الحرث: إني أتتني لسان لا أسر بها من علولا عجب منها، ولا سخر جاءت مرجمة قد كنت أحذرها لو كان ينفعني الإشفاق، والحذر الاعراب: قال الزجاج: العرب تقول في النداء * (يا أبت ويا أمت) *، ولا يقال قال أبتي كذا، وقالت أمتي كذا. وزعم الخليل وسيبويه أنهما بمنزلة قولهم يا عمة، ويا خالة، وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل ربعة، وغلام يفعة. وأن الهاء عوض من ياء الإضافة في يا أبي، ويا أمي. وقوله * (مليا) *: منصوب على الظرف * (وكلا) * مفعول * (جعلنا) *.
[ 426 ]
المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام، فقال: * (واذكر) * يا محمد * (في الكتاب) * أي: القرآن * (إبراهيم إنه كان صديقا) * أي: كثير التصديق في أمور الدين، عن الجبائي. وقيل: صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله تعالى، عن أبي مسلم * (نبيا) * أي: عليا رفيع الشأن برسالة الله تعالى * (إذ قال لأبيه) * آزر * (يا أبت) * أي: يا أبي. ودخلت التاء للمبالغة في تحقيق الإضافة * (لم تعبد ما لا يسمع) * دعاء من يدعوه * (ولا يبصر) * من يتقرب إليه، ويعبده * (ولا يغني عنك شيئا) * من أمور الدنيا أي: لا يكفيك شيئا، فلا ينفعك، ولا يضرك. * (يا أبت إني قد جاءني من العلم) * بالله، والمعرفة. * (ما لم يأتك فاتبعني) * على ذلك، واقتد بي فيه * (أهدك صراطا سويا) * أي: أوضح لك طريقا، مستقيما، معتدلا، غير جائر بك عن الحق إلى الضلال * (يا أبت لا تعبد الشيطان) * أي: لا تطعه فيما يدعوك إليه، فتكون بمنزلة من عبده ولا شبهة أن الكافر لا يعبد الشيطان، ولكن من أطاع شيئا فقد عبده * (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) * أي: عاصيا * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) * أي: يصبك عذاب من جهة الله سبحانه، لإصرارك على الكفر * (فتكون للشيطان وليا) * أي: فتكون موكولا إلى الشيطان، وهو لا يغني عنك شيئا، عن الجبائي. وقيل: معناه فتكون لاحقا بالشيطان باللعن والخذلان، واللاحق: يسمى التالي. والذي يتلو الشئ، والذي يليه، سواء، عن أبي مسلم. وقيل: فتكون له قرينا في النار. وقيل: معناه فيكون الشيطان ولي نصرتك، ولم يقل فيكون الشيطان وليك، لأنه أبلغ في الفضيحة، وإنما أراد زجره عن موالاة الشيطان، لا تحقيق النصرة، يعني: إذا لم يكن لك إلا نصرته فأنت مخذول لا ناصر لك. وقد بينا فيما مضى: أن الذي يقول أصحابنا: إن هذا الخطاب من إبراهيم عليه السلام، إنما توجه إلى من سماه الله أبا له، لأنه كان جدا لإبراهيم عليه السلام لامه، وأن أباه الذي ولده كان اسمه تارخ، لإجماع الطائفة على أن آباء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم عليه السلام كلهم مسلمون موحدون، ولما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لم يزل ينقلني الله تعالى من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا. والكافر غير موصوف بالطهارة لقوله تعالى * (إنما المشركون نجس) * * (قال) * آزر مجيبا لإبراهيم عليه السلام حين دعاه إلى الإيمان: * (أراغب أنت عن آلهتي) * أي: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام * (يا إبراهيم) * وتارك لها، وزاهد فيها * (لئن لم تنته) * أي: لئن لم تمتنع عن هذا * (لأرجمنك) * بالحجارة، عن
[ 427 ]
الحسن، والجبائي. وقيل: لأرمينك بالذنب والعيب، وأشتمنك، عن السدي، وابن جريج. وقيل: معناه لأقتلنك * (واهجرني مليا) * أي: فارقني دهرا طويلا، عن الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والسدي. وقيل: مليا سويا سليما. عن عقوبتي، عن ابن عباس، وقتادة، وعطاء، والضحاك. من قولهم فلان ملي بهذا الأمر: إذا كان كاملا فيه، مضطلعا به * (قال) * إبراهيم: * (سلام عليك) * سلام توديع وهجر على ألطف الوجوه، وهو سلام متاركة ومباعدة منه، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: هذا سلام إكرام وبر، فقابل جفوة أبيه بالبر، تأدية لحق الأبوة أي: هجرتك على وجه جميل من غير عقوق. * (سأستغفر لك ربي) * قيل: فيه أقوال أحدها: إنه إنما وعده بالإستغفار على مقتضى العقل، ولم يكن بعد قد استقر قبح الإستغفار للمشركين وثانيها: إنه قال: سأستغفر لك ربي على ما يصح ويجوز من تركك عبادة الأوثان، وإخلاص العبادة لله تعالى، عن الجبائي. وثالثها: إن معناه سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا عن الأصم. * (إنه كان بى حفيا) * أي بارا لطيفا رحيما، عن ابن عباس، ومقاتل. وقيل: إن الله عودني إحسانه، وكان لي مكرما. وقيل: كان عالما بي وبما أبتغيه من مجالدتك، لعله يهديك * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * أي: واتنحى منكم جانبا، وأعتزل عبادة ما تدعون من دونه من الأصنام * (وأدعوا) * أي: وأعبد * (ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) * كما شقيتم بدعاء الأصنام. وإنما ذكر عسى على وجه الخضوع. وقيل: معناه لعله يقبل طاعتي وعبادتي، ولا أشقى بالرد، فإن المؤمن بين الرجاء والخوف * (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله) * أي: فارقهم وهاجرهم إلى الأرض المقدسة. * (وهبنا له إسحاق) * ولدا، * (ويعقوب) * ولد ولد، * (وكلا جعلنا نبيا) * أي: آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله، وكلا من هذين جعلناه نبيا يقتدى به في الدين * (ووهبنا لهم من رحمتنا) * أي: نعمتنا سوى الأولاد والنبوة، من نعم الدين والدنيا * (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * أي: ثناء حسنا في الناس، عليا مرتفعا سائرا في الناس، وكل أهل الأديان، يتولون إبراهيم وذريته، ويثنون عليهم، ويدعون أنهم على دينهم. وقيل: معناه وأعلينا ذكرهم بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأمته يذكرونهم بالجميل إلى قيام القيامة. وقيل: هو ما يتلى في التشهد: * (كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم) *.
[ 428 ]
* (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55)) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة: * (مخلصا) * بفتح اللام. والباقون: * (مخلصا) * بكسرها. الحجة: من كسر اللام فحجته * (وأخلصوا دينهم لله) *. ومن فتحها فحجته * (إنا أخلصناهم) *. اللغة: يقال ناجاه يناجيه: إذا اختصه بكلام ألقاه إليه. وأصل النجاة: الإرتفاع من الأرض. ومنه النجاة أيضا: وهو الإرتفاع عن الهلكة. والنجاة: السرعة، لأنه ارتفاع في السير. ومنه المناجاة: لأنه ارتفاع الحديث إلى المحدث. والنجي بمعنى المناجي، كالجليس والضجيع. وقيل: نجي مصدر بمعنى ارتفاع، لأن معنى قربناه: رفعناه. ويجوز أن يكون التقدير: وقربناه مكانا رفيعا. المعنى: ثم ذكر سبحانه حديث موسى عليه السلام، فقال: * (واذكر) * يا محمد * (في الكتاب) * الذي هو القرآن * (موسى إنه كان مخلصا) * أخلص العبادة لله تعالى، وأخلص نفسه لأداء الرسالة، وبفتح اللام يكون معناه: أخلصه الله بالنبوة، واختاره للرسالة * (وكان رسولا) * إلى فرعون، وقومه * (نبيا) * رفيع الشأن، عالي القدر * (وناديناه من جانب الطور الأيمن) *: * (الطور) * جبل بالشام، ناداه الله تعالى من جانبه اليمين، وهي يمين موسى. وقيل: من جانب اليمين من الطور، يريد حيث أقبل من مدين، ورأى النار في الشجرة، وهو قوله: * (يا موسى إني أنا الله رب العالمين) *. * (وقربناه نجيا) * أي: مناجيا كليما. قال ابن عباس: قربه الله، وكلمه. ومعنى هذا التقريب: إنه أسمعه كلامه. وقيل: قربه حتى سمع صرير القلم الذي كتبت به التوراة. وقيل: قربناه أي: ورفعنا منزلته، وأعلينا محله، حتى صار محله منا في الكرامة والمنزلة محل من قربه مولاه في مجلس كرامته، فهو تقريب كرامة واصطفاء، لا تقريب مسافة وإدناء، إذ هو سبحانه لا يوصف بالحلول في
[ 429 ]
مكان، فيقرب من بعد، أو يبعد من قرب، أو يكون أحد أقرب إليه من غيره. * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * أي: أنعمنا عليه بأخيه هارون، حيث قال واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون، وجعلناه نبيا أشركناه في أمره، وشددنا به أزره * (واذكر في الكتاب) * الذي هو القرآن * (اسماعيل) * بن إبراهيم أيضا * (إنه كان مادق الوعد) * إذا وعد بشئ وفي به، ولم يخلف * (وكان) * مع ذلك * (رسولا نبيا) * إلى جرهم، وقد مضى معناه. قال ابن عباس: إنه واعد رجلا أن ينتظره في مكان، ونسي الرجل، فانتظره سنة، حتى أتاه الرجل، وذلك مروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: أقام ينتظره ثلاثة أيام، عن مقاتل. وقيل: إن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام مات قبل أبيه إبراهيم عليه السلام، وإن هذا هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه، فسلخوا جلدة وجهه، وفروة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه، ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إلى الله تعالى في عفوه، ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام. ثم قال في آخره: أتاه ملك من ربه يقرئه السلام، ويقول: قد رأيت ما صنع بك، وقد أمرني بطاعتك، فمرني بما شئت. فقال: يكون لي بالحسن عليه السلام أسوة. * (وكان يأمر أهله) * أي: قومه وعترته وعشيرته. وقيل: أمته، عن الحسن * (بالصلاة والزكاة) * وقيل: إنه كان يأمر أهله بصلاة الليل، وصدقة النهار * (وكان) * مع ذلك * (عند ربه مرضيا) * قد رضي أعماله، لأنها كلها طاعات لم تكن فيها قبائح. وقيل: مرضيا معناه صالحا زكيا رضيا، فحصل له عنده المنزلة العظيمة. * (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبين من ذرية ءادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرآءيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايت الرحمان خروا سجدا وبكيا (58) * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وءامن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60)) *.
[ 430 ]
اللغة: العلي: العظيم العلو. والعلي: العظيم فيما يقدر به على الأمور، ومنه يوصف الله تعالى بأنه علي. والفرق بين العلي والرفيع: إن العلي قد يكون بمعنى الإقتدار، وبمعنى علو المكان. والرفيع: من رفع المكان لا غير. ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه رفيع. وأما رفيع الدرجات: فإنه وصف للدرجات بالرفعة، وبكي: وزنه فعول، وهو جمع باك. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى البكاء. والخلف بفتح اللام: يستعمل في الصالح، وبسكون اللام في الطالح. وقد يستعمل كل واحد في الآخر، قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب (1) الاعراب: * (سجدا وبكيا) * نصب على الحال، وتقديره خروا ساجدين وباكين: قال الزجاج: وهي حال مقدرة المعنى، خروا مقدرين السجود، لأن الإنسان في حال خروره، لا يكون ساجدا. * (إلا من تاب) *: في موضع نصب أي: فسوف يلقون العذاب إلا التائبين، فيكون الإستثناء متصلا. ويجوز أن يكون الإستثناء منقطعا من غير الأول، ويكون المعنى: لكن من تاب وآمن فأولئك يدخلون الجنة. المعنى: ثم ذكر سبحانه حديث إدريس، فقال: * (واذكر) * يا محمد * (في الكتاب) * الذي هو القرآن * (إدريس) * وهو جد أب نوح عليه السلام، واسمه في التوراة أخنوخ. وقيل: إنه سمي إدريس لكثرة درسه الكتب، وهو أول من خط بالقلم، وكان خياطا، وأول من خاط الثياب. وقيل: إن الله تعالى علمه النجوم والحساب، وعلم الهيأة، وكان ذلك معجزة له * (إنه كان صديقا نبيا) * مر معناه * (ورفعناه مكانا عليا) * أي: عاليا رفيعا. وقيل: إنه رفع إلى السماء الرابعة، عن أنس، وأبي سعيد الخدري، وكعب، ومجاهد. وقيل: إلى السماء السادسة، عن ابن عباس، والضحاك قال مجاهد: رفع إدريس عليه السلام كما رفع عيسى عليه السلام، وهو حي لم يمت. وقال آخرون: إنه قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة، وروي ذلك عن أبي جعفر. وقيل: إن معناه ورفعنا محله ومرتبته بالرسالة كقوله تعالى * (ورفعنا لك ذكرك) *، ولم يرد به رفعة المكان، عن الحسن، والجبائي، وأبي مسلم. (1) هذا بيت من قصيدة مشهورة قالها في رثاء أخيه من أمه أربد بن قيس، وقد خرج مع عامر بن الطفيل ليعذرا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا عليهما في قصة مشهورة، فماتا من رجوعهما. وقد مر البيت بمعناه في الجزء الثاني من هذا التفسير فراجع.. (*)
[ 431 ]
ولما فصل سبحانه ذكر النبيين، ووصف كلا منهم بصفة تخصه، جمعهم في المدح والثناء، فقال * (أولئك) * تقدم ذكرهم * (الذين أنعم الله عليهم) * بالنبوة. وقيل: بالثواب، وبسائر النعم الدينية، والدنيوية * (من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل) * إنما فرق سبحانه ذكر نسبهم، مع أن كلهم كانوا من ذرية آدم عليه السلام، لتبيان مراتبهم في شرف النسب، فكا لإدريس شرف القرب لآدم، لأنه جد نوح عليه السلام. وكان إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، لأنه من ولد سام بن نوح. وكان إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، من ذرية إبراهيم لما تباعدوا من آدم، حصل لهم شرف إبراهيم. وكان موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، من ذرية إسرائيل. * (وممن هدينا واجتبينا) * قيل: إنه تم الكلام عند قوله إسرائيل: ثم ابتدأ فقال: * (وممن هدينا واجتبينا) * من الأمم قوم * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * فحذف لدلالة الكلام عليه، عن أبي مسلم. وروي عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال: نحن عنينا بها. وقيل: بل المراد به الأنبياء الذين تقدم ذكرهم من ذرية آدم، و ممن هديناهم، واجتبيناهم أي: هديناهم إلى الحق فاهتدوا، واخترناهم من بين الخلق. ثم وصفهم فقال * (إذا تتلى عليهم) * أي: تقرأ عليهم * (آيات الرحمن) * وهو القرآن، عن ابن عباس، * (خروا سجدا) * أي: ساجدين لله * (وبكيا) * أي: باكين متضرعين إليه. بين الله سبحانه أنهم مع جلالة قدرهم، كانوا يبكون عند ذكر آيات الله، وهؤلاء العصاة ساهون لاهون، مع إحاطة السيئات بهم. ثم أخبر سبحانه، فقال: * (فخلف من بعدهم خلف) * والخلف: البدل السئ، معناه: من بعد النبيين المذكورين قوم سوء. وقيل: هم الهيود ومن تبعهم، لأنهم من ولد إسرائيل، وقيل: هم من هذه الأمة عند قيام الساعة، عن مجاهد، وقتادة. * (أضاعوا الصلاة) * تركوها، عن محمد بن كعب. وقيل: أضاعوها بتأخيرها. عن مواقيتها، من غير أن تركوها أصلا، عن ابن مسعود، وإبراهيم، وعمر بن عبد العزيز، والضحاك، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. * (واتبعوا الشهوات) * أي: أنفذوا الشهوات فيما حرم الله عليهم. فقال وهب: فخلف من بعدهم خلف شرابون للقهوات، لعابون بالكعبات، ركابون للشوات،
[ 432 ]
متبعون للذات، تاركون للجمعات، مضيعون للصلوات * (فسوف يلقون غيا) * أي: يلقون مجازاة الغي، عن الزجاج. وهذا كقوله * (ومن يفعل ذلك يلق آثاما) * أي: مجازاة الآثام. وقيل: يلقون غيا أي: شرا وخيبة، عن ابن عباس، وابن زيد، ومنه قول الشاعر: (ومن يغو لا يعدم على الغي لائما) أي يخب. وقيل: الغي واد في جهنم عن ابن مسعود، وعطاء، وكعب * (إلا من تاب) * أي: ندم على ما سلف * (وآمن) * في مستقبل عمره * (وعمل صالحا) * من الواجبات، والمندوبات * (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) * ومن قرأ يدخلون بضم الياء، وفتح الخاء، أراد: إن الله سبحانه يدخلهم الجنة بأن يأمرهم بدخولها، وهذا يطابق قوله * (ولا يظلمون) *. ومن قرأ * (يدخلون) *: أراد أنهم يدخلونها بأمر الله، والمعنيان واحد، ولا يبخسون شيئا من ثوابهم، بل يوفيه الله إليهم على التمام والكمال. وفي هذا دلالة على أن الله لا يمنع أحدا ثواب عمله، ولا يبطله، لأنه سبحانه سمى ذلك ظلما. * (جنات عدن التى وعد الرحمان عباده بالغيب إنه كان وعده ومأتيا (61) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (62) تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا (63) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65)) *. القراءة: قرأ رويس، عن يعقوب: * (نورث) * بالتشديد. والباقون: * (نورث) * وفي بعض الروايات عن أبي عمرو: * (هل تعلم) * يدغم اللام في التاء. والأكثر الإظهار. الحجة: يقال أورثه وورثه بمعنى. قال علي: يرى سيبويه أن إدغام اللام في التاء، والدال، والطاء، والصاد، والزاي، والسين، جائز، لأن مخرج اللام قريب من مخارجهن، وهي حروف طرف اللسان، وأنشد لمزاحم العقيلي:
[ 433 ]
فذرذا، ولكن هتعين متيما على ضوء برق آخر الليل ناصب (1) الاعراب: * (جنات عدن) * بالنصب على البدل من قوله * (الجنة) *. وقوله * (بالغيب) *: في موضع الحال أي: كائنة بالغيب. وذو الحال جنات عدن. و * (سلاما) *: استثناء منقطع، فكأنه قال لا يسمعون فيها كلاما يؤلمهم، ولكن يسمعون سلاما. * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * تقديره: قل ما نتنزل، فأضمر القول. * (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) *: قال أبو علي: هذه الآية تدل على أن الأزمنة ثلاثة: ماض وهو قرله * (ما بين أيدينا) *، ومستقبل وهو قوله * (وما خلفنا) * وحال وهو قوله * (وما بين ذلك) *. * (وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض) * بدل من اسم كان، وإن شئت كان خبر مبتدأ محذوف، وإن شئت كان مبتدأ. وقوله * (فاعبده) *: خبره وهذا على قول الأخفش، دون سيبويه. النزول: قيل: إن العاص بن وائل السهمي، لم يعط أجرة أجير استعمله، وقال: لو كان ما يقوله محمد حقا، فنحن أولى بالجنة ونعيمها ! فحينئذ أوفره أجره فنزل * (تلك الجنة التي نورث) * الآية. وقيل: احتبس الوحي أياما لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فشق ذلك عليه. فلما أتاه جبرائيل استبطأه فنزلت * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * الآية، عن عكرمة، والضحاك، وقتادة، والكلبي، ومقاتل. المعنى: ثم وصف سبحانه الجنة، فقال: * (جنات عدن) * أي: جنات إقامة. يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به. ووحد في الآية المتقدمة، وجمع ههنا، فكأنه جنة تشتمل على جنات. وقيل: لأن لكل واحد من المؤمنين جنة تجمعها الجنة العظماء * (التي وعد الرحمن عباده بالغيب) * المراد بالعباد: المؤمنون كما قال * (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) *. وقيل: إنه يتناول المؤمن والكافر، ولكن بشرط رجوع الكافر عن كفره. وقال * (بالغيب) *: لأنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، عن ابن عباس. والمعنى: إنه وعدهم أمرا لم يكونوا يشاهدونه، فصدقوه وهو غائب عنهم. * (إنه كان وعده) * أي: موعوده * (مأتيا) * أي: آتيا لا محالة. والمفعول هنا بمعنى الفاعل، لأن ما آتيته فقد أتاك. وما أتاك فقد (1) أصله: هل تعين، أدغم اللام في التاء. (*)
[ 434 ]
أتيته. يقال: أتيت على خمسين سنة، وأتت عل خمسون سنة. وقيل: إن الموعود هو الجنة، والجنة مأتية، يأتيها المؤمنون * (لا يسمعون فيها لغوا) * أي: لا يسمعون في تلك الجنات القول الذي لا معنى له يستفاد، وهو اللغو. وقيل: قد يكون اللغو الهزل، وما يلغي من الكلام، مثل الفحش، والأباطيل * (إلا سلاما) * أي: إلا سلام الملائكة عليهم، وسلام بعضهم على بعض. قال الزجاج: السلام إسم جامع لكل خير، لأنه يتضمن السلامة أي: يسمعون ما يسلمهم * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * قال المفسرون: ليس في الجنة شمس ولا قمر، فيكون لهم بكرة وعشيا. والمراد: إنهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء والعشاء. وقيل: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أجبت به، وكانت تكره الوجبة، وهي الأكلة الواحدة في اليوم. فأخبر الله تعالى أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا، على قدر ذلك الوقت، وليس ثم ليل، وإنما هو ضوء ونور، عن قتادة. وقيل: إنهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب، وإغلاق الأبواب، ومقدار النهار برفع الحجب، وفتح الأبواب. * (تلك الجنة التي) * هي مذكورة في قوله * (فأولئك يدخلون الجنة) * التي * (نورث من عبادنا من كان تقيا) * أي: إنما نملك تلك الجنة من كان تقيا في دار الدنيا، بترك المعاصي، وفعل الطاعات. وإنما قال * (نورث) * مع أنه ليس بتمليك نقل من غيرهم إليهم، لأنه شبه بالميراث من جهة أنه تمليك بحال استؤنفت عن حال قد انقضت من أمر الدنيا، كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا، عن الجبائي. وقيل: إنه تعالى أورثهم من الجنة المساكن والمنازل التي كانت لأهل النار لو أطاعوا الله تعالى، وأضاف العباد إلى نفسه، لأنه أراد المؤمنين. * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبرائيل: ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * الآية. أي: إذا أمرنا نزلنا عليك، وهو قول مجاهد، وقتادة، والضحاك. وقيل: إنه قول أهل الجنة: إنا لا نتنزل موضعا من الجنة إلا بأمر الله تعالى، عن أبي مسلم. * (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) * معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة، وما خلفنا أي: ما مضى من أمر الدنيا، وما بين ذلك أي: ما بين النفختين، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والربيع. قال مقاتل: وما بين النفختين أربعون سنة. وقيل: معناه ابتداء
[ 435 ]
خلقنا، ومنتهى آجالنا، ومدة حياتنا. وقيل: ما بين أيدينا: ما بقي من أمر الدنيا. وما خلفنا: ما مضى من الدنيا. وما بين ذلك: من حياتنا أي: هو المدبر لنا في الأوقات الماضية، والآتية، والذاهبة. وقيل: ما بين أيدينا أي: الأرض عند نزولنا. وما خلفنا: السماوات إذ نزلنا منها. وما بين ذلك السماء والأرض. * (وما كان ربك نسيا) * قيل: هذا تمام حكاية قول الملائكة، وقول أهل الجنة. وقيل: بل تم الكلام قبله، ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه، ومعناه: إنه سبحانه ليس ممن ينسى، ويخرج عن كونه عالما، لأنه عالم لذاته، وتقديره: وما نسيك يا محمد، وإن أخر الوحي عنك. وقيل: ما كان ربك ناسيا لأحد حتى لا يبعثه يوم القيامة، عن أبي مسلم * (رب السماوات والأرض) * أي: خالقهما ومدبرهما * (وما بينهما) * من الخلائق، والأشياء * (فاعبده) * وحده، لا شريك له * (واصطبر لعبادته) * أي: إصبر على تحمل مشقة عبادته. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (هل تعلم له سميا) * أي: مثلا وشبيها، عن ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج، وسعيد بن جبير. وقيل: هل تعلم أحدا يستحق أن يسمى إلها إلا هو، عن الكلبي. وقيل: هل تعلم أحدا يسمى إلها خالقا، رازقا، محييا، مميتا قادرا على الثواب والعقاب، سواه، حتى تعبده ؟ فإذا لم تعلم ذلك، فالزم عبادته. وهذا استفهام بمعنى النفي أي: لا تعلم من يسمى بلفظة الله. * (ويقول الإنسان أءذا مامت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فو ربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضر نهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70)) *. القراءة: قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وروح، وزيد، عن يعقوب، وسهل: * (أولا يذكر) * خفيفا. والباقون: * (أولا يذكر) * بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: التذكر يراد به التدبر والتفكر، وليس تذكرا عن نسيان. والثقيلة كأنه في هذا المعنى أكثر، فمن ذلك قوله * (أولم نعمركم) * ما يتذكر فيه من
[ 436 ]
تذكر. وقال: * (إنما يتذكر أولو الألباب) * فإضافته إلى أولي الألباب، يدل على أن المراد به النظر، والتفكر. والخفيفة في هذا المعنى دون ذلك في الكثرة. وقد قال الله تعالى * (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره) *. وزعموا أنه في حرف أبي: أولا يتذكر. وأما قوله * (ولم يك شيئا) *: فمعناه لم يك شيئا موجودا، وليس يراد أنه قبل الخلق لم يقع عليه اسم شئ. وهذا كقوله تعالى * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * وقد قال: * (إن زلزلة الساعة شئ عظيم) *. اللغة: الجثي: جمع الجاثي، وهو الذي برك على ركبتيه، وأصله: جثو، فعول من جثى يجثو. وقد تقدم القول فيه في أوائل السورة. والشيعة: الجماعة المتعاونون على أمر واحد من الأمور، ومنه تشايع القوم: إذا تعاونوا. والصلي: مصدر صلي يصلي صليا، مثل لقي يلقي لقيا. وصلى يصلي صليا، مثل مضى يمضي مضيا. الاعراب: العامل في قوله * (أإذا مامت) * مضمر دل عليه قوله: * (لسوف أخرج حيا) * والتقدير: أإذا مامت بعثت. ولا يجوز أن يعمل فيه أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله، كما أن ما بعد أن كذلك، وما بعد الإستفهام، وحرف النفي. وقد ذكرنا ذلك في مواضع. * (والشياطين) *: يحتمل أن يكون منصوبا بأنه مفعول به أي: ونحشر الشياطين، ويحتمل أن يكون مفعولا معه بمعنى لنحشرنهم مع الشياطين. و * (جثيا) *: منصوب على الحال. و * (عتيا) *: منصوب على التمييز. وكذلك * (صليا) *. فأما الرفع في * (أيهم أشد) * قال الزجاج: فيه ثلاثة أقوال أحدها: قال سيبويه، عن يونس: إن * (لننزعن) * معلقة لم تعمل شيئا، فكان قول يونس * (ثم لننزعن) * من كل شيعة. ثم استأنف فقال * (أيهم) *. والثاني: حكى سيبويه عن الخليل أنه بمعنى الذين يقال لهم أيهم أشد على الرحمن عتيا، ومثله قول الشاعر: ولقد أتيت من القناة بمنزل فأبيت لا حرج، ولا محروم والمعنى: فأبيت بمنزلة الذي يقال لا هو حرج، ولا محروم والثالث: قال سيبويه: إن * (أيهم) * مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها بأن استعمل معها حذف الإبتداء. تقول: إضرب أيهم أفضل، تريد أيهم هو أفضل. فيحسن الإستعمال كذلك بحذف هو، ولا يحسن إضرب من أفضل، حتى تقول من هو أفضل. ولا يحسن كل ما أطيب حتى تقول كل ما هو أطيب. قال: فلما خالفت من، وما،
[ 437 ]
والذي، لا تقول فيه أيضا خذ الذي أفضل، حتى تقول خذ الذي هو أفضل. فلما خالفت الإختلاف، بنيت على الضم في الإضافة، والنصب حسن. وإن كنت قد حذفت هو لأن هو قد يجوز حذفها. وقد قرئ تماما على الذي أحسن، على معنى الذي هو أحسن. قال أبو علي: ينبغي أن يكون مراد يونس بقوله: إن الفعل معلق، أنه معمل في موضع من كل شيعة، وليس يريد به أنه غير معمل في شئ البتة. بل يريد إنه معمل في موضع الجار والمجرور، لأ لفظ التعليق، إنما يستعمل فيما يعمل في الموضع دون اللفظ. ولو أراد أنه لا عمل له في لفظ ولا موضع لقال ملغى. ولم يقل معلق. كما تقول في زيد ظننت منطلق، أنه ملغى. وإذا كان كذلك، كان قول الكسائي في الآية مثل قول يونس، لأن الكسائي قال: إن قوله * (لننزعن من كل شيعة) * كقولك: أكلت من طعام، فإن كان كذلك، كان * (أيهم) * منقطعا من هذه الجملة، وكانت جملة مستأنفة. فإن قال قائل: لم زعم سيبويه أنه إذا حذف العائد من الصلة، وجب البناء على الضم ؟ فالجواب: إن الصلة تبين الموصول وتوضحه، كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه. فكما أن المضاف إليه لما حذف بني المضاف، فكذلك لما حذف العائد من الصلة إلى الموصول هنا بني. فإن قال: ما ينكر أن لا يكون حذف المبتدأ العائد من الصلة عوض حذف المضاف إليه من المضافات، لأن المحذوف هنا بعض الجملة، وفي المضاف قد حذف المضاف كله ؟ قيل: إن حذف العائد هنا نظير حذف المضاف إليه هناك. ألا ترى أن الذي يبين به الموصول، ويتضح، إنما هو الراجع الذي في الجملة، ولولا الراجع لم يبين. وإذا كان المبين له الراجع من الجملة، فالحذف منها كان بمنزلة حذف المضاف إليه من المضاف. النزول: نزل قوله * (ويقول الإنسان) * الآية، في أبي بن خلف الجمحي، وذلك أنه أخذ عظما باليا، فجعل يفته بيده، ويذريه في الريح، ويقول: زعم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يبعثنا بعد أن نموت، ونكون عظاما، مثل هذا، إن هذا شئ لا يكون أبدا، عن الكلبي. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة في رواية عطاء، عن ابن عباس. المعنى: لما تقدم ذكر الوعد والوعيد، والبعث والنشور، حكى سبحانه عقيبه، قول منكري البعث، ورد عليهم بأوضح بيان، وأجلى برهان، فقال:
[ 438 ]
* (ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا) * هذا استفهام المراد به الإنكار والإستهزاء أي: أإذا ما مت أعادني الله حيا. فقال سبحانه مجيبا لهذا الكافر: * (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل) * أي: أولا يتذكر هذا الجاحد، حال ابتداء خلقه، فيستدل بالإبتداء على الإعادة. وقيل: إن الإنسان هنا مفرد في اللفظ، مجموع في المعنى، يريد جميع منكري البعث * (ولم يك شيئا) * معناه: ولم يك شيئا كائنا، أو مذكورا (سؤال): قيل كيف تدل النشأة الأولى على النشأة الثانية، والواحد منا يقدر على أفعاله كالحركات، والسكنات، والأصوات، وغيرها، ولا يقدر على إعادتها ؟ (والجواب): من وجوه أحدها: إنه سبحانه خلق الأجسام والحياة فيها، والبقاء جائز عليها، فيجب أن يقدر على إعادتها، بخلاف أفعالنا، فإنها لا تبقى، ولا يصح الإعادة عليها والثاني: إن الإبتداء أصعب من الإعادة، فإذا كان قادرا على الإبتداء، فلان يكون قادرا على الإعادة أولى والثالث: إنه سبحانه استدل بخلق الأجسام على أنه قادر لذاته، إذ القادر بقدرة لا يصح منه فعل الأجسام، وإذا كان قادرا لذاته، ويقدر على إيجاد ما يصح وجوده وقتين، قدر على إعادته. ثم حقق سبحانه أمر الإعادة، فقال. * (فوربك) * يا محمد * (لنحشرنهم والشياطين) * أي: لنجمعنهم، ونبعثنهم من قبورهم، مقرنين بأوليائهم من الشياطين. وقيل: لنحشرنهم، ولنحشرن الشياطين أيضا * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) * أي: مستوفزين على الركب، عن قتادة. والمعنى: يجثون حول جهنم، متخاصمين، ويتبرأ بعضهم من بعض، لأن المحاسبة تكون بقرب جهنم. وقيل: جثيا أي: جماعات جماعات، عن ابن عباس، كأنه قيل زمرا، وهو جمع جثوة. وجثوة: هي المجموع من التراب والحجارة. وقيل: معناه قياما على الركب، وذلك لضيق المكان بهم، لا يمكنهم أن يجلسوا، عن السدي * (ثم لننزعن من كل شيعة) * أي: لنستخرجن من كل جماعة * (أيهم أشد على الرحمن عتيا) * أي الأعتى فالأعتى منهم. قال قتادة: لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤوسهم في الشر. والعتي هاهنا: مصدر كالعتو، وهو التمرد في العصيان. وقيل: يبدأ بالأكثر جرما فالأكثر، عن مجاهد، وأبي الأحوص * (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) * أي: لنحن أعلم بالذين هم أولى بشدة العذاب، وأحق بعظيم العقاب، وأجدر بلزوم النار. * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين
[ 439 ]
اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72) وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (75)) *. القراءة: قرأ الكسائي، وروح، وزيد، عن يعقوب: * (ثم ننجي) * بالتخفيف. والباقون: * (ننجي) * بالتشديد. وقرأ ابن كثير: * (مقاما) * بضم الميم. والباقون بفتحها. وقرأ أهل المدينة، غير ورش، وابن عامر، والأعشى، والبرجمي، عن أبي بكر: * (وريا) * بغير همز، مشددة الياء. والباقون: * (ورئيا) * مهموزة في الشواذ قراءة طلحة: * (وريا) * خفيفة بلا همز، وقراءة سعيد بن جبير: * (وزيا) * بالزاي. الحجة: أنجاه، ينجيه. ونجاه ينجيه، بمعنى. والمصدر واسم الموضع من باب يفعل يجئ على مفعل. فالمقام بفتح الميم، يصلح أن يكون مصدرا من قام يقوم، ويصلح أن يكون اسم الموضع. والمقام: المصدر والموضع من أقام يقيم. فأما قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول، والفعل (1) فإنما هو على حذف المضاف أي: أهل مقامات ومشاهد. وروي عن الأصمعي أنه قال: المجلس: القوم، وأنشد: (واستب بعدك يا كليب المجلس) (2) قال أبو علي: المجلس موضع الجلوس، فالمعنى: على أهل المجلس كما أن المعنى على أهل المقامات. قال السكري: المقامة: المجلس، والمقام: المنزل. وقوله * (خير مقاما) * من ضم الميم، جعله إسما للمثوى. ومن فتح كان (1) أندية: جمع الندي بمعنى العطاء. وينتابها أي: بقصدها. (2) استب أي: سب كل واحد منهم الآخر. (*)
[ 440 ]
كذلك أيضا. ألا ترى أن الندي والنادي: هما المجلس، فمن ذلك قوله تعالى * (وتأتون في ناديكم المنكر) *. ويدل على ذلك قوله: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا) * فإنه لا يراد به الحدث، إنما يراد به حسن الشارة، والهيئة، والمنظر، وهذا إنما يكون في الأماكن. وأما قوله * (ورئيا) * قال أبو علي: رؤي فعل من رأيت، فكأنه اسم لما ظهر، وليس المصدر. وإنما المصدر الرأي والرؤية. يدل على ذلك قوله * (يرونهم مثليهم رأي العين) *. فالرأي الفعل. والرءي: المرئي. كالطحن والطحن، والسقي والسقي، والرعي والرعي. ومن خفف الهمزة من * (ورئيا) * لزم أن يبدل منها الياء، لانكسار ما قبلها، كما يبدل من ذئب وبئر، فإذا أبدل منها الياء، وقعت ساكنة قبل حرف مثله، فلا بد من الإدغام. وليس يجوز الإهار في هذا كما جاز إظهار الواو في نحو رؤيا، ورؤية يعني إذا خففت الهمزة فيها، لأن الياء في ريا قبل مثل. ووقعت في رؤيا قبل ما يجري مجرى المقارب. قال ابن جني: من قرأ * (وريا) * مشددة فإنه فعل إما من رأيت، وإما من رويت، وأصله، وهو من الهمزة وريا كرعيا، فخففت الهمزة، وأبدلت ياء، وأدغمت الياء الثانية. ويجوز أن يكون من رويت، لأن للريان نضارة وحسنا، فيتفق معناه، ومعنى * (وزيا) * بالزاي، وأصله على هذا زوي، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت في الياء. وأما * (ريا) * مخففة فيحتمل أن يكون مقلوبة من فعل إلى فعل فصار في التقدير * (رئيا) *. ثم حذفت الهمزة، وألقيت حركتها على الياء قبلها، فصارت * (ريا) *. ويحتمل أن يكون * (ريا) * من رويت، ثم خففت بحذف إحدى الياءين، فصارت * (ريا) *. وأما الزي بالزاي ففعل من زويت أي: جمعت ذلك، وذلك أنه يقال لمن له شئ واحد من آلته: له زي، حتى يكثر آلته المستحسنة، وأنشد ابن دريد: أهاجتك الظعائن يوم باتوا بذي الزي الجميل من الأثاث اللغة: الحتم: القطع بالأمر. والحتم، والجزم، والقطع، بمعنى. والندي والنادي: المجلس الذي قد اجتمع فيه أهله، ومنه دار الندوة: وهي دار قصي بمكة، وكانوا يجتمعون فيه للتشاور، تيمنا به. وقد ندوت القوم أندوهم: إذا جمعتهم في مجلس، وأصل الندى أنه مجلس أهل الندى: وهو الكرم، قال حاتم:
[ 441 ]
ودعيت في أولى الندي، ولم ينظر إلي بأعين خزر (1) والأثاث: المتاع من الفرش والثياب التي تزين بها واحدها أثاثة. وقيل: لا واحد لها. والري: ما يراه الرجل من ظاهر أحوال القوم، وهو اسم للمرئي، كالذبح: اسم للمذبوح. الاعراب: * (وإن منكم إلا واردها) *: تقديره وما أحد ثابت منكم. فأحد: مبتدأ، ومنكم: صفة، وواردها: خبر. و * (جثيا) *: منصوب على الحال. مقاما ونديا: منصوبان على التمييز * (كم أهلكنا) *: كم نصب بأهلكنا، والتقدير كم قرنا أهلكنا من جملة القرون، فحذف المميز بدلالة الكلام عليه، * (فليمدد له الرحمن مدا) *: لفظه لفظ الأمر، ومعناه خبر، والتقدير فمد له الرحمن مدا، وباب الأمر والخبر يتداخلان فكما أن قوله * (والمطلقات يتربصن) * تقديره فليتربصن، فجعل لفظ الخبر بمعنى الأمر، فكذا هاهنا جعل لفظ الأمر بمعنى الخبر. وقوله * (ما يوعدون) * مفعول رأوا. و * (إما العذاب وإما الساعة) * بدل من ما يوعدون وقوله * (من هو شر مكانا) * تعليق، فعلى هذا يكون هو فصلا والفصل بين كلمة الإستفهام وخبره عزيز. فالأولى أن يكون * (من) * هنا بمعنى الذي وفي موضع نصب بسيعلمون. و * (هو شر) *: مبتدأ وخبر، والجملة صلة * (من) *. المعنى: ثم بين سبحانه أحوالهم يوم الحشر، فقال: * (وإن منكم إلا واردها) * أي: ما منكم أحد إلا واردها. والهاء في * (واردها) * راجعة إلى جهنم. واختلف العلماء في معنى الورود على قولين أحدهما: إن ورودها هو الوصول إليها، والإشراف عليها، لا الدخول فيها، وهو قول ابن مسعود، والحسن، وقتادة، واختاره أبو مسلم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى * (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) * وقوله تعالى * (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) * وبأنك تقول: وردت بلد كذا، وماء كذا أي: أشرفت عليه، دخلته أو لم تدخله. وفي أمثال العرب: (إن ترد الماء بماء أكيس) (2) وقال زهير: (1) الأخزر: الذي ينظر بمؤخر عينيه، يقال: قوم خزر. (2) يعني أن ترد الماء ومعك ماء أقرب إلى الحزم والكياسة من التفريط في حمله أي: لا تقصر في حمل الماء، ولو كنت واردا على الماء. (*)
[ 442 ]
فلما وردن الماء زرقا جمامه، وضعن عصى الحاضر المتخيم (1) أراد: فلما بلغن الماء أقمن عليه. قال الزجاج: والحجة القاطعة في ذلك قوله سبحانه * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها) * فهذا يدل على أن أهل الحسنى لا يدخلونها. قالوا: فمعناه انهم واردون حول جهنم للمحاسبة، ويدل عليه قوله: * (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) *. ثم يدخل النار من هو أهلها. وقال بعضهم: معناه إنهم واردون عرصة القيامة التي تجمع كل بر وفاجر والآخر: إن ورودها بمعنى دخولها بدلالة قوله تعالى: * (فأوردهم النار) * وقوله: * (وأنتم لها واردون) * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، وهو قول ابن عباس، وجابر، وأكثر المفسرين، ويدل عليه قوله * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *، ولم يقل وندخل الظالمين، وإنما يقال نذر ونترك للشئ الذي قد حصل في مكانه. ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إنه للمشركين خاصة، ويكون قوله * (وإن منكم) * المراد به منهم، كما قال سبحانه * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * إن هذا كان لكم جزاء أي: لهم. وروي في الشواذ عن ابن عباس أنه قرأ: * (وإن منهم) *. وقال الأكثرون: إنه خطاب لجميع المكلفين، فلا يبقى بر ولا فاجر، إلا ويدخلها، فيكون بردا وسلاما على المؤمنين، وعذابا لازما للكافرين قال السدي: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية، فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرد الناس النار، ثم يصدرون بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجل، ثم كمشيه. وروى أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد، عن أبي سمينة، قال: اختلفا في الورود، فقال قوم: لا يدخلها مؤمن. وقال آخرون: يدخلونها جميعا، ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله، فسألته، فأومى بإصبعيه إلى أذنيه، وقال: صمتا ان لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا يدخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم، حتى ان للنار، أو قال لجهنم ضجيجا من بردها * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) * وروي مرفوعا عن يعلى بن منبه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (1) يضرب في الأخذ بالحزم، والإحتياط في الأمور. ووضع العصي: كناية عن الإقامة، لأن المسافرين إذا أقاموا وضعوا عصيهم. والتخيم: ابتناء الخيمة. (*)
[ 443 ]
تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن معنى الآية، فقال: إن الله تعالى يجعل النار كالسمن الجامد، ويجمع عليها الخلق، ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك، وذري أصحابي. قال صلى الله عليه وآله وسلم: فوالذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها. وروي عن الحسن أنه رأى رجلا يضحك، فقال: هل علمت أنك وارد النار ؟ قال: نعم. قال: وهل علمت أنك خارج منها ؟ قال: لا. قال: فبم هذا الضحك ؟ وكان الحسن لم ير ضاحكا قط حتى مات. وقيل: إن الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار، وما فيها من العذاب، ليعلم تمام فضل الله عليه، وكمال لطفه وإحسانه إليه، فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنة ونعيمها، ولا يدخل أحد النار حتى يطلعه على الجنة، وما فيها من أنواع النعيم والثواب، ليكون ذلك زيادة عقوبة له، حسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها. وقال مجاهد: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ * (وإن منكم إلا واردها) *. فعلى هذا من حم من المؤمنين، فقد وردها. وقد ورد في الخبر أن الحمى من قيح جهنم. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد مريضا، فقال: أبشر إن الله عزوجل يقول: الحمى هي ناري، أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكون حظه من النار. وقوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * أي: كائنا واقعا لا محالة، قد قضى بأنه يكون. و * (على) * كلمة وجوب، فمعناه أوجب الله ذلك على نفسه. وفيه دلالة على أنه يجب عليه سبحانه أشياء من طريق الحكمة، خلافا لما يذهب إليه أهل الجبر. * (ثم ننجي الذين اتقوا) * الشرك، وصدقوا، عن ابن عباس. * (ونذر الظالمين) * أي: ونقر المشركين والكفار على حالهم * (فيها) * أي: في جهنم * (جثيا) * أي: باركين على ركبهم. وقيل: جماعات على ما مر تفسيره. وقيل: المراد بالظالمين كل ظالم وعاص. ثم قال سبحانه * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) * ومعناه: وإذا يتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن، ظاهرات الحجج والأدلة، يمكن تفهم معانيها * (قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما) * أي: قال الذين جحدوا وحدانية الله، وكذبوا أنبياءه، للذين صدقوا بذلك، مستفهمين لهم،
[ 444 ]
وغرضهم الإنكار أي الفريقين أي أنحن أم أنتم خير منزلا، ومسكنا أي: موضع إقامة * (وأحسن نديا) * أي: مجلسا. وإنما تفاخروا بالمال، وزينة الدنيا، ولم يتفكروا في العاقبة، ولبسوا على الضعفة بأن من كان ذا مال في الدنيا، فكذلك يكون في الآخرة. ثم نبههم سبحانه على فساد هذا الإعتقاد، بأن قال: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) * قال ابن عباس: الأثاث المتاع وزينة الدنيا. والرءي: المنظر والهيئة. والمعنى: إن الله تعالى قد أهلك قبلهم أمما وجماعات، كانوا أكثر أموالا، وأحسن منظرا منهم، فأهلك أموالهم، وأفسد عليهم صورهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ولا جمالهم، كذلك لا يغني عن هؤلاء. وقيل: إن المعني بالآية النضر بن الحارث وذووه، وكانوا يرجلون شعورهم، ويلبسون خز ثيابهم، ويفتخرون بشارتهم وهيآتهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (قل) * يا محمد * (من كان في الضلالة) * عن الحق، والعدول عن اتباعه * (فليمدد له الرحمن مدا) * هذا لفظ أمر، معناه الخبر، وتأويله: إن الله سبحانه جعل جزاء ضلالته، أن يمد له، بأن يتركه فيها، كما قال * (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) * إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، فكأن المتكلم يقول: أفعل ذلك وأمر نفسي به. فالمعنى: فليعش ما شاء. وأضاف ذلك إلى نفسه، لأنه سبحانه يبقيه في الدنيا أي: فليعش ما شاء الله من السنين والأعوام، فإنه لا ينفعه طول عمره * (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب) * أي: عذاب الإستئصال، عن الأصم. وقيل: عذاب وقت البأس. وقيل: عذاب القبر. وقيل: عذاب السيف * (وإما الساعة) * أي: القيامة، وعذاب النار * (فسيعلمون) * حين يرون العذاب * (من هو شر مكانا) * أي: أهم أم المؤمنون، لأن مكانهم جهنم، ومكان المؤمنين الجنة * (وأضعف جندا) * أي: ويعلمون أجندهم أضعف، أم جند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين. وهذا رد لقولهم * (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) *. * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير مردا (76) أفرءيت الذى كفر باياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) اطلع الغيب أمر اتخذ عند الرحمان عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80) واتخذوا من دون الله
[ 445 ]
ءالهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82)) *. القراءة: قرأ حمزة والكسائي: * (ولدا) * بضم الواو، وسكون اللام، في هذه السورة أربعة مواضع، وفي الزخرف: * (إن كان للرحمن ولد) * وفي نوح: * (وولده) * فهذه ستة مواضع، وقرأ أهل البصرة، وابن كثير، وخلف في سورة نوح بالضم فقط. وقرأ الباقون بفتح الواو واللام في جميع القرآن. الحجة: قال الفراء: من أمثال بني أسد: (ولدك من دمى عقبيك) (1) قال: وكان معاذ الحرشي يقول: لا يكون الولد إلا جمعا، وهذا واحد، يعني الذي في المثل، وأنشد: فليت فلانا كان في بطن أمه، وليت فلانا كان ولد حمار قال أبو علي: يجوز أن يكون جمعا كأسد وأسد، ويجوز أن يكون واحدا، فيكون ولد وولد، كحزن وحزن، وعرب وعرب. فلا يكون كقول معاذ إنه لا يكون إلا جمعا. وما أنشده الفراء من قوله. (وليت فلانا كان ولد حمار) يدل على أنه واحد ليس بجمع، فهو مثل الفلك الذي يكون مرة جمعا، ومرة واحدا. الاعراب: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) *: الموصول هو المفعول الأول لرأيت، والإستفهام في موضع المفعول الثاني، وهو قوله تعالى * (أطلع الغيب) * الآية. قال الزجاج: كلا زجر وردع وتنبيه أي: هذا مما يرتدع به، وينبه على وجه الضلالة فيه. وقال الفراء: يكون صلة لما بعدها، كقولك كلا ورب الكعبة. وقال أبو حاتم: جاءت في القرآن على وجهين: بمعنى لا يكون ذلك، وبمعنى إلا التي للتنبيه. وجاءت في مواضع متوجهة على التأويلين، ويدل على ذلك أنها قد تكون مبتدأة مثل قوله: * (علم الإنسان ما لم يعلم) *، ثم ابتدأ * (كلا إن الإنسان ليطغى) * قال الأعشى: كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم إنا لأمثالكم يا قومنا قتل (1) الخطاب لامرأة من بني القين أي: من نفست به فأدمى النفاس عقبيك، فهو ابنك، لا هذا الذي اتخذته ولدا بقولك إبني إبني. (*)
[ 446 ]
وقال أبو العباس: لا يوقف على * (كلا) * لأنها جواب، والفائدة تقع فيما بعدها. وقيل: يجوز الوقف عليه. ومن مشكلات الوقف في القرآن الوقف على * (كلا) *، وقد قسمه القرآن على أربعة أقسام أحدها: ما يحسن الوقف عليه، ويحسن الإبتداء به والثاني: يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الإبتداء به والثالث: يحسن الإبتداء به، ولا يحسن الوقف عليه والرابع: لا يحسن الوقف عليه، ولا الإبتداء به، وهو في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعا، وليس في النصف الأول شئ منه. فأما القسم الأول: وهو ما يحسن الوقف عليه، والإبتداء به، فعشرة مواضع. قوله: * (أم اتخذوا عند الرحمن عهدا كلا) * وقوله: * (ليكونوا لهم عزا كلا) *، وقوله تعالى: * (لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا) * وقوله * (الذين ألحقتم به شركاء كلا) *، وقوله: * (ثم ينجيه كلا) *، وقوله: * (أن يدخل جنة نعيم كلا) * وقوله: * (أن أزيد كلا) *، وقوله: * (صحفا منشرة كلا) *، وقوله: * (ربي أهانن كلا) *، وقوله: * (ان ماله أخلده كلا) *. فمن جعل * (كلا) * في هذه المواضع ردا للأول، بمعنى لا ليس الأمر كذلك، وقف عليه. ومن جعله بمعنى * (إلا) * التي للتنبيه، أو بمعنى حقا، ابتدأ به، وهو يحتمل الوجهين في هذه المواضع. وأما الثاني: وهو ما يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الإبتداء به فموضعان: قوله: * (فأخاف أن يقتلون قال كلا) *، وقوله: * (إنا لمدركون قال كلا) * وأما الثالث: وهو ما يحسن الإبتداء به، ولا يحسن الوقف عليه، فتسعة عشر موضعا، قوله: * (كلا انها تذكرة) *، * (كلا والقمر) *، * (كلا إنه تذكرة) *، * (كلا لما يقض ما أمره) *، * (كلا بل تكذبون بالدين) *، * (كلا إذا بلغت التراقي) *، * (كلا لا وزر) *، * (كلا بل يحبون العاجلة) *، * (كلا سيعلمون) *، * (كلا بل ران على قلوبهم) *، * (كلا إن كتاب الفجار) *، * (كلا إن كتاب الأبرار) *، * (كلا إنهم عن ربهم) *، * (كلا إذا دكت الأرض دكا) *، * (كلا إن الإنسان ليطغى) *، * (كلا لئن لم ينته) *، * (كلا لا تطعه) *، * (كلا سوف تعلمون) *، * (كلا لو تعلمون) *. يحسن الإبتداء بكلا في هذه المواضع ولا يحسن الوقف عليه، لأنه ليس بمعنى الرد للأول. وقال بعضهم: إنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن، لأنه بمعنى انتبه إلا في موضع واحد، وهو قوله * (كلا والقمر) *، لأنه موصول باليمين بمنزلة
[ 447 ]
قوله: أي وربي. وأما الرابع فموضعان: * (ثم كلا سيعلمون) * * (ثم كلا سوف تعلمون) * لا يحسن الوقف على * (ثم) * لأنه حرف عطف، ولا على * (كلا) * لأن الفائدة فيما بعد هذين الحرفين. النزول: روي في الصحيح عن خباب بن الأرت، قال: كنت رجلا غنيا، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت: لن أكفر به حتى تموت وتبعث. قال: فإني لمبعوث بعد الموت، فسوف أقضيك دينك إذا رجعت إلى مال وولد ! قال: فنزلت الآية: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) *. المعنى: ثم بين سبحانه حال المؤمن فقال سبحانه: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) * قيل: معناه ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ، عن مقاتل. وقيل: يزيدهم هدى بالمعونة على طاعاته، والتوفيق لابتغاء مرضاته، وهو ما يفتحه لهم من الدلالات، وما يفعله بهم من الألطاف المقربة من الحسنات * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) * قد مر تفسيره في سورة الكهف، وجملته أن الأعمال الصالحة التي تبقى ببقاء ثوابها، وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، خير ثوابا من مقامات الكفارات التي يفتخرون بها كل الإفتخار * (وخير مردا) * أي: خير عاقبة ومنفعة. يقال: هذا الشئ أرد عليك أي: أنفع وأعود عليك، لأن العمل الصالح ذاهب عنه بفقده له، فيرده الله تعالى عليه برد ثوابه إليه، حتى يجده في نفسه * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) * أفرأيت: كلمة تعجيب، ومعناه أرأيت هذا الكافر الذي كفر بأدلتنا من القرآن وغيره، وهو العاص بن وائل، عن ابن عباس، ومجاهد، وقيل: الوليد بن المغيرة، عن الحسن. وقيل: هو عام فيمن له هذه الصفة، عن أبي مسلم. * (وقال لأوتين مالا وولدا) * استهزاء أي: لأعطين مالا وولدا في الجنة، عن الكلبي. وقيل: أعطي في الدنيا أي: إن أقمت على دين آبائي، وعبادة آلهتي، اعطيت مالا وولدا * (أطلع الغيب) * هذه همزة الإستفهام دخلت على همزة الوصل، فسقطت همزة الوصل، ومعناه أعلم الغيب حتى يعلم أهو في الجنة أم لا، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه أنظر في اللوح المحفوظ، عن الكلبي، وتأويله أشرف على علم الغيب حتى علم أنه سنؤتيه مالا وولدا، وأنه إن بعث رزق مالا وولدا
[ 448 ]
* (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) * أي: اتخذ عند الله عهدا بعمل صالح قدمه، عن قتادة. وقيل: معناه أم عهد الله إليه أنه يدخل الجنة، عن الكلبي. وقيل: معناه أم قال لا إله إلا الله، فيرحمه الله بها، عن ابن عباس. * (كلا) * أي: ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد. ويجوز أن يكون المعنى: كلا إنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الله عهدا. * (سنكتب ما يقول) * أي: سنأمر الحفظة بإثباته عليه، لنجازيه به في الآخرة، ونوافقه عليه * (ونمد له من العذاب مدا) * أي: نصل له بعض العذاب بالبعض، ونزيده عذابا فوق العذاب، فلا ينقطع عذابه أبدا. وأكد الفعل بالمصدر، كما يؤكد بالتكرير * (ونرثه ما يقول) * أي: ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه، وإبطال ملكه، عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد * (ويأتينا فردا) * أي: يأتي الآخرة وحيدا بلا مال، ولا ولد، ولا عدة، ولا عدد. * (واتخذوا من دون الله آلهة) * يعني ان هؤلاء الكفار الذين وصفتهم، اتخذوا آلهة أي أصناما عبدوها * (ليكونوا لهم عزا) * أي: ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة، عن الفراء، وهذا معنى قول ابن عباس. ليمنعوهم مني، وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة، والمراد: ليصيروا بهم إلى العز، قال الله سبحانه: * (كلا) * أي: ليس الأمر كما ظنوا، بل صاروا بهم إلى الذل، والعذاب * (سيكفرون بعبادتهم) * أي: سيجحدون بأن يكونوا عبدوها، ويتبرؤون منها، لما يشاهدون من سوء عاقبة أمرهم، ويقولون * (والله ربنا ما كنا مشركين) *. وقيل: معناه إن المعبودين سيكفرون بعبادة المشركين لها، ويكذبونهم فيها، كما قال حكاية عنهم * (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *، عن الجبائي * (ويكونون عليهم ضدا) * قال الأخفش: الضد يكون واحدا، وجمعا، كالرسول والعدو، ومعناه: و يكونون عونا عليهم، وأعداء لهم يخاصمونهم، ويكذبونهم. وقيل: ويكونون قرناء لهم في النار، ويلعنونهم، ويتبرؤون منهم، عن قتادة. وقيل: ويكونون أعداءهم يوم القيامة، وكانوا في الدنيا أولياءهم، عن القتيبي. * (ألم ترأنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا (85) ونسوق
[ 449 ]
المجرمين إلى جهنم وردا (86) لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا (87) وقالوا اتخذ الرحمان ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمان ولدا (91) وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا (92)) *. القراءة: في الشواذ رواية قتادة، عن الحسن * (يحشر المتقون) *، و * (يساق المجرمون) * قال: فقلت: إنها بالنون يا أبا سعيد، قال: وهي للمتقين إذا. وقراءة السلمي * (شيئا إدا) * بفتح الهمزة. وقرأ أبو جعفر، وابن كثير، وحفص: * (تكاد) * بالتاء * (يتفطرن) * بالتاء، وفتح الطاء مشددة، وفي عسق، مثله. وقرأ نافع والكسائي: * (يكاد) * بالياء، * (يتفطرن) * في السورتين. وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وهبيرة، عن حفص، ويعقوب: * (تكاد) * بالتاء، * (ينفطرن) * بالياء، والنون، وكسر الطاء في السورتين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، هاهنا: * (تكاد) * بالتاء، * (ينفطرن) * بالنون، مثل أبي عمرو. وفي عسق: * (تكاد) * بالتاء، * (يتفطرن) * بالتاء أيضا. الحجة: حجة من قرأ * (يحشر، ويساق) * قوله تعالى * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) * والأد بالفتح: القوة. قال: (نضوت عني شرة وأدا) (1). فعلى هذا يمكن أن يكون المعنى: لقد جئتم شيئا أد أي: ذا قوة. وإن شئت وصفته بالمصدر، كقولهم: رجل عدل، وضيف. والإنفطار: مطاوعة الفطر، يقال فطره فانفطر، والتفطر: مطاوعة التفطير، يقال فطرته فتفطر، وكأنه أليق بهذا الموضع، لما فيه من معنى المبالغة، وتكرير الفعل. وذهب أبو الحسن في معنى قوله * (تكاد السماوات) *: إلى أن معنى * (تكاد) * تريد، وكذلك قال في قوله * (كذلك كدنا ليوسف) * أي: أردنا له، وأنشد: كادت، وكدت، وتلك خير إرادة، لو عاد من ذكر الصبابة ما مضى (1) وفي اللسان: (نضون عني شدة وأدا) وبعده: (من بعد ما كنت صمالا نهدا). (*)
[ 450 ]
وكذلك قوله في * (أكاد أخفيها) * أي: أريد أخفيها. وعلى هذا فسر غيره قول الأفوه: فإن تجمع أوتاد، وأعمدة، وساكن، بلغوا الأمر الذي كادوا أي: أرادوا، قال: المعنى يردن لا انهن ينفطرن، ولا يدنون من ذلك، ولكن من هممن به، إعظاما لقول المشركين، ولا يكون على من هم بالشئ أن يدنو منه. ألا ترى أن رجلا لو أراد أن ينال السماء، لم يدن من ذلك، وقد كانت منه إرادة. وقد قال بعض المتأولين ني قوله * (تكاد السماوات يتفطرن منه هدا) *: مثل كانت العرب إذا سمعت كذبا، أو منكرا، تعاظمته، وعظمته بالمثل الذي عندها عظيما، فقالت: كادت الأرض تنشق، وأظلم علي ما بين السماء والأرض. فلما افتروا على الله الكذب، ضرب مثل كذبهم بأهول الأشياء وأعظمها. قال أبو علي: ومما يقرب من هذا قول الشاعر: ألم تر صدعا في السماء مبينا على ابن لبينى الحارث بن هشام وقول الآخر: وأصبح بطن مكة مقشعرا، كأن الأرض ليس بها هشام وقال الآخر: لما أتى خبر الزبير، تواضعت سور المدينة، والجبال الخشع اللغة: الأز: الإزعاج إلى الأمر، يقال أزه يأزه أزا وأزيزا: إذا هزه بالازعاج إلى أمر من الأمور. وأزت القدر أزيزا: إذا غلت. ومنه الحديث: إنه كان يصلي وأزيز جوفه كأزيز المرجل من البكاء. واززت الشئ إلى الشئ: ضممته إليه. والوفد: جمع وافد، وقد يجمع وفودا أيضا. وفد يفد وفدا، وأوفد على الشئ: أشرف عليه. والسوق: الحث على السير، ساقه يسوقه سوقا. ومنه الساق لاستمرار السير بها، أو لأن القدم يسوقها. ومنه السوق: لأنه يساق بها البيع والشرى شيئا بعد شئ. والورد: الجماعة التي ترد الماء، يقال: ورد الماء يرد وردا. والاد: الأمر العظيم، قال الراجز: قد لقي الأعداء مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا
[ 451 ]
والإنفطار: الإنشقاق. والتفطر: التشقق. والهد: الهدم بشدة صوت. الاعراب: * (تؤزهم) * جملة في موضع الحال. ومفعول * (نعد لهم) *: محذوف، والتقدير نعد أعمالهم عدا. و * (يوم نحشر) *: ظرف قوله * (نعد لهم) *. ويجوز أن ينتصب بقوله * (لا يملكون الشفاعة) * أي: لا يملكون في ذلك اليوم. * (وفدا) * منصوب على الحال من * (المتقين) * أي: وافدين. و * (وردا) * كذلك أي: واردين. * (إلا من اتخذ) *: هو موصول وصلة في موضع رفع، لأنه بدل من الواو في * (يملكون) *. ويجوز أن يكون في محل النصب، لأنه استثناء منقطع، فإن من اتخذ عند الرحمن عهدا لا يكون من المجرمين. وقوله * (تنشق الأرض) *: جملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وتقديره: وتكاد الأرض تنشق، والجبال تخر. * (وهدا) *: منصوب على المصدر في المعنى، تقديره: تخر خرورا، وتهد هدا. ويجوز أن يكون في موضع الحال. و * (أن دعوا) *: مفعول له، والتقدير لأن دعوا أي: لأجل ذلك. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: * (ألم تر) * يا محمد * (أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) * أي: خلينا بينهم وبين الشياطين إذا وسوسوا إليهم، ودعوهم إلى الضلال حتى أغووهم، ولم نحل بينهم وبينهم بالإلجاء، ولا بالمنع. وعبر عن ذلك بالإرسال على سبيل المجاز، والتوسع، كما يقال لمن خلى بين الكلب وغيره: أرسل كلبه عليه، عن الجبائي. وقيل: معناه سلطناهم عليهم، ويكون في معنى التخلية أيضا، على ما ذكرناه * (تؤزهم أزا) * أي: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية، عن ابن عباس. وقيل: تغريهم إغراء بالشر، تقول: امض امض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار، عن سعيد بن جبير. * (فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا) * معناه: فلتطب نفسك يا محمد، ولا تستعجل لهم العذاب، فإن مدة بقائهم قليلة، فإنا نعد لهم الأيام والسنين، وما دخل تحت العد، فكان قد نفد. وقيل: معناه نعد أنفاسهم في الدنيا فهي معدودة إلى الأجل الذي أجلنا لعذابهم، عن ابن عباس، وهذا من أبلغ الوعيد. وقيل: معناه نعد أعمالهم على ما ذكرناه قبل. * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * أي: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي نجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته، واجتنب معاصيه، إلى الرحمن أي: إلى
[ 452 ]
جنته، ودار كرامته، وفودا وجماعات، عن الأخفش. وقيل: ركبانا يؤتون بنوق لم ير مثلها، عليها رحائل الذهب، وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وابن عباس. * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * أي: ونحث المجرمين على المسير إلى جهنم عطاشا كالابل التي ترد عطاشا، مشاة على أرجلهم، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة وسمى العطاش * (وردا) * لأنهم يردون لطلب الماء. وقيل: الورد النصيب أي: هم نصيب جهنم من الفريقين. والمؤمنون نصيب الجنة، عن أبي مسلم * (لا يملكون الشفاعة) * أي: لا يقدرون على الشفاعة، فلا يشفعون، ولا يشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض، لأن ملك الشفاعة على وجهين أحدهما: أن يشفع للغير والآخر: أن يستدعي الشفاعة من غيره لنفسه فبين سبحانه أن هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعة غيرهم فيهم، ولا شفاعة لهم لغيرهم. ثم استثنى سبحانه فقال: * (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * أي: لا يملكون الشفاعة إلا هؤلاء. وقيل: لا يشفع إلا لهؤلاء. والعهد: هو الإيمان، والإقرار بوحدانية الله تعالى، وتصديق أنبيائه. وقيل: هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يتبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله، عن ابن عباس. وقيل: معناه لا يشفع إلا من وعد له الرحمن بإطلاق الشفاعة. كالأنبياء، والشهداء، والعلماء، والمؤمنين، على ما ورد به الأخبار. وقال علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: حدثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن سليمان بن جعفر عليه السلام، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يحسن وصيته عند الموت، كان نقصا في مروءته. قيل: يا رسول الله ! وكيف يوصي الميت ؟ قال: إذا حضرته وفاته، واجتمع الناس إليه، قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في دار الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب حق، والقدر والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء، وحيا الله محمدا وآله بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي
[ 453 ]
نعمتي، وإلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر، وأبعد من الخير، وآنس في القبر وحشتي، واجعل له عهدا يوم ألقاك منشورا. ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في سورة مريم في قوله * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * فهذا عهد الميت. والوصية حق على كل مسلم، وحق عليه أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام علمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: علمنيها جبرائيل عليه السلام. * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * هذا إخبار عن الهيود، والنصارى، ومشركي العرب، فإن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله. * (لقد جئتم شيئا إدا) * هاهنا حذف تقديره قل لهم يا محمد: لقد جئتم بشئ منكر عظيم، شنيع فظيع، فلما حذف الباء، وصل الفعل إليه فنصبه * (تكاد السماوات يتفطرن منه) * أي: أرادت السماوات أن تنشق لعظم فريتهم، إعظاما لقولهم، ومعناه: لو انشقت السماوات بشئ عظيم، لكانت تنشق من هذا * (وتنشق الأرض) * أي: وكادت الأرض تنشق، * (وتخر الجبال) * أي: كادت الجبال تسقط * (هدا) * أي: كسرا شديدا، عن ابن عباس. وقيل: هدما عن عطاء * (أن دعوا للرحمن ولدا) * أي: لأن دعوا للرحمن ولدا، أو من دعوا للرحمن ولدا أي: بسبب دعوتهم، أو تسميتهم له ولدا * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) * أي: ما يصلح للرحمن، ولا يليق به اتخاذ الولد، وليس من صفته ذلك، لأن إثبات الولد له يقتضي حدوثه، وخروجه من صفة الإلهية، واتخاذ الولد يدل على الحاجة، تعالى عن ذلك، وتقدس. * (إن كل من في السموات والأرض إلآ ءاتى الرحمان عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا (95) إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمح لهم ركزا (98)) *
[ 454 ]
اللغة: اللدد: شدة الخصومة. وفي التنزيل * (ألد الخصام) * أي: أشد الخصام خصومة. وجمع الألد لد، قال الشاعر: إن تحت الأشجار حزما، وعزما، وخصيما ألد ذا معلاق أي: شديد الخصومة. والركز: الصوت الخفي. وأصل الركز الحس، ومنه الركاز، لأنه يحس به مال من تقدم بالكشف عنه. قال ذو الرمة: وقد توجس ركزا من سنابكها، أو كان صاحب أرض، أو به الموم الأرض: الرعدة. والموم: البرسام. وأصل الإحساس: الإدراك بالحاسة. الاعراب: * (كل) *: مبتدأ، و * (من) *: في موضع خبر، والجار والمجرور من صلته، و * (أتى الرحمن) *: في موضع رفع خبر * (كل) *، وهو مضاف إلى المفعول، ووحد * (كلا) * على اللفظ. و * (عبدا) *: في موضع الحال من الضمير من * (أتى) *. و * (هل تحس منهم من أحد) *: من الأولى يتعلق بتحس، والثانية مزيدة. ويجوز أن يكون تقديره هل تحس أحدا منهم، ويكون منهم في موضع الصفة لأحد، فلما قدم على الموصوف، انتصب على الحال. المعنى: ثم قال سبحانه * (إن كل من في السماوات والأرض إلا أتى الرحمن عبدا) * أي: ما كل من في السماوات والأرض من الملائكة، والإنس، والجن، إلا ويأتي الله سبحانه عبدا مملوكا، خاضعا، ذليلا، ومثله قوله * (وكل أتوه داخرين) *، والمعنى: إن الخلق عبيده، خلقهم ورباهم، وجرى عليهم حكمه، وأن عيسى، وعزيرا، والملائكة، من جملة العبيد. وفي هذا دلالة على أن النبوة والعبودية لا يجتمعان، وانه إذا ملك الإنسان ابنه عتق عليه * (لقد أحصاهم وعدهم عدا) * أي: علم تفاصيلهم وأعدادهم، فكأنه سبحانه عدهم، إذ لا يخفى عليه شئ من أحوالهم. * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) * أي: كل واحد منهم يأتي المحشر، والموضع إلذي لا يملك الأمر فيه، إلا الله، فردا وحيدا مفردا، ليس له مال، ولا ولد، ولا ناصر، مشغولا بنفسه، لا يهمه هم غيره. ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) * قيل فيه أقوال أحدها: إنها خاصة في علي بن أبي طالب عليه السلام، فما من مؤمن إلا وفي قلبة محبة لعلي عليه السلام، عن ابن عباس. وفي تفسير أبي حمزة
[ 455 ]
الثمالي: حدثني أبو جعفر الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا. فقالهما علي عليه السلام، فنزلت هذه الآية. وروي نحوه عن جابر بن عبد الله الأنصاري والثاني: إنها عامة في جميع المؤمنين يجعل الله لهم المحبة والإلفة والمقة في قلوب الصالحين. قال هرم بن حبان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقهم مودتهم، ورحمتهم، ومحبتهم. وقال الربيع بن أنس: إن الله إذا أحب مؤمنا، قال لجبرائيل: إني أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي في السماء: ألا إن الله أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له قبول في أهل الأرض. فعلى هذا يكون المعنى يحبهم الله ويحببهم إلى الناس والثالث: إن معناه: يجعل الله لهم محبة في قلوب أعدائهم ومخالفيهم، ليدخلوا في دينهم، ويعتزوا بهم الرابع: يجعل بعضهم يحب بعضا، فيكون كل واحد منهم عضدا لأخيه المؤمن، ويكونون يدا واحدة على من خالفهم. والخامس: إن معناه سيجعل لهم ودا في الآخرة، فيحب بعضهم بعضا، كمحبة الوالد لولده. وفي ذلك أعظم السرور، وأتم النعمة، عن الجبائي. ويؤيد القول الأول ما صح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا، على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (فإنما يسرناه بلسانك) * أي: يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك، وهي لغة العرب، ليسهل عليهم معرفته، ولو كان بلسان آخر، ما عرفوه، عن أبي مسلم. وقيل: معناه يسرنا قراءة القرآن على لسانك، ومكناك من قراءته، عن الجبائي * (لتبشر به المتقين) * أي: لتبشر بالقرآن الذين يتقون الشرك والكبائر أي: تخبرهم بما تسرهم مما أعده الله لهم * (وتنذر به قوما لدا) * أي: شدادا في الخصومة، عن ابن عباس، يعني قريشا. وقيل: قوما ذوي جدل، مخاصمين، عن قتادة. ثم أنذرهم سبحانه وخوفهم بقوله: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * أي: قبل هؤلاء من قرن، مكذبين للرسل، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لا يهمنك عضدا لأخيه المؤمن، ويكونون يدا واحدة على من خالفهم. والخامس: إن معناه سيجعل لهم ودا في الآخرة، فيحب بعضهم بعضا، كمحبة الوالد لولده. وفي ذلك أعظم السرور، وأتم النعمة، عن الجبائي. ويؤيد القول الأول ما صح عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا، على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: * (فإنما يسرناه بلسانك) * أي: يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك، وهي لغة العرب، ليسهل عليهم معرفته، ولو كان بلسان آخر، ما عرفوه، عن أبي مسلم. وقيل: معناه يسرنا قراءة القرآن على لسانك، ومكناك من قراءته، عن الجبائي * (لتبشر به المتقين) * أي: لتبشر بالقرآن الذين يتقون الشرك والكبائر أي: تخبرهم بما تسرهم مما أعده الله لهم * (وتنذر به قوما لدا) * أي: شدادا في الخصومة، عن ابن عباس، يعني قريشا. وقيل: قوما ذوي جدل، مخاصمين، عن قتادة. ثم أنذرهم سبحانه وخوفهم بقوله: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) * أي: قبل هؤلاء من قرن، مكذبين للرسل، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لا يهمنك كفرهم وشقاقهم، فإن وبال ذلك راجع إليهم، وقد أهلكنا قبلهم من كان مثلهم * (هل
[ 456 ]
تحس منهم من أحد) * أي: هل تبصر منهم أحدا * (أو تسمع له ركزا) * أي: صوتا، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: حسا عن ابن زيد، والمعنى أنهم ذهبوا فلا يرى لهم عين، ولا يسمع لهم صوت، وكانوا أكثر أموالا، وأعظم أجساما، وأشد خصاما من هؤلاء، فلم يغنهم ذلك لما أردنا إهلاكهم، فحكم هؤلاء الكفار حكم أولئك، في أنه لا يبقى منهم عين، ولا أثر، والحمد لله رب العالمين.