تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 7

[ 1 ]
مجمع البيان 7
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف أمين الاسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء السابع منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه‍ - 1995 م مؤسسة الأعلي للمطبوعات. بيروت. شارع المطار. قرب كلية الهندسة. ملك الأعلمي - ص. ب 7120 الهاتف 833447 - 833453
[ 5 ]
20 - سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة عدد آيها: مائة وأربعون آية شامي، وخمس وثلاثون كوفي، وأربع حجازي، وآيتان بصري. إختلافها: إحدى وعشرون آية طه ما غشيهم رأيتهم ضلوا: ثلاثهن كوفي، نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا: كلاهما غير البصري. محبة مني حجازي شامي. فتونا بصري شامي. لنفسي كوفي شامي. ولا تحزن، وأهل مدين، ومعنا بني إسرائيل، وأوحينا إلى موسى: أربعهن شامي. غضبان أسفا، وإله موسى: كلتاهما مكي. والمدني الأول. وعدا حسنا. ألا يرجع إليهم قولا: كلتاهما المدني الأخير ألقى السامري غير المدني الأخير. فنسي عراقي شامي. والأخير صفصفا عراقي شامي. مني هدى وزهرة الحياة الدنيا غير الكوفي (1). فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار ". أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: إن الله تعالى قرأ طه، ويس، قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام. فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة نزل هذا عليها، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا. وعن الحسن قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس، وطه. (1) إعلم أن أعداد أهل الكوفة أصح الأعداد، لأنه مأخوذ عن علي بن أبي طالب عليه السلام، والمراد بالمدني الأول هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ، وشيبة بن نصاح. وقيل: المدني الأول الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والمدني الثاني، والمدني الأخير هو إسماعيل بن جعفر. وقيل: المدني الأخير أبو جعفر وشيبة، وإسماعيل. والأول أشهر. وعدد أهل البصرة منسوب إلى عاصم بن أبي الصباح الجحدري، وأيوب المتوكل. وعدد أهل مكة منسوب إلى مجاهد بن جبيرة، وإسماعيل المكي. وعدد أهل الشام منسوب إلى عبد الله بن عاص. (عن هامش بعض النسخ المصححة). (*)
[ 6 ]
وروى إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تدعوا قراءة طه، فإن الله سبحانه يحبها، ويحب من قرأها، وأدمن قراءتها، وأعطاه يوم القيامة كتابه بيمينه، ولم يحاسبه لما عمل في الإسلام، وأعطي من الأجر حتى يرضى. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة مريم بذكر إنزال القرآن، وأنه بشارة للمتقين، وإنذار للكافرين. وافتتح هذه السورة بالقرآن، وأنه أنزله لسعادته لا لشقاوته فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (طه * 1 ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى 2 إلا تذكرة لمن يخشى 3 تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى 4 الرحمن على العرش استوى 5 له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى 6 وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى 7 الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى 8 القراءة: قرأ أبو عمرو: طه بفتح الطاء وكسر الهاء كسرا لطيفا من غير إفراط. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى عن أبي بكر بكسر الطاء والهاء. وكذلك عياش عن أبي عمرو، والباقون بفتح الطاء والهاء. وروي عن أبي جعفر ونافع كهيعص، وطه، وطس، وحم، وآلر كله بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب. الحجة: قد مر القول في الإمالة والتفخيم في الحروف فيما تقدم. والتفخيم لغة أهل الحجاز ولغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الشقاء: إستمرار ما يشق على النفس، ونقيضه السعادة. والعلى: جمع العليا. ومنه الدنيا والدنا، والقصوى والقصى، والثرى التراب الندي. والجهر: رفع الصوت، يقال: جهر يجهر جهرا فهو جاهر، والصوت مجهور وضده المهموس. الاعراب: روي عن الحسن أنه. قرأ (طه) بفتح الطاء وسكون الهاء. فإن صح ذلك عنه فأصله طأ. فأبدل من الهمزة هاء، ومعنا: طاء الأرض بقدميك جميعا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه،
[ 7 ]
فأنزل الله: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فوضعها. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. قال الزجاج: ويجوز أن يكون (طه) أمر من وطأ يطأ على قول من لم يهمز، ثم حذفت الألف، فصار (ط) ثم زيدت الهاء في الوقت. ويجوز أن يكون (طه) جاريا مجرى القسم، فيكون (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) جواب القسم. وقوله. (تذكرة). مفعول له. (لمن يخشى): الجار والمجرور في موضع الصفة لتذكرة. والأولى أن يكون مصدر فعل محذوف ويكون الإستثناء منقطعا، والتقدير، لكن تذكرة. وكذلك قوله (تنزيلا) مصدر لفعل محذوف تقديره نرلناه تنزيلا، أو نزل تنزيلا، ويدل عليه قوله (أنزلنا). المعنى: (طه) قد بينا في أول البقرة تفسير حروف المعجم في أوأئل السور، والإختلاف فيه. وقد قيل: إن معنى طه يا رجل، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، والحسن ومجاهد، والكلبي. غير أن بعضهم يقول هو بلسان الحبشية أو النبطية. وقال الكلبي: هي بلغة عك وأنشد لتميم بن نويرة: هتفمت بطه في القتال، فلم يجب، * فخفت لعمري أن يكون موائلا (1) قال الآخر: إن السفاهة طه من خلائقكم * لا بارك الله في القوم الملاعين وقال الحسن: هو جواب للمشركين حين قالوا إنه شقي، فقال سبحانه: يا رجل (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) لكن لتسعد به، وتنال الكرامة به في الدنيا والآخرة. قال قتادة: وكان يصلي الليل كله، ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم، فأمره الله سبحانه بأن يخفف على نفسه، وذكر أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل هذا التعب. (إلا تذكرة لمن يخشى) قال المبرد. معناه لكن أنزلناه تذكرة أي لتذكرة من يخشى الله. والتذكرة مصدر كالتذكير (تنزيلا) أي: أنزلناه تنزيلا. (ممن خلق الأرض) بدأ بالأرض ليستقيم رؤوس الآي (والسماوات العلى) أي: الرفيعة العالية نبه بذلك على عظم حال خالقهما. ثم أكد ذلك بقوله (الرحمن على العرش استوى) أي: هو الرحمن لأنه لما قال (ممن خلق) بينه بعد ذلك فقال: هو الرحمن قال أحمد بن يحيى: الإستواء الإقبال على الشئ، فكأنه أقبل (1) وئل: التجأ. وفي بعض النسخ (مواليا) مكان (موائلا).
[ 8 ]
على خلق العرش، وقصد إلى ذلك. وقد سبق القول في معنى الإستواء في سورة البقرة والأعراف. (له ما في السماوات وما في الأرض) أي: له ملك ما في السماوات، وما في الأرض وتدبيرهما وعلمهما. يعني أنه مالك كل شئ ومدبره. (وما بينهما) يعني الهواء. (وما تحت الثرى) والثرى: التراب الندي. يعني وما وارى الثرى من كل شئ، عن الضحاك. وقيل: يعني ما في ضمن الأرض من الكنوز والأموات (وإن تجهر بالقول) أي: إن ترفع صوتك به (فإنه يعلم السر وأخفى) أي: فلا تجهد نفسك برفع الصوت، فإنك وإن لم تجهر علم الله السر وأخفى من السر. ولم يقل وأخفى منه، لدلالة الكلام عليه، كما يقول القائل فلان كالفيل، أو أعظم. وقيل: تقديره وإن تجهر بالقول، أو لا تجهر، فإنه يعلم السر وأخفى منه. ثم اختلفوا فيما هو أخفى من السر فقيل: ما حدث به العبد غيره في خفية، وأخفى منه: ما أضمره في نفسه ما لم يحدث به غيره، عن ابن عباس. وقيل: السر ما أضمره العبد في نفسه. وأخفى منه: ما لم يكن، ولا أضمره أحد، عن قتادة وسعيد بن جبير وابن زيد. وقيل: السر ما تحدث به نفسك. وأخفى منه: ما تريد أن تحدث به نفسك في ثاني الحال. وقيل: العمل الذي تستره عن الناس. وأخفى منه: الوسوسة، عن مجاهد. وقيل: معناه يعلم السر أي: أسرار الخلق وأخفى: أي سر نفسه، عن زيد بن أسلم جعله فعلا ماضيا. وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: السر ما أخفيته في نفسك. وأخفى: ما خطر ببالك، ثم انسيته. (الله لا إله إلا هو) لا معبود تحق له العبادة غيره. (له الأسماء الحسنى) أي: الأسماء الدالة على توحيده، وعلى إنعامه على العباد، وعلى المعاني الحسنة. فأيها دعوت جاز. وروي عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: (إن لله تعالى تسعة وتسعين إسما، من أحصاها دخل الجنة). قال الزجاج: تأويله من وحد الله تعالى وذكر هذه الأسماء الحسنى، يريد بها توحيد الله وإعظامه، دخل الجنة. وقد جاء في الحديث: (من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة) فهذا لمن ذكر اسم الله موحدا له به، فكيف بمن ذكر أسماءه كلها، يريد بها توحيده، والثناء عليه. وإنما قال (الحسنى) بلفظ التوحيد، ولم يقل الأحاسن، لأن الأسماء مؤنثة تقع عليها هذه كما تقع على الجماعة هذه، كأنه اسم واحد للجمع. قال الأعشى:
[ 9 ]
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به * رب كريم وبيض ذأت أطهار وفي التنزيل (حدائق ذات بهجة)، و (مآرب أخرى). (وهل أتاك حديث موسى [ 9 ] إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى [ 10 ] فلما أتاها نودي يا موسى [ 11 ] إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى [ 12 ] وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [ 13 ] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلوة لذكري [ 14 ] إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ 15 ] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ 16 ]) القراءة: قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو: (أني أنا ربك) بفتح الألف والباقون: (إني) بالكسر. وقرأ حمزة: (لأهله امكثوا) وفي القصص أيضا بضم الهاء، وأنا مشدد مفتوح الهمزة (اخترناك) على الجمع. والباقون (لأهله) بكسر الهاء (وأنا اخترتك) على التوحيد. وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة: (طوى) بالتنوين. والباقون بغير تنوين. وفي الشواذ قراءة الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير: (أخفيها) بفتح الألف. الحجة: قال أبو علي: من كسر (إني)، فلأن الكلام حكاية، كأنه نودي فقيل: يا موسى إني أنا ربك. ومن فتح، فكأن المعنى نودي بكذا ونادى قد يوصل بحرف الجر قال: ناديت باسم ربيعة بن مكرم * ان المنوه باسمه الموثوق (1) ومن الناس من يعمل هذه الأشياء التي هي في المعنى قول، كما يعمل القول، ولا يضمر القول معها. وينبغي أن يكون في (نودي) ضمير يقوم مقام الفاعل، لأنه لا يجوز أن يقوم واحد من قوله يا موسى، ولا أني أنا ربك، مقام * (هامش) (1) نوه باسمه: دعاه. (*)
[ 10 ]
الفاعل، لأنها جمل، والجمل لا تقوم مقام الفاعل. فإن جعلت الإسم الذي يقوم مقام الفاعل موسى، لأن ذكره قد جرى كان مستقيما. وقوله طوى يصرف ولا يصرف. فمن صرفه فعلى وجهين أحدهما: أن يجعله اسم الوادي، فيصرفه لأنه سمي مذكرا بمذكر والآخر: أن يجعله صفة، وذلك في قول من قال إنه قدس مرتين. فيكون طوى كقولك ثنى. ويكون صفة كقوله مكانا سوى، وقوم عدى. وجاء في (طوى) الضم والكسر كما جاء في مكان سوى الضم والكسر. قال الشاعر. أفي جنب بكر قطعتني ملامة، * لعمري لقد كانت ملامتها ثنى أي: ليس هذا بأول ملامتها. ومن لم يصرف احتمل أمرين أحدهما: أن يكون إسما لبقعة أو أرض، فهو مذكر فيكون بمنزلة امرأة سميتها بحجر. ويجوز أن يكون معدولا كعمر. ولا يمتنع أن تقدر العدل فيما لم يخرج إلى الإستعمال. ألا ترى أن جمع وكتع معدولتان عما لم يستعملا، فكذلك يكون طوى. وأما ضم الهاء في قوله (لأهله أمكثوا): فقد مضى القول في مثله. وأما قوله: (وأنا اخترتك)، فالإفراد أكثر في القراءة، وهو أشبه بما قبله من قوله (إني أنا ربك) ووجه الجمع أن يكون ذلك قد جاء في نحو قوله تعالى. (سبحان الذي أسرى) ثم قال: (وآتينا موسى الكتاب). ويمكن أن يكون الوجه في قراءة حمزة (وإنا اخترناك) مع أنه قرأ (إني أنا ربك) بالكسر أن يكون التقدير: ولأنا اخترناك فاستمع. فيكون الجار والمجرور في موضع نصب بقوله (فاستمع). ولم يذكره الشيخ أبو علي. وقوله (أخفيها) فإنهم قالوا. معناه أظهرها. قال أبو علي. الغرض فيه أزيل عنها خفاءها، وهو ما يلف فيه القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه، وعليه قول الشاعر: لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى * تزججها من حالك فاكتحالها (1) قال: أراد بالأيقاظ عيونا، فجعل العين كالخفاء للنوم، كأنها تستره. وهو من ألفاظ السلب فأخفيته سلبت عنه خفاه، كما تقول أشكيت الرجل أزلت عنه ما يشكوه. وأما (أخفيها) بفتح الألف فإنه أظهرها. قال امرؤ القيس: (1) الكرى: النعاس، والحالك: المظلم. (*)
[ 11 ]
خفاهن من أنفاقهن كأنما * خفاهن ودق من سحاب مركب (1) وقوله: فإن تدفنوا الداء (2)، لا نخفه، * وإن تبعثوا الحرب، لا نقعد رواية أبي عبيدة بضم النون من (نخفه). ورواية الفراء بفتح النون. اللغة: الإيناس: وجدان الشئ الذي يؤنس به. والقبس: الشعلة من النار في طرف عود أو قصبة. والخلع: نزع الملبوس، يقال: خلع ثوبه، وخلع نعله. والوادي. سفح الجبل، ويقال للمجرى العظيم من مجاري الماء واد، وأصله عظم الأمر، ومنها الدية، لأنها العطية في الأمر العظيم، وهو القتل. والمقدس: المطهر، قال امرؤ القيس: (كما شبرق الولدان ثوب المقدس) (3) يريد العابد من النصارى كالقسيس ونحوه. وسمي الوادي طوى لأنه طوي بالبركة مرتين، عن الحسن. فعلى هذا يكون مصدر قولك طويت طوى. قال عدي بن زيد: أعاذل إن اللوم في غير كنهه * علي طوى من غيك المتردد ويقال: أخفيت الشئ كتمته وأظهرته جميعا، وخفيته بلا ألف: أظهرته لا غير. والردى: الهلاك. وردي يردى ردى: إذا هلك. وتردى بمعناه. الاعراب: قوله (إذ رأى). الظرف يتعلق بمحذوف فهو في موضع النصب على الحال من حديث موسى. و (أكاد أخفيها): جملة في موضع رفع بأنها خبر أن، فهي خبر بعد خبر. اللام في (لتجزي): يتعلق بآتية. ويجوز أن يتعلق بقوله (وأقم الصلاة) فتردى منصوب بإضمار أن في جواب النهي. المعنى: ثم خاطب الله سبحانه نبيه تسلية له مما ناله من أذى قومه، وتثبيتا له بالصبر على أمر ربه، كما صبر موسى عليه السلام حتى نال الفوز في الدنيا والآخرة، (1) أي أخرجهن من حجرتهن كما يخرجها المطر العظيم. والضمير لليرابيع يصف فرسا أخرج اليرابيع من حجرتها بعدوه، (2) وفي اللسان (فإن تكتموا السر). (3) وقبله (فأدركنه يأخذن بالساق والنسا) وشبرق الثوب: قطعه ومزقه. يقول. أدركت الكلاب الثور الوحشي فأخذن بساقه ونساه (وهو عرق من الورك إلى الكعب) وشبرقت جلده كما يمزق الصبيان ثوب الراهب حين ينزل من صومعته تبركا به. (*)
[ 12 ]
فقال: (وهل أتاك حديث موسى) هذا ابتداء إخبار من الله تعالى على وجه التحقيق، إذ لم يبلغه حديث موسى فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق، فيقول: هل سمعت بخبر فلان. وقيل: إنه استفهام تقرير بمعنى الخبر أي: وقد أتاك حديث موسى (إذ رأى نارا) عن ابن عباس قال: وكان موسى رجلا غيورا، لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته، فلما قضى الأجل، وفارق (مدين)، خرج ومعه غنم له. وكان أهله على أتان، وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت. فأضل الطريق في ليلة مظلمة، وتفرقت ماشيته، ولم ينقدح زنده وامرأته في الطلق. فرأى نارا من بعيد كانت عند الله نورا، وعند موسى نارا (فقال) عند ذلك (لأهله) وهي بنت شعيب كان تزوجها بمدين (امكثوا) أي: الزموا مكانكم. قال مقاتل. وكانت ليلة الجمعة في الشتاء. والفرق بين المكث والإقامة: أن الإقامة تدوم، والمكث لا يدوم (إني آنست نارا) أي. أبصرت نارا (لعلي آتيكم منها بقبس) أي. بشعلة أقتبسها من معظم النار تصطلون بها (أو أجد على النار هدى) أي: أجد على النار هاديا يدلني على الطريق. وقيل: علامة استدل بها على الطريق. والهدى: ما يهتدى به فهو اسم ومصدر. قال السدي: لأن النار لا تخلو من أهل لها، وناس عندها (فلما أتاها) قال ابن عباس لما توجه نحو النار، فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فسمع النداء من الشجرة وهو قوله: (نودي يا موسى إني أنا ربك). والنداء: الدعاء على طريقة يا فلان. فمن فتح الألف من (أني) فالمعنى: نودي بأني. ومن كسر فالمعنى نودي فقيل: إني أنا ربك الذي خلقك ودبرك. قال وهب: نودي من الشجرة فقيل: يا موسى ! فأجاب سريعا ما يدري من دعاه، فقال: إني أسمع صوتك، ولا أرى مكانك فأين أنت ؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك، وأقرب إليك من نفسك. فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه، عز وجل، وأيقن به. وإنما علم موسى عليه السلام أن ذلك النداء من قبل الله تعالى لمعجز أظهره الله سبحانه كما قال في موضع آخر (إني أنا الله رب العالمين. وأن ألق عصاك) إلى آخره. وقيل: إنه لما رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تتوقد فيها نار بيضاء، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفئ النار، ولا النار تحرق الخضرة، تحير وعلم أنه معجز خارق للعادة، وأنه لأمر عظيم، فألقيت عليه السكينة. ثم نودي: (إني أنا ربك) وإنما كرر الكناية لتأكيد الدلالة، وإزالة الشبهة، وتحقيق المعرفة.
[ 13 ]
(فاخلع نعليك) أي: انزعهما. وقيل في السبب الذي أمر بخلع النعلين أقوال أحدها: إنهما كانتا من جلد حمار ميت، عن كعب وعكرمة وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. وثانيها: كانتا من جلد بقرة ذكية، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض، فتصيبه بركة الواد المقدس، عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج وثالثها: إن الحفاء من علامة التواضع، ولذلك كانت السلف تطوف حفاة عن الأصم. ورابعها: إن موسى عليه السلام إنما لبس النعل اتقاء من الأنجاس، وخوفا من الحشرات، فآمنه الله مما يخاف، وأعلمه بطهارة الموضع عن أبي مسلم. (إنك بالواد المقدس) أي: المبارك، عن ابن عباس. بورك فيه بسعة الرزق والخصب. وقيل: المطهر. (طوى) هو اسم الوادي، عن ابن عباس ومجاهد والجبائي. وقيل: سمي به لأن الوادي قدس مرتين، فكأنه طوي بالبركة مرتين، عن الحسن (وأنا اخترتك) أي: اصطفيتك بالرسالة. (فاستمع لما يوحى) إليك من كلامي، واصغ إليه وتثبت. لما بشره الله سبحانه بالنبوة أمره باستماع الوحي ثم ابتدأ بالتوحيد فقال: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) أي. لا إله يستحق العبادة غيري (فاعبدني) خالصا، ولا تشرك في عبادتي أحدا. أمره سبحانه بأن يبلغ ذلك قومه (وأقم الصلاة لذكري) أي: لأن تذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله، عن الحسن ومجاهد. وقيل: معناه لأن أذكرك بالمدح والثناء. وقيل: إن معناه صل لي، ولا تصل لغيري، كما يفعله المشركون عن أبي مسلم. وقيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، كنت في وقتها أم لم تكن، عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، ويعضده ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك " وقرأ: (أقم الصلاة لذكري)، رواه مسلم في الصحيح. ثم أخبره سبحانه بمجئ الساعة، فقال. (إن الساعة آتية) يعني إن القيامة جائية قائمة لا محالة (أكاد أخفيها) أي أريد أن أخفيها عن عبادي لئلا تأتيهم إلا بغتة. قال تغلب: هذا أجود الأقوال وهو قول الأخفش. وفائدة الإخفاء التهويل والتخويف، فإن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة، كانوا على حذر منها كل وقت. وروى ابن عباس: (أكاد أخفيها من نفسي) وهي كذلك في قراءة أبي. وروي
[ 14 ]
ذلك عن الصادق عليه السلام. والمعنى: أكاد لا أظهر عليها أحدا، وهو قول الحسن وقتادة. والمقصود من ذلك تبعيد الوصول إلى علمها، وتقديره إذ كدت أخفيها من نفسي، فكيف أظهرها لك. قال المبرد: هذا على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشئ قال: كتمته حتى من نفسي أي: لم أطلع عليه أحدا، فبالغ سبحانه في إخفاء الساعة، وذكره بأبلغ ما تعرفه العرب. وقال أبو عبيدة: معنى اخفيها أظهرها. ودخلت أكاد تأكيدا، والمعنى يوشك أن أقيمها. (لتجزى كل نفس بما تسعى) أي: بما تعمل من خير وشر، ولينتصف من الظالم للمظلوم (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها) أي. لا يصرفنك عن الصلاة من لا يؤمن بالساعة. وقيل: معناه لا يمنعك عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها. وقيل عن العبادة، ودعاء الناس إليها. وقيل عن هذه الخصال (واتبع هواه) والهوى ميل النفس إلى الشئ، ومعناه. ومن بنى الأمر على هوى النفس دون الحق، وذلك أن الدلالة قد قامت على قيام الساعة (فتردى) أي فتهلك كما هلك أي: إن صددت عن الساعة بترك التأهب لها هلكت. والخطاب وإن كان لموسى عليه السلام، فهو في الحقيقة لسائر المكلفين. وفي هذه الآيات دلالة على أن الله تعالى كلم موسى، وأن كلامه محدث، لأنه حل الشجرة وهي حروف منظومة. (وما تلك بيمينك يا موسى [ 17 ] قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى [ 18 ] قال ألقها يا موسى [ 19 ] فألقاها فإذا هي حية تسعى [ 20 ] قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى [ 21 ] واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [ 22 ] لنريك من آياتنا الكبرى [ 23 ] اذهب إلى فرعون إنه طغى [ 24 ] قال رب اشرح لي صدري [ 25 ] ويسر لي أمري [ 26 ] واحلل عقدة من لساني [ 27 ] يفقهوا قولي [ 28 ] واجعل لي وزيرا من أهلي [ 29 ] هارون أخي [ 30 ] اشدد به أزري [ 31 ] وأشركه في أمري [ 32 ] كي نسبحك كثيرا [ 33 ] ونذكرك كثيرا [ 34 ] إنك كنت بنا بصيرا [ 35 ] قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [ 36 ]
[ 15 ]
القراءة: قرأ ابن عامر: (أشدد) بقطع الهمزة وفتحها (وأشركه) بضمها. والباقون: (اشدد) بهمزة الوصل، (واشركه) بالفتح. وفي الشواذ قراءة عكرمة (وأهس) بالسين. وقراءة أبي البرهسم (1): (وأهش) بكسر الهاء. الحجة: الوجه في قراءة أبي عامر: أنه جعله خبرا. وسائر القراء جعلوه دعاء. وضم الهمزة في (اشركه) ضعيف جدا، لأنه ليس إلى موسى إشراك هارون في النبوة، بل ذلك إلى الله تعالى. فالوجه فتح الهمزة على الدعاء. ومن قرأ (أهش) بكسر الهاء. فيمكن أن يكون أراد أهش بضم الهاء أي: أكسر الكلاء بها للغنم. فجاء بها على يغسل إن كان متعديا كما جاء هر الشئ يهره ويهره. إذا كرهه. وشد الحبل يشده ويشده، ونم الحديث ينمه. واما أهس بالسين فمعناه: أسوق. وكان ينبغي أن يقول أهس بها غنمي، ولكن لما دخل السوق معنى الإنتحاء لها والميل بها عليها، استعمل على معها حملا على المعنى. اللغة: التوكؤ والإتكاء بمعنى. مثل التوقي والإتقاء. والهش. ضرب ورق الشجر ليتساقط. والمآرب: الحوائج واحدتها مأربة بضم الراء وفتحها وكسرها، عن علي بن عيسى. والسيرة والطريقة من النظائر ومعناه: مرور الشئ في جهة. وأصل الجناح من الجنوح. وهو الميل لأن الطائر يميل به في طيرانه. وعضد الإنسان: جناحه لأن من جهته يميل اليد حيث شاء صاحبها. وقيل: يريد بالجناح الجنب، لأن فيه جنوح الأضلاع. وقال الراجز: " أضمها للصدر والجناح " قال أبو عبيدة: الجناحان الناحيتان. والطغيان: تجاوز الحد في العصيان. وشرح الصدر: توسعه، ومنه شرح المعنى وهو بسط القول فيه. والعقدة: جملة مجتمعة يصعب تفكيكها. والحل ضد العقد ونظيره الفصل والقطع. والوزير: حامل الثقل عن الرئيس، مشتق من الوزر الذي هو الثقل. والأزر: الظهر يقال: أزرني فلان على أمري أي: كان لي ظهرا. ومنه المئزر لأنه يشد على الظهر، والإزار لأنه يسيل على الظهر. والتأزير: التقوية، ويمكن أن يكون أزر ووزر مثل أرخ وورخ، وأكد ووكد. قال امرؤ القيس: (1) أبو إبراهيم كسفرجل: من قرأ الشام. وفي نسختين مخطوطتين (إبراهيم) مكان (أبي البرهم). (*)
[ 16 ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها * مضم، جيوش غانمين وخيب (1) الاعراب: (وما تلك بيمينك): قال الزجاج تلك اسم مبهم يجري مجرى التي، ويوصل كما توصل التي، والمعنى: وما التي بيمينك. وأنشد الفراء: عدس ما لعباد عليك إمارة * أمنت وهذا تحملين طليق (2) أي: والذي تحملين. قال بعض المتأخرين: إن الصحيح الذي لا غبار عليه أن يكون (تلك) مبتدأ. و (ما) خبره قدم عليه، لما فيه من معنى الإستفهام. و (بيمينك): الجار والمجرور في موضع نصب على الحال من معنى الفعل في (تلك) وهو الإشارة. قال: وإنما قلنا ذلك لأن أسماء الإشارة إنما تبين بصفاتها، كما أن الأسماء الموصولة تبين بصلاتها. ولا يجوز وصف المبهم بالجملة، لأن الجمل نكرات. وقوله (فإذا هي حية تسعى) إذا هذه ظرف المفاجأة وهي ظرف مكان تقديره فبالحضرة هي حية. والعامل في الظرف (تسعى). وهذا يدل على أن (إذا) ها هنا غير مضاف إلى الجملة، لأنه لو كان كذلك لم يعمل فيه مما في الجملة شئ، لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف. و (سيرتها) إنتصب على تقدير سنعيدها إلى سيرتها، فحذف الجار. (من غير سوء). في موضع نصب على الحال، والتقدير تبيض غير برصاء، فيكون حالا عن حال. (آية أخرى): إسم في موضع الحال أيضا، والمعنى تخرج بيضاء مبينة. قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبة على آتيناك آية أخرى، ونؤتيك آية أخرى لأن في قوله (تخرج بيضاء) دليلا على أنه يعطى آية أخرى. (لنريك): اللام يتعلق بقوله (واضمم) والمفعول الثاني من نري يجوز أن يكون (الكبرى) صفة محذوف وهو المفعول الثاني، والتقدير لنريك الآية الكبرى من آياتنا. (هارون) بدل من قوله (وزيرا) ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل، كأنه قال: أعني هارون أخي، أو استوزر لي هارون، لأن وزيرا يدل عليه. و (أخي): صفة لهارون، ويجوز أن يكون بدلا منه. قال الزجاج: يجوز أن يكون (هارون) مفعولا أول لاجعل، ووزيرا مفعولا ثانيا له. وعلى هذا فيكون مثل قوله (1) المحنية: منعطف الوادي. والضال: شجر السدر. (2) الشعر في (جامع الشواهد)، وقد مر في الكتاب مرارا. (*)
[ 17 ]
تعالى (وجعلوا لله شركاء الجن) في أن المفعول الثاني من هذا الباب قد تقدم على المفعول الأول. ولو قرأ بالرفع (هارون) لكان خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: من هذا الوزير ؟ فقيل: هو هارون. و (كثيرا): نعت مصدر محذوف في الموضعين أي: تسبيحا كثيرا، وذكرا كثيرا. ويجوز أن يكون نعتا لظرف محذوف تقديره: نسبحك وقتا كثيرا، ونذكرك وقتا كثيرا. المعنى: ثم بين سبحانه ما أعطى موسى من المعجزات، فقال: (وما تلك بيمينك يا موسى) سأله عما في يده من العصا تنبيها له عليها، ليقع المعجز بها بعد التثبت فيها، والتأمل لها. (قال) موسى (هي عصاي أتوكؤا عليها) أي: أعتمد عليها إذا مشيت. والتوكؤ: التحامل على العصا في المشى (وأهش بها على غنمي) أي. وأخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمي. (ولي فيها مآرب أخرى) ولم يقل (أخر) ليوافق رؤوس الآي. أي: حاجات أخرى، فنص على اللازم، وكنى عن العارض. قال ابن عباس. كان يحمل عليها زاده، ويركزها فيخرج منه الماء، ويضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل، وكان يطرد بها السباع. وإذا ظهر عدو حاربت. وإذا أراد الإستسقاء من بئر طالت وصارت شعبتاها كالدلو. وكان يظهر عليها كالشمعة فتضئ له الليل. وكانت تحدثه وتؤنسه. وإذا طالت شجرة حناها بمحجنها (1). (قال) الله سبحانه (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى) أي: تمشي بسرعة. وقيل: صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعبانا، وهي أكبر من الحيات، عن ابن عباس. وقيل: إنه ألقاها، وحانت منه نظرة، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، ويمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلقمها، وتطعن أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فتجثها (2)، وعيناه تتوقدان نارا. وقد عاد المحجن عنقا فيه شعر مثل النيازك (3). فلما عاين ذلك ولى مدبرا ولم يعقب. ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي. يا موسى ! إرجع إلى حيث كنت. فرجع وهو شديد الخوف. ف‍ (قال خذهما) بيمينك (ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) أي. سنعيدها (1) المحجن: المنعطف الرأس. (2) جث الشئ: قلعه من أصله. (3) جمع النيزك: الرمح القصير. (*)
[ 18 ]
إلى الحالة الاولى عصاء، وعلى موسى يومئذ مدرعة من صوف، قد خلها بخلال. فلما أمره سبحانه بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده، فقال: ما لك يا موسى أرأيت لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال: لا. ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت. وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية، فإذا يده في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها بين الشعبتين، عن وهب. وقيل: كانت العصا من آس الجنة، أخرجها آدم عليه السلام وتوارثها الأنبياء إلى أن بلغ شعيبا، فدفعها إلى موسى. قال وهب: كانت من عوسج، وكان طولها عشرة أذرع على مقدار قامة موسى (واضمم يدك إلى جناحك) معناه: واجمع يدك إلى ما تحت عضدك، عن مجاهد والكلبي. وقيل: إلى جنبك. وقيل: أدخلها في جيبك. وكنى عن الجنب بالجناح. (تخرج بيضاء) لها نور ساطع يضئ بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا، عن ابن عباس. (من غير سوء) من غير برص في قول الجميع قالوا: وكان موسى آدم اللون، ففعل فخرجت يده كما قال الله، ثم ردها فعادت إلى لونها الذي كانت عليه (آية أخرى) أي: فنزيدك بها آية أخرى، أو تخرج مبينة آية أخرى (لنريك من آياتنا) وحججنا (الكبرى) منها. ولو قال (الكبر) على الجمع وصفا لجميع الآيات، لكان جائزا. وقيل: معناه لنريك من دلالاتنا الكبرى، سوى هاتين الدلالتين. وقيل. إنها هلاك فرعون وقومه فلما حمله سبحانه الرسالة، وأراه المعجزات أمره بالتبليغ، فقال: (اذهب إلى فرعون) فادعه إلي (إنه طغى) أي. تجبر وتكبر في كفره (قال) موسى عند ذلك (رب اشرح لي صدري) أي: وسع لي صدري حتى لا أضجر ولا أخاف ولا أغتم (ويسر لي أمري) أي: سهل علي أداء ما كلفتني من الرسالة، والدخول على الطاغي، ودعائه إلى الحق. (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) أي: وأطلق عن لساني العقدة التي فيه حتى يفقهوا كلامي. وكان في لسان موسى عليه السلام رتة لا يفصح معها بالحروف شبه التمتمة (1). وقيل: إن سبب تلك العقدة في لسانه جمرة طرحها في فيه، وذلك لما أراد فرعون قتله، لأنه أخذ بلحية فرعون ونتفها، وهو طفل، فقالت آسية بنت (1) تمتم تمتمة في الكلام: عجل فيه ولم يفهمه. (*)
[ 19 ]
مزاحم: لا تفعل فإنه صبي لا يعقل، وعلامة جهله أنه لا يميز بين الدرة والجمرة. فأمر فرعون حتى أحضر الدرة والجمرة بين يديه، فأراد موسى أن يأخذ الدرة، فصرف جبرائيل يده إلى الجمرة، فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه، عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدي. وقيل إنه انحل ما كان بلسانه إلا بقية منه بدلالة قوله (ولا يكاد يبين) عن الجبائي. وقيل: استجاب الله تعالى دعاءه، فأحل العقدة عن لسانه، عن الحسن، وهو الصحيح لقوله سبحانه (أوتيت سؤلك يا موسى) ومعنى قوله (ولا يكاد يبين) أي: لا يأتي ببيان وحجة، وإنما قالوا ذلك تمويها ليصرفوا الوجوه عنه. (واجعل لي وزيرا) يؤازرني على المضي إلى فرعون، ويعاضدني عليه. وقيل: اجعل لي معاونا أتقوى به وبرأيه ومشاورته. وقال (من أهلي) لأنه إذا كان الوزير من أهله، كان أولى ببذل النصح له. ثم بين الوزير وفسره فقال (هارون أخي) وكان أخاه لأبيه وأمه، وكان بمصر (اشدد به أزري) أي: قو به ظهري، وأعني به (وأشركه في أمري) أي. إجمع بيني وبينه في النبوة ليكون أحرص على مؤازرتي. لم يقتصر على سؤال الوزارة، حتى سأل أن يكون شريكه في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وإنما سمي الوزير وزيرا لأنه يعين الأمير على ما هو بصدده من الأمور، أخذ من المؤازرة التي هي المعاونة. وقيل: إنما سمي وزيرا لأنه يتحمل الثقل عن الأمير من الوزر الذي هو الثقل. وقيل: لأنه يلتجئ الأمير إليه فيما يعرض له من الأمور من الوزر الذي هو الملجأ. قالوا: إن هارون كان أكبر من موسى بثلاث سنين، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأكثر لحما، وأفصح لسانا، ومات قبل موسى بثلاث سنين. (كي نسبحك كثيرا) أي: ننزهك عما لا يليق بك. بين عليه السلام أنه إنما سأل هذه الحاجات ليتوصل بها إلى طاعة ربه، وعبادته، وتأدية رسالته، لا للرياسة (ونذكرك كثيرا) أي: نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من نعمك، ومننت به علينا من تحميل رسالتك (إنك كنت بنا بصيرا) أي: بأحوالنا وأمورنا عالما. وقيل: بصيرا باحتياجنا في النبوة إلى هذه الأشياء (قال) الله سبحانه إجابة له (قد أوتيت سؤلك) أي: قد أعطيت مناك وطلبتك (يا موسى) فيما سألته. والسؤال: المنى والمراد فيما يسأله الإنسان. وقال الصادق. حدثني أبي، عن جدي، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال. كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله
[ 20 ]
نارا، فكلمه الله، عز وجل، فرجع نبيا، وخرجت ملكة سبأ كافرة، فأسلمت مع سليمان، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزة لفرعون، فرجعوا مؤمنين. (ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 37 ] إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى [ 38 ] أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني [ 39 ] إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى [ 40 ] واصطنعتك لنفسي [ 41 ] اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري [ 42 ] اذهبا إلى فرعون إنه طغى [ 43 ] فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 44 ] القراءة: قرأ أبو جعفر. (ولتصنع) بالجزم. والباقون. بكسر اللام والنصب. وفي الشواذ قراء أبي نهيك. (ويتصنع) بكسر اللام وفتح التاء. الحجة: قوله (ولتصنع) بالجزم مثل قولهم. ولتعن بحاجتي. فالمأمور غائب غير مخاطب، لأن العاني بالحاجة غير المخاطب، وليس ذلك مثل قوله (فلتفرحوا) فإن المأمور هناك مخاطب به (ولتصنع على عيني) قال أحمد بن يحيى: معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقراءة الفراء (ولتصنع) على عيني بضم التاء وفتح العين معناه: لتربى وتغذى بمرأى مني. اللغة: أصل المن: القطع، ومنه (أجر غير ممنون) وحبل منين أي: منقطع. فالمن: نعمة تقطع لصاحبها من غيره. والمرة: الكرة الواحدة من المر. والقذف: الطرح. واليم: البحر. والإصطناع: إفتعال من الصنع. والصنع: إتخاذ الخير لصاحبه. وونى في الأمر يني ونيا وونى إذا فتر فهو وان ومتوان فيه. قال العجاج: فما ونى محمد مذ أن غفر * له الإله ما مضى، وما غبر
[ 21 ]
الاعراب: (مرة): يحتمل أن يكون مصدرا، ويحتمل أن يكون ظرفا، ويكون التقدير مرة أخرى، أو وقتا آخر. (ما يوحى). ما مصدرية وتقديره. وأوحينا إلى أمك إيحاء. و (أن اقذفيه) في موضع نصب بأنه مفعول أوحينا. (ولتصنع): اللام يتعلق بألقيت أي: لتربى ولتصنع. وقوله (على قدر) في موضع النصب على الحال، وتقديره: جئت مقدرا ما قدر لك. المعنى: لما أخبر سبحانه موسى بأنه آتاه طلبته، وأعطاه سؤله، عدد عقيبه ما تقدم ذلك من نعمه عليه، ومننه لديه، فقال. (ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي: أنعمنا عليك من صغرك إلى كبرك، جارية نعمتنا عليك، متوالية فإجابتنا الآن دعاك تلوها. ثم فسر سبحانه تلك النعمة فقال: (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) أي: حين أوحينا إلى أمك أي: ألهمناها ما يلهم، وهو ما كان فيه سبب نجاتك من القتل حتى عنيت بأمرك. وقيل. كانت رأت في المنام، عن الجبائي. ثم فسر ذلك الإيحاء فقال (أن اقذفيه في التابوت) أي: إجعليه فيه بأن ترميه فيه (فاقذفيه في اليم) يريد النيل (فليلقه اليم بالساحل) وهو شط البحر لفظه أمر فكأنه أمر البحر كما أمر أم موسى، والمراد به الخبر. والمعنى. حتى يلقيه البحر بالشط. (يأخذه عدو لي وعدو له) يعني فرعون، كان عدوا لله ولأنبيائه، وعدوا لموسى خاصة لتصوره ان ملكه ينقرض على يده وكانت هذه المنة من الله سبحانه على موسى أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل، ثم خشي أن يفني نسلهم، فكان يقتل بعد ذلك في سنة، ولا يقتل في سنة. فولد موسى في السنة التي كان يقتل الغلمان فيها، فنجاه الله تعالى منه. (وألقيت عليك محبة مني) أي: جعلتك بحيث يحبك من يراك حتى أحبك فرعون، فسلمت من شره، وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك، وربتك في حجرها، عن عكرمة. وقيل: معناه حببتك إلى عبادي، فلا يلقاك أحد مؤمن ولا كافر إلا أحبك، عن ابن عباس، وهذا كما يقال ألبسه الله جمالا، وألقى عليه جمالا. وقال قتادة: ملاحة كانت في عين موسى، فما رآه أحد إلا عشقه. (ولتصنع على عيني) أي لتربى وتغذى بمرأى مني أي. يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك، عن قتادة، وذلك أن من صنع لإنسان شيئا، وهو ينظر إليه صنعه كما يحب، ولا يتهيأ له خلافه. وقيل: لتربى ويطلب لك الرضاع،
[ 22 ]
على علم مني ومعرفة، لتصل إلى أمك، عن الجبائي. وقيل: لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي، كما يقال في الدعاء بالحفظ والحياطة عين الله عليك، عن أبي مسلم. (إذ تمشى أختك): الظرف يتعلق بتصنع والمعنى: ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك. وقولها (هل أدلكم على من يكفله) لأن هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراده الله وهو قوله (إذ تمشي أختك) يعني حين قالت لها أم موسى قصيه، فاتبعت موسى على أثر الماء، وذلك أن أم موسى اتخذت تابوتا، وجعلت فيه قطنا، ووضعته فيه، وألقته في النيل. وكان يشرع من النيل نهر كبير في باغ فرعون. فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إذ التابوت يجئ على رأس الماء. فأمر بإخراجه فلما فتحوا رأسه. إذا صبي به من أحسن الناس وجها، فأحبه فرعون بحيث لا يتمالك، وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن. فأمر فرعون حتى أتته النساء اللاتي كن حول داره فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن. وكانت أخت موسى واقفة هناك إذ أمرتها أمها أن تتبع التابوت، فقالت: إني آتي بامرأة ترضعه، وذلك قوله: (فتقول هل أدلكم على من يكفله) أي: أدلكم على امرأة تربيه وترضعه وهي ناصحة له. فقالوا: نعم. فجاءت بالأم فقبل ثديها، فذلك قوله (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها) برؤيتك وبقائك. (ولا تحزن) من خوف قتله، أو غرقه، وذلك أنها حملته إلى بيتها آمنة مطمئنة قد جعل لها فرعون أجرة على الرضاع (وقتلت نفسا) كان قتل قبطيا كافرا، عن ابن عباس. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال. " رحم الله أخي موسى ! قتل رجلا خطأ، وكان ابن أثنتي عشرة سنة " (فنجيناك من الغم) أي من غم القتل وكربه، لأنه خاف أن يقتصوا منه بالقبطي. فالمعنى: خلصناك من غم القصاص، وآمناك من الخوف. (وفتناك فتونا) أي: اختبرناك اختبارا ومعناه: إنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للإصطفاء بالرسالة، وكان هذا من أكبر نعمه سبحانه عليه. وقيل: معناه وخلصناك من محنة بعد محنة، منها. أنه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال فيها، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل
[ 23 ]
فرعون، ثم مجئ رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله، عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى وخلصناك من المحن تخليصا. وقيل: معناه وشددنا عليك التعمد في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين. ثم بين ذلك فقال: (فلبثت سنين في أهل مدين) أي: لبثت فيهم حين كنت راعيا لشعيب (ثم جئت على قدر يا موسى) أي: في الوقت الذي قدر لإرسالك نبيا قال الشاعر: نال الخلافة، أو كانت له قدرا، * كما أتى ربه موسى على قدر (1) وقيل: معناه جئت على الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو على رأس أربعين سنة. وقيل: على المقدار الذي قدره اللة لمجيئك، وكتبه في اللوح المحفوظ، والمعنى. جئت في الوقت الذي قدره الله لكلامك ونبوتك والوحي إليك. (واصطنعتك لنفسي) أي: لوحيي ورسالتي، عن ابن عباس. والمعنى: إخترتك واتخذتك صنيعتي، وأخلصتك لتنصرف على إرادتي ومحبتي. وإنما قال (لنفسي) لأن المحبة أخص شئ بالنفس، وتبليغه الرسالة، وقيامه بأدائها، تصرف على إرادة الله ومحبته. وقيل: معناه إخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أنا أكون بها، لو خاطبتهم واحتججت عليهم، عن الزجاج. (إذهب أنت وأخوك بآياتي) أي: بحججي ودلالاتي. وقيل: بالآيات التسع، عن ابن عباس. (ولا تنيا في ذكري) أي: ولا تضعفا في رسالتي، عن ابن عباس. وقيل: ولا تفترا في أمري، عن السدي. وقيل: ولا تقصرا، عن محمد بن كعب أي. لا يحملنكما خوف فرعون على أن تقصرا في أمري (إذهبا إلى فرعون) كرر الأمر بالذهاب للتأكيد. وقيل: إن في الأول خص موسى بالأمر، وفي الثاني أمرهما ليصيرا نبيين وشريكين في الأمر، ثم بين من يذهبان إليه. (إنه طغى) أي: جاوز الحد في الطغيان (فقولا له قولا لينا) أي: إرفقا به في الدعاء والقول، ولا تغلظا له في ذلك، عن ابن عباس. وقيل: معناه كنياه، عن السدي وعكرمة، وكنيته أبو الوليد. وقيل: أبو العباس. وقيل: أبو مرة. وقيل: إن القول اللين هو هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، عن مقاتل. (1) هذا البيت من قصيدة رائية لجرير بن عطية يمدح بها عمر بن عبد العزيز بن مروان. (*)
[ 24 ]
وقيل: هو أن موسى أتاه فقال له: تسلم وتؤمن برب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم، وتكون ملكا لا ينزع الملك منك حتى تموت، ولا تنزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت، فإذا مت دخلت الجنة. فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان غائبا. فلما قدم هامان أخبره بالذي دعاه إليه وأنه يريد أن يقبل منه، فقال هامان: قد كنت أرى أن لك عقلا، وأن لك رأيا بينا. أنت رب وتريد أن تكون مربوبا ؟ وبينا أنت تعبد وتريد أن تعبد ؟ فقلبه عن رأيه، وكان يحيى بن معاذ يقول: هذا رفقك بمن يدعي الربوبية، فكيف رفقك بمن يدعي العبودية ؟ (لعله يتذكر أو يخشى) أي: ادعواه على الرجاء والطمع، لا على اليأس من فلاحه، فوقع التعبد لهما على هذا الوجه، لأنه أبلغ لهما في دعائه إلى الحق، قال الزجاج: والمعنى في هذا عند سيبويه: إذهبا على رجائكما وطمعكما والعلم من الله قد أتى من وراء ما يكون. وإنما يبعث الرسل وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم، والمراد بيان الغرض بالبعثة أي: ليتذكر ما أغفل عنه من ربوبية الله تعالى، وعبودية نفسه، ويخشى العقاب والوعيد. وفي قوله سبحانه: (فقولا له قولا لينا) دلالة على وجوب أن يرفق في الدعاء إلى الله، وفي الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليكون أسرع إلى القبول، وأبعد من النفور. وقيل: إن هارون كان بمصر، فلما أوحى الله تعالى إلى موسى أن يأتي مصر، أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى، فتلقاه على مرحلة، ثم ائتمرا وذهبا إلى فرعون. (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [ 45 ] قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 46 ] فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى [ 47 ] إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 48 ] قال فمن ربكما يا موسى [ 49 ] قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى [ 50 ] قال فما بال القرون الاولى [ 51 ] قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 52 ] الذي جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 53 ]
[ 25 ]
كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى [ 54 ] منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ 55 ] ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 56 ] القراءة: قرأ نصر عن الكسائي: (خلقه) بفتح اللام. والباقون: (خلقه) بسكون اللام. وقرأ أهل الكوفة وروح وزيد عن يعقوب: (مهدا). والباقون: (مهادا) بالألف. الحجة: من قرأ (أعطى كل شئ خلقه): فالمعنى أعطى كل شئ صورته أي: خلق كل حيوان على صورة اخرى، ثم هداه. ومن قرأ (خلقه) بفتح اللام، فإنه جملة من الفعل والفاعل في موضع جر بأنه صفة شئ، والمفعول الثاني لأعطى محذوف، فكأنه أعطى كل شئ مخلوق ما أوجبه تدبيره، ثم هداه السبيل. والمهد: مصدر كالفرش. والمهاد كالفراش والبساط في قوله (جعل لكم الأرض فراشا) وفي موضع آخر بساطا. ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء، فجمع كما يجمع فعل على فعال، والأول أبين. اللغة. الفرط: التقدم، ومنه الفارط المتقدم إلى الماء قال. (قد فرط العجل علينا وعجل) ومنه الإفراط. الإسراف، لأنه تقدم بين يدي الحق. والتفريط: التقصير لأنه تأخر عما يجب فيه التقدم. قال الزجاج: القرن أهل كل عصر فيهم نبي، أو إمام، أو عالم يقتدى به، فإن لم يكن واحد منهم لم يسم قرنا. والنهي. جمع نهية. وإنما قيل لأولي العقول أولو النهى لأنهم ينهون الناس عن القبائح. وقيل: لأنه ينتهى إلى آرائهم. الاعراب: (إسمع): جملة في موضع الرفع بكونها خبرا بعد خبر. ويجوز أن يكون في موضع النصب على الحال. (علمها عند ربي في كتاب): علمها مبتدأ. و (في كتاب): خبره. و (عند ربي): معمول الخبر. وتقديره علمها ثابت في كتاب عند ربي. ويجوز أن يكون قوله (عند ربي) صفة لكتاب. فلما تقدم انتصب على الحال تقديره في كتاب ثابت عند ربي. ويجوز أن يكون عند ربي الخبر، وفي كتاب: بدل منه. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. وقوله (لا يضل ربي) تقديره لا
[ 26 ]
يضل ربي عنه، فحذف الجار والمجرور كما حذف من قوله (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) أي: فيه. (الذي جعل لكم الأرض). يجوز أن يكون في موضع جر بأنه صفة (ربي). ويجوز أن يكون في موضع رفع بأن يكون خبر مبتدأ محذوف. (من نبات): في موضع نصب صفة لقوله (أزواجا). و (شتى): صفة له أيضا فهي صفة بعد صفة. و (تارة): منصوبة على المصدر. المعنى: لما أمر الله سبحانه موسى وهارون أن يمضيا إلى فرعون، ويدعواه إليه (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا) أي: نخشى أن يتقدم فينا بعذاب، ويعجل علينا (أو أن يطغى) أي: يجاوز الحد في الإساءة بنا. وقيل: معناه إنا نخاف أن يبادر إلى قتلنا قبل أن يتأمل حجتنا، أو أن يزداد كفرا إلى كفره بردنا. (قال لا تخافا إنني معكما) بالنصرة والحفظ معناه: إني ناصركما وحافظكما (أسمع) ما يسأله عنكما فألهمكما جوابه (وأرى) ما يقصدكما به فأدفعه عنكما فهو مثل قوله (فلا يصلون إليكما). ثم فسر سبحانه ما أجمله فقال (فأتياه) أي: فأتيا فرعون (فقولا إنا رسولا ربك) أي. أرسلنا إليك خالقك بما ندعوك إليه (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي: أطلقهم وأعتقهم عن الإستعباد. (ولا تعذبهم) بالإستعمال في الأعمال الشاقة. (قد جئناك بآية من ربك) أي: بدلالة واضحة، ومعجزة لائحة، من ربك تشهد لنا بالنبوة (والسلام على من اتبع الهدى) قال الزجاج. لم يرد بالسلام هنا التحية، وإنما معناه إن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله. ويدل عليه قوله بعده (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي: إنما يعذب الله سبحانه من كذب بما جئنا به وأعرض عنه، فأما من اتبعه فإنه يسلم من العذاب. وهاهنا حذف وهو: فأتياه فقالا له ما أمرهما الله تعالى به. ثم (قال) لهما فرعون: (فمن ربكما) أي: فمن ربك وربه (يا موسى) وإنما قال ربكما على تغليب الخطاب. وقيل: تقديره فمن ربكما يا موسى وهارون، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر اختصارا ولتسوى رؤوس الآي، وأراد به. فمن أي جنس من الأجناس ربكما حتى أفهمه ؟ فبين موسى أنه تعالى ليس له جنس، وإنما يعرف سبحانه بأفعاله (قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه) معناه: أعطى كل شئ خلقته أي. صورته التي قدرها له (ثم هدى) أي: هداه إلى مطعمه، ومشربه،
[ 27 ]
ومنكحه، وغير ذلك من ضروب هدايته، عن مجاهد، وعطية، ومقاتل وقيل. معناه أعطى كل شئ مثل خلقه أي: زوجه من جنسه، ثم هداه لنكاحه، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: معناه أعطى خلقه كل شئ من النعم في الدنيا مما يأكلون، ويشربون، وينتفعون به، ثم هداهم إلى طرق معائشهم، وإلى أمور دينهم، ليتوصلوا بها إلى نعم الآخرة، عن الجبائي. (قال) فرعون (فما بال القرون الأولى) أي: فما حال الأمم الماضية، فإنها لم تقر بالله، وما تدعو إليه، بل عبدت الأوثان. ويعني بالقرون الأولى مثل قوم نوح وعاد وثمود. ف‍ (قال) موسى (علمها عند ربي) أي: أعمالهم محفوظة عند الله، يجازيهم بها. والتقدير علم أعمالهم لها عند ربي (في كتاب) يعني اللوح المحفوظ. والمعنى: إن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم. وقيل: المراد بالكتاب ما يكتبه الملائكة. وقيل أيضا: إن فرعون إنما قال (فما بال القرون الأولى) حين دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث أي. فما بالهم لم يبعثوا. (لا يضل ربي) أي: لا يذهب عليه شئ. وقيل. معناه لا يخطئ ربي (ولا ينسى) من النسيان، عن أبي مسلم. أي: لا ينسى ما كان من أمرهم، بل يجازيهم بأعمالهم. وقيل: معناه لا يغفل ولا يترك شيئأ، عن السدي. ثم زاد في الإخبار عن الله، فقال: (الذي جعل لكم الأرض مهدا) أي: فرشا ومهادا أي: فراشا (وسلك لكم فيها سبلا) والسلك: إدخال الشئ في الشئ. والمعنى: أدخل لكم أي: لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها. وقال ابن عباس: سهل لكم فيها طرقا. (وأنزل من السماء ماء) يعني المطر، وتم الإخبار عن موسى. ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه، فقال موصولا بما قبله من الكلام: (فأخرجنا به) أي. بذلك الماء (أزواجا) أي: أصنافا (من نبات شتى) أي: مختلفة الألوان أحمر، وأبيض، وأخضر، وأصفر، وكل لون منها زوج. وقيل: مختلفة الألوان والطعوم والمنافع، فمنها ما يصلح لطعام الإنسان، ومنها ما يصلح للتفكه، ومنها ما يصلح لغير الإنسان من أصناف الحيوان (كلوا) أي: مما أخرجنا لكم بالمطر من النبات والثمار (وارعوا أنعامكم) أي: وأسيموا مواشيكم فيما أنبتناه بالمطر. واللفظ للأمر، والمراد الإباحة والتذكير بالنعمة. (إن في ذلك) أي: فيما ذكر (لآيات) أي. دلالات (لأولي النهى) أي:
[ 28 ]
لذوي العقول الذين ينتهون عما حرم الله عليهم، عن الضحاك. وقيل. لذوي الورع، عن قتادة. وقيل: لذوي التقى، عن ابن عباس (منها خلقنكم) أي: من الأرض خلقنا أباكم آدم عليه السلام (وفيها نعيدكم) أي: وفي الأرض نعيدكم إذا أمتناكم (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي: دفعة اخرى إذا حشرناكم (ولقد أريناه) يعني فرعون (آياتنا كلها) يعني الأيات التسع أي: معجزاتنا الدالة على نبوة موسى (فكذب) بجميع ذلك (وأبى) أن يؤمن به. وقيل. معناه فجحد الدليل، وأبى القبول، ولم يرد سبحانه بذلك جميع آياته التي يقدر عليها، ولا كل آية خلقها، وإنما أراد كل الآيات التي أعطاها موسى. النظم: ووجه اتصال قوله (فما بال القرون الأولى) بما قبله من الدعاء إلى التوحيد، أن فرعون لما ظهرت المعجزات ودلائل التوحيد على يد موسى، تحير وخاف الفضيحة، فاقبل على نوع آخر من السؤال تلبيسا. وكثيرا ما يفعل ذلك أهل البدع عند ظهور الحجة. وقيل: لما دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث، قال. فما بال أولئك القرون لم يبعثوا. (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى [ 57 ] فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى [ 58 ] قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [ 59 ] فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى [ 60 ] قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى [ 61 ] فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى [ 62 ] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى [ 63 ] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ 64 ] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى [ 65 ] قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 66 ]
[ 29 ]
القراءة. قرأ أبو جعفر: (لا نخلفه) بالجزم. والباقون بالرفع. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو والكسائي. (سوى) بكسر السين. والباقون بضمها. وقرأ (يوم الزينة) بالنصب هبيرة عن حفص، وهي قراءة الحسن والأعمش والثقفي. والباقون: (يوم الزينة) بالرفع. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر، ورويس: (فيسحتكم) بضم الياء. وكسر الحاء. والباقون: (فيسحتكم) بفتح الياء والحاء. وقرأ أبو عمرو: (إن هذين) وقرأ ابن كثير وحفص: (إن هذان) خفيف. وقرأ الباقون: (إن هذإن). وابن كثير وحده يشدد النون من (هذان). وقرأ أبو عمرو: (فاجمعوا) بوصل الهمزة وفتح الميم. والباقون: (فأجمعوا) بقطع الهمزة وكسر الميم. وقرأ ابن عامر وروح وزيد (تخيل إليه) بالتاء وهو قراءة الحسن والثقفي. والباقون: (يخيل) بالياء. الحجة والاعراب. فأما قوله: (لا نخلفه) بالجزم، فإنه يكون على جواب الأمر والقراءة المشهورة بالرفع على أن يكون (لا نخلفه) في موضع النصب بكونه صفة لقوله (موعدا) وهو الظاهر. وأما قوله (سوى)، فإنه المكان النصف فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر: وجدنا أبانا كان حل ببلدة * سوى بين قيس قيس عيلان والفزر (1) قال أبو علي: قوله (سوى) فعل من التسوية فكان المعنى مكانا مستويا مسافته على الفريقين. فيكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر. وهذا بناء يقل في الصفات، ومثله قوم عدى. فأما فعل فهو في الصفات أكثر. قالوا: دليل ختع (2)، ومال لبد، ورجل حطم. وأما انتصاب قوله (مكانا) فلا يخلو من أن يكون مفعولا للموعد، إما على أنه مفعول به، أو على أنه ظرف له، أو يكون منتصبا بأنه المفعول الثاني. ولا يجوز الأول ولا الثاني، لأن الموعد قد وصف بالجملة التي هي (لا نخلفه نحن) وإذا وصف لم يجز أن يعمل عمل الفعل لاختصاصه بالصفة، ولأنه إذا عطف عليه لم يجز أن يتعلق به بعد العطف عليه شئ منه، وكذلك إذا أخبر عنه لم (1) أبان: إسم جبل. والفزر. أبو قبيلة من تميم، وهو سعيد بن زيد. (2) دليل ختع: ماهر بالدلالة. ومال لبد: كثير لا يخاف فناؤه، كأنه التبد بعضه على بعض. ورجل حطم: لا يشبع لأنه يحطم كل شئ. (*)
[ 30 ]
يجز أن يقع بعد الخبر عنه شئ يتعلق بالمخبر عنه. لم يجز سيبويه: هذا ضارب ظريف زيدا، ولا هذا ضويرب زيدا إذا حقر إسم الفاعل، لأن التحقير في تخصيصه الإسم بمنزلة إجراء الوصف عليه، وقد جاء من ذلك شئ في الشعر. قال بشر بن أبي حازم: إذا فاقد خطباء فرخين رجعت، * ذكرت سليمى في الخليط المباين (1) ويحتمل ذلك على إضمار فعل آخر، كما ذهبوا إليه في نحو قول الشاعر: إن العرارة والنبوح لذارم * والمستخف أخوهم الأثقالا (2) فإذا لم يجز ذلك كان مفعولا ثانيا لقوله (فاجعل) فيكون بمنزلة قوله (جعلوا القرآن عضين) ونحوه. وأما (يوم الزينة) فمن نصبه فعلى الظرف كما تقول قيامك يوم الجمعة، فالموعد إذا هنا مصدر، والظرف بعده خبر عنه. قال ابن جني. وهو عندي على حذف المضاف أي: إن إنجاز موعدنا إياكم في ذلك اليوم، ألا ترى أنه لا يراد أنه في ذلك اليوم يعدكم لأن الموعد قد وقع الآن، وإنما يتوقع إنجازه في ذلك اليوم. لكن في قوله: (وأن يحشر الناس ضحى) نظر. وظاهر حاله أن يكون مجرور الموضع حتى كأنه قال انتظروا موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ضحى أي: يوم هذا ولهذا فيكون أن يحشر معطوفا على الزينة. وقد يجوز أن يكون مرفوع الموضع، عطفا على الموعد، فكأنه قال إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة أي. هذان الفعلان في يوم الزينة. وأما من رفع (يوم الزينة): فان الموعد عنده ينبغي أن يكون زمانا، فكأنه قال: وقت وعدكم يوم الزينة، كقولنا: مبعث الجيوش شهر كذا أي: وقت بعثها حينئذ. والعطف عليه بقوله (وأن يحشر الناس ضحى) يؤكد الرفع لأن (أن) لا (1) وفي رواية الأشموني (في الخليط المزايل) قوله. (فاقد) المراد حمامة فقدت فرخها و (رجعت) أي: صوتت وكررت صوتها و (سليمى) اسم. ويقولون: ضربته بين أذناه، ومن يشتري الخفان، وقيل: إنها لغة لبني الحرث بن كعب، وهذا القول اختيار. (2) قائله الأخطل. والعرارة: الشدة. والنبوح: العز والكثرة. يمدح بني دارم بكثرة عددهم، وحملهم الأمور الثقال التي يعجز غيرهم عن حملها. وفي إعراب البيت خلاف ذكره ابن منظور في (اللسان) في (نبح) فراجع. (*)
[ 31 ]
يكون ظرفا بل هو حرف موصول في معنى المصدر. وينبغي أن يكون على حذف المضاف أي: وقت وعدكم يوم الزينة، ووقت حشر الناس ضحى، كما أن قولك: ورودك مقدم الحاج، إنما هو على حذف المضاف أي: وقت قدوم الحاج. وأما قوله (فيسحتكم). فإن سحت وأسحت بمعنى، قال الفرزدق. وعض زمان يابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا، أو مجلف (1) وفسر لم يدع على أنه بمعنى لم يبق. وأما قوله: (إن هذان لساحران) فمن قرأ بتشديد النون من إن والألف من (هذان) فقد قيل فيه أقوال أحدها: إن (إن) بمعنى نعم، وأنشدوا شعرا: بكر العواذل في الضحى * يلحينني وألومهنه ويقلن شيب قد علا * ك، وقد كبرت فقلت: إنه فعلى هذا يكون تقديره: نعم هذان لساحران. وهذا لا يصح لأن (إن) إذا كانت بمعنى نعم إرتفع ما بعدها بالإبتداء والخبر، واللام لا يدخل على خبر مبتدأ جاء على أصله. وأما ما أنشد في ذلك من قوله: خالي لأنت ومن جرير خاله * ينل العلاء، ويكرم الأخوالا وقوله: أم الحليس لعجوز شهربة * ترضى من اللحم بعظم الرقبة (2) فمحمول على الشذوذ والضرورة. وأيضا فإن أبا علي قال: ما قيل إن في الآية لا يقتضي أن يكون جوابه نعم، لأنك إن جعلته جوابا لقول موسى عليه السلام ويلكم لا تفتروا على الله كذبا قالوا نعم هذان ساحران، كان محالا. وإن جعلته على تقدير فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى، قالوا نعم هذان لساحران كان محالا أيضا وثانيها: ما قاله الزجاج: إن تقديره نعم هذان لهما ساحران، فاللام دخل على مبتدأ محذوف. وهذا أيضا مثل الأول لما قلناه، ولأن سيبويه قال نعم عدة وتصديق وأن (1) المجلف: الذي بقيت منه بقية. يريد إلا مسحتا أو هو مجلف. (2) والشاهد في دخول اللام على الخبر في البيتين وهو قوله لأنت - في البيت الأول - ولعجوز - في البيت الثاني - مع أنها مختصة بالمبتدأ. (*)
[ 32 ]
يصرف إلى الناصبة للإسم أولى، وهو قراءة أبي عمرو، وعيسى بن عمرو. قال أبو علي: هذا الذي قاله الزجاج لا يتجه لأمرين أحدهما. إن الذي حمله النحويون على الضرورة، لا يمتنع أن يستمر هذا التأويل فيه، ولم يحمله مع ذلك عليه والآخر: إن التأكيد باللام لا يتعلق به الحذف. ألا ترى أن الأوجه في الزينة أن تم الكلام، ولا يحذف ثم يؤكد فليس باللائق في التدبر وثالثها. ما قاله المتقدمون من النحويين: إن التقدير إنه هذان لساحران فحذف ضمير القصة. وهذا أيضا فيه نظر من أجل دخول اللام في الخبر، ولأن إضمار الهاء بعد (إن) إنما يأتي في ضرورة الشعر، نحو قوله: إن من لام في بني بنت حسان * ألمه، وأعصه في الخطوب وقوله: إن من يدخل الكنيسة يوما، * يلق فيها جآذرا، وظباء (1) ورابعها: ما قاله علي بن عيسى وهو أن (إن) لما كانت مشبهة بالفعل، وليست بأصل في العمل، ألغيت هاهنا كما تلغى إذا خففت. وهذا غير مستقيم أيضا لأن الإلغاء في (إن) ما رأيناه في غير هذا الموضع. وأيضا فإنها قد أعملت مخففة في قوله تعالى (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) فكيف يجوز إلغاؤها في غير التخفيف ؟ وأيضا فقد أعمل إسم الفاعل والمصدر لشبههما بالفعل. ولا يجوز الغاؤهما. وأيضا فإن اللام يمنع من هذا التأويل، لأن (إن) إذا ألغيت ارتفع ما بعدها بالإبتداء. واللام لا يدخل على خبر المبتدأ على ما بيناه. وخامسها: إن هذه الألف ليست بألف التثنية، وإنما هي ألف هذا زيدت عليها النون. وهذا قول الفراء وهو غير صحيح، فإنه لا يجوز أن يكون تثنية، إلا ويكون لها علم. ولو كان على ما زعم لم تنقلب هذه الألف ياء في حال الجر والنصب. ويدل على أن هذه الألف للتثنية: إن الألف التي كانت في الواحد، قد حذفت كما حذفت الياء من الذي، والتي، إذا قلت اللذان واللتان. وسادسها: وهو أجود ما قيل فيه أن يكون هذان اسم (إن) بلغة كنانة، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان. قال بعض شعرائهم. (1) الجآذر جمع الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. (*)
[ 33 ]
واها لريا، ثم واها واها، * يا ليت عيناها لنا وفاها وموضع الخلخال من رجلاها * بثمن نعطي به أباها إن أباها، وأبا إباها، * قد بلغا في المجد غايتاها (1) وقال آخر: تزود منا بين أذناه طعنة، * دعته إلى هابي التراب عقيم وقال آخر: فأطرق إطراق الشجاع، ولو يرى * مساغا لناباه الشجاع لصما ويقولون: ضربته بين أذناه، ومن يشتري الخفان. وقيل: إنها لغة لبني الحرث بن كعب. وهذا القول اختيار أبي الحسن، وأبي علي الفارسي. ومن قرأ (إن هذين لساحران) فهو صحيح مستقيم وزيف الزجاج هذه القراءة لمخالفتها المصحف. وقيل: إنه احتج في مخالفته المصحف بما روي أنه من غلط الكاتب. ويروون عن عثمان وعائشة أن في هذا القرآن غلطا تستقيمه العرب بألسنتها. وهذا غير صحيح عند أهل النظر، فإن أبا عمرو، ومن ذهب من القراء مذهبه، لا يقرأ إلا بما أخذه من الثقات من السلف، ولا يظن به مع علو رتبته أن يتصرف في كتاب الله من قبل نفسه، فيغيره. ومن قرأ (إن هذان) بسكوت النون من أن والألف، فقد قال الزجاج: يقوي هذه القراءة قراءة أبي (ما هذان إلا ساحران). وروي عنه أيضا (إن هذان إلا ساحران) وهذا يدل على أنه جعل اللام بمنزلة إلا. والعجب أنه بصري المذهب، والبصريون ينكرون مجئ اللام بمعنى إلا. قالوا لو كان كذلك لجاز أن تقول جاءني القوم لزيدا، بمعنى إلا زيدا. فالوجه الصحيح فيه أنه جعل (إن) هذه مخففة من الثقيلة، وأضمر فيها إسمها، ورفع ما بعدها على الإبتداء والخبر، وجعل الجملة خبر إن. وإذا كانت (إن) مخففة من الثقيلة، لزمتها اللام ليكون فرقا بينها وبين (إن) النافية. وأما تشديد النون في قول ابن كثير ففيه وجهان أحدهما. أن يكون عوضا من (1) نسب جماعة هذه الأبيات إلى النجم العجلي منهم الشريف المرتضى (ره) في الأمالي ونسبها آخرون إلى رؤبة. وقال بعض: إنها لبعض أهل اليمن، وفي بعض الروايات (لسلمى). (*)
[ 34 ]
ألف هذا التي سقطت من أجل حرف التثنية والآخر: أن يكون للفرق بين النون التي تدخل على المبهم، والنون التي تدخل على المتمكن، وذلك أن هذه إنما وجدت مشددة مع المبهم. وأما قوله (فأجمعوا كيدكم) قال أبو الحسن: إنما يقولون بالقطع إذا قالوا أجمعوا على كذا. فأما إذا قالوا اجمعوا أمركم، واجمعوا كيدكم، فلا يقولون إلا بالوصل. قال. وقال بالقطع أكثر القراء. قال: فأما أن يكون لغة في هذا المعنى، لأن باب فعلت وأفعلت كثير، وأن يكون أجمعوا على كذا، ثم قال كيدكم على أمر مستأنف. قال أبو علي: فإن قيل فقد تقدم ذكر قوله (فجمع كيده) فإذا قيل فأجمعوا كيدكم كان تكريرا. قيل: لا يكون كذلك، لأن ذلك في قصة، وهذا في أخرى، ذاك إخبار عن فرعون في جمعه كيده وسحره، وهذا فيما يتواصى به السحرة في جمع كيدهم، ويشبه أن يكون ذلك على لغتين كما ظنه أبو الحسن قال الشاعر: وأنتم معشر زيدوا على مائة، * فأجمعوا أمركم طرا فكيدوني فقوله (فأجمعوا أمركم) بمنزلة فأجمعوا كيدكم، لأن كيدهم من أمرهم. وأما قوله (يخيل إليه) فمن قرأ بالياء فإنه فعل فارغ وفاعله قوله (أنها تسعى)، ومن قرأ بالتاء فعلى هذا يكون فاعله الضمير المستكن فيه العائد إلى الحبال والعصي، و (أنها تسعى) في محل الرفع لأنه بدل من ذلك الضمير، وهو بدل الإشتمال. ويجوز أن يكون موضعه على هذه القراءة نصبا أيضا على معنى يخيل إليه كونها ذات سعي. المعنى: ثم حكى سبحانه. عن فرعون أنه نسب موسى إلى السحر تلبيسا على قومه بأن قال. (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) أي: من أرض مصر (فلنأتينك بسحر مثله) أي: مثل ما أتيت به (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى) أي: إضرب بيننا وبينك موعدا مكانا يعد لحضورنا ذلك المكان، لا يقع منا في حضوره خلاف. ثم وصف المكان بأنه تستوي مسافته على الفريقين، ومكانا بدل عن موعد. وقيل: مكانا سوى أي: عدلا بيننا وبينك، عن قتادة. وقيل: منصفا بكون النصف بيننا وبينك، عن مجاهد (قال) موسى (موعدكم يوم الزينة). وكان يوم لهم فسمي يوم الزينة، لأن الناس يتزينون فيه، ويزينون به الأسواق، عن مجاهد وقتادة والسدي. (وأن يحشر الناس ضحى) يعني ضحى ذلك اليوم. ويريد بالناس أهل مصر يقول يحشرون إلى العيد ضحى، فينظرون إلى أمري وأمرك فيكون ذلك أبلغ في الحجة، وأبعد من الشبهة.
[ 35 ]
قال الفراء: يقول إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى، فذلك الموعد. قال: وجرت عادتهم بحشر الناش في ذاك اليوم (فتولى فرعون) أي انصرف، وفارق موسى على هذا الوعد (فجمع كيده) أي: حيلته ومكره وذلك جمع السحرة (ثم أتى) أي: حضر الموعد (قال لهم موسى) أي: قال للسحرة لأنهم أحضروا ما عملوا من السحر، ليقابلوه بمعجزة موسى، فوعظهم فقال: (ويلكم) وهي كلمة وعيد وتهديد، معناه: ألزمكم الله الويل والعذاب. ويجوز أن يكون على النداء نحو: يا ويلتا، فيكون الدعاء بالويل عليهم. وقيل: إن ويلكم كلمتان تقديرهما وي لكم، فيكون مبتدأ وخبرا، أو يكون ويلكم بمنزلة أتعجب لكم. (لا تفتروا على الله كذبا) أي: لا تشركوا مع الله أحدا، عن ابن عباس. وقيل: لا تكذبوا على الله بأن تنسبوا معجزاتي إلى السحر وسحركم إلى أنه حق، وبأن تنسبوا فرعون إلى أنه إله معبود (فيسحتكم) أي: يستأصلكم (بعذاب) عن قتادة والسدي. وقيل: يهلككم، عن ابن عباس والكلبي ومقاتل والجبائي. وأصل السحت. إستقصاء الخلق، يقال: سحت شعره إذا استأصله. وسحته الله وأسحته. إذا استأصله وأهلكه (وقد خاب من افترى) أي. خسر من كذب على الله، ونسب إليه باطلا، عن قتادة. إنقطع رجاء من كذب على الله عن ثوابه وجنته. (فتنازعوا أمرهم بينهم) أي: تشاور القوم وتفاوضوا في حديث موسى وهارون وفرعون، وجعل كل واحد منهم ينازع لكلام صاحبه. وقيل: تشاورت السحرة فيما هيئوه من الحبال والعصي، وفيمن يبتدئ بالإلقاء (وأسروا النجوى) يعني أن السحرة أخفوا كلامهم، وتناجوا فيما بينهم سرا من فرعون، فقالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، عن الفراء والزجاج. وقيل: إن موسى لما قال لهم. (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) قال بعضهم لبعض. ما هذا بقول ساحر. وأسر بعضهم إلى بعض يتناجون، عن محمد بن إسحاق. وقيل: أسروا النجوى بأن قالوا: إن كان هذا ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمره، عن قتادة. وقيل: تناجوا مع فرعون وأسروا عن موسى وهارون قولهم (إن هذان) لساحران، عن الجبائي وأبي مسلم. إن هذان يعني موسى وهارون (لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) قاله فرعون وجنوده للسحرة، ويريدون بالأرض أرض مصر. (ويذهبا بطريقتكم المثلى) هي تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، وهو الأشبه
[ 36 ]
بالحق، يقال. فلان أمثل قومه أي: أشرفهم وأفضلهم. والمعنى: يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام. وقيل: إن طريقتهم المثلى بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا أي: يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم، عن قتادة وأكثر المفسرين. وقيل. يذهبا بطريقتكم التي أنتم عليها في السيرة والدين، عن الجبائي وأبي مسلم وابن زيد. (فأجمعوا كيدكم) أي: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به (ثم ائتوا صفا) أي: مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأموركم، وأشد لهيبتكم، عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وقيل: ثم ائتوا موضع الجمع، ويسمى المصلى الصف، عن أبي عبيدة. والمعنى. ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم. (وقد أفلح اليوم من استعلى) أي: وقد سعد اليوم من غلب وعلا، عن ابن عباس. قال بعضهم: إن هذا من قول فرعون للسحرة. وقال آخرون: بل هو قول بعض السحرة لبعض (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى) هذا قول السحرة خيروه بين أن يلقوا أولا ما معهم، أو يلقي موسى عصاه، ثم يلقون ما معهم. (قال) موسى (بل ألقوا) أنتم ما معكم أمرهم بالإلقاء أولا، ليكون معجزه أظهر إذا ألقوا ما معهم، ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك. وهاهنا حذف أي. فألقوا ما معهم (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) الضمير في إليه راجع إلى موسى. وقيل: إلى فرعون أي: يرى الحبال من سحرهم أنها تسير وتعدو مثل سير الحيات، وإنما قال (يخيل إليه) لأنها لم تكن تسعى حقيقة، وإنما تحركت لأنهم جعلوا داخلها الزئبق، فلما حميت الشمس طلب الزئبق الصعود، فحركت الشمس ذلك، فظن أنها تسعى. (فأوجس في نفسه خيفة موسى [ 67 ] قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى [ 68 ] وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 69 ] فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى [ 70 ] قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى [ 71 ] قالوا لن نؤثرك
[ 37 ]
على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا [ 72 ] إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ 73 ] إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى [ 74 ] ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى [ 75 ] جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى [ 76 ]) القراءة: قرأ ابن ذكوان: (تلقف) بالرفع. والباقون بالجزم. إلا أن حفصا يقرؤها خفيفة والآخرون مشددة. وابن كثير برواية البزي وابن فليح يشدد التاء أيضا. وقرأ (كيد سحر) بغير ألف أهل الكوفة غير عاصم. والباقون: (ساحر) بالألف. الحجة: من قرأ تلقف بالرفع فإنه يرتفع لأنه في موضع الحال. والحال يجوز أن يكون من الفاعل الملقى أو من المفعول الملقي. فإن جعلته من الفاعل جعلته من المتلقف، وإن كان التلقف في الحقيقة للعصا، لأن التلقف كان بإلقائه، فجاز أن ينسب إليه. وإن جعلته من المفعول فإنه أنث على المعنى، لأن الذي في يمينه عصا. ومثل ذلك في أن يكون مرة للخطاب، ومرة للمؤنث قوله (يومئذ تحدث أخبارها) فهذا يكون على تحدث أنت أيها الإنسان. وعلى أن الأرض تحدث. وأما (تلقف) بالجزم، فعلى أن يكون جوابا، كأنه قال: إن تلقه تلقف وتلقف. ومن شدد التاء فإنما أراد تتلقف. وهذا يكون على تتلقف أنت أيها المخاطب. وعلى تتلقف هي، إلا أنه أدغم التاء الأولى في التاء الثانية، والإدغام في هذا ينبغي أن لا يكون جائزا، لأن المدغم يسكن، وإذا سكن لزم أن يجلب له همزة الوصل، كما جلبت في أمثلة الماضي نحو: ادرأتم، وازينت، واطيروا. وهمزة الوصل لا تدخل على المضارع. قال: وسالت أحمد بن موسى كيف يبتدئ من أدغم. فقال كلاما معناه: إنه يصير بالإبتداء إلى قول من خفف، ويدع الإدغام. ومن قرأ (كيد ساحر) فلأن الكيد للساحر في الحقيقة، وليس للسحر، إلا أن يريد كيد ذي سحر، فيكون في المعنى مثل كيد ساحر. والإختلاف بين القراء في (آمنتم) والوجه في ذلك ذكرناه في سورة
[ 38 ]
الأعراف (1). اللغة: يقال: لقفت الشئ وتلقفته والتقفته: إذا أخذته بسرعة. قال الكسائي: الصبي في الحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. والكبير في اللغة: الرئيس. ولهذا يقال للمعلم الكبير. والإيثار: الإختيار. والتزكي. طلب الزكاء: النماء في الخبر. ومنه الزكاة لأن المال ينمو بها. الاعراب. (إن) مفصول من (ما صنعوا) لأن ما ههنا موصولة و (صنعوا) صلته. ويجوز أن يكون الموصول إسما بمعنى الذي، ويكون العائد من الصلة إلى الموصول محذوفا. ويجوز أن يكون حرفا، فيكون تقديره إن صنعهم. والفرق بين آمنتم به، وآمنتم له: أن آمنتم به بالباء: هو من الإيمان الذي هو ضد الكفر. وآمنتم له: بمعنى التصديق. (من خلاف): يحتمل أن يكون (من) بمعنى عن أي: عن خلاف. ويحتمل أن يكون بمعنى على خلاف، فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. (في جذوع النخل): في بمعنى على. وإنما جاز ذلك لأن الجذع قد اشتمل عليهم، وقد صاروا فيها. قال الشاعر: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة، * فلا عطست شيبان إلا بأجدعا (2) (أينا أشد عذابا وأبقى): تعليق ومعنى التعليق إن عملت تعمل في المعنى، ولا تعمل في اللفظ. (والذي فطرنا): موضعه جر عطف على ما جاءنا. (فاقض ما أنت قاض). يجوز أن يكون (ما) مصدرية في تقدير الظرف أي: فاقض القضاء مدة كونك قاضيا. ويجوز أن يكون (ما) مفعوله أي: فاقض ما أنت قاضيه. فحذف الهاء. (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا): حذف المضاف، وتقديره إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون تقديره: إنما تقضي مدة هذه الحياة الدنيا. وهذه على القول الأول منصوبة مفعول بها. وعلى الثاني منصوبة على الظرف. ويجوز أن يكون الواو للقسم. (جنات عدن): يجب ان يكون بدلا من الدرجات، ولا يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، لأن قوله (خالدين فيها) نصب على الحال من قوله لهم وذو الحال الضمير المجرور باللام. فعلى هذا لا يجوز الوقف على الدرجات العلى. (1) راجع ج 2. (2) أي: صار أنفهم أجدع. (*)
[ 39 ]
و (الدرجات): مرتفع بالظرف بلا خلاف بينهم، لأن الظرف جرى خبرا على المبتدأ، وهو (أولئك) واعتمد عليه، فيرتفع ما بعده. المعنى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) معناه: فأحس موسى، ووجد في نفسه ما يجده الخائف. ويقال: أوجس القلب فزعا أي: أضمر. والسبب في ذلك أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم، فيتوهموا أنهم فعلوا مثل فعله، ويظنوا المساواة، فيشكوا ولا يتبعونه، عن الجبائي. وقيل. إنه خوف الطباع إذا رأى الإنسان أمرا فظيعا، فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة. وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا، وقبل أن يعلموا ببطلان السحرة، فيبقوا في شبهة. وقيل: إنه خاف لأنه لم يدر أن العصا إذا انقلبت حية هل تظهر المزية، لأنه لا يعلم أنها تتلقفها، فكان ذلك موضع خوف، لأنها لو انقلبت حية، ولم تتلقف ما يأفكون، ربما ادعوا المساواة لا سيما والأهواء معهم، والدولة لهم. فلما تلقفت زالت الشبهة، وتحقق عند الجميع صحة أمر موسى وبطلان سحره. (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) عليهم بالظفر والغلبة (وألق ما في يمينك) يعني العصاء (تلقف ما صنعوا) أي: تبتلع ما صنعوا فيه من الحبال والعصي، لأن الحبال والعصي أجسام ليست من صنعهم، قالوا: ولما ألقى عصاه صارت حية، وطافت حول الصفوف حتى رآها الناس كلهم، ثم قصدت الحبال والعصي فابتلعتها كلها على كثرتها، ثم أخذها موسى فعادت عصا كما كانت (إنما صنعوا كيد ساحر) أي. إن الذي صنعوه، أو إن صنيعهم كيد ساحر أي: مكره وحيلته (ولا يفلح الساحر) أي: لا يظفر الساحر ببغيته إذ لا حقيقة للسحر (حيث أتى) أي. حيث كان من الأرض. وقيل: لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره لأن الحق يبطله. (فألقي السحرة سجدا) ها هنا محذوف وهو فألقى عصاه، وتلقف ما صنعوا، فألقي السحرة سجدا أي: سجدوا و (قالوا آمنا برب هارون وموسى) أضافوه سبحانه إليهما لدعائهما إليه، وكونهما رسولين له (قال) فرعون للسحرة. (آمنتم له) أي: لموسى. والمعنى قد صدقتم له (قبل أن آذن لكم) أي: من غير إذني، لأنه بلغ من جهله أنه لا يعتقد دين إلا بإذنه. والفرق بين الإذن والأمر. أن في الأمر دلالة على إرادة الآمر الفعل المأمور به، وليس في الإذن ذلك. وقوله. (فإذا حللتم فاصطادوا) إذن، وقوله (أقيموا الصلاة) أمر.
[ 40 ]
(إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) معناه: إنه لأستاذكم وأنتم تلامذته، وقد يعجز التلميذ عما يفعله الأستاذ. وقيل: إنه لرئيسكم ومتقدمكم، وأنتم أشياعه وأتباعه ما عجزتم عن معارضته، ولكنكم تركتم معارضته احتشاما له واحتراما. وإنما قال ذلك ليوهم العوام أن ما أتوا به إنما هو لتواطؤ من جهتهم، ليصرفوا وجوه الناس إليهم (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي: أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي: على جذوع النخل (ولتعلمن) أيها السحرة (أينا أشد عذابا) لكم (وأبقى) وأدوم أنا على إيمانكم أم رب موسى على ترككم الإيمان به. (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي: لن نفضلك، ولن نختارك على ما أتانا من الأدلة الدالة على صدق موسى، وصحة نبوته، والمعجزات التي تعجز عنها قوى البشر. (والذي فطرنا) أي. وعلى الذي فطرنا أي: خلقنا. وقيل: معناه لن نؤثرك والله الذي فطرنا على ما جاءنا من البينات، وما ظهر لنا من الحق (فاقض ما أنت قاض) أي: فاصنع ما أنت صانعه على إتمام وإحكام. وقيل: معناه فاحكم ما أنت حاكم، وليس هذا بأمر منهم، ولكن معناه: أي شئ صنعت، فإنا لا نرجع عن الإيمان (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: إنما تصنع بسلطانك، أو تحكم في هذه الحياة الدنيا دون الآخرة، فلا سلطان لك فيها، ولا حكم. وقيل: معناه إنما تقضي وتذهب هذه الحياة الدنيا دون الحياة الآخرة (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) من الشرك والمعاصي (وما أكرهتنا عليه من السحر) إنما قالوا ذلك لأن الملوك كانوا يجبرونهم على تعليم السحر، كيلا يخرج السحر من أيديهم. قيل: إن السحرة قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام. فأراهم إياه، فإذا هو نائم، وعصاه تحرسه. فقالوا: ليس هذا بسحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم، عن عبد العزيز بن أبان. (والله خير وأبقى) أي: والله خير لنا منك، وثوابه أبقى لنا من ثوابك. وقيل: معناه والله خير ثوابا للمؤمنين، وأبقى عقابا للعاصين منك. وهذا جواب لقوله (ولتعلمن أينا أشذ عذابا وأبقى) وها هنا انتهى الإخبار عن السحرة. ثم قال الله سبحانه (إنه من يأت ربه مجرما) وقيل: إنه من قول السحرة. قال ابن عباس: في رواية الضحاك المجرم الكافر. وفي رواية عطاء يعني الذي أجرم، وفعل مثل ما فعل
[ 41 ]
فرعون (فإن له جهنم لا يموت فيها) فيستريح من العذاب (ولا يحيى) حياة فيها راحة، بل هو معاقب بأنواع العقاب. (ومن يأته مؤمنا) مصدقا بالله، وبأنبيائه (قد عمل الصالحات) أي: أدى الفرائض، عن ابن عباس (فأولئك لهم الدرجات العلى) يعني درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض. والعلى: جمع العليا، وهي تأنيث الأعلى (جنات عدن) أي: إقامة (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) معناه: إن الثواب الذي تقدم ذكره، جزاء من تطهر بالإيمان والطاعة عن دنس الكفر والمعصية. وقيل: تزكى طلب الزكاء بإرادة الطاعة، والعمل بها. (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى [ 77 ] فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 78 ] وأضل فرعون قومه وما هدى [ 79 ] يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى [ 80 ] كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [ 81 ] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [ 82 ] وما أعجلك عن قومك يا موسى [ 83 ] قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى [ 84 ] قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري [ 85 ] فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي [ 86 ] القراءة: قرأ حمزة. (لا تخف) جزما. والباقون: (لا تخاف). وقرأ أهل الكوفة غير عاصم: (قد أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم). وقرأ الباقون. (قد أنجيناكم وواعدناكم ورزقناكم) بالنون. وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب وسهل. (ووعدناكم) بغير الألف. والباقون بالألف. وقرأ الكسائي: (فيحل) بضم الحاء (ومن يحلل) بضم
[ 42 ]
اللام. والباقون بالكسر في الموضعين. الحجة: قال أبو علي: من رفع قوله (لا تخاف): فإنه حال من الفاعل في أضرب أي: غير خائف، ولا خاش. ويجوز أن يقطعه من الأول أي. أنت لا تخاف. ومن قرأ (لا تخف): جعله جواب الشرط أي: إن تضرب لا تخف دركا ممن خلقك، ولا تخش غرقا بين يديك. فأما من قال (لا تخف دركا ثم لا تخشى): فيجوز أن يعطيه من الأول أي. إن تضرب لا تخف، وأنت لا تخشى. ولا يحمله على قول الشاعر: (كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا) (1) ولا على نحو: إذا العجوز غضبت فطلق * ولا ترضيها، ولا تملق (2) لأن ذلك إنما يجئ في ضرورة الشعر، كما أن قوله: ألم يأتيك، والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد (3) كذلك. ولكنك تقدر أنك حذفت الألف المنقلبة عن اللام، ثم أشبعت الفتحة، لأنها في فاصلة، فأثبت الألف الناشئة عن إشباع الفتحة. ومثل هذا مما ثبت في الفاصلة قوله (فأضلونا السبيلا) وقد جاء إشباع هذه الفتحة في كلامهم قال. وأنت عن الغوائل حين ترمى، * وفي ذم الرجال بمنتزاح أي. بمنتزح. وحجة من قرأ (وعدناكم): أن ذلك يكون من الله سبحانه. قال أبو الحسن: زعموا أن (واعدناكم) لغة في (وعدناكم) فإذا كان كذلك، فاللفظ لا يدل على أن الفعل من اثنين. فيكون القراءة بوعد أحسن، لأن واعد بمعنى وعد، ويعلم من وعد أنه فعل واحد لا محالة. وليس واعد كذلك. فالأخذ بالأبين أولى، ومن قرأ أنجيناكم وواعدناكم فحجته قوله: (ونزلنا عليكم المن والسلوى). وحجة من قرأ (يحل) بكسر الحاء: أنه روي في زمزم إنه لشارب حل أي: مباح له، غير محظور عليه ولا ممنوع عنه، فالحل والحلال في المعنى مثل المباح فهو خلاف الحظر والحجر والحرام والحرم، فهذه الألفاظ معناها المنع. (1) قائله: عبد يغوث بن وقاص، وقبله: (وتضحك مي شيخة عبشمية) والشاهد في قوله " لم ترى " حيت اثبت الشاعر الألف مع الجازم. (2) قائله: رؤبة بن العجاج. (3) قائله: قيس بن زهير وكان قد طرد إبلا للربيع بن زياد في قصة مشهورة. (*)
[ 43 ]
والمباح من قولهم باح بالسر. والأمر يبوح به: إذا لم يجعل دونه حظرا. فمعنى يحل عليكم: ينزل بكم وينالكم بعدما كان ذا حظر وحجر ومنع عنكم. ووجه قراءة من قرأ (يحل عليكم غضبي) أن الغضب لما كان تتبعه العقوبة والعذاب، جعله بمنزلة العذاب، فقال: يحل أي ينزل. فجعله بمنزلة قولهم: حل بالمكان يحل. وعلى هذا جاء (يصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم) فكما أن هذا عذاب قد أخبر عنه بأنه يحل، كذلك أخبر عن الغضب بمثله، وجعله بمنزلته، لأنه يتبعه، ويتصل به. اللغة: اليبس اليابس وجمعه أيباس. وجمع اليبس بسكون الباء يبوس. قال الكميت: فما زدته إلا يبوسا وما أرى * لهم رحما والحمد لله توصل قال أبو زيد حل عليه أمر الله يحل حلولا، وحل الدار يحلها حلولا. وحل العقدة يحلها حلا. وحل له الصوم يحل حلا. وأحله الله إحلالا. وحل عليه حقي يحل محلا. وأحل الرجل من إحرامه إحلالا. وحل يحل حلا. والأسف: أشد الغضب، ويكون أيضا بمعنى الحزن. الاعراب: (هم أولاء): مبتدأ وخبر. ويجوز أن يكون (أولاء) بدلا من (هم)، ويكون (على أثري) في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون (على أثري) في موضع نصب على الحال. والعامل فيه معنى الإشارة في (أولاء). ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل، فقال: (ولقد أوحينا إلى موسى) بعدما رأى فرعون من الآيات، فلم يؤمن هو، ولا قومه (أن أسر بعبادي) أي: سر بهم ليلا من أرض مصر (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) أي. إجعل لهم طريقا في البر يابسا بضربك العصا، لينفلق البحر. فعدى الضرب إلى الطريق لما دخله هذا المعنى، فكأنه قد ضرب الطريق كما يضرب الدينار (لا تخاف دركا ولا تخشى) أي: لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك، ولا تخشى من البحر غرقا. ومن قرأ (لا تخف) بالجزم فمعناه: لا تخف أن يدركك فرعون وأنت لا تخشى شيئا من أمر البحر مثل قوله: (يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون). ويجوز أن
[ 44 ]
يكون في موضع الجزم على نحو ما ذكرناه في الحجة. (فأتبعهم فرعون بجنوده) معناه: ألحق جنوده بهم، وبعث بجنوده خلفهم وفي أثرهم. وفي الكلام حذف أنهم فعلوا ذلك، فدخل موسى وقومه البحر، ثم اتبعهم فرعون بجنوده (فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي: جاءهم من البحر ما جاءهم، ولحقهم منه ما لحقهم، وفيه تعظيم للأمر، ومعناه. غشيهم الذي عرفتموه وسمعتم به، ومثله قول أبي النجم: " أنا أبو النجم وشعري شعري " أي: شعري الذي سمعت به، وعلمته أي: هلك فرعون ونجا موسى هذا كان عاقبة أمرهم فليعتبر المعتبرون بهم. (وأضل فرعون قومه وما هدى) أي: صرفهم عن الهدى والحق، وما هداهم إلى الخير والرشد وطريق النجاة. وإنما قال (وما هدى) بعد قوله (أضل) ليتبين أنه استمر على ذلك، وما زال يضلهم، ولا يهديهم. وحسن حذف المفعول لمكان رأس الآية. وإنما قال سبحانه تكذيبا لقول فرعون لقومه: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). ثم خاطب سبحانه بني إسرائيل، وعدد نعمه عليهم، فقال: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون بمرأى منكم (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) وهو أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن، فيؤتيه التوراة، فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاجون إليه (ونزلنا عليكم المن والسلوى) يعني في التيه. وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة (1) (كلوا من طيبات ما رزقناكم) صورته صورة الأمر، والمراد به الإباحة (ولا تطغوا فيه) أي: فلا تتعدوا فيه فتأكلوه على الوجه المحرم عليكم. وقيل: إن المعنى لا تتجاوزوا عن الحلال إلى الحرام. وقيل: معناه لا تتناولوا من الحلال للإستعانة به على المعصية. (فيحل عليكم غضبي) أي: فيجب عليكم عقوبتي. ومن ضم الحاء فالمعنى: فينزل عليكم عقوبتي. (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) أي: هلك لأن من هوى من علو إلى سفل فقد هلك. وقيل: فقد هوى إلى النار. قال الزجاج: فقد صار إلى الهاوية. (وإني لغفار) وهو فعال من المغفرة (لمن تاب) من الشرك (وآمن) بالله ورسوله (1) راجع ج 1. (*)
[ 45 ]
(وعمل صالحا) أي: أدى الفرائض (ثم اهتدى) أي: ثم لزم الإيمان إلى أن يموت واستمر عليه. وقيل: ثم لم يشك في إيمانه، عن ابن عباس. وقيل: ثم أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلك سبيل البدعة، عن ابن عباس أيضا، والربيع بن أنس. وقال أبو جعفر الباقر عليه السلام. ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت عليهم السلام فوالله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام، ثم مات ولم يجئ بولايتنا، لأكبه الله في النار على وجهه. رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده، وأورده العياشي في تفسيره من عدة طرق. (وما أعجلك عن قومك يا موسى) قال ابن إسحاق: كانت المواعدة أن يوافي الميعاد هو وقومه. وقيل: مع جماعته من وجوه قومه، وهو متصل بقوله (واعدناكم) جانب الطور الأيمن فتعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه، وخلفهم ليلحقوا به، فقيل له. ما أعجلك عن قومك يا موسى أي: بأي سبب خلفت قومك، وسبقتهم، وجئت وحدك. (قال) موسى في الجواب (هم أولاء على أثري) أي: هؤلاء من ورائي يدركونني عن قريب. وقيل: معناه هم على ديني ومنهاجي، عن الحسن. وروي عنه أيضا أنه قال: هم ينتظرون من بعدي ما الذي آتيهم به، وليس يريد أنهم يتبعونه. (وعجلت إليك رب لترضى) أي: سبقتهم إليك حرصا على تعجيل رضاك أي. لازداد رضا إلى رضاك. (قال) الله تعالى (فإنا قد فتنا قومك) أي: امتحناهم، وشددنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل، فألزمناهم عند ذلك النظر ليعلموا أنه ليس بإله كما قال سبحانه: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (من بعدك) أي: من بعد انطلاقك (وأضلهم السامري) أي: دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه، وضلوا عند دعائه. فأضاف الضلال إلى السامري، والفتنة إلى نفسه، ليدل سبحانه على أن الفتنة غير الضلال. وقيل: إن معنى فتنا قومك: عاملناهم معاملة المختبر المبتلي، ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق، فيوالي المخلص، ويعادي المنافق. (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي: رجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل، شديد الغضب، حزينا، عن ابن عباس. وقيل: جزعا عن مجاهد. وقيل متحسرا متلهفا على ما فاته، لأنه خشي أن لا يمكنه تدارك أمر قومه، عن الجبائي.
[ 46 ]
(قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) أي. صدقا لإيتاء الكتاب وهو التوراة لتعلموا ما فيه، وتعملوا به، فتستحقوا الثواب، عن الجبائي. وقيل. الوعد الحسن هو ما وعدهم به من النجاة من فرعون، ومجيئهم إلى جانب الطور، ووعده بالمغفرة لمن تاب. وقيل: هو ما وعدهم به في الآخرة على التمسك بدينه في الدنيا، عن الحسن. (أفطال عليكم العهد) أي: مدة مفارقتي إياكم (أم أردتم أن يحل عليكم) أي: يجب عليكم (غضب من ربكم) بعبادتكم العجل. والمعنى. أم أردتم أن تصنعوا صنعا يكون سببا لغضب ربكم. (فأخلفتم موعدي) أي: ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي. ويبين ذلك قوله (بئسما خلفتموني من بعدي). وقيل: إن إخلافهم موعده أنه أمرهم اللحاق به، فتركوا المسير على أثره للميقات. وقيل: هو أنه أمرهم أن يتمسكوا بطريقة هارون وطاعته، ويعملوا بأمره إلى أن يرجع فخالفوه. (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري [ 87 ] فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [ 88 ] أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [ 89 ] ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري [ 90 ] قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى [ 91 ] قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا [ 92 ] ألا تتبعن أفعصيت أمري [ 93 ] قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي [ 94 ] قال فما خطبك يا سامري [ 95 ] قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [ 96 ] القراءة: قرأ أهل المدينة والكوفة وعاصم. (بملكنا) بالفتح. وقرأ حمزة
[ 47 ]
والكسائي وخلف. (بملكنا) بضم الميم. والباقون. (بملكنا) بكسر الميم. وقرأ ابن عامر وحفص ورويس. (حملنا) بالضم والتشديد. والباقون: (حملنا) بفتح الحاء والتخفيف. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم: (لم تبصروا) بالتاء. والباقون بالياء. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود وأبي والحسن وقتادة وأبي رجاء ونصر بن عاصم: (فقبصت قبصة) بالصاد. وروي عن الحسن أيضا (قبضة) بضم القاف. الحجة: قال أبو علي. في قوله (بملكنا) هذه ثلاث لغات، والكسر أكثر، والفتح لغة فيه. والمعنى ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب، ولكن لخطئنا. فأضيف المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول. فأما من ضم الميم، فإنه لا يخلو من أن يريد به مصدرا لملك، أو يكون لغة في مصدر المالك. فإن أريد الأول فالمعنى لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك لمكان ملكنا، ويكون على هذا التقدير كقوله: (لا يسألون الناس إلحافا) أي: ليس منهم مسألة، فيكون منهم إلحاف فيها ليس أنه أثبت ملكا كما لم يثبت في قوله لا يسئلون الناس إلحافا مسألة منهم، ومثل ذلك قول ابن أبي أحمر: لا تفزع الإرنب أهوالها، * ولا ترى الضب بها ينجحر أي: ليس بها أرنب فيفزع لهولها، ومثله قول ذي الرمة: لا تشتكي سقطة منها، وقد رقصت * بها المفاوز حتى ظهرها حدب أي: ليس منها سقطة فتشتكي. وقوله (حملنا) من حمل الإنسان الشئ، وحملته إياه. فمن قرأ (حملنا): فالمعنى جعلونا نحمل أوزار القوم. ومن قرأ (حملنا): أراد أنهم فعلوا ذلك. ومن قرأ (بما لم يبصروا به) بالياء فالمعنى: بما لم يبصر به بنو إسرائيل. ومن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى الجميع. والقبض بالضاد: باليد كلها. وبالصاد. بأطراف الأصابع. والقبضة بالضم: القدر المقبوض. والقبضة: فعلك أنت. وقد ذكرنا الإختلاف في قوله (يا بن أم)، والوجه في ذلك في سورة الأعراف (1). اللغة: الوزر: أصله الثقل، ومنه الوزر: الذنب، لأن صاحبه قد حمل به (1) راجع ج 2. (*)
[ 48 ]
ثقلا. والوزر: الحمل. والأوزار: الأحمال والأثقال، ومنه الأوزار للسلاح، لأنها تثقل على لابسها. والخوار: الصوت المتردد الشديد التردد كصوت البقر ونحوه. والعكوف: الإقامة وملازمة الشئ، ومنه الإعتكاف في المسجد. ورقب يرقب رقبانا ورقبة: انتظر. والمرقب: المكان العالي الذي يقف عليه الرقيب. وأرقبت فلانا داري وأعمرته. والإسم الرقبى والعمرى. وبصر بالشئ يبصر: إذا صار عليما به. وأبصر يبصر. إذا رأى. الاعراب. (فكذلك ألقى السامري): الكاف صفة مصدر محذوف لألقى، تقديره ألقى السامري إلقاء مثل إلقائنا. (جسدا): بدل من عجل. (أن لا يرجع): تقديره أفلا يرون أن لا يرجع. ويجوز أن ينصب (يرجع) بأن فيكون الناصبة للفعل، ولا يكون (أن) المخففة من أن. ضلوا جملة في موضع نصب على الحال وقد مضمرة. (ألا تتبعني): في موضع جر بمن المحذوف أو في موضع نصب على الخلاف فيه تقديره ما منعك من اتباعي. ولا زائدة كما في قوله. (ما منعك أن لا تسجد). المعنى: (قالوا) أي: قال الذين لم يعبدوا العجل (ما أخلفنا موعدك بملكنا) أي: ونحن نملك من أمرنا شيئا. والمعنى: إنا لم نطق رد عبدة العجل عن عظيم ما ارتكبوه للرهبة، لكثرتهم وقلتنا. وجاء في الرواية أن الذين لم يعبدوا العجل كانوا اثني عشر ألفا، والذين عبدوه كانوا ستمائة ألف رجل. ومن قرأ بملكنا بضم الميم فمعناه: بقدرتنا وسلطاننا أي: لم نقدر على ردهم. (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) معناه: ولكنا حملنا أثقالا من حلي آل فرعون، وهو ما أستعادوه من حليهم، حين أرادوا السير. وقيل: هو ما ألقاه البحر على الساحل من ذهبهم، وفضتهم، وحليهم، بعد إغراقهم فأخذوه. وقيل: هو من أثقال الذنوب والآثام أي: حملنا آثاما من حلي القوم، لأنهم استعاروا حليا من القبط، ليتزينوا بها في عيد كان لهم، ثم لم يردوها عليهم عند الخروج من مصر، مخافة أن يعلموا بخروجهم، فحملوه، وكان ذلك ذنبا منهم إذ كانوا مستأمنين فيما بينهم. وقيل: إنهم كانوا في حكم الأسراء فيما بينهم، فكان يحل لهم أخذ أموالهم فعلى هذا لا يمكن حمله على الإثم. (فقذفناها) أي: ألقيناها في النار لتذوب (فكذلك ألقى السامري) أيضا
[ 49 ]
ليوهم أنه منهم، عن الجبائي. وقيل: معناه فمثل ما ألقينا نحن من هذا الحلي في النار، ألقي السامري أيضا، فاتبعناه. وقيل: إن هذا كلام مبتدأ من الله، حكى عنهم أنهم القوا ثم قال: وكذلك ألقى السامري، عن أبي مسلم (فأخرج لهم عجلا جسدا) أي: أخرج لهم من ذلك عجلا جسيما (له خوار) أي: صوت. وقد ذكرنا صفة العجل في سورة الأعراف (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) أي: قال السامري، ومن تبعه من السفلة، والعوام: هذا العجل معبودكم، ومعبود موسى. (فنسي) فيه قولان أحدهما. إنه من قول السامري، ومن تبعه، أي: نسي موسى أنه إله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي والضحاك. وقيل: معناه فنسي أي: ضل وأخطأ الطريق. وقيل: معناه أنه تركه هنا، وخرج يطلبه والثاني: إنه قول الله تعالى أي: فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من الإيمان الذي بعث الله به موسى، عن ابن عباس أيضا. وقيل: معناه فنسي السامري الإستدلال على حدوث العجل، وأنه لا يجوز أن يكون إلها. وقيل: فنسي السامري أي: نافق وترك الإسلام. ثم احتج سبحانه عليهم فقال: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) أي. أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه، واتخذوه إلها، لا يرد عليهم جوابا (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) ومن كان بهذه الصفة، فإنه لا يصلح للعبادة. قال مقاتل: لما مضى من موعد موسى خمسة وثلاثون يوما، أمر السامري بني إسرائيل أن يجمعوا ما استعاروه من حلي آل فرعون، وصاغه عجلا في السادس والثلاثين، والسابع، والثامن، ودعاهم إلى عبادته في التاسع، فأجابوه. وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين. قال سعيد بن جبير: كان السامري من أهل (كرمان)، وكان مطاعا في بني إسرائيل. وقيل: كان من قرية يعبدون البقر، فكان حب ذلك في قلبه. وقيل: كان من بني إسرائيل، فلما جاوز البحر نافق. فلما قالوا: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) اغتنمها، وأخرج لهم العجل، ودعاهم إليه، عن قتادة. (ولقد قال لهم هارون من قبل) أي: من قبل عود موسى إليهم (يا قوم إنما فتنتم به) يعني أن الله تعالى شدد عليكم التعبد، فاعلموا إلهكم واعبدوه، ولا تعبدوا العجل، موعظة ونصحا. ويحتمل أن يكون أراد فتنكم السامري به، وأضلكم (وإن
[ 50 ]
ربكم الرحمن فاتبعوني) أي: اتبعوني فيما أدعوكم إليه (وأطيعوا أمري) في عبادة الله، ولا تتبعوا السامري، ولا تطيعوا أمره في عبادة العجل (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) معناه: لا نزال مقيمين على عبادته (حتى يرجع إلينا موسى) فننظر أيعبده كما عبدناه، أم لا. فاعتزلهم هارون في إثني عشر ألفا. فلما رجع موسى عليه السلام، وهو ممتلئ غيظا منهم، ومن عبادتهم العجل، وسمع الصياح والجلبة، إذ كانوا يرقصون حول العجل، ويضربون الدفوف والمزامير، واستقبله هارون. فألقى الألواح، وأخذ يعاتب هارون. (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني) أي: هلا تتبعني بمن أقام على إيمانه، عن ابن عباس. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم. وقيل: هلا لحقت بي حين رأيتهم ضلوا بعبادة العجل قبل استحكام الأمر. والأصل أن لا مزيدة، وتقديره: ما منعك أن تتبعني (أفعصيت أمري) فيما أمرتك به يريد قوله: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) فلما أقام معهم، ولم يبالغ في منعهم نسبه إلى عصيانه. وقيل: إن صورته صورة الإستفهام، والمراد به التقرير، لأن موسى عليه السلام كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره. (سؤال): متى قيل إن الظاهر يقتضي أن موسى كان أمره باللحاق به، فعصى هارون أمره ؟ قلنا: يجوز أن يكون أمره بذلك بشرط المصلحة، ورأى هارون الإقامة أصلح، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب. ويجوز أن يكون لم يأمره بذلك، وإنما أمره بمجاهدتهم، وزجرهم عن القبيح، وإنما عاتبه مع أن اللوم توجه على القوم لأن أمره بمفارقتهم لوم عليهم. وقيل: إن موقع الذنب ممن عظمت رتبته أعظم. فلما كان هارون أجل من خلفه موسى، خصه باللائمة. وهذا إنما يتجه إذا ثبت لهارون ذنب. فأما وهو نقي الجيب من جميع الذنوب، برئ الساحة من العيوب، فالقول الأول هو الوجه. (قال) هارون (يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قد فسرناه في سورة الأعراف. وقيل: كانت العادة جارية قي القبض عليهما في ذلك الزمان، كما أن العادة في زماننا هذا القبض على اليد والمعانقة، وذلك مما تختلف العادة فيه بالأزمنة والأمكنة. وقيل: إنه أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته، لأنه لم يكن يتهم عليه، كما لا يتهم على نفسه. ثم بين عليه السلام عذره في مقامه معهم،
[ 51 ]
فقال: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) يعني أني لو فارقتهم، أو قاتلتهم، لصاروا أحزابا، وتفرقوا فرقا، ففريق يلحقون بك معي، وفريق يقيمون مع السامري على عبادة العجل، وفريق يتوقفون شاكين في أمره، مع أني لم آمن إن تركتهم أن يصيروا بالخلاف إلى تسافك الدماء، وشدة التصميم والثبات على اتباع السامري، فإنهم كانوا يمتنعون بعض الإمتناع بمكاني فيهم. وكنت أوجه إليهم من الإنكار مقدار ما يتحمله الحال، وذلك قوله (يا قوم إنما فتنتم به) فاعتذر بما يقبل مثله، لأنه وجه واضح من وجوه الرأي. وقوله (ولم ترقب قولي) معناه: ولم تحفظ وصيتي، ولم تعمل به حين قلت (اخلفني في قومي وأصلح). ولما ظهرت براءة ساحة هارون، أقبل على السامري (قال) له (فما خطبك يا سامري) أي: ما شأنك ؟ وما دعاك إلى ما صنعت ؟ فكأنه قال: ما هذا الخطب والأمر العظيم الذي أحدثت ؟ وما حملك عليه ؟ (قال) السامري (بصرت بما لم يبصروا به) أي: رأيت ما لم يروه. وقيل: معناه علمت ما لم يعلموا من البصيرة (فقبضت قبضة من أثر الرسول) أي: قبضت قبضة تراب من أثر قدم جبرائيل (فنبذتها) في العجل (وكذلك) أي: وكما حدثتك يا موسى (سولت لي نفسي) أي. زينت لي نفسي من أخذ القبضة، وإلقائها في صورة العجل. وقيل: معناه حدثتني نفسي. فأما حديث العجل وما الذي قبضه السامري، وكيفية ذلك، واختلافهم فيه، فقد سبق ذكره. (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا [ 97 ] إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما [ 98 ] كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا [ 99 ] من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [ 100 ] خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا [ 101 ] يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 102 ] يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 103 ] نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم
[ 52 ]
طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 104 ] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 105 ] فيذرها قاعا صفصفا 106 * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 107 ] القراءة: قرأ ابن كثير وأهل البصرة غير سهل: (لن تخلفه) بكسر اللام. وقرأ الضرير: (لن نخلفه) بالنون وكسر اللام، وهو قراءة الحسن. وقرأ الباقون: (لن تخلفه) بفتح اللام. وقرأ أبو جعفر. (لنحرقنه) بفتح النون وسكون الحاء وتخفيف الراء، وهو قراءة علي عليه السلام وابن عباس. وقرأ أبو عمرو: (يوم ننفخ في الصور) بالنون. والباقون: (ينفخ) بالياء وفتح الفاء. وفي الشواذ قراءة أبي حيوة: (لا مساس). وقرأ مجاهد وقتادة: (وسع كل شئ علما). وقرأ ابن عياض (في الصور) بفتح الواو. الحجة: قال أبو علي: أخلفت يتعدى إلى مفعولين. (لن تخلفه) مثل لن تعطاه. لما أسندت الفعل إلى أحد المفعولين، فأقمته مقام الفاعل، بقي الفعل متعديا إلى مفعول واحد، وفاعله الذي يخلف هو الله تعالى، أو موسى، ومعناه: سيأتيك به، ولن يتأخر عنك. ولن تخلفه أي: سيأتيك، ولا مذهب لك عنه. وقال ابن جني: معناه لن تصادفه مخلفا كقول الأعشى: أثوى، وقصر ليله، ليزودا، * فمضى، وأخلف من قتيلة موعدا (1) وهو وعيد والمعنى في قراءة الأولى أبين. وأما (نخلفه) بالنون فالمعنى: لن نخلفك إياه أي: لن ننقص منه ما عقدناه لك. وقوله (لنحرقنه): من قولهم فلان يحرق علي الأرم أي: يحك أسنانه بعضها ببعض غيظا علي. قال زهير: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه * عليه فأفصى والسيوف معاقله (2) فكان لنحرقنه على هذا لنبردنه ولنحتنه حتا يقال: حرقت الحديد أي: بردته فتحات وتساقط. وقوله (مساس): مثل نزال وحذار. قال ابن جني. ولا يدخل (1) أثوى بالمكان: أقام. وقتيلة. علم امرأة وأخلف موعدا أي: صادف سنها خلف المواعيد. ويروى (فمضت) مكان (فمضى) ومعناه فمضت الليلة. (2) الضيم. الظلم. وأفصى: أي تخلص من الشر. (*)
[ 53 ]
على هذا الضرب من الكلام ما النافية بالنكرة فلا إذا في قوله (لا مساس) نفي للفعل كقولك: لا أمسك ولا أقرب منك، فكأنه حكاية قول القائل مساس، فكأنه قال: لا أقول مساس. قال الكميت: (لا همام لي لا همام) (1) أي: لا أقول همام. ولا بد أن تكون الحكاية مقدرة. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: لا أضرب، فتنفي بلا لفظ الأمر لتنافي اجتماع لفظ الأمر والنهي. فالحكاية إذا معتقدة مقدرة. وأما قوله (وسع كل شئ علما) فمعناه على ما قاله ابن جني: إنه خرق كل مصمت بعلمه، لأنه بطن كل مخفي، فصار لعلمه فضاء متسعا بعد ما كان متلاقيا مجتمعا، ومنه قوله تعالى: (إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) وهذا في العمل، وذاك في العلم. والوجه في قوله (ننفخ في الصور): (فنفخنا فيه من روحنا)، وقوله فيما بعده (ونحشر)، والوجه في الياء قوله (يوم ينفخ في الصور)، و (نفخ في الصور). وأما قوله (في الصور): فإنه جمع صورة، وقد يقال فيها صير، وأصله صور قال: أشبهن من بقر الخلصاء أعينها، * فهن أحسن من صيرانها صيرا (2) وصورا أيضا. قال أبو عبيدة: الصور جمع صورة. ويقال. الصور القرن. ويقال. فيه ثقب بعدد نفوس البشر، فإذا نفخ فيه قام الناس من الأرماس. اللغة: ظلت: أصله ظللت، وللعرب فيها مذهبان: فتح الظاء وكسرها. فمن قال: ظلت ترك الظاء على حالها. ومن قال ظلت بالكسر: نقل حركة اللام إليها للإشعار بأصلها. ومثله مست ومست في مسست، وهل أحست في أحسست. قال الشاعر: خلا أن العتاق من المطايا * أحسن به فهن إليه شوس (3) لننسفنه: يقال نسف فلان الطعام بالمنسف. إذا ذراه ليطير عنه قشوره. (1) هذا جزء من بيت له في مدح أهل البيت عليهم السلام وقبل هذا البيت قوله. (إن أمت لا أمت ونفسم نفسان من الشك في عمى أو تعام) وتمام البيت (عادلا غيرهم من الناس طرا * بهم لا همام لي لا همام) ومعناه لا أهم بذلك وهو مبني على الكسر كقطام بقرل: لا أعدل بهم أحدا. (2) خلصاء: إسم موضع. وصيران جمع صوار: قطيع البقر. (3) الشعر في (جامع الشواهد). (*)
[ 54 ]
والصفصف: الموضع المستوي الذي لا نبات به، كأنه على صف واحد في استوائه. والقاع: الأرض الملساء. وقيل: مستنقع الماء، وجمعه أقواع وقيعان وقيعة. والأمت: الأكمة. ويقال: مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا أي: انثناء. قال الشاعر: (ما في انجذاب سيره من أمت). المعنى: ثم حكى سبحانه عن موسى عليه السلام: (قال) للسامري (فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) واختلف في معناه فقيل: إنه أمر الناس بأمر الله أن لا يخالطوه، ولا يجالسوه، ولا يؤاكلوه، تضييقا عليه، والمعنى: لك أن تقول لا أمس ولا أمس ما دمت حيا. قال ابن عباس: لك ولولدك. والمساس. فعال من المماسة، ومعنى لا مساس: لا يمس بعضنا بعضا. فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع، لا يمس أحدا، ولا يمسه أحد. عاقبه الله تعالى بذلك. وكان إذا لقي أحدا يقول: لا مساس أي: لا تقربني، ولا تمسني. وصار ذلك عقوبة له ولولده حتى إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإن مس واحد من غيرهم واحدا منهم حم كلاهما في الوقت. وقيل: إن السامري خاف وهرب، فجعل يهيم في البرية، لا يجد أحدا من الناس يمسه، حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس، عن الجبائي. (وإن لك موعدا لن تخلفه) أي: وعدا لعذابك، يعني يوم القيامة لن تخلف ذلك الوعد، ولن يتأخر عنك. قال الزجاج: المعنى يكافيك الله على ما فعلت يوم القيامة. (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) معناه: وانظر إلى معبودك الذي ظلت على عبادته مقيما، يعني العجل (لنحرقنه) بالنار (ثم لننسفنه في اليم نسفا) أي: لنذرينه في البحر. قال ابن عباس: فحرقه، ثم ذراه في البحر. وهذا يدل على أنه كان حيوانا لحما ودما. وعلى القراءة الأخرى لنحرقنه أي: لنبردنه بالمبرد يدل على أنه كان ذهبا وفضة، ولم يصر حيوانا. ونبه عليه السلام بذلك على أن ما يمكن سحقه، أو إحراقه، لا يصلح للعبادة. وقال الصادق عليه السلام: إن موسى عليه السلام هم بقتل السامري، فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى، فإنه سخي. ثم أقبل موسى على قومه فقال: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) أي: هو
[ 55 ]
الذي يستحق العبادة (وسع كل شئ علما) أي: يعلم كل شئ علما تاما، وهي لفظة عجيبة في الفصاحة. وفي ذلك دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما. ثم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) أي: مثل ما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه، نقص عليك من أخبار ما قد مضى وتقدم من الأمم والأمور (وقد أتيناك من لدنا ذكرا) يعني القرآن، لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه من أمور الدين. ثم أوعد سبحانه على الإعراض عنه، وترك الإيمان به فقال: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي: حملا ثقيلا من الإثم يشق عليه حمله، لما فيه من العقوبة، كما يشق حمل الثقيل (خالدين فيه) أي: في عذاب ذلك الوزر وجزائه، وهو الخلود في النار (وساء لهم يوم القيامة حملا) تقديره ساء الحمل حملا، والحمل بمعنى المحمول أي: بئس الوزر هذا الوزر لهم يوم القيامة. قال الكلبي: بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفرهم بالقرآن (يوم ينفخ في الصور) هو بدل من يوم القيامة وقد سبق معناه (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) قال ابن عباس: يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلها يحشرون زرق العيون، سود الوجوه. ومعنى الزرقة. الخضرة في سواد العيون كعين السنور. والمعنى في هذا تشويه الخلق. وقيل: زرقا عميا ترى زرقا وهي عمي، عن الفراء. وقيل: عطاشا في مظهر عيونهم كالزرقة مثل قوله (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) عن الأزهري (يتخافتون بينهم) أي: يتسارون بينهم فيقول المجرمون بعضهم لبعض: (إن لبثتم إلا عشرا) أي: ما لبثتم إلا عشر ليال، عن ابن عباس وقتادة. يعني من النفخة الأولى إلى الثانية، وذلك أنه يكف عنهم العذاب فيما بين النفختين، وهو أربعون سنة. وقيل: ما لبثتم في الدنيا. ينسون من شدة هول ذلك اليوم مدة لبثهم في الدنيا. وقيل: في القبر يذهب عنهم طول لبثهم في قبورهم، كأنهم كانوا نياما فانتبهوا. وقيل: إنهم يقللون لبثهم في الدنيا طول ما هم لابثون فيه من النار، عن الحسن. ثم قال سبحانه: (نحن أعلم بما يقولون) أي: بما يتسارون بينهم (إذ يقول أمثلهم طريقة) أي: أصلحهم طريقة، وأوفرهم عقلا، وأصوبهم رأيا. وقيل: أكثرهم سدادا عند نفسه (إن لبثتم إلا يوما) أي: ما لبثتم إلا يوما في الدنيا، وفي القبور. إنما قال ذلك لأن اليوم الواحد والعشرة إذا قوبلت بيوم القيامة، وما لهم من
[ 56 ]
الأيام في النار، كان اليوم الواحد أقرب إليه، وهو كقوله: (لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). وقيل: إنهم قالوا ذلك بعد انقطاع عذاب القبر عنهم، لأن الله يعذبهم، ثم يعيدهم، عن الجبائي. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (ويسألونك) أي: ويسألك منكرو البعث عند ذكر القيامة (عن الجبال) ما حالها (فقل) يا محمد (ينسفها ربي نسفا) أي. يجعلها ربي بمنزلة الرمل، ثم يرسل عليها الرياح فيذريها كتذرية الطعام من القشور والتراب، فلا يبقى على وجه الأرض منها شئ. وقيل: يصيرها كالهباء. وقيل: إن رجلا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها ؟ فقال: (إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها). (فيذرها) أي: فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها (قاعا) أي: أرضا ملساء. وقيل: منكشفة، عن الجبائي (صفصفا) أي: أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر. وقيل: القاع والصفصف بمعنى واحد: وهو المستوي من الأرض، الذي لا نبات فيه، عن ابن عباس ومجاهد. (لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي: ليس فيها منخفض ولا مرتفع، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال الحسن: العوج ما انخفض من الأرض. والأمت: ما ارتفع من الروابي. وقيل: لا ترى فيها واديا ولا رابية، عن مجاهد. (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا [ 108 ] يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا [ 109 ] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 110 ] وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما [ 111 ] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ 112 ] وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 113 ] فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما [ 114 ] ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 115 ]
[ 57 ]
القراءة: قرأ ابن كثير: (فلا يخف) بالجزم. والباقون: (فلا يخاف) بالألف. وقرأ يعقوب: (أن نقضي) بالنون (وحيه) بالنصب. والباقون: (يقضي) بضم الياء (وحيه) بالرفع. الحجة: من قرأ (فلا يخف). فإنه على النهي. ومن قرأ (فلا يخاف). فإنه على الخبر، وتقديره: فهو لا يخاف. وموضع الفاء مع ما بعدها في الموضعين مجزوم، ولكونه في موضع جواب الشرط، والمبتدأ محذوف ومراد بعد الفاء. (وهو مؤمن): في موضع نصب على الحال والعامل في الحال (يعمل)، وذو الحال الذكر الذي في (يعمل) العائد إلى من. ومن قرأ (من قبل أن نقضي إليك وحيه): فإنه أضاف القضاء إلى الله، وجعل الوحي مفعوله. والمعنى في القراءتين واحد. اللغة: الهمز: إخفاء الكلام والصوت الخفي، قال الراجز: وهن يمشين بنا هميسا * إن يصدق الطير نبك لميسا يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. والعنوة. الخضوع والذل. والعاني: الأسير. وأخذت الشئ عنوة أي: غلبة تذل المأخوذ منه. وقد يكون العنوة عن تسليم وطاعة، لأنه على طاعة الذليل للعزيز، قال الشاعر: هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة. * ولم تلح نفس لم تلم في احتيالها وقال آخر: فما أخذوها عنوة عن مودة، * ولكن بضرب المشرفي استفالها والهضم: النقص، يقال: هضمني حقي ويهضمني أي: ينقصني. وامرأة هضيم الحشا أي: ضامرة الكشحين لنقصانه عن حد غيره. ومنه هضمت المعدة الطعام أي: نقصته مع تغييرها. والعزم: الإرادة المتقدمة لتوطين النفس على الفعل. الاعراب: (يومئذ): ظرف (يتبعون). و (لا عوج له): جملة في موضع الحال، والتقدير: يتبعون الداعي غير معوجين عن إجابته، لأن معناه لا عوج لهم عن دعائه أي. لا يقدرون على أن لا يتبعوه. (قرآنا): منصوب على الحال. و (عربيا). صفته وفي الحقيقة الحال قوله عربيا، وإنما ذكر قرآنا للبيان، وكذلك
[ 58 ]
الكاف في محل النصب بأنه صفة لمصدر محذوف. المعنى: ثم وصف سبحانه القيامة فقال: (يومئذ يتبعون الداعي) أي: يوم القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور، وهو إسرافيل عليه السلام. (لا عوج له) أي: لدعاء الداعي، ولا يعدل عن أحد، بل يحشرهم جميعا، عن أبي مسلم. وقيل: معناه لا عوج لهم عن دعائه، لا يميلون عنه، ولا يعدلون عن ندائه أي: يتبعونه سراعا، ولا يلتفتون يمينا، ولا شمالا، عن الجبائي. (وخشعت الأصوات للرحمن) أي: خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن، عن ابن عباس. (فلا تسمع إلا همسا) وهو صوت الأقدام، عن ابن عباس وابن زيد أي: لا تسمع من صوت أقدامهم إلا صوتا خفيا، كما يسمع من وطء الإبل. وقيل: الهمس إخفاء الكلام، عن مجاهد. وقيل: معناه إن الأصوات العالية بالأمر والنهي في الدنيا ينخفض ويذل أصحابها، فلا تسمع منهم إلا الهمس. (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) أي. لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره، إلا شفاعة من أذن الله له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء، والصالحين والصديقين والشهداء. ثم قال سبحانه: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) الضمير يرجع إلى الذين يتبعون الداعي أي: يعلم سبحانه جميع أقوالهم وأفعالهم قبل أن خلقهم، وبعد أن خلقهم، وما كان في حياتهم وبعد مماتهم، لا يخفى عليه شئ من أمورهم، تقدم أو تأخر، عن أبي مسلم. وقيل. يعلم ما بين أيديهم من أحوال الآخرة، وما خلفهم من أحوال الدنيا (ولا يحيطون به علما) أي: ولا يحيطون هم بالله علما أي: بمقدوراته ومعلوماته. وقيل: بكنه عظمته في ذاته وأفعاله. وقيل. لا يحيطون علما بما بين أيديهم، وما خلفهم، إلا من أطلعه الله على ذلك، عن الجبائي. وقيل: معناه ولا يدركونه بشئ من الحواس حتى يحيط علمهم به. (وعنت الوجوه للحي القيوم) أي: خضعت وذلت خضوع الأسير في يد من قهره. والمراد خضع أرباب الوجوه، وأسلموا الحكم للحي الذي لم يمت، ولا يموت. وإنما أسند الفعل إلى الوجوه، لأن أثر الذل يظهر عليها. وقيل: المراد بالوجوه الرؤساء والقادة والملوك أي: يذلون وينسلخون عن ملكهم وعزهم. وقد سبق معنى الحي القيوم في مواضع. (وقد خاب من حمل ظلما) أي: وقد خاب عن
[ 59 ]
ثواب الله من حمل شركا إلى يوم القيامة، عن ابن عباس. وقيل. قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما (ومن يعمل من الصالحات) أي: ومن يعمل شيئا من الطاعات (وهو مؤمن) عارف بالله تعالى، مصدق بما يجب التصديق به. وإنما قال ذلك لأنه لا تنفع الطاعة من غير إيمان. (فلا يخاف ظلما ولا هضما) أي: هو لا يخاف أن يظلم، ويزاد عليه في سيئاته، ولا أن يهضم أي: ينقص من حسناته، عن ابن عباس. وقيل: لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله، ولا أن تبطل حسنة عملها، عن الضحاك. وقيل: لا يخاف ظلما بان لا يجزى بعمله، ولا هضما بالإنتقاص من حقه، عن ابن زيد. ومن قرأ (فلا يخف) على النهي فمعناه. فليأمن، ولا يخف الظلم والهضم، والنهي عن الخوف أمر بالأمن. وفي هذه الآية دلالة على بطلان التحابط (وكذلك) أي. وكما أخبرناك بأخبار القيامة (أنزلناه) أي: أنزلنا هذا الكتاب (قرأنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد) أي: كررنا فيه من الوعيد، وذكرناه على وجوه مختلفة، وبيناه بألفاظ متفرقة (لعلهم يتقون) المعاصي. وقيل. ليتقي العرب من قبل أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك (أو يحدث لهم ذكرا) معناه: أو يجدد القرآن لهم عظة واعتبارا أي: يذكروا به عقاب الله للأمم فيعتبروا. وقيل: يحدث لهم شرفا بإيمانهم به. وإنما أضاف إحداث الذكر إلى القرآن، لأنه يقع عنده كما قال. (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا). (فتعالى الله الملك الحق) أي. ارتفعت صفاته عن صفات المخلوقين، فلا يشبهه أحد في صفاته، لأنه أقدر من كل قادر، وأعلم من كل عالم، وكل عالم وقادر سواه محتاج إليه، وهو غني عنه، وكل قادر وعالم قادر على شئ عاجز عن شئ، عالم بشئ جاهل بشئ، وما هو عالم به يجوز أن ينساه أو يسهو عنه، فهو معرض للزوال، والله سبحانه لم يزل عالما قادرا، ولا يزال كذلك. والملك: الذي يملك الدنيا والآخرة، والحق: الذي يحق له الملك وكل ملك سواه يملك بعض الأشياء، ويبيد ملكه ويفنى. (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) فيه وجوه أحدها: إن معناه لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبرائيل عليه السلام من إبلاغه فإنه صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقرأ معه، ويعجل بتلاوته مخافة نسيانه أي: تفهم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ الملك من قراءته، ولا تقرأ معه، ثم اقرأ بعد فراغه منه. وهذا كقوله (لا تحرك به
[ 60 ]
لسانك لتعجل به)، عن ابن عباس والحسن والجبائي وثانيها. إن معناه ولا تقرأه لأصحابك، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه، عن مجاهد وقتادة وعطية وأبي مسلم. وثالثها: إن معناه ولا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه، لأنه تعالى إنما ينزله بحسب المصلحة، وقت الحاجة. (وقل رب زدني علما) أي: استزد من الله سبحانه علما إلى علمك. روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما، يقربني إلى الله، فلا بارك الله لي في طلوع شمسه). وقيل. معناه زدني علما بقصص أنبيائك، ومنازل أوليائك. وقيل: زدني قرآنا لأنه كلما أزداد من نزول القرآن عليه، ازداد علما، عن الكلبي. (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) معناه: أمرناه وأوصينا إليه أن لا يقرب الشجرة، ولا يأكل منها، فترك الأمر، عن ابن عباس، ولم نجد له عقدا ثابتا. وقيل: معناه فنسي من النسيان الذي هو السهو، ولم نجد له عزما على الذنب، لأنه أخطأ، ولم يتعمد، عن ابن زيد وجماعة. وقيل. ولم نجد له حفظا لما أمر به، عن عطية. وقيل: صبرا، عن قتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: إنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسي ومن حمله على النسيان فما الذي نسيه فيه أقوال أحدها: إنه نسي الوعيد بالخروج من الجنة إن أكل والثاني. إنه نسي قول الله سبحانه (إن هذا عدو لك ولزوجك). والثالث: إنه نسي الإستدلال على أن النهي عن الجنس، وقد نهي عن الجنس، فنسي وظن أن النهي عن العين. النظم: وجه اتصال قوله (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) بما قبله أنه يتصل بقوله (كذلك نقص عليك) وقيل: إنه يتصل بما قبله من قصة موسى أي. كما أنزلنا التوراة على موسى، أنزلنا عليك القرآن. ووجه اتصال قوله (ولقد عهدنا إلى آدم) الآية بما قبله. أنه لما ذكر تصريف الآيات والقرآن، وأن بها يتذكر، أمره سبحانه بالتذكر، وأن لا يكون مثل آدم في نسيان العهد. وقيل: إنه اتصل بقوله (ولا تعجل بالقرآن) أي: لا تعجل خوف النسيان للفظه، ولكن توكل على الله، وسله التوفيق لحفظه، فإن أباك آدم نسي ما عهد إليه. وقيل: إنه عطف على قوله (وكذلك نقص عليك) من أنباء ما قد سبق، فقص عليه قصة آدم عليه السلام، عن أبي مسلم.
[ 61 ]
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى [ 116 ] فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 117 ] إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ 118 ] وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى [ 119 ] فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ 120 ] فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى [ 121 ] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 122 ] قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ 123 ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ 124 ] قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [ 125 ]). القراءة: قرأ نافع وأبو بكر: (وإنك لا تظمؤا) بالكسر. والباقون (أنك) بالفتح. وفي الشواذ قراءة أبان بن تغلب: (ونحشره) بالجزم. الحجة: من قرأ بالفتح فتقديره إن لك أن لا تجوع فيها، وإن لك أنك لا تظمأ. ولا يجوز أن تقول: إن (أنك) منطلق لكراهة اجتماع حرفين متقاربي المعنى، فإذا فصل بينهما جاز. ومن كسر فقال: (فإنك لا تظمأ) قطع الكلام الأول، واستأنف. ومن قرأ (نحشره) فإنه عطفه على موضع قوله (فإن له معيشة ضنكا) وموضعه جزم لكونه جواب الشرط. اللغة: ضحى الرجل يضحى ضحى: إذا برز للشمس، قال عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت * فيضحى، وأيما بالعشي فيخضر (1) (1) الخصر. ألم البرد. (*)
[ 62 ]
يعني: أما. والضنك: الضيق الصعب، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، لأن أصله المصدر قال: (وإذا هم نزلوا بضنك فانزل ". المعنى: ثم بين سبحانه تفصيل ما أجمله من قصة آدم عليه السلام فقال. (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) قد مر تفسيره (أبى) أي: أمتنع من أن يسجد (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) حواء (فلا يخرجنكما من الجنة) أي: لا تطيعاه. والمعنى لا يكونن سببا لخروجكما من الجنة بغروره، ووساوسه. (فتشقى) أي: فتقع في تعب العمل، وكذ الإكتساب، والنفقة على زوجتك ونفسك. ولذلك قال (فتشقى) ولم يقل فتشقيا. وقيل: لأن أمرهما في السبب واحد، فاستوى حكمهما لاستوائهما في السبب والعلة. وقيل: لتستقيم رؤوس الآي. قال سعيد بن جبير: أنزل على آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه، ويرشح العرق عن جبينه، وذلك هو الشقاوة. (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) أي: في الجنة لسعة طعام الجنة، وثيابها. (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) أي لا تعطش، ولا يصيبك حر الشمس، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، قالوا: ليس في الجنة شمس، وإنما فيها ضياء ونور، وظل ممدود. ويسأل ههنا فيقال: كيف جمع بين الجوع والعري، وبين الظمأ والضحى، والجوع من جنس الظمأ، والعري من جنس الضحى ؟ وأجيب عن ذلك بجوابين أحدهما: أن الظمأ أكثر ما يكون من شدة الحر، والحر إنما يكون من الضحى، وهو الإنكشاف للشمس. فجمع بينهما لاجتماعهما في المعنى. وكذلك الجوع والعري متشابهان، من حيث إن الجوع عري في الباطن من الغذاء، والعري للجسم في الظاهر والثاني. إن العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالا على علم المخاطب، وأنه يرد كل واحد منهما إلى ما يشاكله، كما قال امرؤ القيس: كأني لم أركب جوادا للذة، * ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبإ الزق الرزي، ولم أقل * لخيلي: كركرة بعد إجفال (1) (1) السبا: تجارة الخمر. (*)
[ 63 ]
وكان حقه أن يقول كما قال عبد يغوث: كأني لم أركب جوادا، ولم أقل * لخيلي: كري نفسي عن رجاليا ولم أسبإ الزق الروي، ولم أقل * لأيسار صدق: أظهروا ضوء ناريا وقد يؤول قول امرئ القيس على الجواب الأول. (فوسوس إليه الشيطان) قد تقدم بيانه (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد) أي: على شجرة من أكل منها لم يمت (وملك لا يبلى) جديده ولا يفنى. وهذا كقوله (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) الآية. (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) هذا مفسر في سورة الأعراف (وعصى آدم ربه فغوى) معناه. خالف آدم ما أمره ربه به، فخاب من ثوابه. والمعصية: مخالفة الأمر سواء كان الأمر واجبا أو ندبا. قال الشاعر: " أمرتك أمرا جازما فعصيتني ". ولا يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا، كما يسمى بذلك تارك الواجب. يقولون: فلان أمرته بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ذلك واجبا. ولا شبهة أن لفظة (غوى) يحتمل الخيبة. قال الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره، * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (1) ويجوز أن يكون معناه: فخاب مما كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود. (ثم اجتباه ربه) أي: اصطفاه الله تعالى، واختاره للرسالة (فتاب عليه وهدى) أي: قبل توبته وهداه إلى ذكره. وقيل: هداه للكلمات التي تلقاها منه (قال اهبطا منها جميعا) يعني آدم وحواء (بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى) قد فسرنا جميعها في سورة البقرة (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) أي: فلا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس: ضمن الله سبحانه لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ هذه الآية. (ومن أعرض عن ذكري) أي: ومن أعرض عن القرآن، وعن الدلائل التي أنزلها الله تعالى لعباده، وصدف عنها، ولم ينظر فيها (فإن له معيشة ضنكا) أي. عيشا ضيقا، عن مجاهد وقتادة والجبائي. وهو أن يقتر الله عليه الرزق، عقوبة له (1) قائله: قعنب المزاري. ونسبه بعض إلى المرقش. بريد: إن من ظفر بمطلوبه، حمده الناس. ومن لم يظفر، عابوه مع أنه لم يكن مقصرا. (*)
[ 64 ]
على إعراضه. فإن وسع عليه فإنه يضيق عليه المعيشة بأن يمسكه، ولا ينفقه على نفسه. وإن أنفقه، فإن الحرص على الجمع، وزيادة الطلب، يضيق المعيشة عليه. وقيل: هو عذاب القبر، عن ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري والسدي، ورواه أبو هريرة مرفرعا. وقيل: هو طعام الضريع والزقوم في جهنم، لأن مآله إليها، وإن كان في سعة من الدنيا، عن الحسن وابن زيد. وقيل: معناه أن يكون عيشه منغصا بأن ينفق إنفاق من لا يوقن بالخلف، عن ابن عباس. وقيل: هو الحرام في الدنيا الذي يؤدي إلى النار، عن عكرمة والضحاك. وقيل: عيشا ضيقا في الدنيا، لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها، وإنما العيش الرغد في الجنة، عن أبي مسلم. (ونحشره يوم القيامة أعمى) أي. أعمى البصر، عن ابن عباس. وقيل: أعمى عن الحجة، عن مجاهد. يعني أنه لا حجة له يهتدي إليها. والأول هو الوجه لأنه الظاهر، ولا مانع منه، ويدل عليه قوله. (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) قال الفراء: يقال إنه يخرج من قبره بصيرا فيعمى في حشره. وقد روى معاويه بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل لم يحج، وله مال ؟ قال: هو ممن قال الله (ونحشره يوم القيامة أعمى) فقلت: سبحان الله ! أعمى ؟ قال: أعماه الله عن طريق الحق. فهذا يطابق قول من قال: إن المعنى في الآية أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشئ منها. (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 126 ] وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى [ 127 ] أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لاولي النهى [ 128 ] ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى [ 129 ] فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى [ 130 ] القراءة: قرأ الكسائي وأبو بكر: (ترضى) بضم التاء. والباقون بفتحها.
[ 65 ]
الحجة: حجة من فتح التاء قوله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى). وحجة من ضم التاء أنه جاء في صفة بعض الأنبياء: (وكان عند ربه مرضيا). وكان معنى ترضى: ترضى لفعلك ما أمرت به من الأفعال التي يرضاها الله، أو ترضى بما تعطاه من الدرجة الرفيعة، وترضى بما يعطيكه الله من الدرجة العالية، والرتبة المرضية. اللغة: آناء الليل: ساعاته، واحدها إنى. قالى السعيدي: حلو ومر كعطف القدح مرته * بكل إنى قضاه الليل ينتعل (1) الاعراب: أفلم يهد لهم فاعل يهد مضمر يفسره كم أهلكنا والمعنى أفلم يهد لهم إهلاكنا من قبلهم من القرون وموضع كم نصب بأهلكنا. المعنى: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) هذا جواب من الله سبحانه لمن يقول (لم حشرتني أعمى) ومعناه: كما حشرناك أعمى، جاءك محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن والدلائل، فأعرضت عنها، وتعرضت لنسيانها، فإن النسيان ليس من فعل الإنسان فيتوعد عليه. (وكذلك اليوم تنسى) أي: تصير بمنزلة من ترك كالمنسي بعذاب لا يفنى. وقيل: معناه كما حشرتك أعمى لتكون فضيحة، كنت أعمى القلب، فتركت آياتي، ولم تنظر فيها، وكما تركت أوامرنا فجعلتها كالشئ المنسي، تترك اليوم في العذاب كالشئ المنسي. (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) أي: وكما ذكرنا نجزي من أشرك، وجاوز الحد في العصيان، ولم يؤمن بآيات ربه أي لم يصدق بحجج ربه وكتبه ورسله. (ولعذاب الآخرة أشد) من عذاب الدنيا، وعذاب القبر (وأبقى) أي: أدوم، لأنه لا يزول. وعذاب الدنيا وعذاب القبر يزول. (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون) يعني كفار مكة. والمعنى: أفلم يبين لهم طريق الإعتبار كثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيبهم رسلنا، فيعتبروا ويؤمنوا. وقوله: (يمشون في مساكنهم) يريد أهل مكة كانوا يتجرون إلى الشام، فيمرون بمساكن عاد وثمود، ويرون علامات الإهلاك. وفي هذا تنبيه لهم، وتخويف أي: (1) نسبه في (اللسان)، و (السيرة) إلى المتنخل الهذلي. والقدح: السهم. والمرة: القوة والشدة. وانتعل الرجل: ركب صلاب الأرض وحرارها. وهذا البيت من قصيدة قالها في رثاء ابنه أثيلة. (*)
[ 66 ]
أفلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بأولئك. (إن في ذلك) أي: في إهلاكنا إياهم الآيات) أي: لعبرا ودلالات. (لأولي النهى) أي: لذوي العقول الذين يتدبرون في أحوالهم. (ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة وهو قوله: (لكان لزاما وأجل مسمى) أي: لكان العذاب لزاما لهم، واقعا في الحال. واللزام مصدر وصف به. قال قتادة: الأجل المسمى قيام الساعة. وقال غيره: هو الأجل الذي كتبه الله للإنسان أنه يبقيه إليه. وقيل: إن عذاب اللزام كان يوم بدر، قتل الله فيه رؤوس الكفار، ولولا ما قدر الله تعالى من آجال الباقين، ووعدهم من عذاب الآخرة، لكان ذلك القتل الذي نالهم يوم بدر، لازما لهم أبدا في سائر الأزمان. ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على أذاهم بأن قال: (فاصبر على ما يقولون) من تكذيبك، وأذاهم إياك. (وسبح بحمد ربك) أي: صل لربك بالحمد له، والثناء عليه. وقيل: معناه سبحه واحمده في هذه الأوقات (قبل طلوع الشمس) يعني صلاة الفجر (وقبل غروبها) يعني صلاة العصر (ومن آناء الليل) أي: ساعاته. قال ابن عباس: هي صلاة الليل كله. وقيل: يريد أول الليل المغرب والعشاء الآخرة (فسبح وأطراف النهار) يعني الظهر. وسمي وقت صلاة الظهر أطراف النهار، لأن وقته عند الزوال، وهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني، وهذا قول قتادة والجبائي. ومن حمل التسبيح على الظاهر قال: أراد بذلك المداومة على التسبيح والتحميد في عموم الأوقات (لعلك ترضى) بالشفاعة والدرجة الرفيعة. وقيل: بجميع ما وعدك الله به من النصر، وإعزاز الدين في الدنيا، والشفاعة والجنة في الآخرة. (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى [ 131 ] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 132 ] وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى [ 133 ] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا
[ 67 ]
لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 134 ] قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى [ 135 ]). القراءة: وقرأ يعقوب وسهل: (زهرة) بفتح الهاء. والباقون بسكونها. وقرأ أهل المدينة والبصرة وقتيبة وحفص: (أو لم تأتهم) بالتاء. والباقون بالياء. اللغة. زهرة الحياة الدنيا: حسنها. ويجوز فتح العين فيها. والزهرة: النور الذي يروق عند الرؤية، ومنه يقال لكل شئ مستنير زاهر. ومنه الحديث في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان أزهر اللون أي: نير اللون. والزهراوان: البقرة وآل عمران. ويوم الجمعة: يوم أزهر. الاعراب: قال الزجاج: زهرة منصوب بمعنى متعنا، لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة لنفتنهم فيه أي: لنجعل ذلك فتنة لهم. ويجوز أن يكون حالا من الهاء في (به) ويجوز أن يكون حالا من (ما متعنا به). (ولو أنا أهلكناهم): تقديره ولو ثبت إهلاكهم. لأن (لو) يقتضي الفعل فيكون (أنا أهلكناهم) في موضع رفع بأنه فاعل الفعل المقدر و (من أصحاب الصراط السوي) تعلق بقوله (فستعلمون) وهو مبتدأ وخبر، وكذلك (من اهتدى). النزول: قال أبو رافع. نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي فقال: قل إن رسول الله يقول بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب. فأتيته فقلت له فقال. والله لا أبيعه، ولا أسلفه إلا برهن. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فقال: والله لو باعني أو أسلفني، لقضيته. وإني لأمين في السماء، وأمين في الأرض. إذهب بدرعي الحديد إليه. فنزلت هذه الآية تسلية له عن الدنيا. المعنى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) وقد فسرناه في سورة الحجر. وقال أبي بن كعب في هذه الآية: من لم يتعز بعزاء الله، تقطعت نفسه حسرات على الدنيا، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس، يطل حزنه، ولا يشفي غيظه. ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعمه ومشربه، نقص علمه ودنا عذابه. وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لما نزلت هذه الآية، استوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ثم قال هذه الكلمات التي تقدمت. (زهرة الحياة الدنيا) أي:
[ 68 ]
بهجتها ونضارتها، وما يروق الناظر عند الرؤية. وقال ابن عباس وقتادة: زينة الحياة الدنيا. (لنفتنهم فيه) أي: لنعاملهم معاملة المختبر بشدة التعبد في العمل بالحق في هذه الأمور، وأداء الحقوق عنه. وقيل: لنفتنهم أي: لنشدد عليهم التعبد بأن نكلفهم متابعتك، والطاعة لك، مع كثرة أموالهم، وقلة مالك. وقيل: معناه لنعذبهم به، لأن الله قد يوسع الرزق على بعض أهل الدنيا تعذيبا له، ولذلك قال عليه السلام. لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء. (ورزق ربك خير) أي: ورزق ربك الذي وعدك به في الآخرة، خير مما متعنا به هؤلاء في الدنيا (وأبقى) أي: أدوم. (وأمر أهلك بالصلاة) معناه: وأمر يا محمد أهل بيتك وأهل دينك بالصلاة. روى أبو سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يأتي باب فاطمة وعلي تسعة أشهر، عند كل صلاة فيقول: الصلاة رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. ورواه ابن عقدة بإسناده من طرق كثيرة، عن أهل البيت عليهم السلام، وعن غيرهم مثل أبي برزة، وأبي رافع. وقال أبو جعفر عليه السلام. أمره الله تعالى أن يخص أهله دون الناس، ليعلم الناس أن لأهله عند الله منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس عامة، ثم أمرهم خاصة. (واصطبر عليها) أي. واصبر على فعلها، وعلى أمرهم بها (لا نسألك رزقا) لخلقنا، ولا لنفسك، بل كلفناك العبادة، وأداء الرسالة، وضمنا رزق الجميع. (نحن نرزقك) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به جميع الخلق أي: نرزق جميعهم، ولا نسترزقهم، وننفعهم ولا ننتفع بهم، فيكون أبلغ في الإمتنان عليهم (والعاقبة للتقوى) أي: العاقبة المحمودة لأهل التقوى. قال ابن عباس. يريد الذين صدقوك واتبعوك واتقوني. وفي الأثر. إن عروة الزبير كان إذا رأى ما عند السلطان، دخل بيته وقرأ (ولا تمدن عينيك) الآيات. ثم ينادي الصلاة، الصلاة، رحمكم الله ! (وقالوا) يعني الكفار (لولا يأتينا) محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بآية من ربه) اقترحناها عليه، كما أتى به الأنبياء، نحو الناقة (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) أي. أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم، لما اقترحوا الآيات، ثم كفروا بها، فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية
[ 69 ]
كحال أولئك. (ولو أنا أهلكناهم) يعني كفار قريش (بعذاب من قبله) أي: من قبل بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن (لقالوا) يوم القيامة (ربنا لولا أرسلت إلينا) أي. هلا أرسلت (رسولا) يدعونا إلى طاعتك، ويرشدنا إلى دينك (فنتبع آياتك) أي: نعمل بما فيها (من قبل أن نذل) بالعذاب (ونخزى) في جهنم. وقيل: من قبل أن نذل في الدنيا بالقتل والأسر، ونخزى في الآخرة بالعذاب. فقطعنا عذرهم بإرسال الرسول، فلم يبق لهم متعلق. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل) يا محمد (كل متربص) أي: كل واحد منا ومنكم منتظر، فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم، وأنتم تتربصون بنا الدوائر (فتربصوا) أنتم أي: انتظروا. وهذا على وجه التهديد (فستعلمون) أي: فسوف تعلمون فيما بعد (من أصحاب الصراط السوي) أي: أهل الدين المستقيم. (ومن اهتدى) إلى طريق الحق أي: أنحن أم أنتم. وفي قوله سبحانه (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) الآية. دلالة على وجوب اللطف لأنه سبحانه بين أنه إنما بعث الرسول إليهم لطفا لهم، وأنه لو لم يبعثه لكان لهم الحجة عليه، فكان في البعثة قطع العذر، وإزاحة العلة، وبالله التوفيق.
[ 70 ]
21 - سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة مكية كلها وهي مائة واثنتا عشرة آية كوفي، وإحدى عشرة آية في الباقين. إختلافها: آية واحدة (ما لا يمنعكم شيئا ولا يضركم) كوفي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ سورة الأنبياء، حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر أسمه في القرآن). وقال أبو عبد الله عليه السلام. من قرأ سورة الأنبياء حبا لها، كان ممن رافق النبيين أجمعين في جنات النعيم، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة طه بذكر الوعيد، وافتتح هذه السورة بذكر القيامة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 1 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون [ 2 ] لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [ 3 ] قال ربي يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم [ 4 ] بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الاولون [ 5 ]
[ 71 ]
القراءة: قرأ حمزة والكسائي وحفص: (قال ربي) بالألف. والباقون: (قل ربي). الحجة: من قرأ قال فإنه على إضافة القول إلى الرسول والخبر عنه. ومن قرأ قل فإنه على الخطاب. الاعراب: (من ذكر): في موضع رفع ومن مزيدة. (من ربهم). صفة لذكر، فيجوز أن يكون في موضع جر على لفظه. ويجوز أن يكون في موضع رفع على محل الجار والمجرور. (استمعوه). في محل النصب على الحال بإضمار قد، وتقديره: ما يأتيهم ذكر رباني إلا مستمعا. (وهم يلعبون): حال من الواو في استمعوه. (لاهية قلوبهم): حال من الواو في (يلعبون)، وإن شئت كان حالا بعد حال وقوله (وأسروا النجوى الذين ظلموا) موضع (الذين ظلموا): يجوز أن يكون رفعا على وجوه أحدها: أن يكون على البدل من الواو في أسروا والثاني: أن يكون مرفوعا على الذم، فيكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين ظلموا والثالث: أن يكون فاعل (أسروا) على لغة من يقول: أكلوني البراغيث، وتكون الواو في (أسروا) حرفا لعلامة الجمع كالتاء في قالت، ولا يكون إسما. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الذم بإضمار أعني. المعنى: (اقترب للناس حسابهم) اقترب: افتعل من القرب، والمعنى: اقترب للناس وقت حسابهم، يعني القيامة، كما قال (أقتربت الساعة) أي: دنا وقت محاسبة الله إياهم ومسألتهم عن نعمه هل قابلوها بالشكر، وعن أوامره هل امتثلوها، وعن نواهيه هل اجتنبوها. وإنما وصف ذلك بالقرب لأنه آت، وكل ما هو آت قريب، ولأن أحد أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين). وأيضا فإن الزمان يقرب بكثرة ما مضى وقلة ما بقي، فيكون يسيرا بالإضافة إلى ما مضى (وهم في غفلة) من دنوها وكونها (معرضون) عن التفكر فيها، والتأهب لها. وقيل. عن الإيمان بها. وتضمنت الآية الحث على الإستعداد ليوم القيامة. (ما يأتيهم من ذكر من ربهم) يعني القرآن (محدث) أي: محدث التنزيل، مبتدأ التلاوة، كنزول سورة بعد سورة، وآية بعد آية. (إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم) أي: لم يستمعوه استماع نظر وتدبر، وقبول وتفكر، وإنما استمعوه
[ 72 ]
استماع لعب واستهزاء. وقال ابن عباس: معناه يستمعون القرآن مستهزئين، غافلة قلوبهم عما يراد بهم. (وأسروا النجوى) أي: تناجوا فيما بينهم يعني المشركين. ثم بين من هم فقال (الذين ظلموا) أي. أشركوا بالله. ثم بين سبحانه سرهم الذي تناجوا به فقال: (هل هذا إلا بشر مثلكم) أي: إنه آدمي مثلكم ليس مثل الملائكة (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) أي: أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. نفروا الناس عنه بشيئين أحدهما. إنه بشر. والآخر: إن ما أتى به سحر. وقيل: إن أسروا معناه أظهروا هذا القول، فإن هذا اللفظ مشترك بين الإخفاء والإظهار، والأول أصح. ثم أمر سبحانه نبيه فقال: (قل) يا محمد (ربي) الذي خلقني واصطفاني (يعلم القول في السماء والأرض) أي: يعلم أسرار المتناجين، لا يخفى عليه شئ من ذلك (وهو السميع) لأقوالهم (العليم) بأفعالهم وضمائرهم (بل قالوا أضغاث أحلام) بل للإضراب عما حكى سبحانه أنهم قالوه أولا، وللإخبار عما قالوه ثانيا أي قالوا: إن إلقرآن تخاليط أحلام رآها في المنام، عن قتادة. (بل افتراه) أي: ثم قالوا لا بل افتراه أي: تخرصه وافتعله (بل هو شاعر) أي: ثم قالوا بل هو شاعر. وهذا قول المتحير الذي بهره ما سمع، فمرة يقول سحر، ومرة يقول شعر، ومرة يقول حلم، ولا يجزم على أمر واحد. وهذه مناقضة ظاهرة. (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) معناه: فليأتنا بآية ظاهرة يستدركها الخاص والعام، كما أتى بها الأولون من الأنبياء. قال ابن عباس: بآية مثل الناقة والعصا. وقال الزجاج: اقترحوا بالآيات التي لا يكون معها إمهال. وفي قوله سبحانه (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) دلالة ظاهرة على أن القرآن محدث، لأنه تعالى أراد بالذكر القرآن بدلالة قوله: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)، وقوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقد وصفه بأنه محدث، ويوضحه قوله (إلا استمعوه). (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون [ 6 ] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 7 ] وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 8 ] ثم صدقناهم الوعد
[ 73 ]
فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين [ 9 ] لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون [ 10 ]). القراءة: قرأ (نوحي) بالنون حفص عن عاصم. والباقون: (يوحي). وقد تقدم ذكره في سورة يوسف عليه السلام. الاعراب: (أهلكناها): في موضع الجر لأنه صفة قرية. (جسدا): واحدا بمعنى الجمع أي: وما جعلناهم أجسادا بمعنى ذوي أجساد، ولذلك قال (لا يأكلون) وتقديره غير آكلين الطعام. (ومن نشاء): في موضع نصب عطفا على هم من قوله (فأنجيناهم). المعنى: لما تقدمت الحكاية عن الكفار بأنهم اقترحوا الآيات، قال سبحانه مجيبا لهم. (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) أي: لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها، فأهلكناهم مصرين على الكفر (أفهم يؤمنون) عند مجيئها. هذا إخبار عن حالهم، وأن سبيلهم سبيل من تقدم من الأمم، طلبوا الآيات فلم يؤمنوا بها، وأهلكوا. فهؤلاء أيضا لو أتاهم ما اقترحوه لم يؤمنوا، ولاستحقوا عذاب الإستئصال. وقد حكم سبحانه في هذه الآية أن لا يعذبهم عذاب الإستئصال، فلذلك لم يجبهم في ذلك. وقيل: ما حكم الله سبحانه بهلاك قرية، إلا وفي المعلوم أنهم لا يؤمنون، فلذلك لم يأت هؤلاء بالآيات المقترحة. (وما أرسلنا قبلك) يا محمد (إلا رجالا) هذا جواب لقولهم: (وما هذا إلا بشر مثلكم) والمعنى لم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالا من بني آدم (نوحي إليهم) لا ملائكة، لأن الشكل إلى الشكل أميل، وبه آنس، وعنه أفهم، ومن الأنفة منه أبعد (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) اختلف في المعني بأهل الذكر على أقوال: فروي عن علي عليه السلام أنه قال: نحن أهل الذكر، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. ويعضده أن الله تعالى سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا رسولا في قوله (ذكرا رسولا). وقيل: أهل الذكر أهل التوراة والإنجيل، عن الحسن وقتادة. وقيل: هم أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم. وقيل: هم أهل القرآن. والذكر: هو القرآن. وهم العلماء بالقرآن، عن ابن زيد. (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) أي. باقين لا
[ 74 ]
يموتون. هذا رد لقولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) ومعناه. ما جعلنا الأنبياء قبلك أجسادا لا يأكلون الطعام، ولا يموتون، حتى يكون أكلك الطعام، وشربك، وموتك، علة في ترك الإيمان بك، فإنا لم نخرجهم عن حد البشرية بالوحي. قال الكلبي: الجسد المجسد الذي فيه الروح، ويأكل ويشرب. فعلى هذا يكون ما يأكل ويشرب جسما. وقان مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب. فعلى هذا يكون ما يأكل ويشرب نفسا. (ثم صدقناهم الوعد) أي: صدقناهم الوعد بأن العاقبة الحميدة تكون لهم، ومعناه أنجزنا ما وعدناهم به من النصر والنجاة، والظهور على الأعداء، وما وعدناهم به من الثواب (فأنجيناهم ومن نشاء) أي: فأنجيناهم من أعدائهم، وأنجينا معهم من نشاء من المؤمنين بهم (وأهلكنا المسرفين) على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء. قال قتادة: المسرفين هم المشركون. وهذا تخويف لكفار مكة. ثم ذكر نعمته عليهم بإنزال القرآن فقال (لقد أنزلنا إليكم) يا معشر قريش (كتابا فيه ذكركم) أي: فيه شرفكم إن تمسكتم به كقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك). وقيل: هو خطاب للعرب، لأنه أنزل القرآن بلغتهم. وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، لأن فيه شرفا للمؤمنين كلهم. وقيل: إن معناه فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ودنياكم، عن الحسن. وقيل: فيه ذكر مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، لتتمسكوا بها. (أفلا تعقلون) ما فضلتم به على غيركم. وقيل: معناه أفلا تتدبرون فتعلمون أن الأمر على ما قلناه. (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين [ 11 ] فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون [ 12 ] لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون [ 13 ] قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين [ 14 ] فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 15 ] وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين [ 16 ] لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين [ 17 ] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [ 18 ]
[ 75 ]
وله من في السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون [ 19 ] يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 20 ]) اللغة: القصم: الكسر، يقال: قصمه يقصمه وهو قاصم الجبابرة. والإنشاء: الإيجاد ونظيره الإختراع والإبداع. والركض. العدو بشدة والوطء. وركض دابته: ضربها برجله حتى تعدو. وارتكاض الصبي: اضطرابه في الرحم. والترفة: النعمة. والمترفة: المتنعم. والزاهق: من الأضداد يقال للهالك: زاهق، وللسمين من الدواب: زاهق. وزهقت نفسه تزهق زهوقا أي: تلفت. والدمغ: شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه بدمغة: إذا أصاب دماغه. ومنه في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الدامغ جيشات الأباطيل. والإستحسار. الإنقطاع من الإعياء، يقال: بعير حسير أي: معي، وأصله من قولهم: حسر عن ذراعيه. فالمعنى: إنه كشف قوته بإعياء، وجمعه حسرى. قال علقمة بن عبدة: بها جيف الحسرى، فأما عظامها * فبيض، وأما جلدها فصليب الاعراب: (كم): في موضع نصب بأنه مفعول (قصمنا). و (من قرية): في موضع نصب على التمييز. ويجوز أن يكون صفة لكم، والتقدير: كثيرا من القرى قصمنا. (إذا): ظرف مكان العامل فيه (يركضون). و (تلك): في موضع رفع إسم (زالت). و (دعواهم): في موضع نصب خبر (زالت). وجائز أن يكون (دعواهم) إسما، و (تلك) خبرا. (إن كنا فاعلين) أي: ما كنا فاعلين. ويجوز أن تكون إن للشرط أي: إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله، اتخذناه من لدنا. و (من عنده): مبتدأ. و (لا يستكبرون): خبره. ويجوز أن يكون (ومن عنده) معطوفا على (من في السماوات)، فيكون (لا يستكبرون) في موضع الحال. فالمعنى غير مستكبرين وكذا (لا يستحسرون)، و (يسبحون)، و (لا يفترون) كلها أحوال على هذا. المعنى: ثم بين سبحانه ما فعله بالمكذبين فقال: (وكم قصمنا) أي: أهلكنا (من قرية) عن مجاهد والسدي. وقيل: عذبنا، عن الكلبي (كانت ظالمة) أي. كافرة يعني أهلها (وأنشأنا) أي: أوجدنا (بعدها) أي: بعد إهلاك أهلها (قوما آخرين فلما أحسوا) أي: فلما أدركوا بحواسهم (بأسنا) أي: عذابنا (إذا هم منها
[ 76 ]
يركضون) معناه: إذا هم من القرية، أو من العقوبة، يهربون سراعا، هرب المنهزم من عدوه (لا تركضوا) أي: يقال لهم تقريعا وتوبيخا: لا تهربوا (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم) أي: وارجعوا إلى ما نعمتم فيه، وإلى مساكنكم التي كفرتم وظلمتم فيها. وقيل: إنهم لما أخذتهم السيوف انهزموا مسرعين، فقالت لهم الملائكة بحيث سمعوا النداء: لا تركضوا وارجعوا إلى ما خولتم ونعمتم فيه، وأرجعوا إلى مساكنكم. وقال ابن قتيبة: معناه إلى نعمكم التي أترفتكم، ومساكنكم، لعلكم تسألون شيئا من دنياكم. والمعنى أن الملائكة استهزأت بهم، فقالت لهم: ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم. (لعلكم تسألون) شيئا من دنياكم، فإنكم أهل ثروة ونعمة. يقولون ذلك استهزاء بهم. هذا قول قتادة. وقيل: لعلكم تسألون أي: يسألكم رسولكم أن تؤمنوا كما سئل قبل نزول العذاب بكم. وهذا استهزاء بهم أيضا أي: لا سبيل إلى هذا، فتدبروا الأمر قبل حلوله. وقيل: لكي تسألوا عن أعمالكم، وعن تنعمكم في الدنيا بغير الحق، وعما استحققتم به العذاب، عن الجبائي، وأبي مسلم. (قالوا) على سبيل التندم لما رأوا العذاب. (يا ويلنا إنا كنا ظالمين) لأنفسنا حيث كذبنا رسل ربنا. والمعنى أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب. والويل: الوقوع في الهلكة (فما زالت تلك دعواهم) أي. لم يزالوا يقولون يا ويلنا، وتلك دعواهم (حتى جعلناهم حصيدا) أي: محصودا مقطوعا (خامدين) ساكني الحركات، ميتين، كما تخمد النار إذا انطفأت. والمعنى استأصلناهم بالعذاب، وأهلكناهم، عن الحسن. وقيل: بالسيف، وهو قتل بخت نصر لهم، عن مجاهد. وقيل: نزلت في قرية باليمن قتلوا نبيا لهم يقال له حنظلة، فسلط الله عليهم بخت نصر حتى قتلهم، وسباهم، ونكل فيهم، حتى خرجوا من ديارهم منهزمين، فبعث الله ملائكة حتى ردوهم إلى مساكنهم، فقتل صغارهم وكبارهم، حتى لم يبق لهم إسم ولا رسم. (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) بل خلقناهما لغرض صحيح، وهو أن يكون دلالة ونعمة وتعريضا للثواب (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) اللهو المرأة، عن الحسن ومجاهد. وقيل: هو الولد، عن ابن عباس. وقيل: معناه اللهو الذي هو داعي الهوى، ونازع الشهوة. والمعنى: لو اتخذنا نساء أو ولدا
[ 77 ]
لاتخذناه من أهل السماء، ولم نتخذه من أهل الأرض. يريد لو كان ذلك جائزا عليه، لم يتخذه بحيث يظهر لهم، ويسر ذلك حتى لا يطلعوا عليه. وقد أحسن ابن قتيبة في شرح اللهو هنا فقال: التفسيران في اللهو متقاربان، لأن امرأة الرجل لهوه، وولده لهوه، ولذلك يقال: امرأة الرجل وولده ريحانتاه. وأصل اللهو الجماع، كنى عنه باللهو، كما كنى عنه بالسر. ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع. قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت، وأن لا يحسن اللهو أمثالي وتأويل الآية. إن النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت، قال الله عز وجل (لو أردنا أن نتخذ) صاحبة وولدا، كما تقولون، لاتخذنا ذلك من عندنا، ولم نتخذ من عندكم، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره (إن كنا فاعلين) أي: ما كنا فاعلين، عن قتادة ومجاهد وابن جريج. وقيل: معناه إن كنا فاعلين ذلك لاتخذناه من عندنا بحيث لا يصل علمه إليكم، عن الجبائي. (بل نقذف بالحق على الباطل) معناه: بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل. وقيل: نرمي بالحجة على الشبهة. وقيل: بالإيمان على الكفر. (فيدمغه) أي: يعلوه ويبطله. وقيل. يهلكه (فإذا هو زاهق) أي: هالك مضمحل، عن قتادة. وتأويله: إن الله سبحانه يظهر الحق بأدلته، ويبطل الباطل، فكيف يفعل الباطل واللعب (ولكم الويل مما تصفون) أي: الهلاك لكم يا معشر الكفار مما تصفون الله تعالى به من اتخاذ الصاحبة والولد (وله من في السماوات والأرض) ملكا وملكا وخلقا. وهذا رد أيضا على من أثبت له الولد والشريك أي: وكيف يجوز عليه اتخاذ الشريك والولد (ومن عنده) يعني الملائكة الذين لهم عند الله تعالى المنزلة، كما يقال. عند الأمير كذا وكذا من الجند، وإن كانوا متفرقين في الأماكن، ولا يراد بذلك قرب المسافة. (لا يستكبرون عن عبادته) أي: لا يأنفون ولا يترفعون عن عبادته. وأراد بذلك نفس النبوءة عنهم، لأن أحدا لا يستعبد ابنه (ولا يستحسرون) أي: لا يعيبون، عن قتادة والسدي. وقيل: لا يملون، عن ابن زيد. وقيل: لا ينقطعون مأخوذ من البعير الحسير المنقطع بالإعياء (يسبحون) أي: ينزهون الله تعالى عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدوام (الليل والنهار) أي: في الليل والنهار إلا يفترون) أي: لا يضعفون عنه. قال كعب: جعل لهم التسبيح كما جعل لكم
[ 78 ]
النفس في السهولة. النظم: أتصل قوله (وله من في السماوات والأرض) بما تقدم من ذكر هلاك الكفار، فبين سبحانه أنه لم يهلكهم إلا بالإستحقاق، لأنه سبحانه تعالى خلقهم للعبادة، فلما كفروا جازاهم بكفرهم. ولولا ذلك لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما لعبا، لأن خلقهما إنما هو لأجل المكلفين، وخلق المكلف إنما هو لتعريض الثواب. ووجه اتصال قوله (من عنده لا يستكبرون عن عبادته) بما قبله أن هؤلاء الذين وصفتموهم بأنهم بنات الله، هم عبيد الله على أتم وجوه العبودية، وذلك يبطل معنى الولادة، لأن الولادة لا تكون إلا مع المجانسة. (أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون [ 21 ] لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 22 ] لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ 23 ] أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون [ 24 ] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 25 ] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ 26 ] لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ 27 ] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون [ 28 ] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ 29 ] أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون [ 30 ]). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (إلا نوحي) بالنون. والباقون: (يوحي). وقرأ ابن كثير: (ألم ير) بغير واو، وكذلك هو في مصاحف مكة. والباقون: (أو لم يروا) بالواو. وفي الشواذ قراءة الحسن وابن محيصن: (الحق) بالرفع (فهم معرضون). وقراءة الحسن أيضا وعيسى الثقفي. (رتقا) بفتح التاء.
[ 79 ]
الحجة: وجه النون أنه أشبه بما تقدم من قوله (وما أرسلنا). والياء في المعنى كالنون. والوجه في قراءة الحسن (الحق) بالرفع: الإستئناف، فإن الوقف في هذه القراءة على قوله (لا يعلمون)، والتقدير هذا الحق، أو هو الحق. فيحذف المبتدأ ويوقف على الحق. ثم يستأنف فيقال: (فهم معرضون) لأن أكثرهم لا يعلمون. والوجه في قوله (رتقا) بفتح التاء أنه قد كثر مجئ المصدر على فعل واسم المفعول منه على فعل مفتوح العين، وذلك كالنفض، والنفض، والطرد والطرد. فالرتق على هذا يكون للشئ المرتوق، كما أن النفض المنفوض، والهدم المهدوم. فقراءة الجماعة (رتقا) بسكون التاء كأنه مما وضع من المصادر موضع اسم المفعول، كالصيد بمعنى المصيد، والخلق بمعنى المخلوق. الاعراب: (أم اتخذوا): أم هذه هي المنقطعة، وليست المعادلة لهمزة الإستفهام في مثل قولك: أزيد عندك أم عمرو. وقوله (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). إلا هذه صفة لآلهة وتقديره غير الله، عما يفعل ما هذه: الأجود أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون اسما. المعنى: ثم عاد سبحانه إلى توبيخ المشركين فقال: (أم اتخذوا آلهة من الأرض) هذا استفهام معناه الجحد أي: لم يتخذوا آلهة من الأرض (هم ينشرون) أي: يحيون الأموات، عن مجاهد. يقال: أنشر الله الموتى فنشروا أي: أحياهم فحيوا، وهو من النشر بعد الطي، لأن المحيا كأنه كان مطويا بالقبض عن الإدراك، فأنشر بالحياة. والمعنى في ذلك: أن هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على الإحياء الذي من قدر عليه قدر على أن ينعم بالنعم التي يستحق بها العبادة، فكيف يستحقون العبادة. قال الزجاج: ومن قرأ (ينشرون) بفتح الياء فمعناه: لا يموتون أبدا ويبقون أحياء أي: لا يكون ذلك. وأقول قد يجوز أن يكون ينشرون وينشرون بمعنى، يقال: نشر الله الميت بمعنى أنشر. ثم ذكر سبحانه الدلالة على توحيده، وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه فقال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ومعناه. لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله، لفسدتا وما استقامتا، وفسد من فيهما، ولم ينتظم أمرهم. أي هذا هو دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلمون مسألة التوحيد، وتقرير ذلك: أنه لو كان مع الله سبحانه إله آخر، لكانا قديمين، والقدم من أخص الصفات. فالإشتراك فيه يوجب
[ 80 ]
التماثل، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيين. ومن حق كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريدا لضد ما يريده الآخر من إماتة وإحياء، أو تحريك وتسكين، أو إفقار وإغناء، ونحو ذلك. فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو إما أن يحصل مرادهما وذلك محال، وإما أن لا يحصل مرادهما، فينتقض كونهما قادرين. وإما أن يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا. فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلا واحدا. ولو قيل إنهما لا يتمانعان، لأن ما يريده أحدهما يكون حكمة فيريده الآخر بعينه ؟ والجواب: إن كلامنا في صحة التمانع لا في وقوع التمانع، وصحة التمانع يكفي في الدلالة، لأنه يدل على أنه لا بد من أن يكون أحدهما متناهي المقدور، فلا يجوز أن يكون إلها. ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون معه إله (ف‍) قال: (سبحان الله رب العرش عما يصفون) وإنما خص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن قدر على أعظم المخلوقات، كان قادرا على ما دونه. (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) معناه: إن جميع أفعاله حكمة وصواب، ولا يقال للحكيم لم فعلت الصواب. وهم يسألون لأنهم يفعلون الحق والباطل. وقيل: معناه إنه لا يسأل عن ادعاء الربوبية، وهم مسؤولون إذا ادعوها، ويدل على هذا التأويل النظم والسياق. وقيل: معناه لا يحاسب على أفعاله، وهم يحاسبون على أفعالهم. وقيل: معناه إنه لا يسأله الملائكة والمسيح عن فعله كا وهو يسألهم ويجازيهم. فلو كانوا آلهة لم يسألوا عن أفعالهم. (أم اتخذوا من دونه آلهة) وهذا استفهام إنكار وتوبيخ أيضا (قل هاتوا برهانكم) أي: قل لهم يا محمد: هاتوا حجتكم على صحة ما فعلتموه، لأنهم لا يقدرون على ذلك أبدا. وفي هذا دلالة على فساد التقليد، لأنه طالبهم بالحجة على صحة قولهم. والبرهان: هو الدليل المؤدي إلى العلم. (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) أي: وقل لهم يا محمد: هذا القرآن ذكر من معي بما يلزمهم من الأحكام، وذكر من قبلي من الأمم ممن نجا بالإيمان، أو هلك بالكفر، عن قتادة. وقيل: هذا ذكر من معي بالحق في إخلاص الإلهية والتوحيد في القرآن. وعلى هذا ذكر من قبلي في التوراة والإنجيل، عن الجبائي، قال. لأن القرآن ذكر أتاه الله ومن معه، والتوراة والإنجيل ذكر تلك الأمم. وقال أبو عبد الله عليه السلام: يعني بذكر من معي: من معه،
[ 81 ]
وما هو كائن، وبذكر من قبلي: ما قد كان. وقيل: إن معناه في القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة، بما لهم من الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وذكر ما أنزل الله من الكتب قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه. فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به. وقال الزجاج: قل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أتى أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله ؟ ويدل على صحة هذا قوله فيما بعد: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). فلما توجهت الحجة عليهم ذمهم سبحانه على جهلهم بمواضع الحق فقال: (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) عن التأمل والتفكر. واختص الأكثر منهم لأن فيهم من آمن (وما أرسلنا من قبلك) يا محمد (من رسول) أي: رسولا. ومن: مزيدة (إلا نوحي إليه) نحن، أو يوحى إليه أي: يوحي الله إليه ب‍ (أنه لا إله) أي: لا معبود على الحقيقة (إلا أنا فاعبدون) أي: فوجهوا العبادة إلي دون غيري (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) يعني من الملائكة (سبحانه) نزه نفسه عن ذلك، لأن اتخاذ الولد لا يخلو إما أن يكون على سبيل التوالد، أو على سبيل التبني، وكلاهما لا يجوز عليه، لأن الأول يقتضي ان يكون من قبيل الأجسام، والثاني وهو التبني يكون بأن يقيم غير ولده مقام ولده. وإذا كان حقيقة الولد مستحيلا منه، فالمشبه به كذلك، وليس ذلك كالخلة لأنه من الإختصاص، وحقيقته جائزة عليه. (بل عباد مكرمون) أي: ليسوا أولاد الله كما يزعمون، بل هم عباد مكرمون أكرمهم الله واصطفاهم (لا يسبقونه بالقول) أي: لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، فكل أقوالهم طاعة لربهم، وناهيك بذلك جلالة قدرهم (وهم بأمره يعملون) ومن كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولده (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي: ما قدموا من أعمالهم، وما أخروا منها. يعني ما عملوا، وما هم عاملون (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الله دينه. وقال مجاهد: إلا لمن رضي الله عنه. وقيل: إنهم أهل شهادة أن لا إله إلا الله، عن ابن عباس. وقيل. هم المؤمنون المستحقون للثواب، وحقيقته أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع فيه، فيكون في معنى قوله: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
[ 82 ]
(وهم من خشيته) أي: من خشيتهم منه فأضيف المصدر إلى المفعول (مشفقون) خائفون وجلون من التقصير في عبادته (ومن يقل منهم إني إله من دونه) أي: من يقل من هؤلاء الملائكة: إني إله تحق لي العبادة من دون الله (فذلك) أي: فذلك القائل (نجزيه جهنم) يعني أن حالهم مثل حال سائر العبيد في استحقاق الوعيد. وقيل: إنه عنى به إبليس، لأنه الذي دعا الناس إلى عبادته، عن ابن جريج، وقتادة. وقيل: إن هذا لا يصح لأن الله سبحانه علق الوعيد بالشرط، ولأن إبليس ليس من الملائكة عند الأكثرين (كذلك نجزي الظالمين) يعني المشركين الذين يصفون الله بما لا يليق به. وفي هذه الآية دلالة على أن الملائكة ليسوا مطبوعين على الطاعات على ما قاله بعضهم، وأنهم مكلفون. (أو لم ير الذين كفروا) استفهام يراد به التقريع، والمعنى: أو لم يعلموا أنه سبحانه الذي يفعل هذه الأشياء، ولا يقدر عليها غيره، فهو الإله المستحق للعبادة دون غيره (أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) تقديره: كانتا ذواتي رتق فجعلناهما ذواتي فتق، والمعنى: كانتا ملتزقتين منسدتين، ففصلنا بينهما بالهواء، عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطاء وقتادة. وقيل: كانت السماوات مرتتقة مطبقة، ففتقناها سبع سماوات، وكانت الأرض كذلك ففتقناها سبع أرضين، عن مجاهد والسدي. وقيل: كانت السماء رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتقنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات، عن عكرمة وعطية وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. (وجعلنا من الماء كل شئ حي) أي: وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء، كل شئ حي. وقيل: وخلقنا من النطفة كل مخلوق حي، عن أبي العالية. والأول أصح. وروى العياشي بإسناده عن الحسن بن علوان قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن طعم الماء، فقال له: سل تفقها، ولا تسأل تعنتا: طعم الماء طعم الحياة، قال الله سبحانه (وجعلنا من الماء كل شئ حي). وقيل: معناه وجعلنا من الماء حياة كل ذي روح، ونماء كل نام. فيدخل فيه الحيوان والنبات والأشجار، عن أبي مسلم. (أفلا يؤمنون) أي. أفلا يصدقون بالقرآن، وبما يشاهدون من الدليل والبرهان. النظم: وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها: أنه سبحانه قال: فاسألوا أهل الذكر هل أرسلنا قبلك إلا رجالا، وهل اتخذوا آلهة من الأرض، أي من الحجر والمدر
[ 83 ]
والخشب، فإن كله من الأرض، عن أبي مسلم. وقيل: إنه يتصل بقوله (لو أردنا أن نتخذ لهوا) والمعنى أنهم أضافوا إليه الولد، وأضافوا إليه الشريك. ووجه اتصال قوله (لا يسأل عما يفعل) بما قبله: أنه لما بين التوحيد، عطف عليه بيان العدل. وقيل: إنه يتصل بقوله (اقترب للناس حسابهم) والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، وهل قابلوا نعمه بالشكر، أم قابلوها بالكفر، عن أبي مسلم. ووجه اتصال قوله (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) بما قبله أن ما قدمنا ذكره من التوحيد والعدل مذكور في القرآن وفي الكتب السالفة. (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 31 ] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون [ 32 ] وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون [ 33 ] وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون [ 34 ] كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [ 35 ]. اللغة: الرواسي: الجبال. رست ترسو رسوا: إذا ثبتت بثقلها فهي راسية، كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها. والميد: الإضطراب بالذهاب في الجهات. والفج: الطريق الواسع بين الجبلين. والفلك: أصله كل شئ دائر، ومنه فلكة المغزل، ويقال: فلك ثدي المرأة تفليكا: إذا استدار. والسباحة والعوم والسبح والجري بمعنى. الاعراب: (أن تميد بكم). في موضع نصب بأنه مفعول له، وتقديره: كراهة أن تميد بكم، أو حذار أن تميد. ومن قال: إن لا هنا مضمرة، والتقدير لأن لا تميد، فلا وجه لقوله. و (سبلا): بدل من (فجاج)، لأن الفج هو السبيل. (كل في فلك يسبحون): جملة إسمية في موضع الحال. وفي يتعلق بيسبحون (أفإن مت فهم الخالدون): شرط وجزاء، دخلت الفاء في الشرط وفي الجزاء. وقوله (فتنة): مفعول له، والمعنى: للفتنة. ويجوز أن يكون مصدرا في موضع
[ 84 ]
الحال أي. نبلوكم فاتنين. ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر، لأن البلاء بمعنى الفتنة. المعنى: ثم بين سبحانه كمال قدرته، وشمول نعمته بأن قال: (وجعلنا في الأرض رواسي) أي: جبالا ثوابت تمنع الأرض من الحركة والإضطراب (أن تميد بهم) أي: تتحرك وتميل وتضطرب بهم. وقيل: لتستقر، عن قتادة (وجعلنا فيها) أي: في الرواسي (فجاجا) أي: طرقا واسعة بينها، لولا ذلك لما أمكن أن يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار. ثم بين الفجاج فقال: (سبلا لعلهم يهتدون) بها إلى طريق بلادهم ومواطنهم. وقيل: ليهتدوا بالإعتبار بها إلى دينهم (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) أي: رفعنا السماء فوق الخلق كالسقف محفوظا من الشياطين بالشهب التي ترمى بها، كما قال (وحفظناها من كل شيطان رجيم)، عن الجبائي. وقيل: محفوظا من أن تسقط كما قال (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) الآية. وقيل: محفوظا من أن يطمع أحد في أن يتعرض لها بنقص، أو أن يلحقها بلى، أو هدم على طول الدهر، عن الحسن. (وهم عن آياتها) أي: عن الإستدلال بما فيها من دلائل الحدوث، والحاجة إلى المحدث (معرضون) أي: أعرضوا عن التفكر فيها. (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) أي: يجرون. وقيل: يدورون. وأراد الشمس والقمر والنجوم، لأن قوله الليل يدل على النجوم. وقال ابن عباس: يسبحون بالخير والشر بالشدة والرخاء. وقيل: معناه أنه سبحانه جعل لكل واحد منهما فلكا يدور فيه بسرعة كالسباحة، وإنما قال (يسبحون) لأنه أضاف إليها فعل العقلاء، كما قال (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، وقال النابغة الجعدي: تمززتها والديك يدعو صياحه * إذا ما بنوا نعش دنوا فتصوبوا (1) ثم قال سبحانه: (وما جعلنا لبشر من قبلك) يا محمد (الخلد) أي: دوام البقاء في الدنيا (أفإن مت) أنت على ما يتوقعونه، وينتظرونه (فهم الخالدون) أي: أفهم يخلدون بعدك، يعنى مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فقال: لئن مت فإنهم أيضا يموتون، فأي فائدة لهم في تمني موتك. (كل (1) التمزز: شرب الشراب قليلا قليلا. وتصوب ضد تصعد. (*)
[ 85 ]
نفس ذائقة الموت) أي: لا بد لكل نفس حية بحياة أن يدخل عليها الموت، وتخرج عن كونها حية (ونبلوكم بالشر والخير) أي: نعاملكم معاملة المختبر بالفقر والغنى، وبالضراء والسراء، وبالشدة والرخاء، عن ابن عباس. وقيل: بما تكرهون وما تحبون، ليظهر صبركم على ما تكرهون، وشكركم فيما تحبون، عن ابن زيد. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام مرض، فعاده اخوانه فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين ؟ قال بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك. قال: إن الله تعالى يقول (ونبلوكم بالشر والخير) فتنة، فالخير الصحة والغنى، والشر المرض والفقر. وقال بعض الزهاد: الشر غلبة الهوى على النفس، والخير العصمة عن المعاصي (فتنة) أي: ابتلاء واختبار، أو شدة تعبد (وإلينا ترجعون) أي: إلى حكمنا تردون للجزاء بالأعمال، حسنها وسيئها. النظم: يتصل قوله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) بما ذكر سبحانه من خلق الأشياء، فإنه بين أنه لم يخلقها للخلود، وإنما خلقها ليتوصل بها إلى نعيم الآخرة، فلا بد لكل إنسان من الموت، والرجوع إلى الجزاء، عن القاضي. (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون [ 36 ] خلق الانسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون [ 37 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 38 ] لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [ 39 ] بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 40 ]). اللغة: الهزؤ إظهار خلاف الإبطان لإيهام النقص عن فهم القصد، يقال: هزأ منه يهزأ هزؤا فهو هازئ، ومثله السخرية. ويقول العرب: ذكرت فلانا أي: عبته. قال عنترة. لا تذكري مهري، وما أطعمته، * فيكون جلدك مثل جلد الأجرب (1) (1) المهر. ولد الفرس. (*)
[ 86 ]
والعجلة: تقديم الشئ قبل وقته، وهو مذموم. والسرعة: تقديم الشئ في أقرب أوقاته، وهو محمود. والإستعجال طلب الشئ قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه دون غيره. الاعراب: (وإذا رآك): العامل في إذا اتخذوا وهو معنى قوله (إن يتخذونك إلا هزوا) لأن معناه اتخذوك هزوا. وقوله (أهذا الذي يذكر آلهتكم) تقديره قائلين أهذا الذي يذكر آلهتكم، فحذف قائلين وهو في موضع الحال، كما حذف ذلك من قوله: (والذين أتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم) أي: قائلين ما نعبدهم. والباء في قوله (بذكر الرحمن): يتعلق بقوله (كافرون) وقوله: (حين لا يكفون): يجوز أن يكون مفعولا به ليعلم. ويجوز أن يكون ظرفا له، فيكون مفعول (يعلم) محذوفا تقديره لو يعلمون الأمر حين لا يكفون. وجواب لو محذوف، وتقديره لانتهوا. (بغتة): نصب على الحال من المفعول تقديره بل تأتيهم مبغوتين مفاجئين. ويجوز أن يكون حالا من الفاعل، وهو الضمير المستكن في تأتي. والتقدير: بل تأتيهم باغتة مفاجئة. المعنى: ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (وإذا رآك) أي: إذا رآك يا محمد (الذي كفروا). وأنت تعيب آلهتهم، وتدعوهم إلى التوحيد (إن يتخذونك) أي: ما يتخذونك (إلا هزوا) أي: سخرية يقول بعضهم لبعض: (أهذا الذي يذكر آلهتكم) أي: يعيب آلهتكم وذلك قوله إنها جماد لا ينفع ولا يضر (وهم بذكر الرحمن) أي: بتوحيده. وقيل: بكتابه المنزل (هم كافرون) أي: جاحدون. عجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم منهم حيث جحدوا الحي المنعم القادر العالم الخالق الرازق، وأتخذوا ما لا ينفع ولا يضر، ثم إن من دعاهم إلى تركها اتخذوه هزؤا وهم أحق بالهزؤ عند من يدبر حالهم. (خلق الإنسان من عجل) قيل فيه قولان أحدهما: إن المعني بالإنسان آدم. ثم إنه قيل في عجل ثلاث تأويلات منها: إنه خلق بعد خلق كل شئ آخر نهار يوم الجمعة، وهو آخر أيام السنة، على سرعة، معاجلا به غروب الشمس، عن مجاهد. ومنها: إن معناه في سرعة من خلقه، لأنه لم يخلقه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، كما خلق غيره. وإنما أنشأه إنشاء. فكأنه سبحانه نبه بذلك على الآية العجيبة في خلقه. ومنها: إن آدم عليه السلام لما خلق، وجعلت الروح في أكثر
[ 87 ]
جسده، وثب عجلان مبادرا إلى ثمار الجنة. وقيل: هم بالوثوب. فهذا معنى قوله (من عجل) عن ابن عباس والسدي، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والقول الثاني: إن المعني بالإنسان الناس كلهم. ثم اختلف في معناه على وجوه أحدها: إن معناه خلق الإنسان عجولا أي: خلق على حب العجلة في أمره، عن قتادة وأبي مسلم والجبائي قال: يعني أنه يستعجل في كل شئ يشتهيه، وللعرب عادة في استعمالهم هذا اللفظ عند المبالغة، يقولون لمن يصفونه بكثرة النوم: ما خلق إلا من نوم، وبكثرة وقوع الشر منه: ما خلق إلا من شر. ومنه قول الخنساء في وصف البقرة: " فإنما هي إقبال وإدبار ". وثانيها: إنه من المقلوب، والمعنى خلقت العجلة من الإنسان، عن أبي عبيدة، وقطرب. وهذا ضعيف لأنه مع حمل كلامه تعالى على القلب، يحتاج إلى تأويل، فلا فائدة في القلب وثالثها: إن العجل هو الطين، عن أبي عبيدة وجماعة، واستشهدوا بقول الشاعر: والنبع ينبت بين الصخر ضاحية، * والنخل تنبت بين الماء، والعجل ورواه ثعلب: " والنبع في الصخرة الصماء منبته ". فعلى هذا يكون كقوله (وبدأ خلق الإنسان من طين) ورابعها: إن معناه خلق الإنسان من تعجيل من الأمر، لأنه تعالى قال. (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، عن أبي الحسن الأخفش. (سأريكم آياتي) الدالة على وحدانيتي، وعلى صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يوعدكم به من العذاب (فلا تستعجلون) في حلول العذاب بكم، فإنه سيدرككم عن قريب. قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد به النضر بن الحرث، وهو الذي قال (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر) الآية. ويريد بقوله: (سأريكم آياتي) القتل يوم بدر. (ويقولون) يعني: ويقول المشركون للمسلمين (متى هذا الوعد) الذي تعدوننا يريدون وعد القيامة (إن كنتم صادقين) أي: ويقولون إن كنتم صادقين في هذا الوعد، فمتى يكون ذلك. ثم قال سبحانه. (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار) أي: لو علموا الوقت الذي لا يدفعون فيه عذاب النار عن وجوههم (ولا عن ظهورهم) يعني أن النار تحيط بهم من جميع جوانبهم (ولا هم ينصرون) وجواب لو محذوف، وتقديره لعلموا صدق ما وعدوا به، ولما استعجلوا، ولا قالوا (متى هذا الوعد). ثم قال (بل تأتيهم) الساعة (بغتة) أي: فجأة
[ 88 ]
(فتبهتهم) أي: فتحيرهم (فلا يستطيعون ردها) أي: فلا يقدرون على دفعها. (ولا هم ينظرون) أي: لا يؤخرون إلى وقت آخر، ولا يمهلون لتوبة أو معذرة. (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون [ 41 ] قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون [ 42 ] أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون [ 43 ] بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون [ 44 ] قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون [ 45 ]). القراءة: قرأ ابن عامر: (ولا تسمع) بضم التاء (الصم) بالنصب. والباقون: (ولا يسمع) بفتح الياء (الصم) بالرفع. الحجة: الوجه في قراءة ابن عامر: أنه وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكأنه قال: ولا تسمع أنت يا محمد الصم، كما قال: (وما أنت بمسمع من في القبور) لأن الله تعالى لما خاطبهم فلم يلتفتوا إلى ما دعاهم إليه، صاروا بمنزلة الميت الذي لا يسمع، ولا يعقل. ووجه قراءة الباقين: أنه جعل الفعل لهم ويقويه قوله (إذا ما ينذرون). اللغة: الكلاءه: الحفظ. قال ابن هرمة: إن سليمى، والله يكلؤها، * ضنت بشئ ما كان يرزؤها (1) والفرق بين السخرية والهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة، لأن التسخير التذليل. فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.
[ 89 ]
الاعراب: (أم لهم آلهة): أم هذه هي المنقطعة، وتقديره: بل لهم آلهة. (ولا يستطيعون): جملة مستأنفة، لأنها لا تستقيم أن تكون صفة لآلهة، ولا حالا عنها، لأن الله وصفها بقوله (تمنعهم من دوننا) على زعمهم، و (لا يستطيعون) ضد هذه الصفة. المعنى: لما تقدم ذكر استهزاء الكفار بالنبي والمؤمنين سلى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك بقوله: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) كما استهزأ هؤلاء (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون) أي: حل بهم وبال استهزائهم وسخريتهم. وقوله: (منهم) يعني من الرسل (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) أي: يحفظكم من بأس الرحمن وعذابه. وقيل: من عوارض الآفات. وهو استفهام معناه النفي، تقديره: لا حافظ لكم من الرحمن. (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) أي: بل هم عن كتاب ربهم معرضون، لا يؤمنون به، ولا يتفكرون فيه. وقيل: معناه إنهم لا يلتفتون إلى شئ من المواعظ والحجج. ثم قال على وجه التوبيخ لهم والتقريع: (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) تقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا وعقوباتنا، وتم الكلام. ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال: (لا يستطيعون نصر أنفسهم) فكيف ينصرونهم. وقيل: معناه إن الكفار لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم (ولا هم منا يصحبون) أي: ولا الكفار يجارون من عذابنا، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار، يقول العرب: صحبك الله أي: حفظك الله وأجارك. وقيل: يصحبون أي ينصرون ويحفظون، عن مجاهد. وقيل: لا يصحبون من الله بخير، عن قتادة. (بل متعنا هؤلاء وآبائهم) في الدنيا بن عمها، فلم نعاجلهم بالعقوبة (حتى طال عليهم العمر) أي: طالت أعمارهم فغرهم طول العمر، وأسباب الدنيا، حتى أتوا ما أتوا (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) أي: ألم ير هؤلاء الكفار أن الأرض يأتيها أمرنا، فننقصها بتخريبها وبموت أهلها. وقيل: بموت العلماء، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نقصانها ذهاب عالمها. وقيل: معناه ننقصها من أطرافها بظهور النبي على من قاتله، أرضا فأرضا، وقوما فقوما، فيأخذهم قراهم
[ 90 ]
وأرضيهم، عن الحسن وقتادة. ومعناه: إنا ننقصها من جانب المشركين، ونزيدها في جانب المسلمين. (أفهم الغالبون) أي: أفهؤلاء الغالبون أم نحن ؟ ومعناه: ليسوا بغالبين، ولكنهم المغلوبون، ورسول الله الغالب. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الرعد. (قل إنما أنذركم بالوحي) أي. قل يا محمد إنما أنذركم من عذاب الله، وأخوفكم بما أوحى الله إلي (ولا يسمع الصم الدعاء) شبههم بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا نودوا، لأنهم لم ينتفعوا بالسمع. والمعنى: أنهم يستثقلون القرآن وسماعه، وذكر الحق، فهم في ذلك بمنزلة الأصم الذي لا يسمع (إذا ما ينذرون) أي: يخوفون. النظم: إنما اتصل قوله (أم لهم آلهة) بقوله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)، وتقديره: أفهم الخالدون أم لهم آلهة تمنع نفوسهم من الموت، ومما ينزل الله بهم، عن أبي مسلم. وقيل: إتصل بقوله (من يكلؤكم) أي: أم لهم آلهة تكلؤهم وتمنعهم. ووجه اتصال قوله (قل إنما أنذركم بالوحي) بما قبله أنه اتصل بقوله: (قل من يكلؤكم) وتقديره. لو تفكروا لعلموا أنه لا عاصم من الله، وأن فيما أنذركم به من القرآن أعظم الآيات والحجج. وقيل: إنه اتصل بما تقدم من العظة بحال من مضى من الأمم، والمعنى أن ذلك وجميع ما يعظهم به من الوحي. (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين [ 46 ] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 47 ] ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ 48 ] الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 49 ] وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ 50 ]). القراءة: قرأ أبو جعفر ونافع: (مثقال حبة) بالرفع، وفي لقمان مثله. والباقون بالنصب. وقرأ (آتينا بها) بالمد ابن عباس وجعفر بن محمد ومجاهد
[ 91 ]
وسعيد بن جبير والعلاء بن سيابة. والباقون: (أتينا) بالقصر. الحجة: وجه النصب (وإن كان الظلامة مثقال حبة). وهذا أحسن لتقدم قوله (فلا تظلم نفس شيئا) فإذا ذكر (تظلم) فكأنه ذكر الظلامة، كقولهم: من كذب كان شرا له. ووجه الرفع أنه أسند الفعل إلى (مثقال) كما أسند في قوله: (وإن كان ذو عسرة) أي: ذا عسرة. وكذلك قول الشاعر: (إذا كان يوم ذو كواكب أشهبا). ومن قرأ (آتينا) فهو فاعلنا فهو من آتى يؤاتي مؤاتاة، عن ابن جني. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: معناه جازينا بها. وعلى هذا فيجوز أن يكون من أفعلنا، ويكون مفعول (آتينا) محذوفا، وتقديره: آتيناها بها للجزاء. اللغة: النفحة: الوقعة اليسيرة تقع بهم، يقال: نفح ينفح نفحا، ونفح الطيب ينفح فله نفحة طيبة. ونفحت الدابة: إذا رمت بحافرها، فضربت به. ونفحه بالسيف: إذا تناوله من بعيد. وأما حديث شريح: (إنه أبطل النفح) من نفح الدابة، فالمعنى أنه كان لا يلزم صاحبها شيئا. والقسط: العدل، وهو مصدر يوصف به. والتقدير: ونضع الموازين ذوات القسط. الاعراب: (شيئا): انتصب على أنه مفعول ثان لتظلم. ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر أي: لا تظلم نفس ظلما. ومن رفع (مثقال حبة) فإن (كان) تكون تامة. ومن نصب فإن كان ناقصة، واسمها الضمير المستكن فيها العائد إلى شئ (وكفى بنا حاسبين): قال الزجاج إنتصب قوله (حاسبين) على التمييز، أو على الحال، ودخلت الباء في (بنا) لأنه خبر في معنى الأمر. والمعنى: إكتفوا بالله حسيبا. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ (ضياء) بغير واو، ويكون على هذا منصوبا على الحال من الفرقان. ويجوز أن يكون مفعولا له. وبالواو يكون عطفا على (الفرقان) وتكون الواو داخلة على (ضياء). وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ، كما تدخل على الصفة التي هي صفة لفظا. قال سيبويه: إذا قلت مررت بزيد وصاحبك. وزيد هو الصاحب، جاز. ولو قلته بالفاء لم يجز، كما جاز بالواو، لأن الفاء يقتضي التعقيب، وتأخير الإسم عن المعطوف عليه، بخلاف الواو. (والذين يخشون): في محل جر لأنه صفة للمتقين. ويجوز أن يكون في محل نصب، أو رفع على المدح. و (بالغيب): في محل النصب على الحال. المعنى: لما تقدم الإنذار بالعذاب ذكر عقيبه (ولئن مستهم نفحة) أي:
[ 92 ]
أصابهم طرف، عن ابن عباس. وقيل: قليل، عن ابن كيسان. وقيل: نصيب، عن ابن جريج. وقيل. بعض ما يستحقونه من العقوبة، عن أبي مسلم (من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) أي: يدعون بالويل والثبور عند نزوله. ثم قال سبحانه: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي: نضع الموازين ذوات القسط ليوم القيامة. وقيل. معناه نحضر الموازين التي لا جور فيها، بل كلها عدل وقسط لأهل يوم القيامة، أو في يوم القيامة. وقال قتادة: معناه نضع العدل. في المجازاة بالحق لكل أحد على قدر استحقاقه، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه. وقد سبق الكلام في الميزان في سورة الأعراف. (فلا تظلم نفس شيئا) أي: لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسئ. (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها) أي: جئنا بها. والمراد أحضرناها للمجازاة بها (وكفى بنا حاسبين) أي: عالمين حافظين وذلك أن من حسب شيئا علمه وحفظه، عن ابن عباس. وقيل: محصين. والحسب: العد، عن السدي. (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) أي: أعطيناهما التوراة يفرق بين الحق والباطل، عن مجاهد وقتادة. وقيل: البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون. وقيل: هو فلق البحر. (وضياء) أي: وآتيناهما ضياء وهو من صفة التوراة أيضا مثل قوله (فيها هدى ونور) والمعنى أنهم استضاؤوا بها حتى اهتدوا في دينهم. (وذكرا للمتقين) يذكرونه ويعملون بما فيه، ويتعظون بمواعظه. ثم وصف المتقين فقال: (الذين يخشون ربهم بالغيب) أي: في حال الخلوة والغيبة عن الناس. وقيل: في سرائرهم من غير رياء (وهم من الساعة) أي: من القيامة وأهوالها (مشفقون) أي: خائفون (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) أراد به القرآن أنه ذكر ثابت نافع، دائم نفعه إلى يوم القيامة. وقيل: سماه مباركا لوفور فوائده من المواعظ والزواجر والأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق والأفعال. لما وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الذي آتاه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (أفانتم له منكرون) استفهام على معنى التوبيخ أي: فلماذا تنكرونه وتجحدونه مع كونه معجزا. النظم: وجه اتصال قصة موسى وهارون بما قبلها: أنه لما تقدم ذكر الوحي، بين عقيبه أن إنزال القرآن على نبيه ليس ببدع، فقد أنزل على موسى وهارون التوراة. وقيل: إتصل بقوله (ولقد استهزئ برسل من قبلك) والمعنى: إن هؤلاء
[ 93 ]
كما أنهم استهزؤوا بك مع أنا أنزلنا إليك الكتاب، فكذلك قد أنزلنا على موسى وهارون الكتاب، فكذبوهما، واستهزؤوا بهما. (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [ 51 ] إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون [ 52 ] قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [ 53 ] قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [ 54 ] قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [ 55 ] قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين [ 56 ] وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين [ 57 ] فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون [ 58 ] قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين [ 59 ] قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [ 60 ]). القراءة: قرأ الكسائي: (جذاذا) بكسر الجيم. والباقون بضمها. وفي الشواذ قراءة ابن عباس وأبي السماك بفتح الجيم. الحجة: قال أبو حاتم فيه لغات جذاذا وجذاذا، وأجودها الضم كالحطام والرفات من جذذت الشئ: إذا قطعته. قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه، * ويوقدن بالصفاح نار الحباحب (1) وقال جرير: بنو المهلب جذ الله دابرهم، * أمسوا رمادا فلا أصل، ولا طرف المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من قصة موسى وهارون، بقصة إبراهيم عليه السلام فقال: (ولقد آتينا) أي: أعطينا (إبراهيم رشده) يعني الحجج التي توصله إلى الرشد من معرفة الله وتوحيده. وقيل: معناه هداه أي: هديناه صغيرا، (1) السلوقي: الدرع المنسوبة إلى سلوق. قرية باليمن. والصفاح: الحجر العريض. ونار الحباحب: ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة. قاله في وصف السيوف. وفي اللسان: (تقد السلوقي). (*)
[ 94 ]
عن قتادة ومجاهد. وقيل: هو النبوة (من قبل) أي: من قبل موسى. وقيل: من قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن. وقيل: من قبل بلوغه (وكنا به عالمين) أنه أهل لإيتاء الرشد، وصالح للنبوة (إذ قال لأبيه وقومه) حين رآهم يعبدون الأصنام (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) والعامل في إذ قوله (آتينا) أي: آتيناه رشده في ذلك الوقت. والتمثال: إسم للشئ المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، وأصله من مثلت الشئ بالشئ: إذا شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال، وجمعه تماثيل. وقيل: إنهم جعلوها أمثلة لعلمائهم الذين انقرضوا. وقيل: إنهم جعلوها أمثلة للأجسام العلوية، والمعنى: ما هذه الصور التي أنتم مقيمون على عبادتها. وروى العياشي بإسناده عن الأصبغ بن نباته أن عليا عليه السلام مر بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لقد عصيتم الله ورسوله. (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) فاقتدينا بهم. اعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجة لعبادتهم إياها سوى اتباع الآباء. (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أي: في ذهاب عن الحق ظاهر. ذمهم على تقليد الآباء، ونسبهم في ذلك إلى الضلال. (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) معناه: أجاد أنت فيما تقول، محق عند نفسك، أم لاعب مازح ؟ وإنما قالوا ذلك لاستبعادهم إنكار عبادة الأصنام عليهم، إذ ألفوا ذلك واعتادوه. (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) أي: بل إلهكم إله السماوات والأرض الذي خلقهن، وابتدأهن. فدل على الله سبحانه بصنعه (وأنا على ذلكم من الشاهدين) ومعنى هذه الشهادة تحقيق الأخبار والشاهد الدال على الشئ عن مشاهدة. فإبراهيم عليه السلام شاهد بالحق، لأنه دال عليه بما يرجع إلى ثقة المشاهدة. ثم أقسم إبراهيم عليه السلام فقال (وتالله لأكيدن أصنامكم) أي: لأدبرن في بابهم تدبيرا خفيا يسوؤكم ذلك. وقيل: إنما قال ذلك في سر من قومه، ولم يسمع ذلك إلا رجل منهم فأفشاه، عن قتادة ومجاهد. (بعد أن تولوا مدبرين) أي. بعد أن تنطلقوا ذاهبين. قالوا: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام، وسجدوا لها، فقالوا لإبراهيم عليه السلام: ألا تخرج معنا، فخرج. فلما كان ببعض الطريق، قال: أشتكي رجلي. وانصرف (فجعلهم جذاذا) أي: فجعل أصنامهم قطعا قطعا، عن قتادة. وقيل: حطاما، عن ابن عباس.
[ 95 ]
(إلا كبيرا لهم) تركه على حاله. ويجوز أن يكون كبيرهم في الخلقة. ويجوز أن يكون أكبرهم عندهم في التعظيم. قالوا: جعل يكسرهم بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الكبير، علق الفأس في عنقه وخرج. (لعلهم إليه يرجعون) أي: لعلهم يرجعون إلى إبراهيم، فيسألونه عن حال الأصنام، لينبههم على جهلهم. وقيل: لعلهم يرجعون إلى الكبير، فيسألونه وهو لا ينطق، فيعلمون جهل من اتخذوه إلها. وفي الكلام هاهنا حذف تقديره: فلما رجع قومه من عيدهم، فوجدوا أصنامهم مكسرة (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) من هذه الموصولة تقديره الذي فعل هذا بآلهتنا، فإنه ظالم لنفسه، لأنه يقتل إذا علم به. وقيل: إنهم قالوا من فعل هذا ؟ إستفهموا عمن صنع ذلك، وأنكروا عليه فعله بقولهم (إنه لمن الظالمين) إذ فعل ما لم يكن له أن يفعله. (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي: قال الرجل الذي سمع من إبراهيم قوله (لأكيدن أصنامكم) للقوم ما سمعه منه، فقالوا: سمعنا فتى يذكرهم بسوء. وقيل: إنهم قالوا: سمعنا فتى يعيب آلهتنا، ويقول: إنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فهو الذي كسرها. وعلى القول الأول فإنما قالوا: سمعنا فتى، وإن لم يسمعوه كما يقال: سمعت الله يقول، أو سمعت الرسول يقول: إذا بلغك عنه رسالة على لسان ثقة صدوق. وقوله (يقال له إبراهيم) إرتفع إبراهيم على وجهين أحدهما: يقال له هو إبراهيم، والمعروف به إبراهيم، وعلى النداء أي: يقال له يا إبراهيم، عن الزجاج. (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون [ 61 ] قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم [ 62 ] قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون 63 * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون [ 64 ] ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 65 ] قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم [ 66 ] أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون 67 * قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم
[ 96 ]
إن كنتم فاعلين [ 68 ] قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم [ 69 ] وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين [ 70 ]. اللغة: النكس: هو أن يجعل أسفل الشئ أعلاه، ومنه النكس في العلة وهو أن يرجع إلى أول حاله. ومنه النكس وهو السهم فوقه، فيجعل أعلاه أسفله. ويقال للمائق أيضا: نكس، تشبيها بذلك. الاعراب: (على أعين الناس): في موضع الحال أي: مرئيا مشهودا (بل فعله كبيرهم): هذا من وقف على (فعله)، ففاعله مضمر، وتقديره فعله من فعله. و (كبيرهم): مبتدأ وهذا خبره. ومن لم يقف على (فعله) فكبيرهم فاعله وهذا يكون صفة لكبيرهم، أو بدلا عنه. وجواب الشرط الذي هو قوله (إن كانوا ينطقون) محذوف يدل عليه قوله (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم) على الوجه الثاني. ويقتضي أن يكون للشرط جزاءان على هذا، والجزاء الثاني معطوف على الأول، التقدير: إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا فاسألوهم. والمعنى: إن لم يقدروا على النطق لم يقدروا على الفعل. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما جرى بين إبراهيم وقومه في أمر الأصنام بقوله: (قالوا) يعني قوم إبراهيم (فأتوا به) أي: فجيئوا به (على أعين الناس) أي. بحيث يراه الناس، ويكون بمشهد منهم (لعلهم يشهدون) عليه بما قاله، فيكون ذلك حجة عليه بما فعل، عن الحسن وقتادة والسدي قالوا: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. وقيل: معناه لعلهم يشهدون عقابه، وما يصنع به أي يحضرونه، عن ابن إسحاق والضحاك. (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) المعنى فلما جاؤوا به قالوا له هذا القول، مقررين له على ذلك. فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأن (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) اختلفوا في معناه وتقديره على وجوه: أحدها: إنه مقيد بقوله (إن كانوا ينطقون) والتقدير فقد فعله كبيرهم إن نطقوا فاسألوهم. فقد علق الكلام بشرط لا يوجد، فلا يكون كذبا، ويكون كقول القائل فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء. وثانيها: إنه خرج مخرج الخبر، وليس بخبر إنما هو إلزام يدل عليه الحال، فكأنه قال ما ينكرون أن يكون فعله كبيرهم هذا. والإلزام يأتي تارة بلفظ السؤال، وتارة بلفظ الأمر، وتارة بلفظ الخبر. وربما
[ 97 ]
يكون أحد هذه الأمور أبلغ فيه. ووجه الإلزام أن هذه الأصنام إن كانت آلهة كما تزعمون، فإنما فعل ذلك بهم كبيرهم، لأن غير الإله لا يقدر أن يكسر الألهة. وثالثها: إن تقديره فعله من فعله على ما تقدم ذكره، وهو قول الكسائي. وأما ما ذكر فيه أنه أراد به الخبر عن الكبير، وقال. إنه غضب من أن يعبد معه الصغار فكسرهن، وما روي في ذلك من أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات قوله (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم)، وقوله في سارة لما أراد الجبار أخذها وكانت زوجته. (إنها أختي) فمما لا يعول عليه. فقد دلت الأدلة العقلية التي لا تحتمل التأويل على أن الأنبياء لا يجوز عليهم الكذب، وإن لم يقصدوا به غرورا ولا ضررا، كما لا يجوز عليهم التعمية في الأخبار، ولا التقية، لأن ذلك يؤدي إلي التشكك في إخبارهم. وكلام إبراهيم عليه السلام يجوز أن يكون من المعاريض، فقد أبيح ذلك عند الضرورة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل). وقد قيل في تفسير قوله (إني سقيم): إن معناه إني سأسقم لأنه لما نظر إلى بعض علم النجوم وقت نوبة حمى كانت تأتيه، فقال: إني سأسقم. وقيل: معناه إني سقيم عندكم فيما أدعوكم إليه، وسنذكر الكلام فيه في موضعه. وأما قوله في سارة (إنها أختي): فإنما أراد في الدين، قال سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة) وقد دل الدليل العقلي على أن الكذب قبيح لكونه كذبا فلا يحسن على وجه من الوجوه. (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) معناه: فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر على الدفع عن نفسه، وما نرى الأمر إلا كما قال. وقيل: معناه فرجعوا إلى عقولهم، وتدبروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم فيما قاله، وحاروا عن جوابه، فانطقهم الله بالحق فقالوا: إنكم أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤاله، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها. (ثم نكسوا على رؤوسهم) إذ تحيروا وعلموا أنها لا تنطق. ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا: (لقد علمت) يا إبراهيم (ما هؤلاء ينطقون) فكيف نسألهم ؟ فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم) أي أفتوجهون عبادتكم إلى الأصنام التي لا
[ 98 ]
تنفعكم شيئا إن عبدتموها، ولا تضركم إن تركتموها، لأنها لو قدرت على نفعكم وضركم، لدفعت عن أنفسها من دون الله سبحانه الذي يقدر على ضرركم ونفعكم، على أنه ليس كل من قدر على الضر والنفع استحق العبادة، وإنما يستحقها من قدر على أصول النعم التي هي الحياة والشهوة، والقدرة وكمال العقل، وقدر على الثواب والعقاب. ثم قال إبراهيم عليه السلام مهجنا لأفعالهم، مستقذرا لها: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) قال الزجاج: معنى أف لكم: تبا لأعمالكم وأفعالكم. وقد ذكرنا اختلاف القراء فيه، وما قيل في تفسيره في سورة بني إسرائيل. (أفلا تعقلون) أي: أفلا تتفكرون بعقولكم في أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة. (قالوا حرقوه) والمعنى: فلما سمعوا منه هذا القول، قال بعضهم لبعض: حرقوه بالنار (وانصروا آلهتكم) أي: وادفعوا عنها، وعظموها (إن كنتم فاعلين) أي. إن كنتم ناصريها. والمعنى: فلا تنصرونها إلا بتحريقه بالنار. قال ابن عمر ومجاهد: إن الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار، رجل من أكراد فارس، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقال وهب: إنما قاله نمرود، وفي الكلام حذف. قال السدي: فجمعوا الحطب حتى إن الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيشترى به حطب، وحتى إن المرأة لتغزل فتشتري به حطبا، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار، لم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق، وهو أول منجنيق صنعت. فوضعوه فيها ثم رموه. (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) معناه: فلما جمعوا الحطب، وألقوه في النار، قلنا للنار ذلك. وهذا مثل فإن النار جماد لا يصح خطابه، والمراد: إنا جعلنا النار بردا عليه وسلامة، لا يصيبه من أذاها شئ، كما قال سبحانه وتعالى. (كونوا قردة خاسئين) والمعنى: إنه صيرهم كذلك، لا أنه خاطبهم وأمرهم بذلك. وقيل: يجوز أن يتكلم الله سبحانه بذلك، ويكون ذلك صلاحا للملائكة، ولطفا لهم، وذكر في كون النار بردا على إبراهيم وجوه أحدها، إن الله سبحانه أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة التي فيها فلم تؤذه وثانيها. إن الله سبحانه حال بينها وبينه، فلم تصل إليه وثالثها. إن الإحراق إنما يحصل بالإعتمادات التي في النار صعدا. فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الإعتمادات.
[ 99 ]
وعلى الجملة فقد علمنا أن الله سبحانه منع النار من إحراقه، وهو أعلم بتفاصيله. قال أبو العالية: لو لم يقل سبحانه (وسلاما) لكانت تؤذيه من شدة بردها، ولكان بردها أشد عليه من حرها فصارت سلاما عليه. ولو لم يقل (على إبراهيم) لكان بردها باقيا على الأبد. وقال أبو عبد الله عليه السلام: لما جلس إبراهيم في المنجنيق، وأرادوا أن يرموا به في النار، أتاه جبرائيل عليه السلام فقال: السلام عليك يا إبراهيم، ورحمة الله وبركاته. ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا. فلما طرحوه دعا الله فقال: يا الله، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فحسرت النار عنه، وإنه لمحتب ومعه جبرائيل عليه السلام وهما يتحدثان في روضة خضراء. وروى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (إن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم عليه السلام في النار، نزل إليه جبرائيل عليه السلام بقميص من الجنة، وطنفسة (1) من الجنة، فألبسه القميص، وأقعده على الطنفسة، وقعد معه يحدثه) تمام الخبر. وقال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم عليه السلام غير وثاقه. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار، وهو ابن ست عشرة سنة. (وأرادوا به كيدا) معناه: إن الكفار أرادوا بإبراهيم عليه السلام كيدا أي: شرا، وتدبيرا في إهلاكه. (فجعلناهم الأخسرين) قال ابن عباس: هو أن سلط الله على نمرود وخيله البعوض، حتى أخذت لحومهم، وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته. والمعنى: أنهم كادوه، أرادوا أن يكيدوه بسوء، فانقلب عليهم ذلك. (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين [ 71 ] ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين [ 72 ] وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين [ 73 ] ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من
[ 100 ]
القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ 74 ] وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين [ 75 ]). اللغة: النافلة: العطية الخاصة. والنفل: الذي يجر الحمد فيما زاد على حد الواجب. ومنها النافلة للصلاة وهي الفضل على الفرائض. وقيل: النافلة الغنيمة. قال: (لله نافلة الأعز الأفضل) (1). الاعراب: (نافلة): نصب على الحال من (يعقوب). وقيل: إنه نصب على المصدر من (وهبنا) وتقديره: وهبنا له هبة. و (يهدون): صفة لأئمة. ومفعولاه محذوفان تقديره يهدون الناس الطريق. وحذف التاء من إقامة، لأن الإضافة عوض عنها، ولا يجوز ذلك في غير الإضافة. لا يقال أقام إقاما، كما يقال إقامة. و (لوطا): منصوب بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر تقديره. وآتينا لوطا آتيناه إلا أنه إذا ذكر المحذوف لم يذكر الموجود. والنصب في (لوطا) أحسن لتكون الجملة فعلية معطوفة على جملة فعلية. و (فاسقين): يجوز أن يكون منصوبا بكونه صفة ل‍ (قوم سوء)، ويجوز أن يكون خبر لكان، ويكون خبرا بعد خبر. المعنى: ثم بين سبحانه تمام نعمته على إبراهيم عليه السلام فقال: (ونجيناه) أي. من نمرود وكيده. والمعنى: ورفعناه (ولوطا) من الهلكة، وهو ابن أخي إبراهيم. فآمن به (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) اختلف فيها فقيل. هي أرض الشام أي: نجيناه من كوثى إلى الشام، عن قتادة قال: وإنما قال (باركنا فيها) لأنها بلاد خصب. وقيل: إلى أرض بيت المقدس لأن بها مقام الأنبياء، عن الجبائي. وقيل: نجاهما إلى مكة كما قال: (إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا) عن ابن عباس. (ووهبنا له إسحاق) أي: وهبنا لإبراهيم إسحاق حين سأل الولد فقال (رب هب لي من الصالحين). (ويعقوب نافلة) قال ابن عباس وقتادة: نافلة راجع إلى يعقوب، فإنه زاده من غير دعاء، فهو نافلة. وقيل: إنه راجع إلى إسحاق ويعقوب جميعا، لأنه أعطاهما إياه من غير جزاء ولا استحقاق، عن مجاهد. (وكلا جعلنا صالحين) أي: وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحين للنبوة والرسالة. وقيل: معناه حكمنا بكونهم صالحين، وهو غاية ما يوصف به من الثناء الجميل. (1) هذا عجز بيت للبيد بن ربيعة. (*)
[ 101 ]
(وجعلناهم أئمة) يقتدى بهم في أفعالهم وأقوالهم، (يهدون) الخلق إلى طريق الحق، وإلى الدين المستقيم. (بأمرنا) فمن اهتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم، فالنعمة لنا عليه (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) قال ابن عباس: شرائع النبوة. (وإقام الصلاة) أي: إقامة الصلاة (وإيتاء الزكاة) أي: إعطاء الزكاة (وكانوا لنا عابدين) أي: مخلصين في العبادة (ولوطا آتيناه حكما وعلما) ومعناه: وأعطينا لوطا حكمة وعلما. وقيل: الحكم النبوة. وقيل: هو الفصل بين الخصوم بالحق أي: جعلناه حاكما، وعلمناه ما يحتاج إلى العلم به. (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) وهي قرية (سدوم) على ما روي. والخبائث التي كانوا يعملونها هي أنهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم. وقيل: هي ما حكى الله تعالى: (إنكم لتأتوت الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) وغير ذلك من القبائح. وأراد بالقرية أهلها. ثم ذمهم فقال: (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) أي: خارجين عن طاعة الله تعالى (وأدخلناه في رحمتنا) أي: في نعمتنا ومنتنا. (إنه من الصالحين) أي: بسبب أنه من الصالحين الذين أصلحوا أفعالهم، فعملوا بما هو الحسن منها، دون القبيح. وقيل: أراد بكونه من الصالحين أنه من الأنبياء. (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 76 ] ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 77 ] وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين [ 78 ] ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [ 79 ] وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ 80 ]). القراءة: قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص، عن عاصم وروح وزيد عن يعقوب: (لتحصنكم) بالتاء. وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب. (لنحصنكم) بالنون. والباقون: (ليحصنكم) بالياء.
[ 102 ]
الحجة: من قرأ بالياء فيجوز أن يكون الفاعل إسم الله لتقدم قوله (علمناه). ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس. ويجوز أن يكون داود. ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى، لأن الدرع مؤنث. ومن قرأ بالنون: فلتقدم قوله (علمناه). اللغة: النفش بفتح الفاء وسكونها. أن تنتشر الإبل والغنم بالليل، فترعى بلا راع. يقال غنم نفاش وإبل نفاش. واللبوس: إسم للسلاح كله عند العرب درعا، أو جوشنا، أو سيفا، أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا: ومعي لبوس للبئيس كأنه * روق بجبهة ذي نعاج مجفل (1) وقيل: هو كل ما يلبس من ثياب ودرع. وقيل: هو الدرع، وأصل اللباس من الإختلاط، ومنه سميت المرأة لباسا، وسمي الليل لباسا، لأنه يباشر الناس بظلمته. والإحصان: الإحراز، وأصله من المنع. الاعراب: (ونوحا). معطوف على قوله ولوطا، وقوله (إذ نفشت) ظرف لقوله (يحكمان). وقوله (وكنا لحكمهم شاهدين) يجوز أن يكون في موضع الجر بالعطف على (يحكمان) أي: وقت حكمهما في الحرث وكوننا شاهدين له. ويجوز أن يكون في موضع النصب على الحال. (وكلا): منصوب لأنه مفعول أول لآتينا. و (حكما) مفعول ثان له. (يسبحن). في موضع نصب على الحال من الجبال (والطير): عطف على الجبال. ويجوز أن يكون مفعولا معه وتقديره: يسبحن مع الطير. فيكون الواو بمعنى مع. المعنى: ثم عطف سبحانه قصة نوح وداود، على قصة إبراهيم عليه السلام ولوط فقال: (ونوحا إذ نادى) أي: دعا ربه فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)، وقال: (إني مغلوب فانتصر)، وغير ذلك (من قبل) أي: من قبل إبراهيم ولوط (فاستجبنا له) أي. أجبناه إلى ما التمسه. (فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) أي: من الغم الذي يصل حره إلى القلب، وهو ما كان يلقاه من الأذى طول تلك المدة، وتحمل الإستخفاف من السقاط من أعظم الكرب (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي: منعناه منهم بالنصرة حتى لم يصلوا إليه بسوء. (1) الروق: القرن من كل ذي قرن. والمجفل: المسرع شبه رمحه بقرن الثور الوحشي. (*)
[ 103 ]
وقيل: معناه نصرناه على القوم. ومن بمعنى على، عن أبي عبيدة (إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم. (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) أي. وآتينا داود وسليمان حكما وعلما، إذ يحكمان. وقيل: تقديره واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث في الوقت الذي نفشت فيه غنم القوم أي: تفرقت ليلا. (وكنا لحكمهم شاهدين) أي: بحكمهم عالمين لم يغب عنا منه شئ. وإنما جمع في موضع التثنية، لإضافة الحكم إلى الحاكم وإلى المحكوم لهم. وقيل: لأن الإثنين جمع فهو مثل قوله: (إن كان له إخوة) وهو يريد أخوين. واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته، عن قتادة. وقيل: كان كرما وقد بدت عناقيده، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ! قال: وما ذاك ؟ قال. يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان، ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، عن ابن مسعود، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. وقال الجبائي: أوحى الله تعالى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل، ولم يكن ذلك عن اجتهاد، لأنه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالإجتهاد، وهذا هو الصحيح المعول عليه عندنا. وقال علي بن عيسى والبلخي: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد، لأن رأي النبي، أفضل من رأي غيره. فإذا جاز التعبد بالتزام حكم غير النبي من طرق الإجتهاد. فكيف يمنع من حكم النبي على هذا الوجه. والذي يدل على صحة القول الأول أن النبي إذا كان يوحى إليه، وله طريق إلى العلم بالحكم، فلا يجوز أن يحكم بالظن. على أن الحكم بالظن والإجتهاد والقياس قد بين أصحابنا في كتبهم، أنه لم يتعبد بها في الشرع، إلا في مواضع مخصوصة، ورد النص بجواز ذلك فيها، نحو قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وجزاء الصيد، والقبلة، وما جرى هذا المجرى. وأيضا فلو جاز للنبي أن يجتهد لجاز لغيره أن يخالفه، كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا. ومخالفة الأنبياء تكون كفرا. هذا وقد قال الله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فأخبر سبحانه أنه إنما ينطق عن جهة الوحي.
[ 104 ]
ويقوي ما ذكرناه قوله تعالى (ففهمناها سليمان) أي: علمناه الحكومة في ذلك. وقيل: إن سليمان قضى بذلك، وهو ابن إحدى عشرة سنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا. (وكلا آتينا حكما وعلما) أي: وكل واحد من داود وسليمان، أعطيناه حكمة. وقيل: معناه النبوة، وعلم الدين، والشرع. (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير) قيل: معناه سيرنا الجبال مع داود حيث سار، فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله، وتعظيمه، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به. وكذلك تسخير الطير له تسبيح. يدل على أن مسخرها قادر لا يجوز عليه ما يجوز على العباد، عن الجبائي، وعلي بن عيسى. وقيل: إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي، معجزة له، عن وهب. (وكنا فاعلين) أي: قادرين على فعل هذه الأشياء ففعلناها دلالة على نبوته (وعلمناه صنعة لبوس لكم) أي: علمناه كيف يصنع الدرع. قال قتادة: أول من صنع الدرع داود عليه السلام، وإنما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين، فهو أول من سردها وحلقها، فجمعت الخفة والتحصين، وهو قوله: (لتحصنكم من بأسكم) أي: ليحرزكم ويمنعكم من وقع السلاح فيكم، عن السدي. وقيل: معناه من حربكم أي: في حالة الحرب والقتال، فإن البأس في اللغة هو شدة القتال. (فهل أنتم شاكرون) لنعم الله تعالى عليكم وعلى أنبيائه قبلكم. وهذا تقرير للخلق على شكره، فإن إنعامه على الأنبباء، إنعام على الخلق. وقيل: إن سبب إلانة الحديد لداود عليه السلام أنه كان نبيا ملكا، وكان يطوف في ولايته متنكرا، يتعرف أحوال عماله ومتصرفيه، فاستقبله جبرائيل ذات يوم على صورة آدمي، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: ما سيرة داود ؟ فقال: نعمت السيرة لولا خصلة فيه ! قال: وما هي ؟ قال: إنه يأكل من بيت مال المسلمين. فتنكره وأثنى عليه وقال: لقد أقسم داود أنه لا يأكل من بيت مال المسلمين. فعلم الله سبحانه صدقه، فألان له الحديد، كما قال: (وألنا له الحديد). وروي أن لقمان الحكيم حضره، فرآه يفعل ذلك، فصبر ولم يسأله حتى فرغ من ذلك، فقام ولبس وقال: نعمت الجنة للحرب. فقال لقمان: الصمت حكمة، وقليل فاعله.
[ 105 ]
(ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين [ 81 ] ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 82 ] وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ 83 ] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [ 84 ] وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين [ 85 ] وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين [ 86 ]). اللغة: الريح: هو الجو يشتد تارة ويضعف تارة، وهي جسم لطيف منعش، يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته. والعصوف: شدة حركة الريح، عصفت تعصف عصفا وعصوفا: إذا اشتدت. والعصف. التبن، لأن الريح تعصفه بتطييرها له. الاعراب: (ولسليمان): اللام يتعلق بسخرنا. والتقدير: وسخرنا لداود الجبال، وسخرنا لسليمان الريح. (عاصفة): نصب على الحال تجري بأمره في موضع الحال أيضا، فهو حال بعد حال. ويحتمل أن يكون حالا عن الحال التي هي عاصفة. و (من يغوصون له): عطف على الريح. (ومن الشياطين): في موضع نصب على الحال من سخرنا. وذو الحال (من يغوصون له). ويجوز أن يكون حالا من يغوصون له، وذو الحال الواو. و (معهم): في موضع نصب على أنه صفة بعد صفة تقديره وأهلا مثلهم كائنين معهم. وانتصب (رحمة) بأنه مفعول له. المعنى: ثم عطف سبحانه بقصة سليمان على ما تقدم، فقال: (ولسليمان الريح) أي: وسخرنا لسليمان الريح (عاصفة) أي: شديدة الهبوب. قال ابن عباس: إذا أراد أن تعصف الريح عصفت، وإذا أراد أن ترخي أرخيت. وذلك قوله: (رخاء حيث أصاب). (تجري بأمره) أي: بأمر سليمان (إلى الأرض التي باركنا فيها) وهي أرض الشام. لأنها كانت مأواه. وقد سبق ذكرها في هذه السورة. وقيل: كانت الريح تجري في الغداة مسيرة شهر، وفي الرواح كذلك. وكان يسكن
[ 106 ]
بعلبك، ويبنى له بيت المقدس، ويحتاج إلى الخروج إليها، وإلى غيرها. وقال وهب: وكان سليمان يخرج إلى مجلسه، فتعكف عليه الطير، ويقوم له الجن والإنس، حتى يجلس على سريره، ويجتمع معه جنوده، ثم تحمله الريح إلى حيث أراد. (وكنا بكل شئ عالمين) فإنما أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة. (ومن الشياطين من يغوصون له) أي: وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر، فيخرجون له الجواهر واللآلئ. والغوص: النزول إلى تحت الماء. (ويعملون عملا دون ذلك) أي: سوى ذلك من الأبنية كالمحاريب والتماثيل وغيرهما (وكنا لهم حافظين) لئلا يهربوا منه، ويمتنعوا عليه. وقيل: يحفظهم الله من أن يفسدوا ما عملوه، عن الفراء والزجاج. (وأيوب إذ نادى ربه) أي: واذكر يا محمد أيوب حين دعا ربه لما امتدت المحنة به (أني مسني الضر) أي: نالني الضر، وأصابني الجهد. (وأنت أرحم الراحمين) أي: ولا أحد أرحم منك. وهذا تعريض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء، وهو من لطيف الكنايات في طلب الحاجات، ومثله قول موسى: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). (فاستجبنا له) أي: أجبنا دعاءه ونداءه (فكشفنا ما به من ضر) أي: أزلنا ما به من الأوجاع والأمراض. (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال ابن عباس وأبن مسعود: رد الله سبحانه عليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم، وكذلك رد الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها، وأعطاه مثلها معها، وبه قال الحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إنه خير أيوب فاختار إحياء أهله في الآخرة، ومثلهم في الدنيا، فأوتي على ما اختار، عن عكرمة ومجاهد. قال وهب: وكان له سبع بنات وثلاثة بنين. وقال أبن يسار: سبعة بنين وسبع بنات. (رحمة من عندنا) أي: نعمة منا عليه (وذكرى للعابدين) أي: موعظة لهم في الصبر والإنقطاع إلى الله تعالى، والتوكل عليه، لأنه لم يكن في عصر أيوب أحد أكرم على الله منه، فابتلاه بالمحن العظيمة، فأحسن الصبر عليها. فينبغي لكل عاقل إذا أصابته محنة أن يصبر عليها، ولا يجزع، ويعلم أن عاقبة الصبر محمودة. (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل) أي: واذكر هؤلاء الأنبياء، وما أنعمت عليهم من فنون النعمة.
[ 107 ]
ثم قال (كل من الصابرين) صبروا على بلاء الله، والعمل بطاعته. فأما إسماعيل فإنه صبر ببلد لا زرع به ولا ضرع، وقام ببناء الكعبة. وأما إدريس فإنه صبر على الدعاء إلى الله، وكان أول من بعث إلى قومه، فدعاهم إلى الدين فأبوا، فأهلكهم الله تعالى، ورفعه إلى السماء السادسة. وأما ذو الكفل، فاختلف فيه فقيل: إنه كان رجلا صالحا، ولم يكن نبيا، " ولكنه تكفل لنبي بصوم النهار، وقيام الليل، وأن لا يغضب، ويعمل بالحق، فوفى بذلك، فشكر الله ذلك له، عن أبي موسى الأشعري وقتادة ومجاهد. وقيل: هو نبي إسمه ذو الكفل، عن الحسن قال: ولم يقص الله خبره مفصلا. وقيل: هو الياس، عن ابن عباس. وقيل: كان نبيا، وسمي ذا الكفل بمعنى أنه ذو الضعف، فله ضعف ثواب غيره ممن هو في زمانه، لشرف عمله، عن الجبائي. وقيل: هو اليسع بن خطوب الذي كان مع إلياس، وليس اليسع الذي ذكره الله في القرآن. تكفل لملك جبار، إن هو تاب دخل الجنة، ودفع إليه كتابا " بذلك، فتاب الملك، وكان اسمه كنعان، فسمي ذا الكفل. والكفل في اللغة هو الخط. وفي كتاب النبوة بالإسناد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام أسأله عن ذي الكفل، وما اسمه، وهل كان من المرسلين ؟ فكتب عليه السلام: إن الله بعث مائة ألف نبي، وأربعة وعشرين ألف نبي، المرسلين منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وإن ذا الكفل منهم، وكان بعد سليمان بن داود، وكان يقضي بين الناس، كما يقضي داود عليه السلام، ولم يغضب قظ إلا لله تعالى، وكان اسمه عدويا بن أدارين. (وأدخلناهم في رحمتنا) أي: وأدخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الأنبياء في نعمتنا، وأراد: غمرناهم بالرحمة. ولو قال رحمناهم لما أفاد ذلك، بل أفاد أنه فعل بهم الرحمة. (إنهم من الصالحين) أي: إنما أدخلناهم في رحمتنا، لانهم كانوا ممن صلحت أعمالهم. (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ 87 ] فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 88 ] وزكريا
[ 108 ]
إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين [ 89 ] فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [ 90 ]) القراءة: قرأ يعقوب: (فظن أن لن يقدر) بضم الياء. والباقون: (نقدر) بالنون وكسر الدال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر (نجي) بنون واحدة وتشديد الجيم. والباقون: (ننجي) بالنونين. الحجة: قوله (أن لن نقدر عليه) أن هذه مخففة من الثقيلة، وتقديره: ظن أنه لن نقدر عليه أي. لن نضيق عليه. ومن قرأ (لن يقدر عليه): فهو مثل الأول في المعنى بنى الفعل للمفعول به، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل. ومن قرأ (نجي المؤمنين) بنون واحدة قال أبو بكر السراج: هو وهم، لأن النون لا تدغم في الجيم، وانما خفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم، فحذفت في الكتابة، وهي في اللفظ ثابتة. قال أبو علي: والقول في ذلك إن عاصما ينبغي أن يكون قرأ بنونين، وأخفى الثانية، فظن السامع أنه مدغم، وكذلك غيره. المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة يونس عليه السلام فقال: (وذا النون) أي: واذكر ذا النون. والنون: الحوت، وصاحبها يونس بن متى (إذ ذهب) أي: حين ذهب (مغاضبا) لقومه، عن ابن عباس والضحاك. أي: مراغما لهم من حيث إنه دعاهم إلى الإيمان مدة طويلة، فلم يؤمنوا، حتى أوعدهم الله بالعذاب. فخرج من بينهم مغاضبا لهم، قبل أن يؤذن له (فظن أن لن نقدر عليه) أي: لن نضيق عليه، عن عطا وجماعة من المفسرين. وقيل: ظن أن لن نقضي عليه ما قضيناه، والقدر بمعنى القضاء، عن مجاهد وقتادة والكلبي والجبائي. قال الجبائي: ضيق الله عليه الطريق حتى ألجأه إلى ركوب البحر، ئم قذف فيه فابتلعته السمكة. ومن قال إنه خرج مغاضبا لربه، وإنه ظن أن لن يقدر الله على أخذه بمعنى أنه يعجز عنه، فقد أساء الثناء على الأنبياء. فإن مغاضبة الله كفر أو كبيرة عظيمة، وتجويز العجز على الله سبحانه كذلك، فكيف يجوز ذلك على نبي من أنبياء الله تعالى. وقال ابن زيد: إنه استفهام معناه التوبيخ، وتقديره فظن أن لن نقدر عليه.
[ 109 ]
وأنكره علي بن عيسى، وقال: لا يجوز حذف الإستفهام من غير دليل عليه. وقد جاء في كلام العرب حذفه على خلاف ما قاله. أنشد النحويون قول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا: تحبها. قلت: بهرا * عدد القطر، والحصى، والتراب (1) أي: أتحبها (فنادى في الظلمات) قيل: إنها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: كان حوت في بطن حوت، عن سالم بن أبي الجعد. (أن لا إله إلا أنت سبحانك) لما أراد السؤال والدعاء، قدم ذكر التوحيد والعدل. ثم قال: (إني كنت من الظالمين) أي: من الذين يقع منهم الظلم. وإنما قاله على سبيل الخشوع والخضوع، لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم. قال الجبائي: لم يكن يونس في بطن الحوت على جهة العقوبة من الله تعالى، لأن العقوبة عداوة للمعاقب، لكن كان ذلك على وجه التأديب، والتأديب يجوز للمكلف وغير المكلف، كتأديب الصبي وغيره، وبقاؤه في بطن الحوت حيا، معجزة له (فاستجبنا له ونجيناه من الغم) أي: من بطن الحوت (وكذلك ننجي المؤمنين) أي: ننجيهم إذا دعونا به، كما أنجينا ذا النون. ثم قال سبحانه: (وزكريا) أي: واذكر زكريا (إذ نادى ربه) ودعاه يا (رب لا تذرني فردا) بغير وارث ولا ولد يعينني على أمر الدين والدنيا في حياتي، ويرثني بعد وفاتي. (وأنت خير الوارثين) هذا ثناء على الله سبحانه بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه خير من بقي حيا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون ويبقى هو سبحانه. (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) روى الحرث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني من أهل بيت قد انقرضوا، وليس لي ولد ؟ فقال: ادع وأنت ساجد: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء)، (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) قال: ففعلت فولد لي علي والحسين. (وأصلحنا له زوجه) بأن كانت عقيمة، فجعلناها ولودا، عن قتادة. وقيل: كانت هرمة فرددنا عليها شبابها، عن أبي مسلم. وقيل: كانت سيئة الخلق، فجعلناها حسنة الخلق. (إنهم) يعني زكريا ويحيى. وقيل: معناه إن الأنبياء الذين تقدم ذكرهم (كانوا يسارعون في الخيرات) أي: يبادرون إلى الطاعات والعبادات. (1) قوله (بهرا) أي: بهرني بهرا بمعنى غلبني غلبة أي: أحبها حبا بهرني بهرا. (*)
[ 110 ]
(ويدعوننا رغبا ورهبا) أي: للرغبة والرهبة. رغبة في الثواب، ورهبة من العقاب. وقيل: راغبين وراهبين، عن الضحاك. وقيل: رغبا ببطون الأكف، ورهبا بظهور الأكف. (وكانوا لنا خاشعين) أي: متواضعين، عن ابن عباس. وقيل: الخشوع المخافة الثابتة في القلب، عن الحسن. وقيل: معناه إنهم قالوا حال النعمة: (اللهم لا تجعلها استدراجا)، وحال السيئة: (اللهم لا تجعلها عقوبة بذنب سلف منا). وفي قوله سبحانه (يسارعون في الخيرات) دلالة على أن المسارعة إلى كل طاعة مرغب فيها، وعلى أن الصلاة في أول الوقت أفضل. (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 91 ] إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [ 92 ] وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 93 ] فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون [ 94 ] وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 95 ]). القراءة: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: (وحرم) بكسر الحاء بغير ألف. والباقون: (وحرام) وهو قراءة الصادق عليه السلام. وفي الشواذ قراءة الحسن، وأبن أبي إسحاق: (أمة واحدة) بالرفع. وقرأ أبن عباس وقتادة: (وحرم) وفي رواية أخرى، عن ابن عباس: (وحرم) وهي قراءة عكرمة وأبي العالية. الحجة: قال أبو علي: حرم وحرام لغتان وكذلك حل وحلال، وكل واحد من حرم وحرام إن شئت رفعته بالإبتداء لاختصاصه بما جاء بعده من الكلام، وخبره محذوف وتقديره وحرام على قرية أهلكناها، بأنهم لا يرجعون، مقضي، أو ثابت، أو محكوم عليه. وإن شئت جعلته خبر مبتدأ محذوف، وجعلت لا زائدة. والمعنى: حرام على قرية أهلكناها رجوعهم، كما قال: (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون). وإن شئت جعلته خبر مبتدأ، وأضمرت مبتدأ كما ذكرت، ويكون المعنى حرام على قرية أهلكناها بالإستئصال رجوعهم لأنهم لا يرجعون، وتكون لا غير
[ 111 ]
زائدة. والمعنى: حرام عليهم أنهم ممنوعون من ذلك. وقال الزجاج: تقديره وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل، لأنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون أبدا، كما قال سبحانه (ختم الله على قلوبهم) الآية. فعلى هذا يكون حرام خبر مبتدأ محذوف، وهو قوله (أن يتقبل منهم عمل وأنهم لا يرجعون) في موضع نصب، لأنه مفعول له. فأما من قرأ (حرم على قرية): فإنه من حرم فهو حرم أي: قمر ماله، قال زهير: وإن أتاه خليل يوم مسغبة، * يقول: لا غائب مالي، ولا حرم (1) وأما حرم فمعناه ظاهر. ومن قرأ (أمة) بالرفع جعله بدلا من أمتكم. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. و (أمة) منصوبة على الحال. والعامل فيها معنى الإشارة. وذو الحال الأمة الأولى. وفي الحقيقة الحال الأولى قوله (واحدة) التي هي صفة الأمة، كقوله تعالى (قرآنا عربيا) والتقدير: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) أي: مجتمعة غير متفرقة. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم بقصة عيسى عليه السلام فقال: (والتي أحصنت فرجها) يعني مريم ابنة عمران أي: واذكر مريم التي حفظت فرجها وحصنته، وعفت وامتنعت من الفساد (فنفخنا فيها من روحنا) أي: أجرينا فيها روح المسيح، كما يجري الهواء بالنفخ. فأضاف الروح إلى نفسه على وجه الملك، تشريفا له في الإختصاص بالذكر. وقيل: إن معناه أمرنا جبرائيل فنفخ في جيب درعها، فخلقنا المسيح في رحمها. (وجعلناها وابنها آية للعالمين) إنما قال آية، ولم يقل آيتين، لأنه في موضع دلالة، فلا يحتاج إلى أن تثنى الآية فيهما، أنها جاءت به من غير فحل، فتكلم في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب. (إن هذه أمتكم امة واحدة) أي: هذا دينكم دين واحد، عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وأصل الأمة الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماعهم بها على مقصد واحد. وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى أي: فلا تكونوا إلا على دين واحد. قيل: معناه هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، فريقكم الذي يلزمكم الإقتداء بهم في حال اجتماعهم على الحق، كما (1) قوله (خليل) يعني به المحتاج الفقير المختل الحال. و (مغبة) بمعنى المجاعة. يصف رجلا بالجود. (*)
[ 112 ]
يقال هؤلاء أمتنا أي: فريقنا وموافقونا على مذهبنا. (وأنا ربكم) الذي خلقكم (فاعبدوني) ولا تشركوا بي شيئا. ثم ذكر اليهود والنصارى بالإختلاف فقال: (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي: فرقوا دينهم فيما بينهم، يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، عن الكلبي وأبن زيد. والتقطع هذا بمنزلة التقطيع. ثم قال مهددا لهم: (كل إلينا راجعون) أي: كل ممن أجتمع وأفترق راجع إلى حكمنا في الوقت الذي لا يقدر على الحكم سوانا، فنجازيهم بأعمالهم (فمن يعمل من الصالحات) التقدير: فمن يعمل من الصالحات شيئا، مثل صلة الرحم، ومعونة الضعيف، ونصر المظلوم، والتنفيس عن المكروب، وغير ذلك من أنواع الطاعات (وهو مؤمن) شرط الإيمان لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله تعالى (فلا كفران لسعيه) أي. فلا جحود لإحسانه في عمله، بل يشكر ويثاب عليه. (وإنا له كاتبون) أي: نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك ويثبتوه، فلا يضيع منه شئ. وقيل: كاتبون أي: ضامنون جزاءه حتى نوفر على عاملها مجموعه. ومنه الكتيبة: لأنه ضم رجال إلى رجال (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) إختلف في معناه على وجوه أحدها أن لا مزيدة، والمعنى: حرام على قرية مهلكة بالعقوبة، أن يرجعوا إلى دار الدنيا، عن الجبائي. وقيل: إن معناه واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها، عن قتادة وعكرمة والكلبي. قال عطا: يريد حتم مني، والمراد: إن الله تعالى كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما. وفي ذلك تخويف لكفار مكة بأنهم إن عذبوا وأهلكوا، لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة. وقد جاء الحرام بمعنى الواجب في شعر الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوة إلا بكيت على صخر (1) وثانيها: إن معناه حرام على قرية وجدناها هالكة بالذنوب، أن يتقبل منهم عمل، لأنهم لا يرجعون إلى التوبة. وثالثها: إن معناه حرام أن لا يرجعوا بعد الممات، بل يرجعون أحياء للمجازاة، عن أبي مسلم. وروى محمد بن مسلم، (1) الشجوة: الحزن. وفي نسخة مخطوطة وكذا في اللسان (على عمرو) مكان (على صخر) ونسب البيت في اللسان إلى عبد الرحمن المحاربي. (*)
[ 113 ]
عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب، فإنهم لا يرجعون. (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون [ 96 ] واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين [ 97 ] إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 98 ] لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 99 ] لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون [ 100 ] إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ 101 ] لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [ 102 ] لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 103 ]). القراءة: قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب: (فتحت) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقد ذكرنا اختلافهم في يأجوج ومأجوج في سورة الكهف. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود: (من كل حدث) وقراءة ابن السميفع (حصب جهنم) ساكنة الصاد، وقراءة ابن عباس (حضب) بالضاد مفتوحة. وقراءة علي عليه السلام وعائشة وابن الزبير وأبي بن كعب وعكرمة (حطب) بالطاء. الحجة: من خفف (فتحت) فلأن الفعل في الظاهر مسند إلى هذين الإسمين، وأراد فتح سد يأجوج ومأجوج. ومن شدد حمله على الكثرة، فهو مثل (مفتحة لهم الأبواب). والجدث: القبر بلغة الحجاز. والجدف بالفاء بلغة تميم. وفي الحطب لغات وحطب وحصب بالصاد، وخضب بالضاد، ولا يقال حصب بالصاد، إلا إذا ألقي في التنور، أو في الموقد. وقال أحمد بن يحيى: أصل الحصب الرمي، حطبا كان أو غيره. قال الأعشى:
[ 114 ]
فلاتك في حربنا محصبا * لتجعل قومك شتى شعوبا (1) فأما الحصب ساكنا بالصاد والضاد فالطرح، فهو مصدر وقع موقع اسم المفعول كالخلق والصيد بمعنى المخلوق والمصيد. اللغة: الحدب: الإرتفاع من الأرض بين الإنخفاض. والحدبة: خروج الظهر، ورجل أحدب. والنسول. الخروج عن الشئ الملابس يقال: نسل ينسل وينسل، قال امرؤ القيس: فإن يك قد ساءتك مني خليقة * فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي (2) ونسل ريش الطائر: إذا سقط. وقيل: النسول الخروج بإسراع نحو نسلان الذئب، قال: نسلان الذئب أمسى قاربا * برد الليل عليه فنسل وشخص المسافر شخوصا: إذا خرج من منزله. وشخص من بلد إلى بلد، وشخص بصره: إذا نظر إليه. كأنه خرج إليه. والحسيس والحس: الحركة. الاعراب: (واقترب الوعد) قال الفراء: معنى الواو الطرح، والمعنى. إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق. قال الزجاج. الواو لا يجوز أن يطرح عند البصريين، وجواب إذا عندهم قوله (يا ويلنا) وها هنا قول محذوف أي: قالوا يا ويلنا. وقوله (فإذا هي شاخصة): إذا ظرف مكان، والعامل فيه (شاخصة) وهي ضمير القصة في محل رفع بالإبتداء. و (أبصار الذين كفروا): مبتدأ آخر. و (شاخصة) خبر مقدم. والجملة خبر هي. وقيل: إن تمام الكلام عند قوله هي وتقديره فإذا هي بارزة واقعة، يعني أنها من قربها كأنها وقعت. ثم ابتدأ فقال: (شاخصة أبصار الذين كفروا) على تقديم الخبر على المبتدأ. المعنى: لما تقدم أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، وعدهم بالرجوع إلى الآخرة، وبين علامة ذلك، فقال: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) أي: فتحت جهتهم، (1) الإحصاب: إثارة الحصاء وهو كناية عن إثارة الفتنة. (2) كان امرؤ القيس مفركا لا تحبه النساء، ولا تكاد امرأة تصبر معه، يخاطب في هذا البيت امرأة ويقول لها: إن ساءك خلقي فانزعي نفسي من نفسك. (*)
[ 115 ]
والمعنى انفرج سد يأجوج ومأجوج بسقوط أو هدم أو كسر، وذلك من أشراط الساعة. (وهم من كل حدب ينسلون) أي: وهم يريد يأجوج ومأجوج من كل نشز من الأرض يسرعون، عن قتادة وابن مسعود والجبائي وأبي مسلم. يعني أنهم يتفرقون في الأرض، فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين. وقيل: إن قوله هم كناية عن الخلق، يخرجون من قبورهم إلى الحشر، عن مجاهد. وكان يقرأ (من كل جدث) يعني القبر. ويدل عليه قوله (فإذا هم من الأجداث) إلى ربهم ينسلون. (واقترب الوعد الحق) أي: الموعود الصدق ومعناه: اقترب قيام الساعة (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) معناه: فإذا القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي: لا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله، ينظرون إلى تلك الأهوال، عن الكلبي. (يا ويلنا) أي: يقولون يا ويلنا (قد كنا في غفلة من هذا) اشتغلنا بأمور الدنيا وغفلنا عن هذا اليوم، فلم نتفكر فيه (بل كنا ظالمين) بأن عصينا الله تعالى، وعبدنا غيره. ثم قال سبحانه (إنكم وما تعبدون من دون الله) يعني الأصنام (حصب جهنم) أي: وقودها، عن ابن عباس. وقيل: حطبها، عن مجاهد وقتادة وعكرمة. وأصل الحصب: الرمي، فالمراد: أنهم يرمون فيها كما يرمى بالحصباء، عن الضحاك وأبي مسلم. ويسأل على هذا فيقال: إن عيسى عليه السلام قد عبد والملائكة قد عبدوا ؟ والجواب: إنهم لا يدخلون في الآية، لأن ما لما لا يعقل، ولأن الخطاب لأهل مكة، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فإن قيل. فأي فائدة في إدخال الأصنام النار ؟ قيل: يعذب بها المشركون الذين عبدوها، فتكون زيادة في حسرتهم وغمهم. ويجوز أن يرمى بها في النار توبيخا للكفار حيث عبدوها، وهي جماد لا تضر ولا تنفع. وقيل: إن المراد بقوله (وما يعبدون من دون الله الشياطين) دعوهم إلى عبادة غير الله فأطاعوهم، كما قال: (يا أبت لا تعبد الشيطان). (أنتم لها واردون) خطاب للكفار أي: أنتم في جهنم داخلون. وقيل: إن معنى لها إليها لقوله (بأن ربك أوحى لها) أي إليها (لو كان هؤلاء) الأصنام والشياطين (آلهة) كما تزعمون (ما وردوها) أي: ما دخلوا النار، ولامتنعوا منها. (وكل) من العابد والمعبود (فيها) أي: في النار (خالدون) دائمون (لهم فيها
[ 116 ]
زفير) أي: صوت كصوت الحمار، وهو شدة تنفسهم في النار عند إحراقها لهم. (وهم فيها لا يسمعون) أي: لا يسمعون ما يسرهم، ولا ما ينتفعون به. وإنما يسمعون صوت المعذبين، وصوت الملائكة الذين يعذبونهم، ويسمعون ما يسوؤهم، عن الجبائي. وقيل: يجعلون في توابيت من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره، عن عبد الله بن مسعود. قالوا: ولما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن الزبعرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا محمد ! ألست تزعم أن عزيرا رجل صالح، وأن عيسى عليه السلام رجل صالح، وأن مريم أمرأة صالحة ؟ قال: بلى. قال: فإن هؤلاء يعبدون من دون الله فهم في النار ! فأنزل الله هذه الآية. (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) أي: الموعدة بالجنة. وقيل: الحسنى السعادة، عن ابن زيد. وكأنه يذهب إلى الكلمة بأنه سيسعد أو إلى العدة لهم على طاعتهم، فأنث الحسنى. (أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها) أي: يكونون بحيث لا يسمعون صوتها الذي يحس (وهم فيما اشتهت أنفسهم) من نعيم الجنة وملاذها (خالدون) أي: دائمون. والشهوة: طلب النفس اللذة، يقال: إشتهى شهوة. وقيل: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى: عيسى وعزير ومريم، والملائكة الذين عبدوا من دون الله وهم كارهون، استثناهم من جملة ما يعبدون من دون الله، عن الحسن ومجاهد. وقيل: إن الاية عامة في كل من سبقت له الموعدة بالسعادة. (لا يحزنهم الفزع الأكبر) أي: الخوف الأعظم وهو عذاب النار إذا أطبقت على أهلها، عن سعيد بن جبير وابن جريج. وقيل: هو النفخة الأخيرة لقوله (ونفخ في الصور) ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، عن ابن عباس، وقيل. هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، عن الحسن. وقيل: هو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، وينادى: يا أهل الجنة ! خلود ولا موت. ويا أهل النار ! خلود ولا موت. وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة على كثبان من مسك، لا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يكترثون للحساب: رجل قرأ القرآن محتسبا، ثم أم به قوما محتسبا، ورجل أذن محتسبا، ومملوك أدى حق الله، عز وجل، وحق مواليه). (وتتلقاهم الملائكة) أي: تستقبلهم الملائكة بالتهنئة، يقولون لهم: (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) في الدنيا، فأبشروا بالأمن والفوز.
[ 117 ]
(يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 104 ] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون [ 105 ] إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [ 106 ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 107 ] قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 108 ] فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون 109 * إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون [ 110 ] وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [ 111 ] قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون [ 112 ]). القراءة: قرأ أبو جعفر: (تطوي) بالتاء والضم (السماء) بالرفع. والباقون: (نطوي) بالنون (السماء) بالنصب. وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: (للكتب) على الجمع. والباقون. (للكتاب). وقرأ حفص: (قال رب). والباقون: (قل ربي). وقرأ أبو جعفر. (رب إحكم) بضم الباء. وقرأ زيد عن يعقوب. (ربي إحكم) وهو قراءة ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن. والباقون: (رب إحكم). وفي الشواذ قراءة الحسن: (كطي السجل) بسكون الجيم. وقراءة أبي زرعة بن عمرو. (السجل) بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقراءة أبي السماك: (السجل) بفتح السين وسكون الجيم. الحجة: من قرأ (يوم تطوى السماء) فبنى الفعل للمفعول به. ومن قرأ (يوم نطوي السماء) فالفاعل هو الله سبحانه، والمعنى واحد. وفي انتصاب يوم وجهان عند أبي علي أحدهما: أن يكون بدلا من الهاء المحذوفة من الصلة، ألا ترى أن المعنى هذا يومكم الذي توعدونه، والآخر: أن يكون منتصبا بنعيده، والمعنى: نعيد الخلق إعادة كابتدائه أي: كابتداء الخلق. ومثله في المعنى: (كما بدأكم تعودون)، وتقديره. كما بدأ خلقكم يعود خلقكم، فحذف المضاف في
[ 118 ]
الموضعين، وأقام المضاف إليه مقامه، والمعنى: يعود خلقكم عودا كبدئه، ومثله في المعنى (كما بدأنا أول خلق نعيده). ومن أفرد الكتاب ولم يجمع فإنه واحد يراد به الكثرة. ومن قرأ (للكتب) فإن المراد به الجمع. ومن قرأ (قال رب) أراد قال الرسول. ومن قرأ (قل) فهو على قل أنت يا محمد. وقراءة أبي جعفر (رب إحكم) معناه يا رب إحكم، وهي ضعيفة عند النحويين البصريين. وقد جاء مثله في المثل وهو قولهم: (أصبح ليل وأطرق كروان وافتد مخنوق) أي: يا ليل، ويا كروان، ويا مخنوق. وقد جاء في الشعر، وهو: عجبت لعطار أتانا يسومنا * بدسكرة المران دهن البنفسج (1) فقلت له. عطار هلا أتيتنا * بنور الخزامى، أو بخوصة عرفج أرأد يا عطار. ومن قرأ (رب إحكم) فالمعنى ظاهر. الاعراب: الكاف في قوله (كطي السجل) في محل النصب، لأنه صفة مصدر محذوف تقديره: نطوي السماء طيا، مثل طي السجل. فإن السجل إسما للصحيفة، فالمصدر الذي هو طي، مضاف إلى المفعول في المعنى. وإن كان إسم ملك، أو كاتب، فهو مضاف إلى الفاعل في المعنى. فإن كان مفعولا كان اللام بمعنى من أجل. وإن كان فاعلا كان اللام للإختصاص. (وعدا علينا): منصوب على المصدر. قال الزجاج: لأن قوله (نعيده) بمعنى قد وعدنا ذلك. والأجود أن يقدر عاملا محذوفا، لأن القراء يقفون على قوله (نعيده) قال جامع العلوم: الكاف في (كما بدأنا) من صلة (نعيده)، وإن كان متقدما. ومثله كما علمه الله فليكتب. (رحمة للعالمين): نصب على الحال، أو على أنه مفعول له. و (أنما إلهكم إله واحد): في محل رفع بإسناد يوحى إليه، وقيامه مقام الفاعل. و (على سواء). في موضع نصب على الحال من الفاعلين والمفعولين، والتقدير: أذنتكم واستوينا نحن وأنتم. فيكون الحال من الفريقين. (ما توعدون): في موضع رفع بأنه فاعل (قريب) لأنه اعتمد على همزة الإستفهام، فهو كقولهم أقائم أخوك. ويجوز أن يكون مبتدأ و (قريب) خبره وعلى الوجهين فهما مفعولا (أدري) أي: أعلم علقتهما همزة الإستفهام، والتقدير: أقريب ما توعدون أم بعيد. فبعيد عطف على قريب، (1) الدسكرة. بناء على هيئة القصر فيه بناء للخدم والحشم. ومران: موضع. وخزامي: نبت طيب الريح كذا العرفج. (*)
[ 119 ]
والنية فيه التأخير. (وإن أدري لعله فتنة لكم): مفعول (أدري) محذوف، والتقدير: ما أدري كيف يكون الحال. المعنى: (يوم نطوي السماء) المراد بالطي هنا: هو الطي المعروف، وأن الله سبحانه يطوي السماء بقدرته. وقيل: إن طي السماء ذهابها عن الحس (كطي السجل للكتب) والسجل: صحيفة فيها الكتب، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي. وعلى هذا فمعناه نطويها كما تطوى الصحيفة المجعولة للكتاب. ويجوز أن يكون المراد بالكتاب المكتوب. وقيل: إن السجل ملك يكتب أعمال العباد، عن أبي عمرو والسدي. وقيل: هو ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه، عن عطا. وقيل: هو إسم كاتب كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس في رواية. (كما بدأنا أول خلق نعيده) أي: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم، حفاة عراة غرلا (1)، كذلك نعيدهم، روي ذلك مرفوعا. وقيل: نبعث الخلق كما ابتدأناه أي: قدرتنا إلى الإعادة كقدرتنا على الإبتداء، عن الحسن والزجاج. وقيل: معناه نهلك كل شئ كما كان أول مرة، عن ابن عباس، (وعدا علينا) أي: وعدناكم ذلك وعدا (إنا كنا فاعلين) ما وعدناكم من ذلك (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) قيل فيه أقوال أحدها: إن الزبور كتب الأنبياء، ومعناه: كتبنا في الكتب التي أنزلناها على الأنبياء من بعد كتابته في الذكر أي: أم الكتاب الذي في السماء، وهو اللوح المحفوظ، عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد، وهو اختيار الزجاج قال: لأن الزبور والكتاب بمعنى واحد، وزبرت: كتبت. وثانيها: إن الزبور الكتب المنزلة بعد التوراة، والذكر هو التوراة، عن ابن عباس والضحاك وثالثها: إن الزبور زبور داود، والذكر توراة موسى، عن الشعبي، وروي عنه أيضا أن الذكر القرآن وبعد بمعنى قبل. (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قيل: يعني أرض الجنة يرثها عبادي المطيعون، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن زيد، فهو مثل قوله. (وأورثنا الأرض)، وقوله. (الذين يرثون الفردوس). وقيل: هي الأرض المعروفة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفتوح بعد إجلاء الكفار، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). عن ابن عباس في رواية (1) الغرل جمع الأغرل: الأقلف وهو الذي لم يختن. (*)
[ 120 ]
أخرى. وقال أبو جعفر عليه السلام: هم أصحاب المهدي عليه السلام في آخر الزمان. ويدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما قد ملئت ظلما وجورا ". وقد أورد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى حدثنا بجميعها عنه حافده أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد في شهور سنة ثماني عشرة وخمسمائة، ثم قال في آخر الباب: فأما الحديث الذي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد، عن محمد بن خالد الجندي، عن إبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الناس إلا شحا، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا تقوم الساعة إلا على أشرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم " فهذا حديث تفرد به محمد بن خالد الجندي. قال أبو عبد الله الحافظ: ومحمد بن خالد رجل مجهول، واختلف عليه في إسناده، فرواه مرة عن إبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومرة عن إبان بن أبى عياش، وهو متروك، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منقطع. والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي عليه السلام أصح إسنادا، وفيها بيان كونه من عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا لفظه. ومن جملتها ما حدثنا أبو الحسن حافده عنه قال: أخبرنا أبو علي الروذباري قال: أخبرنا أبو بكر بن داسة قال: حدثنا أبو داود السجستاني في كتاب السنن، عن طرق كثيرة ذكرها ثم قال كلهم عن عاصم المقري، عن زيد، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث فيه رجلا مني، أو من أهل بيتي " وفي بعضها. " يواطئ إسمه إسمي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا ". وبالإسناد قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثني عبد الله بن جعفر الرقي قال: حدثني أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن علي بن نفيل: عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " المهدي من عترتي من ولد فاطمة عليها السلام ". (إن في هذا) يعني إن في الذي أخبرناكم به مما توعدنا به الكفار من النار
[ 121 ]
والخلود فيها، وما وعدنا به المؤمنين من الجنة، والكون فيها. وقيل. معناه إن في هذا القرآن ودلائله (لبلاغا) أي: كفاية ووصلة إلى البغية. والبلاغ: سبب الوصول إلى الحق (لقوم عابدين) لله مخلصين له. قال كعب: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، سماهم عابدين. (وما أرسلناك) يا محمد (إلا رحمة للعالمين) أي: نعمة عليهم. قال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والمسخ، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبرائيل لما نزلت هذه الآية: " هل أصابك من هذه الرحمة شئ ؟ قال. نعم إني كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لما أثنى الله علي بقوله (ذي قوة عند ذي العرش مكين) " وقد قال: " إنما أنا رحمة مهداة ". وقيل: إن الوجه في أنه نعمة على الكافر أنه عرضه للإيمان والثواب الدائم، وهداه وإن لم يهتد كمن قدم الطعام إلى جائع فلم يأكل، فإنه منعم عليه، وإن لم يقبل. وفي الآية دلالة على بطلان قول أهل الجبر في أنه ليس لله على الكافر نعمة، لأنه سبحانه بين أن في إرسال محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على العالمين، وعلى كل من أرسل إليهم. ثم قال له عليه السلام: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) أي: مستسلمون منقادون لذلك، بأن تتركوا عبادة غير الله. وقيل معناه الأمر أي أسلموا كقوله (فهل أنتم منتهون) أي: أنتهوا. (فإن تولوا) أي: أعرضوا، ولم يسلموا (فقل آذنتكم) أي: أعلمتكم بالحرب (على سواء) أي: إيذانا على سواء إعلاما نستوي نحن وأنتم في علمه، لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم. ومثله قوله: (فانبذ إليهم على سواء) وقيل: معناه أعلمتكم بما يجب الإعلام به على سواء في الإيذان، لم أبين الحق لقوم دون قوم، ولم أكتمه لقوم دون قوم. وفي هذا دلالة على بطلان قول أصحاب الرموز، وأن للقرآن بواطن خص بالعلم بها أقوام (وإن أدري) أي: وما أدري (أقريب أم بعيد ما توعدون) يعني أجل يوم القيامة. فإن الله تعالى هو العالم بذلك. وقيل: معناه آذنتكم بالحرب، ولا أدري متى أؤذن فيه. (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم مما تكتمون) أي: أن الله يعلم السر والعلانية (وإن أدري) أي: وما أدري (لعله) كناية عن غير مذكور (فتنة لكم) أي: لعل ما آذنتكم به اختبار لكم،
[ 122 ]
وشدة تكليف، ليظهر صنيعكم، عن الزجاج. وقيل: لعل هذه الدنيا فتنة لكم، عن الحسن. وقيل: لعل تأخير العذاب محنة واختبار لكم، لترجعوا عما أنتم عليه. (ومتاع إلى حين) أي: تتمتعون به إلى وقت انقضاء آجالكم (قل رب احكم بالحق) أي: فوض أمورك يا محمد إلى الله، وقل: يا رب احكم بيني وبين من كذبني بالحق. قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا شهد قتالا قال: رب احكم بالحق أي: أفصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع. وقيل: معناه أحكم بحكمك الحق، وهو إظهار الحق على الباطل. (وربنا الرحمن) الذي يرحم عباده (المستعان) الذي يعينهم في أمورهم. فجمع بين الرحمة والمعونة اللتين تضمنتا أصول النعم (على ما تصفون) من كذبكم وباطلكم في قولكم: (هل هذا إلا بشر مثلكم)، وقولكم: (اتخذ الرحمن ولدا) وقيل: معناه وربنا الرحمن المستعان على دفع ما تصفون.
[ 123 ]
سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون مكية عن ابن عباس وعطا، إلا آيات. قال الحسن: هي مدنية غير آيات نزلت في السفر. وقال بعضهم: غير ست آيات. وقال بعضهم: غير أربع. عدد ايها: ثمان وسبعون آية كوفي، سبع مكي، وست مدني، خمس بصري، أربع شامي. اختلافها: خمس آيات الحميم والجلود كلاهما كوفي، وعاد وثمود غير الشامي، وقوم لوط حجازي كوفي، سماكم المسلمين مكي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها، وعمرة اعتمرها، بعدد من حج واعتمر فيما مضى، وفيما بقي. وقال أبو عبد الله عليه السلام: من قرأها في كل ثلاثة أيام، لم يخرج من سنته حتى يخرج إلى بيت الله الحرام، وإن مات في سفره دخل الجنة. تفسيرها: لما ختم الله سورة الأنبياء بالدعاء إلى التوحيد، والإعلام بأن نبيه رحمة للعالمين، إفتتح هذه السورة بخطاب المكلفين ليتقوا الشرك، ومخالفة الدين فقال: بسم الله الرحمن الرحيم * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم [ 1 ] يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 2 ]
[ 124 ]
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد [ 3 ] كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 4 ] يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 5 ]). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (سكرى وما هم بسكرى) والباقون: (سكارى) في الموضعين، وفي الشواذ قراءة الأعرج والحسن بخلاف: (سكرى) بضم السين، وقرأ أبو جعفر: (وربأت) بالهمزة ها هنا وفي حم. والباقون: (وربت). الحجة: قالوا رجل سكران وامرأة سكرى، والجمع سكارى وسكارى، بضم السين وفتحها، إلا أن القراءة بالضم. وأما سكرى في الجمع فهو مثل صرعى وجرحى، وذلك لأن السكر كأنه علة لحقت عقولهم، كما أن الصرع والجرح علة لحقت أجسامهم. وفعلى مختص في الجمع بالمبتلين كالمرضى والهلكى. وأما سكرى بالضم فيجوز أن يكون إسما مفردا على فعلى بمعنى الجمع وأما قوله (ربت): فهو من ربا يربو: إذا زاد. وأما الهمز فمن ربأت القوم: إذا أشرفت عليهم عاليا، لتحفظهم. وهذا كأنه ذهب إلى علو الأرض لما فيها من إفراط الربو. فإذا وصف علوها دل على أن الزيادة شاعت فيها. اللغة: الزلزلة والزلزال: شدة الحركة على الحال الهائلة. وقيل: إن أصله زل فضوعف للمبالغة. وأثبته البصريون قالوا: إن زل ثلاثي، وزلزل رباعي، وإن اتفق بعض الحروف في الكلمتين، لأنه لا يمتنع مثل هذا. ألا ترى أنهم يقولون دمث ودمثر، وسبط وسبطر، وليس أحدهما مأخوذا من الآخر، وإن كان معناهما واحدا، لأن الزاي ليست من حروف الزيادة. والزلزال بالفتح: الإسم. قال الشاعر:
[ 125 ]
يعرف الجاهل المضلل أن الد * هر فيه النكراء، والزلزال والذهول: الذهاب عن الشئ دهشا وحيرة. يقال: ذهل عنه يذهل ذهولا وذهلا بمعنى. والذهل: السلو. قال: " صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل " (1). والحمل بفتح الحاء. ما كان في بطن أو على رأس شجرة. والحمل بكسر الحاء: ما كان على ظهر، أو على رأس. والمريد: المتجرد للفساد. وقيل: إن أصله الملاسة، فكأنه متملس من الخير. ومنه صخرة مرداء أي: ملساء. ومنه الأمرد والممرد من البناء: المتطاول المتجاوز. والمضغة. مقدار ما يمضغ من اللحم. والهمود: الدروس والدثور. قال الأعشى: قالت قتيلة: ما لجسمك شاحبا، * وأرى ثيابك باليات همدا (2) والبهيج: الحسن الصورة. الاعراب: العامل في (يوم ترونها) قوله (تذهل) أي: تذهل كل مرضعة في هذا اليوم عما أرضعته، ويجوز أن يكون (ما) مصدرية، فيكون التقدير: تذهل كل مرضعة في هذا اليوم عن إرضاعها ولدها. ومفعول أرضعت محذوف على الوجهين. ومرضعة جار على الفعل، يقال: امرأة مرضع أي. ذات إرضاع أرضعت ولدها، أو أرضعته غيرها. ومرضعة ترضع. قال امرؤ القيس: ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع، * فألهيتها عن ذي تمائم محول (3) و (سكارى): نصب على الحال. وإن جعلت (ترى) بمعنى الظن، فهو المفعول الثاني له. (كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله): الهاء في (عليه) يعود إلى الشيطان. والهاء في (أنه) يحتمل وجهين أن يكون ضمير الأمر والشأن، وأن يكون عائدا إلى الشيطان. وإنما فتحت أن في قوله (فأنه يضله) على أحد وجهين: أن يكون عطفا على الأولى للتأكيد، والمعنى: كتب عليه أنه من تولاه يضله. (1) (عز) مرخم عزة: علم امرأة. (2) الشاحب: المتغير اللون من هزل، أو مرض، أو سفر. (3) هذا بيت من معلقته المشهورة. يقول فرب أمرأة حبلى، وامرأة ذات رضيع، أتيتها ليلا فشغلتها عن ولدها الذي علقت عليه العوذ، وقد أتى عليه حول كامل، فخدعت مثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما، فكيف تتخلصين عني ؟ (*)
[ 126 ]
وتأويله: كتب على الشيطان إضلال متوليه وهدايتهم إلى عذاب السعير. وهذا قول الزجاج، وفيه نظر، لأن الأصل في التوكيد أن لا يدخل حرف العطف بين المؤكد والمؤكد. فالقول الصحيح فيه أن يكون على معنى فالشأن أنه يضله. فيكون مبنيا على مبتدأ مضمر. (ونقر): مرفوع بالعطف على (خلقناكم)، أو للإستئناف. ويكون خبر مبتدأ محذوف أي: ونحن نقر. و (ما نشاء): يجوز أن يكون مفعول (نقر). ويجوز أن يكون ظرف زمان. ويكون مفعول (نقر) محذوفا، وتقديره. ونقر في الأرحام الولد مدة مشيئتنا. و (طفلا): منصوب على الحال. (ثم لتبلغوا) أي. لأن تبلغوا. والجار والمجرور معطوف على محذوف تقديره لترضعوا وتشبوا، ثم لتبلغوا أشدكم. (لكيلا يعلم) إذا اجتمع اللام بمعنى كي مع كي فالحكم للام. وكي: يكون بمعنى أن واللام يتعلق بيرد. النزول: قال عمران بن الحصين، وأبو سعيد الخدري: نزلت الآيتان من أول السورة ليلا في غزاة بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، والناس يسيرون، فنادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأها عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة. فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام، والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتدرون أي يوم ذاك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذاك يوم يقول الله تعالى لآدم: إبعث بعث النار من ولدك. فيقول آدم: من كم وكم ؟ فيقول الله عز وجل. من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة. فكبر ذلك على المسلمين، وبكوا، وقالوا: فمن ينجو يا رسول الله ؟ فقال: أبشروا فإن معكم خليقتين يأجوج ومأجوج، ما كانتا في شئ إلا كثرتاه. ما أنتم في الناس إلا كشعرة بيضاء في الثور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر، أو كشامة في جنب البعير. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، ثمانون منها امتي. ثم قال: ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب. وفي بعض الروايات أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله ! سبعون ألفا ؟ قال: نعم، ومع كل واحد سبعون ألفا. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول
[ 127 ]
الله ! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: اللهم اجعله منهم. فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: سبقك بها عكاشة. قال ابن عباس: كان الأنصاري منافقا، فلذلك لم يدع له. المعنى: خاطب الله سبحانه جميع المكلفين فقال: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) معناه: يا أيها العقلاء المكلفون ! اتقوا عذاب ربكم، واخشوا معصية ربكم، كما يقال: إحذر الأسد، والمراد إحذر افتراسه، لا عينه. (إن زلزلة الساعة) أي: زلزلة الأرض يوم القيامة، عن ابن عباس والحسن والسدي. والمعنى: أنها تقارن قيام الساعة وتكون معها. وقيل: إن هذه الزلزلة قبل قيام الساعة، وإنما أضافها إلى الساعة، لأنها من أشراط ظهورها، وآيات مجيئها، عن علقمة والشعبي. (شئ عظيم) أي: أمر عظيم هائل، لا يطاق. وقيل: معناه إن شدة يوم القيامة أمر صعب. وفي هذا دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا، فإن الله سبحانه سقاها شيئا، وهي معدومة. (يوم ترونها) معناه: يوم ترون الزلزلة، أو الساعة (تذهل كل مرضعة عما أرضعت) أي: تشغل كل مرضعة عن ولدها وتنساه. وقيل: تسلو عن ولدها (وتضع كل ذات حمل حملها) أي: تضع الحبالى ما في بطونها. وفي هذا دلالة على أن الزلزلة تكون في الدنيا، فإن الرضاع، ووضع الحمل، إنما يتصور في الدنيا. قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. ومن قال: إن المراد به يوم القيامة قال: إنه تهويل لأمر القيامة، وتعظيم لما يكون فيه من الشدائد أي: لو كان ثم مرضعة لذهلت، أو حامل لوضعت، وإن لم يكن هناك حامل، ولا مرضعة. (وترى الناس سكارى) من شدة الخوف والفزع (وما هم بسكارى) من الشراب. وقيل: معناه كأنهم سكارى من ذهول عقولهم، لشدة ما يمر بهم، لأنهم يضطربون اضطراب السكران. ثم علل سبحانه ذلك فقال: (ولكن عذاب الله شديد) فمن شدته يصيبهم ما يصيبهم (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) هذا إخبار عن المشركين الذين يخاصمون في توحيد الله سبحانه، ونفي الشرك عنه، بغير علم منهم، بل للجهل المحض. وقيل: إن المراد به النضر بن الحرث، فإنه كان كثير الجدال، وكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكر
[ 128 ]
البعث. (ويتبع كل شيطان مريد) يغويه عن الهدى، ويدعوه إلى الضلال، وان كان المراد بالآية النضر بن الحرث فالمراد بالشيطان المريد: شيطان الإنس، لأنه كان يأخذ من الأعجام واليهود ما يطعن به على المسلمين. (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله) معناه: إنه يتبع كل شيطان كتب الله على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ أنه يضل من تولاه، فكيف يتبع مثله، ويعدل بقوله عمن دعاه إلى الرحمة. وقيل: معناه كتب على الشيطان أنه من تولاه أضله الله تعالى. وقيل: معناه كتب على المجادل بالباطل أن من اتبعه وولاه يضله عن الدين. (ويهديه إلى عذاب السعير) ثم ذكر سبحانه الحجة في البعث لأن أكثر الجدال كان فيه فقال: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب) أي: في شك (من البعث) والنشور. والريب: أقبح الشك (فإنا خلقناكم من تراب) معناه: فالدليل على صحته أنا خلقنا أصلكم، وهو آدم عليه السلام من تراب. فمن قدر على أن يصير التراب بشرا سويا حيا في الإبتداء قدر على أن يحيي العظام ويعيد الأموات. (ثم من نطفة) معناه: ثم خلقنا أولاده ونسله من نطفة في أرحام الأمهات. وهي الماء القليل يكون من الذكر والأنثى، وكل ماء صاف فهو نطفة، قل أم كثر (ثم من علقة) بأن تصير النطفة علقة: وهي القطعة من الدم الجامد (ثم من مضغة) أي: شبه قطعة من اللحم ممضوغة. فإن معنى المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم. (مخلقة وغير مخلقة) أي: تامة الخلق، وغير تامة، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: مصورة وغير مصورة، وهي ما كان سقطا لا تخطيط فيه ولا تصوير، عن مجاهد (لنبين لكم) معناه: لندلكم على مقدورنا بتصريفكم في ضروب الخلق، أو لنبين لكم أن من قدر على الإبتداء، قدر على الإعادة، أو لنبين لكم ما يزيل ريبكم فحذف المفعول. (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) معناه: ونبقي في أرحام الأمهات ما نشاء إلى وقت تمامه، عن مجاهد. وقيل: ونقر من قدرنا له أجلا مسمى في رحم أمه إلى أجله (ثم نخرجكم طفلا) أي: نخرجكم من بطون أمهاتكم وأنتم أطفال. والطفل: الصغير من الناس. وإنما وحد والمراد به الجمع، لأنه بمعنى المصدر، كقولهم: رجل عدل، ورجال عدل. وقيل: أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. (ثم لتبلغوا أشدكم) وهو حال اجتماع العقل والقوة وتمام الخلق. وقيل: هو
[ 129 ]
وقت الإحتلام والبلوغ. وقد سبق تفسير الأشد، واختلاف العلماء في معناه (ومنكم من يتوفى) أي: قبل بلوغ الأشد أي: يقبض روحه فيموت في حال صغره، أو شبابه (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي: أسوأ العمر وأخبثه عند أهله. وقيل: أحقره وأهونه وهي حال الخوف. وإنما صار أرذل العمر لأن الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة، وإنما يرتقب الموت والفناء، بخلاف حال الطفولية والضعف، الذي يرجى له الكمال والتمام بعدها. (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) أي: لكيلا يستفيد علما، وينسى ما كان به عالما. وقيل: معناه لكي يصير إلى حال ينعدم عقله، أو يذهب عنه علومه هرما، فلا يعلم شيئا مما كان علمه. وإذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق عليه ذهاب الجميع. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة واحتج بقوله (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي: قرأوا القرآن. ثم ذكر سبحانه دلالة أخرى على البعث فقال: (وترى الأرض هامدة) يعني هالكة، عن مجاهد. أي: يابسة دارسة من أثر النبات (فإذا أنزلنا عليها الماء) وهو المطر (اهتزت) أي: تحركت بالنبات. والإهتزاز: شدة الحركة في الجهات (وربت) أي: زادت أي: أضعفت نباتها. وقيل: انتفخت لظهور نباتها، عن الحسن. (وأنبتت) يعني الأرض (من كل زوج) أي: من كل صنف (بهيج) مؤنق للعين، حسن الصورة واللون. (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير [ 6 ] وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 7 ] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولا كتاب منير [ 8 ] ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق [ 9 ] ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 10 ]). الاعراب: (ثاني عطفه): منصوب على الحال، تقديره ثانيا عطفه. (له في الدنيا خزي). له خزي مبتدأ وخبر، وفي يتعلق بما يتعلق به اللام، والمبتدأ وخبره في محل الرفع بأنه خبر. (من يجادل): خبر بعد خبر. (ذلك بأن الله هو
[ 130 ]
الحق)، و (ذلك بما قدمت يداك): يجوز أن يكون (ذلك) مبتدءا، والجار والمجرور في موضع الخبر. ويجوز أن يكون التقدير الأمر ذلك، فيكون (ذلك): خبر مبتدأ محذوف. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الأدلة، عقبه بما يتصل به فقال: (ذلك بأن الله هو الحق) معناه: ذلك الذي سبق ذكره من تصريف الخلق على هذه الأحوال وإخراح النبات بسبب أن الله هو الحق أي: ليعلموا أنه الذي يحق له العبادة دون غيره. وقيل: هو الذي يستحق صفات التعظيم (وأنه يحيي الموتى) لأن من قدر على إنشاء الخلق، فإنه يقدر على إعادته. (وأنه على كل شئ قدير) أما المعدومات فيقدر على إيجادها. وأما الموجودات فيقدر على إفنائها وإعادتها. ويقدر على جميع الأجناس، ومن كل جنس، على ما لا نهاية له. (وأن الساعة آتية لا ريب فيها) أي: وليعلموا أن القيامة آتية لا شك فيها (وأن الله يبعث من في القبور) أي: يحييهم للجزاء، لأن ما ذكرناه يدل على البعث على الوجه الذي بيناه. (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) سبق تفسيره (ولا هدى) أي: لا يرجع فيما يقوله إلى علم ولا دلالة (ولا كتاب منير) أي: مضئ له نور يؤدي من تمسك به إلى الحق. والمعنى: أنه لا يتبع أدلة العقل، ولا أدلة السمع، وإنما يتبع الهوى والتقليد. وفي هذا دلالة على أن الجدال بالعلم صواب، وبغير العلم خطأ. لأن الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحق، وبغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل. (ثاني عطفه) أي متكبرا في نفسه، عن ابن عباس، يقول العرب: ثنى فلان عطفه إذا تكبر وتجبر. وعطفا الرجل: جانباه من عن يمين أو شمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشئ. وقيل: معناه لاوي عنقه إعراضا وتكبرا عن الله ورسوله، عن قتادة ومجاهد. (ليضل عن سبيل الله) أي ليضل الناس عن الدين. ومن فتح الياء أراد: ليضل هو عن طريق الحق المؤدي إلى توحيد الله. (له في الدنيا خزي) أي هوان وذل وفضيحة، بما يجري له على ألسنة المؤمنين من الذم، وبالقتل وغير ذلك. (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي: النار التي تحرقهم (ذلك) أي: يقال له ذلك العذاب (بما قدمت يداك) أي: بما كسبت يداك (وأن الله ليس بظلام للعبيد) في تعذيبه، لأن الله لا يظلم ولا يعاقب ابتداء، ولا يزيد على الجزاء. وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة
[ 131 ]
الذين ينسبون كل ظلم في العالم إلى الله تعالى. (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 11 ] يدعوا من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد [ 12 ] يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير [ 13 ] إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد [ 14 ] من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ [ 15 ]). القراءة: قرأ روح وزيد عن يعقوب. (خاسر الدنيا والآخرة) بالجر، وهو قراءة مجاهد، وحميد بن قيس. والباقون: (خسر) بغير ألف (والآخرة) بالنصب. وقرأ أهل البصرة وابن عامر وورش: (ثم ليقطع) بكسر اللام. والباقون بسكونها. وكذلك (ثم ليقضوا) وزاد ابن عامر (وليوفوا وليطوفوا) بالكسر فيهما أيضا. وقرأ أبو بكر: (وليوفوا) بتشديد الفاء، والأعشى عنه بكسر اللام أيضا. والباقون: (وليوفوا) ساكنة الواو خفيفة الفاء. الحجة: من قرأ (خسر الدنيا والآخرة) فإن هذه الجملة تكون بدلا من قوله (انقلب على وجهه) فكأنه قال: وإن أصابته فتنة خسر الدنيا والآخرة. ومثله قول الشاعر: إن يجبنوا، أو يغدروا، أو يبخلوا، لا يحفلوا، * يغدوا عليك مرجلين، كأنهم لم يفعلوا فقوله: (يغدوا عليك) بدل من لا يحفلوا. ومن قرأ (خاسر الدنيا والآخرة)، فإنه منصوب على الحال. وأما قوله (ثم ليقطع) فإن أصل هذه اللام الكسر، فإذا دخلها الواو والفاء أو ثم، فمن أسكنها مع الفاء والواو، فإن الفاء والواو يصيران كشئ واحد في نفس الكلمة، لآن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه، فصار بمنزلة كتف وفخذ. فأما ثم فهو منفصل عن الكلمة، وليست كالواو والفاء، فمن أسكن
[ 132 ]
اللام معها شبه الميم في ثم بالفاء والواو، وجعله كقولهم: أراك منتفخا كقول العجاج: (أراك منتصبا وما تكردسا) ومثل ذلك قولهم: وهي فهي. اللغة: الحرف والطرف والجانب نظائر. والإطمئنان: التمكن. والفتنة ههنا المحنة. والإنقلاب: الرجوع. والعشير: الصاحب المعاشر أي: المخالط. والنصرة: المعونة. وقيل: إن النصرة ههنا: الرزق، تقول العرب: من ينصرني نصره الله أي: من أعطاني أعطاه الله. قال الفقعسي (1): وإنك لا تعطي امرأ فوق حظه، * ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره أي: معطيه وجائده. ويقال: نصر الله أرض فلان أي: جاد عليها بالمطر. والسبب: كل ما يتوصل به إلى الشئ، ومنه قيل للحبل سبب، وللطريق سبب، وللباب سبب. الاعراب: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) قال الزجاج: إختلف الناس في تفسير هذه اللام، فقال البصريون والكوفيون. معنى هذه اللام التأخير، والتقدير: يدعو من لضره أقرب من نفعه. ولم يشرحوه قال: وشرحه أن اللام لليمين والتوكيد، فحقها أن تكون في أول الكلام، فقدمت لتجعل في حقها، وإن كان أصلها أن يكون في آخره، كما أن لام أن حقها أن تكون في الإبتداء. فلما لم يجز أن تلي أن جعلت في الخبر مثل قولك: إن زيدا لقائم. فهذا قول. وقالوا أيضا: إن (يدعو) معه هاء مضمرة، وإن (ذلك): في موضع رفع. و (يدعو) في موضع الحال. المعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه أي: في حال دعائه إياه. ويكون (لمن ضره أقرب) مستأنفا مرفوعا بالإبتداء، وخبره (لبئس المولى ولبئس العشير). وفيه وجه آخر أغفله الناس وهو أن يكون ذلك في تأويل الذي، وهو في موضع نصب لوقوع (يدعو) عليه. ويكون (لمن ضره) مستأنفا، وهو مثل قوله: (وما تلك بيمينك يا موسى) ومعناه: وما التي بيمينك. وقال أبو علي. إن اللامات التي هي حروف دالة على معان سوى الجارة والتي للأمر على أربعة أضرب أحدها: تدخل على خبر ان إذا خففت أو على غير خبرها، ليفصل بين إن النافية والمؤكدة، مثل قوله: (وإن كانوا ليقولون)، و (إن (1) ونسبه الشريف المرتضى في (الأمالي) إلى مضرس بن ربعي. (*)
[ 133 ]
كاد ليضلنا). والثاني: يختص بالدخول على الفعل المضارع والماضي، ويكون جوابا للقسم، نحو قوله (لأملئن جهنم)، وقول امرئ القيس: (لناموا فما إن من حديث ولا صال) (1). والثالث: يدخل في الشرط إذا كان جزاؤه معتمدا على قسم نحو قوله (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا). والرابع: يختص بالدخول على الأسماء المبتدأة، وهي التي تدخل على خبر إن، ويدخل على الفعل المضارع إذا كان للحال، وكان خبرا لأن، وهو أحد جهتي مضارعة الفعل المضارع للإسم. وقد تدخل هذه اللام في ضرورة الشعر على خبر المبتدأ في غير إن وذلك كقوله: (أم الحليس لعجوز شهربة) (2). وكما حكى أبو الحسن في حكاية نادرة إن زيدا وجهه لحسن. فإذا كان هذه اللام حقها أن تدخل على المبتدأ، أو على إسم إن، أو خبرها، من حيث أدخلها على المبتدأ، وكان دخولها على خبر المبتدأ ضرورة، مع أنه المبتدأ في المعنى، فدخوله في الموصول، والمراد به الصلة، ينبغي أن لا يجوز. لأن الصلة ليست بالموصول. كما أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ. فمن زعم أن اللام في (لمن ضره) حكمها أن تكون في المبتدأ الذي في الصلة، ثم قدم على الموصول، كان مخطئا. وأيضا فإن اللام إذا كان حكمه أنه يكون في الصلة، ثم قدم على الموصول، فذلك غير سائغ، كما أن سائر ما يكون في الصلة لا يتقدم على الموصول قال: والوجه في ذلك أن يجعل قوله (يدعو) تكرارا للفعل الأول على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء من فاعله، ولا تجعلها متعدية إذ قد تعدت مرة. ويجوز أن تجعل مع (يدعو) هاء مضمرة، ويكون في موضع نصب على الحال من ذلك، فكأنه قال: ذلك هو الضلال البعيد مدعوا. ويجوز أن تجعل ذلك هو الضلال البعيد مفعول يدعو، على أن يكون ذلك في معنى الذي يكون هو الضلال البعيد صلته، كما قال أبو إسحاق أيضا. فتكون اللام في هذه الوجوه داخلة على اسم مبتدأ موصول، ولا موضع للجملة التي هي (لمن ضره أقرب من نفعه) الآية. لأنها لا تقع موقع مفرد، ويكون اللام (1) وقبله: (حلفت لها بالله حلفة فاجر). والشعر بتمامه في (جامع الشواهد). (2) وبعده: (ترضى من اللحم بعظم الرقبة). والشعر في (جامع الشواهد). (*)
[ 134 ]
في قوله (لبئس المولى ولبئس العشير) في موضع رفع لوقوعه خبر المبتدأ. وتكون هذه اللام لليمين. فهذا ما يجب أن تحمل الآية عليه. وأقول. إن إعرابه على الوجه الأول: أن يكون (ما لا يضره) مفعول (يدعو). و (ما لا ينفعه): معطوفا عليه. و (ذلك) مبتدأ. و (هو الضلال البعيد): خبره. و (يدعو) تكرارا للفعل الأول. وعلى الوجه الثاني: يكون (يدعو) حالا من معنى الإشارة في (ذلك). وعلى الوجه الثالث: يكون (ذلك) إسما موصولا بمعنى الذي، والجملة صلته، والموصول والصلة في موضع نصب بأنه المفعول ليدعو. واللام في (لمن ضره) لام الإبتداء. والموصول والصلة في موضع رفع بالإبتداء. و (لبئس المولى): جواب القسم. والقسم والمقسم في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. والعائد إلى المبتدأ هو الضمير المحذوف من الجملة، لأن التقدير: لبئس المولى هو، ولبئس العشير هو. قال الزجاج: وفيه وجه آخر، وهو أن يكون (يدعو) في معنى يقول، ويكون (من) في موضع رفع، وخبره محذوف. ويكون المعنى لمن ضره أقرب من نفعه هو مولاي، ومثله قول عنترة: يدعون عنتر، والرماح كأنها * أشطان بئر في لبان الأدهم (1) أي: يقولون: يا عنتر ! ويجوز أن يكون (يدعو) في معنى يسمى، كما قال ابن أحمر: أهوى لها مشقصا حشرا فشبرقها، * وكنت أدعو قذاها الإثمد الفرد (2) وأقول: إنما قال خبر المبتدأ هنا محذوف، لأن من يعبد الصنم لا يقول لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى، فلذلك قدر الخبر محذوفا. النزول: قيل: نزلت هذه الآية (ومن الناس من يعبد الله على حرف) في جماعة كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة. فكان أحدهم إذا صح جسمه، (1) هذا بيت من المعلقة، الشطن: الحبل الذي يستقى به. واللبان: الصدر، شبه النصل الطويل بحبال البئر. (2) وسنان حشر أي: دقيق. وشبرقها أي: مزقها. والأثمد: حجر يكتحل به. والقذى: ما يقع في العين من تبنة وغيرها. (*)
[ 135 ]
ونتجت فرسه، وولدت امرأته غلاما، وكثرت ماشيته، رضي به، واطمأن إليه. وإن أصابه وجع في المدينة، وولدت امرأته جارية، قال: ما أصبت في هذا الدين إلا شرا، عن ابن عباس. المعنى: لما تقدم ذكر الكفار، وما تعاطوه من الجدال، ذكر سبحانه بعده حال مقلدة الضلال، والدعاة إلى الضلال، فقال. (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي: على ضعف في العبادة، كضعف القائم على حرف أي: طرف حبل، أو نحوه، عن علي بن عيسى قال: وذلك من اضطرابه في طريق العلم، إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق، فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلها. وقيل: على حرف أي: على شك، عن مجاهد. وقيل: معناه إنه يعبد الله بلسانه دون قلبه، عن الحسن قال: الدين حرفان أحدهما اللسان، والثاني القلب، فمن اعترف بلسانه ولم يساعده قلبه، فهو على حرف. (فإن أصابه خير اطمأن به) أي: أصابه رخاء وعافية وخصب وكثرة مال، اطمأن على عبادة الله بذلك الخير (وإن أصابته فتنة) أي: إختبار بجدب وقلة مال (انقلب على وجهه) أي: رجع عن دينه إلى الكفر. والمعنى: انصرف إلى وجهه الذي توجه منه وهو الكفر (خسر الدنيا والآخرة) أي: خسر الدنيا بفراقه، وخسر الآخرة بنفاقه. (ذلك هو الخسران المبين) أي: الضرر الظاهر لفساد عاجله وآجله. وقيل: خسر في الدنيا العز والغنيمة، وفي الآخرة الثواب والجنة (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه) أي: يدعو هذا المريد بعبادته سوى الله، ما لا يضره إن لم يعبده، وما لا ينفعه إن عبده (ذلك) الذي فعل (هو الضلال البعيد) عن الحق والرشد، يدعوه على الوجه الآخر معناه (يدعو) الذي هو الضلال البعيد. (لمن ضره أقرب من نفعه) قال السدي: يعني الذي ضره في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع، وإن كان لا نفع عنده. ولكن العرب تقول لما لا يكون: هذا بعيد. ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون. فلما كان نفعه بعيدا قيل لضره: إنه أقرب من نفعه على معنى أنه كائن. (لبئس المولى) أي: لبئس الماصر هو (ولبئس العشير) أي: الصاحب المعاشر المخالط هو يعني الصنم يخالطه العابد ويصاحبه. ولما ذكر الشاك في الدين بالخسران، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال: (إن الله يدخل الذين آمنوا) بالله، وصدقوا رسله (وعملوا الصالحات جنات تجري
[ 136 ]
من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد) بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأعدائه وأهل معصيته من الإهانة، لا يدفعه دافع، ولا يمنعه مانع. ثم قال: (من كان يظن أن لن ينصره الله) الهاء في (ينصره) عائدة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس وقتادة. والمعنى من كان يظن أن الله لن ينصر نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يعينه على عدوه (في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء) أي: فليشدد حبلا في سقفه (ثم ليقطع) أي: ليمدد ذلك الحبل حتى ينقطع، فيموت مختنقا. والمعنى: فليختنق غيظا حتى يموت، فإن الله ناصره، ولا ينفعه غيظه، وهو قوله: (فلينظر هل يذهبن كيده) أي: صنعه وحيلته. (ما يغيظ) ما بمعنى المصدر أي: هل يذهبن كيده غيظه، عن قتادة وأكثر المفسرين. وقيل: فليمدد بسبب إلى السماء معناه: فليطلب شيئا يصل به إلى السماء المعروفة، ثم ليقطع نصر الله، ووحي الله عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليزل بكيده ما يغيظه من نصر الله له، ونزول الوحي عليه أي: لا يتهيأ له ذلك، ولا سبيل له إليه، فليتجرع ما يغيظه. وإنما قال سبحانه ذلك على وجه التبعيد أي: كما لا يتهيأ لهم الوصول إلى السماء، كذلك لا يتهيأ لهم إزالة ما يغيظهم من أمر رسول الله، ونصره على أعدائه دائما. وإنما ذكر السماء لأن النصر يأتيه من قبل السماء، ومن الملائكة، عن أبي علي الجبائي. وقيل: إن الهاء في (ينصره) عائدة إلى (من)، عن مجاهد والضحاك وأبي مسلم. ثم اختلف في معناه فقيل: من كان يظن من الناس أن الله لا ينصره، فليجهد جهده، وليصعد السماء، ثم ليقطع المسافة، فلينظر هل ينفعه كيده في إزالة غيظه لما يدعى إليه من دين الله، فإن الذي حكم الله به لا يبطل بكيد الكائد، عن أبي مسلم. وقيل: المراد بالنصر الرزق، ويقال: أرض منصورة أي: ممطورة. والمعنى: من ظن أن الله لا يرزقه في الدنيا والآخرة، فليختنق نفسه أي: لا يمكنه تكثير رزقه أي: كما لا يقدر أن يزيد فيما رزقه الله بهذا النوع من الكيد، كذلك لا يقدر عليه بسائر أنوأع الكيد. وهذا مثل ضربه الله لهذا الجاهل الذي يسخط لما أعطاه الله أي: مثله مثل من فعل بنفسه هذا. (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد [ 16 ] إن الذين
[ 137 ]
آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد [ 17 ] ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء [ 18 ]). الاعراب: خبر (إن) الأولى جملة الكلام مع إن الثانية وزعم الفراء أن قولك: إن زيدا إنه لقائم. وروي أن هذه الآية إنما صلحت في الذي. قال الزجاج: لا فرق بين الذي، وغيره في باب إن. إن قلت: إن زيدا إنه قائم، كان جيدا. قال جرير: إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم المعنى: ثم بين سبحانه أنه نزل الآيات حجة على الخلق فقال: (وكذلك) أي: ومثل ما تقدم من آيات القرآن (أنزلناه) يعني القران (آيات بينات) أي: حججا واضحات على التوحيد، والعدل، والشرائع. (وإن الله يهدي من يريد) أي: وأنزلنا إليك أن الله يهدي إلى الدين من يريد. وقيل: إلى النبوة. وقيل: إلى الثواب. وقيل: يهدي من يهتدي بهداه (إن الذين آمنوا) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (والذين هادوا) وهم اليهود (والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا) ظاهر المعنى (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) أي: يبين المحق من المبطل بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح، فيبيض وجه المحق، ويسود وجه المبطل. والفصل: التمييز بين الحق والباطل. (إن الله على كل شئ شهيد) أي: عليم مطلع على ما من شأنه أن يشاهد بعلمه قبل أن يكون، لأنه علام الغيوب. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به جميع المكلفين، فقال: (ألم تر) أي: ألم تعلم (أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) من العقلاء (والشمس) أي: ويسجد الشمس (والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) وصف سبحانه هذه الأشياء بالسجود، وهو الخضوع والذل والإنقياد لخالقها فيما يريد منها (وكثير من الناس) يعني المؤمنين الذين
[ 138 ]
يسجدون لله تعالى، وانقطع ذكر الساجدين، ثم ابتدأ فقال: (وكثير حق عليه العذاب) أي: ممن أبى السجود، ولا يوحده سبحانه. قال الفراء: قوله (وكثير حق عليه العذاب) يدل على أن المعنى: وكثير أبى السجود، لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود. (ومن يهن الله فما له من مكرم) معناه: من يهنه الله بأن يشقيه ويدخله جهنم فما له من مكرم بالسعادة أي: بإدخاله الجنة، لأنه لا يملك العقوبة والمثوبة سواه (إن الله يفعل ما يشاء) من الإنعام والإنتقام بالفريقين من المؤمنين والكافرين. (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم [ 19 ] يصهر به ما في بطونهم والجلود [ 20 ] ولهم مقامع من حديد [ 21 ] كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق [ 22 ] إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير [ 23 ] وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد [ 24 ]). القراءة: قرأ أهل المدينة وعاصم: (ولؤلؤا) بالنصب، وفي سورة فاطر مثله. والباقون بالجر في الموضعين إلا يعقوب، فإنه قرأ ههنا بالنصب، وفي فاطر بالجر. وترك أبو جعفر وأبو بكر وشجاع الهمزة الأولى منه في جميع القرآن. وفي الشواذ قراءة ابن عباس: (يحلون) بفتح الياء وتخفيف اللام. الحجة: قال أبو علي: وجه الجر في (لؤلؤ) أنهم يحلون فيها من أساور من ذهب ومن لؤلؤ. ووجه النصب أنه على ويحلون لؤلؤا. ويجوز أن يكون عطفا على موضع الجار والمجرور لأن المعنى في يحلون فيها من أساور يحلون أساور. وقال ابن جني: يحلون من حلي يحلى يقال: لم أحل منه بطائل أي: لم أظفر. ويجوز أن يكون من قولهم امرأة حالية أي: ذات حلى.
[ 139 ]
اللغة: الخصم: يستوي فيه الواحد والجمع، والذكر والأنثى يقال: رجل خصم، ورجلان خصم، ورجال خصم، ونساء خصم. وقد يجوز في الكلام: هذان خصمان اختصموا، وهؤلاء خصم اختصموا. قال الله تعالى (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) وهكذا حكم المصادر إذا وصف بها، أو أخبر بها، نحو عدل ورضى وصوم وفطر وزور وحري وقمن، وما أشبه ذلك. وإنما قال في الآية (خصمان) لأنهما جمعان، وليسا برجلين. ومثله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) والحميم: الماء المغلي. والصهر: الإذابة يقال: صهرته فانصهر. قال: تروي لقى ألقي في صفصف * تصهره الشمس فما ينصهر (1) يعني: ولدها. والمقامع: جمع مقمعة، وهي مدقة الرأس من قمعه قمعا: إذا ردعه. والحريق: بمعنى المحرق كالأليم. والأساور: جمع أسوار، وفيه ثلاث لغات اسوار بالألف، وسوار وسوار بالكسر والضم، والجمع إسورة. النظم: قيل: نزلت الآية (هذان خصمان اختصموا) في ستة نفر من المؤمنين والكفار، تبارزوا يوم بدر، وهم: حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة، وعلي بن أبي طالب عليه السلام قتل الوليد بن عتبة. وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب قتل شيبة بن ربيعة، عن أبي ذر الغفاري وعطا. وكان أبو ذر يقسم بالله تعالى إنها نزلت فيهم، ورواه البخاري في الصحيح. وقيل: نزلت في أهل القران وأهل الكتاب، عن ابن عباس. وقيل: في المؤمنين والكافرين، عن الحسن ومجاهد والكلبي، وهذا قول أبي ذر إلا أن هؤلاء لم يذكروا يوم بدر. المعنى: لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين، بين سبحانه ما أعده لكل واحد من الفريقين فقال: (هذان خصمان) أي: جمعان. فالفرق الخمسة الكافرة خصم، والمؤمنون خصم. وقد ذكروا في قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين) الآية. (اختصموا في ربهم) أي: في دين ربهم، فقالت اليهود والنصارى للمسلمين. نحن أولى بالله منكم، لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم. وقال المسلمون: بل نحن أحق بالله منكم، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبينا ونبيكم، وكفرتم (1) قائله: ابن أحمر يصف فرخ قطاة. قوله: (تروى) أي: تسوق إليه الماء أي تصير له كالراوية. والصفصف: الفلاة. وقوله: (تصهره الشمس..) أي: تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. (*)
[ 140 ]
أنتم بنبينا حسدا، فكان هذا خصومتهم. وقيل: إن معنى اختصموا اقتتلوا يوم بدر. (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) قال ابن عباس: حين صاروا إلى جهنم لبسوا مقطعات النيران، وهي الثياب القصار. وقيل: يجعل لهم ثياب نحاس من نار، وهي أشد ما تكون حرا، عن سعيد بن جبير. وقيل. إن النار تحيط بهم كإحاطة الثياب التي يلبسونها بهم (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) أي: الماء المغلي، فيذيب ما في بطونهم من الشحوم، وتساقط الجلود. وفي خبر مرفوع أنه يصب على رؤوسهم الحميم، فينفذ إلى أجوافهم، فيسلت ما فيها. (يصهر به ما في بطونهم والجلود) أي. يذاب وينضج بذلك الحميم ما فيها من الأمعاء، وتذاب به الجلود. (ولهم مقامع من حديد) قال الليث: المقمعة شبه الجرز من الحديد، يضرب بها الرأس. وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ولهم مقامع من حديد): (لو وضع مقمع من حديد في الأرض، ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض). وقال الحسن: إن النار ترميهم بلهبها حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بمقامع، فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها، ضربهم زفير لهبها فلا يستقرون ساعة. فذلك قوله: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) أي: كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم حين ليس لها مخرج، ردوا إليها بالمقامع. (وذوقوا عذاب الحريق) أي: ويقال لهم ذوقوا. والذوق: طلب إدراك الطعم. والحريق: الإسم من الإحتراق. قال الزجاج: هذا لأحد الخصمين. وقال في الخصم الذين هم المؤمنون (إن الله يدخل الذين آمنوا) بالله، وأقروا بوحدانيته (وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) أي: من تحت أبنيتها وأشجارها (يحلون فيها) أي: يلبسون الحلي فيها (من أساور) وهي حلي اليد (من ذهب ولؤلؤا) أي ومن لؤلؤ (ولباسهم فيها حرير) أي: ديباج. حرم الله سبحانه لبس الحرير على الرجال في الدنيا، وشوقهم إليه في الآخرة، فأخبر أن لباسهم في الجنة حرير. (وهدوا إلى الطيب من القول) أي: أرشدوا في الجنة إلى التحيات الحسنة، يحيي بعضهم بعضا، ويحييهم الله وملائكته بها. وقيل: معناه أرشدوا إلى شهادة أن
[ 141 ]
لا إله إلا الله، والحمد لله، عن ابن عباس. وزاد ابن زيد: والله أكبر. وقيل: أرشدوا إلى القرآن، عن السدي. وقيل: إلى القول الذي يلتذونه ويشتهونه وتطيب به نفوسهم. وقيل: إلى ذكر الله فهم به يتنعمون (وهدوا إلى صراط الحميد) والحميد: هو الله المستحق للحمد، المستحمد إلى عباده بنعمه، عن الحسن. أي: الطالب منهم أن يحمدوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما أحد أحب إليه الحمد من الله، عز ذكره). وصراط الحميد هو طريق الإسلام، وطريق الجنة. (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 25 ] وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [ 26 ] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 27 ] ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 28 ] ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [ 29 ] ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور [ 30 ]). القراءة: قرأ حفص عن عاصم وروح وزيد عن يعقوب. (سواء) بالنصب. والباقون بالرفع. وفي الشواذ قراءة ابن عباس وأبي مجلز ومجاهد وعكرمة والحسن: (رجالا) بالتشديد والضم، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقراءة ابن أبي إسحاق والزهري والحسن بخلاف: (رجالا) بالضم والتخفيف. الحجة: قال أبو علي: وجه الرفع في (سواء): أنه خبر مبتدأ مقدم،
[ 142 ]
والمعنى: العاكف فيه والبادي سواء، ليس أحدهما بأحق به من صاحبه. وهذا يدل على أن أرض الحرم لا تملك، ولو ملكت لم يستويا فيها، وصار العاكف فيها أولى بها من البادي لحق ملكه، ولكن سبيلها سبيل المساجد التي من سبق إليها، كان أولى بها. ومن نصب (سواء) أعمل المصدر إعمال إسم الفاعل فرفع العاكف به، كما يرفع بمستوي لو قال جعلناه مستويا العاكف فيه والبادي. ووجه إعماله أن المصدر قد يقوم مقام اسم الفاعل في الصفة في نحو قولهم: رجل عدل، فيصير عدل كعادل. ويجوز في نصب (سواء) وجه آخر وهو أن تنصبه على الحال، فإذا نصبته عليها، وجعلت قوله للناس مستقرا جاز أن يكون حالا يعمل فيها معنى الفعل، وذو الحال الذكر الذي في المستقر. ويجوز أن يكون حالا من الفعل الذي هو (جعلناه) فإن جعلتها حالا من الضمير المتصل بالفعل، كان الضمير ذا الحال، والعامل في الفعل، وجواز كون للناس مستقرا على أن يكون المعنى أنه جعل للناس، ونصب لهم منسكا ومتعبدا، كما قال: (إن أول بيت وضع للناس). وأما قوله (رجالا) فهو جمع راجل، مثل طالب وطلاب، وكاتب وكتاب. وأما (رجالا) بتخفيف الجيم، فهو غريب في الجمع، فهو نحو ظؤار، وعراق، ورخال، في جمع ظئر، وعرق، ورخل. اللغة: العاكف: المقيم الملازم للمكان. والبادي: أصله من بدا يبدو: إذا ظهر، والبدو: خلاف الحضر سمي بذلك لظهوره. والبادي في الآية: الطارئ. والمكان: ما يتمكن عليه الشئ، قيل: هو إسم لما أحاط بالشئ. والمكان والموضع والمستقر نظائر. والرجال: جمع راجل مثل صحاب وقيام، في جمع صاحب وقائم. والضامر: المهزول أضمره السير. والعميق: البعيد. قال الراجز: (يقطعن بعد النازح العميق). والبائس: الذي به ضر الجوع. والفقير: الذي لا شئ له. يقال: بؤس فهو بائس أي: صار ذا بؤس وهو الشدة. قال الأزهري: لا يعرف التفث في لغة العرب إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال النضر بن شميل: هو إذهاب الشعث. الاعراب: خبر (إن الذين كفروا) محذوف يدل عليه (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) فالمعنى: إن الذين كفروا نذيقهم العذاب الأليم (ومن يرد فيه بإلحاد): الباء فيه زائدة تقديره. ومن يرد فيه إلحادا. والباء في قوله (بظلم):
[ 143 ]
للتعدية وما جاءت الباء فيه مزيدة، قول الشاعر: بواد يمان ينبت الشث صدره، * وأسفله بالمرخ، والشهبان (1) وقول الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا، * مل ء المراجل، والصريح الأجردا (2) وقول امرئ القيس: الأهل أتاها، والحوادث جمة، * بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا (3) وقال الزجاج: والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباء ليست بملغاة، والمعنى عندهم: ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم، وهو مثل قوله: أريد لانسى ذكرها، فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل والمعنى: أريد وإرادتي لهذا. (على كل ضامر): في موضع نصب على الحال أي: يأتوك رجالا وركبانا. و (يأتين): في موضع جر لأن المعنى في قوله (وعلى كل ضامر) على إبل ضامرة آتية من كل فج عميق. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قرأ (يأتون). فعلى هذا يعود الضمير في يأتون إلى الناس. المعنى: ثم بين سبحانه حال الكفار فقال: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) عطف بالمضارع على الماضي، لأن المراد بالمضارع أيضا الماضي، ويقويه قوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله). ويجوز أن يكون المعنى: إن الذين كفروا فيما مضى، وهم الآن يصدون الناس عن طاعة الله (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس) أي: مستقرا ومنسكا ومتعبدا. وقيل: معناه خلقناه للناس كلهم، لم يخص به بعض دون بعض. قال الزجاج: جعلناه للناس وقف تام. ثم قال (سواء العاكف فيه والباد) أي: العاكف المقيم فيه، والباد الذي ينتابه (4) من غير أهله، مستويان في سكناه، والنزول به، فليس أحدهما أحق بالمنزل (1) الشث: شجر طيب الريح، مر الطعم، يدبغ به. والمرخ والشبهان: نوعان من الشجر. (2) المراجل: ضرب من الثياب. والصريح الأجرد: أراد به اللبن الخالص الذي لا رغوة فيه. (3) بيقر أي أعيا، وبيقر: هلك، وبيقر: مشى مشية المنكس، وبيقر: أفسد (لسان العرب). (4) أي: يقصده ويأتيه. (*)
[ 144 ]
يكون فيه من الآخر، غير أنه لا يخرج أحد من بيته، عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير قالوا: إن كراء دور مكة وبيعها حرام. والمراد بالمسجد الحرام على هذا، الحرم كله كقوله: (أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام). وقيل: المراد بالمسجد الحرام عين المسجد الذي يصلى فيه، عن الحسن ومجاهد والجبائي. والظاهر يدل عليه. وعلى هذا يكون المعنى في قوله (جعلناه للناس) أي: قبلة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم. فالعاكف والباد سواء في حكم النسك. وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام، والطواف به، ويدعون أنهم أربابه وولاته. (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) والإلحاد: العدول عن القصد. واختلف في معناه ها هنا فقيل: هو الشرك وعبادة غير الله تعالى، عن قتادة. فكأنه قال: ومن يرد فيه ميلا عن الحق، بان يعبد غير الله، ظلما وعدوانا. وقيل: هو الإستحلال للحرام، والركوب للآثام، عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وابن زيد. وقيل: هو كل شئ نهي عنه حتى شتم الخادم، لأن الذنوب هناك أعظم. وقيل: هو دخول مكة بغير إحرام، عن عطاء (نذقه من عذاب أليم) أي: نعذبه عذابا وجيعا. وقيل: إن الآية نزلت في الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة، عام الحديبية. (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) معناه: واذكر يا محمد إذ وطأنا لإبراهيم مكان البيت، وعرفناه ذلك بما جعلنا له من العلامة. قال السدي: إن الله تعالى لما أمره ببناء الكعبة، لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحا خجوجا (1)، فكنست له ما حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه، قبل أن رفع أيام الطوفان. وقال الكلبي: بعث الله سبحانه على قدر البيت، فيها رأس تتكلم، فقامت بحيال الكعبة وقالت: يا إبراهيم إبن على قدري. وقيل: إن المعنى جعلنا البيت مثوبة ومسكنة، عن ابن الأنباري (أن لا تشرك بى شيئا) أي. وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري. قال المبرد: كأنه قال وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك بي شيئا: وحدني. (وطهر بيتي) من الشرك وعبادة الأوثان، عن قتادة. (للطائفين والقائمين والركع السجود) مفسر بسورة البقرة، والمراد بالقائمين: المقيمين بمكة. وقيل: (1) الخجوج من الرياح: الشديدة. (*)
[ 145 ]
القائمين في الصلاة، عن عطا (وأذن في الناس بالحج) أي: ناد في الناس، وأعلمهم بوجوب الحج. واختلف في المخاطب به على قولين أحدهما: إنه ابراهيم، عن علي وابن عباس، واختاره أبو مسلم. قال ابن عباس: قام في المقام فنادى: يا أيها الناس ! إن الله دعاكم إلى الحج، فأجابوا بلبيك اللهم لبيك والثاني: إن المخاطب به نبينا محمد، عليه أفضل الصلوات أي: وأذن يا محمد في الناس بالحج، فأذن، صلوات الله عليه، في حجة الوداع أي: أعلمهم بوجوب الحج، عن الحسن والجبائي. وجمهور المفسرين على القول الأول، وقالوا: أسمع الله تعالى صوت إبراهيم كل من سبق علمه بأنه يحج إلى يوم القيامة، كما أسمع سليمان مع ارتفاع منزلته، وكثرة جنوده حوله، صوت النملة مع خفضه وسكونه. وفي رواية عطا عن ابن عباس قال: لما أمر الله سبحانه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج، صعد أبا قبيس، ووضع اصبعه في أذنيه، وقال: يا أيها الناس ! أجيبوا ربكم. فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأول من أجابه أهل اليمن. (يأتوك رجالا) أي: مشاة على أرجلهم (وعلى كل ضامر) أي: ركبانا. قال ابن عباس: يريد الإبل، ولا يدخل بعير ولا غيره الحرم، إلا وقد هزل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لبنيه: يا بني ! حجوا من مكة مشاة حتى ترجعوا إليها مشاة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قيل: وما حسنات الحرم ؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة). (يأتين من كل فج عميق) أي: طريق بعيد. وروي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، يقول: يا ملائكتي ! انظروا إلى عبادي شعثا غبرا، أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني غير التبعات التي بينهم. فإذا أفاض القوم إلى جمع، ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله، يقول: يا ملائكتي ! عبادي وقفوا وعادوا في الرغبة والطلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني، وكفلت عنهم بالتبعات التي بينهم.
[ 146 ]
وقوله: (ليشهدوا منافع لهم) قيل: يعني بالمنافع التجارات، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقيل: التجارة في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة، عن مجاهد. وقيل: هي منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة، عن سعيد بن المسيب، وعطية العوفي، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. ويكون المعنى: ليحضروا ما ندبهم الله إليه مما فيه النفع لهم في الآخرة. (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) اختلف في هذه الأيام وفي الذكر فيها فقيل: هي أيام العشر. وقيل لها معلومات: للحرص على علمها من أجل وقت الحج في آخرها. والمعدودات: أيام التشريق، عن الحسن ومجاهد. وقيل: هي أيام التشريق يوم النحر، وثلاثة بعده. والمعدودات: أيام العشر، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، واختاره الزجاج قال: لأن الذكر ها هنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) أي: على ذبح ونحر ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم، وهذه الأيام تختص بذلك. وقيل: إن الذكر فيها كناية عن الذبح لأن صحة الذبح لما كان بالتسمية سمي باسمه توسعا. وقيل: هو التكبير، قال أبو عبد الله عليه السلام: التكبير بمنى عقيب خمس عشرة صلاة، أولها صلاة الظهر من يوم النحر يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام. والبهيمة: أصلها من الإبهام، وذلك أنها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق. والأنعام: الإبل. واشتقاقها من النعمة وهي اللين، سميت بذلك للين أخفافها. وقد يجتمع معها البقر والغنم فيسمى الجميع أنعاما اتساعا. وإن انفردا لم يسميا أنعاما. (فكلوا منها) أي: من بهيمة الأنعام. وهذا إباحة وندب وليس بواجب (وأطعموا البائس الفقير) فالبائس: الذي ظهر عليه أثر البؤس من الجوع والعري. وقيل: البائس الذي يمد يده بالسؤال، ويتكفف للطلب. أمر سبحانه أن يعطى هؤلاء من الهدي (ثم ليقضوا تفثهم) أي: ليزيلوا شعث الإحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل واستعمال طيب، عن الحسن. وقيل: معناه ليقضوا مناسك الحج كلها، عن ابن عباس، وابن عمر. قال الزجاج: قضاء التفث كناية عن الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
[ 147 ]
(وليوفوا نذورهم) أي. وليتموا نذورهم بقضائها، ولم يقل بنذورهم، لأن المراد بالإيفاء الإتمام. قال ابن عباس: هو نحر ما نذروا من البدن. وقيل: هو ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج، وربما نذر الإنسان أن يتصدق إن رزقه الله الحج، وإن كان على الرجل نذور مطلقة، فالأفضل أن يفي بها هناك. (وليطوفوا بالبيت العتيق) هذا أمر وظاهره يقتضي الوجوب. وقيل: أراد به طواف الزيارة لأنه من أركان أفعال الحج بلا خلاف. وقيل: إنه طواف الصدر (1) لأنه سبحانه أمر به عقيب المناسك كلها. وروى أصحابنا أن المراد به طواف النساء الذي يستباح به وصل النساء، وذلك بعد طواف الزيارة، فإنه إذا طاف طواف الزيارة، حل له كل شئ إلا النساء، فإذا طاف طواف النساء حلت له النساء. والبيت العتيق هو الكعبة، وإنما سمي عتيقا لأنه أعتق من أن يملكه العبيد، عن مجاهد، وسفيان بن عيينة، وأبي مسلم. وقيل: إنما سمي عتيقا، لأنه أعتق من أن تصل الجبابرة إلى تخريبه، وما قصده جبار قبل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلا أهلكه الله تعالى. وإنما لم يهلك الحجاج حين نقضه، وبناه ثانيا ببركة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله سبحانه أمن ببركته هذه الأمة من عذاب الإستئصال، عن مجاهد. وقيل: سمي به لأنه أعتق من الطوفان، فغرقت الأرض كلها إلا موضع البيت. وقيل: سمي به لأنه قديم، فهو أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه السلام، ثم جدده إبراهيم عليه السلام، عن ابن زيد. (ذلك) قيل: ههنا وقف، ومعناه الأمر ذلك أي: هكذا أمر الحج والمناسك (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) أي: فالتعظيم خير له عند ربه أي: في الآخرة. والحرمة: ما لا يحل انتهاكه، وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه، وهي في هذه الآية ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها، وتعظيمها ترك ملامستها. واختار أكثر المفسرين في معنى الحرمات هنا أنها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات على ذلك. وقيل: معناها ههنا البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، عن ابن زيد قال: ويدل عليه قوله: (والحرمات قصاص). (1) قال الطريحي: طواف الصدر: طواف الرجوع من (منى). (*)
[ 148 ]
(وأحلت لكم الأنعام) أي: الإبل والبقر والغنم (إلا ما يتلى عليكم) يعني في سورة المائدة من الميتة والمنخنقة والموقوذة ونحوها (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) من هنا للتبيين والتقدير: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج والنرد، وسائر أنواع القمار من ذلك. وقيل: إنهم كانوا يلطخون الأوثان بدماء قرابينهم، فسمي ذلك رجسا (واجتنبوا قول الزور) يعني الكذب. وقيل: هو تلبية المشركين: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء، وسائر الأقوال الملهية. وروى أيمن بن خريم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام خطيبا فقال: أيها الناس ! عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) يريد أنه قد جمع في النهي بين عبادة الوثن، وشهادة الزور. (حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 31 ] ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ 32 ] لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق [ 33 ] ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين [ 34 ] الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون [ 35 ]. القراءة: قرأ أهل المدينة: (فتخطفه) بفتح الخاء مشددا. والباقون: (فتخطفه) بسكون الخاء والتخفيف. وقرأ (منسكا) أهل الكوفة غير عاصم. والباقون: (منسكا) بالفتح. وفي الشواذ قراءة الحسن، وابن أبي إسحاق: (والمقيمي الصلاة) بالنصب. الحجة: تخطف تتخطف: فحذف تاء التفعل، وهما في كلا القراءتين حكاية حال تكون، والمعنى في ذلك أنه في مقابلة قوله: (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) فالمشرك بعكس هذا الوصف، فلم يستمسك لكفره بما فيه أمان من
[ 149 ]
الخرور، ونجاة من الهوى، واختطاف الطير، فصار كمن خر من السماء، فهوت به الريح، فلم يكن له معتصم. والأصل في المنسك الفتح، لأنه لا يخلو من أن يكون مصدرا أو مكانا، وكلاهما مفتوح العين من باب يفعل، إلا أنه قد جاء اسم المكان منه في كلمات على المفعل نحو: المطلع والمسجد شاذا عن القياس. ومن قرأ (والمقيمي الصلاة): فإنه حذف النون تخفيفا لا لتعاقبها الإضافة، وشبه ذلك بالذين واللذان في قول الشاعر: وإن الذي خانت بفلج دماؤهم، * هم القوم كل القوم، يا أم خالد (1) وقول الأخطل: أبني كليب إن عمي اللذا * قتلا الملوك، وفككا الأغلالا ونحوه بيت الكتاب: والحافظو عورة العشيرة لا * يأتيهم من ورائهم وكف (2) وقال آخر: قتلنا ناجيا بقتيل عمرو، * وخير الطالبي الترة الغشوم (3) اللغة: الخطف والإخطاف: الإستلاب. والسحيق: البعيد. والسحوق. النخلة الطويلة. والشعائر: علامات مناسك الحج التي تشعر بما جعلت له. وأشعرت البدن: أعلمتها بما يشعر أنها هدي. والمنسك: موضع العبادة. والنسك: العبادة يقال. نسك ينسك وينسك أي تعبد وقيل: هو عبادة الذبح. والنسيكة: الذبيحة يقال: نسكت الشاة: ذبحتها. والإخبات: الخضوع والطمأنينة وأصله من الخبت وهو المكان المطمئن وقيل: المنخفض. المعنى: قال سبحانه: (حنفاء لله) أي: مستقيمي الطريقة على أمر الله، مائلين عن سائر الأديان، وهي نصب على الحال. (غير المشركين به) أي: حجاجا مخلصين وهم مسلمون موحدون، لا يشركون في تلبية الحج به أحدا. ثم (1) حان الرجل. هلك. وفلج: اسم بلد. (2) الوكف: العيب. (3) الترة: الثأر. ورجل غشوم: أي ظالم. (*)
[ 150 ]
ضرب سبحانه مثلا لمن أشرك فقال: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) أي. سقط من السماء (فتخطفه الطير) أي: تأخذه بسرعة. قال أبن عباس: يريد تخطف لحمه (أو تهوي به الريح) أي: تسقطه (في مكان سحيق) أي: بعيد مفرط في البعد. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن بعد من أشرك به من الحق كبعد من خر من السماء، فذهب به الطير، أو هوت به الريح في مكان بعيد. وقال غيره: شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة، فهو هالك لا محالة. (ذلك) أي: الأمر ذلك الذي ذكرناه (ومن يعظم شعائر الله) أي: معالم دين الله، والأعلام التي نصبها لطاعته. ثم أختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحج كلها، عن أبن زيد. وقيل: هي البدن. وتعظيمها: استسمانها واستحسانها، عن مجاهد، وعن ابن عباس في رواية مقسم. والشعائر: جمع شعيرة وهي البدن إذا أشعرت أي: أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن، ليعلم أنها هدي. فالذي يهدي مندوب إلى طلب الأسمن والأعظم. وقيل شعائر الله: دين الله كله. وتعظيمها: التزامها، عن الحسن (فإنها) أي: فإن تعظيمها لدلالة تعظيم عليه. ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فقال: فإنها (من تقوى القلوب) أضاف التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب. وقيل: أراد صدق النية. (لكم فيها) أي: في الشعائر (منافع) فمن تأول أن الشعائر الهدي قال: إن منافعها ركوب ظهورها، وشرب ألبانها، إذا احتيج إليها. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ومذهب الشافعي. وعلى هذا فقوله (إلى أجل مسمى) معناه: إلى أن ينحر. وقيل: إن المنافع من رسلها ونسلها وركوب ظهورها وأصوافها وأوبارها (إلى أجل مسمى) أي: إلى ان يسمى هديا، وبعد ذلك تنقطع المنافع، عن مجاهد وقتادة والضحاك. والقول الأول أصح، لأن قبل أن تسمى هديا، لا تسمى شعائر. ومن قال: إن الشعائر مناسك الحج قال: المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى إلى أن يعود من مكة. ومن قال: إن الشعائر دين الله قال: لكم فيها منافع أي: الأجر والثواب. والأجل المسمى: القيامة. (ثم محلها إلى البيت العتيق) ومن قال: إن شعائر الله هي البدن قال: معناه
[ 151 ]
إن محل الهدي والبدن الكعبة. وقيل: محله الحرم كله. وقال أصحابنا: إن كان الهدي للحج فمحله منى، وإن كان للعمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالجزورة، ومحلها حيث يحل نحرها. ومن قال: إن الشعائر مناسك الحج قال: معناه ثم محل الحج والعمرة والطواف بالبيت العتيق، وإن منتهاها إلى البيت العتيق، لأن التحلل يقع بالطواف، والطواف يختص بالبيت. ومن قال: إن الشعائر هي الدين كله، فيحتمل أن يكون معناه: إن محل ما أختص منها بالإحرام هو البيت العتيق، وذلك الحج والعمرة في القصد له، والصلاة في التوجه إليه. ويحتمل أن يكون معناه: إن أجرها على رب البيت العتيق. (ولكل أمة جعلنا منسكا) أي: لكل جماعة مؤمنة من الذين سلفوا، جعلنا عبادة في الذبح، عن مجاهد. وقيل: قربانا أحل لهم ذبحه. وقيل: متعبدا وموضع نسك يقصده الناس. وقيل: منهاجا وشريعة، عن الحسن (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) أي: تعبدناهم بذلك ليذكروا اسم الله على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام، وبهيمة غير الأنعام لا يحل ذبحها، ولا التقرب بها. وفي هذا دلالة على أن الذبائح غير مختصة بهذه الأمة، وأن التسمية على الذبح كانت مشروعة قبلنا (فإلهكم إله واحد) أي: معبودكم الذي توجهون إليه العبادة واحد، لا شريك له. والمعنى: فلا تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده (فله أسلموا) أي. انقادوا وأطيعوا. (وبشر المخبتين) أي: المتواضعين المطمئنين إلى الله، عن مجاهد. وقيل: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لا ينتصرون، كأنهم أطمأنوا إلى يوم الجزاء. ثم وصفهم فقال: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي: إذا خوفوا بالله خافوا (والصابرين على ما أصابهم) من البلايا والمصائب في طاعة الله (والمقيمي الصلاة) في أوقاتها يؤدونها كما أمرهم الله (ومما رزقناهم ينفقون) أي يتصدقون من الواجب وغيره، عن ابن عباس. (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون [ 36 ] لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى
[ 152 ]
منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 37 ] إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور [ 38 ] أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ 39 ] الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 40 ]). القراءة: قرأ (لن تنال الله ولكن تناله) بالتاء يعقوب. وقرأ الأول بالتاء أبو جعفر. وقرأ الباقون بالياء فيهما. وقرأ ابن كثير وأهل البصرة: (إن الله يدفع) بغير ألف. والباقون: (يدافع) بالألف. وقرأ أهل المدينة ويعقوب: (ولولا دفاع الله) بالألف. والباقون: (دفع الله) بغير ألف. وقرأ أهل المدينة وحفص: (أذن) بضم الألف (يقاتلون) بفتح التاء. وقرأ أبو بكر وأبو عمرو ويعقوب: (اذن) بضم الألف (يقاتلون) بكسر التاء. وقرأ ابن عامر: (أذن) بفتح الألف (يقاتلون) بفتح التاء. والباقون: (أذن) بفتح الألف (يقاتلون) بكسر التاء. وقرأ أهل الحجاز. (لهدمت) خفيفة الدال. والباقون بالتشديد. وأظهر التاء عاصم ويعقوب. وأدغمه الآخرون. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر الباقر عليهما السلام وقتادة وعطاء والضحاك: (صوافن) بالنون. وقرأ الحسن وشقيق وأبو موسى الأشعري وسليمان التيمي: (صوافي). وقرأ جعفر بن محمد عليه السلام: (وصلوات) بضم الصاد واللام. وقرأ الجحدري والكلبي: (وصلوات) بضم الصاد وفتح اللام. الحجة: التأنيث في (تنال) للجماعة، وللفظ التقوى. والتذكير لمعنى الجمع، لأن التقوى بمعنى الإتقاء. والدفع: مصدر دفع. والدفاع: مصدر دافع. وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو: طارقت النعل، وعاقبت اللص. وأما قوله (أذن للذين يقاتلون) فالقراءات فيها متقاربة، والمأذون لهم في القتال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما ظلموا به: أن المشركين أخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة. فمن قرأ (أذن) على بناء الفعل للفاعل، فلما
[ 153 ]
تقدم من ذكر الله سبحانه. وقوله (للذين يقاتلون): في موضع نصب. ومن قرأ (يقاتلون) فالمعنى: أنهم يقاتلون عدوهم الظالمين لهم. ومن قرأ (أذن) على بناء الفعل للمفعول به، فالمعنى على أن الله سبحانه أذن لهم في القتال. والجار والمجرور في موضع رفع. وقوله: (لهدمت) بالتخفيف، وإنما جاز لأن ذلك قد يكون للقليل والكثير، تقول: ضربت زيدا ضربة، وضربته ألف ضربة. فاللفظ في القلة والكثرة على حالة وإحدة. و (هدمت) بالتشديد يختص بالكثرة، قال الشاعر: ما زلت أفتح أبوابا، وأغلقها، * حتى أتيت أبا عمرو بن عمار فأما من قال (صوافن) فمثل الصافنات، وهي الجياد من الخيل، إلا أنه استعمل هنا في الإبل. والصافن: الرافع إحدى رجليه معتمدا منها على سنبكها (1). قال عمرو بن كلثوم. تركنا الخيل عاكفة عليه، * مقلدة أعنتهما، صفونا والصوافي: الخوالص لوجه الله. وأما صلوات وصلوات، فيمكن أن يكون جمع صلاة، وإن كانت غير مستعملة، فيكون مثل حجرة وحجرات وحجرات. اللغة: البدن: جمع بدنة، وهي الإبل المبدنة بالسمن. قال الزجاج: تقول بدنت إلإبل أي. سمنتها. وقيل: أصل البدن الضخم وكل ضخم بدن. وبدن بدنا وبدنا: إذا ضخم. وبدن تبدينا إذا أسن وثقل لحمه بالإسترخاء. وفي الحديث: (إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود) وقال: (وكنت خلت الشيب والتبدينا) (2). والوجوب: الوقوع، يقال: وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب للغروب. ووجب الحائط: وقع. ووجب القلب: اضطرب بأن وقع ما يوجب اضطرابه. ووجب الفعل: إذا ولمع ما يلزم به. ووجب البيع إذا وقع وجوبا. والصواف: المصطفة. الأزهري عن ابن الأعرابي قال: قنعت بما رزقت بالكسر، وقنعت إلى فلان: خضعت له بالفتح. والمعتر والمعتري واحد. وروي عن الحسن وأبي رجاء وعمرو بن عبيد أنهم قرأوا المعتري. يقال: عراه واعتراه، وعره واعتره، كله بمعنى أتاه وقصده. قال طرفة: (1) السبك: طرف الحافر. (2) قائله: حميد الأرقط وبعده: (والهم مما يذهل القرينا). (*)
[ 154 ]
في جفان نعتري نادينا، * وسديف حين هاج الصنبر (1) ويقال: قنع الرجل إلى فلان قنوعا: إذا سأل. قال الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني * مفاقره، أعف من القنوع والصومعة: أصلها من الإنضمام، ومنه الأصمع للاصق الأذنين، وكل منضم فهو متصمع. قال أبو ذؤيب يصف صائدا: مرمى فأنفذ من نحوص غائط، * سهما، فخر وريشه متصمع (2) والبيع: كنائس اليهود. الاعراب: (والبدن): منصوب بإضمار فعل تقديره وجعلنا البدن (جعلناها صواف): منصوب على الحال (الذين أخرجوا من ديارهم): في محل الجر بأنه بدل من (الذين يقاتلون). ويجوز أن يكون في موضع الرفع على تقدير هم الذين أخرجوا. وفي محل النصب على المدح على تقدير أعني الذين أخرجوا. (بغير حق): في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف وتقديره أخرجوا إخراجا بهذه الصفة. (إلا أن يقولوا ربنا الله): إلا ههنا لنقض النفي، وتقديره إلا بأن يقولوا أي: بقولهم. و (بعضهم): منصوب على البدل من (الناس)، وهو بدل البعض من الكل، والتقدير دفع الله بعض الناس ببعض. المعنى: ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال: (والبدن) وهي الإبل العظام. وقيل: الناقة والبقرة مما يجوز في الهدي والأضاحي، عن عطاء والسدي. (جعلناها لكم من شعائر الله) أي: من أعلام دينه. وقيل: من علامات مناسك الحج. والمعنى: جعلنا لكم فيها عبادة الله من سوقها إلى البيت وإشعارها وتقليدها ونحرها والإطعام منها. (لكم فيها خير) أي: نفع في الدنيا والآخرة. وقيل: أراد بالخير ثواب الآخرة، وهو الوجه لأنه الغرض المطلوب (فاذكروا اسم الله عليها) أي: في حال نحرها، وعبر به عن النحر. قال ابن عباس: هو أن يقول: الله أكبر، لا إله إلا (1) النادي: المجلس. والسديف: لحم السنام وقيل شحمه. والصنبر: برد الشتاء. (2) النحوص: الأتان الوحشية، والعائط من النوق. التي لم تحمل أول سنة يطرقها الفحل. والمتصمع من السهام: المنضم الريش من الدم. (*)
[ 155 ]
الله، والله أكبر، اللهم منك ولك. (صواف) أي: قياما مقيدة على سنة محمد صلى الله عليه واله وسلم عن ابن عباس. وقيل: هو أن تعقل إحدى يديها، وتقوم على ثلاثة، تنحر كذلك، فيسوى بين أوظفتها، لئلا يتقدم بعضها على بعض، عن مجاهد. وقيل: هو أن تنحر وهي صافة أي: قائمة ربطت يديها ما بين الرسغ والخف إلى الركبة، عن أبي عبد الله عليه السلام هذا في الإبل. فأما البقر فإنه يشد يداها ورجلاها، ويطلق ذنبها. والغنم: يشد ثلاث قوائم منها، ويطلق فرد رجل منها. (فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت إلى الأرض. وعبر بذلك عن تمام خروج الروح منها (فكلوا منها) وهذا إذن وليس بأمر، لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمونها على نفوسهم. وقيل: إن الأكل منها واجب إذا تطوع بها (وأطعموا القانع والمعتر) اختلف في معناهما فقيل: إن القانع الذي يقنع بما أعطي، أو بما عنده، ولا يسأل. والمعتر: الذي يتعرض لك أن تطعمه من اللحم ويسأل، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة وإبراهيم. وقيل: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل، عن الحسن وسعيد بن جبير. وقال أبو جعفر عليه السلام، وأبو عبد الله عليه السلام: القانع الذي يقنع بما أعطيته، ولا يسخط، ولا يكلح، ولا يلوي شدقه غضبا. والمعتر: الماد يده لتطعمه. وفي رواية الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: القانع الذي يسأل فيرضى بما أعطي. والمعتر: الذي يعتري رجاءه ممن لا يسأل. وروي عن ابن عباس أنه قال في جواب نافع بن الأزرق لما سأله عن ذلك القانع الذي يقنع بما أعطي والمعتر الذي يعتري الأبواب: أما سمعت قول زهير: على مكثريهم حق من يعتريهم، * وعند المقلين السماحة، والبذل وروي عنهم عليهم السلام أنه ينبغي أن يطعم ثلثه، ويعطي القانع والمعتر ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثلث الباقي. (كذلك) أي: مثل ما وصفناه (سخرناها لكم) أي: ذللناها لكم حتى لا تمنع عما تريدون منها من النحر والذبح، بخلاف السباع الممتنعة، ولتنتفعوا بركوبها وحملها ونتاجها، نعمة منا عليكم (لعلكم تشكرون) ذلك (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) أي: لن تصعد إلى الله لحومها، ولا دماؤها، وإنما يصعد إليه التقوى، عن الحسن. وهذا كناية عن القبول، وذلك إنما يقبله الإنسان. يقال: قد ناله، ووصل إليه. فخاطب الله
[ 156 ]
سبحانه عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم، وكانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي، استقبلوا الكعبة بالدماء، فنضحوها حول البيت قربة إلى الله. وقيل: معناه لن تبلغوا رضا الله بذلك، وإنما تبلغونه بالتقوى. (كذلك سخرها لكم) تقدم تفسيره (لتكبروا الله على ما هداكم) أي: على ما بين لكم وأرشدكم لمعالم دينه، ومناسك حجه. وقيل: هو أن يقول الله أكبر على ما هدانا (وبشر المحسنين) أي: الموحدين، عن ابن عباس. وقيل: الذين يعملون أعمالا حسنة، ولا يسيئون إلى غيرهم. ثم بين سبحانه دفعه عن المؤمنين بشارة لهم بالنصر فقال: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) غائلة المشركين بأن يمنعهم منهم، وينصرهم عليهم (إن الله لا يحب كل خوان كفور) وهم الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا، وكفروا نعمه، عن ابن عباس. وقيل: من ذكر اسم غير الله، وتقرب إلى الأصنام بذبيحته، فهو خوان كفور، عن الزجاج. ثم بين سبحانه إذنه لهم في قتال الكفار بعد تقدم بشارتهم بالنصرة فقال: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) أي: بسبب أنهم ظلموا، وقد سبق معناه في الحجة. وكان المشركون يؤذون المسلمين، ولا يزال يجئ مشجوج ومضروب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول لهم، صلوات الله عليه وآله: إصبروا فإني لم أؤمر بالقتال، حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أول آية نزلت في القتال. وفي الآية محذوف وتقديره أذن للمؤمنين أن يقاتلوا أو بالقتال من أجل أنهم ظلموا بأن أخرجوا من ديارهم، وقصدوا بالإيذاء والإهانة. (وإن الله على نصرهم لقدير) وهذا وعد لهم بالنصر معناه أنه سينصرهم. ثم بين سبحانه حالهم فقال: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) يحتمل معناه أن يكون أراد أخرجوا إلى المدينة فتكون الآية مدنية، ويحتمل إلى الحبشة، فتكون الآية مكية. وذلك بأنهم تعرضوا لهم بالأذى حتى اضطروا إلى الخروج. وقوله (بغير حق) معناه: من غير أن استحقوا ذلك، عن الجبائي أي: لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم: ربنا الله وحده. وقال أبو جعفر عليه السلام: نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد عليهم السلام، الذين أخرجوا من ديارهم، وأخيفوا (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) قد تقدم الكلام في هذا. (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) أي: صوامع في أيام شريعة
[ 157 ]
عيسى، وبيع في أيام شريعة موسى، ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الزجاج. والمعنى: ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض، لهدم في كل شريعة بناء المكان الذي يصلى فيه. وقيل: البيع للنصارى في القرى، والصوامع في الجبال والبراري، ويشترك فيها الفرق الثلاث. والمساجد للمسلمين، والصلوات كنيسة اليهود، عن أبي مسلم. وقال ابن عباس والضحاك وقتادة: الصلوات كنائس اليهود، يسمونها صلوة فعربت. وقال الحسن: أراد بذلك عين الصلاة، وهدم الصلاة بقتل فاعليها، ومنعهم من إقامتها. وقيل: أراد بالصلوات المصليات، كما قال. (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) وأراد المساجد (يذكر فيها اسم الله كثيرا) الهاء تعود إلى المساجد. وقيل: إلى جميع المواضع التي تقدمت، لأن الغالب فيها ذكر الله (ولينصرن الله من ينصره) هذا وعد من الله بأنه سينصر من ينصر دينه وشريعته. (إن لقوي عزيز) أي: قادر قاهر. (الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور [ 41 ] وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود [ 42 ] وقوم إبراهيم وقوم لوط [ 43 ] وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 44 ] فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 45 ]). القراءة: قرأ أهل البصرة. (أهلكتها) بالتاء. والباقون: (اهلكناها) والمعنى واحد. اللغة: يقال: خوت الدار خواء ممدودا فهي خاوية. وخوى جوف الإنسان من الطعام خوى مقصورا فهو خو. والتعطيل: إبطال العمل بالشئ، ولهذا يقال للدهري. معطل، لأنه أبطل العمل بالعلم على مقتضى الحكمة. والمشيد: المرتفع من الأبنية. شاد الرجل بناه يشيده وشيده ويشيده قال عدي بن زيد:
[ 158 ]
شاده مرمرا، وجلله كلسا، * فللطير في ذراه وكور (1) وقال امرؤ القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة، * ولا أطما إلا مشيدا بجندل (2) وقيل: المشيد المجصص والمبني بالشيد. والشيد: الجص والجيار. والجيار: الصاروج. المعنى: ثم وصف سبحانه من ذكرهم من المهاجرين فقال: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) والتمكين: إعطاء ما يصح معه الفعل، فإن كان الفعل لا يصح إلا بآلة، فالتمكين: إعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة، وكذلك إن كان لا يصح الفعل إلا بعلم ونصب ودلالة واضحة وسلامة ولطف وغير ذلك، فالتمكين: إعطاء جميع ذلك وإن كان الفعل يكفي في صحة وجوده مجرد القدرة. فخلق القدرة التمكين. فالمعنى الذين أعطيناهم ما به يصح الفعل منهم، وسلطناهم في الأرض، أدوا الصلاة بحقوقها، وأعطوا ما افترض الله عليهم من الزكاة. (وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف هو الحق، لأنه يعرف صحته. والمنكر هو الباطل لأنه لا يمكن معرفة صحته. قال الزجاج: هذه صفة من في قوله (من ينصره). وقال الحسن وعكرمة: هم هذه الأمة. وقال أبو جعفر عليه السلام: نحن هم والله ! (ولله عاقبة الأمور) هو كقوله (وإلى الله ترجع الأمور) ومعناه: إنه يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور إليه بلا مانع ولا منازع. ثم عزى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيبهم إياه، وخوف مكذبيه بذكر من كذبوا أنبياءهم فأهلكوا فقال. (وإن يكذبوك) يا محمد (فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين) كل أمة من هؤلاء الأمم فقد كذبت نبيها. ثم قال: (وكذب (1) الكلس: مثل الصاروج يبنى به. والذرى جمع الذروة: أعلى الشئ. والوكور جمع الوكر: عش الطائر وإن لم يكن فيه، وهذا البيت من قصيدة لعدي بن زيد قالها في ذم الدنيا ومن هذه القصيدة قوله: (أين كسرى) كسرى الملوك انوشر * وان أم أين قبله سابور). (2) الأطم: الحصون. والجندل: الحجارة. (*)
[ 159 ]
موسى) ولم يقل وقوم موسى، لأن قومه بنو إسرائيل، وكانوا آمنوا به. وإنما كذبه فرعون وقومه (فأمليت للكافرين) أي: أخرت عقوبتهم وأمهلتهم، يقال: أملى الله لفلان في العمر إذا أخر عنه أجله (ثم أخذتهم) أي: بالعذاب (فكيف كان نكير) استفهام معناه التقرير أي: فكيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب، فأبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالحياة هلاكا. قال الزجاج: المعنى ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. ثم ذكر سبحانه كيف عذب المكذبين، فقال: (فكأين من قرية أهلكناها) أي: وكم من قرى أهلكناها وأخذناها. والإختيار التاء، وذلك لقوله: (فأمليت). (وهي ظالمة) أي: وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر. (فهي خاوية على عروشها) أي: خالية من أهلها، ساقطة على سقوفها. (وبئر معطلة) عطف على قوله (من قرية) أي: وكم من بئر بار أهلها، وغار ماؤها، وتعطلت من دلائها، فلا مستقي منها، ولا وارد لها. (وقصر مشيد) أي: وكم من قصر رفيع مجصص، تداعى الخراب بهلاك أهله، فلم يبق فيه داع ولا مجيب. وأصحاب الآبار ملوك البدو. وأصحاب القصور ملوك الحضر. وفي تفسير أهل البيت عليهم السلام في قوله (وبئر معطلة): أن المعنى وكم من عالم لا يرجع إليه، ولا ينتفع بعلمه. وقال الضحاك: هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها (حاضور) نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ومعهم صالح. فلما حضروا مات صالح، فسمي المكان (حضرموت). ثم إنهم كثروا فكفروا وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نبيا يقال له حنظلة، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله فماتوا عن آخرهم، وعطلت بئرهم، وخرب قصر ملكهم. (أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 46 ] ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 47 ] وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير [ 48 ]
[ 160 ]
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين [ 49 ] فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم [ 50 ] والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 51 ]). القراءة: قرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم: (مما يعدون) بالياء. والباقون بالتاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (معجزين) بالتشديد، وفي سبأ أيضا في موضعين. والباقون: (معاجزين) بالألف في السورتين. الحجة: حجة من قرأ (يعدون) بالياء: أن قبله (يستعجلونك). وحجة من قرأ بالتاء: أن ذلك أعم. وقوله (معاجزين) أي: ظانين ومقدرين أن يعجزونا، لأنهم ظنوا أن لا بعث ولا نشور، فهو كقوله (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) ومعجزين: ينسبون من تبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العجز نحو جهلته نسبته إلى الجهل. وروي عن مجاهد أنه فسر (معجزين) مثبطين أي: يثبطون الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. المعنى: ثم حث سبحانه على الإعتبار بحال من مضى من القرون المكذبة لرسلهم فقال: (أفلم يسيروا في الأرض) أي: أو لم يسر قومك يا محمد في أرض اليمن والشام، عن ابن عباس. (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) أي: يعلمون بها ما يرون من العبر. والمعنى: فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم (أو آذان يسمعون بها) أخبار الأمم المكذبة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الهاء في أنها ضمير القصة والجملة بعدها تفسيرها. قال الزجاج: وقوله (التي في الصدور) من التوكيد الذي يورده العرب في الكلام، كقوله: (عشرة كاملة)، وقوله: (يقولون بأفواههم)، وقوله: (يطير بجناحيه). وقيل: إنه إنما ذكر ذلك لئلا يتوهم إلى غير معنى القلب نحو قلب النخلة، فيكون أنفى للبس بتجوز الإشتراك، وكذلك قوله: (يقولون بأفواههم) لأن القول قد يكون بغير الفم. والمعنى: إن الأبصار وإن كانت عمياء، فلا تكون في الحقيقة كذلك، إذا كان أصحابها عارفين بالحق، وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يقع معه الجحود بوحدانية الله.
[ 161 ]
(ويستعجلونك) يا محمد (بالعذاب) أن ينزل بهم ويستبطنونه (ولن يخلف الله وعده) أي: في إنزال العذاب بهم. قال ابن عباس. يعني يوم بدر (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) اختلف في معناه على وجوه أحدها: إن يوما من أيام الآخرة، يكون كألف سنة من أيام الدنيا، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن زيد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه أراد: أن يوما من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، كألف سنة، ويدل عليه ما روي أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام. ويكون المعنى على هذا: أنهم يستعجلون العذاب، وأن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة وثانيها: إن المعنى وإن يوما عند ربك، وألف سنة في قدرته، واحد، فلا فرق بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب، وبين تأخره في القدرة. إلا أنه سبحانه تفضل بالإمهال إذ لا يفوته شئ، عن الزجاج، وهو معنى قول ابن عباس في رواية عطا. وثالثها: إن يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب لشدته وعظمته، كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة، وكذلك نعيم الجنة، لأنه يكون في مقدار يوم من أيام الجنة من النعيم والسرور، مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا، لو بقي منعم فيها، ثم الكافر يستعجل ذلك العذاب لجهله، عن الجبائي. وهذا كما يقال في المثل: (أيام السرور قصار، وأيام الهموم طوال). وقال الشاعر: يطول اليوم لا ألقاك فيه، * وحول نلتقي فيه قصير وقال: تطاولن أيام معن بنا، * فيوم كشهرين إذ يستهل وقال جرير: (ويوم كأبهام الحبارى لهوته) (1). ثم أعلم سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والإمهال فقال: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة) مستحقة لتعجيل العقاب. (ثم أخذتها) أي: أهلكتها (وإلي المصير) لكل أحد. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (قل) لهم (يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) أي: مخوف (1) الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي، وأطول عنقا منه، وهو على شكل الإوزة، برأسه وبطنه غبرة. وفي المثل: (أقصر من إبهام الحبارى). (*)
[ 162 ]
عن معاصي الله، مبين لكم ما يجب عليكم فعله، وما يجب عليكم تجنبه. (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة) من الله لمعاصيهم (ورزق كريم) يعني نعيم الجنة، فإنه أكرم نعيم في أكرم دار. (والذين سعوا في آياتنا) أي: بذلوا الجهد في إبطال آياتنا، وبالغوا في ذلك. وأصل السعي: الإسراع في المشي. (معاجزين) أي: مغالبين، عن ابن عباس. والمعاجزة: محاولة عجز المغالب. وقيل: مقدرين أنهم يسبقوننا. والمعاجزة. المسابقة. وقيل: ظانين أن يعجزوا الله أي: يفوتوه، ولن يعجزوه، عن قتادة. وهذا مثل ما تقدم. ومن قرأ (معجزين) فمعناه: مثبطين لمن أراد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجاهد. وقيل: قاصدين تعجيز رسولنا. وقيل: ناسبين من تبعه إلى العجز. (أولئك أصحاب الجحيم) أي: الملازمون للجحيم أي: النار (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ 52 ] ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد [ 53 ] وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ 54 ] ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم [ 55 ]). النزول: روي عن ابن عباس وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تلا سورة والنجم، وبلغ إلى قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الاخرى) ألقى الشيطان في تلاوته. (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى) فسر بذلك المشركون. فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون وسجد أيضا المشركون لما سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم. فهذا الخبر إن صح محمول على أنه كان يتلو القرآن فلما بلغ إلى هذا الموضع، وذكر أسماء آلهتهم، وقد علموا من عادته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: تلك الغرانيق العلى. وألقى ذلك في تلاوته
[ 163 ]
توهم أن ذلك من القرآن، فأضافه الله سبحانه إلى الشيطان، لأنه إنما حصل بإغوائه ووسوسته. وهذا أورده المرتضى، قدس الله روحه، في كتاب التنزيه، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية، وهو وجه حسن في تأويله. المعنى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) من هنا مزيدة، والتقدير: ما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا. وإنما ذكر اللفظين لاختلاف فائدتهما. فالرسول الذي أرسله الله تعالى ولا يحمل عند الاطلاق على غير رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. والنبي الذي له الرفعة والدرجة العظيمة بالإرسال. وقيل: إن بينهما فرقا: فالرسول الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي، والنبي الذي يوحى إليه في منامه. فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. وقيل: بل الرسول هو المبعوث إلى أمة. والنبي هو الذي لا يبعث إلى أمة، عن قطرب. وقيل: إن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع والأحكام. والنبي: الذي يحفظ شريعة غيره، عن الجاحظ. والقول هو الأول، لأن الله سبحانه خاطب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مرة بالنبي، ومرة بالرسول فقال: (يا أيها الرسول)، و (يا أيها النبي). فالرسول والنبي واحد، لأن الرسول يعم الملائكة والبشر. والنبي يختص البشر، فجمع بينهما هنا، وفي قوله: (وكان رسولا نبيا) (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال المرتضى: لا يخلو التمني في الآية من أن يكون معناه التلاوة، كما قال حسان بن ثابت: تمنى كتاب الله أول ليلة، * وآخره لاقى حمام المقادر أو يكون تمني القلب. فإن كان المراد التلاوة، فالمعنى: إن من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه، حرفوا عليه، وزادوا فيما يقوله، ونقصوا، كما فعلت اليهود، وأضاف ذلك إلى الشيطان، لأنه يقع بغروره (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي: يزيله ويدحضه بظهور حججه. وخرج هذا على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كذب المشركون عليه، وأضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم، ما لم يكن فيها، وإن كان المراد تمني القلب فالوجه أن الرسول متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور، وسوس إليه الشيطان بالباطل، يدعوه إليه، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان، وترك استماع غروره. قال: وأما الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة، ومضعفة عند
[ 164 ]
أصحاب الحديث، وقد تضمنت ما ينزه الرسل عليهم السلام عنه. وكيف يجوز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله سبحانه: (كذلك لنثبت به فؤادك)، وقال: (سنقرؤك فلا تنسى). وإن حمل ذلك على السهو، فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ونظمها، ثم لمعنى ما تقدمها من الكلام، لأنا نعلم ضرورة أن الساهي لو أنشأ قصيدة، لم يجز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها، وفي معنى البيت الذي تقدمه، وعلى الوجه الذي تقتضيه فائدته. ويمكن أن يكون الوجه فيه ما ذكرناه في النزول، لأن من المعلوم أنهم كانوا يلقون عند قراءته طلبا لتغليطه، ويمكن أن يكون كان هذا في الصلاة، لأنهم كانوا يلقون في قراءته. وقيل أيضا: إنه كان إذا تلا القرآن على قريش، توقف في فصول الآيات، وأتى بكلام على سبيل الحجاج لهم. فلما تلا الآيات قال: (تلك الغرانيق العلى) على سبيل الإنكار عليهم، وعلى أن الأمر بخلاف ما قالوه وظنوه. وليس يمتنع أن يكون هذا في الصلاة، لأن الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا، وإنما نسخ من بعد. وقيل: إن المراد بالغرانيق. الملائكة، وقد جاء ذلك في بعض الحديث، فتوهم المشركون أنه يريد آلهتهم. وقيل: إن ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة، فلما ظن المشركون أن المراد به آلهتهم، نسخت تلاوته. وقال البلخي: ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما، فلما قرأ، ألقاها الشيطان في ذكره، فكاد أن يجريها على لسانه فعصمه الله ونبهه، ونسخ وسواس الشيطان، وأحكم آياته، بأن قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم محكمة، سليمة مما أراد الشيطان. ويجوز أن يكون النبي صلى اله عليه وآله وسلم لما انتهى إلى ذكر اللات والعزى، قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته، فألقاهما في تلاوته في غمار الناس، فظن الجهال أن ذلك من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسجدوا عند ذلك. والغرانيق: جمع غرنوق وهو الحسن الجميل، يقال: شاب غرنوق وغرانق: إذا كان ممتليا ريا (ثم يحكم الله آياته) أي: يبقي آياته، ودلائله وأوامره محكمة لا سهو فيها، ولا غلط. (والله عليم) بكل شئ (حكيم) واضع للأشياء مواضعها. (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) أي: ليجعل ذلك تشديدا في التعبد وامتحانا، عن الجبائي. والمعنى: إنه شدد المحنة والتكليف على الذين في
[ 165 ]
قلوبهم شك، وعلى الذين قست قلوبهم من الكفار، فتلزمهم الدلالة على الفرق بين ما يحكمه الله، وبين ما يلقيه الشيطان. (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي: في معاداة ومخالفة بعيدة عن الحق (وليعلم الذين أوتوا العلم) بالله وبتوحيده وبحكمته (أنه الحق من ربك) أي: إن القرآن حق لا يجوز عليه التبديل والتغيير (فيؤمنوا به) أي: فيثبتوا على إيمانهم. وقيل: يزدادوا إيمانا إلى إيمانهم. (فتخبت له قلوبهم) أي: تخشع وتتواضع لقوة إيمانهم (وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) أي: طريق واضح لا عوج فيه أي: يثبتهم على الدين الحق. وقيل: يهديهم ربهم بإيمانهم إلى طريق الجنة. (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) أي: في شك من القرآن، عن ابن جريج. وهذا خاص في من علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون من الكفار (حتى تأتيهم الساعة بغتة) أي: فجأة، وعلى غفلة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) قيل: إنه عذاب يوم بدر، عن قتادة ومجاهد. وسماه عقيما لأنه لا مثل له في عظم أمره، لقتال الملائكة فيه، ومثله قول الشاعر: عقم النساء فلا يلدن شبيهه، * إن النساء بمثله لعقيم وقيل: إنما سمى ذلك اليوم عقيما، لأنه لم يكون فيه للكفار خير، فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، عن الضحاك، واختاره الزجاج. وقيل: المراد به يوم القيامة، والمعنى: حتى تأتيهم علامات الساعة، أو عذاب يوم القيامة. وسقاه عقيما لأنه لا ليلة له، عن عكرمة والجبائي. النظم: اتصلت الآية الأولى بما تقدم من ذكر الكفار، وما متعوا به من نعيم الدنيا. ولما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما مني به أصحابه من الإقتار، تمنى لهم الدنيا. فبين سبحانه أن ذلك التمني من وساوس الشيطان، وأن ما أعده لهم من نعيم الآخرة خير. وقيل: اتصل بقوله (إنما أنا لكم نذير مبين) فبين سبحانه أنه بشر، وأن حاله كحال الرسل قبله. (الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم [ 56 ] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين [ 57 ] والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم
[ 166 ]
الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين [ 58 ] ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم [ 59 ] ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [ 60 ]). القراءة: قرأ ابن عامر: (قتلوا) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة: (مدخلا) بالفتح. والباقون بضم الميم. وقد سبق ذكره. المعنى: لما تقدم ذكر القيامة، بين صفته فقال: (الملك يومئذ لله) لا يملك أحد سواه شيئا بخلاف الدنيا (يحكم بينهم) أي: يفصل بين المؤمنين والكافرين. ثم بين حكمه فقال: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم) ينعمون فيها (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك في عذاب مهين) يهينهم ويذلهم (والذين هاجروا في سبيل الله) أي: فارقوا أوطانهم، وخرجوا من مكة إلى المدينة (ثم قتلوا) في الجهاد (أو ماتوا) في الغربة (ليرزقنهم الله رزقا حسنا) وهو رزق الجنة، عن الحسن والسدي والرزق الحسن: ما إذا رآه تمتد عينه إلى غيره. وهذا لا يقدر عليه غير الله تعالى، ولذلك قال: (وإن الله لهو خير الرازقين). وقيل: بل هو مثل قوله: (بل أحياء عند ربهم يرزقون). (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين. والمدخل يجوز أن يكون بمعنى المكان، وبمعنى المصدر (وإن الله لعليم) بأحوالهم (حليم) عن معالجة الكفار بالعقوبة (ذلك) أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك (ومن عاقب بمثل ما عوقب به) أي: من جازى الظالم بمثل ما ظلمه. قال الحسن: معناه قاتل المشركين كما قاتلوه. والأول لم يكن عقوبة، ولكن كقولهم: الجزاء بالجزاء، لازدواج الكلام. (ثم بغي عليه) أي: ظلم بإخراجه من منزله، يعني: ما فعله المشركون من البغي على المسلمين حتى أخرجوهم إلى مفارقة ديارهم (لينصرنه الله) يعني المظلوم الذي بغي عليه (إن الله لعفو غفور) روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة، لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتلون في هذا الشهر. فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا، فأظفر الله المسلمين بهم.
[ 167 ]
(ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير [ 61 ] ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير [ 62 ] ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير [ 63 ] له ما في السماوات وما في الارض وإن الله لهو الغني الحميد [ 64 ] ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم [ 65 ]). القراءة: قرأ أهل العراق غير أبي بكر: (ما يدعون) هنا، وفي لقمان بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ (تدعون) بالتاء فعلى الخطاب للمشركين، وحجته قوله: (يا أيها الناس ضرب مثل). ومن قرأ بالياء فعلى الحكاية، وحجته قوله: (يكادون يسطون). الاعراب: (فتصبح الأرض): إنما رفع لأنه لم يجعله جوابا للإستفهام، والمراد به الخبر، ومثله قول الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق، * وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق (1) المعنى: ثم قال سبحانه: (ذلك) أي: ذلك النصر (بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي: يدخل ما انتقص من ساعات الليل في النهار، وما انتقص من ساعات النهار في الليل (وأن الله سميع) لدعاء المؤمنين (بصير) بهم (ذلك) أي: ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين (بأن الله هو الحق) أي: ذو الحق في قوله وفعله. وقيل: معناه إنه الواحد في صفات التعظيم التي من اعتقده عليها، فهو محق. (وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) لأنه ليس عنده نفع ولا ضر (وأن الله هو العلي) عن الأشياء (الكبير) الذي كل شئ سواه يصغر مقداره عن معناه. (1) قائله: جميل. والسملق: القاع المستوي الأملس، والأجرد، لا شجر فيه. (*)
[ 168 ]
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) أي مطرا (فتصبح الأرض مخضرة) بالنبات (إن الله لطيف) بإرزاق عباده من حيث لا يحتسبون (خبير) بما في قلوبهم. وقيل: اللطيف المحيط بتدبير دقائق الأمور، الذي لا يتعذر عليه شئ يتعذر على غيره. (له ما في السماوات وما في الأرض) أي: له التصرف في جميع ذلك (وإن الله لهو الغني الحميد) الغني الحي الذي ليس بمحتاج. الحميد: المحمود بصفاته وأفعاله (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) من الحيوان والجماد (والفلك تجري في البحر بأمر ه) أي: وسخر لكم الفلك في حال جريها (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) أي: يمنع السماء من وقعها على الأرض إلا بإرادته. والمعنى: إلا إذا أذن الله في ذلك بأن يريد إبطالها وإعدامها (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) برأفته ورحمته بهم فعل هذا التسخير، وأمسك السماء من الوقوع. (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان لكفور [ 66 ] لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 67 ] وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون [ 68 ] الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون [ 69 ] ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [ 70 ]). المعنى: ثم ذكر سبحانه دلالة أخرى على وحدانيته فقال: (وهو الذي أحياكم) بعد أن كنتم نطفا ميتة (ثم يميتكم) عند انتهاء آجالكم (ثم يحييكم) للبعث والحساب. وفيه بيان أن من قدر على ابتداء الإحياء قدر على إعادة الإحياء (إن الإنسان لكفور) أي جحود، فإنه مع هذه الأدلة الدالة على الخلق، يجحد الخالق (لكل أمة) أي: لكل قرن مضى (جعلنا منسكا هم ناسكوه) أي: شريعة هم عاملون بها، عن ابن عباس. وقيل: مكانا يألفونه، وموضعا يعتادونه لعبادة الله. ومناسك الحج من هذا لأنها مواضع العبادات فيه، فهي متعبدات الحج. وقيل: موضع قربان أي: متعبد في إراقة الدماء منى أو غيره، عن مجاهد وقتادة.
[ 169 ]
(فلا ينازعنك في الأمر) هذا نهي لهم عن منازعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: نهي له لأن المنازعة تكون من اثنين، فإذا وجه النهي إلى من ينازعه، فقد وجه إليه، ومنازعتهم قولهم: اتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعنون الميتة أي. فلا يخاصمنك في أمر الذبح. وقيل: معناه ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم، وقد نسخت هذه الشريعة الشرائع المتقدمة. (وادع إلى ربك) أي: لا تلتفت إلى منازعتك، وادع إلى توحيد ربك، وإلى دينه (إنك لعلى هدى مستقيم) أي: على دين قيم. (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) أي: إن خاصموك في أمر الذبيحة فقل: الله أعلم بتكذيبكم، فهو يجازيكم به. وهذا قبل الأمر بالقتال. وقيل. معناه لان جادلوك على سبيل المراء والتعنت، بعد لزوم الحجة، فلا تجادلهم على هذا الوجه، وادفعهم بهذا القول. وقيل: معناه وإن نازعوك في نسخ الشريعة، فحاكمهم إلى الله. (الله يحكم بينكم يوم القيامة) أي: يفصل بينكم (فيما كنتم فيه تختلفون) أي: فيما تذهبون فيه إلى خلاف ما يذهب. ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله وسلم، والمراد جميع المكلفين: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) من قليل وكثير، لا يخفى عليه شئ من ذلك (إن ذلك في كتاب) أي: مثبت في الكتاب المحفوظ، عن الجبائي. (إن ذلك على الله يسير) أي: كتابته في اللوح المحفوظ على الله يسير لا يحتاج إلى معالجة خطوط وحروف، وإنما يقول: كن فيكون. وقيل. إن الحكم بينكم يسير على الله. (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير [ 71 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 72 ] يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله
[ 170 ]
لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب [ 73 ] ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز [ 74 ] الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 75 ]). القراءة: قرأ يعقوب وسهل: (إن الذين يدعون) بالياء. والباقون بالتاء. اللغة: السطوة: إظهار الحال الهائلة للإخافة، يقال: سطا عليه يسطو سطوة، وسطا به. والإنسان مسطو به. والسطوة والبطشة بمعنى. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال الكفار، فقال: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا) أي: حجة (وما ليس لهم به علم) إنها آلهة. وإنما قال ذلك لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة ودليل كالضروريات (وما للظالمين من نصير) أي: وما للمشركين من مانع من العذاب. ثم أخبر سبحانه عن شدة عنادهم، فقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) يعني من القرآن وغيره من حجج الله (بينات) أي: واضحات لمن تفكر فيها، وهي منصوبة على الحال (تعرف) يا محمد (في وجوه الذين كفروا المنكر) أي: الإنكار. وهو مصدر يريد أثر الإنكار من الكراهة، والعبوس. (يكادون يسطون) أي: يقعون ويبشطون من شدة الغيظ. (بالذين يتلون عليهم آياتنا) والمعنى يكادون يبسطون إليهم أيديهم بالسوء. يقال: سطا عليه وسطا به: إذا تناوله بالبطش. (قل) يا محمد لهم: (أفأنبئكم بشر من ذلكم) وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون، وأشد عليكم منه. ثم فسر ذلك فقال (النار) أي: هو النار (وعد الله الذين كفروا وبئس المصير) أي: المرجع والمأوى. ثم خاطب سبحانه جميع المكلفين، فقال: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) قال الأخفش: إن قيل فأين المثل الذي ذكر الله في قوله (ضرب مثل) قيل: ليس ههنا مثل، والمعنى: إن الله قال: ضرب لي مثل أي: شبه في الأوثان. ثم قال: فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي. وقال القتيبي: ههنا مثل لأنه ضرب مثل هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، بمن عبد من لا يخلق ذبابا. وقيل: معناه أثبت حديثا يتعجب منه، فاستمعوا له لتقفوا على جهل
[ 171 ]
الكفار. من قولك: ضربت خيمة أي: نصبتها وأثبتها. وقيل: معناه جعل ذلك كالشئ اللازم الثابت من قولك: ضرب السلطان الجزية على أهل الذمة. (إن الذين يدعون من دون الله) يعني الأصنام. وكان ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة (لن يخلقوا ذبابا) في صغره وقلته (ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا) مما عليهم. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران، فيجف فيأتي الذباب فيختلسه (لا يستنقذوه منه) أي: لا يقدرون على استنقاذه منه (ضعف الطالب والمطلوب) الطالب الذباب، والمطلوب الصنم، عن ابن عباس. وروي عنه على العكس من هذا، وهو أن الطالب الصنم، والمطلوب الذباب. فعلى هذا يكون معناه ضعف السالب والمسلوب. وقيل: إن معناه راجع إلى العابد والمعبود أي: جهل العابد والمعبود، وقهر العابد والمعبود، عن الضحاك، وهو معنى قول السدي. الطالب الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. (ما قدروا الله حق قدره) أي: ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا هؤلاء الأصنام شركاء له، عن الحسن والفراء. وقيل: معناه ما عرفوه حق معرفته، عن الأخفش. وقيل: ما وصفوه حق صفته، عن قطرب. (إن الله لقوي عزيز) أي: قادر لا يقدر أحد على مغالبته (الله يصطفي من الملائكة رسلا) يعني جبرائيل وميكائيل (ومن الناس) يعني النبيين (إن الله سميع بصير) سميع بأقوالهم، بصير بضمائرهم وأفعالهم. النظم: إنما اتصل قوله: (ويعبدون من دون الله) بقوله (إنك على صراط مستقيم) أي: ومن خالفك على الكفر والضلال. وإنما اتصل قوله: (يا أيها الناس ضرب مثل) بقوله: (ويعبدون من دون الله ما لا حجة لهم فيه) والمعنى أن من لا يقدر على خلق ذباب مع صغره، وإذا سلبه الذباب شيئا لا يقدر على استرداده، فكيف يستحق أن يعبد. ثم قال (ما قدروا الله حق قدره) أي: من أشرك غيره معه في العبادة مع كمال قدرته، فما عرفه حق معرفته. ثم قال: (الله يصطفي من الملائكة رسلا) ليعلم أنه سبحانه إنما اصطفاهم لعبادتهم إياه. فمن جعل الملائكة والأنبياء أولادا، فإنه لم يعظمه حق عظمته، ولم يعرفه حق معرفته، إذ جعل من يعبده سبحانه معبودا.
[ 172 ]
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور [ 76 ] يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 77 ] وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير [ 78 ]). الاعراب: (حق جهاده): منصوب على المصدر، لأنه مضاف إلى المصدر (من حرج): من مزيدة أي: ما جعله عليكم حرجا. (ملة أبيكم): منصوبة بإضمار فعل تقديره واتبعوا والزموا ملة أبيكم، لأن قبله (جاهدوا في الله حق جهاده). قال المبرد: عليكم ملة أبيكم. وقال الزجاج: وجائز أن يكون منصوبا على تقدير: وافعلوا الخير فعل أبيكم. المعنى: لما وصف الله سبحانه نفسه بأنه سميع بصير، عقبه بقوله: (يعلم ما بين أيديهم) يعني ما بين أيدي الخلائق من القيامة وأحوالها، وما يكون في مستقبل أحوالهم. (وما خلفهم) أي: وما يخلفونه من دنياهم. وقيل: يعلم ما بين أيديهم أي: أول أعمالهم، وما خلفهم: آخر أعمالهم، عن الحسن وقيل: معناه يعلم ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء، وما يكون بعد خلقهم، عن علي بن عيسى (وإلى الله ترجع الأمور) يوم القيامة، فلا يكون لأحد أمر ولا نهي. ثم خاطب سبحانه المؤمنين، فقال: (يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا) أي: صلوا (واعبدوا ربكم) بفعل ما تعبدكم به من العبادات. (وافعلوا الخير) قال ابن عباس: يريد صلة الرحم، ومكارم الأخلاق، ومعناه: لا تقتصروا على فعل الصلاة والواجبات من العبادات، وافعلوا غيرها من أنواع البر، من إغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وبر الوالدين، وما جانسها. (لعلكم تفلحون) أي: لكي تفلحوا، وتسعدوا (وجاهدوا في الله حق جهاده) أكثر المفسرين حملوا الجهاد ههنا على جميع أعمال الطاعة، وقالوا: حق الجهاد أن
[ 173 ]
يكون بنية صادقة خالصة لله تعالى. وقال السدي: هو أن يطاع فلا يعصى. وقال الضحاك: معناه جاهدوا بالسيف من كفر بالله، وإن كانوا الآباء والأبناء. وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هو مجاهدة الهوى والنفس. (هو اجتباكم) أي: اختاركم واصطفاكم لدينه (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي: من ضيق لا مخرج منه، ولا مخلص من عقابه، بل جعل التوبة، والكفارات، ورد المظالم، مخلصا من الذنوب، فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به، فلا عذر لأحد في ترك الإستعداد للقيامة. وقيل: معناه أن الله سبحانه لم يضيق عليكم أمر الدين، فلن يكلفكم ما لا تطيقون، بل كلف دون الوسع، فلا عذر لكم في تركه. وقيل: إنه يعني الرخص عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة عن الكلبي ومقاتل، واختاره الزجاج. (ملة أبيكم إبراهيم) أي: دينه. لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما سماه أبا للجميع، لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على الولد، كما قال: (وأزواجه أمهاتهم) عن الحسن. وقيل: إن العرب من ولد إسماعيل، وأكثر العجم من ولد إسحاق، وهما إبنا إبراهيم، فالغالب عليهم أنهم أولاده. (هو سماكم المسلمين) أي: الله سماكم المسلمين، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: هو كناية عن إبراهيم، عن ابن زيد قال: ويدل عليه قوله: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك). (من قبل) أي: من قبل إنزال القران (وفي هذا) أي: وفي هذا القرآن (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) أي: ليكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم، شهيدا عليكم بالطاعة والقبول، فإذا شهد لكم به، صرتم عدولا تشهدون على الأمم الماضية، بأن الرسل قد بلغوهم رسالة ربهم، وأنهم لم يقبلوا، فيوجب لكافرهم النار، ولمؤمنهم الجنة بشهادتكم. وهذا من أشرف المراتب، وهو مثل قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) الآية. وقيل: معناه ليكون الرسول شهيدا عليكم في إبلاغ رسالة ربه إليكم، وتكونوا شهداء على الناس بعده بان تبلغوا إليهم ما بلغه الرسول إليكم. (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) قال قتادة: فريضتان واجبتان افترضهما الله عليكم، فأدوهما إلى الله. وروى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبل
[ 174 ]
الصلاة إلا بالزكاة). (واعتصموا بالله) أي: تمسكوا بدين الله عن الحسن. وقيل: معناه امتنعوا بطاعته عن معصيته. وقيل: امتنعوا بالله من أعدائكم أي: اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون. وقيل: ثقوا بالله، وتوكلوا عليه، عن مقاتل (هو مولاكم) أي: وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم، ومالككم (فنعم المولى) هو لمن تولاه (ونعم النصير) هو لمن استنصره. وقيل: فنعم المولى إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه، ونعم النصير إذ أعانكم لما أطعتموه.
[ 175 ]
سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة عدد آيها: مائة وثماني عشرة آية كوفي، تسع عشرة في الباقين. اختلافها: آية واحدة (وأخاه هارون) غير الكوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان، وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت). وقال أبو عبد الله عليه السلام: من قرأ سورة المؤمنين، ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين. تفسيرها: ختم الله سورة الحج بأمر المكلفين في العبادة، وأفعال الخير على طريق الإجمال، وافتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة، وبيان تلك الأفعال، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم * (قد أفلح المؤمنون [ 1 ] الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 2 ] والذين هم عن اللغو معرضون [ 3 ] والذين هم للزكاة فاعلون [ 4 ] والذين هم لفروجهم حافظون [ 5 ] إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 6 ] فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 7 ] والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون [ 8 ] والذين هم على صلواتهم يحافظون [ 9 ] أولئك هم الوارثون [ 10 ] الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 11 ]).
[ 176 ]
القراءة: قرأ ابن كثير: (لام h نتهم) على الواحد هنا، وفي المعارج. والباقون: (لامأناتهم) على الجمع. وقرأ (على صلاتهم) بالإفراد أهل الكوفة غير عاصم. والباقون: (على صلواتهم) على الجمع. الحجة: قال أبو علي: وجه الإفراد في الأمانة أنه مصدر واسم جنس، فيقع على الكثرة. ووجه الجمع قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). ومما أفردت فيه الأمانة، والمراد به الكثرة، ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها) يريد تفسير قوله: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) ووجه الإفراد في الصلاة: أنها مصدر. ووجه الجمع: أنها صارت بمنزلة الإسم لاختلاف أنواعها، والجمع فيه أقوى، لأنه صار إسما شرعيا، لانضمام ما لم يكن في أصل اللغة إليها. المعنى: (قد أفلح المؤمنون) أي: فاز بثواب الله الذين صدقوا بالله، وبوحدانيته، وبرسله. وقيل: معنى أفلح بقي أي: قد بقيت أعمالهم الصالحة. وقيل: معناه قد سعد. قال لبيد: (ولقد أفلح من كان عقل) قال الفراء: يجوز أن يكون (قد) ههنا لتأكيد الفلاح للمؤمنين. ويجوز أن يكون تقريبا للماضي من الحال. ألا تراهم يقولون (قد قامت الصلاة) قبل حال قيامها. فيكون المعنى في الآية: إن الفلاح قد حصل لهم، وإنهم عليه في الحال. ثم وصف هؤلاء المؤمنين بأوصاف فقال: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) أي: خاضعون، متواضعون، متذللون، لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: (أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه) ! وفي هذا دلالة على أن الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح. فأما بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود. وأما بالجوارح فهو غض البصر، والإقبال عليها، وترك الإلتفات والعبث. قال ابن عباس: خشع فلا يعرف من على يمينه، ولا من على يساره. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رفع بصره إلى السماء في صلاته. فلما نزلت الاية طأطأ رأسه، ورمى ببصره إلى الأرض. (والذين هم عن اللغو معرضون) اللغو في الحقيقة هو كل قول أو فعل لا
[ 177 ]
فائدة فيه يعتد بها، فذلك قبيح محظور، يجب الإعراض عنه. وقال ابن عباس: اللغو الباطل. وقال الحسن: هو جميع المعاصي. وقال السدي: هو الكذب. وقال مقاتل: هو الشتم، فإن كفار مكة كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله. وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي (والذين هم للزكاة فاعلون) أي: مؤذون. فعبر عن التأدية بالفعل لأنه فعل. قال أمية بن أبي الصلت: (المطعمون الطعام في السنة الأزمة والفاعلون للزكوات) (1). قال ابن عباس للصدقة الواجبة مؤدون. (والذين هم لفروجهم حافظون) قال الليث: الفرج إسم لجميع سوءات الرجال والنساء. والمراد بالفروج ههنا فروج الرجال بدلالة قوله (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) قال الزجاج: المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم، وأمروا بحفظه، إلا على أزواجهم. ودل على المحذوف ذكر اللوم في قوله (فإنهم غير ملومين) وملك اليمين في الآية المراد به الإماء، لأن الذكور من المماليك لا خلاف في وجوب حفظ الفرج منهم، وإنما قيل للجارية ملك يمين، ولم يقل في الدار ونحوها ملك يمين، لأن ملك الجارية أخص منه، إذ يجوز له نقض بنية الدار، وليس له نقض بنية الجارية، وله عارية الدار، وليس له عارية الجارية للوطء حتى توطأ بالعارية. وإنما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج والإماء، وإن كانت لهن أحوال يحرم وطؤهن فيها، كحال الحيض، والعدة، للجارية من زوج لها وما أشبه ذلك، لأن الغرض بالآية بيان جنس من يحل وطؤها دون الأحوال التي لا يحل فيها الوطء. (فمن ابتغى وراء ذلك) أي: طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة (فأولئك هم العادون) أي: الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي: حافظون وافون. والأمانات ضربان: أمانات الله تعالى، وأمانات العباد. فالأمانات التي بين الله تعالى وبين عباده هي العبادات كالصيام، والصلاة، والإغتسال. وأمانات العباد هي مثل الودائع، والعواري، والبياعات، والشهادات، وغيرها. وأما العهد فعلى ثلاثة أضرب: أوامر الله تعالى، ونذور الإنسان، والعقود الجارية بين الناس، فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب (1) الأزمة: الشدة والقحط. (*)
[ 178 ]
الأمانات والعهود، والقيام بما يتولاه منها. (والذين هم على صلواتهم يحافظون) أي: يقيمونها في أوقاتها، ولا يضيعونها. وإنما أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها، وعلو رتبتها عنده تعالى. (أولئك هم الوارثون) معناه: إن من كانوا بهذه الصفات واجتمعت فيهم هذه الخلال، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإن مات ودخل النار، ورث أهل الجنة منزله). وقيل: إن معنى الميراث هنا أنهم يصيرون إلى الجنة بعد الأحوال المتقدمة، وينتهي أمرهم إليها، كالميراث الذي يصير الوارث إليه. ثم وصف الوارثين فقال: (الذين يرثون الفردوس) وهو إسم من أسماء الجنة، عن الحسن، ولذلك أنث فقال: (هم فيها خالدون) وقيل: هو إسم لرياض الجنة، عن مجاهد، وأبي علي الجبائي. وقيل: هو جنة مخصوصة. ثم اختلف في أصله فقيل: إنه إسم رومي فعرب. وقيل: هو عربي وزنه فعلول وهو البستان الذي فيه كرم. قال جرير: (يا بعد يبرين من باب الفراديس) (1) وقال الجبائي: معنى الوراثة هنا: أن الجنة ونعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب، كما يؤول المال إلى الوارث من غير اكتساب. (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين [ 12 ] ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 13 ] ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 14 ] ثم إنكم بعد ذلك لميتون [ 15 ] ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 16 ] ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 17 ] وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرن [ 18 ] فأنشأنا لكم به جنات (1) وقبله: (فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا). ويبرين: موضع من أقصاع بحرين. (*)
[ 179 ]
من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون [ 19 ]). القراءة: قرأ ابن عامر، وأبو بكر: (عظما فكسونا العظم) على الإفراد. وقرأ زيد عن يعقوب: (عظما فكسونا العظام). والباقون: على الجمع في الموضعين. الحجة: قال أبو علي: الجمع أشبه بما جاء في التنزيل (إذا كنا عظاما ورفاتا)، (إذا كنا عظاما نخرة) (من يحيي العظام) والإفراد لأنه إسم جنس، فأفرد كما يفرد المصادر وغيرها من الأجناس نحو الدرهم والإنسان، وليس ذلك على حد قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا، * فإن زمانكم زمن خميص (1) ولكنه على ما أنشده أبو زيد: لقد تعللت على أيانق * صهب قليلات القراد اللازق (2) فالقراد يراد به الكثرة لا محالة. اللغة: السلالة: إسم لما يسل من الشئ كالكساحة إسم لما يكسح. وتسمى النطفة سلالة، والولد سلالة، وسليلة، والجمع سلالات وسلائل. فالسلالة: صفوة الشئ التي يخرج منها كالسلافة قال الشاعر: وهل أنت الأمهرة عربية * سليلة أفراس تجللها بغل (3) والنطفة: الماء القليل. وقد يقال للماء الكثير أيضا. ومنه قول أمير المؤمنين، عليه أفضل الصلوات: مصارعهم دون النطفة. يريد النهروان يعني الخوارج. ومنه الحديث: (حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا) يعني بحر المشرق، وبحر المغرب. (1) زمن خميص أي شديد. (2) تعلل بالأمر: تشاغل. وايانق جمع أينق وهي جمع الناقة. والأصهب من الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. والقراد: دويبة تعض الإبل. ومعنى قليلات: إن جلودها ملس لا يثبت عليها قراد، الأينق لانها سمان ممتلئة. (3) المهرة: ولد الفرس، وقال بعضهم إن قوله (بغل) تصحيف، وإن صوابه نغل بالنون، وهو الخسيس من الناس والدواب. ويروى البيت: (وما هند.. تحللها بغل). (*)
[ 180 ]
الاعراب: (في قرار): في موضع الصفة لنطفة. و (علقة): حال من النطفة بعد الفراغ من الفعل، وكذلك القول في مضغة وعظام. و (لحما). مفعول ثان لكسونا. و (خلقا): مصدر أنشانا من غير لفظه. (من نخيل وأعناب) صفة لجنات. وكذلك قوله (لكم فيها فواكه كثيرة). المعنى: ثم قال سبحانه على وجه القسم: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) المراد بالإنسان ولد آدم عليه السلام، وهو إسم الجنس، فيقع على الجميع، عن ابن عباس، ومجاهد. وأراد بالسلالة الماء يسل من الظهر سلا من طين أي: من طين آدم، لأنها تولدت من طين خلق آدم منه. قال الكلبي: يقول من نطفة سلت تلك النطفة من طين. وقيل: أراد بالإنسان آدم عليه السلام، لأنه استل من أديم الأرض، عن قتادة. (ثم جعلناه) يعني ابن آدم الذي هو الإنسان. (نطفة في قرار مكين) يعني الرحم مكن فيه الماء بأن هئ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة) مفسر في سورة الحج. (فخلقنا المضغة عظاما) أي: جعلنا تلك المضغة من اللحم عظاما (فكسونا العظام لحما) أي: فأنبتنا اللحم على العظام، كاللباس. بين سبحانه تنقل أحوال الإنسان في الرحم، حتى استكمل خلقه، لينبه على بدائع حكمته، وعجائب صنعته، وكمال نعمته. (ثم أنشأناه خلقا آخر) أي: نفخنا فيه الروح، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك. وقيل: هو نبات الشعر والأسنان، وإعطاء الفهم، عن قتادة. وقيل: يعني ثم أنشاناه ذكرا وأنثى، عن الحسن. (فتبارك الله أحسن الخالقين) أي: تعالى الله ودام خيره وثبت. وقيل: معناه استحق التعظيم بأنه قديم لم يزل ولا يزال، لأنه مأخوذ من البروك الذي هو الثبوت. وقال. (أحسن الخالقين) لأنه لا تفاوت في خلقه. وأصل الخلق التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قسته لتقطع منه شيئا. وقال حذيفة في هذه الآية: (تصنعون ويصنع الله وهو خير الصانعين). وفي هذا دليل على أن اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله تعالى، إلا أن الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط. فإن المراد من الخلق إيجاد الشئ مقدرا تقديرا، لا تفاوت فيه. وهذا إنما يكون من الله سبحانه وتعالى، ودليله قوله (ألا له الخلق والأمر). وروي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما
[ 181 ]
بلغ إلى قوله (خلقا آخر) خطر بباله (فتبارك الله أحسن الخالقين) فلما أملاها رسول الله كذلك، قال عبد الله: إن كان نبيا يوحى إليه، فأنا نبي يوحى إلي ! فلحق بمكة مرتدا. ولو صح هذا، فإن هذا القدر لا يكون معجزا، ولا يمتنع أن يتفق ذلك من الواحد منا، لكن هذا الشقي إنما اشتبه عليه، أو شبه على نفسه، لما كان في صدره من الكفر والحسد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (ثم إنكم بعد ذلك) أي: بعدما ذكرنا من تمام الخلق (لميتون) عند انقضاء آجالكم (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أي: تحشرون إلى الموقف، والحساب، والجزاء. أخبر الله سبحانه أن هذه البنية العجيبة المبنية على أحسن إتقان وإحكام، تنقض بالموت لغرض صحيح، وهو البعث والإعادة. وهذا لا يمنع من الإحياء في القبور، لأن إثبات البعث في القيامة، لا يدل على نفي ما عداه. ألا ترى أن الله سبحانه أحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف، وأحيا قوم موسى على الجبل بعد ما أماتهم. وفي الآية دلالة على فساد قول النظام في أن الإنسان هو الروح. وقول معمر: إن الإنسان شئ لا ينقسم وإنه ليس بجسم. (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) أي: سبع سماوات كل سماء طريقة وسميت بذلك لتطارقها، وهو أن بعضها فوق بعض. وقيل: لأنها طرائق الملائكة، عن الجبائي. وقيل: الطرائق الطباق، وكل طبقة طريقة، عن ابن زيد. وقيل: إن ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وكذلك ما بين السماء والأرض، عن الحسن. (وما كنا عن الخلق غافلين) إذ بنينا فوقهم سبع سماوات، أطلعنا فيها الشمس، والقمر، والكواكب. وقيل: معناه ما خلقناهم عبثا، بل خلقناهم عالمين بأعمالهم وأحوالهم، عن الجبائي. وفي هذا دلالة على أنه عالم بجميع المعلومات، وفيه زجر عن السيئات، وترغيب في الطاعات. (وأنزلنا من السماء ماء) أي: مطرا وغيثا (بقدر) أي: بقدر الحاجة، لا يزيد على ذلك فيفسد، ولا ينقص عنه فيهلك، بل على ما توجبه المصلحة (فأسكناه في الأرض) أي: جعلنا له الأرض مسكنا، جمعناه فيه لينتفع به. يريد ما يبقى في المستنقعات والدحلان (1). أقر الله الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع (1) الدحلان جمع الدحل: المصنع يجمع الماء. (*)
[ 182 ]
المطر. وقيل: معناه جعلنا عيونا في الأرض. وروى مقاتل عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند. وجيحون وهو نهر بلخ. ودجلة، والفرات وهما نهرا العراق. والنيل وهو نهر مصر. أنزلها الله من عين واحدة، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معائشهم، وذلك قوله (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) الآية. (وإنا على ذهاب به لقادرون) أي: ونحن على إذهابه قادرون، ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات. نبه سبحانه بذلك على عظيم نعمته على خلقه بإنزال الماء من السماء (فأنشأنا لكم) أي: أحدثنا وخلقنا لنفعكم (به) أي: بسبب هذا الماء (جنات من نخيل وأعناب لكم) يا معاشر الخلق (فيها فواكه كثيرة) تتفكهون بها (ومنها تأكلون) وإنما خص النخل والأعناب، لأنها ثمار الحجاز من المدينة، والطائف، فذكرهم سبحانه بالنعم التي عرفوها. النظم: وجه اتصال الآيات بما قبلها: أنه سبحانه لما ذكر نعمته على المؤمنين بما أعد لهم في الآخرة، ابتدأ بذكر نعمه عليهم في مبتدأ خلقه، تنبيها لهم على النظر فيها، وترغيبا في التمسك بالحسنات المذكورة. ولما بين أحوال الآخرة، بين متى يكون البعث، ودل بذلك على أن من قدر على خلق الإنسان في هذا الترتيب، والتركيب العجيب، قدر على الإعادة. ثم أبان عن قدرته على البعث، بقدرته على خلق السماوات. ثم بين أنه لا يغفل عن عباده، إذ لا يشغله فعل عن فعل. ثم بين أنه قادر لذاته حيث أنزل من السماء الماء، وأسكنه في الأرض، بأن فرقه في البحار، والأنهار، والعيون. ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهابه، دلالة على أن هذه النعمة وقعت باختياره. ثم ذكر تفصيل النعمة. (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين [ 20 ] وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون [ 21 ] وعليها وعلى الفلك تحملون [ 22 ] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون [ 23 ] فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا
[ 183 ]
في آبائنا الاولين [ 24 ] إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين 25). القراءة: قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو: (طور سينا) بكسر السين. والباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب عن روح: (تنبت بالدهن) بضم التاء. والباقون: (تنبت) بفتح التاء وضم الباء. وفي الشواذ قراءة الحسن والزهري والأعرج (تنبت) بضم التاء وفتح الباء. وقد ذكرنا اختلافهم في (نسقيكم) في سورة النحل. الحجة: قال أبو عمرو: من قرأ سيناء بفتح السين لم ينصرف الإسم عنده في معرفة ولا نكرة، لأن الهمزة في هذا البناء لا تكون إلا للتأنيث، ولا تكون للإلحاق، لأن فعلال لا يكون إلا في المضاعف، فلا يجوز أن يلحق به شئ. فهذا إذا كموضع أو بقعة تسمى بطرفاء، أو صحراء. ومن قرأ سيناء بالكسر: فالهمزة فيها منقلبة عن الياء، كعلباء وسيساء (1)، وهي الياء التي أظهرت في نحو درحاية (2). وإنما لم ينصرف على هذا القول، وإن كان غير مؤنث، لأنه جعل اسم بقعة، فصار بمنزلة امرأة سميت بجعفر. ومن قرأ تنبت بالدهن احتمل وجهين أحدهما: أن يجعل الجار زائدا، يريد تنبت الدهن، كما في قوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقد زيدت هذه الباء مع الفاعل، كما زيدت مع المفعول به في نحو قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لأقت لبون بني زياده (3) وقد زيدت مع هذه الكلمة بعينها في قوله: بواد يمان تنبت الشث حوله، * وأسفله بالمرخ، والشبهان (4) حملوه على ينبت أسفله المرخ. ويجوز أن تكون الباء متعلقا بغير هذا الفعل الظاهر، ويقدر مفعولا محذوفا تقديره تنبت جناها أي: ثمرتها وفيها دهن وصبغ، كما تقول: خرج بثيابه، وركب بسلاحه. ومن قرأ تنبت بالدهن جاز أن يكون الجار فيه (1) العلباء: عصبة في صفحة العنق. والسيساء: منتظم فقار الظهر. (2) الدرحاية من الرجال: القصير السمين البطين. (3) مضى البيت في هذا الجزء فراجع، (4) مضى البيت في هذا الجزء فراجع. (*)
[ 184 ]
للتعدي أنبته ونبت به. ويجوز أن يكون الباء في موضع حال، كما كان في الوجه الأول، ولا يكون للتعدي. ولكن تنبت وفيها دهن. وقد قالوا أنبت بمعنى نبت، فكان الهمزة في أنبت مرة للتعدي، ومرة لغيرها. ويكون من باب أخال وأجرب وأقطف أي: صار ذا خال، وجرب (1). ومن قرأ تنبت فهو على معنى تنبت، وفيها دهنها، وتؤكد ذلك قراءة عبد الله (تخرج بالدهن) أي: تخرج من الأرض ودهنها معها. قال ابن جني: ذهبوا في بيت زهير: (حتى إذا أنبت البقل) (2) إلى أنه في معنى نبت. وقد يجوز أن يكون محذوف المفعول بمعنى حتى إذا أنبت البقل ثمره. قال: ومن ذهب إلى زيادة الباء في قوله: تنبت بالدهن فمضعوف المذهب، لأنه يزيد حرفا لا حاجة له إلى اعتقاد زيادته. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم، فقال: (وشجرة تخرج من طور سيناء) أي وأنشأنا لكم بذلك المطر شجرة يعني شجرة الزيتون، وخضت بالذكر لما فيها من العبرة بأنه لا يتعاهدها إنسان بالسقي، وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن الذي تعظم به المنفعة. وسيناء: إسم المكان الذي به هذا الجبل في أصح الأقوال. وهي نبطية في قول الضحاك، وحبشية في قول عكرمة. وهي إسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها، عن مجاهد. وقيل: سيناء البركة، فكأنه قيل: جعل البركة، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: طور سيناء الجبل المشجر أي: كثير الشجر، عن الكلبي، وقيل: هو الجبل الحسن، عن عطاء. وهو الجبل الذي نودي منه موسى عليه السلام، وهو ما بين مصر، وايلة، عن ابن زيد. (تنبت بالدهن) أي: تنبت ثمرها بالدهن، لأنه يعصر من الزيتون الزيت (وصبغ للآكلين) والصبغ ما يصطبغ به من الأدم، وذلك أن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه. والإصطباغ بالزيت: الغمس فيه للائتدام به. والمراد بالصبغ الزيت، عن ابن عباس، فإنه يدهن به ويؤتدم. جعل الله في هذه الشجرة أدما ودهنا. فالأدم الزيتون، والدهن الزيت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الزيت شجرة مباركة فائتدموا به، وادهنوا). (1) [ وقطف ]. (2) هذا جزء من بيت تمامه: (رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل) (*)
[ 185 ]
(وإن لكم في الأنعام لعبرة) أي: دلالة تستدلون بها على قدرة الله تعالى. (نسقيكم مما في بطونها) أراد به اللبن. ومن قرأ بضم النون أراد: إنا جعلنا ما في ضروعها من اللبن سقيا لكم. ومن فتح النون نجعل ذلك مختصا بالسقاة. وهو مفسر في سورة النحل. (ولكم فيها منافع كثيرة) في ظهورها وألبانها وأوبارها وأصوافها وأشعارها. (ومنها تأكلون) أي: من لحومها وأولادها والتكسب بها. (وعليها) يعني على الإبل خاصة. (وعلى الفلك تحملون) وهذا كقوله: (وحملناهم في البر والبحر) أما في البر فالإبل، وأما في البحر فالسفن. ولما قدم سبحانه ذكر الأدلة الدالة على كمال قدرته، فأتبعها بذكر شمول نعمته على كافة خليقته، عقب ذلك بذكر إنعامه عليهم بإرسال الرسل فقال: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) قيل: إنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، عن ابن عباس. وقيل في سبب نوحه: إنه كان يدعو على قومه بالهلاك. وقيل: هو مراجعته ربه في شأن ابنه. (فقال يا قوم اعبدوا الله) أي. أطيعوه، ووحدوه (ما لكم من إله غيره) بدأ بالتوحيد لأنه الأهم (أفلا تتقون) عذاب الله في ترك الإيمان به. (فقال الملأ) أي الأشراف. (الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم) أي: يتشرف ويترأس عليكم، بأن يصير متبوعا، وأنتم له تبع، فيكون له الفضل عليكم. (ولو شاء الله) أن لا يعبد شئ سواه (لأنزل ملائكة) ولم يرسل بشرا آدميا (ما سمعنا بهذا) الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد (في آبائنا الأولين) أي: في الأمم الماضية (إن هو إلا رجل به جنة) أي: حالة جنون (فتربصوا به حتى حين) أي: انتظروا موته فتستريحوا منه. وقيل: فانتظروا إفاقته من جنونه، فيرجع عما هو عليه. وقيل: معناه احبسوه مدة ليرجع عن قوله. (قال رب انصرني بما كذبون [ 26 ] فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 27 ] فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين [ 28 ] وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [ 29 ] إن في ذلك
[ 186 ]
لآيات وإن كنا لمبتلين [ 30 ]). القراءة: قرأ أبو بكر عن عاصم. (منزلا) بفتح الميم وكسر الزاي. والباقون: (منزلا) بضم الميم وفتح الزاي. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (منزلا) بالضم جاز أن يكون مصدرا، وأن يكون موضعا للإنزال. فعلى الوجه الأول جاز أن يعدى الفعل إلى مفعول آخر. وعلى الوجه الثاني قد تعدى إلى مفعولين. ومن قرأ (منزلا) أمكن أن يكون مصدرا، وأن يكون موضع نزول. ودل أنزلني على نزلت. المعنى: ثم ذكر سبحانه، أن نوحا لما نسبه قومه إلى الجنون، ولم يقبلوا منه (قال رب انصرني بما كذبوني) أي: بتكذيبهم إياي. والمعنى: انصرني بإهلاكهم (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا) أي: بحيث نراها كما يراها الرائي من عبادنا بعينه. وقيل: معناه بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين، فإنهم يحرسونك من كل من يمنعك منه (ووحينا) أي: بأمرنا وإعلامنا إياك كيفية فعلها (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها) أي: فادخل في السفينة (من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) مفسر في سورة هود (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) أي: لا تكلمني في شأنهم (إنهم مغرقون) أي: هالكون. (فإذا استويت أنت) يا نوح (ومن معك على الفلك) أي: السفينة (فقل الحمد لله الذي نجانا) أي: خلصنا (من القوم الظالمين) لنفوسهم بجحدهم توحيد الله (وقل رب أنزلني منزلا مباركا) أي: إنزالا مباركا، أو نزولا مباركا بعد الخروج من السفينة، وذلك تمام النجاة، عن مجاهد. وقيل: المنزل المبارك هو السفينة، عن الجبائي. لأنه سبب النجاة. وقيل: معناه أنزلني مكانا مباركا بالماء والشجر عن الكلبي. وقيل: معنى البركة أنهم توالدوا وكثروا، عن مقاتل. (وأنت خير المنزلين) لأنه لا يقدر أحد على أن يصون غيره من الآفات إذا أنزله منزلا، ويكفيه جميع ما يحتاج إليه إلا أنت. قال الحسن: كان في السفينة سبعة أنفس من المؤمنين ونوح ثامنهم. وقيل: ثمانون (إن في ذلك) أي: في أمر نوح والسفينة، وهلاك أعداء الله. (لآيات) أي: دلالات للعقلاء يستدلون بها على التوحيد (وإن كنا لمبتلين) معناه: وإن كنا مختبرين إياهم بإرسال نوح، ووعظه،
[ 187 ]
وتذكيره، ومتعبدين عبادنا بالإستدلال بتلك الآيات على قدرتنا ومعرفتنا. (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ 31 ] فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون [ 32 ] وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون [ 33 ] ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 34 ] أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [ 35 ] هيهات هيهات لما توعدون [ 36 ] إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين [ 37 ] إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين [ 38 ] قال رب انصرني بما كذبون [ 39 ] قال عما قليل ليصبحن نادمين [ 40 ]). القراءة: قرأ أبو جعفر: (هيهات هيهات) بالكسر. والباقون بالفتح. وفي الشواذ قراءة عيسى بن عمر: (هيهات هيهات) بالتنوين والكسر. وقراءة أبي حيوة: (هيهات هيهات) بالرفع والتنوين. وقراءة عيسى الهمداني: (هيهات هيهات) مرسلة التاء. الحجة: قال ابن جني: أما الفتح وهو قراءة العامة فعلى أنه واحد، وهو اسم سمي به الفعل في الخبر، وهو اسم بعد، كما أن شتان اسم افترق، وأف اسم أتضجر. ومن كسر فقال (هيهات) منونا أو غير منون: فهو جمع هيهاة، وأصلها هيهيات، فحذف الألف لأنه في آخر اسم غير متمكن، كما حذفت ياء الذي، وألف ذا، في التثنية إذا قلت: اللذان وذان. ومن نون ذهب إلى التنكير أي: بعدا بعدا. ومن لم ينون ذهب إلى التعريف، أراد البعد البعد. ومن فتح وقف بالهاء لأنها كهاء أرطأة. ومن كسر كتبها بالتاء، لأنها جماعة. ومن قال (هيهات) بالتنوين والرفع: فإنه يكتبها بالهاء، ويكون اسما معربا فيه معنى البعد. وقوله (لما توعدون): خبر عنه فكأنه قال: البعد لوعدكم. وأما (هيهات) ساكنة التاء: فينبغي أن تكون جماعة، وتكتب بالتاء، وأجريت في الوقف مجراها في الوصل.
[ 188 ]
وتقول العرب. هيهات لما تبغي، وهيهات منزلك. قال جرير: فهيهات هيهات العقيق ومن به، * وهيهات خل بالعقيق نواصله (1) ويروى: ايهات. واختار الفراء الوقف على (هيهات) بالتاء، لأن قبلها ساكنا، فصارت كتأنيث أخت. وقال أبو علي: إنما كرر (هيهات) في الآية، وفي البيت، للتأكيد. وأما اللتان في الآية، ففي كل واحدة منهما ضمير مرتفع، يعود إلى الإخراج. إذ لا يجوز خلوه من الفاعل، والتقدير: هيهات إخراجكم. لأن قوله (أنكم مخرجون) بمعنى الإخراج أي: بعد إخراجكم للوعد، إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم. استبعد أعداء الله إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت. ففاعل هيهات هو الضمير العائد إلى (أنكم مخرجون) الذي هو بمعنى الإخراج. وأما في البيت، ففي هيهات الأول ضمير العقيق، وفسر ذلك ظهوره مع الثاني. الاعراب: إختلفوا في أن الثانية من قوله سبحانه: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) وكذلك قوله: (ألم يعلموا أنه يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم) وقوله (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) فقال سيبويه: أن الثانية في هذه المواضع الثلاث بدل من الأولى. وقال أبو عمرو الجرمي، وأبو العباس المبرد: إنها مكررة للتأكيد، وطول الكلام. وقال أبو الحسن: إنها مرتفع بالظرف، واختاره أبو علي الفارسي، وزيف القولين الأولين. وأقول: إن (أن) الأولى في قوله (أيعدكم أنكم) مع اسمها وخبرها في موضع نصب على أنه المفعول الثاني من الوعد. ويكون تقديره على مذهب سيبويه: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أي: أيعدكم كونكم مخرجين بعد موتكم، وكونكم ترابا وعظاما. وأما على مذهب من جعله للتكرير فتقديره: أيعدكم أنكم بعد موتكم مخرجون. وأما على مذهب أبي الحسن، وأبي علي، فتقديره: أيعدكم أنكم إذا متم إخراجكم، واتقوا أنكم وقت موتكم أو بعد موتكم إخراجكم. فقوله: (أنكم مخرجون) في موضع رفع بالظرف الذي هو قوله (إذامتم). وقوله (إذا متم) مع ما بعده رفع لكونه جملة واقعة موقع خبر أن الأولى. وموضع (إذا): نصب كما انتصب (1) العقيق: اسم موضع. وفي (اللسان): (نحاوله) بدل (نواصله). (*)
[ 189 ]
(يوم) في قولك. يوم الجمعة القتال. والعامل في الظرف في الأصل الفعل المحذوف، أو معنى الفعل مثل قولك يحدث أو حادث، أو يكون أو كائن. ولا يجوز أن يكون العامل فيه الإخراج نفسه، إذ لو كان كذلك لكان الكلام غير تام، ولا يكون له خبر، ثم يحذف هذا المضمر لدلالة الظرف عليه وقيامه مقامه، ويصير الذكر الذي كان في المضمر من المحدث عنه في الظرف، وذلك الذكر مرتفع بالظرف كما كان يرتفع بالفعل، كما في نحو قولك: زيد ذهب، وزيد ذاهب. فلما قام الظرف مقام الفعل، متأخرا عن الإسم، قام مقامه أيضا مبتدأ، فرفع الإسم الظاهر كما رفعه الفعل. فكذلك (إذا) في الآية، تقديره في الأصل: إذا متم إخراجكم كائن، أو حادث، أو يكون، أو يحدث. ثم اختزل الفعل، أو معنى الفعل على ما قاله أبو علي، فانتصب إذا بذلك كما ينتصب (غدا) في قولك: غدا الرحيل. وحذف الخبر كما حذف من غد، ثم قام إذا مقام الفعل، فرفع قوله (أنكم مخرجون) كما رفع قولك: غدا الرحيل. وعلى هذا فيجوز أن نقول هنا: إن موضع (إذا) نصب بحادث، أو يحدث، المضمر في قولك: إذا متم إخراجكم يحدث، أو حادث. ويجوز أن نقول: إن الإسم الذي هو (أنكم مخرجون) واقع موقع جواب شرط إذا، ويرفع بفعل مضمر تقديره: أيعدكم إذا متم يعاد إخراجكم، أو يحدث إخراجكم. ويكون موضع (إذا) نصب بذلك الفعل. فأما تقدير ارتفاع (أن) الثانية بالظرف في الآيتين الأخيرتين، فقد تقدم بيانه في موضعيهما من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادته. فقد أجاز أبو عثمان وغيره إضمار الظرف وإعماله، كما قالوا في انتصاب مثلهم في بيت الفرزدق. فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم، * إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر (1) إنه على ظرف مضمر. المعنى: ثم عطف سبحانه على قصة نوح، فقال: (ثم أنشأنا من بعدهم) أي: أحدثنا وخلقنا من بعد قوم نوح (قرنا آخرين) أي: جماعة آخرين من الناس. والقرن: أهل العصر على مقارنة بعضهم لبعض. قيل: يعني عادا قوم هود، لأنه المبعوث بعد نوح. وقيل: يعني ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة، عن الجبائي. (1) هذا البيت من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز. وضمائر الجمع مرجعها قريش. (*)
[ 190 ]
(فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) سبق تفسيره (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) أي: بالبعث والجزاء (وأترفناهم في الحياة الدنيا) أي: نعمناهم فيها بضروب الملاذ (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون) من الأشربة فليس هو أولى بالرسالة منا (ولئن أطعتم بشرا مثلكم) فيما يدعوكم إليه (إنكم إذا لخاسرون) باتباعه (أيعدكم) هذا الرسول (أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما) وصرتم بعد الموت رميما (أنكم مخرجون) من قبوركم أحياء (هيهات) فيه ضمير مرتفع عائد إلى قوله (أنكم مخرجون) والمعنى: هيهات هو أي بعد إخراجكم جدا حتى امتنع. (هيهات لما توعدون) قال ابن عباس: بعدا بعدا لما توعدون. وقال الكلبي: بعيد بعيد ما يعدكم ليوم البعث (إن هي إلا حياتنا الدنيا) أي: ليس الحياة إلا الحياة التي نحن فيها القريبة منا (نموت ونحيا) أي: يموت قوم منا، ويحيا قوم، ولا نبعث. وقيل: يموت الآباء، ويحيا الآبناء، عن الكلبي. وقيل: يموت قوم ويولد قوم. (وما نحن بمبعوثين) بعد ذلك (إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا) أي: اختلق كذبا. (وما نحن له بمؤمنين) أي: بمصدقين فيما يقول (قال رب انصرني بما كذبوني) تقدم بيانه (قال) أي: قال الله سبحانه (عما قليل) أي: عن قليل من الزمان والوقت، يعني عند الموت أو عند نزول العذاب. وما هاهنا مزيدة (ليصبحن نادمين) هذا وعيد لهم، واللام للقسم. (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين [ 41 ] ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين [ 42 ] ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون [ 43 ] ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون [ 44 ] ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين [ 45 ] إلى فرعون وملإيه فاستكبروا وكانوا قوما عالين [ 46 ] فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ 47 ] فكذبوهما فكانوا من المهلكين [ 48 ] ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون [ 49 ] وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[ 191 ]
وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 50 ]). القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: (تترى) بالتنوين. والباقون بغير تنوين. ومن نون وقف بالألف لا غير. ومن لم ينون ومذهبه الإمالة وقف بالياء وهي ألف ممالة. والباقون بالألف. وقد ذكرنا اختلافهم في (ربوة) في سورة البقرة. الحجة: قال أبو علي: تترى فعلى من المواترة أن يتبع الخبر الخبر، والكتاب الكتاب، فلا يكون بينهما فصل كثير. والأقيس أن لا يصرف، لأن المصادر قد يلحق أواخرها ألف التأنيث، كالدعوى والعدوى، والذكرى والشورى. ولم نعلم شيئا من المصادر لحق آخرها الياء للإلحاق. فمن قال (تترى) أمكن أن يريد به فعلى من المواترة، فيكون الألف بدلا من التنوين، وإن كان في الخط بالياء كان للإلحاق. والإلحاق في غير المصادر ليس بالقليل نحو: أرطى ومعزى. ولزم أن يحمل على فعل دون فعلى. ومن قال (تترى) وأراد به فعلى فحكمه أن يقف بالألف مفخمة، ولا يميلها. ومن جعل للإلحاق أو للتأنيث أمال الألف إذا وقف عليها. المعنى: لما قال سبحانه: إن هؤلاء الكفار يصبحون نادمين على ما فعلوه، عقبه بالإخبار عن إهلاكهم، فقال: (فأخذتهم الصيحة) صاح بهم جبرائيل صيحة واحدة، ماتوا عن آخرهم (بالحق) أي: باستحقاقهم العقاب بكفرهم (فجعلناهم غثاء) وهو ما جاء به السيل من نبات قد يبس، وكل ما يحمله السيل على رأس الماء من قصب، وعيدان شجرة، فهو غثاء. والمعنى: فجعلناهم هلكى قد يبسوا كما يبس الغثاء، وهمدوا. (فبعدا) أي: ألزم الله بعدا من الرحمة (للقوم الظالمين) المشركين المكذبين (ثم أنشأنا من بعدهم) أي: من بعد هؤلاء (قرونا آخرين) أي: أمما وأهل أعصار آخرين (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) هذا وعيد للمشركين معناه: ما تموت أمة قبل أجلها المضروب لها، ولا تتأخر عنه. وقيل: عنى بالعذاب الموعود لهم على التكذيب أنه لا يتقدم على الوقت المضروب لهم لذلك، ولا يتأخر عنه. والأجل هو الوقت المضروب لحدوث أمر من الأمور. والأجل المحتوم لا يتأخر، ولا يتقدم. والأجل المشروط بحسب الشرط. والمراد بالأجل المذكور في الآية: الأجل المحتوم. (ثم أرسلنا رسلنا تترى) أي: متواترة يتبع بعضهم بعضا، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: متقاربة الأوقات. وأصله الإتصال لاتصاله بمكانه
[ 192 ]
من القوس، ومنه الوتر وهو الفرد عن الجمع المتصل. قال الأصمعي: يقال: واترت الخبر: أتبعت بعضه بعضا، وبين الخبرين هنيهة. (كلما جاء امة رسولها كذبوه) ولم يقروا بنبوته (فأتبعنا بعضهم بعضا) يعني في الإهلاك أي: أهلكنا بعضهم في أثر بعض (وجعلناهم أحاديث) أي: يتحدث بهم على طريق المثل في الشر، وهو جمع أحدوثة، ولا يقال هذا في الخير. والمعنى: إنا صيرناهم بحيث لم يبق بين الناس منهم إلا حديثهم (فبعدا لقوم لا يؤمنون) ظاهر المعنى. (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا) أي: بدلائلنا الواضحة (رسلطان مبين) أي: وبرهان ظاهر بين (إلى فرعون وملئه) خص الملأ وهم الأشراف بالذكر، لأن الآخرين كانوا أتباعا لهم (فاستكبروا) أي: تجبروا وتعظموا عن قبول الحق (وكانوا قوما عالين) أي: متكبرين قاهرين، قهروا أهل أرضهم، واتخذوهم خولا. (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا) أي: أنصدق لإنسانين خلقهم مثل خلقنا، ويسمى الإنسان بشرا لانكشاف بشرته، وهي جلدته الظاهرة حتى احتاج إلى لباس يكنه، وغيره من الحيوان مغطى البشرة بصوف، أو ريش، أو غيره، لطفا من الله سبحانه بخلقه، إذ لم يكن هناك عقل يدبر أمره مع حاجته إلى ما يكنه. والإنسان يهتدي إلى ما يستعين به في هذا الباب. (وقومهما لنا عابدون) أي: مطيعون طاعة العبد لمولاه. قال الحسن: كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون، وفرعون يعبد الأوثان (فكذبوهما فكانوا من المهلكين) أي: فكذبوا موسى وهارون، فكان عاقبة تكذيبهم أن أهلكهم الله، وغرقهم. (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي: التوراة (لعلهم يهتدون) أي: لكي يهتدوا إلى طريق الحق والصواب (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) وهذا مثل قوله: (وجعلناها وابنها آية للعالمين) أي: حجة على قدرتنا على الإختراع. وآية عيسى أنه خلق من غير ذكر. وآية مريم أنها حملت من غير فحل. (وآويناهما إلى ربوة) أي: جعلنا مأواهما مكانا مرتفعا مستويا واسعا. يقال: أوى إليه يأوي أويا، وأواه غيره يؤويه إيواء أي: جعله مأوى له. والربوة التي أويا إليها هي الرملة من فلسطين، عن أبي هريرة. وقيل: دمشق، عن سعيد بن المسيب. وقيل: مصر عن ابن زيد. وقيل: بيت المقدس، عن قتادة، وكعب. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء. وقيل: هي حيرة الكوفة وسوادها. والقرار: مسجد الكوفة. والمعين: الفرات، عن
[ 193 ]
أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام. وقيل: (ذات قرار ومعين) معناه: أي ذات موضع قرار أي: هي أرض مستوية يستقر عليها ساكنوها، عن الضحاك، وسعيد. وقيل: ذات ثمار، عن قتادة ذهب إلى أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. ومعين: ماء جار ظاهر العيون مفعول من عنته أعينه. ويجوز أن يكون فعيلا من معن يمعن معانة. والماعون: الشئ القليل في قول الزجاج. قال الراعي: قوم على الإسلام لما يمنعوا * ماعونهم، ويبدلوا التنزيلا قالوا: معناه رفدهم. وقيل: زكائهم. وقال عبيد بن الأبرص: واهية، أو معين ممعن، * أو هضبة دونها لهوب (1) واللهب: شق في الجبل ممعن مار. والمعن: الشئ السهل الذي ينقاد ولا يعتاص. وأمعن بحقه وأذعن أي: أقر. قال ابن الأعرابي: سالت معانه أي: مسائله ومجاريه. (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم [ 51 ] وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون [ 52 ] فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون [ 53 ] فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 54 ] أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين [ 55 ] نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 56 ]). القراءة: قرأ أهل الكوفة: (وإن هذه) بالكسر. وقرأ ابن عامر. (وأن) بالفتح والتخفيف. والباقون: (وأن هذه) بالفتح. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (وأن هذه) بالفتح، فالمعنى على قول الخليل وسيبويه: إنه محمول على الجار والتقدير: لأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون أي: اتقوني لهذا. ومثل ذلك عندهم قوله (وإن المساجد) أي: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. وكذلك عندهما (لإيلاف قريش) فكأنه قال: (1) الوهى: الشق في الشئ. والهضبة: الجبل المنبسط. (*)
[ 194 ]
فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي: ليقابلوا هذه النعمة بالشكر والعبادة للمنعم بها، وعلى هذا التقدير يحمل قراءة ابن عامر. ألا ترى أن إذا خففت اقتضت ما يتعلق بها اقتضاءها وهي غير مخففة. وقال بعض النحويين: موضع (أن) المفتوحة جر عطفا على قوله (بما تعملون). و (أمة واحدة): نصب على الحال. والكوفيون يسمونه قطعا. ومن كسر لم يحملها على الفعل كما يحملها من فتح، ولكن يجعلها كلاما مستأنفا. المعنى: لما أخبر الله سبحانه عن إيتائه الكتاب للإهتداء، ثم عما أولاه من سايغ النعماء، خاطب الرسل بعد ذلك، فقال. (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) قيل: هو خطاب للرسل كلهم، وأمر لهم أن يأكلوا من الحلال، عن السدي. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) وإنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم). وقيل: أراد به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع، عن الحسن، ومجاهد، وقتادة، والكلبي. ويتضمن هذا أن الرسل جميعا كذا أمروا. قال الحسن: أما والله ما عني به أصفركم، ولا أحمركم، ولا حلوكم، ولا حامضكم، ولكنه قال: انتهوا إلى الحلال منه. (واعملوا صالحا) أي: ما أمركم الله به. وقيل: إنه خطاب عيسى عليه السلام خاصة (إني بما تعملون عليم) هذا بيان السبب الداعي إلى إصلاح العمل. فإن العاقل إذا عمل لمن يعلم عمله ويجازيه على حسب ما يعمل من عمله، وبقدر استحقاقه، أصلح العمل. (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) أي: دينكم دين واحد، عن الحسن، وابن جريج، ويعضده قوله: (إنا وجدنا آبائنا على أمة) أي: على دين. قال النابغة: حلفت فلم أترك لنفسي ريبة، * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع وقيل: هذه جماعتكم، وجماعة من قبلكم، واحدة، كلكم عباد الله تعالى، عن الجبائي. (وأنا ربكم فاتقون) أي: لهذا فاتقوا. (فتقطعوا أمرهم بينهم) تفسير الآيتين قد تقدم في سورة الأنبياء (زبرا) أي: كتبا وهو جمع زبور، عن الحسن، وقتادة، ومجاهد. والمعنى: تفرقوا في دينهم، وجعلوه كتبا دانوا بها،
[ 195 ]
وكفروا بما سواها، كاليهود كفروا بالإنجيل والقرآن، والنصارى كفروا بالقرآن. وقيل: معناه أحدثوا كتبا يحتجون بها لمذهبهم، عن ابن زيد. ومن قرأ (زبرا) وهو ابن عامر فمعناه: جماعات مختلفة فهي جمع زبرة أي: تفرقوا أحزابا. وانتصب (زبرا) على الحال من (أمرهم) والعامل فيه (تقطع). وقال الزجاج: معناه جعلوا دينهم كتبا مختلفة على قراءة من قرأ (زبرا) فعلى هذا يكون (زبرا) مفعولا ثانيا. (كل حزب بما لديهم فرحون) أي: كل فريق بما عندهم من الدين راضون يرون أنهم على الحق. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (فذرهم) يا محمد (في غمرتهم) أي: جهلهم وضلالتهم. وقيل: في حيرتهم. وقيل: في غفلتهم، وهي متقاربة. (حتى حين) أي: وقت الموت. وقيل: وقت العذاب. ثم قال: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات) معناه: أيظن هؤلاء الكفار أن ما نعطيهم ونزيدهم من أموال وأولاد، إنما نعطيهم ثوابا ومجازاة لهم على أعمالهم، أو لرضانا عنهم، ولكرامتهم علينا ؟ ليس الأمر كما يظنون، بل ذلك إملاء لهم واستدراج لهوانهم علينا، وللإبتلاء في التعذيب لهم. ونظيره قوله: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني). وروى السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (إن الله تعالى يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا أقترت عليه شيئا من الدنيا، وذلك أقرب له مني. ويفرح إذا بسطت له الدنيا، وذلك أبعد له مني. ثم تلا هذه الآية إلى قوله: (بل لا يشعرون) ثم قال: إن ذلك فتنة لهم). ومعنى نسارع: نسرع ونتعجل، وتقديره: نسارع لهم به في الخيرات. فحذف (به) للعلم بذلك، كما حذف الضمير من قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه بدرهم. والخيرات: المنافع التي يعظم شأنها، ونقيضها الشرور وهي المضار التي يشتد أمرها. والشعور: العلم الذي يدق معلومه وفهمه على صاحبه كدقة الشعر. وقيل: هو العلم من جهة المشاعر وهي الحواس، ولهذا لا يوصف القديم سبحانه به (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون [ 57 ] والذين هم بآيات ربهم يؤمنون [ 58 ] والذين هم بربهم لا يشركون [ 59 ] والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة
[ 196 ]
أنهم إلى ربهم راجعون [ 60 ] أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 61 ]). القراءة: في الشواذ قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة وابن عباس وقتادة والأعمش: (يأتون ما أتوا) مقصورا. الحجة: معنى قوله (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة): إنهم يعطون الشئ، ويشفقون أن لا يقبل منهم. ومعنى (يأتون ما أتوا): إنهم يعملون العمل، وهم يخافونه، ويخافون لقاء الله. المعنى: ثم بين سبحانه حال الأخيار الأبرار بعد بيانه أحوال الكفار الفجار، فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) أي: من خشية عذاب ربهم خائفون، فيفعلون ما أمرهم به، وينتهون عما نهاهم عنه. والخشية: انزعاج النفس بتوهم المضرة (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) أي: بآيات الله، وحججه من القرآن، وغيرها، يصدقون (والذين هم بربهم لا يشركون) أي: لا يشركون بعبادة الله تعالى غيره من الأصنام والأوثان، لأن خصال الإيمان لا تتم إلا بترك الإشراك (والذين يؤتون ما آتوا) أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة. وقيل: أعمال البر كلها (وقلوبهم وجلة) أي: خائفة، عن قتادة. وقال الحسن: المؤمن جمع إحسانا وشفقة. والمنافق جمع إساءة وأمنا. وقال أبو عبد الله. معناه خائفة أن لا يقبل منهم. وفي رواية أخرى: يؤتي ما آتى وهو خائف راج. وقيل: إن في الكلام حذفا وإضمارا وتأويله: قلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم لعلمهم (أنهم إلى ربهم راجعون) أي: لأنهم يوقنون بأنهم يرجعون إلى الله تعالى، يخافون أن لا يقبل منهم. وإنما يخافون ذلك لأنهم لا يأمنون التفريط. (أولئك يسارعون في الخيرات) معناه. الذين جمعوا هذه الصفات، وكملت فيهم، هم الذين يبادرون إلى الطاعات، ويسابقون إليها، رغبة منهم فيها، وعلما بما ينالون بها من حسن الجزاء (وهم لها سابقون) أي: وهم لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنة. وقيل: معناه وهم إليها سابقون. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. قال أبن عباس: يسابقون فيها أمثالهم من أهل البر والتقوى. (ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون [ 62 ] بل
[ 197 ]
قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 63 ] حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون [ 64 ] لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 65 ] قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون [ 66 ] مستكبرين به سامرا تهجرون [ 67 ] أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين [ 68 ] أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون [ 69 ] أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 70 ] ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون [ 71 ]). القراءة: قرأ نافع: (تهجرون) بضم التاء وكسر الجيم. والباقون: (تهجرون) بفتح التاء وضم الجيم. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة: (سمرا تهجرون) وقراءة ابن محيصن: (سمرا). وقراءة يحيى: (ولو اتبع) بضم الواو. الحجة: قال أبو علي: من قال (تهجرون): فالمعنى أنكم كنتم تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي، فلا تنقادون له، وتكذبون به، وتهجرون: تأتون بالهجر والهذيان، وما لا خير فيه من الكلام. وقال ابن جني: قوله (تهجرون) معناه: تكثرون من الهجر، أو هجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كتابه، أو تكثرون من الإهجار، وهو الإفحاش في القول، لأن فعل للتكثير. والسمر: جمع سامر. والسامر: القوم يسمرون أي: يتحدثون ليلا. قال ذو الرمة: وكم عرست بعد السرى من معرس * به من عزيف الجن أصوات سامر (1) قال قطرب: السامر قد يكون واحدا، أو جماعة. وقيل: إنه أخذ من السمرة، وهي اللون الذي بين السواد والبياض، فقيل لحديث الليل: السمر، لأنهم كانوا يقعدون في ظل القمر، يتحدثون. وقيل: إن السمر ظل القمر. (1) التعريس: نزول القوم في السفر في آخر الليل للإستراحة. والسرى: سير الليل. وعزيف الجن: صوته. (*)
[ 198 ]
اللغة: الوسع: الحال التي يتسع بها السبيل إلى الفعل. والوسع: دون الطاقة. والتكليف: تحميل ما فيه المشقة بالأمر والنهي. والإعلام مأخوذ من إلكلفة في الفعل. والله سبحانه يكلف عباده تعريضا إياهم للنفع الذي لا يحسن الإبتداء بمثله، وهو الثواب. وأصل الغمرة: الستر والتغطية، يقال: غمرت الشئ إذا سترته. وغمرات الموت: شدائده. وكل شدة غمرة. قال: الغمرات، ثم ينجلينا، ثم يذهبن، فلا يجينا. والجؤار: الإستغاثة ورفع الصوت بها. والنكوص: رجوع القهقرى، وهو المشي على الأعقاب إلى خلف وهو أقبح مشية مثل بها أقبح حال وهي الإعراض عن الداعي إلى الحق. الاعراب: (وسعها): مفعول ثان لنكلف (بالحق) إن جعلت الحق مصدرا، فالباء مزيدة، والتقدير: ينطق الحق. وإن جعلته صفة محذوفا، فالتقدير: ينطق بالحكم الحق. ومفعول (ينطق) محذوف (هم لها عاملون): جملة في موضع رفع، لأنها صفة لأعمال. (مستكبرين): منصوب على الحال من قوله (تنكصون). وذو الحال الواو، و (تنكصون)، خبر كان. و (سامرا). اسم للجمع منصوب لأنه حال. المعنى: ثم بين سبحانه أنه لا يكلف أحدا إلا دون الطاقة، بعد أن أخبر عن حال الكافرين والمؤمنين فقال: (ولا نكلف نفسا) أي: نكلفها أمرا، ولا نأمرها (إلا وسعها) أي: دون طاقتها. (ولدينا كتاب ينطق بالحق) معناه: وعند ملائكتنا المقربين كتاب ينطق بالحق أي: يشهد لكم وعليكم بالحق، كتبته الملائكة بأمرنا. يريد صحائف الأعمال. (وهم لا يظلمون) أي: يوفون جزاء أعمالهم، فلا ينقص من ثوابهم، ولا يزاد في عقابهم، ولا يؤاخذون بذنب غيرهم (بل قلوبهم في غمرة من هذا) بل رد لما سبق، وإبتداء الكلام، والمعنى: إن قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد، وهو القرآن. وقيل: في جهل وحيرة، عن الحسن، والجبائي. (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) أي: ولهم أعمال ردية سوى هذا الجهل، يعملون تلك الأعمال، فيستحقون بها وبالكفر، العقوبة من الله تعالى. وقيل: ولهم أعمال أي: خطايا من دون الحق، عن قتادة، وأبي العالية، ومجاهد. وقيل: ولهم أعمال من دون الأجل الذي أجلت لهم في موتهم، لا بد أن يعملوها، عن الحسن، ومجاهد في رواية اخرى، وابن
[ 199 ]
زيد. وقيل: أعمال أصغر من ذلك أي: دون الكفر كما يقال: هذا دون هذا في القدر هم عاملون إلى أن يفني آجالهم فهم مشتغلون بها. (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) أي: يكون هذا دأبهم، حتى إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم بعذاب الآخرة. ويقال: عذاب الدنيا، وهو عذاب السيف في يوم بدر، عن ابن عباس. وقيل: هو الجوع حين دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف). فابتلاهم الله سبحانه بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب، عن الضحاك. (إذا هم يجأرون) أي: يضجون لشدة العذاب ويجزعون. وقيل: يستغيثون، عن ابن عباس. وقيل: يصرخون إلى الله بالتوبة فلا يقبل منهم (لا تجأروا اليوم) أي: يقال لهم لا تتضرعوا اليوم (إنكم منا لا تنصرون) هذا إيئاس لهم من دفع العذاب عنهم (قد كانت آياتي تتلى عليكم) أي: تقرأ (فكنتم) أيها الكافرون المعذبون (على أعقابكم تنكصون) أي: تدبرون، وتستأخرون، وترجعون القهقرى مكذبين. (مستكبرين به) أي: متكبرين على سائر الناس بالحرم، أو بالبلد، يعني مكة، أن لا يظهر عليكم فيه أحد، عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. وقيل: مستكبرين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تطيعوه، وبالقرآن أن تقبلوه، فإنها كناية عن غير مذكور في الجميع. (سامرا) أي: تسمرون بالليل أي: تتحدثون في معائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (تهجرون) الحق بالإعراض عنه، وتهجرون أي: تفحشون في المنطق. ثم قال سبحانه: (أفلم يدبروا القول) أي: ألم يتدبروا القرآن، فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. (أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين) قال ابن عباس: يريد أليس قد أرسلنا نوحا وإبراهيم والنبيين إلى قومهم، وكذلك أرسلنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) قال ابن عباس: أليس هو محمدا الذي قد عرفوه صغيرا وكبيرا، صادق اللسان، أمينا وافيا بالعهد. وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعدما عرفوا صدقه وأمانته، مع شرف نسبه قبل الدعوة. (أم يقولون به جنة) قال ابن عباس: يريد وأي جنون ترون به. وفي هذا دلالة على جهلهم، حيث أقروا له بالعقل والصدق أولا، ثم نسبوه إلى الجنون. وإنما نسبوه إلى الجنون لينفروا الناس عنه، أو لأنه يطمع في إيمانهم، فهو يطمع في غير مطمع. (بل جاءهم بالحق) المعنى: بل جاءهم بالقرآن، والدين الحق،
[ 200 ]
وليس به جنة. (وأكثرهم للحق كارهون) لأنه لم يوافق مرادهم (ولو اتبع الحق أهواءهم) الحق هو الله تعالى، عن أبي صالح، وابن جريج، والسدي، والمعنى: ولو جعل الله لنفسه شريكا كما يهوون. (لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) ووجه الفساد ما تقدم ذكره عند قوله (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). وقيل: الحق ما يدعو إلى المصالح والمحاسن. والأهواء: ما تدعو إلى المفاسد، والمقابح. ولو اتبع الحق داعي الهوى، لدعا إله المقابح، ولفسد التدبير في السماوات والأرض، لأنها مدبرة بالحق، لا بالهوى. وقيل: معناه لفسدت أحوال السماوات والأرض، لأنها جارية على الحكمة، لا على الهوى. (ومن فيهن) أي: ولفسد من فيهن، وهو إشارة إلى العقلاء من الملائكة، والإنس، والجن. وقال الكلبي: وما بينهما من خلق، فيكون عاما. ووجه فساد العالم بذلك أنه يوجب بطلان الأدلة، وامتناع الثقة بالمدلول عليه، وأن لا يوثق بوعد، ولا وعيد، ولا يؤمن انقلاب عدل الحكيم (بل آتيناهم بذكرهم) أي: بما فيه شرفهم وفخرهم، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم، والقرآن نزل بلسانهم (فهم عن ذكرهم) أي: شرفهم (معرضون) وبالذل راضون. وقيل: الذكر البيان للحق، عن ابن عباس. (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين [ 72 ] وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 73 ] وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ 74 ] ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون [ 75 ] ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [ 76 ] حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون [ 77 ] وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون [ 78 ] وهو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون [ 79 ] وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون [ 80 ]). اللغة: أصل الخراج والخرج واحد، وهو الغلة التي تخرج على سبيل الوظيفة، ومنه خراج الأرض. وهما مصدران يجمعان. وقد سبق اختلاف القراء فيه، في سورة
[ 201 ]
الكهف. والإستكانة: الخضوع، وهو استفعل من الكون. والمعنى: ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. قال الأزهري: أكانه الله يكينه أي: أخضعه حتى ذل. ومات فلان بكينة سوء أي: بحال سوء. وقيل: إن استكان من السكينة والسكون، إلا أن الفتحة أشبعت، فنشأت منها ألف، فصار استكانوا الأصل استكنوا على افتعلوا. قال عنترة في إشباع الفتحة: ينباع من ذفري غضوب، جسرة، * زيافة مثل الفنيق المكدم (1) يريد ينبع، فأشبع الفتحة. وقال آخر: وأنت من الغوائل حين ترمى، * ومن ذم الرجال بمنتزاح (2) أي: بمنتزح. يقال: استكن، واستكان، وتمسكن، بمعنى. المعنى: ثم قال سبحانه: (أم تسألهم) يا محمد على ما جئتهم به من القرآن والإيمان (خرجا) أي: أجرا ومالا يعطونك، فيورث ذلك تهمة في حالك، أو يثقل عليهم قبول قولك لأجله (فخراج ربك خير) أي: فرزق ربك في الدنيا خير منه، عن الكلبي. وقيل: فأجر ربك في الآخرة خير منه، عن الحسن. (وهو خير الرازقين) أي: أفضل من أعطى، وآجر. وفي هذا دلالة على أن في العباد من يرزق غيره بإذن الله (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) من التوحيد، وإخلاص العبادة، والعمل بالشريعة. (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي: لا يصدقون بالنشأة الآخرة (عن الصراط لناكبون) أي: عن الدين الحق عادلون ومائلون. وقيل: معناه أنهم في الآخرة ناكبون عن طريق الجنة، يؤخذ بهم يمنة ويسرة إلى النار، عن الجبائي. (ولو رحمناهم) في الآخرة (وكشفنا ما بهم من ضر) ورددناهم إلى دار التكليف (للجوا في طغيانهم يعمهون) مثل قوله: (ولو ردوا لعادوا)، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: إنه في الدنيا أي: ولو أنا رحمناهم، وكشفنا ما بهم (1) هذا بيت من معلقته الشهيرة. والذفري: ما خلف الأذن. والجسرة: الناقة الموثقة الخلق. والزيف: التبختر. والفنيق: الفحل من الإبل. والمكدم من الفحول: القوي قول ينبع هذا العرق من خلف أذن الناقة... الخ شبهها بالفحل في تبخترها، ووثاقة خلقها، وضخمها. (2) مضى البيت في هذا الجزء. (*)
[ 202 ]
من جوع ونحوه، لتمادوا في ضلالتهم وغوايتهم، يترددون، عن ابن جريج. (ولقد أخذناهم بالعذاب) معناه: إنا قد أخذنا هؤلاء الكفار بالجدب، وضيق الرزق، والقتل بالسيف. (فما استكانوا لربهم) أي: ما تواضعوا، ولا انقادوا (وما يتضرعون) أي: وما يرغبون إلى الله في الدعاء. وقال أبو عبد الله عليه السلام: الإستكانة الدعاء. والتضرع: رفع اليد في الصلاة. (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) أي: هذا دأبهم حتى إذا فتحنا عليهم نوعا آخر من العذاب، وذاك حين دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فقال: " اللهم سنين كسني يوسف " فجاعوا حتى أكلوا العلهر: وهو الوبر بالدم، عن مجاهد. وقيل: هو القتل يوم بدر، عن ابن عباس. وقيل: فتحنا عليهم بابا من عذاب جهنم في الآخرة، عن الجبائي. وقيل ذلك حين فتح مكة. وقال أبو جعفر عليه السلام: هو في الرجعة. (إذا هم فيه مبلسون) أي: آيسون من كل خير، متحيرون. ثم بين سبحانه أنه المنعم على خلقه بأنواع النعم، فقال: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي: خلق هذه الحواس ابتداء لا من شئ، وخص هذه الثلاثة لأن الدلائل مبنية عليها، ينظر العاقل، ويسمع، ويتفكر، فيعلم (قليلا ما تشكرون) أي: يقل شكركم لها، و (قليلا): منصوب على المصدر، وتقديره: تشكرون قليلا لهذه النعم التي أنعم الله بها عليكم. وقيل: معناه أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه، عن مقاتل. (وهو الذي ذرأكم) أي: خلقكم وأوجدكم (في الأرض وإليه تحشرون) يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم. (وهو الذي يحيي ويميت) أي: يحييكم في أرحام أمهاتكم، ويميتكم عند انقضاء آجالكم. (وله اختلاف الليل والنهار) أي: وله تدبيرهما بالزيادة والنقصان. وقيل: وله ملك إختلافهما وهو ذهاب أحدهما، ومجئ الآخر (أفلا تعقلون) أي: أفلا تعلمون بأن تفكروا فتعلموا أن لذلك صانعا قادرا، عالما حيا حكيما، لا يستحق الإلهية سواه، ولا تحسن العبادة إلا له. * (بل قالوا مثل ما قال الاولون [ 81 ] قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمبعوثون [ 82 ] لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير
[ 203 ]
الأولين [ 83 ] قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون [ 84 ] سيقولون لله قل أفلا تذكرون [ 85 ] قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم [ 86 ] سيقولون لله قل أفلا تتقون [ 87 ] قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 88 ] سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ 89 ] بل أتينهم بالحق وإنهم لكذبون [ 90 ]) القراءة: قرأ أهل البصرة: (سيقولون الله) في الآيتين. والباقون: (لله) ولم يختلفوا في الأولى. الحجة: أما قراءة أهل البصرة، فجواب على ما يوجبه اللفظ. ومن قرأ (لله) فعلى المعنى، وذلك أنه إذا قيل: من مالك هذه الدار ؟ فأجيب: لزيد، فإن الجواب على المعنى دون ما يقتضيه اللفظ، فإن الذي يقتضيه اللفظ، أن يقال: زيد. وإنما استقام ذلك، لأن معنى من مالك هذه الدار ولمن هذه الدار واحد. فلذلك أجيب تارة على اللفظ، وتارة على المعنى. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الكفار المكذبين بالبعث، فقال: (بل قالوا مثل ما قال الأولون) المنكرون للبعث بعد الموت. ثم حكى مقالتهم فقال: (قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " وهذا جهل منهم، لأنهم لو تفكروا في أن النشأة الأولى أعظم منه، لما استعظموه، وقد أقروا بأن الله خالقهم (لقد وعدنا نحن وآباؤنا " أي: وعد آباؤنا (هذا) الذي تعدنا من البعث (من قبل) أي: من قبل مجيئك، فما صدق وعدهم (إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: ما هذا إلا أكاذيب الأولين قد سطروا ما لا حقيقة له. وإنما يجري مجرى حديث السمر الذي يكتب للإطرأف به. ثم أحتج على هؤلاء المنكرين للبعث والنشور، فقال: (قل) يا محمد لهم (لمن الأرض ومن فيها) أي: لمن خلق الأرض وملكها، ومن فيها من العقلاء (إن كنتم تعلمون سيقولون) في الجواب (لله) وإنما قال ذلك، لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق. (قل أفلا تذكرون) أي: فقل لهم عند ذلك: أفلا تتفكرون فتعلمون أنه تعالى قادر على ذلك، ومن قدر عليه، قدر على إحياء الموتى، لأنه ليس ذلك بأعظم منه. ثم زاد في الحجة فقال:
[ 204 ]
(قل) يا محمد لهم أيضا (من رب السماوات السبع) أي: من مالكها والمتصرف فيها ؟ (ورب العرش العظيم) أي: ومن مالك العرش، ومدبره ؟ لأنهم كانوا يقرون بأن الله خالق السماوات، وأن الملائكة سكان السماوات، والعرش عندهم عبارة عن الملك، إلا أن يكون أتاهم خلق العرش من قبل النقل. ثم أخبر أنهم (سيقولون لله) في الجواب عن ذلك أي: إن رب السماوات، ورب العرش، هو الله. ومن قرأ (لله) فالمعنى: إنها لله. (قل أفلا تتقون) أي: فعند ذلك يلزمهم الحجة. فقل لهم: أفلا تتقون عذابه على جحد توحيده. والإشراك في عبادته، وفي إنكار البعث. ثم زاد في الحجة فقال. (قل) يا محمد لهم أيضا: (من بيده ملكوت كل شئ) والملكوت: من صفات المبالغة في الملك، كالجبروت والرهبوت. وقال مجاهد: ملكوت كل شئ: خزائن كل شئ. (وهو يجير ولا يجار عليه) أي: يمنع من السوء من يشاء، ولا يمتنع منه من أراده بسوء، يقال: أجرت فلانا. إذا استغاث بك فحميته. وأجرت عليه: إذا حميت عنه. ويحتمل أن يكون أراد في الدنيا أي: من قصد عبدا من عباده بسوء، قدر على منعه. ومن أراد الله بسوء، لم يقدر على منعه أحد. ويحتمل أن يكون أراد في الآخرة أي: يجير من العذاب، ولا يجار عليه منه. (إن كنتم تعلمون) أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأجيبوا. (سيقولون) في الجواب (لله قل فأنى تسحرون) أي: فكيف يخيل إليكم الحق باطلا، والصحيح فاسدا، مع وضوح الحق وتمييزه من الباطل. وقيل: معناه فكيف تعمون عن هذا، وتصدون عنه من قولهم: سحرت أعيننا فلم نبصر. وقيل: معناه فكيف تخدعون ويموه عليكم، كقول امرئ القيس: " ونسحر بالطعام وبالشراب " (1) أي: ونخدع. (بل آتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون) معناه: إنا جئناهم بالحق، وبينا لهم الحق الذي فيه بيان كذبهم، ولكنهم أصروا على باطلهم، وكذبهم. النظم: وإنما اتصلت الآية الأولى بما قبلها بمعنى أنهم لو تفكروا لعلموا، ولكن عولوا على التقليد، فقالوا مثل ما قال الأولون. فعلى هذا تكون متصلة بقوله: (1) وقبله: " أرنا موضعين لحتم غيب " وقد مر بتمامه في ج 6. (*)
[ 205 ]
(أفلا تعقلون). وقيل: إنه جواب الإستفهام في قوله (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين). والآية الأخيرة معطوفة على ما تقدم من أدلة التوحيد، وهي رد على المشركين، وتكذيب لهم في قولهم إن الأصنام آلهة، وإن الله سبحانه له ولد، وإن الملائكة بنات الله. (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 91 ] عالم الغيب والشهادة فتعلى عما يشركون [ 92 ] قل رب إما تريني ما يوعدون [ 93 ] رب فلا تجعلني في القوم الظالمين [ 94 ] وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ 95 ] ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ 96 ] وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين [ 97 ] وأعوذ بك رب أن يحضرون [ 98 ] حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون [ 99 ] لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [ 100 ]) القراءة: قرأ أهل المدينة، وأهل الكوفة، غير حفص: (عالم الغيب) بالرفع. والباقون بالجر إلا أن رويسا إذا وصل جر، وإذا ابتدأ رفع. الحجة: وجه الرفع أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هو عالم الغيب. ووجه الجر أن يكون صفة الله تعالى. ويكون إضافة عالم حقيقية بمعنى اللام. ويجوز أن يكون بدلا، فتكون الإضافة غير حقيقية. والغيب: في تقدير النصب الأول يكون بمعنى الماضي، والثاني بمعنى الحاضر، ولا يكون بمعنى المستقبل. اللغة: الهمزة: شدة الدفع، ومنه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد ودفع. وهمزة الشيطان: دفعه بالإغواء إلى المعاصي. وقوس همزى: شديدة الدفع للسهم. والبرزخ: الحاجز بين الشيئين، وكل فصل بين شيئين برزخ. ومعنى من ورائهم هنا: من أمامهم وقدامهم، قال الشاعر: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي، * وقومي تميم، والفلاة ورائيا
[ 206 ]
الاعراب: قوله (إذا لذهب كل إله بما خلق). جواب (لو) مقدر، والتقدير ولو كان معه إله إذا لذهب. وإذا هنا حشو بين أو وجوابه، فهي لغو غير عامل. " إما تريني ": إن للشرط ضمت إليها ما مسلطة. والمعنى: إنها سلطت نون التأكيد على دخولها الفعل المضارع، ولو لم تكن هي، لم يجز أن تريني. وجواب الشرط (فلا تجعلني). ورب معترض بين الشرط والجزاء. و (بالتي هي أحسن) الموصولة والصلة في موضع جر بأنهما صفة محذوف مجرور. التقدير إدفع بالخصلة التي هي أحسن. و (رب أرجعوني): جاء الخطاب على لفظ الجميع، لأنه سبحانه يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا نحن نحيي) وهذا اللفظ يعرفه العرب للجليل الشأن، يخبر به الجماعة، فكذلك جاء الخطاب في (أرجعوني). وقال المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال رب أرجعني أرجعني أرجعني. و (إلى يوم يبعثون) إلى: تتعلق بما يتعلق به (من) في قوله (ومن ورائهم برزخ). و (يوم): مضاف إلى (يبعثون) لأن أسماء الزمان تضاف إلى الأفعال. المعنى: ثم أكد سبحانه ما قدمه من أدلة التوحيد، بقوله: (ما اتخذ الله من ولد) أي: لم يجعل ولد غيره ولد نفسه، لاستحالة ذلك عليه. فمن المحال أن يكون له ولد. فلا يجوز عليه التشبيه بما هو مستحيل ممتنع، إلا على النفي والتبعيد. واتخاذ الولد هو أن يجعل الجاعل ولد غيره يقوم مقام ولده، لو كان له، وكذلك التبني إنما هو جعل الجاعل ابن غيره. ومن يصح أن يكون إبنا له مقام إبنه، ولذلك لا يقال: تبنى شاب شيخا، ولا تبنى الإنسان بهيمة، لما استحال أن يكون ذلك ولدا له (وما كان معه من إله) من: ههنا وفي قوله (من ولد) مؤكدة، فهو آكد من أن يقول: ما اتخذ الله ولدا، وما كان معه إله. نفى عن نفسه الولد والشريك على آكد الوجوه. (إذا لذهب كل إله بما خلق) والتقدير: إذ لو كان معه إله آخر، لذهب كل إله بما خلق أي: لميز كل إله خلقه عن خلق غيره، ومنعه من الإستيلاء على ما خلقه، أو نصب دليلا يميز به بين خلقه وخلق غيره، فإنه كان لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره. (ولعلا بعضهم على بعض) أي: ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته. وهذا معنى قول المفسرين: ولقاتل بعضهم بعضا، كما يفعل الملوك في الدنيا. وقيل: معناه ولمنع بعضهم بعضا عن مراده، وهو مثل قوله: (لو كان فيهما
[ 207 ]
آلهة إلا الله لفسدتا). وفي هذا دلالة عجيبة في التوحيد، وهو أن كل واحد من الآلهة من حيث يكون إلها، يكون قادرا لذاته، فيؤدي إلى أن يكون قادرا على كل ما يقدر عليه غيره من الآلهة، فيكون غالبا ومغلوبا من حيث إنه قادر لذاته. وأيضا فإن من ضرورة كل قادرين صحة التمانع بينهما. فلو صح وجود إلهين، صح التمانع بينهما من حيث إنهما قادران، وامتنع التمانع بينهما من حيث إنهما قادران للذات، وهذا محال. وفي هذا دلالة على إعجاز القرآن، لأنه لا يوجد في كلام العرب كلمة وجيزة تضمنت ما تضمنته هذه، فإنها قد تضمنت دليلين باهرين على وحدانية الله، وكمال قدرته. ثم نزه نفسه عما وصفوه به فقال: (سبحان الله عما يصفون) أي: عما يصفه به المشركون من اتخاذه الولد والشريك. (عالم الغيب والشهادة) أي: يعلم ما غاب وما حضر، فلا يخفى عليه شئ (فتعالى الله عما يشركون) والمعنى: إنه عالم بما كان، وبما سيكون، وبما لم يكن أن لو كان كيف يكون. ومن كان بهذه الصفة، لا يكون له شريك، لأنه الأعلى من كل شئ في صفته. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قل) يا محمد (رب إما تريني ما يوعدون) أي: إن أريتني ما يوعدون من العذاب والنقمة، يعني القتل يوم بدر (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) أي: مع القوم الظالمين. والمعنى: فأخرجني من بينهم عندما تريد إحلال العذاب بهم، لئلا يصيبني ما يصيبهم. وفي هذا دلالة على جواز أن يدعو الإنسان بما يعلم أن الله يفعله لا محالة، لأن من المعلوم أن الله تعالى لا يعذب أنبياءه مع المعذبين. ويكون الفائدة في ذلك إظهار الرغبة إلى الله. (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) هذا ابتداء كلام من الله تعالى معناه: إنا لا نعاجلهم بالعقوبة مع قدرتنا على ذلك، ولكن ننظرهم ونمهلهم لمصحلة توجب ذلك. قال الكلبي: هذا أمر شهده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في حجة الوداع وهو بمعنى: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم. قال: فغمز من خلف منكبه الأيسر، فالتفت فقال: أو على فنزل: (قل رب إما تريني) الآيات.
[ 208 ]
ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال: (إدفع بالتي هي أحسن السيئة) أي: إدفع بالإغضاء والصفح إساءة المسئ، عن مجاهد، والحسن. وهذا قبل الأمر بالقتال. وقيل: معناه إدفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه، وأوضحها، وأقربها إلى الإجابة والقبول. (نحن أعلم بما يصفون) أي: بما يكذبون ويقولون من الشرك. والمعنى: إنا نجازيهم بما يستحقونه. ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وقل) يا محمد (رب أعوذ بك) أي: أعتصم بك (من همزات الشياطين) أي: من نزعاتهم ووساوسهم، عن ابن عباس، والحسن. والمعنى: من دعائهم إلى الباطل والعصيان، ومن شرورهم في كل شئ يخاف فيه من ذلك (وأعوذ بك رب أن يحضرون) أي: يشهدوني، ويقاربوني، ويصدوني عن طاعتك. وقيل: معناه أن يحضروني في الصلاة عند تلاوة القرآن. وقيل: في الأحوال كلها. ثم عاد سبحانه إلى قوله (أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما) فقال: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) يعني: إن هؤلاء الكفار إذا أشرفوا على الموت سألوا الله تعالى عند ذلك الرجعة إلى دار التكليف، فيقول أحدهم: رب أرجعون على لفظ الجمع، وفي معناه قولان أحدهما: إنهم استغاثوا أولا بالله، ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة، فقالوا لهم: ارجعون أي: ردوني إلى الدنيا، عن ابن جرير والآخر: إنه على عادة العرب في تعظيم المخاطب، كما قال: (قرة عين لي ولك لا تقتلوه). وروى النضر بن شميل قال: سألوا الخليل عن هذا، ففكر ثم قال: سألتموني عن شئ لا أحسنه، ولا أعرف معناه. فاستحسن الناس منه ذلك. (لعلي أعمل صالحا فيما تركت) أي: في تركتي. والمعنى: أؤدي عنها حق الله تعالى، وقيل: معناه في دنياي، فإنه ترك الدنيا، وصار إلى الآخرة. وقيل: معناه أعمل صالحا فيما فرطت وضيعت أي: في صلاتي، وصيامي، وطاعاتي. وقال الصادق عليه السلام: إنه في مانع الزكاة يسأل الرجعة عند الموت. ثم قال سبحانه في الجواب عن سؤالهم: (كلا) أي: لا يرجع إلى الدنيا (إنها) أي: مسألة الرجعة (كلمة هو قائلها) أي: كلام يقوله، ولا فائدة له في ذلك. وقيل: معناه وهي كلمة يقولها بلسانه، وليس لها حقيقة، مثل قوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه). وروى العياشي بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني،
[ 209 ]
قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: جعلت فداك يعرف القديم سبحانه الشئ الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ؟ قال: ويحك ! إن مسألتك لصعبة، أما قرأت قوله عزوجل: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولعلا بعضهم على بعض) لقد عرف الشئ الذي لم يكن، ولا يكون، أن لو كان كيف كان يكون. وقال: ويحكي قول الأشقياء: (رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها) وقال: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) فقد علم الشئ الذي لم يكن، لو كان كيف كان يكون، وهو السميع البصير الخبير العليم. (ومن ورائهم) أي: ومن بين أيديهم (برزخ إلى يوم يبعثون) أي: حاجز بين الموت والبعث في يوم القيامة من القبور، عن ابن زيد. وقيل: حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وهم فيه إلى يوم يبعثون، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: البرزخ الإمهال إلى يوم القيامة وهو القبر، وكل فصل بين شيئين هو برزخ، عن علي بن عيسى. وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يموت حتى يعرف منزلته عند الله تعالى اضطرارا، وأنه من أهل الثواب، أو العقاب، عن الجبائي. (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) [ 101 ] فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون [ 102 ] ومن خفت موزينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 103 ] تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 104 ] ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون [ 105 ] قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين [ 106 ] ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون [ 107 ] قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 108 ] إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين [ 109 ] فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون [ 110 ] القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (شقاوتنا) بالألف وفتح الشين. والباقون: (شقوتنا) بكسر الشين من غير ألف. وقرأ أهل المدينة، وأهل الكوفة غير عاصم: (سخريا) بضم السين. والباقون بكسرها، وكذلك في سورة ص.
[ 210 ]
الحجة: قال أبو علي: الشقوة مصدر كالرقة والفطنة. والشقاوة كالسعادة. فالقراءة بهما جميعا سائغة. وقال أبو زيد: اتخذت فلانا سخريا وسخريا: إذا هزئت منه. وقد سخرت منه أسخر سخريا وسخر. قال أبو عبيدة: اتخذتموهم سخريا تسخرون منهم، وسخريا تسخرونهم. ويقال أيضا: إن من الهزء سخري وسخري، ومن السخرية مضمومة لا غير. وحكي عن الحسن وقتادة أن ما كان من العبودية فهو سخري بالضم، وما كان من الهزء فبالكسر. قال أبو علي: الأكثر في الهزء كسر السين فيما حكوه، ويرى أنه إنما كان أكثر، لأن السخر مصدر سخرت، وفعل وفعل قد يكونان بمعنى نحو المثل والمثل، والشبه والشبه في حرف آخر، فكذلك السخر والسخر. إلا أن المكسورة ألزمت ياء النسب دون المفتوحة مما اتفقوا في القسم على الفتح في: لعمر الله. ولم يعتد بياء النسب كما لم يعتد بها في نحو أحمر وأحمري، ودوار ودواري. والوجه في الضم على ما حكي عن يونس أن السخري قد يقال بالضم بمعنى الهزء. واتفق القراء على الضم في الزخرف، لأنه من السخرة، وانقياد بعضهم لبعض في الأمور، وذلك لا يكون إلا بالضم. اللغة: اللفح والنفح بمعنى، إلا أن اللفح أشد تأثيرا وأعظم من النفح، وهو ضرب من السموم للوجه. والنفح: ضرب الريح الوجه. والكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان. قال الأعشى: وله المقدم لا مثل له * ساعة الشدق عن الناب كلح (1) وخسأت فلانا أخسأه خسأ: إذا زجرته ليتباعد فخسا وهو خاسئ. ومعنى إخسأ أي: تباعد تباعد سخط. الاعراب: العامل في إذا نفخ، وبينهم، ويومئذ خبر (لا) المحذوف، تقديره فلا أنساب تثبت بينهم. (تلفح وجوههم النار): في موضع النصب على الحال، والعامل فيه: (خالدون). المعنى: ثم بين سبحانه حال الفريقين يوم البعث فقال: (فإذا نفخ في الصور) قيل: إن المراد به نفخة الصعق، عن ابن عباس. وقيل: نفخة البعث، (1) الشدق: جانب الفم (*).
[ 211 ]
عن ابن مسعود. والصور: جمع صورة أي: إذا نفخ فيه الأرواح، وأعيدت أحياء، عن الحسن. وقيل: إن الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بالصوت العظيم الهائل، على ما وصفه الله تعالى، علامة لوقت إعادة الخلق، عن أكثر المفسرين. (فلا أنساب بينهم يومئذ) أي: لا يتواصلون بالأنساب، ولا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضا، عن الحسن. والمعنى. أنه لا يرحم قريب قريبه، لشغله عنه، فإن المقصود بالأنساب دفع ضر، أو جر نفع، فإذا ذهب هذا المقصود، فكأن الأنساب قد ذهبت، ومثله: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه). وقيل: معناه لا يتفاخرون بالأنساب، كما كانوا يفعلونه في الدنيا، عن ابن عباس، والجبائي. ولا بد من تقدير محذوف في الآية على تأويل: فلا أنساب بينهم يومئذ يتفاخرون بها، أو يتعاطفون بها. والمعنى: إنه لا يفضل بعضهم بعضا يومئذ بنسب، وإنما يتفاضلون بأعمالهم. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي " (ولا يتساءلون) أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وخبره، كما كانوا يسألون في الدنيا، لشغل كل واحد بنفسه، عن الجبائي. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل عنه ذنبه، ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) لأن للقيامة أحوالا ومواطن، فمنها حال يشغلهم عظم الأمر فيها عن المسألة. ومنها حال يلتفتون فيها فيتساءلون. وهذا معنى قول ابن عباس لما سئل عن الآيتين، فقال: هذه تارات يوم القيامة. وقيل: إنما يتساءلون عند دخول الجنة، وإنما يسأل بعض أهل الجنة بعضا، فإنهم لا يفزعون من أهوال القيامة، عن السدي. (فمن ثقلت موازينه) بالطاعات (فأولئك هم المفلحون) الناجون. (ومن خفت موازينه) عن الطاعات (فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون). وقد تقدم تفسير الآيتين، واختلاف المفسرين في كيفية الميزان والوزن في سورة، الأعراف (تلفح وجوههم النار) أي: يصيب وجوههم لفح النار، ولهبها (وهم فيها كالحون) أي: عابسون، عن ابن عباس. وقيل: هو ان تتقلص شفاههم، وتبدو أسنانهم كالرؤوس المشوية، عن الحسن (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) أي: ويقال لهم أو لم يكن القرآن يقرأ عليكم. وقيل: ألم تكن حججي، وبيناتي، وأدلتي، تقرأ عليكم في دار الدنيا.
[ 212 ]
(فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) أي: شقاوتنا ومعناهما واحد، وهو المضرة اللاحقة في العافية والسعادة المنفعة اللاحقة في العافية. ويقال لمن حصل في الدنيا على مضرة فادحة: شقي. والمعنى استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاء. (وكنا قوما ضالين) أي: ذاهبين عن الحق. ولما كانت سيئاتهم التي شقوا بها سبب شقاوتهم، سميت شقاوة توسعا. ومن أكبر الشقاوة أن تترك عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره، وتترك الأدلة، ويتبع الهوى (ربنا أخرجنا منها) أي: من النار (فإن عدنا) لما تكره من الكفر، والتكذيب، والمعاصي (فإنا ظالمون) لأنفسنا. قال الحسن: هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم بعد ذلك يكون لهم شهيق كشهيق الحمار. (قال اخسئوا فيها) أي: إبعدوا بعد الكلب في النار. وهذه اللفظة زجر للكلاب. وإذا قيل ذلك للإنسان، يكون للإهانة المستحقة للعقوبة (ولا تكلمون) وهذه مبالغة للإذلال والإهانة، وإظهار الغضب عليهم، لأن من لا يكلم إهانة له، فقد بلغ به الغاية في الإذلال. وقيل: معناه ولا تكلمون في رفع العذاب، فإني لا أرفعه عنكم. وهي على صيغة النهي، وليست بنهي، لأن الأمر والنهي مرتفعان في الآخرة، لارتفاع التكليف. (إنه كان فريق من عبادي) أي: طائفة من عبادي، وهم الأنبياء، والمؤمنون (يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) أي: يدعون بهذه الدعوات في الدنيا، طلبا لما عندي من الثواب (فاتخذتموهم) أنتم يا معشر الكفار (سخريا) أي: كنتم تهزؤون وتسخرون منهم. وقيل: معناه تستعبدونهم وتصرفونهم في أعمالكم وحوائجكم كرها بغير أجر. وقيل: إنهم كانوا إذا آذوا المؤمنين، قالوا: انظروا إلى هؤلاء رضوا من الدنيا بالعيش الدني طمعا في ثواب الآخرة، وليس وراءهم آخرة، ولا ثواب، فهو مثل قوله: (وإذا مروا بهم يتغامزون). (حتى أنسوكم ذكري) أي: نسيتم ذكري لاشتغالكم بالسخرية منهم، فنسب الإنساء إلى عبادة المؤمنين، وإن لم يفعلوه، لما كانوا السبب في ذلك (وكنتم منهم تضحكون) ظاهر المعنى. (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون [ 111 ] قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين [ 112 ] قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين [ 113 ] قال إن
[ 213 ]
لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [ 114 ] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 115 ] فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 116 ] ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ 117 ] وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين [ 118 ] القراءة: قرأ حمزة والكسائي: (إنهم) بكسر الألف، و (قل كم لبثم)، و (قل إن لبثتم) على الأمر. وقرأ ابن كثير: (قال كم لبثتم) فقط. وقرأ الباقون: (أنهم) بفتح الألف، و (قال) في الموضعين. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ويعقوب: (لا ترجعون) بفتح التاء. والباقون بضم التاء، وفتح الجيم. الحجة: قال أبو علي: من فتح (أن) فالمعنى لأنهم هم الفائزون. ويجوز أن يكون أنهم في موضع المفعول الثاني، لأن جزيت يتعدى إلى مفعولين. قال سبحانه. (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا). وتقديره: جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز. وفاز الرجل: إذا نال ما أراد. وقالوا: فوز الرجل إذا مات. ويشبه أن يكون ذلك على التفاؤل له أي: صار إلى ما أحب. والمفازة: المهلكة على وجه التفاؤل أيضا. ومن كسر (إن): استأنف فقطعه عما قبله: " لبيك إن الحمد والنعمة لك وإن الحمد " بالكسر والفتح. ومن قرأ (قل كم لبثم): كان على قل أيها السائل عن لبثهم. وقال: على الإخبار عنه. وزعموا أن في مصاحف أهل الكوفة (قل) في الموضعين. وحجة من قال (ترجعون): إنا إليه راجعون، وقد تقدم ذكر هذا النحو. الاعراب: (كم لبثتم): كم في محل النصب لأنه ظرف زمان، والعامل فيه لبث. و (عدد): منصوب على التمييز، والعامل فيه (كم). ولا يمنع كم من العمل الفصل الكثير، لأن كم الخبرية تجر المميز. فإذا فصل بينها وبين معمولها نصبت كالإستفهامية. فلأن تنصب الإستفهامية مع الفصل أولى. و (قليلا). صفة مصدر محذوف تقديره: إن لبثتم إلا قليلا عبثا. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال، وتقديره: أفحسبتم أنما خلقناكم عابثين. ويجوز أن يكون مفعولا له أي. للعبث. (لا إله إلا هو): في موضع النصب على الحال، على تقدير فتعالى الله
[ 214 ]
عديم المثل. والأولى أن يكون جملة مستأنفة. و (ورب العرش): خبر مبتدأ محذوف فهي جملة أخرى مستأنفة بدلالة حسن الوقف على المواضع الثلاثة: على (الحق)، وعلى (هو)، وعلى (الكريم). (لا برهان له به): جملة منصوبة الموضع بأنه صفة لقوله: (إلها)، فهي صفة بعد صفة. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن المؤمنين الذين سخر الكافرون منهم في دار الدنيا فقال: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) أي: بصبرهم على أذاكم، وسخريتكم، واستهزائكم بهم. (أنهم هم الفائزون) أي: الظافرون بما أرادوا، الناجون في الآخرة. والمراد بقوله (اليوم): أيام الجزاء، لا يوم بعينه (قال) أي: قال الله تعالى للكفار يوم البعث، وهو سؤال توبيخ وتبكيت لمنكري البعث. (كم لبثتم في الأرض) أي: القبور (عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) لأنهم لم يشعروا بطول لبثهم ومكثهم، لكونهم أمواتا. وقيل: إنه سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) استقلوا حياتهم في الدنيا لطول لبثهم ومكثهم في النار، عن الحسن قال: ولم يكن ذلك كذبا منهم، لأنهم أخبروا بما عندهم. وقيل. إن المراد به يوما، أو بعض يوم، من أيام الآخرة. قال ابن عباس: أنساهم الله قدر لبثهم، فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما، أو بعض يوم، لعظم ما هم بصدده من العذاب (فسئل العادين) يعني الملائكة لأنهم يحصون أعمال العباد، عن مجاهد. وقيل: يعني الحساب، لأنهم يعدون الشهور، والسنين، عن قتادة. (قال) الله تعالى: (إن لبثتم) أي: ما مكثتم (إلا قليلا) لأن مكثهم في الدنيا، أو في القبور، وإن طال، فإنه متناه قليل بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنم (لو أنكم كنتم تعلمون) صحة ما أخبرناكم به. وقيل: معناه لو كنتم تعلمون قصر أعماركم في الدنيا، وطول مكثكم في الآخرة في العذاب، لما اشتغلتم بالكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي. ثم قال سبحانه لهم (أفحسبتم) معاشر الجاحدين للبعث والنشور، الظانين دوام الدنيا (أنما خلقنكم عبثا) أي: لعبا وباطلا، لا لغرض وحكمة. ومثله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)، والمعنى: أفظننتم أنا خلقناكم لتفعلوا ما تريدون، ثم إنكم لا تحشرون، ولا تسئلون عما كنتم تعملون، هذا عبث. فإن من خلق الأشياء، لا لينتفع به نفسه أو غيره، كان عابثا، والله سبحانه غني لا يلحقه
[ 215 ]
منفعة. فلا بد من أن يكون خلق الخلق لينفعهم، ويعرضهم للثواب، بأن يتعبدهم. وإذا تعبدهم فلا بد من الفرق بين المطيع والعاصي، وذلك إنما يكون بعد البعث. (وأنكم الينا لا ترجعون) أي: وحسبتم أنكم لا ترجعون إلى حكمنا، والموضع الذي لا يملك الحكم فيه غيرنا. (فتعالى الله الملك الحق) أي: تعالى عما يصفه به الجهال من الشريك والولد. وقيل: معناه تعالى الله من أن يفعل شيئا عبثا. و (الملك الحق): الذي يحق له الملك، بأنه ملك غير مملوك، وكل ملك غيره فملكه مستعار. ولأنه يملك جميع الأشياء من جميع الوجوه، وكل ملك سواه يملك بعض الأشياء من بعض الوجوه. والحق هو الشئ الذي من اعتقده كان على ما اعتقده. فالله هو الحق، لأن من اعتقد أنه (لا إله إلا هو) فقد اعتقد الشئ على ما هو به. (رب العرش الكريم) أي: خالق السرير الحسن، والكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن. وقيل: الكريم الكثير الخير. وصف العرش به لكثرة ما فيه من الخير لمن حوله، ولإتيان الخير من جهته. وخص العرش بالذكر مع كونه سبحانه رب كل شئ، تشريفا وتعظيما، كقوله: (رب هذا البيت). (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) أي: لا حجة له فيما يدعيه، يعني أن من صفته أنه لا حجة له به. (فإنما حسابه عند ربه) معناه: فإنما معرفة مقدار ما يستحقه من الجزاء، عند ربه، فيجازيه على قدر ما يستحقه. وقيل: معناه فإنما مكافأته عند الله تعالى، والمكافأة والمحاسبة بمعنى. (إنه لا يفلح الكافرون) أي: لا يظفر، ولا يسعد الجاحدون لنعم الله، والمنكرون لتوحيده، والدافعون للبعث والنشور. ولما حكى سبحانه أقوال الكفار، أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالتبري منهم، والإنقطاع إليه سبحانه، فقال: (وقل) يا محمد (رب اغفر) الذنوب (وارحم) وأنعم على خلقك (وأنت خير الراحمين) أي: أفضل المنعمين، وأكثرهم نعمة، وأوسعهم فضلا.
[ 216 ]
24 - سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون مدنية بلا خلاف. عدد آيها: أربع وستون آية عراقي شامي، آيتان حجازي. اختلافها: آيتان بالغدو والآصال، ويذهب بالأبصار، كلاهما عراقي شامي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى، وفيما بقي ". وروى الحاكم أبو عبد الله في الصحيح بالإسناد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل، وسورة النور ". يعني النساء، وروى عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور، وحصنوا بها نساءكم، فإن من أدمن قراءتها في كل ليلة، أو في كل يوم، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا، حتى يموت. فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون ويستغفرون الله له، حتى يدخل إلى قبره. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة المؤمنين بأنه لم يخلق الخلق للعبث، بل للأمر والنهي، وابتدأ هذه السورة بذكر الأمر والنهي، وبيان الشرائع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلنها وفرضناها وأنزلنا فيها ءايات بينات لعلكم تذكرون [ 1 ] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 2 ] الزاني لا ينكح إلا
[ 217 ]
زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ 3 ]). القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (وفرضناها) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير غير ابن فليح: (رأفة) بفتح الهمزة. والباقون بسكون الهمزة. وفي الشواذ قراءة عيسى الثقفي: (سورة) بالنصب (والزانية والزاني) بالنصب. وروي عن عمر بن عبد العزيز، وعيسى الهمداني: (سورة) أيضا بالنصب. الحجة: قال أبو علي: التثقيل في (فرضناها) لكثرة ما فيها من الفرض. والتخفيف يصلح للقليل والكثير. ومن حجة التخفيف: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك) قال: ولعل (رأفة) التي قرأها ابن كثير لغة. وأما قراءة (سورة) بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: هذه سورة. ولا يجوز أن يكون مبتدأ، لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرة حتى توصف. وإن جعلت أنزلناها وفرضناها صفة لها، بقي المبتدأ بلا خبر. فإن جعلت تقديره يتلى عليكم سورة أنزلناها جاز. ومن قرأ (سورة) بالنصب، فعلى إضمار فعل يفسره أنزلناها. والتقدير: أنزلنا سورة أنزلناها. إلا أن الفعل لا يظهر، لأن التفسير يغني عنه، ومثله قول الشاعر: أصبحت لا أحمل السلاح، ولا * أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي، وأخشى الرياح، والمطرا (1) أي: وأخشى الذئب. فلما أضمره فسره بقوله أخشاه. ويجوز أن يكون الفعل الناصب ل‍ (سورة) من غير لفظ الفعل بعدها، على معنى التخصيص أي: اقرأوا سورة، وتأملوا سورة أنزلناها، كقوله سبحانه: (ناقة الله وسقياها) أي: احفظوا ناقة الله. وكذلك قوله (الزانية والزاني) انتصب بفعل مضمر أي: اجلدوا الزانية والزاني. فلما أضمر الفعل الناصب، فسره بقوله: (فاجلدوا كل واحد منهما). وجاز دخول الفاء في هذا الوجه، لأنه موضع أمر. ولا يجوز زيدا فضربته، لأنه (1) الشعران لربيع بن ضبع الفزاري، وهو من معمري العرب، من أبيات قالها بعد ما بلغ مايتين وأربعين سنة، كما في أمالي الشريف (قده)، والخزانة، وغيره (*).
[ 218 ]
خبر، وإنما جاز في الأمر لمضارعته الشرط. ألا تراه دالا على الشرط، ولذلك انجزم في قولك: زرني اكرمك، لأن معناه فإنك إن تزرني أكرمك. فلما آل معناه إلى الشرط، جاز دخول الفاء في الفعل المفسر للمضمر. وتقول على هذا: بزيد فامرر، وعلى عمرو فاغضب. اللغة: السورة مأخوذة من سور البناء، وهو ارتفاعه. وقيل: هو ساق من أسواقه. فعلى القول الأول يكون تسميتها بذلك لارتفاعها في النفوس. وعلى القول الثاني يكون تسميتها بذلك، لأنها قطعة من القرآن. وقيل: إن السورة المنزلة الشريفة، والجلالة. قال النابغة. ألم تر الله أعطاك سورة *، ترى كل ملك دونها يتذبذب لإنك شمس، والملوك كواكب، * إذا طلعت لم يبد منهن كوكب (1) وقيل: أصله الهمز. وقيل: اشتقاقها من أسأرت: إذا أبقيت في الإناء بقية. ومنه الحديث: " إذا شربتم فأسئروا " إلا أنه أجمع على تخفيفها، كما أجمع على تخفيف برية وروية، وأصلها من برا الله الخلق، وروأت في الأمر. وأصل الفرض من فرض القوس: وهو الحز الذي فيه الوتر، ثم اتسع فيه فجعل في موضع الإيجاب. وفصل بين الفرض والواجب، فإن الفرض واجب بجعل جاعل، لأنه فرضه على صاحبه، كما أنه أوجبه عليه. والواجب قد يكون واجبا من غير جعل جاعل، كوجوب شكر المنعم. فجرى دلالة الفعل على الفاعل، في أنه يدل من غير جعل جاعل. والزنا هو وطء المرأة في الفرج من غير عقد شرعي، ولا شبهة عقد، مع العلم بذلك، أو غلبة الظن. وليس كل وطء حرام زنا، لأن الوطء في الحيض والنفاس حرام، ولا يكون زنا. والجلد ضرب الجلد، يقال: جلده كما يقال: ظهره، ورأسه، وفأده، وهذا قياس. والرأفة: التحنن والتعطف، وفيه ثلاث لغات. سكون الهمزة، وفتحها، ومدها. وقال الأخفش: الرأفة رحمة في توجع. المعنى: (سورة أنزلناها) أي: هذه سورة قطعة من القرآن لها أول وآخر، أنزلها جبرائيل عليه السلام بأمرنا (وفرضناها) أي: وأوجبنا عليكم العمل بها، وعلى من (1) يخاطب النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وفي البيت الثاني كلام لطيف، ذكره الشريف المرتضى. (ره) في (الأمالي ج 1: 487) فراجع (*).
[ 219 ]
بعدكم إلى يوم القيامة. وقيل: معناه وفرضنا فيها إباحة الحلال، وحظر الحرام، عن مجاهد. وهذا يعود إلى معنى أوجبناها. وقيل: معناه وقدرنا فيها الحدود، عن عكرمة، وهو من قوله: (فنصف ما فرضتم). وفسر أبو عمرو معنى القراءة بالتشديد بأن قال: معناها فصلناها وبيناها بفرائض مختلفة. (وأنزلنا فيها آيات بينات) أي: دلالات واضحات على وحدانيتنا، وكمال قدرتنا. وقيل: أراد بها الحدود والأحكام التي شرع فيها. (لعلكم تذكرون) أي: لكي تتذكروا فتعلموا بما فيها. ثم ذكر سبحانه تلك الآيات، وابتدأ بحكم الزنا، فقال: (الزانية والزاني) معناه: التي تزني، والذي يزني، أي: من زنى من النساء، ومن زنى من الرجال، فيفيد العموم في الجنس. (فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) يعني إذا كانا حرين بالغين بكرين غير محصنين. فأما إذا كانا محصنين، أو كان أحدهما محصنا، كان عليه الرجم بلا خلاف. والإحصان هو أن يكون له فرج يغدو إليه ويروح على وجه الدوام، أو يكون حرا. فأما العبد فلا يكون محصنا، وكذلك الأمة لا تكون محصنة، وإنما عليهما نصف الحد خمسون جلدة، لقوله سبحانه: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). وقيل: إنما قدم ذكر الزانية على الزاني، لأن الزنى منهن أشنع وأعير، وهو لأجل الحبل أضر، لأن الشهوة فيهن أكثر، وعليهن أغلب. وقوله (فاجلدوا) هذا خطاب للأئمة، ومن يكون منصوبا للأمر من جهتهم، لأنه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلا الأئمة وولاتهم بلا خلاف. (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) معناه: إن كنتم تصدقون بالله، وتقرون بالبعث والنشور، فلا تأخذكم بهما رحمة تمنعكم من إقامة الحدود عليهما، فتعطلوا الحدود، عن عطا، ومجاهد. وقيل: معناه لا تأخذكم بهما رأفة تمنع من الجلد الشديد، بل أوجعوهما ضربا، ولا تخففوا كما يخفف في حد الشارب، عن الحسن، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والنخعي، والزهري. وقوله (في دين الله) أي: في طاعة الله. وقيل: في حكم الله، عن ابن عباس، كقوله: (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، أي: في حكمه. (وليشهد عذابهما) أي: وليحضر حال إقامة الحد عليهما (طائفة) أي: جماعة (من المؤمنين) وهم ثلاثة فصاعدا، عن قتادة والزهري. وقيل: الطائفة
[ 220 ]
رجلان فصاعدا، عن عكرمة. وقيل: أقله رجل واحد، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. ويدل على ذلك قوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا). وهذا الحكم يثبت للواحد، كما يثبت للجمع. وقيل. أقلها أربعة، لأن أقل ما يثبت به الزنا شهادة أربعة، عن ابن زيد. وقيل: ليس لهم عدد محصور، بل هو موكول إلى رأي الإمام. والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم إذاعة الحد، ليحصل الإعتبار. وقوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) اختلف في تفسيره على وجوه أحدها: إن المراد بالنكاح العقد، ونزلت الآية على سبب، وهو: أن رجلا من المسلمين، استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يتزوج أم مهزول، وهي امرأة كانت تسافح، ولها راية على بابها، تعرف بها. فنزلت الآية، عن عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري. والمراد بالآية النهي، وإن كان ظاهره الخبر، ويؤيده ما روي عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام، أنهما قالا: هم رجال ونساء، كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مشهورين بالزنا، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء على تلك المنزلة، فمن شهر بشئ من ذلك، وأقيم عليه الحد، فلا تزوجوه حتى تعرف توبته. وثانيها: إن النكاح هنا الجماع، والمعنى: إنهما اشتركا في الزنا، فهي مثله، عن الضحاك، وابن زيد، وسعيد بن جبير، وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس. فيكون نظير قوله (الخبيثات للخبيثين " في أنه خرج مخرج الأغلب الأعم. وثالثها: إن هذا الحكم كان في كل زاني وزانية، ثم نسخ بقوله (وانكحوا الأيامى منكم) الآية. عن سعيد بن المسيب، وجماعة ورابعها: إن المراد به العقد، وذلك الحكم ثابت فيمن زنا بامرأة، فإنه لا يجوز له أن يتزوج بها روي ذلك عن جماعة من الصحابة، وإنما قرن الله سبحانه بين الزاني والمشرك، تعظيما لأمر الزنا، وتفخيما لشأنه. ولا يجوز أن تكون هذه الآية خبرا، لأنا نجد الزاني يتزوج غير الزانية، ولكن المراد هنا الحكم، أو النهي، سواء كان المراد بالنكاح العقد، أو الوطء. وحقيقة النكاح في اللغة الوطء (وحرم ذلك على المؤمنين) أي: حرم نكاح الزانيات، أو حرم الزنا على المؤمنين، فلا يتزوج بهن، أو لا يطأهن إلا زان، أو مشرك.
[ 221 ]
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 4 ] إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 5 ] القراءة: في الشواذ قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار وأبي زرعة: (بأربعة) بالتنوين. الحجة: من قرأ (بأربعة شهداء) بغير تنوين، أضاف العدد إلى (شهداء)، وإن كان الشهداء من الصفات. وساغ ذلك لأنهم استعملوها استعمال الأسماء، كقولهم: إذا دفن الشهيد صلت عليه الملائكة، ونحو ذلك. فحسن إضافة إسم العدد إليها، كما يضاف إلى الإسم الصريح. ومن قرأ بالتنوين، جعل شهداء صفة لأربعة في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع نصب من جهتين إحداهما: أن يكون على معنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وعلى الحال من النكرة أي: لم يأتوا في حال الشهادة، قاله الزجاج. الاعراب: موضع (الذين يرمون) رفع بالإبتداء. ومن قرأ (الزانية والزاني) بالنصب. فيكون على ذلك موضع (والذين يرمون، نصبا على معنى. اجلدوا الذين يرمون المحصنات. والمحصنات هنا: اللاتي أحصن فروجهن بالعفة. و (الذين تابوا): في محل النصب على الإستثناء من قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) عند من قال: إن شهادتهم مقبولة. ويكون قوله (وأولئك هم الفاسقون). صفة لهم. ويجوز أن يكون في موضع جر على البدل من هم في (لهم). ومن قال: إن شهادة القاذف غير مقبولة، فعنده يكون في موضع النصب على الإستثناء من قوله: (وأولئك هم الفاسقون). المعنى: لما تقدم ذكر حد الزنا، عقبه سبحانه بذكر حد القاذف بالزنا، فقال سبحانه: (والذين يرمون المحصنات) أي: يقذفون العفائف من النساء بالفجور والزنا. وحذف لدلالة الكلام عليه. (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) أي: ثم لم يأتوا على صحة ما رموهن به من الزنا، بأربعة شهداء عدول، يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك. (فاجلدوهم) أي: فاجلدوا الذين يرمونهن بالزنا (ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم
[ 222 ]
شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون): نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأبيد، وحكم عليهم بالفسق. ثم استثنى من ذلك فقال: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) أعمالهم. (فإن الله غفور رحيم). واختلف في هذا الإستثناء إلى ماذا يرجع على قولين أحدهما: إنه يرجع إلى الفسق خاصة، دون قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) فيزول عنه اسم الفسق بالتوبة، ولا تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد عليه، عن الحسن وقتادة وشريح وإبراهيم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. والآخر: إن الإستثناء يرجع إلى الأمرين، فإذا تاب قبلت شهادته حدا، ولم يحد، عن ابن عباس في رواية الوالبي ومجاهد والزهري ومسروق وعطا وطاووس وسعيد بن جبير والشعبي، وهو اختيار الشافعي وأصحابه، وقول أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري قال: زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز، فاشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة لما شهد على المغيرة بن شعبة: تب تقبل شهادتك، أو إن تبت تقبل شهادتك. فأبى أبو بكرة أن يكذب نفسه. وقال الزجاج: ليس القاذف بأشد جرما من الكافر، والكافر إذا أسلم قبلت شهادته، فالقاذف أيضا حقه إذا تاب أن تقبل شهادته. يعضد هذا القول: أن المتكلم بالفاحشة لا ينبغي أن يكون أعظم جرما من مرتكبها. ولا خلاف في العاهر، أنه إذا تاب، قبلت شهادته. فالقاذف إذا تاب ونزع مع أنه أيسر جرما، يجب أن تقبل شهادته. وقال الحسن: يجلد القاذف وعليه ثيابه، ويجلد الرجل قائما، والمرأة قاعدة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. ومن شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه فيما قاله، فإن لم يفعل ذلك، لم يجز قبول شهادته، وبه قال الشافعي. وقيل: إنه لا يحتاج إلى ذلك، وهو قول مالك. والآية وردت في النساء، وحكم الرجال حكمهن ذلك في الإجماع. وإذا كان القاذف عبدا، أو أمة، فالحد أربعون جلدة عند أكثر الفقهاء. وروى أصحابنا أن الحد ثمانون في الحر والعبد سواء. وظاهر الآية يقتضي ذلك، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن عبد الرحمن.
[ 223 ]
(والذين يرمون أزاوجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصدقين [ 6 ] والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين [ 7 ] ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين [ 8 ] والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين [ 9 ] ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم [ 10 ]) القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (فشهادة أحدكم أربع شهادات) بالرفع. والباقون (أربع شهادات) بالنصب. وقرأ حفص. (والخامسة) الثانية بالنصب. والباقون بالرفع. وقرأ نافع: (أن) ساكنة النون (لعنة الله) بالرفع و (أن غضب الله عليها) بكسر الضاد، ورفع (الله). وقرأ يعقوب (أن لعنة الله)، و (أن غضب الله) برفع لعنة وغضب جميعا. والباقون: (أن لعنة الله)، و (أن غضب الله) بالتشديد والنصب في الموضعين. الحجة: قال أبو علي: من نصب (أربع شهادات) نصبه بالشهادة، وينبغي أن يكون قوله (شهادة أحدهم) مبنيا على ما يكون مبتدأ تقديره: فالحكم، أو فالفرض أن تشهد أربع شهادات، أو فعليهم أن يشهدوا. وإن شئت حملته على المعنى، لأن المعنى يشهد أحدهم. وقوله (بالله): يجوز أن يكون من صلة الشهادة، لأنك أوصلتها بالشهادة، ومن صلة شهادات إذا نصبت الأربع. وقياس من أعمل الثاني، أن يكون قوله (بالله) من صلة شهادات، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: ضربت وضربني زيد. ومن رفع فقال (شهادة أحدهم أربع شهادات بالله) فإن الجار والمجرور من صلة شهادات. ولا يجوز أن يكون من صلة شهادة، لأنك إن وصلتها بالشهادة، فقد فصلت بين الصلة والموصول. ألا ترى أن الخبر الذي هو (أربع شهادات) يفصل قوله (إنه لمن الصادقين) في قول من نصب أربع شهادات يجوز أن يكون من صلة شهادة أحدهم. فتكون الجملة التي هي (إنه لمن الصادقين) في موضع نصب، لأن الشهادة كالعلم، فيتعلق بها إن، كما يتعلق بالعلم. والجملة في موضع نصب بأنه مفعول به، و (أربع شهادات) ينتصب انتصاب المصدر.
[ 224 ]
ومن رفع (أربع شهادات)، لم يكن (إنه لمن الصادقين) إلا من صلة شهادات، دون صلة شهادة، لأنك إن جعلته من صلة شهادة، فضلت بين الصلة والموصول. ومن قرأ (أن لعنة الله عليه)، و (أن غضب الله عليها) فمعناه: إنه لعنة الله عليه، وإنه غضب الله عليها، خففت الثقيلة المفتوحة على إضمار القصة والحديث، ولا تكون في ذلك كالمكسورة، لأن الثقيلة المفتوحة، موصولة. والموصول يتشبث بصلته أكثر من تشبت غير الموصول بما يتصل به. وأهل العربية يستقبحون أن تلي الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشئ، ويقولون: استقبحوا أن تحذف ويحذف ما تعمل فيه وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما فتجتمع هذه الإتساعات فيها، فإن فصل بينها وبين الفعل بشئ لم يستقبحوا ذلك، كقوله تعالى: (علم أن سيكون منكم مرضى)، وقوله: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) وعلمت أن قد قام. فإن قلت: فقد جاء (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وجاء: (نودي أن بورك من في النار ومن حولها)، فالجواب: فأن ليس يجري مجرى ما ونحوها مما ليس بفعل. وأما قوله (نودي أن بورك) فإن قوله (بورك) على معنى الدعاء، فلم يجز دخول لا ولا قد، ولا السين، ولا شئ مما يصح دخوله الكلام، فيصح به الفصل. ووجه قراءة نافع، أن ذلك قد جاء في الدعاء، ولفظه لفظ الخبر. وقد يجئ في الشعر وإن لم يكن شئ يفصل بين أن، وبين ما تدخل عليه من الفعل. فإن قلت: فلم لا تكون أن في قوله (أن غضب الله) أن الناصبة للفعل، وصل بالماضي. فيكون كقراءة من قرأ (وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي)، فأن ذلك لا يسهل، ألا ترى أنها متعلقة بالشهادة، والشهادة بمنزلة العلم لا تقع بعدها الناصبة. النزول: الضحاك عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية (والذين يرمون المحصنات) قال عاصم بن عدي: يا رسول الله ! إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا، فأخبر بما رأى، جلد ثمانين. وإن التمس أربعة شهداء، كان الرجل قد قضى حاجته ثم مضى ؟ قال: كذلك أنزلت الآية يا عاصم. قال: فخرج سامعا مطيعا. فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية يسترجع، فقال: ما وراءك ؟ قال: شر، وجدت شريك بن سحما على بطن امرأتي خولة ! فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله فاخبره هلال بالذي كان. فبعث إليها فقال: ما يقول زوجك ؟ فقالت: يا رسول الله ! إن ابن
[ 225 ]
سحما كان يأتينا فينزل بنا، فيتعلم الشئ من القرآن، فربما تركه عندي وخرج زوجي فلا أدري أدركته الغيرة، أم بخل علي بالطعام. فأنزل الله آية اللعان: (والذين يرمون أزواجهم) الآيات. وعن الحسن قال: لما نزلت (والذين يرمون المحصنات) الآية. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله ! أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله تقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين، أفلا يضربه بالسيف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالسيف شاه. أراد أن يقول: شاهدا، ثم أمسك وقال: لولا أن يتابع فيه السكران والغيران. وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال سعد بن عبادة: لو أتيت لكاع وقد يفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، ويذهب. وإن قلت ما رأيت فإن في ظهري لثمانين جلدة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر الأنصار ! ما تسمعون إلى ما قال سيدكم ؟ فقالوا: لا تلمه، فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة له فاجترى رجل منا أن يتزوجها. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي، والله إني لأعرف إنها من الله، وإنها حق، ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك. فقال: فإن الله يأبى إلا ذاك. فقال: صدق الله ورسوله. فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له، قد رأى رجلا مع امرأته. فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت معها رجلا رأيته بعينى، وسمعته بأذني. فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رأى الكراهة في وجهه، فقال هلال: إني لأرى الكراهة في وجهك، والله يعلم أني لصادق، وأني لأرجو أن يجعل الله فرجا. فهم رسول الله بضربه، وقال: واجتمعت الأنصار، وقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال، وتبطل شهادته ؟ فنزل الوحي، وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل. فأنزل الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) الآيات. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبشر يا هلال، فإن الله تعالى قد جعل فرجا. فقال: قد كنت أرجو ذاك من الله تعالى. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلوا إليها، فجاءت فلاعن بينهما. فلما انقضى اللعان فرق بينهما، وقضى أن الولد لها، ولا يدعى لأب، ولا يرمى ولدها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ان جاءت به كذا وكذا، فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا، فهو للذي قيل فيه.
[ 226 ]
المعنى: لما تقدم حكم القذف للأجنبيات، عقبه بحكم القذف للزوجات، فقال: (والذين يرمون أزواجهم) بالزنا (ولم يكن لهم شهداء) يشهدون لهم على صحة ما قالوا (إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات) قال الزجاج: معناه فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القاذف، أربع شهادات. ومن نصب فمعناه: فالذي يدرأ عنهم العذاب أن يشهد أحدهم أربع شهادات. (بالله إنه لمن الصادقين) فيما رماها به من الزنا (والخامسة) أي: والشهادة الخامسة (أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) فيما رماها به من الزنا. والمعنى: إن الرجل يقول أربع مرات، مرة بعد مرة أخرى. أشهد بالله إني لمن الصادقين، فيما ذكرت عن هذه المرأة من الفجور. فإن هذا حكم خص الله به الأزواج في قذف نسائهم، فتقوم الشهادات الأربع مقام الشهود الأربعة في دفع حد القذف عنهم. ثم يقول في المرة الخامسة: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا. (ويدرؤا عنها العذاب) ويدفع عن المرأة حد الزنا (أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) معناه: أن تقول المرأة أربع مرات، مرة بعد أخرى: أشهد بالله أنه لمن الكاذبين فيما قذفني به من الزنا (والخامسة أن غضب الله عليها) أي: وتقول في الخامسة: غضب الله علي (إن كان من الصادقين) فيما قذفني به من الزنا. ثم يفرق الحاكم بينهما، ولا تحل له أبدا، وكان عليها العدة من وقت لعانها. (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) جواب لولا محذوف تقديره: ولولا فضل الله عليكم بالنهي عن الزنا، والفواحش، وإقامة الحدود، لتهالك الناس، ولفسد النسل، وانقطع الأنساب، عن أبي مسلم. وقيل: معناه لولا إفضال الله، وإنعامه عليكم، وأن الله عواد على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، حكيم فيما فرضه من الحدود، لنال الكاذب منهما عذاب عظيم أي: لبين الكاذب منهما، فيقام عليه الحد. وقيل: لعاجلكم بالعقوبة، ولفضحكم بما تركبون من الفاحشة، ومثله قوله: لو رأيت فلانا وفي يده السيف، والمعنى لرأيت شجاعا، أو لرأيت أمرا هائلا، وقال جرير: كذب العواذل لو رأين مناخنا * بحزيز رامة، والمطي سوام (1) (1) الحزيز في اللغة: المكان الغليظ المنقاد. وهو في مواضع كثيرة منها حزيز رامة: وهو اسم موضع قرب البصرة. والسوام: راعيه. وفي رواية الحموي في المعجم: " ولقد نظرت فرد = (*)
[ 227 ]
وجاء في المثل: " لو ذات سوار لطمتني ". (إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم [ 11 ] لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين [ 12 ] لولا جاءو عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون [ 13 ] ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والأخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم [ 14 ] إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم [ 15 ]). القراءة: قرأ يعقوب: (كبره) بضم الكاف، وهو قراءة أبي رجا، وحميد الأعرج. وقراءة الفراء: (كبره) بكسر الكاف. وفي الشواذ قراءة عائشة، وابن عباس، وابن معمر: (إذ تلقونه) (1). وقراءة ابن السميقع: (تلقونه). والقراءة المشهورة: (تلقونه). الحجة: من ضم (كبره) أراد عظمه. ومن كسر أراد وزره وإثمه. قال قيس بن الخطيم: تنام عن كبر شانها، فإذا * قامت رويدا، تكاد تنعزف (2) أي: عن معظم شأنها. وأما قوله (تلقونه) فمعناه: تسرعون فيه، وتخفون إليه. قال الراجز: " جاءت به عنس من الشأم تلق " (3) أي: تخف، وأصله تلقون فيه، أو إليه، فحذف حرف الجر، فوصل الفعل إلى المفعول. وقيل: إن الولق = نظرت الهوى * بحزيز رامة... " وعليها فلا شاهد في هذا البيت. (1) من ولق يلق ولقا في سيره: أسرع. (2) العزف: التثني والإنقصاف أي: تتثنى من دقة خصرها. (3) وقبله: " إن الجليد زلق وملق * كذنب العقرب شوال علق * جاءت به عنس..، " يهجو به جليد الكلابي، ويريد أنه ينزل قبل الجماع (*).
[ 228 ]
الكذب، فكان الكاذب يستمر في الكذب، ويسرع فيه. وجاء في حديث علي عليه السلام: كذبت وولقت. وأما (تلقونه) فمعناه. تلقونه بأفواهكم. وأما (تلقونه) فهو من تلقيت الحديث من فلان أي: أخذته منه، وقبلته. النزول: روى الزهري، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وغيرهما، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا، أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها، خرج بها. فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وذلك بعدما أنزل الحجاب، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فرغ من غزوه، وقفل (1). وروي أنها كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة. قالت: ودنونا من المدينة، فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرجل، فلمست صدرتي، فإذا عقد من جزع ظفار (2)، قد انقطع. فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلونني، فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. وكانت النساء إذ ذاك، خفافا لم يهبلهن اللحم (3) (لم يغشهن اللحم. خ ل). إنما يأكلن العلقة من الطعام. فبعثوا الجمل، وساروا. ووجدت عقدي وجئت منازلهم، وليس بها داع ولا مجيب، فسموت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة، إذ غلبتني عيناي، فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي، قد عرس من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما كلمني بكلمة حتى أناخ راحلته، فركبتها فانطلق يقود الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين (4) في حر الظهيرة. فهلك من هلك في، وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمتها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشئ من ذلك، وهو يرثيني في وجعي، غير أني لا أعرف من (1) أي: رجع. (2) الجزع: الخرز اليماني. وظفار كقطام: قرية من قرى يمن، ينسب إليها الجزع الظفاري. (3) أي: لم يكثر عليهن اللحم والشحم. والعلقة: القليل من الطعام. (4) الوغر: شدة توقد الحر (*).
[ 229 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول. كيف تيكم ؟ فذلك يحزنني، ولا أشعر بالسر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المصانع، وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه. وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. وانطلقت أنا، وأم مسطح، وأمها بنت صخرة بن عامر، خالة أبي، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح ! فقلت لها: بئس ما قلت ! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت: أي بنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ قلت: وماذا قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كيف تيكم ؟ قلت: تأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت: وأنا أريد أن أتيقن الخبر من قبله. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجئت أبوي وقلت لأمي: يا أماه ! ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت: أي بنية ! هوني عليك، فوالله لقل ما كان امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها. قلت: سبحان الله ! أو قد يحدث الناس بهذا ؟ قالت: نعم. فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله أسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي علم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله ! هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. فاما علي بن أبي طالب، عليه أفضل الصلوات، فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرة، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة، فقال. يا بريرة ! هل رأيت شيئا يريبك من عائشة. قالت بريرة: والذي بعثك بالحق ! إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها. قالت: وأنا والله أعلم أني بريئة. ولما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله رؤيا يبرئني الله بها. فأنزل الله تعالى على نبيه، وأخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي، حتى إنه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل
[ 230 ]
القول الذي أنزل عليه. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أبشري يا عائشة. أما الله فقد برأك. فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، فهو الذي أنزل براءتي. فأنزل الته تعالى: (إن الذين جاؤوا بالإفك) الآيات العشر. المعنى: (إن الذين جاؤوا بالإفك) أي: بالكذب العظيم الذي قلب فيه الأمر عن وجهه (عصبة منكم) أيها المسلمون. قال ابن عباس، وعائشة: منهم عبد الله بن أبي سلول، وهو الذي تولى كبره، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) هذا خطاب لعائشة وصفوان، لأنهما قصدا بالإفك، ولمن اغتم بسبب ذلك، وخطاب لكل من رمي بسبب، عن ابن عباس أي: لا تحسبوا غم الإفك شرا لكم، بل هو خير لكم، لأن الله تعالى يبرئ عائشة، ويأجرها بصبرها واحتسابها، ويلزم أصحاب الإفك ما استحقوه بالإثم الذي ارتكبوه في أمرها. وقال الحسن: هذا خطاب للقاذفين من المؤمنين، والمعنى: لا تحسبوا أيها القذفة هذا التأديب شرا لكم، بل هو خير لكم، فإنه يدعوكم إلى التوبة، ويمنعكم عن المعاودة إلى مثله. (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) أي: لكل امرئ من القذفة جزاء ما اكتسبه من الإثم، بقدر ما خاض وأفاض فيه. وقيل: معناه على كل امرئ منهم عقاب ما اكتسب، كقوله: (وإن أسأتم لها) أي: فعليها. (والذي تولى كبره) أي: تحمل معظمه (منهم له عذاب عظيم) المراد به عبد الله بن أبي سلول أي: فإنه كان رأس أصحاب الإفك، كان يجتمع الناس عنده، ويحدثهم بحديث الإفك، ويشيع ذاك بين الناس، ويقول: قال امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها، والله ما نجت منه، ولا نجا منها. والعذاب العظيم: عذاب جهنم في الآخرة. وقيل: المراد به مسطح بن أثاثة. وقيل: حسان بن ثابت، فإنه روي أنه دخل على عائشة بعد ما كف بصره، فقيل لها: إنه يدخل عليك، وقد قال فيك ما قال وقد قال الله تعالى (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) فقالت عائشة: أليس قد كف بصره، فأنشد حسان قوله فيها: حصان، رزان، فاتزن بريبة، * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (1) (1) الحصان هنا: العفيفة. والرزان: الملازمة موضعها التي لا تتصرف كثيرا. وامرأة رزان: إذا = (*)
[ 231 ]
فقالت عائشة: لكنك لست كذلك. (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) معناه: هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين له، ظن المؤمنون والمؤمنات بالذين هم كأنفسهم خيرا، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور. فإذا جرى على أحدهم محنة، فكأنها جرت على جماعتهم، فهو كقوله: (فسلموا على أنفسكم) عن مجاهد. وعلى هذا يكون خطابا لمن سمعه، فسكت ولم يصدق ولم يكذب. وقيل. هو خطاب لمن أشاعه، والمعنى: هلا إذا سمعتم هذا الحديث، ظننتم بها ما تظنونه بأنفسكم، لو خلوتم بها، وذلك لأنها كانت أم المؤمنين. ومن خلا بأمه لا يطمع فيها، وهي لا تطمع (وقالوا هذا إفك مبين) أي: وهلا قالوا هذا القول كذب ظاهر (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) أي: هلا جاءوا على ما قالوه ببينة، وهي أربعة شهداء يشهدون بما قالوه. (فإذا لم يأتوا بالشهداء) أي: فحين لم يأتوا بالشهداء (فأولئك) الذين قالوا هذا الإفك (عند الله) أي: في حكمه (هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) بأن أمهلكم لتتوبوا، ولم يعاجلكم بالعقوبة (لمسكم) أي: أصابكم (فيما أفضتم) أي: خضتم (فيه) من الإفك (عذاب عظيم) أي: عذاب لا انقطاع له، عن ابن عباس. ثم ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب فيه لولا فضله فقال: (إذ تلقونه بألسنتكم) أي: يرويه بعضكم عن بعض، عن مجاهد، ومقاتل. وقيل: معناه تقبلونه من غير دليل، ولذلك أضافه إلى اللسان. وقيل: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض، عن الزجاج. (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا) أي: تظنون أن ذلك سهل، لا إثم فيه (وهو عند الله عظيم) في الوزر، لأنه كذب وافتراء. (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [ 16 ] يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين [ 17 ] ويبين الله = كانت ذات ثبات ووقار. وما تزن: أي ما تتهم. وغرثى أي: جائعة. والغوافل جمع غافلة. يريد انها لا ترتع في أعراض الناس. (*)
[ 232 ]
لكم الآيات والله عليم حكيم [ 18 ] إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 19 ] ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله رءوف رحيم [ 20 ]) * المعنى: ثم زاد سبحانه في الإنكار عليهم، فقال: (ولولا إذ سمعتموه قلتم) أي: هلا قلتم حين سمعتم ذلك الحديث (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) أي: لا يحل لنا أن نخوض في هذا الحديث، وما ينبغي لنا أن نتكلم به (سبحانك) يا ربنا (هذا) الذي قالوه (بهتان عظيم) أي: كذب وزور عظيم عقابه، أو نتحير من عظمه. وقيل: إن سبحانك هنا معناه التعجب كقول الأعشى: " سبحان من علقمة الفاخر " (1). وقيل: معناه ننزهك ربنا من أن نعصيك بهذه المعصية. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: (يعظكم الله) أي: ينهاكم الله، عن مجاهد. وقيل: يحرم الله عليكم (أن تعودوا لمثله) عن ابن عباس. وقيل: معناه كراهة أن تعودوا، أو لئلا تعودوا إلى مثله من الإفك (أبدا) أي: طول أعماركم (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين بالله ونبيه، قابلين موعظة الله. (ويبين الله لكم الآيات) في الأمر والنهي (والله عليم) بما يكون منكم (حكيم) فيما يفعله، لا يضع الشئ إلا في موضعه. ثم هدد القاذفين فقال: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) أي: يفشوا ويظهروا الزنا والقبائح (في الذين آمنوا) بأن ينسبوها إليهم، ويقذفوهم بها (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) وهو عذاب النار (والله يعلم) ما فيه من سخط الله، وما يستحق عليه من المعاقبة (وأنتم لا تعلمون) ذلك. ثم ذكر فضله ومنته عليهم فقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم) لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه برحمته أمهلكم لتتوبوا وتندموا على ما قلتم. وجواب (لولا) محذوف لدلالة الكلام عليه. النظم: لما بين سبحانه أحكام قذف المحصنات، وعظم أمره، عقب ذلك بأحكام قذف الزوجات. ثم عطف بعد ذلك قذف الأمهات، فإن أزواج (1) وقبله: " أقول لما جاءني فخره ". قاله في علقمة بن علاثة (*)
[ 233 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمهات المؤمنين بدلالة قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين) الآية. * (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم [ 21 ] ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [ 22 ] إن الذين يرمون المحصنت الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم [ 23 ] يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [ 24 ] يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 25 ]) * القراءة: قرأ روح، عن يعقوب: (ما زكى منكم) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ أبو جعفر: (ولا يتأل) وهو قراءة زيد بن أسلم، وأبي رجا، وأبي مجلز. والباقون: (لا يأتل). وروي عن علي عليه السلام: (ولتعفوا ولتصفحوا) بالتاء كما يروى بالياء أيضا. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (يوم يشهد عليهم) بالياء. والباقون: (تشهد). وفي الشواذ قراءة مجاهد، وأبي روق: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) بالرفع. الحجة: الوجه في قوله (ما زكى) بالتشديد أنه قال والله يزكي. وأما قوله (ولا يتأل)، فإنه من تألى إذا حلف. وفي الحديث: " ومن يتأل على الله يكذبه "، وهو الذي يحلف فيقول: والله لا يدخل فلان الجنة، وفلان النار. وأنشد الأصمعي: " عجاجة هجاجة تألى لأصبحن الأحقر الأذلا " وأما (لا يأتل)، ففيه ثلاثة أقوال أحدها: من الألية التي هي اليمين أيضا، يقال: ايتلى وتألى وألى بمعنى. والآخر أنه من قولهم: ما ألوت في كذا أي: ما قصرت. والمعنى: ولا يقصر. وقال الأخفش: إنه يحتمل الأمرين. وقوله (ولتعفوا ولتصفحوا) بالتاء، مثل ما روي فلتفرحوا بالتاء على الأصل، وقد تقدم القول فيه. ومن قرأ (يوم يشهد) بالياء،
[ 234 ]
فلأن تأنيث الألسنة ليس بحقيقي، ولأنه حصل بين الفعل والفاعل فصل. ومن قرأ بالتاء، فعلى أن الألسنة مؤنثة. ومن قرأ (الحق) بالرفع جعله وصفا لله تعالى أي: يوفيهم الله الحق دينهم، مثل قوله (إلى الله مولاهم الحق). النزول: قيل: إن قوله (ولا يأتل أولو الفضل منكم) الآية. نزلت في أبي بكر، ومسطح بن أثاثة، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان من المهاجرين، ومن جملة البدريين، وكان فقيرا. وكان أبو بكر يجري عليه، ويقوم بنفقته. فلما خاض في الإفك، قطعها وحلف أن لا ينفعه بنفع أبدا. فلما نزلت الآية، عاد أبو بكر إلى ما كان، وقال: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها عنه أبدا، عن ابن عباس، وعائشة، وابن زيد. وقيل: نزلت في يتيم كان في حجر أبي بكر، حلف لا ينفق عليه، عن الحسن، ومجاهد. وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة، أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشئ من الإفك، ولا يواسوه، عن ابن عباس، وغيره. المعنى: ثم نهى سبحانه عن اتباع الشيطان، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) أي: آثاره وطرقه التي تؤدي إلى مرضاته. وقيل: وساوسه (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) هذا بيان سبب المنع من اتباعه (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) بأن لطف لكم وأمركم بما تصيرون به أزكياء، ونهاكم عما تصيرون بتركه أزكياء (ما زكى منكم من أحد أبدا) أي: ما صار منكم أحد زكيا ومن في (من أحد) مزيدة. وقيل: معناه ما ظهر منكم أحد من وسوسة الشيطان، وما صلح. (ولكن الله يزكي من يشاء) أي: يطهر بلطفه من يشاء، وهو من له لطف يفعله سبحانه به ليزكو عنده (والله سميع عليم) يفعل المصالح والألطاف بالمكلفين، لأنه يسمع أصواتهم وأقوالهم، ويعلم أحوالهم وأفعالهم. وفي الآية دلالة على أن الله سبحانه يريد من خلقه خلاف ما يريده الشيطان، لأنه إذا ذم سبحانه الأمر بالفحشاء والمنكر، فخالق الفحشاء والمنكر ومريدهما أولى بالذم، تعالى وتقدس عن ذلك. وفيها دلالة على أن أحدا لا يصلح إلا بلطفه. (ولا يأتل) أي: ولا يحلف أولا يقصر، ولا يترك (أولو الفضل منكم والسعة) أي: أولو الغنى والسعة في المال (أن يؤتوا أولي القربى) قال الزجاج:
[ 235 ]
معناه أن لا يؤتوا فحذف (لا) أي: لا يحلفوا أن لا يؤتوا. وقيل: لا يقصروا أن يؤتوا، ولا يتركوا جهدا في الإنفاق على أقربائهم (والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) وقد أجتمع في مسطح الصفات الثلاث: كان قرينا لأبي بكر، مسكينا، مهاجرا. قال الجبائي: وفي قصة مسطح دلالة على أنه قد يجوز أن تقع المعاصي ممن شهد بدرا بخلاف قول النوائب. (وليعفوا وليصفحوا) هذا أمر من الله تعالى للمرادين بالآية بالعفو عمن أساء إليهم، والصفح عنهم. وقال لهم: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) معاصيكم جزاء على عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم (والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات) أي: يقذفون العفائف من النساء (الغافلات) عن الفواحش (المؤمنات) بالله، ورسوله، واليوم الآخر. (لعنوا في الدنيا والآخرة) أي: أبعدوا من رحمة الله في الدارين. وقيل: استحقوا اللعنة فيهما. وقيل عذبوا في الدنيا بالجلد، ورد الشهادة، وفي الآخرة بعذاب النار. (ولهم) مع ذلك (عذاب عظيم) وهذا الوعيد عام لجميع المكلفين، عن ابن عباس، وابن زيد. (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) بين الله سبحانه أن ذلك العذاب يكون في يوم تشهد ألسنتهم فيه عليهم بالقذف، وسائر أعضائهم بمعاصيهم. وفي كيفية شهادة الجوارح أقوال أحدها: إن الله تعالى يبنيها بنية يمكنها النطق والكلام من جهتها، فتكوت ناطقة. والثاني: إن الله تعالى يفعل فيها كلاما يتضمن الشهادة، فيكون المتكلم هو الله دون الجوارح. وأضيف الكلام إليها على التوسع، لأنها محل الكلام. والثالث: إن الله تعالى يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة. وأما شهادة الألسن فبأن يشهدوا بألسنتهم إذا رأوا أنه لا ينفعهم الجحود. وأما قوله: (اليوم نختم على أفواههم) فإنه يجوز أن تخرج الألسنة، ويختم على الأفواه. ويجوز أن يكون الختم على الأفواه في حال شهادة الأيدي والأرجل. (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي: يعلمون الله لهم جزاءهم الحق. فالدين هنا بمعنى الجزاء. ويجوز أن يكون المراد جزاء دينهم الحق، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. (ويعلمون أن الله هو الحق) أي: يعلمون الله ضرورة في ذلك اليوم، ويقرون أنه الحق، لأنه يقضي بالحق، ويعطي بالحق، ويأخذ بالحق.
[ 236 ]
(المبين) أي: الذي يظهر لهم حقائق الأمور، ويبين جلائل الآيات. النظم: بدأ سبحانه فبين حكم القاذف أولا، وأوجب عليه الحد، ورد شهادته، وسماه فاسقا، فعلم أن المراد به أهل الملة. ثم عقبه بحديث الإفك لاتصاله به. ثم ذكر صنفا آخر من القذفة وهم المنافقون بقوله: (إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) وبين ما لهم من الغضب واللعنة. ثم عم الجميع بالوعيد في قوله * (إن الذين يرمون المحصنات) الآيات، عن أبي مسلم. الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم [ 26 ] يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون [ 27 ] فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم [ 28 ] ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون [ 29 ]) *. اللغة: الإستيناس: طلب الأنس بالعلم، أو غيره، تقول العرب. إذهب فاستأنس هل ترى أحدا. ومنه قوله: (فإن آنستم منهم رشدا) أي: علمتم. وروي عن ابن عباس أنه قال: إنما هي تستأذنوا يعني قوله: (تستأنسوا)، وكذلك يروى عن عبد الله، وروي عن أبي (حتى تسلموا وتستأنسوا) (1)، وكذلك قرأ ابن عباس. العنى: قال سبحانه: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) قيل في معناه أقوال أحدها. إن الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، (والطيبات) من الكلم (للطيبين) من الرجال، (والطيبون) من الرجال (للطيبات) من الكلم. ألا ترى أنك تسمع الخبيث من الرجل الصالح، فتقول: غفر الله لفلان ما هذا من خلقه، ولا مما يقول عن ابن (1) وفي نسخة: " حتى تسلموا أو تستأدنوا " (*).
[ 237 ]
عباس والضحاك ومجاهد والحسن. والثاني: إن معناه الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من السيئات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من الحسنات، عن ابن زيد. والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، عن أبي مسلم والجبائي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: هي مثل قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) الآية. إن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن، فنهاهم الله عن ذلك، وكره ذلك لهم. (أولئك مبرؤون مما يقولون) أي: الطيبون مبرؤون أي: منزهون من الكلام الخبيث، عن مجاهد. وقال الفراء: يعني به عائشة، وصفوان بن المعطل، وهو بمنزلة قوله تعالى: (فإن كان له إخوة)، والأم تحجب بالأخوين فجاء على تغليب لفظ الجمع. (لهم مغفرة) أي: لهؤلاء الطيبين من الرجال والنساء، مغفرة من الله لذنوبهم. (ورزق كريم) أي: عطية من الله كريمة في الجنة. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) أي: حتى تستأذنوا عن ابن مسعود، وابن عباس، قال: أخطأ الكاتب فيه، وكان يقرأ (حتى تستأذنوا). وقيل: تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الإستيذان. وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)، عن مجاهد، والسدي. وقيل: معناه حتى تستعلموا وتتعرفوا، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قلنا يا رسول الله ما الإستيناس ؟ قال: " يتكلم الرجل بالتسبيحة، والتحميدة، والتكبيرة، ويتنحنح على أهل البيت ". وعن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه مدرى (1) يحك به رأسه: " لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك ! إنما الإستيذان من النظر " وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أستأذن على أمي ؟ فقال: نعم. قال. إنها ليس لها خادم غيري، أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة ؟ قال الرجل: لا. قال: فاستأذن عليها. (وتسلموا على أهلها) قيل: إن فيه تقديما وتأخيرا تتديره حتى تسلموا على (1) المدرى: المشط (*).
[ 238 ]
أهلها، وتستأنسوا وتستأذنوا، فإن أذن لكم فادخلوا. وقيل: معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا، فقد روي أن رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحنح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لامرأة يقال لها روضة. قومي إلى هذا فعلميه، وقولي له: قل السلام عليكم أأدخل. فسمعها الرجل فقالها، فقال: أدخل. (ذلكم خير لكم) معناه: ذلك الدخول بالإستيذان خير لكم (لعلكم تذكرون) مواعظ الله، وأوامره، ونواهيه، فتتبعونها. (فإن لم تجدوا) معناه: فإن لم تعلموا (فيها أحدا) يأذن لكم في الدخول (فلا تدخلوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطلعوا عليه. (حتى يؤذن لكم) أي: حتى يأذن لكم أرباب البيوت في ذلك. بين الله سبحانه بهذا أنه لا يجوز دخول دار الغير بغير إذنه، وإن لم يكن صاحبها فيها، ولا يجوز أن يتطلع إلى المنزل، ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقا لقوله عليه السلام: " إنما جعل الإستيذان لأجل النظر " وإلا أن يكون الباب مفتوحا، لأن صاحبه بالفتح أباح النظر. (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) أي: فانصرفوا، ولا تلجوا عليهم، وذلك بأن يأمروكم بالإنصراف صريحا، أو يوجد منهم ما يدل عليه. (هو أزكى لكم) معناه: إن الإنصراف أنفع لكم في دينكم ودنياكم، وأطهر لقلوبكم، وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء. (والله بما تعملون عليم) أي: عالم بأعمالكم، لا يخفى عليه شئ منها. ثم قال سبحانه: (ليس عليكم جناح) أي: حرج، وإثم (أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) يعني بغير استئذان (فيها متاع لكم) قيل في معنى هذه البيوت أقوال أحدها: إنها الحانات، والحمامات، والأرحبة، عن الصادق عليه السلام وعن محمد بن الحنفية، وقتادة. ويكون معنى متاع لكم أي: استمتاع لكم. الثاني: إنها الخرابات المعطلة، ويدخلها الإنسان لقضاء الحاجة، عن عطا والثالث: إنها الحوانيت، وبيوت التجار التي فيها أمتعة الناس، عن ابن زيد. قال الشعبي: وإذنهم أنم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلموا. والرابع: إنها مناخات الناس في أسفارهم، يرتفقون بها، عن مجاهد. والأولى حمله على الجميع. (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) لا يخفى عليه شئ من ذلك. النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها: أنه سبحانه لما عظم شأن الزنا والقذف، أكد ذلك بالنهي عن دخول بيوت الناس إلا بعد الإستئذان والإستئناس، ليكونوا أبعد
[ 239 ]
من التهمة، وأقرب إلى العصمة من السيئة. * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ 30 ] وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن أو ءاباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون [ 31 ]) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر: (غير أولي الإربة) بالنصب. والباقون بالجر. وقرأ ابن عامر: (أيه المؤمنين)، و (يا أية الساحر)، و (أيه الثقلان) بضم الهاء. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي. " غير " فيمن جر صفة للتابعين، والمعنى: لا يبدين زينتهن إلا للتابعين الذين لا إربة لهم في النساء. والإربة: الحاجة. لأنهم في أنهم لا إربة لهم كالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء أي: لم يقووا عليها. ومنه قوله: (فأصبحوا ظاهرين). وجاز وصف التابعين بغير، لأنهم غير مقصودين بأعيانهم، فأجري لذلك مجرى النكرة. وقد قيل: إن التابعين جاز أن يوصفوا بغير في هذا، لقصر الوصف على شئ بعينه. فإذا قصر على شئ بعينه، زال الشياع عنه، فاختص. فالتابعون ضربان: ذو إربة، وغير ذي إربة، وليس ثالث. وإذا كان كذلك، جاز لاختصاصه أن يجري وصفا على المعرفة. وعلى هذا (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم). وكذلك: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) لأن المسلمين وغيرهم لا يخلو من أن يكونوا أصحاء أو زمنى. فإذا
[ 240 ]
وصفوا بأحد الشيئين، زال الشياع، فساغ الوصف به لذلك. ومن نصب (غير) احتمل ضربين أحدهما: أن يكون استثناء، والتقدير: لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا ذا الإربة منهم، فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة. والآخر: أن يكون حالا، والمعنى: أو الذين يتبعونهن عاجزين عنهن. وذو الحال ما في التابعين من الذكر. وقال: الوقف على يا أيها، وأيها بالألف، لأنها إنما أسقطت لسكونها، وسكون لام المعرفة. فإذا وقف عليها زال التقاء الساكنين، وظهرت الألف. فأما ضم الهاء في قراءة ابن عامر فلا يتجه، لأن آخر الإسم هو الياء الثانية من أي، فينبغي أن يكون المضموم آخر الإسم، ولو جاز أن يضم هذا من حيث كان مضموما إلى الكلمة، لجاز أن يضم الميم من اللهم، لأنه آخر الكلمة. ووجه الإشكال والشبهة في ذلك أنه وجد هذا الحرف قد صار في بعض المواضع التي يدخل فيها بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، نحو: مررت بهذا الرجل، وغلام هذه المرأة. فلما وجدها في أوائل المبهمة، كذلك جعلها في الآخر أيضا بمنزلة شئ من نفس الكلمة. واستجاز حذف الألف اللاحق للحرف، لما رآه قد حذف في قولهم: هلم، فأجري عليه الإعراب لما كان كالشئ الذي من نفس الكلمة. فإن قلت: فإنه قد حرك الياء التي قبلها بالضم في (يا أيها الرجل) فإنه يجوز أن نقول: حركة أي في هذه المواضع كحركات الإتباع في نحو امرئ وامرؤ. فهذا وجه شبهته. اللغة: أصل الغض: النقصان، يقال: غض من صوته، ومن بصره أي: نقص. ومنه حديث عمرو بن العاص، لما مات عبد الرحمن بن عوف: هنيئا لك خرجت من الدنيا ببطنتك، لم تتغضغض منها بشئ. يقال: غضغضت الشئ فتغضغض: إذا نقص. والإربة: فعلة من الأرب كالمشية والجلسة. وفي الحديث: أن رجلا اعترض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسأله، فصاحوا به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " دعوا الرجل أرب ما له ". قال ابن الأعرابي: أي احتاج فسأل ما له. وقيل: معناه حاجة جاءت به فدعوه. وما: مزيدة، عن الأزهري (1). الاعراب: (يغضوا من أبصارهم): مجزوم لأنه جواب شرط مقدر، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا من أبصاركم، فإنك إن تقل لهم يغضوا. ويجوز أن يكون مجزوما (1) وذكروا في الحديث وجوها أخر. راجع (النهاية لابن الأثير)، و (اللسان): مادة " أرب " (*).
[ 241 ]
على تقدير ليغضوا من أبصارهم، ومثل ذلك قوله: (يغضضن)، وإن لم يظهر فيه الإعراب، لكونه مبنيا. و (ما ظهر): في موضع نصب على البدل من (زينتهن). وقوله (منها) من هنا. للتبيين. والجار والمجرور مع المحذوف في موضع نصب على الحال. المعنى: ثم بين سبحانه ما يحل من النظر، وما لا يحل منه، فقال: (قل) يا محمد (للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) عما لا يحل لهم النظر إليه (ويحفظوا فروجهم) عمن لا يحل لهم، وعن الفواحش. وقيل: إن (من) مزيدة، وتقديره: يغضوا أبصارهم عن عورات النساء. وقيل. إنها للتبعيض، لأن غض البصر إنما يجب في بعض المواضع، عن أبي مسلم. والمعنى: ينقصوا من نظرهم، فلا ينظروا إلى ما حرم. وقيل: إنها لابتداء الغاية. وقال ابن زيد: كل موضع في القرآن ذكر فيه حفظ الفروج، فهو عن الزنا، إلا في هذا الموضع، فإن المراد به الستر، حتى لا ينظر إليها أحد، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فلا يحل للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه، ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها. (ذلك أزكى لهم) أي: أنفع لدينهم ودنياهم، وأطهر لهم، وأنفى للتهمة، وأقرب إلى التقوى. (إن الله خبير) أي: عليم (بما يصنعون) أي: بما يعملونه، أي: على أي وجه يعملونه. (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال من غض البصر، وحفظ الفرج. (ولا يبدين زينتهن) أي: لا يظهرن مواضع الزينة لغير محرم، ومن هو في حكمه. ولم يرد نفس الزينة، لأن ذلك يحل النظر إليه. بل المراد مواضع الزينة. وقيل: الزينة زينتان ظاهرة وباطنة. فالظاهرة لا يجب سترها، ولا يحرم النظر إليها، لقوله (إلا ما ظهر منها) وفيها ثلاثة أقاويل أحدها: إن الظاهرة الثياب، والباطنة الخلخالان والقرطان والسواران، عن ابن مسعود وثانيها: إن الظاهرة الكحل والخاتم والخدان والخضاب في الكف عن ابن عباس. والكحل والسوار والخاتم عن قتادة. وثالثها: إنها الوجه والكفان، عن الضحاك وعطا. والوجه والبنان، عن الحسن. وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفان والأصابع. (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) والخمر: المقانع جمع خمار: وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جيبها. أمرن بإلقاء المقانع على صدورهن، تغطية
[ 242 ]
لنحورهن، فقد قيل: إنهن كن يلقين مقانعهن على ظهورهن، فتبدو صدورهن. وكنى عن الصدور بالجيوب، لأنها ملبوسة عليها. وقيل: إنهن أمرن بذلك ليسترن شعورهن، وقرطهن، وأعناقهن. قال ابن عباس: تغطي شعرها وصدرها وترائبها وسوالفها. (ولا يبدين زينتهن) يعني الزينة الباطنة التي لا يجوز كشفها في الصلاة. وقيل. معناه لا يضعن الجلباب والخمار، عن ابن عباس. (إلا لبعولتهن) أي: لأزواجهن يبدين مواضع زينتهن لهم، استدعاء لميلهم، وتحريكا لشهوتهم، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لعن السلتاء من النساء، والمرهاء. فالسلتاء التي لا تخضب. والمرهاء التي لا تكتحل، ولعن المسوفة والمفسلة. فالمسوفة: التي إذا دعاها زوجها إلى المباشرة قالت: سوف أفعل. والمفسلة هي التي إذا دعاها قالت: أنا حائض، وهي غير حائض. (أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن) وهؤلاء الذين يحرم عليهم نكاحهن، فهم ذوو محارم لهن بالأسباب والأنساب، ويدخل أجداد البعولة فيه، وإن علوا، وأحفادهم وإن سفلوا. يجوز إبداء الزينة لهم من غير استدعاء لشهوتهم، ويجوز لهم تعمد النظر من غير تلذذ. (أو نسائهن) وهو يعني النساء المؤمنات، ولا يحل لهن أن يتجردن ليهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، إلا إذا كانت أمة وهو معنى قوله. (أو ما ملكت أيمانهن) أي من الإماء، عن ابن جريج ومجاهد والحسن وسعيد بن المسيب، قالوا: ولا يحل للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته. وقيل: معناه العبيد والإماء، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال الجبائي: أراد مملوكا له لم يبلغ مبلغ الرجال. (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) إختلف في معناه فقيل: التابع الذي يتبعك لينال من طعامك، ولا حاجة له في النساء، وهو الأبله المولى عليه، عن ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: هو العنين الذي لا إرب له في النساء لعجزه، عن عكرمة، والشعبي. وقيل: إنه الخصي المجبوب الذي لا رغبة له في النساء، عن الشافعي، ولم يسبق إلى هذا القول. وقيل: إنه الشيخ الهم لذهاب إربه، عن يزيد بن أبي حبيب. وقيل: هو العبد الصغير، عن أبي حنيفة، وأصحابه.
[ 243 ]
(أو الطفل) أي: الجماعة من الأطفال (الذين لم يظهروا على عورات النساء) يريد به الصبيان الذين لم يعرفوا عورات النساء، ولم يقووا عليها لعدم شهوتهم. وقيل: لم يطيقوا مجامعة النساء، فإذا بلغوا مبلغ الشهوة، فحكمهم حكم الرجال. (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) قال قتادة: كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال فيها، فنهاهن عن ذلك. وقيل: معناه لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت، ليتبين خلخالها، أو يسمع صوته، عن ابن عباس. (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) أي: تفوزون بثواب الجنة. وفي الحديث: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيها الناس ! توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في كل يوم مائة مرة) أورده مسلم في الصحيح. والمراد بالتوبة: الإنقطاع إلى الله تعالى. * (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [ 32 ] وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم [ 33 ] ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين [ 34 ] القراءة: في الشواذ قراءة ابن عباس، وسعيد بن جبير: (من بعد إكراههن لهن غفور رحيم) وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. الحجة: اللام في هن متعلقة بغفور أي: غفور لهن. اللغة: الأيامى: جمع أيم، وهي المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكرا، أو ثيبا. ويقال للرجل الذي لا زوجة له. أيم أيضا. قال جميل:
[ 244 ]
أحب الأيامى إذ بثينة أيم، * وأحببت لما أن غنيت الغوانيا (1) وقال الشاعر: فإن تنكحي أنكح، وإن تتأيمي * مدا الدهر، ما لم تنكحي، أتأيم (2) والفعل منه: آمت المرأة تئيم أيمة وأيوما. والإنكاح: التزويج، يقال: نكح إذا تزوج، وأنكح غيره. إذا زوجه. والإستعفاف والتعفف سواء: وهو طلب العفة واستعمالها. ويقال: رجل عف، وامرأة عفة. والكتاب، والمكاتبة. أن يكاتب الرجل مملوكه على مال يؤديه إليه، فإذا أداه عتق، وأصله من الجمع. وكل شئ جمعته إلى شئ فقد كتبته، ومنه الكتاب لتداني بعض حروفه إلى بعض. وهنا قد جمع العبد نجوم المال. وقيل: جمع ماله إلى مال السيد. الاعراب: أحد مفعولي (أنكحوا) محذوف تقديره: وأنكحوا رجالكم الأيامى من نسائكم، أو نساءكم الأيامى من رجالكم، وأنكحوا الصالحين من عبادكم إماءكم الصالحات، أو الصالحات من إمائكم عبادكم الصالحين، لأن الأيامي يشتمل على الرجال والنساء، والصالحين يشتمل عليهما أيضا. وقوله: (منكم ومن عبادكم وإمائكم): الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. ومن للتبيين. وكل موضع يكون (من) مع معموله والعامل فيه، في محل النصب على الحال، لا يكون إلا كذلك. المعنى: ثم أمر سبحانه عباده بالنكاح، وأغناهم عن السفاح، فقال: (وأنكحوا الأيامى منكم) ومعناه: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم. وهذا أمر ندب واستحباب. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) (3) وروى عطا بن السايب، عن (1) الغانية من النساء: الشابة المتزوجة، وجمعها غوان. (2) وفي بعض النسخ: (وإن كنت أفتى منكم أتأيم) بدل المصراع الأخير. (3) الوجاء: رض عروق البيضتين حتى تنفضح، فيكون شبيها بالخصاء. شبه الصوم به، لأنه يكسر الشهوة كالوجاء. (*)
[ 245 ]
سعيد بن جبير، قال: لقيني ابن عباس في حجة حجها، فقال. هل تزوجت ؟ قلت: لا. قال: فتزوج. قال: ولقيني في العام المقبل، فقال: هل تزوجت ؟ قلت: لا. فقال: إذهب فتزوج، فإن خير هذه الأمة كان أكثرها نساء. يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، للقيت الله بزوجة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (شراركم عزابكم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه، فلم يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما). وعن أبي إمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أربع لعنهم الله من فوق عرشه، وأمنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوج، ولا يتسرى، لئلا يولد له. والرجل يتشبه بالنساء، وقد خلقه الله ذكرا. والمرأة تتشبه بالرجال وقد خلقها الله أنثى، ومضلل الناس: يريد الذي يهزأ بهم يقول للمسكين: هلم أعطك. فإذا جاء يقول: ليس معي شئ، ويقول للمكفوف: إتق الدابة، وليس بين يديه شئ. والرجل يسأل عن دار القوم فيضلله. (والصالحين من عبادكم وإمائكم) أي: وزوجوا المستورين من عبيدكم، وولائدكم. وقيل: إن معنى الصلاح ههنا الإيمان، عن مقاتل. ثم رجع إلى الأحرار فقال: (إن يكونوا فقراء) لا سعة لهم للتزويج (يغنهم الله من فضله) وعدهم سبحانه أن يوسع عليهم عند التزويج. (والله واسع) المقدور، كثير الفضل (عليم) بأحوالهم، وما يصلحهم، فيعطيهم على قدر ذلك. وقال أبو عبد الله عليه السلام: من ترك التزويج مخافة العيلة، فقد أساء الظن بربه، لقوله سبحانه: (إن يكونوا فقرأء يغنهم الله من فضله). (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) هذ أمر من الله تعالى لمن لا يجد السبيل إلى أن يتزوج، بأن لا يجد المهر والنفقة، أو يتعفف، ولا يدخل في الفاحشة، ويصبر حتى يوسع الله عليه من رزقه. ثم بين سبحانه ما يسهل سبيل النكاح، فقال: (والذين يبتغون الكتاب) أي: يطلبون المكاتبة (مما ملكت أيمانهم) من العبيد والإماء (فكاتبوهم) والمكاتبة أن يكاتب الإنسان عبده على مال ينجمه عليه، ليؤديه إليه في هذه النجوم المعلومة. وهذا أمر ندب، واستحباب، وترغيب، عند جميع الفقهاء. وقيل: إنه أمر حتم وإيجاب، إذا طلبه العبد، وعلم فيه الخير، عن عطا، وعمر بن دينار، والطبري.
[ 246 ]
(إن علمتم فيهم خيرا) أي: صلاحا ورشدا، عن ابن عباس. وروي عنه أيضا إن علمتم فيهم قدرة على الإكتساب لأداء مال الكتابة، ورغبة فيه، وأمانة. وهو قول ابن عمر، وابن زيد، والثوري، والزجاج. قال الحسن: إن كان عنده مال، فكاتبه، والا فلا تعلق عليه صحيفة يغدو بها على الناس، ويروح بها، فيسألهم. وروي أن عبدا لسلمان قال له: كاتبني. قال: ألك مال ؟ قال: لا. قال: تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه. وقال قتادة: يكره أن يكاتب العبد، ويقول لا يكاتبه لئلا يسأل الناس. (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) أي: حطوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا، عن ابن عباس، وقتادة، وعطا. وقيل: معناه ردوا عليهم يا معشر السادة من المال الذي أخذتم منهم شيئا، وهو استحباب. وقيل: هو إيجاب. وقال قوم من المفسرين: إنه خطاب للمؤمنين بمعونتهم على تخليص رقابهم من الرق. ومن قال إنه خطاب للسادة اختلفوا في قدر ما يجب فقيل: يتقدر بربع المال، عن الثوري، وروي ذلك عن علي عليه السلام. وقيل: ليس فيه تقدير، بل يحط عنه شئ منه، وهو الصحيح. وقيل: إنه يعطى سهمه من الصدقات في قوله: (وفي الرقاب). قال الحسن: لولا الكتابة لما جاز له أخذ الصدقة. وقال أصحابنا: إن المكاتبة ضربان: مطلق ومشروط. فالمشروط أن يقول لعبده في حال الكتابة: متى عجزت عن أداء ثمنك كنت مردودا في الرق، فإذا كان كذلك جاز له رده في الرق عند العجز. والمطلق ينعتق منه عند العجز بحساب ما أدى من المال، ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه، ويرث ويورث بحساب ما عتق. (ولا تكرهوا فتياتكم) أي: إمائكم وولايدكم (على البغاء) أي: على الزنا (إن أردن تحصنا) أي: تعففا وتزويجا، عن ابن عباس. وإنما شرط إرادة التحصن، لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فإن لم ترد المرأة التحصن، بغت بالطبع. فهذه فائدة الشرط. (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) أي: من كسبهن، وبيع أولادهن. قيل: إن عبد الله بن أبي، كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا. فلما نزل تحريم الزنا، أتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكون إليه. فنزلت الآية. (ومن يكرههن) أي: ومن يجبرهن على الزنا من سادتهن (فإن الله من بعد إكراههن غفور) للمكرهات، لا للمكره، لأن الوزر عليه (رحيم) بهن. (ولقد
[ 247 ]
أنزلنا إليكم آيات مبينات) أي: واضحات ظاهرات. ومن قرأ بفتح الباء فمعناه: مفصلات، بينهن الله وفصلهن. (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) وأخبارا من الذين مضوا من قبلكم، وقصصا لهم، وشبها من حالهم بحالكم، لتعتبروا بها. (وموعظة للمتقين) أي: وزجرا للمتقين عن المعاصي، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها. * (الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شئ عليم [ 35 ] في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال [ 36 ] رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار [ 37 ] ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [ 38 ] القراءة. قرأ أبو جعفر، وابن كثير، ويعقوب. (كوكب دري) مضمومة الدال، مشددة الباء. (توقد) بفتح التاء والدال، وتشديد القاف. وقرأ أبو عمرو: (درئ) مكسورة الدال، ممدودة مهموزة. (توقد) كما تقدم. وقرأ الكسائي: (درئ) مكسورة الدال، ممدودة مهموزة (توقد) بضم التاء، والتخفيف والرفع. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص: (دري) غير مهموزة، (يوقد) بضم الياء والرفع. وقرأ أبو بكر وحمزة: (درئ) مضمومة الدال، مهموزة ممدودة (توقد) بضم التاء، وتخفيف القاف. وقرأ خلف: (دري) مضمومة الدال، غير مهموزة (توقد) بضم التاء والتخفيف. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر: (يسبح له فيها) بفتح الباء. والباقون بكسرها. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (دري): يحتمل قوله أمرين أحدهما: أن يكون نسبة إلى الدر، لفرط صفائه، ونوره. ويجوز أن يكون فعيلا من الدرئ،
[ 248 ]
فخففت الهمزة فانقلبت ياء، كما تنقلب من النسئ والنبئ. ومن قال (درئ): كان فعيلا من الدرء، مثل السكير والفسيق، والمعنى أن الخفاء اندفع عنه لتلألئه في ظهوره، فلم يخف كما يخفى السهى ونحوه. ومن قرأ (درئ) كان فعيلا من الدرء، الذي هو الدفع. وقد حكى سيبويه عن أبي الخطاب: (كوكب درئ) من الصفات، ومن الأسماء المريق للعصفر. ومما يمكن أن يكون على هذا البناء العلية. ألا تراه أنه من علا، ومنه السرية الأولى أن تكون فعلية، ومن قرأ (توقد) كان فاعله المصباح، لأن المصباح هو الذي توقد. قال امرؤ القيس: سموت إليها، والنجوم كأنها * مصابيح رهبان تشب لقفال (1) ومن قرأ (يوقد): كان فاعله المصباح أيضا. ومن قرأ (توقد): كان فاعله الزجاجة، والمعنى على مصباح الزجاجة. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فقال: (توقد) فحمل الكلام على لفظ الزجاجة، أو يريد بالزجاجة القنديل. فقال: (توقد) على لفظ الزجاجة، وإن كان يريد القنديل. ومعنى (توقد من شجرة) أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلك على ذلك قوله: (يكاد زيتها يضئ). ومن قرأ (يسبح له) بفتح الباء أقام الجار والمجرور مقام الفاعل، ثم فسر من يسبح فقال: رجال، أي: يسبح له رجال، فرفع رجالا بهذا المضمر الذي دل عليه قوله (يسبح)، لأنه إذا قال (يسبح): دل على فاعل التسبيح، ومثله قول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة، * ومختبط مما تطيح الطوائح (2) اللغة: المشكاة، قيل: إنها رومية معربة. وقال الزجاج: يجوز أن تكون عربية لأن في الكلام مثل لفظها شكوة، وهي قربة صغيرة. فعلى هذا تكون مفعلة منها، وأصلها مشكوة، فقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها. والمصباح: السراج، وأصله من البياض. والأصبح: الأبيض. الاعراب: قيل في تقدير قوله (نور السماوات) وجهان أحدهما: أن يكون على (1) شب النار: أوقدها. والقفال: المسافرون. (2) الشعر في (جامع الشواهد)، وكذا الشعر الآتي. وقد مر في الكتاب أيضا غير مرة. (*)
[ 249 ]
حذف المضاف، وتقديره ذو نور السماوات والأرض، على حد قوله (إنه عمل غير صالح). والثاني: أن يكون مصدرا وضع موضع اسم الفاعل، كقوله. (إن أصبح ماؤكم غورا) أي: غائرا، وكما قالت الخنساء: ترتع ما رتعت، حتى إذا ادكرت، * فإنما هي إقبال، وإدبار (1) وعلى هذا تكون الإضافة غير حقيقية. و (السماوات) في تقدير النصب (فيها مصباح): جملة في موضع الجر، لأنها صفة مشكاة. (المصباح في زجاجة): جملة في موضع رفع بأنها صفة مصباح، والعائد منها إليه، لام العهد، تقديره: فيها مصباح ذلك المصباح في زجاجة، أو هو في زجاجة. (الزجاجة كأنها كوكب دري): الجملة في موضع جر بأنها صفة زجاجة. وقوله (زيتونة): بدل من (شجرة)، والباقي صفة. (نور): خبر مبتدأ محذوف أي: هو نور على نور متعلق بمحذوف في موضع رفع بكونه صفة نور. (في بيوت): يتعلق بمحذوف، وفي موضع جر بكونه صفة لمشكاة. فانتقل الضمير من المحذوف إليه، حيث سد مسده. (بغير حساب): في مرضع نصب بكونه صفة لمفعول محذوف، وتقديره يرزق من يشاء بغير حساب أي: غير محسوب. المعنى: (الله نور السماوات والأرض) إختلف في معناه على وجوه أحدها: الله هادي أهل السماوات والأرض، إلى ما فيه من مصالحهم، عن ابن عباس. والثاني: الله منور السماوات والأرض بالشمس، والقمر، والنجوم، عن الحسن، وأبي عالية، والضحاك. والثالث: مزين السماوات بالملائكة، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء، عن أبي بن كعب. وإنما ورد النور في صفة الله تعالى، لأن كل نفع وإحسان وإنعام منه. وهذا كما يقال: فلان رحمة، وفلان عذاب: إذا كثر فعل ذلك منه. وعلى هذا قول الشاعر: ألم تر أنا نور قوم، وإنما * يبين في الظلماء للناس نورها وإنما المعنى. إنا نسعى فيما ينفعهم، ومنا خيرهم. وكذا قول أبي طالب في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، * ثمال اليتامى، عصمة للأرامل (1) مر بمعناه في ما سبق. (*)
[ 250 ]
يلوذ به الهلاك من ال هاشم، فهم عنده في نعمة، وفواضل لم يعن بقوله: أبيض، بياض لونه، وإنما أراد كثرة أفضاله وإحسانه، ونفعه، والإهتداء به. ولهذا المعنى سماه الله تعالى سراجا منيرا. (مثل نوره) فيه وجوه أحدها: إن المعنى مثل نور الله الذي هدى به المؤمنين، وهو الإيمان في قلوبهم، عن أبي بن كعب، والضحاك. وكان أبي يقرأ: مثل نور من آمن به والثاني: مثل نوره الذي هو القرآن في القلب، عن ابن عباس، والحسن، وزيد بن أسلم والثالث. إنه عنى بالنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأضافه إلى نفسه، تشريفا له، عن كعب، وسعيد بن جبير. فالمعنى مثل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرابع: إن نوره سبحانه الأدلة الدالة على توحيده وعدله، التي هي في الظهور والوضوح مثل النور، عن أبي مسلم. الخامس: إن النور هنا الطاعة أي: مثل طاعة الله في قلب المؤمن، عن ابن عباس في رواية اخرى. (كمشكاة فيها مصباح) المشكاة: هي الكوة في الحائط، يوضع عليها زجاجة، ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه، وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وهو مثل الكوة. والمصباح السراج وقيل: المشكاة القنديل. والمصباح الفتيلة، عن مجاهد (المصباح في زجاجة) أي: ذلك السراج في زجاجة. وفائدة اختصاص الزجاجة بالذكر، أنه أصفى الجواهر. فالمصباح فيه أضوأ (الزجاجة كأنها كوكب دري) أي: تلك الزجاجة مثل الكوكب العظيم المضئ الذي يشبه الدر في صفائه ونوره ونقائه. وإذا جعلته من الدرء، وهو الدفع، فمعناه: المندفع السريع الوقع في الإنقضاض. ويكون ذلك أقوى لضوئه. (يوقد من شجرة مباركة) أي: يشتعل ذلك السراج من دهن شجرة مباركة (زيتونة) أراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون، لأن فيها أنواع المنافع، فإن الزيت يسرج به، وهو أدام، ودهان، ودباغ، ويوقد بحطبه، وثفله، ويغسل برماده الإبريسم، ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى إعصار. وقيل: إنه خص الزيتونة، لأن دهنها أصفى وأضوأ. وقيل: لأنها أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان، ومنبتها منزل الأنبياء. وقيل لأنه بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم، فلذلك سميت مباركة. (لا شرقية ولا غربية) أي: لا يفئ عليها ظل شرق، ولا غرب، فهي
[ 251 ]
ضاحية للشمس، لا يظلها جبل، ولا شجر، ولا كهف، فزيتها يكون أصفى، عن ابن عباس، والكلبي، وعكرمة، وقتادة. فعلى هذا يكون المعنى: إنها ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا هي غربت، ولا هي غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت، بل هي شرقية غربية، أخذت بحظها من الأمرين. وقيل: معناه أنها ليست من شجر الدنيا فتكون شرقية أو غربية، عن الحسن. وقيل: معناه أنها ليست في مقنوة لا تصيبها الشمس، ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل، بل يصيبها الشمس والظل، عن السدي. وقيل: ليست من شجر الشرق، ولا من شجر الغرب، لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زيتا، وأضعف ضوءا، لكنها من شجر الشام، وهي ما بين الشرق والغرب، عن ابن زيد. (يكاد زيتها يضئ) من صفائه، وفرط ضيائه (ولو لم تمسسه نار) أي: قبل أن تصيبه النار، وتشتعل فيه. واختلف في هذا المشبه والمشبه به على أقوال أحدها: إنه مثل ضربه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوة، لا شرقية ولا غربية، أي: لا يهودية، ولا نصرانية، توقد من شجرة مباركة، يعني شجرة النبوة، وهي إبراهيم عليه السلام، يكاد نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم به، كما أن ذلك الزيت يكاد يضئ. ولو لم تمسسه نار أي: تصبه النار، عن كعب، وجماعة من المفسرين. وقد قيل أيضا: إن المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما سمي سراجا في موضع آخر. من شجرة مباركة: يعني إبراهيم، لأن أكثر الأنبياء من صلبه. لا شرقية ولا غربية: لا نصرانية ولا يهودية، لأن النصارى تصلي إلى المشرق، واليهود تصلي إلى المغرب. يكاد زيتها يضئ أي: تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وآله وسلم تظهر قبل أن يوحى إليه، (نور على نور) أي: نبي من نسل نبي، عن محمد بن كعب. وقيل: إن المشكاة عبد المطلب، والزجاجة عبد الله، والمصباح هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا شرقية ولا غربية، بل مكية، لأن مكة وسط الدنيا، عن الضحاك. وروي عن الرضا عليه السلام أنه قال: نحن المشكاة فيها، والمصباح محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهدي الله لولايتنا من أحب. وفي كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه، رحمه الله بالإسناد عن عيسى بن راشد، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله: (كمشكاة فيها مصباح) قال: نور العلم في صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصباح في زجاجة، الزجاجة صدر علي عليه السلام، صار علم
[ 252 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدر على، علم النبي عليا يوقد من شجرة مباركة نور العلم، لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية، يكاد زيتها يضئ، ولو لم تمسسه نار قال: يكاد العالم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم بالعلم، قبل أن يسأل. نور على نور أي: إمام مؤيد بنور العلم والحكمة، في إثر إمام من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه، وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم، يدل عليه قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الأمين محمد، * قرم، أغر، مسود لمسودين أطاهر * كرموا، وطاب المولد أنت السعيد من السعود * تكنفتك الأسعد من لدن آدم لم يزل * فينا وصى مرشد ولقد عرفتك صادقا، * والقول لا يتفند ما زلت تنطق بالصواب، * وأنت طفل أمرد تحقيق هذه الجملة يقتضي: أن الشجرة المباركة المذكورة في الآية، هي دوحة التقى والرضوان، وعترة الهدى والإيمان، شجرة أصلها النبوة، وفرعها الإمامة، وأغصانها التنزيل، وأوراقها التأويل، وخدمها جبرائيل وميكائيل وثانيها: إنه مثل ضربه الله للمؤمن: والمشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح الإيمان، والقرآن في قلبه، يوقد من شجرة مباركة هي الإخلاص لله وحده، لا شريك له، فهي خضراء ناعمة، كشجرة التف بها الشجر، فلا يصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن قد احترز من أن يصيبه شئ من الفتر، فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي بين القبور، نور على نور، كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى الجنة نور يوم القيامة، عن أبي بن كعب. وثالثها: إنه مثل القرآن في قلب المؤمن، فكما أن هذا المصباح يستضاء به، وهو كما هو لا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به، ويعمل به. فالمصباح هو القران، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه، وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي،
[ 253 ]
يكاد زيتها يضئ، يكاد حجج القران تتضح، وإن لم تقرأ. وقيل: يكاد حجج الله على خلقه تضئ، لمن تفكر فيها وتدبرها، ولو لم ينزل القرآن. نور على نور: يعني أن القرآن نور مع سائر الأدلة قبله، فازدادوا به نورا على نور، عن الحسن، وابن زيد. وعلى هذا فيجوز أن يكون المراد ترتب الأدلة، فإن الدلائل يترتب بعضها على بعض، ولا يكاد العاقل يستفيد منها إلا بمراعاة الترتيب، فمن ذهب عن الترتيب، فقد ذهب عن طريق الإستفادة. وقال مجاهد: ضوء نور السراج، على ضوء الزيت، على ضوء الزجاجة. (يهدي الله لنوره من يشاء) أي: يهدي الله لدينه وإيمانه من يشاء، بأن يفعل له لطفا يختار عنده الإيمان إذا علم أن له لطفا. وقيل: معناه يهدي الله لنبوته وولايته من يشاء، ممن يعلم أنه يصلح لذلك. (ويضرب الله الأمثال للناس) تقريبا إلى الأفهام، وتسهيلا لدرك المرام. (والله بكل شئ عليم) فيضع الأشياء مواضعها (في بيوت أذن الله أن ترفع) معناه: هذه المشكاة في بيوت هذه صفتها، وهي المساجد في قول ابن عباس والحسن ومجاهد والجبائي، ويعضده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المساجد بيوت الله في الأرض وهي تضئ لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض ". ثم قيل: إنها أربع مساجد، لم يبنها إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، ومسجد بيت المقدس بناه سليمان، ومسجد المدينة ومسجد قبا بناهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هي بيوت الأنبياء. وروي ذلك مرفوعا أنه سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ الآية: أي بيوت هذه ؟ فقال: بيوت الأنبياء. فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله ! هذا البيت منها يعني بيت علي وفاطمة قال: نعم من أفاضلها. ويعضد هذا القول قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وقوله: (ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) فالإذن برفع بيوت الأنبياء والأوصياء مطلق. والمراد بالرفع التعظيم، ورفع القدر من الأرجاس، والتطهير من المعاصي والأدناس. وقيل: المراد برفعها رفع الحوائج فيها إلى الله تعالى. (ويذكر فيها اسمه) أي: يتلى فيها كتابه، عن ابن عباس. وقيل: تذكر فيها أسماؤه الحسنى (يسبح له فيها بالغدو والآصال) أي: يصلى له فيها بالبكور والعشايا، عن ابن عباس والحسن والضحاك. وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة. وقيل: المراد بالتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يجوز عليه، ووصفه بالصفات التي يستحقها لذاته، وأفعاله التي كلها حكمة وصواب. ثم بين سبحانه
[ 254 ]
المسبح فقال: (رجال لا تلهيهم) أي: لا تشغلهم، ولا تصرفهم (تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة) أي: إقامة الصلاة. حذف الهاء لأنها عوض عن الواو في أقوام. فلما أضافه صار المضاف إليه عوضا عن الهاء. وروي عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة، وانطلقوا إلى الصلاة، وهم أعظم أجرا ممن يتجر. (وإيتاء الزكاة) أي: إخلاص الطاعة لله تعالى، عن ابن عباس. يريد الزكاة المفروضة، عن الحسن. (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) أراد يوم القيامة تتقلب فيه أحوال القلوب والأبصار، وتنتقل من حال إلى حال، فتلفحها النار، ثم تنضجها، ثم تحرقها، عن الجبائي. وقيل: تتقلب فيه القلوب بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك. وتتقلب الأبصار يمنة ويسرة من أين تؤتى كتبهم، وأين يؤخذ بهم، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال. وقيل: تتقلب القلوب ببلوغها الحناجر، والأبصار بالعمى بعد البصر. وقيل: معناه تنتقل القلوب عن الشك إلى اليقين والإيمان، والابصار عما كانت تراه غيا فتراه رشدا. فمن كان شاكا في دنياه أبصر في آخرته، ومن كان عالما ازداد بصيرة وعلما، فهو مثل قوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) عن البلخي. (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله) أي: يفعلون ذلك طلبا لمجازاة الله إياهم بأحسن ما عملوا، ولتفضله عليهم بالزيادة، على ما استحقوه بأعمالهم من فضله وكرمه (والله يرزق) أي: يعطي (من يشاء بغير حساب) أي: بغير مجازاة على عمل، بل تفضلا منه سبحانه، والثواب لا يكون إلا بحساب، والتفضل يكون بغير حساب. النظم: اتصلت الآية الأولى بما قبلها أتصال المثل بالمثل، لأنه تعالى بين وجوه المنافع والمصالح، وعلم الشرائع فيما سبق، بين بعده أن منافع أهل السماوات والأرض منه، لأن اسم النور يطلق على ذلك، كما تقدم بيانه. وقيل: إنها اتصلت بما قبلها اتصال العلة بالمعلول، فكأنه قال: أنزلنا آيات بينات، ومواعظ بالغات، فهديناكم بها، لأنا نهدي أهل السماوات والأرض. واتصل قوله (في بيوت) بقوله (كمشكاة فيها مصباح) على ما تقدم بيانه. وقيل: يتصل بيسبح، ويكون فيها تكريرا على التوكيد، والمعنى: يسبح الله رجال في بيوت أذن الله أن ترفع، فيكون كقولك: في الدار قام زيد فيها
[ 255 ]
* (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب [ 39 ] أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور [ 40 ]) * القراءة. قرأ ابن كثير في رواية البزي: (سحاب) بغير تنوين (ظلمات) بالجر. وفي رواية القواس وابن فليح: (سحاب) بالتنوين (ظلمات) بالجر. والباقون كلاهما بالرفع والتنوين. الحجة: قال أبو علي: قوله (أو كظلمات) معناه: أو كذي ظلمات. ويدل على حذف المضاف قوله (إذا أخرج يده لم يكد يراها). فالضمير الذي أضيف إليه (يده) يعود إلى المضاف المحذوف. ومعنى ذي ظلمات أنه في ظلمات. ومعنى (ظلمات بعضها فوق بعض): ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة الموج الذي في الموج. وقوله (خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث): فإنه يجوز أن يكون ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة. وقوله: (فنادى في الظلمات): ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل. ويجوز أن يكون الإلتقام كان بالليل، فهذه ظلمات. ومن قرأ (سحاب، ظلمات) فرفع ظلمات، كان خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه ظلمات بعضها فوق بعض. ومن قرأ (سحاب ظلمات)، جاز أن يكون تكريرا، وبدلا من ظلمات الأولى. ومن قرأ (سحاب ظلمات) بإضافة سحاب إلى الظلمات، فالظلمات هي الظلمات التي تقدم ذكرها، فأضاف السحاب إلى الظلمات، لاستقلال السحاب، وارتفاعه في وقت كون هذه الظلمات، كما تقول: سحاب رحمة، وسحاب مطر إذا ارتفع في الوقت الذي يكون فيه الرحمة والمطر. اللغة: السراب: شعاع يتخيل كالماء، يجري على الأرض نصف النهار، حين يشتد الحر. والآل: شعاع يرتفع بين السماء والأرض، كالماء ضحوة النهار، والآل: يرفع الشخص الذي فيه. وإنما قيل سراب لأنه ينسرب أي يجري كالماء. وقيعة: جمع قاع، وهو الواسع من الأرض المنبسطة، وفيه يكون السراب. ولجة
[ 256 ]
البحر: معظمه الذي يتراكب أمواجه، فلا يرى ساحله. والتج البحر التجاجا. المعنى: ثم ذكر سبحانه مثل الكفار، فقال: (والذين كفروا أعمالهم) التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات (كسراب بقيعة) أي: كشعاع بأرض مستوية (يحسبه الظمآن ماء) أي: يظنه العطشان ماء (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) أي: حتى إذا انتهى إليه، رأى أرضا لا ماء فيها، وهو قوله (لم يجده شيئا) أي: شيئا مما حسب وقدر، فكذلك الكافر يحسب ما قدم من عمله نافعا، وأن له عليه ثوابا، وليس له ثواب. (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) قيل: معناه ووجد الله عند عمله، فجازاه على كفره. وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن. والمراد به الخبر عن الكفار. ولكن لما ضرب الظمآن مثلا للكفار، جعل الخبر عنه كالخبر عنهم، والمعنى: وجد أمر الله، ووجد جزاء الله. وقيل: معناه وجد الله عنده بالمرصاد، فأتم له جزاه. (والله سريع الحساب) لا يشغله حساب عن حساب فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة. وسئل أمير المؤمنين عليه السلام. كيف يحاسبهم في حالة واحدة ؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة. وقيل: إن المراد به عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر في الإسلام، عن مقاتل. ثم ذكر مثلا آخر لأعمالهم، فقال: (أو كظلمات) أي: أو أفعالهم مثل ظلمات (في بحر لجي) أي. عظيم اللجة لا يرى ساحله. وقيل: هو العميق الذي يبعد عمقه، عن ابن عباس. (يغشاه موج) أي. يعلو ذلك البحر اللجي موج. (من فوقه موج) أي: فوق ذلك الموج موج (من فوقه سحاب) أي: من فوق الموج سحاب (ظلمات بعضها فوق بعض) يعني ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، والمعنى: إن الكافر يعمل في حيرة، ولا يهتدي لرشده، فهو من جهله وحيرته، كمن هو في هذه الظلمات، لأنه من عمله وكلامه واعتقاده، متقلب في ظلمات. وروي عن أبي أنه قال. إن الكافر يتقلب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمة، وهي النار (إذا أخرج يده لم يكد يراها) اختلف في معناه فقيل: لا يراها، ولا يقارب رؤيتها، فهو نفي للرؤية، ونفي مقاربة الرؤية، لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها، عن الحسن، وأكثر المفسرين، ويدل عليه قول ذي الرمة:
[ 257 ]
إذا غير النأي المحبين لم يكد، * على كل حال، حب مية يبرح (1) ويروى: " رسيس الهوى من حب مية يبرح ". وقال آخر: (ما كدت أعرف إلا بعد إنكاري " وقال الفراء. كاد صلة، والمعنى. إنه لم يرها إلا بعد جهد ومشقة رؤية تخيل لصورتها، لأن حكم كاد إذا لم يدخل عليها حرف نفي، أن تكون نافية، وإذا دخلها دلت على أن يكون الأمر وقع بعد بطء، عن المبرد. (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) أي: من لم يجعل الله له نجاة وفرجا، فما له من نجاة وقيل. ومن لم يجعل الله له نورا في القيامة، فما له من نور. * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون [ 41 ] ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير [ 42 ] ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصر [ 43 ] يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار [ 44 ] والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير [ 45 ] لقد أنزلنا ءايت مبينت والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 46 ]) *. القراءة: قرأ أبو جعفر: (يذهب بالأبصار) بضم الياء، وكسر الهاء. والباقون: (يذهب). الحجة: من قرأ (يذهب) فالباء زائدة، وتقديره يذهب الأبصار، ومثله قوله: (1) مية: اسم محبوبة ذي الرمة. والنأي. البعد. يقول: إن العشاق إذا بعدوا عمن يحبون، زالت المحبة عنهم. وأما أنا فعلى كل حال لا يزول حبها عن قلبي. ورسيس الهوى على الرواية الثانية: مسه وأثره وبقيته (*).
[ 258 ]
(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وقول الهذلي: شربن بماء البحر، ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج (1) أي: شربن ماء البحر. قال ابن جني: إنما يزاد هذا الباء لتوكيد معنى التعدي، كما يزاد اللام لتوكيد معنى الإضافة في قوله. " يابوس للحرب ضرارا لأقوام ". وإن شئت حملته على المعنى، فكأنه قال: يكاد سنا برقه يلوي بالأبصار أي: يستأثر بالأبصار. وقد ذكرنا اختلافهم في قوله (خلق كل دابة) فيه، والوجه في سورة إبراهيم. اللغة: الإزجاء والتزجية السوق. وزجا الخراج يزجو زجاء: إذا انساق إلى أهله، وتيسر جبايته. والركام: المتراكم بعضه على بعض. والركمة: الطين المجموع. والودق: المطر، ودقت السماء تدق ودقا: إذا أمطرت. قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها، * ولا أرض أبقل أبقالها (2) والخلال: جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين. والبرد: أصله من البرد خلاف الحر. وسحاب برد. أتى بالبرد. ويقال: سمي البرد لأنه يبرد وجه الأرض أي: يقشره من بردت الشئ بالمبرد. والسنا مقصورا. الضوء، وهو بالمد: الرفعة. الاعراب: (صافات): حال من (الطير). (وينزل من السماء): من لابتداء الغاية، لأن السماء مبدأ لإنزال المطر. (من جبال): من للتبعيض، لأن البرد بعض الجبال التي في السماء. (من برد): من لتبيين الجنس، لأن جنس الجبال جنس أبرد، عن علي بن عيسى. والتحقيق: إن قوله (من جبال) بدل من قوله (من السماء). وقوله (فيها): في يتعلق بمحذوف وتقديره: من جبال كائنة في السماء. فالجار والمجرور في موضع الصفة لجبال، تقديره: من جبال سماوية. وقوله: (من برد): يتعلق بمحذوف آخر في محل جر، لأنه صفة بعد صفة، تقديره: من جبال سماوية بردية ومفعول (ينزل) محذوف أي: ينزل من جبال في (1) لجج: جمع لجة، وهي في الأصل معظم الماء. وأراد لجج البحر. (نئيج): مأخوذ من قولهم ناج: إذا مرت مرا سريعا، يصف السحاب. (2) قائله: عامر بن جوين الطائي. والمزنة: السحابة البيضاء. وأبقلت الأرض: خرج بقلها (*).
[ 259 ]
السماء من برد بردا، كما يقال: أخذت من المال شيئا. وقوله: (على بطنه): في موضع نصب على الحال، وكذلك قوله: (على رجلين) و (على أربع). ومن الأولى والثالثة بمعنى ما. المعنى: ثم ذكر سبحانه الآيات التي جعلها نورا للعقلاء العارفين بالله وصفاته، فقال: (ألم تر) أي: ألم تعلم يا محمد، لأن ما ذكر في الآية لا يرى بالأبصار، وإنما يعلم بالأدلة. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به جميع المكلفين (أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) والتسبيح: التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه، ولا يليق به أي: ينزهه أهل السماوات وأهل الأرض بألسنتهم. وقيل: عنى به العقلاء وغيرهم. وكنى عن الجميع بلفظة (من) تغليبا للعقلاء على غيرهم. (والطير) أي: ويسبح له الطير (صافات) أي: واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء، وتسبيحها: ما يرى عليها من آثار الحدوث. (كل قد علم صلاته وتسبيحه) معناه: إن جميع ذلك قد علم الله تعالى دعاءه إلى توحيده، وتسبيحه، وتنزيهه. وقيل: إن الصلاة للإنسان، والتسبيح لكل شئ، عن مجاهد، وجماعة. وقيل: معناه كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه أي: صلاة نفسه، وتسبيح نفسه، فيؤديه في وقته، فيكون الضمير في علم الكل، وفي الأول يعود الضمير إلى اسم الله تعالى، وهو أجود، لأن الأشياء كلها لا يعلم كيفية دلالتها على الله، وإنما يعلم الله تعالى ذلك. (والله عليم بما يفعلون) أي: عالم بافعالهم فيجازيهم بحسبها (ولله ملك السماوات والأرض) والملك: المقدور الواسع لمن يملك السياسة والتدبير. فملك السماوات والأرض، لا يصح إلا لله وحده، لأنه القادر على الأجسام، لا يقدر على خلقها غيره. فالملك التام لا يصح إلا له سبحانه. (وإلى الله المصير) أي: المرجع يوم القيامة. ثم قال: (ألم تر) أي: ألم تعلم (أن الله يزجي سحابا) أي: يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. (ثم يؤلف بينه) أي: يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة. (ثم يجعله ركاما) أي: متراكما، متراكبا بعضه فوق بعض. (فترى الودق يخرج من خلاله) أي: ترى المطر والقطر، يخرج من خلال السحاب أي: مخارج القطر منه. (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) أي: وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد بردا. والسماء: السحاب، لأن كل
[ 260 ]
ما علا مطبقا فهو سماء. ويجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال، ثم ينزل منها، عن البلخي، وغيره. وقيل: معناه وينزل من السماء مقدار جبال من برد، كما يقول: عندي بيتان من تبن أي: قدر بيتين، عن الفراء. وقيل: أراد السماء المعروفة فيها جبال من برد مخلوقة، عن الحسن، والجبائي. (فيصيب به) أي: بالبرد أي: بضرره (من يشاء) فيهلك زرعه، وماله (ويصرفه عمن يشاء) أي: ويصرف ضرره عمن يشاء، فيكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة. (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) أي: يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر، ويخطفه لشدة لمعانه، كما قال: (يكاد البرق يخطف أبصارهم). (يقلب الله الليل والنهار) أي: يصرفهما في اختلافهما، وتعاقبهما، وإدخال أحدهما في الآخر (إن في ذلك) التقليب (لعبرة) أي: دلالة (لأولي الأبصار) أي: لذوي العقول، والبصائر (والله خلق كل دابة) أي: كل حيوان يدب على وجه الأرض، ولا يدخل فيه الجن، والملائكة. (من ماء) أي: من نطفة. وقيل: عنى به الماء، لأن أصل الخلق من الماء، لأن الله خلق الماء، وجعل بعضه نارا، فخلق الجن منها، وبعضه ريحا، فخلق منه الملائكة، وبعضه طينا فخلق منه آدم عليه السلام. فأصل الحيوان كله الماء، ويدل عليه قوله (وجعلنا من الماء كل شئ حي). (فمنهم من يمشي على بطنه) كالحية والحوت والدود (ومنهم من يمشي على رجلين) كالإنس والطير. (ومنهم من يمشي على أربع) كالأنعام والوحوش والسباع. ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع، لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين، فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع. قال البلخي: إن الفلاسفة تقول: كل ما له قوائم كثيرة، فإن اعتماده إذا سعى على أربعة قوائم فقط. وقال أبو جعفر عليه السلام: ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك. (يخلق الله ما يشاء) أي: يخترع ما يشاء وينشئه من الحيوان وغيره. وقال المبرد: قوله (كل دابة): للناس وغيرهم. وإذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب. فلذلك قال. (من) لغير ما يعقل. (إن الله على كل شئ قدير) يخلق هذه الأشياء لقدرته عليها. فاختلاف هذه الحيوانات مع اتفاق أصلها، يدل على أن لها قادرا خالقا، عالما حكيما. (لقد أنزلنا أيات مبينات) أي. دلالات واضحات بينات. (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي: من جملة تلك الدواب. وعنى به المكلفين دون من ليس بمكلف.
[ 261 ]
والصراط المستقيم. الإيمان، لأنه يؤدي إلى الجنة. وقيل: إن المراد يهدي في الآخرة إلى طريق الجنة. * (ويقولون ءامنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين [ 47 ] وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ 48 ] وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين [ 49 ] أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [ 50 ] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [ 51 ] ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ 52 ]) *. القراءة: قرأ أبو جعفر وقالون عن نافع ويعقوب: (ويتقه) بكسر القاف، والهاء مكسورة مختلسة غير مشبعة. وقرأ أبو عمرو وحمزة في رواية العجلي وخلاد وأبو بكر في رواية حماد ويحيى: (ويتقه) بكسر القاف، وسكون الهاء. وقرأ حفص: (ويتقه) بسكون القاف، وكسر الهاء غير مشبعة. والباقون: (يتقه) بكسر القاف والهاء مشبعة. وروي عن علي عليه السلام أنه قرأ: (قول المؤمنين) بالرفع، وهو قراءة الحسن بخلاف ابن أبي إسحاق، وهو مثل قراءة من قرأ (فما كان جواب قومه) بالرفع. وقد ذكرنا الوجه فيه. وقرأ أبو جعفر وحده: (ليحكم بينهم) بضم الياء وفتح الكاف في الموضعين، وفي البقرة، وآل عمران مثل ذلك. وقد ذكرناه هناك. الحجة: قال أبو علي: الوجه (ويتقه): موصولة بياء، لأن ما قبل الهاء متحرك. ومن قرأ (ويتقه) لا يبلغ بها الياء، فالوجه فيه: أن الحركة غير لازمة قبل الهاء. ألا ترى ان الفعل إذا رفع دخلته الياء. ومن قرأ (ويتقه) بسكون الهاء، فلأن ما يتبع هذه الهاء من الياء والواو زيادة، فرد إلى الأصل، وحذف ما يلحقه من الزيادة. ويقوي ذلك ما حكي عن سيبويه أنه سمع من يقول: هذه أمة الله في الوصل
[ 262 ]
والوقف. وزعم أبو الحسن أن قوله: " له أرقان " (1) ونحوه، لغة يجرونها في الوصل مجراها في الوقف، فيحذفون منها كما حذفوا في الوقف. وحملها سيبويه على الضرورة. وأما قراءة حفص (ويتقه) فوجهه أن تقه من يتقه مثل كتف، فكما يسكن نحو كتف كذلك تسكن القاف من تقه. وعلى هذا قول الشاعر: عجبت لمولود، وليس له أب، * وذي ولد لم يلده أبوان (2) ومثله. " فبات منتصبا، وما تكردسا " (3). فلما أسكن ما قبل الهاء لهذا التشبيه، حرك الهاء بالكسر، كما حرك الدال بالفتح في لم يلده. اللغة: قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي أي: طاوعني لما كنت ألتمسه منه، وصار يسرع إليه. وناقة مذعان: منقادة. والحيف: الجور ينقص الحق. والفوز: أخذ الحظ الجزيل من الخير. النزول: قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين، كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. وحكى البلخي: أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي عليه السلام، فخرجت فيها أحجار، وأراد ردها بالعيب. فلم يأخذها، فقال: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له، فلا تحاكمه إليه ! فنزلت الآيات، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، أو قريب منه. المعنى: (ويقولون آمنا بالله) أي: صدقنا بتوحيد الله (وبالرسول وأطعنا) هما فيما حكما (ثم يتولى فريق منهم) أي: يعرض عن طاعتهما طائفة منهم (من (1) هذا جزء من بيت لرجل من أزد السراة، يصف برقا وتمامه: " فظلت لدى البيت الحرام أخيله * ومطواي مشتاقان له أرقان ". وقوله أخيله أي: أنظر إلى مخيلته. والهاء عائدة على البرق في بيت قبله. ومطواي أي: صاحباي. (2) نسب البيت إلى عمرو الجنبي، وله قصة مع امرئ القيس. وروي: " الإرب مولود وليس له ولد.. اه‍ " والمراد من المولود الذي ليس له أب: عيسى بن مريم، عليه السلام. ومن الذي لم يلده أبوان: آدم عليه السلام. وقيل: أراد به القوس لأنها تؤخذ من شجرة معينة واحدة. وقيل: أراد البيضة. وهذا البيت مع بيتين بعده من الألغاز ذكره في (شرح الأشموني. ج 3: 314). (3) التكردس: التجمع والتقبض (*).
[ 263 ]
بعد ذلك) أي: من بعد قولهم: آمنا (وما أولئك) الذين يدعون الإيمان، ثم يعرضون عن حكم الله ورسوله (بالمؤمنين) وفي هذه الآية دلالة على أن القول المجرد لا يكون إيمانا، إذ لو كان ذلك كذلك، لما صح النفي بعد الإثبات. (وإذا دعوا إلى الله) أي: إلى كتاب الله، وحكمه، وشريعته. (ورسوله) أي: وإلى حكم رسوله (ليحكم بينهم) الرسول. وإنما أفرد بعد قوله (إلى الله ورسوله) لأن حكم الرسول يكون بأمر الله تعالى، فحكم الله ورسوله واحد. (إذا فريق منهم معرضون) عما يدعون إليه (وإن يكن لهم الحق) أي: وإن علموا أن الحق يقع لهم (يأتوا إليه) أي: إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مذعنين) مسرعين طائعين منقادين. ثم قال سبحانه منكرا عليهم (أفي قلوبهم مرض) أي: شك في نبوتك ونفاق ؟ وهو استفهام يراد به التقرير، لأنه أشد في الذم والتوبيخ أي: هذأ أمر قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى البينة، كما جاء في نقيضه من المدح على طريق الإستفهام، نحو قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا، * وأندى العالمين بطون راح (1) (أم ارتابوا) في عدلك أي: رأوا منك ما رابهم لأجله أمرك (أم يخافون أن يحيف الله عليهم) أي: يجور الله عليهم (ورسوله) أي: ويميل رسوله في الحكم، ويظلمهم، لأنه لا وجه في الإمتناع عن المجئ إلا أحد هذه الأوجه الثلاثة. ثم أخبر سبحانه أنه ليس شئ من ذلك فقال: (بل أولئك هم الظالمون) نفوسهم وغيرهم. وفي هذه الآية دلالة على أن خوف الحيف من الله تعالى، خلاف الدين، وإذا كان كذلك، فالقطع عليه أولى أن يكون خلافا للدين. ثم وصف سبحانه الصادقين في إيمانهم، فقال: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) أي: سمعنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم، عن ابن عباس، ومقاتل. وقيل: معناه قبلنا هذا القول، وأنفذنا له واجبنا إلى حكم الله ورسوله. (وأولئك هم المفلحون) أي: الفائزون بالثواب، الظافرون بالمراد. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن المعني بالآية أمير المؤمنين، عليه أفضل الصلوات. (ومن يطع (1) الشعر في (جامع الشواهد)، وقد مر في الكتاب أيضا غير مرة (*).
[ 264 ]
الله ورسوله) فيما أمراه، ونهيا عنه (ويخش الله) أي: ويخش عقاب الله في ترك أوامره، وارتكاب نواهيه. (ويتقه) أي: ويتق عقابه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه (فأولئك هم الفائزون) وقيل: معناه ويخش الله في ذنوبه التي عملها، ويتقه فيما بعد. النظم: قيل: اتصلت الآية الأولى بقوله: (ويضرب الله الأمثال للناس). ويعود الضمير في قوله: (ويقولون) إليهم، وإن كان يقع على بعضهم، فكأنه قال: ويقول جماعة من هؤلاء الناس آمنا، عن أبي مسلم. وقيل: إنه لما تقدم ذكر المؤمن والكافر، عقبه سبحانه بذكر المنافق. * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون [ 53 ] قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 54 ] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ 55 ]) *. القراءة: قرأ أبو بكر: (كما استخلف) بضم التاء. والباقون بفتح التاء. وقرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب وسهل: (وليبدلنهم) من الإبدال. والباقون بالتشديد من التبديل. الحجة. قال أبو علي: الوجه في (كما استخلف) بفتح التاء واللام: لأن اسم الله قد تقدم ذكره، والضمير في (ليستخلفنهم) يعود إليه، فكذلك في قوله (كما استخلف). والوجه في استخلف أنه يراد به ما يراد باستخلف. والتبديل والإبدال بمعنى. وقيل: التبديل تغيير حال إلى حال أخرى، يقال: بدل صورته. والإبدال: رفع الشئ بأن يجعل غيره مكانه. قال: " عزل الأمير بالأمير المبدل ".
[ 265 ]
الاعراب: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم): أصله وأقسموا بالله يجهدون الايمان جهدا، فحذف النعل، وأقيم مصدره مضافا إلى المفعول مقامه، كقوله: (فضرب الرقاب) وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم. (طاعة): مبتدأ، وخبره محذوف تقديره طاعة معروفة أولى بكم وأفضل لكم. (ليستخلفنهم): جواب قسم يدل عليه قوله: (وعد الله)، لأن وعده سبحانه كالقسم. (يعبدونني): يجوز أن يكون جملة مستأنفة على طريق الثناء عليهم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. المعنى: ولما بين الله سبحانه كراهتهم لحكمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: والله لو أمرتنا بالخروج من ديارنا وأموالنا، لفعلنا. فقال الله سبحانه: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) أي: حلفوا بالله أغلظ أيمانهم، وقدر طاقتهم، إنك إن أمرتنا بالخروج في غزواتك لخرجنا. (قل) لهم يا محمد (لا تقسموا) أي: لا تحلفوا، وتم الكلام. (طاعة معروفة) أي: طاعة حسنة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، خالصة صادقة، أفضل وأحسن من قسمكم بما لا تصدقون. فحذف خبر المبتدأ للعلم به وقيل: معناه ليكن منكم طاعة والقول المعروف هو المعروف صحته (إن الله خبير بما تعملون) أي: من طاعتكم بالقول، ومخالفتكم بالفعل. ثم أمرهم سبحانه بالطاعة فقال: (قل) لهم (أطيعوا الله) فيما أمركم به (وأطيعوا الرسول) فيما أتاكم به، واحذروا المخالفة. (فإن تولوا) أي: فإن تعرضوا عن طاعة الله، وطاعة رسوله. والأصل تتولوا فحذف أحد التاءين (فإنما عليه) أي: على الرسول (ما حمل) أي: كلف وأمر من التبليغ، وأداء الرسالة (وعليكم ما حملتم) أي: كلفتم من الطاعة والمتابعة (وإن تطيعوه) أي: وإن تطيعوا الرسول (تهتدوا) إلى الرشد والصلاح، وإلى طريق الجنة (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) أي: ليس عليه إلا أداء الرسالة وبيان الشريعة، وليس عليه الإهتداء، وإنما ذلك عليكم، ونفعه عائد إليكم. والمبين: البين الواضح. (وعد الله الذين آمنوا منكم) أي: صدقوا بالله وبرسوله، وبجميع ما يجب التصديق به (وعملوا الصالحات) أي: الطاعات الخالصة لله (ليستخلفنهم في الأرض) أي: ليجعلنهم يخلفون من قبلهم. والمعنى: ليورثنهم أرض الكافر من
[ 266 ]
العرب والعجم، فيجعلهم سكانها وملوكها (كما استخلف الذين من قبلهم) قال مقاتل: يعني بني إسرائيل !. إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم، وديارهم، وأموالهم. وعن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الته صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح، ولا يصبحون إلا فيه. فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله ؟ فنزلت هذه الآية. وعن المقداد بن الأسود، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لا يبقى على الأرض بيت مدر، ولا وبر، إلا أدخله الله تعالى كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو ذل ذليل، إما أن يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما أن يذلهم فيدينون لها ". وقيل: إنه أراد بالأرض أرض مكة، لأن المهاجرين كانوا يسألون ذلك. (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) يعني دين الإسلام الذي أمرهم أن يدينوا به، وتمكينه أن يظهره على الدين كله، كما قال: " زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ". وقيل: تمكينه بإعزاز أهله وإذلال أهل الشرك، وتمكين أهله من إظهاره بعد أن كانوا يخفونه. (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) أي: وليصيرنهم بعد أن كانوا خائفين بمكة، آمنين بقوة الإسلام وانبساطه. قال مقاتل: وقد فعل الله ذلك بهم، وبمن كان بعدهم من هذه الأمة: مكن لهم في الأرض، وأبدلهم أمنا من بعد خوف، وبسط لهم في الأرض، فقد أنجز وعده لهم. وقيل: معناه وليبدلنهم من بعد خوفهم في الدنيا أمنا في الآخرة، ويعضده ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال حاكيا عن الله سبحانه: إني لا أجمع على عبد واحد بين خوفين، ولا بين أمنين: إن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، وإن أمنني في الدنيا، خوفته في الآخرة. (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، ومعناه: لا يخافون غيري، عن ابن عباس. وقيل: معناه لا يراؤون بعبادتي أحدا. وفي الآية دلالة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الإخبار عن غيب لا يعلم إلا بوحي من الله عز وجل. (ومن كفر بعد ذلك) أي: بعد هذه النعم (فأولئك هم الفاسقون) ذكر الفسق بعد الكفر، مع أن الكفر أعظم من الفسق، لأن الفسق في كل شئ هو الخروج إلى أكثره. فالمعنى: أولئك هم الخارجون إلى أقبح وجوه الكفر وأفحشه.
[ 267 ]
وقيل: معناه من جحد تلك النعمة بعد إنعام الله تعالى بها، فأولئك هم العاصون لله، عن ابن عباس. واختلف في الآية فقيل: إنها واردة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هي عامة في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس، ومجاهد. والمروي عن أهل البيت عليه السلام: أنها في المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وروى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قرأ الآية، وقال: هم والله شيعتنا أهل البيت. يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منا، وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم، حتى يلي رجل من عترتي، إسمه إسمي، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ". وروي مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. فعلى هذا يكون المراد ب‍ (الذين آمنوا وعملوا الصالحات): النبي وأهل بيته، صلوات الرحمن عليهم. وتضمنت الآية البشارة لهم بالإستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي عليه السلام منهم. ويكون المراد بقوله (كما استخلف الذين من قبلهم) هو أن جعل الصالح للخلاف خليفة مثل آدم، وداود، وسليمان عليه السلام. ويدل على ذلك قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، و (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)، وقوله (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناه ملكا عظيما). وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة، وإجماعهم حجة، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". وأيضا فإن التمكين في الأرض على الإطلاق، لم يتفق فيما مضى، فهو منتظر لأن الله عز اسمه، لا يخلف وعده. (وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ 56 ] لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير [ 57 ]). القراءة: قرأ ابن عامر، وحمزة: (لا يحسبن) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة. قال أبو علي: من قرأ بالياء جاز أن يكون فاعله أحد شيئين: إما أن يكون تضمن ضميرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: لا يحسبن النبي الذين كفروا معجزين. فالذين في موضع نصب بأنه المفعول الأول. ومعجزين المفعول الثاني. ويجوز أن
[ 268 ]
يكون فاعل الحسبان الذين كفروا، ويكون المفعول الثاني محذوفا، وتقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين. ومن قرأ بالتاء، ففاعل تحسبن المخاطب. المعنى: ثم أمر سبحانه بإقامة أمور الدين، فقال: (وأقيموا الصلاة) أي: قوموا بأدائها وإتمامها في أوقاتها. (وآتوا الزكاة) المفروضة (وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) أي: لترحموا جزاء على ذلك، وتثابوا بالنعم الجزيلة. ثم قال: (لا تحسبن) يا محمد، أو أيها السامع. (الذين كفروا معجزين) أي: سابقين فائتين (في الأرض). يقال: طلبته فأعجزني أي: فاتني وسبقني أي: لا يفوتونني. ومن قرأ بالياء فمعناه. لا يظنن الكافرون أنهم يفوتونني (ومأواهم النار) أي: مستقرهم ومصيرهم النار (ولبئس المصير) أي: بئس المستقر والمأوى. وإنما وصفها بذلك، وإن كانت حكمة وصوابا من فعل الله تعالى، لما ينال الصائر إليها من الشدائد، والآلام. * (يأيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الأيات والله عليم حكيم [ 58 ] وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم ءاياته والله عليم حكيم [ 59 ] والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم [ 60 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير حفص: (ثلاث عورات) بالنصب. والباقون بالرفع. في الشواذ عن الأعمش: (عورات) بفتح الواو. وقرأ أبو جعفر، وأبو عبد الله عليهما السلام: (يضعن من ثيابهن) وروي ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. الحجة: قال أبو علي: من رفع كان خبر المبتدأ محذوفا، كأنه قال: هذا
[ 269 ]
ثلاث عورات، فأجمل بعد التفصيل. ومن نصب جعله بدلا من قوله (ثلاث مرات). فإن قلت: فإن قوله (ثلاث مرات) زمان بدلالة أنه فسر بزمان وهو قوله: (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء) وليس العورات بزمان، فكيف يصح وليس هي هو ؟ قيل: يكون ذلك على أن تضمر الأوقات، كأنه قال: أوقات ثلاث عورات. فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعراب المضاف. والعورات: جمع عورة. وحكم ما كان على فعلة من الأسماء تحريك العين في الجمع، نحو: جفنة وجفنات، إلا أن عامة العرب كرهوا تحريك العين فيما كان عينه واوا، أو ياء، لما كان يلزم من الإنقلاب إلى الألف، فأسكنوا وقالوا: عورات وبيضات، إلا أن هذيلا حركوا العين منها فقالوا: عورات ولوزات، وأنشد بعضهم: أخو بيضات، زائح متأوب، * رفين بمسح المنكبين، سبوح (1) فحرك الياء من بيضات. والجيد عند النحويين الأول. ومن قرأ (من ثيابهن): فلأنه لا يوضع كل الثياب، وانما يوضع بعضها. وروي عرت أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: هو الجلباب إلا أن تكون أمة فليس عليها جناح أن تضع خمارها. اللغة: التبرج: إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله الظهور، ومنه البرج: البناء العالي لظهوره. المعنى لما تقدم أحكام النساء والرجال، ومن أبيح له الدخول على النساء، استثنى سبحانه ههنا أوقاتا من ذلك، فقال: (يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم) معناه: مروا عبيدكم وإماءكم أن يستأذنوا عليكم، إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم، عن ابن عباس. وقيل: أراد العبيد خاصة، عن ابن عمر، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام. (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) من أحراركم. وأراد به الصبي الذي يميز بين العورة وغيرها. وقال الجبائي: الإستئذان واجب على كل بالغ في كل حال، وعلى الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة، (1) الرائح بمعنى الذاهب. والمتأوب: الراجع. ورفيق بمسح المنكبين أي: عالم بتحريكها كناية عن حسن جريه ومهارته في السير. وسبوح أي: حسن الحركة. وفي اللسان. " أبو بيضات... اه " (*).
[ 270 ]
بظاهر الآية (ثلاث مرات) أي: في ثلاث أوقات من ساعات الليل والنهار. ثم فسرها فقال: (من قبل صلاة الفجر) وذلك أن الإنسان ربما يبيت عريانا، أو على حال لا يحب أن يراه غيره في تلك الحال. (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) يريد عند القائلة. (ومن بعد صلاة العشاء) الآخرة، حين يأوي الرجل إلى امرأته، ويخلو بها، أمر الله بالإستئذان في هذه الأوقات التي يتخلى الناس فيها، وينكشفون، وفصلها. ثم أجملها بعد التفصيل فقال: (ثلاث عورات لكم) أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم. سمى سبحانه هذه الأوقات عورات، لأن الإنسان يضع فيها ثيابه، فتبدو عورته. قال السدي: كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الأوقات ليغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله سبحانه أن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه الساعات الثلاث. (ليس عليكم) يعني المؤمنين الأحرار (ولا عليهم) يعني الخدم، والغلمان (جناح بعدهن) أي: حرج في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات الثلاثة. ثم بين المعنى فقال (طوافون عليكم) أي: هم خدمكم، فلا يجدون بدا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات، ويتعذر عليهم الإستئذان في كل وقت، كما قال سبحانه: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) أي: يخدمهم. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إنها من الطوافين عليكم والطوافات " جعل الحرة بمنزلة العبيد والإماء. وقال مقاتل: ينقلبون فيكم ليلا ونهارا. (بعضكم على بعض) أي: يطوف بعضكم، وهم المماليك، على بعض، وهم الموالي. (كذلك) أي: كما بين لكم ما تعبدكم به في هذه الآية (يبين الله لكم الآيات) أي: الدلالات على الأحكام. (والله عليم) بما يصلحكم (حكيم) فيما يفعله (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) يعني من الأحرار (فليستأذنوا) أي: في جميع الأوقات (كما استأذن الذين من قبلهم) من الأحرار الكبار الذين أمروا بالإستئذان على كل حال في الدخول عليكم، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والعبد يستأذن في العورات الثلاث. (كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) مر معناه. قال سعيد بن المسيب: ليستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت هذه الآية في ذلك.
[ 271 ]
(والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا) وهن المسنات من النساء اللاتي قعدن عن التزويج، لأنه لا يرغب في تزويجهن. وقيل: هن اللاتي ارتفع حيضهن، وقعدن عن ذلك، اللاتي لا يطمعن في النكاح أي: لا يطمع في جماعهن لكبرهن (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) يعني الجلباب فوق الخمار، عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير. وقيل: يعني الخمار والرداء، عن جابر بن زيد. وقيل: ما فوق الخمار من المقانع وغيرها أبيح لهن القعود بين يدي الأجانب في ثياب أبدانهن مكشوفة الوجه واليد. فالمراد بالثياب ما ذكرناه، لا كل الثياب. (غير متبرجات بزينة) أي: غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهن، بل يقصدن به التخفيف عن أنفسهن. فإظهار الزينة في القواعد وغيرهن محظور. وأما الشابات فإنهن يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار، ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب، لئلا تصفهن ثيابهن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " للزوج ما تحت الدرع، وللإبن والأخ ما فوق الدرع، ولغير ذي محرم أربعة أثواب: درع، وخمار، وجلباب، وإزار ". (وأن يستعففن) أي: واستعفاف القواعد وهو أن يطلبن العفة بلبس الجلابيب. (خير لهن) من وضعها، وإن سقط الحرج عنهن فيه. (والله سميع) لأقوالكم (عليم) بما في قلوبكم. * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الأيات لعلكم تعقلون [ 61 ]) *. اللغة: الحرج: الضيق من الحرجة: وهي الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق
[ 272 ]
المسالك فيه، وجمعها حرجات وحراج. قال: أياحرجات الحي حين تحملوا * بذي سلم، لاجادكن ربيع (1) وحرج فلان: إذا أثم. وتحرج من كذا: إذا تأثم من فعله. والأشتات: المتفرقون وهو جمع شت. الاعراب: (جميعا): نصب على الحال، وكذلك (أشتاتا). و (تحية): منصوب لأنها مصدر (سلموا) لأن التحية بمعنى التسليم. (من عند الله): صفة (تحية). المعنى: لما تقدم ذكر الإستيذان، عقبه سبحانه بذكر رفع الحرج عن المؤمنين في الإنبساط بالأكل والشرب، فقال: (ليس على الأعمى حرج) الذي كف بصره (ولا على الأعرج) الذي يعرج من رجليه، أو أحدهما (حرج ولا على المريض) العليل (حرج) أي: إثم. واختلف في تأويله على وجوه أحدها: إن المعنى ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج، لأنهم كانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: إن الأعمى لا يبصر فنأكل جيد الطعام دونه. والأعرج لا يتمكن من الجلوس. والمريض يضعف عن الأكل، عن ابن عباس، والفراء. وثانيها: إن المسلمين كانوا إذا غزوا، خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكان أولئك يتحرجون من ذلك، ويقولون: لا ندخلها وهم غيب. فنفى الله سبحانه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم، أو من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو، عن سعيد بن المسيب، والزهري. وثالثها: إن المعنى ليس على الأعمى والأعرج والمريض ضيق، ولا إثم، في ترك الجهاد، والتخلف عنه، ويكون قوله: (ولا على أنفسكم) كلاما مستأنفا. فأول الكلام في الجهاد، وآخره في الأكل، عن ابن زيد، والحسن، والجبائي. ورابعها: إن العمي والعرج والمرضى، كانوا يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس كانوا يتقذرون منهم، ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعام أعمى، ولا أعرج، ولا مريض، عن سعيد بن جبير، والضحاك. وخامسها: إن الزمنى والمرضى، رخص الله سبحانه لهم في الأكل من بيوت من سماهم في الآية، وذلك أن قوما من أصحاب (1) قيل: إنه يعاتب الطرق التى سارت فيها المحبوبة للفراق (*).
[ 273 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم، وأمهاتهم، وقراباتهم، فكان أهل الزمانة يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام، لأنه يطعمهم غير مالكيه، عن مجاهد. (ولا على أنفسكم) أي: وليس عليكم حرج في أنفسكم (أن تأكلوا من بيوتكم) أي: بيوت عيالكم، وأزواجكم، وبيت المرأة كبيت الزوج. وقيل: معناه من بيوت أولادكم. فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت ومالك لأبيك ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن أطيب ما يأكل المؤمن كسبه، وإن ولده من كسبه " ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر. ثم ذكر بيوت الأقارب بعد الأولاد فقال: (أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم) إلى قوله (أو بيوت خالاتكم). وهذه الرخصة في أكل مات القرابات، وهم لا يعلمون ذلك، كالرخصة لمن دخل حائطا، وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مر في سفره بغنم، وهو عطشان، أن يشرب من رسله (1)، توسعة منه على عباده، ولطفا لهم، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق، وضيق العطن. وقال الجبائي: إن الآية منسوخة بقوله: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه ". والمروي عن أئمة الهدى، صلوات الله عليهم، أنهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكر الله تعالى بغير إذنهم، قدر حاجتهم من غير إسراف. وقوله: (أو ما ملكتم مفاتحه) معناه: أو بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منزل عبده. والمفاتح هنا: الخزائن، لقوله: (وعنده مفاتح الغيب): وقيل: هي التي يفتح الغيب بها، عن ابن عباس قال: عنى بذلك وكيل الرجل، وقيمه في ضيعته وماشيته، فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه، ويشرب من لبن ماشيته. وقيل: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشئ اليسير، عن عكرمة. وقيل: هو الرجل يولى طعام غيره، يقوم عليه، فلا بأس أن يأكل منه، عن السدي (أو صديقكم) رفع الحرج عن الأكل من بيت صديقه بغير إذن، إذا كان عالما بأنه تطيب نفسه بذلك. والصديق: هو الذي صدقك عن مودته. وقيل: هو الذي يوافق باطنه باطنك، كما وافق ظاهره ظاهرك. ولفظ الصديق يقع على الواحد، وعلى الجمع، (1) الرسل: اللبن (*).
[ 274 ]
قال جرير: دعون الهوى، ثم ارتمين قلوبنا * بأسهم أعداء، وهن صديق وقال الحسن، وقتادة: يجوز دخول الرجل بيت صديقه، والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل. وقال أبو عبد الله عليه السلام: لهو والله الرجل يأتي بيت صديقه، فيأكل طعامه بغير إذنه. وروي أن صديقا للربيع بن خيثم، دخل منزله، وأكل من طعامه. فلما عاد الربيع إلى المنزل أخبرته جاريته بذلك، فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة. (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) أي: مجتمعين، أو متفرقين. وذكر في تأويله وجوه أحدها: إن حيا من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا. وربما كانت معه الإبل الحفل (1) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه. فأعلم الله سبحانه أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه، عن قتادة، والضحاك، وابن جريج. وثانيها: إن معناه لا بأس بأن يأكل الغني مع الفقير في بيته، فإن الغني كان يدخل على الفقير من ذوي قرابته، أو صداقته، فيدعوه إلى طعامه، فيتحرج، عن ابن عباس. وثالثها: إنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، تحرجوأ أن يأكلوا إلا معه، فأباح الله سبحانه ألأكل على الإنفراد، وعلى الإجتماع، عن أبي صالح. والأقوال متقاربة، والأولى الحمل على العموم. (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي: ليسلم بعضكم على بعض، عن الحسن، فيكون كقوله: (ان اقتلوا أنفسكم). وقيل: معناه فسلموا على أهليكم وعيالكم، عن جابر وقتادة والزهري والضحاك. وقيل: معناه فإذا دخلتم بيوتا يعني المساجد، فسلموا على من فيها، عن ابن عباس. والأولى حمله على العموم. وقال إبراهيم: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال أبو عبد الله عليه السلام: هو تسليم الرجل على أهل البيت، حين يدخل، ثم يردون عليه، فهو سلامكم على أنفسكم. (تحية من عند الله) أي: هذه تحية حياكم الله بها، عن ابن عباس. وقيل: معناه علمها الله، وشرعها لكم، فإنهم كانوا يقولون: عم صباحا. ثم وصف التحية فقال: (مباركة طيبة) أي: إذا ألزمتموها كثر خيركم وطاب أجركم. وقيل: مؤبدة حسنة جميلة، عن ابن عباس. وقيل: إنما قال: مباركة، لأن معنى السلام عليكم (1) التحفيل: أن لا تحلب الناقة أياما ليجتمع اللبن في ضرعها. وحفل: جمع جافل: الممتلئة الضروع (*).
[ 275 ]
حفظكم الله وسلمكم الله من الآفات، فهو دعاء بالسلامة من آفات الدنيا والآخرة. وقال: طيبة لما فيها من طيب العيش بالتواصل. وقيل: لما فيها من الأجر الجزيل، والثواب العظيم (كذلك) أي: كما بين لكم هذه الأحكام، والآداب (يبين الله لكم الآيات) أي: الأدلة على جميع ما يتعبدكم به (لعلكم تعقلون) أي: لتعقلوا معالم دينكم. * (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم [ 62 ] لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 63 ] ألا إن لله ما في السموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم [ 64 ]) *. اللغة: التسلل: الخروج في خفية، يقال: تسلل فلان من بين أصحابه إذا خرج من جملتهم. والسلة: السرقة في الخفية. وكذلك الإسلال. ومنه الحديث: " لا إغلال ولا إسلال ". واللواذ: أن يستتر بشئ مخافة من يراه. وقيل: اللواذ الإعتصام بالشئ بأن يدور معه حيث دار من قولهم. لاذ به. وقال الزجاج: الملاوذة المخالفة فهنا، بدلالة قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره). ويقال: خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه. ومنه قوله: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه). وخالفه عن الأمر: إذا صد عنه دونه.. الاعراب: (لواذا) مصدر وضع موضع الحال، والتقدير يتسللون منكم ملاوذين. (يخالفون عن أمره) أي: يخالفون الله عن أمره بمعنى يجاوزون أمره. (ويوم يرجعون): يوم منصوب بالعطف على محذوف، وهو ظرف زمان. والتقدير:
[ 276 ]
ما أنتم تثبتون عليه الآن، ويوم يرجعون إليه. خرج من الخطاب إلى الغيبة. المعنى: لما تقدم ذكر المعاشرة مع الأقرباء والمسلمين، بين سبحانه في هذه الآية كيفية المعاشرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) أي: ليس المؤمنون على الحقيقة إلا الذين صدقوا بتوحيد الله وعدله، وأقروا بصدق رسوله (وإذا كانوا معه) أي: مع رسوله (على أمر جامع) وهو الذي يقتضي الإجماع عليه، والتعاون فيه، من حضور حرب، أو مشورة في أمر، أو صلاة جمعة، أو ما أشبه ذلك (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) أي: لم ينصرفوا عن الرسول، أو عن ذلك الأمر إلا بعد أن يطلبوا الإذن منه في الإنصراف (إن الذين يستأذنونك) يا محمد (أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) أي: فهم الذين يصدقون بالله ورسوله على الحقيقة دون الذين ينصرفون بلا استئذان (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) أي: متى ما استأذنك هؤلاء المؤمنون أن يذهبوا لبعض مهماتهم، وحاجاتهم (فأذن لمن شئت منهم) خير سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بين أن ياذن، وأن لا يأذن. وهكذا حكم من قام مقامه من الأئمة. (واستغفر لهم الله) أي: واطلب المغفرة لهم من الله بخروجهم من جملة من معك. واستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم هو دعاؤه لهم باللطف الذي تقع معه المغفرة (إن الله غفور) للمؤمنين أي: ساتر لذنوبهم (رحيم) بهم أي: منعم عليهم. ثم أمر سبحانه جميع المكلفين فقال: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) اختلف في تأويله على وجوه أحدها: إنه سبحانه علمهم تفخيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المخاطبة، وأعلمهم فضله فيه على سائر البرية. والمعنى: لا تقولوا له عند دعائه: يا محمد، أو يا بن عبد الله، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، في لين وتواضع وخفض صوت، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وثانيها: إنه نهى عن التعرض لدعاء رسوله عليهم، فالمعنى: احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب مجاب بغير شك، وليس كدعاء غيره، عن ابن عباس في رواية أخرى وثالثها: إن المعنى: ليس الذي يأمركم به الرسول، ويدعوكم إليه، كما يدعو بعضكم بعضا، لأن في القعود عن أمره قعودا عن أمر الله تعالى، عن أبي مسلم. (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) قال ابن عباس: هو أن يلوذ بغيره فيهرب، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة،
[ 277 ]
فيلوذون ببعض أصحابه، فيخرجون من المسجد في استتار من غير استئذان. وفيه معنى التهديد بالمجازاة. وقال مجاهد: كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه. وقيل: معناه يستترون ويستخفون تقية والتجاء. (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) حذرهم سبحانه عن مخالفة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أي: فليحذر الذين يعرضون عن أمر الله تعالى. وإنما دخلت (عن) لهذا المعنى. وقيل: عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن تصيبهم فتنة) أي: بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق. وقيل: عقوبة في الدنيا. (أو يصيبهم عذاب أليم) في الآخرة. وفي هذا دلالة على أن أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإيجاب، لأنها لو لم تكن كذلك لما حذر سبحانه عن مخالفته. ثم عظم سبحانه نفسه بأن قال: (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) أي: له التصرف في جميع ذلك. ولا يجوز لأحد الإعتراض عليه، ولا مخالفة أمره. فليس للعبد أن يخالف أمر مالكه. (قد يعلم ما أنتم عليه) من الخيرات والمعاصي، ومن الإيمان والنفاق، لا يخفى عليه شئ من أحوالكم (ويوم يرجعون إليه) يعني يوم البعث، يعلمه الله سبحانه متى هو (فينبئهم بما عملوا) من الخير والشر، والطاعات والمعاصي (والله بكل شئ) من أعمالهم وغيرها (عليم) معناه يردون إليه للجزاء، فيجازي كلا على قدر عمله من الثواب والعقاب.
[ 278 ]
25 - سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون مكية كلها، عن مجاهد، وقتادة. وقال ابن عباس: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة من قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) إلى قوله: (غفورا رحيما). عدد آيها: وهي سبع وسبعون آية، بلا خلاف. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ سورة الفرقان، بعث يوم القيامة وهو يؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ودخل الجنة بغير حساب " وروى إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال يا بن عمار ! لا تدع قراءة (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) فإن من قرأها في كل ليلة، لم يعذبه الله أبدا، ولم يحاسبه، وكان منزلته في الفردوس الأعلى. تفسيرها: اتصلت هذه السورة بسورة النور، اتصال النظير بالنظير، فإن مختتم تلك السورة تضمن (إن لله ما في السماوات والأرض وإنه بكل شئ عليم) ومفتتح هذه السورة أن (له ملك السماوات والأرض)، سبحانه من قدير حكيم. بسم الله الرحمن الرحيم * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 1 ] الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا [ 2 ] واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 3 ]
[ 279 ]
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جاء وظلما وزورا [ 4 ] وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 5 ] قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما [ 6 ] وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولآ أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 7 ] أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 8 ] انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا [ 9 ] تبارك الذى إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجرى من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا [ 10 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (نأكل منها) بالنون. والباقون: بالياء. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر: (ويجعل لك) بالرفع. والباقون بالجزم. الحجة: من قرأ (يأكل منها) بالياء: فإنه يعني به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن قرأ (نأكل منها): فكأنه أراد أنه تكون له المزية علينا في الفضل بأكلنا من جنته. ومن قرأ (ويجعل لك) بالجزم: عطف على موضع جعل، لأنه جزاء الشرط. قال الشاعر: أنى سلكت فإنني لك كاشح * وعلى انتقاصك في الحياة، وأزدد (1) ومن رفع قطعه مما قبله، واستأنف. الاعراب: قال الزجاج: التقدير جاؤوا بظلم وزور. فلما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب الفعل. وأقول: إنه يجوز جاؤوا ظلما بمعنى أتوا ظلما. قال طرفة: على غير ذنب جئته، غير أنني * نشدت فلم أغفل حمولة معبد (2) (1) الكاشح: العدو الذي يضمر العداوة. (2) هذا بيت من معلقته الشهيرة، ومعبد هذا أخوه. والحمولة: الإبل التي تطيق أن يحمل عليها. ولهذا البيت قصة طويلة مذكورة في هامش المعلقات العشر برواية الزوزني، وغيره هكذا (*).
[ 280 ]
فمعنى جئته فعلته. (اكتتبها): جملة في موضع نصب على الحال من (أساطير الأولين). وقد: مضمرة. و (أساطير): خبر مبتدأ محذوف. و (يأكل الطعام): حال، والعامل فيه ما تعلق به اللام في قوله (ما لهذا الرسول) فيكون منصوبا بإضمار أن. (كيف ضربوا): كيف في محل النصب على المصدر، والتقدير ضرب أي: ضربوا لك الأمثال. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الواو في (ضربوا). التقدير: أنظر أمنكرين ضربوا لك الأمثال أم لا. (إن شاء جعل لك خيرا من ذلك): الشرط والجزاء صلة الذي. و (جنات): بدل من قوله. (خيرا). المعنى: (تبارك) تفاعل من البركة معناه: عظمت بركاته وكثرت، عن ابن عباس. والبركة والكثرة من الخير. وقيل معناه: تقدس وجل بما لم يزل عليه من الصفات، ولا يزال كذلك، فلا يشاركه فيها غيره. وأصله من بروك الطير، فكأنه قال: ثبت ودام فيما لم يزل، ولا يزال، عن جماعة من المفسرين. وقيل: معناه قام بكل بركة، وجاء بكل بركة. (الذي نزل الفرقان) أي: القرآن الذي يفرق بين الحق والباطل، والثواب والخطأ، في أمور الدين، بما فيه من الحث على أفعال الخير، والزجر عن القبائح والشر. (على عبده) محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ليكون) محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن (للعالمين) أي: لجميع المكلفين من الإنس والجن. (نذيرا) أي: مخوفا بالعقاب، وداعيا لهم إلى الرشاد. ثم وصف سبحانه نفسه فقال: (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا) كما زعمت اليهود، والنصارى، والمشركون (ولم يكن له شريك في الملك) يشاركه فيما خلق، ويمنعه عن مراده. (وخلق كل شئ) مما يطلق عليه اسم المخلوق (فقدره تقديرا) على ما اقتضته الحكمة. والتقدير: تبيين مقادير الأشياء للعباد، فيكون معناه: قدر الأشياء بأن كتبها في الكتاب الذي كتبه الملائكة، لطفا لهم. وقيل: خلق كل شئ فقدر طوله وعرضه، ولونه وسائر صفاته، ومدة بقائه، عن الحسن. ثم أخبر سبحانه عن الكفار فقال: (واتخذوا من دونه) أي: من دون الله (آلهة) من الأصنام والأوثان، وجهوا عبادتهم إليها. ثم وصف آلهتهم بما ينبئ أنها لا تستحق العبادة فقال: (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) أي: وهي مخلوقة
[ 281 ]
مصنوعة. (ولا يملكون لأنفسهم ضرا) فيدفعونه عن أنفسهم (ولا نفعا) فيجرونه إلى، أنفسهم أي: لا يقدرون على دفع ضر، ولا على جر نفع. (ولا يملكون موتا ولا حياة) أي: لا يستطيعون إماتة ولا إحياء. (ولا نشورا) ولا إعادة بعد الموت. يقال: أنشره الله فنشر، فإن جميع ذلك يختص الله تعالى بالقدرة عليه. والمعنى: فكيف يعبدون من لا يقدر على شئ من ذلك، ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كله. ثم أخبر سبحانه عن تكذيبهم بالقرآن فقال: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه) أي: ما هذا القرآن إلا كذب افتراه محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختلقه من تلقاء نفسه. (وأعانه عليه قوم آخرون) قالوا: أعان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام العلاء بن الحضرمي، وحبر مولى عامر، وكانوا من أهل الكتاب. وقيل: إنهم قالوا أعانه قوم اليهود، عن مجاهد. (فقد جاؤوا ظلما وزورا) أي: فقد قالوا شركا وكذبا، حين زعموا أن القرآن ليس من الله. ومتى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم ؟ قلنا: إنه لما تقدم التحدي، وعجزهم عن الإتيان بمثله، اكتفى ها هنا بالتنبيه على ذلك. (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها) معناه - وقالوا أيضا هذه أحاديث المتقدمين، وما سطروه في كتبهم انتسخها. وقيل استكتبها (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) أي: تملى عليه طرفي نهاره حتى يحفظها وينسخها. والأصيل: العشي لأنه أصل الليل وأوله. وفي هذا بيان مناقضتهم وكذبهم، لأنهم قالوا: (افتراه)، ثم قالوا: (تملى عليه) فقد افتراه غيره. وقالوا: إنه كتب، وقد علموا أنه كان لا يحسن الكتابة، فكيف كتب ولم يستكتب. ثم قال سبحانه: (قل) يا محمد لهم تكذيبا لقولهم (أنزله) أي: أنزل القرآن (الذي يعلم السر) أي: الخفيات (في السماوات والأرض) على ما اقتضاه علمه ببواطن الأمور، لا على ما تقتضيه أهواء النفوس والصدور. (إنه كان غفورا رحيما) حيث لم يعاجلهم بالعذاب، بل أنعم عليهم بإرسال الرسول إليهم لتأكيد الحجة، وقطع المعذرة. (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام) كما نأكل (ويمشي في الأسواق) في طلب المعاش، كما نمشي (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) أي: هلا أنزل إليه ملك فيكون معينا له على الإنذار والتخويف. وهذا أيضا من
[ 282 ]
مقالاتهم الفاسدة، لأن الملك لو كان معينا له على الرسالة، ومخوفا من ترك قبولها، ولو فعل تعالى ذلك، لأدى ذلك إلى استصغار كل واحد منهما من حيث إنه لم يقم بنفسه في أداء الرسالة، ولأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس. (أو يلقى إليه كنز) يستغني به عن طلب المعاش. قال ابن عباس: أو ينزل إليه مال من السماء (أو تكون له جنة يأكل منها) أي: بستان يأكل من ثمارها. ومن قرأ بالنون فالمعنى: نأكل نحن معه ونتبعه. (وقال الظالمون) أي: المشركون للمؤمنين (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) أي: ما تتبعون إلا رجلا مخدوعا، مغلوبا على عقله. وقد سبق تفسير المسحور في بني إسرائيل (أنظر) يا محمد (كيف ضربوا لك الأمثال) أي: الأشباه لأنهم قالوا تارة هو مسحور، وتارة هو محتاج متروك، حتى تمنوا له الكنز، وتارة إنه ناقص عن القيام بالأمور. (فضلوا) بهذا عن الهدى، وعن وجه الصواب، وطريق الحق (فلا يستطيعون سبيلا) لإلزامك الحجة من الوجوه المذكورة. وقيل: معناه لا يستطيعون سبيلا إلى إبطال أمرك. وقيل: معناه لا يستطيعون سبيلا إلى الحق مع ردهم الدلائل والحجج، واتباعهم التقليد والإلف والعادة. (تبارك) أي: تقدس (الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) الذي اقترحوه من الكنز والبستان. ثم فسر الذي هو خير مما اقترحوه فقال: (جنات تجري من تحتها الأنهار) ليكون أبلغ في الزهو، وأسرع في نضج الثمار (ويجعل لك قصورا) أي: وسيجعل لك قصورا في كل بستان قصرا، والقصور. البيوت المبنية المشيدة المطولة، عن مجاهد. وأراد في الآخرة أي: سيعطيك الله في الآخرة أكثر مما قالوا. وقيل: أراد به في الدنيا، لأن جبرائيل عليه السلام عرض عليه ذلك كله، فاختار الزهد في الدنيا. * (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 11 ] إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 12 ] وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 13 ] لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 14 ] قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء
[ 283 ]
ومصيرا [ 15 ] لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا [ 16 ] ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءانتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل [ 17 ] قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنآ أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ 18 ] فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا [ 19 ] وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا [ 20 ]) *. القراءة: قرأ أبو جعفر وابن كثير وحفص ويعقوب: (ويوم يحشرهم) بالياء. والباقون بالنون. وقرأ ابن عامر: (فنقول) بالنون. والباقون بالياء. وقرأ أبو جعفر وزيد عن يعقوب. (أن نتخذ) بضم النون، وفتح الخاء. وهو قراءة زيد بن ثابت، وأبي الدرداء. وروي عن جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزيد بن علي. والباقون: (نتخذ) بفتح النون، وكسر الخاء. وروى بعضهم عن ابن كثير: (فقد كذبوكم بما يقولون) بالياء. والقراءة المشهورة بالتاء. وقرأ حفص: (فما تستطيعون) بالتاء. والباقون بالياء. وروي عن علي عليه السلام: (ويمشون في الأسواق) بضم الياء، وفتح الشين المشددة. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (يحشرهم) بالياء قوله (كان على ربك وعدا مسئولا) (ويوم يحشرهم ربك). ومن قرأ (نحشرهم) بالنون، (فيقول) بالياء، فعلى أنه أفرد بعد أن جمع كما أفرد بعد الجمع في قوله (وآتينا موسى الكتاب) إلى قوله (ألا تتخذوا من دوني وكيلا). وقراءة ابن عامر: (ويوم نحشرهم) (فنقول) حسن لإجرائه المعطوف مجرى المعطوف عليه في لفظ الجمع. قال ابن جني: من قرأ (أن نتخذ) بضم النون فإن قوله (من أولياء) في موضع الحال أي: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت (من) زائدة لمكان النفي، تقول: اتخذت زيدا وكيلا. فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من
[ 284 ]
وكيل. وكذلك أعطيته درهما، وما أعطيته من درهم. وهذا في المفعول به. وأما قراءة الجماعة (إن نتخذ من دونك من أولياء) فإن قوله (من أولياء) في موضع المفعول أي: أولياء فهو كقولك: ضربت رجلا، فإن نفيت قلت: ما ضربت من رجل. والمعنى في قوله (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ): لسنا ندعي استحقاق الولاء، ولا العبادة لنا، والمعنى في قوله (فقد كذبوكم بما تقولون) بالتاء: كذبوكم في قولكم إنهم شركاء، وإنهم آلهة، وذلك في قولهم (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون). ومن قرأ (بما يقولون) بالياء فالمعنى: فقد كذبوكم أي: ما كنتم تعبدون بقولهم. وقولهم هو نحو ما قالوه في قوله: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون)، وقوله: (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون). وقوله: (فما يستطيعون) بالياء معناه: فما يستطيع الشركاء صرفا ولا نصرا لكم. ومن قرأ بالتاء فمعناه: فما تستطيعون أنتم أيها المتخذون للشركاء من دونه صرفا ولا نصرا. ومن قرأ (يمشون) فمعناه: يدعون إلى المشي، ويحملهم حامل على المشي. وجاء على فعل لتكثير فعلهم، لأنهم جماعة. اللغة: السعير: النار الملتهبة مأخوذة من إسعار النار. وهو شدة إيقادها. أسعرتها إسعارا، وسعرها الله تسعيرا. والتغيظ: الهيجان والغليان، ومنه قيل لشدة الغضب الغيظ. ومقرنين: مأخوذ من القرن، وهو الحبل يشد فيه بعيران أو أبعرة، ثم يستعمل في كل مجتمعين. والثبور: الهلاك. وثبر الرجل فهو مثبور: أهلك. قال ابن الزبعرى: إذا أجاري الشيطان في سنن الغي، * ومن مال ميله مثبور ويقال: ما خبرك عن هذا الأمر أي: ما صرفك عنه، فكأن المثبور ممنوع من كل خير حتى هلك. والبور: الهلكى، وهو جمع الباير. وقيل: هو مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، قال ابن الزبعرى: يارسول المليك ! إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور وأصل الباب من بارت السلعة تبور: إذا كسدت، فلا تشترى، فكأنها بقيت وفسدت. الاعراب: (مكانا) ظرف لألقى. (مقرنين): نصب على الحال.
[ 285 ]
(ثبورا): مصدر فعل محذوف، تقديره ثبر ثبورا. ودعوا هنا بمعنى قالوا. وهنالك يحتمل أن يكون ظرف زمان، وأن يكون ظرف مكان أي: دعوا في ذلك اليوم، أو في ذلك المكان. (كانت لهم جزاء ومصيرا): في موضع نصب على الحال من وعد. وقد: مضمرة. وذو الحال الضمير المحذوف العائد من الصلة إلى الموصول. (لهم فيها ما يشاؤون): جملة أخرى في موضع الحال من قوله: (المتقون) (وما أرسلنا قبلك من المرسلين): مفعول (أرسلنا) محذوف تقديره: وما أرسلنا قبلك رسلا. ويدل عليه قوله: (من المرسلين). (إلا إنهم ليأكلون الطعام): إن مع اسمه وخبره مستثنى عن الرسل المحذوفة، تقديره: وما أرسلنا قبلك رسلا إلا هم يأكلون الطعام. وهذا كما يقال: ما قدم علينا أمير إلا إنه مكرم لي، وليست كسرة أن لأجل اللام، فإن دخولها وخروجها واحد في هذا الموضع. وقيل: ما في الآية كقول الشاعر: ما أعطياني، ولا سألتهما، * إلا وإني لحاجز كرمي المعنى: ثم بين سبحانه سوء اعتقادهم، وما أعده لهم على قبيح فعالهم ومقالهم، فقال: (بل كذبوا بالساعة) أي: ما كذبوك لأنك تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، بل لأنهم لم يقروا بالبعث والنشور، والثواب والعقاب (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) أي: نارا تتلظى. ثم وصف ذلك السعير فقال: (إذا رأتهم من مكان بعيد) أي: من مسيرة مائة عام، عن السدي والكلبي. وقال أبو عبد الله عليه السلام: من مسيرة سنة. ونسب الرؤية إلى النار، وإنما يرونها هم، لأن ذلك أبلغ كأنها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا. وذلك قوله: (سمعوا لها تغيظا وزفيرا) وتغيظها: تقطعها عند شدة اضطرابها. وزفيرها: صوتها عند شدة التهابها، كالتهاب الرجل المغتاظ. والتغيظ لا يسمع، وإنما يعلم بدلالة الحال عليه. وقيل: معناه سمعوا لها صوت تغيظ وغليان. قال عبيد بن عمير: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خر لوجهه. وقيل: التغيظ للنار، والزفير لأهلها، كأنه يقول: رأوا للنار تغيظا، وسمعوا لأهلها زفيرا (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا) معناه: وإذا ألقوا من النار في مكان ضيق، يضيق عليهم، كما يضيق الزج في الرمح، عن أكثر المفسرين. وفي الحديث قال عليه السلام في هذه الآية: والذي نفسي بيده ! إنهم يستكرهون في النار كما يستكره
[ 286 ]
الوتد في الحائط. (مقرنين) أي: مصفدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: قرنوا مع الشياطين في السلاسل والأغلال، عن الجبائي. (دعوا هنالك ثبورا) أي: دعوا بالويل والهلاك على أنفسهم، كما يقول القائل: واثبورا أي. واهلاكاه. وقيل: وانصرافاه عن طاعة الله ! فتجيبهم الملائكة: (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا) أي: لا تدعوا ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا أي: لا ينفعكم هذا، وإن كثر منكم. قال الزجاج: معناه هلاككم أكبر من أن تدعوا مرة واحدة. (قل) يا محمد (أذلك) يعني ما ذكره من السعير (خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت) تلك الجنة (لهم جزاء) على أعمالهم (ومصيرا) أي: مرجعا ومستقرا (لهم فيها ما يشاؤون) ويشتهون من المنافع واللذات (خالدين) مؤبدين لا يفنون فيها (كان على ربك وعدا مسؤولا) قال ابن عباس: معناه أن الله سبحانه وعد لهم الجزاء، فسألوه الوفاء، فوفى. وقيل: معناه أن الملائكة سألوا الله تعالى ذلك لهم، فأجيبوا إلى مسألتهم، وذلك قولهم: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)، عن محمد بن كعب. وقيل: إنهم سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا، وأتاهم ما طلبوا. (ويوم نحشرهم) أي. نجمعهم (وما يعبدون من دون الله) يعني عيسى وعزير والملائكة، عن مجاهد. وقيل: يعني الأصنام، عن عكرمة والضحاك. (فيقول) الله تعالى لهؤلاء المعبودين (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) أي: طريق الجنة والنجاة. (قالوا) يعني المعبودين من الملائكة والإنس، أو الأصنام إذا أحياهم الله وأنطقهم (سبحانك) تنزيها لك عن الشريك، وعن أن يكون معبود سواك (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) أي: ليس لنا أن نوالي أعداءك، بل أنت ولينا من دونهم. وقيل: معناه ما كان يجوز لنا وللعابدين، وما كان يحق لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا، ولا يعبدك، فإنا لو أمرناهم بذلك لكنا واليناهم، ونحن لا نوالي من يكفر بك. ومن قرأ (نتخذ) فمعناه. ما كان يحق لنا أن نعبد. (ولكن متعتهم وآبائهم حتى نسوا الذكر) معناه: ولكن طولت أعمارهم، وأعمار آبائهم، ومتعتهم بالأموال والأولاد بعد موت الرسل، حتى نسوا الذكر المنزل
[ 287 ]
على الأنبياء، وتركوه (وكانوا قوما بورا) أي: هلكى فاسدين. هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين من دون الله. فيقول الله سبحانه عند تبرؤ المعبودين من عبدتهم: (فقد كذبوكم) أي: كذبكم المعبودون أيها المشركون (بما تقولون) أي: بقولكم إنهم آلهة شركاء لله. ومن قرأ بالياء فالمعنى: فقد كذبوكم بقولهم (سبحانك ما كان ينبغي لنا) الآية. (فما يستطيعون صرفا) أي: فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم. (ولا نصرا) لكم بدفع العذاب عنكم. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: فما تستطيعون أيها المتخذون الشركاء صرف العذاب عن أنفسكم، ولا أن تنصروا أنفسكم بمنعها من العذاب. (ومن يظلم منكم) نفسه بالشرك، وارتكاب المعاصي (نذقه) في الآخرة (عذابا كبيرا) أي: شديدا عظيما. ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وما أرسلنا قبلك) يا محمد (من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) قال الزجاج: وهذا احتجاج عليهم في قوله (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) أي: فقل لهم كذلك كان من خلا من الرسل، فكيف يكون محمد بدعا منهم. (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) أي: امتحانا وابتلاء، وهو افتتان الفقير بالغني، يقول: لو شاء الله لجعلني مثله غنيا، والأعمى بالبصير، يقول: لو شاء الله لجعلني مثله بصيرا، وكذلك السقيم بالصحيح، عن الحسن. وقيل: هو ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش، كانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالنا. فقال الله لهؤلاء الفقراء: (أتصبرون) أيها الفقراء على الأذى والإستهزاء. (وكان ربك بصيرا) إن: صبرتم فاصبروا. فأنزل الله فيهم (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) عن مقاتل. وقيل: معناه: أتصبرون أيها الفقراء على فقركم، ولا تفعلون ما يؤدي إلى مخالفتنا. أتصبرون أيها الأغنياء فتشكرون، ولا تفعلون ما يؤدي إلى مخالفتنا. (وكان ربك بصيرا) أي: عليما فيغني من أوجبت الحكمة إغناءه، ويفقر من أوجبت الحكمة إفقاره. وقيل: بصيرا بمن يصبر، وبمن يجزع، عن ابن جريج. * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا
[ 288 ]
لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا [ 21 ] يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا [ 22 ] وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 23 ] أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 24 ] ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [ 25 ] الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 26 ] ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 27 ] يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا [ 28 ] لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا [ 29 ] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 30 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو: (تشقق) خفيفة الشين ههنا، وفي سورة ق. والباقون: (تشقق) مشددة الشين. وقرأ ابن كثير: (ننزل) بنونين خفيفة (الملائكة) بالنصب. والباقون: (ونزل) بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام، و (الملائكة) بالرفع. الحجة: تشقق: أصله تتشقق فأدغم التاء في الشين، والتخفيف أكثر في الكلام، لأن الحذف أخف عليهم من الإدغام. ومن قرأ (وننزل الملائكة تنزيلا): فإن أنزل مثل نزل، ومثله في التنزيل: (وتبتل إليه تبتيلا). فجاء المصدر على فعل. قال الشاعر: " وقد تطويت انطواء الخصب " (1). اللغة: الرجاء. ترقب الخير الذي يقوي في النفس وقوعه، ومثله الطمع والأمل. واللقاء: المصير إلى الشئ من غير حائل. والعتو: الخروج إلى أفحش الظلم. وأصل الحجر: الضيق وسمي الحرام حجرا لضيقه بالنهي عنه. قال المتلمس: (1) قائله: رؤبة، وبعده: " بين قتاد ردهة وشقب " والخصب: ضرب من الحيات، قيل: ويجوز أن يكون أراد الوتر لأنه من معاني الخصب أيضا (*).
[ 289 ]
حنت إلى النخلة القصوى، فقلت لها: * حجر حرام ألا تلك الدهاريس (1) ومنه حجر الكعبة لأنه لا يدخل عليه في الطواف، وإنما يطاف من ورائه لتضييقه بالنهي عنه. والحجر: العقل لما فيه من التضييق في القبيح. والهباء: غبار كالشعاع لا يمكن القبض عليه. وفلان: كناية عن واحد بعينه من الناس، لأنه معرفة. وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العرب: إنهم كنوا عن كل مذكر بفلان، وعن كل مؤنثة بفلانة، فإذا كنوا عن البهائم أدخلوا عليه الألف واللام فقالوا: الفلان والفلانة. الاعراب: (يوم يرون الملائكة): العامل في (يوم) معنى قوله (لا بشرى يومئذ للمجرمين) فإنه يدل على (يحزنون)، و (يومئذ): توكيد (ليوم يرون). ولا يجوز أن يكون (يوم يرون) منصوبا ب‍ (لا بشرى)، لأن ما يتصل بلا لم يعمل فيما قبلها و (حجرا): منصوب لأنه مفعول ثاني لفعل مقدر، وهو: جعل الله عليكم الجنة حجرا محجورا. (أصحاب الجنة يومئذ خير): العامل في (يومئذ خير). (ويوم تشقق): العامل فيه محذوف تقديره: واذكر يوم تشقق. (الملك يومئذ الحق للرحمن): يومئذ من صلة (الملك) الذي هو المصدر. و (الحق): صفة له، والجار والمجرور الذي هو (للرحمن): في موضع خبر المبتدأ الذي هو (الملك). ويجوز أن يكون (يومئذ): ظرفا، وهو بدل من (يوم تشقق)، ويكون العامل فيهما الظرف الذي هو قوله (للرحمن) وإن تقدما عليه. (ويوم يعض): يجوز أن يكون العامل فيه اذكر. ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله. (ويقول): جملة في موضع الحال. (يا ليتني): المنادى محذوف، وتقديره يا صاحبي ليتني. و (يا ويلتا): منادى مضاف أصله يا ويلتي تعالي، فإنه وقتك، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا، لثقل الكسرة والياء، وخفة الفتحة والألف. النزول: قال ابن عباس: نزل قوله (ويوم يعض الظالم) في عقبة بن أبي (1) فاعل حنت: النوق. والدهاريس بمعنى الدواهي. وهذا البيت من قصيدة له قالها بعدما هجا هو وطرفة عمرو بن هند، ملك العراق، فقتل طرفة بيد عامله ببحرين، وهرب المتلمس إلى الشام. وبلغه أن عمرو يقول: لئن وجده بالعراق ليقتلنه. وقصتهما طويلة ذكرها في (الأغاني 21: 127)، و (معجم البلدان 7: 208)، و (مجمع الأمثال 1: 35)، (وأمالي الشريف 1: 183). وغيرها (*).
[ 290 ]
معيط، وأبي بن خلف، وكانا متخالين، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما، فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرسول فقدم من سفره ذات يوم، فصنع طعاما، ودعا الناس، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعامه. فلما قربوا الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وبلغ ذلك أبي بن خلف فقال: صبأت يا عقبة ؟ قال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل علي رجل، فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي، ولم يطعم، فشهدت له فطعم. فقال أبي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه ! ففعل ذلك عقبة، وارتد، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف. فضرب عنقه يوم بدر صبرا (1). وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يوم أحد بيده فن ي المبارزة. وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خديه. وكان أثر ذلك فيه حتى مات. وقيل: نزلت في كل كافر، أو ظالم، تبع غيره في الكفر، أو الظلم، وترك متابعة أمر الله تعالى. وقال أبو عبد الله عليه السلام: ليس رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية، أو آيتان تقوده إلى جنة، أو تسوقه إلى نار، تجري فيمن بعده إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. المعنى: ثم حكى سبحانه عن حال الكفار بقوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) أي: لا يأملون لقاء جزائنا. وهذا عبارة عن إنكارهم البعث والمعاد. وقيل: معناه لا يخافون، فهي لغة تهامة. وهذيل يضعون الرجاء موضع الخوف إذا كان معه جحد، لأن من رجا شيئا خاف فوته، فإنه إذا لم يخف كان يقينا. ومن خاف شيئا رجا الخلاص منه. فوضع أحدهما موضع الآخر. (لولا أنزل علينا الملائكة) أي: هلا أنزل الملائكة ليخبرونا بأن محمد نبي (أو نرى ربنا) فيخبرنا بذلك، ويأمرنا باتباعه وتصديقه. قال الجبائي: وهذا يدل على أنهم كانوا مجسمة، فلذلك جوزوا الرؤية على الله. (1) يقال للرجل إذا شدت يداه ورجلاه، أو أمسكه رجل آخر حتى يضرب عنقه: قتل صبرا (*).
[ 291 ]
ثم أقسم الله عز اسمه فقال: (لقد استكبروا) بهذا القول (في أنفسهم) أي: طلبوا الكبر والتجبر بغير حق (وعتوا) بذلك أي: طغوا وعاندوا (عتوا كبيرا) أي: طغيانا وعنادا عظيما، وتمردوا في رد أمر الله تعالى غاية التمرد. ثم أعلم سبحانه أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، هو يوم القيامة. وأن الله تعالى قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم فقال: (يوم يرون الملائكة) يعني يوم القيامة (بشرى يومئذ للمجرمين) أي: لا بشارة لهم بالجنة والثواب. قال الزجاج. والمجرمون الذين أجرموا الذنوب وهم في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله، عز وجل. (ويقولون حجرا محجورا) أي: ويقول الملائكة لهم حراما محرما عليكم سماع البشرى، عن قتادة والضحاك. وقيل: معناه ويقول المجرمون للملائكة كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل حجرا محجورا دماؤنا، عن مجاهد وابن جريج. قال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم، فيقول: حجرا أي حرام عليك حرمتي في هذا الشهر، فلا يبدأه بشر فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة، فقالوا ذلك، ظنا منهم أنه ينفعهم. وقيل: معناه يقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، عن عطا، عن ابن عباس. وقيل: يقولون حجرا محجورا عليكم أن تتعوذوا فلا معاذ لكم (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) أي: قصدنا وعمدنا، كما في قول الشاعر: وقدم الخوارج الضلال * إلى عباد ربهم فقالوا: إن دماءكم لنا حلال وفي هذا بلاغة عجيبة لأن التقدير: قصدنا إليه قصد القادم على ما يكرهه مما لم يكن رآه قبل، فيغيره. وأراد به العمل الذي عمله الكفار في الدنيا، مما رجوا به النفع والأجر، وطلبوا به الثواب والبر، نحو إنصافهم لمن يعاملهم، ونصرهم للمظلوم، وإعتاقهم وصدقاتهم، وما كانوا يتقربون به إلى الأصنام. (فجعلناه هباء منثورا) وهو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس، عن الحسن ومجاهد وعكرمة. وقيل: هو رهج الدواب (1)، عن ابن زيد. وقيل: هو ما تسفيه الرياح، وتذريه من التراب، عن قتادة وسعيد بن جبير. وقيل: هو الماء المهراق، عن ابن عباس، والمنثور المتفرق، وهذا مثل. والمعنى تذهب أعمالهم باطلا، فلم ينتفعوا بها من (1) الرهج: ما أثير من الغبار (*).
[ 292 ]
حيث عملوها لغير الله. ثم ذكر سبحانه فضل أهل الجنة على أهل النار، فقال: (أصحاب الجنة يومئذ) يعني يوم القيامة (خير مستقرا) أي: أفضل منزلا في الجنة (وأحسن مقيلا) أي: موضع قائلة. قال الأزهري: القيلولة عند العرب الإستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها. وقال ابن عباس، وابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. قالى البلخي: معنى خير وأحسن هنا أنه خير في نفسه، وحسن في نفسه، لا بمعنى أنه أفعل من غيره، كما في قوله: (وهو أهون عليه) أي: هو هين عليه. وكما يقال: الله أكبر، لا بمعنى أنه أكبر من شئ غيره. (ويوم تشقق السماء بالغمام) عطف على قوله: (يوم يرون) المعنى: تتشقق السماء وعليها غمام، كما يقال: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه أي: وعليه سلاحه وثيابه، عن أبي علي الفارسي. وقيل: تتشقق السماء عن الغمام الأبيض، عن الفراء. وإنما تتشقق السماء لنزول الملائكة، وهو قوله: (ونزل الملائكة تنزيلا) وقال ابن عباس. تتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس. ثم تتشقق السماء الثانية، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في السماء الدنيا من الإنس والجن، ثم كذلك، حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها. (الملك يومئذ الحق للرحمن) أي: الملك الذي هو الملك حقا، ملك الرحمن يوم القيامة، ويزول ملك سائر الملوك فيه. وقيل: إن الملك ثلاثة أضرب: ملك عظمة وهو لله تعالى وحده، وملك ديانة وهو بتمليك الله تعالى، وملك جبرية وهو بالغلبة. (وكان يوما على الكافرين عسيرا) أعسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته، ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلوها في دار الدنيا. وفي هذا بشارة للمؤمنين حيث خص بشدة ذلك اليوم الكافرين. (ويرم يعض الظالم على يديه) ندما وأسفا. وقيل هو عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس، على ما مضى ذكره، عن ابن عباس. وقيل: هو عام في كل ظالم نادم يوم القيامة، وكل خليل يخاله غيره في غير ذات الله. قالى عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين، ثم تنبتان ولا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.
[ 293 ]
(يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) أي: ليتني اتبعت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، واتخذت معه سبيلا إلى الهدى (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا) يعني أبيا (خليلا) وقيل: أراد به الشيطان، عن مجاهد. وإن قلنا: إن المراد بالظالم هنا جنس الظلمة، فالمراد به كل خليل يضل عن الدين. ولو قال: لما اتخذ فرعون وهامان وإبليس وجميع المضلين لطال، فقال: فلانا، حتى يتناول كل خليل مضل عن الدين. (لقد أضلني) أي: صرفني وردني (عن الذكر) أي: عن القرآن والإيمان به (بعد إذ جاءني) مع الرسول، وتم الكلام هنا. ثم قال الله: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) لأنه يتبرأ منه في الآخرة، ويسلمه إلى الهلاك، ولا يغني عنه شيئا (وقال الرسول) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، يشكو قومه (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) يعني هجروا القرآن، وهجروني وكذبوني، عن ابن عباس. والمعنى: جعلوه متروكا لا يسمعونه، ولا يتفهمونه. وقيل: إن قوله (وقال الرسول) معناه: ويقول كما في قول الشاعر: مثل، العصافير أحلاما ومقدرة * لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا (1) أي: ما يزنون. * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا [ 31 ] وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 32 ] ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [ 33 ] الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا [ 34 ] ولقد ءاتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا [ 35 ] فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا [ 36 ] وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين (1) قائله: قعنب بن أم صاحب. والزف: صغار الريش. قاله في هجاء قوم وحقرهم (*).
[ 294 ]
عذابا أليما [ 37 ] وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 38 ] وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا [ 39 ] ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا [ 40 ]) *. القراءة: في الشواذ قراءة مسلم بن محارب (فدمرانهم تدميرا) على التأكيد بالنون الثقيلة. وروي ذلك عن علي عليه السلام وعنه: (فدمراهم) وهذا كأنه أمر لموسى وهارون أن يدمراهم. اللغة: العدو: المتباعد عن النصرة للبغضة من عدا يعدو: إذا باعد خطوه. وعدا عليه: باعد خطوه للإيقاع به. وتعدى في فعله: إذا أبعد في الخروج عن الحق، ومنه عدوتا الوادي لأنهما بعداه ونهايتاه. والترتيل: التبيين في تثبيت وترسل. وثغر رتل ورتل بفتح التاء وسكونها: إذا كان مفلجا لا لصص فيه (1). التدمير: الإهلاك لأمر عجيب، ومنه التنكيل. يقال: دمر على فلان: إذا هجم عليه بالمكروه. والرس: البئر التي لم تطو بحجارة ولا غيرها. والتتبير. الإهلاك. والإسم منه التبار، ومنه قيل التبر لقطع الذهب. الاعراب: قال الزجاج: هاديا ونصيرا: منصوب على وجهين أحدهما الحال أي: كفى ربك في حال الهداية، والنصر والآخر: أن يكون منصوبا على التمييز أي: كفى ربك من الهداة والنصار. جملة نصب على الحال معناه مجموعا. و (أحسن) مجرور بالعطف على (الحق). (على وجوههم): في موضع نصب على الحال، وتقديره: يحشرون مكبوبين. (وقوم نوح): منصوب بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر تقديره: أغرقنا قوم نوح. والعامل فيه لما أغرقناهم. (وعادا وثمودا) وما بعد ذلك: عطف على الهاء، والميم في قوله (وجعلناهم). ويجوز أن يكون عطفا على معنى وأعتدنا للظالمين عذابا. ويكون تقديره: وعدنا للظالمين بالعذاب، ووعدنا عادا. (وكلا): منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، المعنى. وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وتبرنا كلا. (مطر السوء): منصوب لأنه مصدر أمطرت تقديره: إمطار السوء. (1) المفلجة من الأسنان. المنفرجة. واللصص تقارب الأسنان (*).
[ 295 ]
المعنى: ثم عزى الله سبحانه نبيه بقوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) أي: وكما جعلنا لك عدوا من مشركي قومك، جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه، عن ابن عباس. والمعنى في جعله إياهم عدوا لأنبيائه: أنه تعالى أمر الأنبياء عليهم السلام أن يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى، وترك ما ألفوه من دينهم، ودين آبائهم، وإلى ترك عبادة الأصنام وذمها، وكانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة، فإذا أمرهم بها فقد جعلهم عدوا لهم. (وكفى بربك هاديا ونصيرا) أي: حسبك بالله هاديا إلى الحق، وناصرا لأوليائه في الدنيا والآخرة على أعدائهم. وقيل: هاديا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالإعتصام بحبله. (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) معناه: وقال الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة. قال الله تعالى: (كذلك) أي: نزلناه كذلك متفرقا (لنثبت به فؤادك) أي: لنقوي به قلبك فتزداد بصيرة، وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل حادثة، وكل أمر، كان ذلك أقوى لقلبه، وأزيد في بصيرته. وقيل: إنما أنزلت الكتب جملة واحدة، لأنها نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، فنزلت عليهم مكتوبة. والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ، ولذلك نزل متفرقا، وأيضا فإن في القرآن الناسخ والمنسوخ. وفيه ما هو جواب لمن سأله عن أمور، وفيه ما هو إنكار لما كان. وفيه ما هو حكاية شئ جرى. فاقتضت الحكمة إنزاله متفرقا. (ورتلناه ترتيلا) أي: بيناه تبيينا، ورسلناه ترسيلا، بعضه في أثر بعض، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: فصلناه تفصيلا، عن السدي. وقيل. فرقناه تفريقا، عن النخعي. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا بن عباس ! إذا قرأت القرآن فرتله ترتيلا. قال: وما الترتيل ؟ قال. (بينه تبيينا، ولا تنثره نثر - الدقل، ولا تهذه هذ الشعر (1)، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة (ولا يأتونك بمثل) أي: ولا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك (إلا جئناك بالحق) الذي يبطله ويدحضه (وأحسن تفسيرا) أي: (1) الدقل: ردئ التمر ويابسه، وما ليس له إسم خاص، فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع، ويكون منثورا. والهذ: سرعة القراءة. (*)
[ 296 ]
وبأحسن تفسيرا مما أتوا به من المثل أي: بيانا وكشفا. (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) أي: يسحبون على وجوههم إلى النار، وهم كفار مكة، وذلك أنهم قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم شر خلق الله، فقال الله سبحانه: (أولئك شر مكانا) أي: منزلا ومصيرا. (وأضل سبيلا) أي: دينا وطريقا من المؤمنين. وروى أنس أن رجلا قال: يا نبي الله ! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " أورده البخاري في الصحيح. ثم ذكر سبحانه حديث الأنبياء أممهم، تسلية للنبي فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة (وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) أي: معينا يعينه على تبليغ الرسالة، ويتحمل عنه بعض أثقاله. (فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) يعني فرعون وقومه وفي الكلام حذف أي: فذهبا إليهم، فلم يقبلوا منهما، وجحدوا نبوتهما. (فدمرناهم تدميرا) أي: أهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة. (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم) أي: وأغرقنا قوم نوح بالطوفان، وهو مجئ السماء بماء منهمر، وتفجير الأرض عيونا، حتى التقى الماء على أمر قد قدر. قال الزجاج: من كذب نبيا فقد كذب بجميع الأنبياء. (وجعلناهم للناس آية) أي: عبرة وعظة (وأعتدنا) أي: وهيأنا (للظالمين عذابا أليما) سوى ما حل بهم في الدنيا (وعادا وثمود) أي: وأهلكنا عادا وثمود (وأصحاب الرس) وهو بئر رسوا فيها نبيهم أي: ألقوه فيها، عن عكرمة. وقيل: إنهم كانوا أصحاب مواش، ولهم بئر يقعدون عليها، وكانوا يعبدون الأصنام. فبعث الله إليهم شعيبا، فكذبوه فانهار البئر، وانخسفت بهم الأرض، فهلكوا، عن وهب. وقيل: الرس قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيهم فأهلكهم الله، عن قتادة. وقيل: كان لهم نبي يسمى حنظلة، فقتلوه فأهلكوا، عن سعيد بن جبير والكلبي. وقيل: هم أصحاب رس. والرس: بئر بأنطاكية، قتلوا فيها حبيبا النجار، فنسبوا إليها، عن كعب ومقاتل. وقيل: أصحاب الرس كان نساؤهم سحاقات، عن أبي عبد الله عليه السلام. (وقرونا بين ذلك كثيرا) أي: وأهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد وأصحاب الرس على تكذيبهم. وقيل: بين نوح وأصحاب الرس. والقرن: سبعون سنة.
[ 297 ]
وقيل: أربعون سنة، عن إبراهيم. (وكلا ضربنا له الأمثال) أي: وكلا بينا لهم أن العذاب نازل بهم، إن لم يؤمنوا، عن مقاتل. وقيل: معناه بينا لهم الأحكام في الدين والدنيا. (وكلا تبرنا تتبيرا) أي: وكلا أهلكنا إهلاكا على تكذيبهم وجحودهم. قال الزجاج: كل شئ كسرته وفتته فقد تبرته. (ولقد أتوا) يعني كفار مكة (على القرية التي أمطرت مطر السوء) يعني قرية قوم لوط أمطروا بالحجارة (أفلم يكونوا يرونها) في أسفارهم إذا مروا بها فيخافوا ويعتبروا (بل كانوا لا يرجون نشورا) يعني: بل رأوها، وإنما لم يعتبروا بها، لأنهم كانوا لا يخافون البعث. وقيل: لا يأملون ثوابا. ولا يؤمنون بالنشأة الثانية، فركبوا المعاصي. * (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا [ 41 ] إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 42 ] أرءيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا [ 43 ] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [ 44 ] ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا [ 45 ] ثم قبضنه إلينا قبضا يسيرا [ 46 ] وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 47 ] وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ 48 ] لنحى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 49 ] ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 50 ]) *. القراءة: قرأ البرجمي: (نسقيه) بفتح النون. والباقون: (نسقيه) بضم النون. وفي الشواذ قراءة الأعرج: (من اتخذ الألاهة هواه). وقراءة ابن السميقع: (الرياح بشرى). الحجة: قد مضى الفرق بين نسقي ونسقى، فيما تقدم (1). الألاهة: (1) يعني في سورة النحل فراجع ج 3 من هذه الطبعة (*).
[ 298 ]
الشمس. وقيل ألهة بالضم غير مصروفة، وأنشد: تروحنا من اللعباء عصرا * وأعجلنا الألاهة أن تؤوبا (1) ويروى: " وأعجلنا الإلاهة ". ومن قرأ: (وألاهتك) فمعناه: وعبادتك. وقد يجوز أن يكون أراد هذه المعرفة، فأضافها إليه لعبادته لها، فيكون كقولك ويذرك وشمسك أي: والشمس التي تعبدها. ومن قرأ (بشرى): فهو مصدر وضع موضع الحال أي: مبشرة كقولهم: هلم جرا أي. جارا، أو منجرا، ويأتينك سعيا. وقد ذكرنا الإختلاف بين القراء فيه، وما لهم من الإحتجاج في كل وجه منه في سورة الأعراف، وذكرنا اختلافهم في (ليذكروا) في سورة بني إسرائيل. اللغة: القبض. جمع الأجزاء المنبسطة. واليسير: السهل القريب. واليسير أيضا: نقيض العسير. وأيسر الرجل: ملك من المال ما تتيسر به الأمور عليه. وقيل: اليد اليسرى لأنه يتيسر بها العمل مع اليمنى. وتياسر: أخذ في جهة اليد اليسرى. والسبات: قطع العمل، ومنه سبت رأسه يسبته سبتا: إذا حلقه. ومنه يوم السبت: وهو يوم قطع العمل. والنشر: خلاف الطي. وأناسي: جمع إنسان جعلت الياء عوضا عن النون، وقد قالوا أيضا: أناسين. وقد يجوز أيضا أن يكون جمع إنسي فيكون مثل كرسي وكراسي. الاعراب: (أهذا الذي بعث الله رسولا): العائد من الصلة إلى الموصول محذوف لطول الكلام أي: بعثه الله. (رسولا): منصوب على الحال من الهاء المحذوفة. و (إن كاد ليضلنا) إن مخففة، وإسمه محذوف تقديره: إنه كاد، وهو ضمير الأمر والشأن. واللام في (ليضلنا): لام التأكيد التي تقع في خبر إن. (كيف مد الظل): كيف في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في مد. والتقدير: أمبدعا مد الظل أم لا. ويجوز أن يكون في موضع المصدر، والتقدير: أي مد مد الظل. وقال الزجاج: الأجود أن يكون. " ألم تر " من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين. و (بشرا): نصب على الحال في الوجوه كلها من الرياح، والعامل فيه (أرسل). (مما خلقنا). الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. (1) قيل: إن الشعر لمية بنت عتبة، وهي أم البنين (*).
[ 299 ]
المعنى: ثم حكى سبحانه عن الكفار الذين وصفهم فيما تقدم، فقال: (وإذا رأوك) أي: وإذا شاهدوك يا محمد (إن يتخذونك إلا هزوا) أي: ما يتخذونك إلا مهزوا به، والمعنى أنهم يستهزئون بك، ويستصغرونك، ويقولون على وجه السخرية: (أهذا الذي بعث الله رسولا) أي: بعثه الله إلينا رسولا (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا) قال ابن عباس: معناه لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا، وتأويله: قد قارب أن يأخذ بنا في غير جهة عبادة آلهتنا، على وجه يؤدي إلى هلاكنا، فإن الإضلال: الأخذ بالشئ إلى طريق الهلاك. (لولا أن صبرنا عليها) أي: على عبادتها، لأزلنا عن ذلك. وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه. فقال سبحانه متوعدا لهم: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب) الذي ينزل بهم في الآخرة عيانا (من أضل سبيلا) أي: من أخطأ طريقا عن الهدى، أهم أم المؤمنون. ثم عجب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من نهاية جهلهم، فقال: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) أي: من جعل إلهه ما يهواه، وهو غاية الجهل. وكان الرجل من المشركين يعبد الحجر والصنم، فإذا رأى أحسن منه، رمى به وأخذ يعبد الآخر، عن سعيد بن جبير. وقيل: معناه أرأيت من ترك عبادة خالقه وإلهه، ثم هوى حجرا فعبده، ما حاله عندك، عن عطاء، عن ابن عباس. وقيل: من أطاع هواه واتبعه، فهو كالإله، وترك الحق، عن القتيبي. (أفأنت تكون عليه وكيلا) أي: أفأنت كفيل حافظ يحفظه من أتباع هواه، وعبادة ما يهواه من دون الله أي: لست كذلك. وقيل: معناه أتقدر أنت يا محمد أن تهديه إذا لم يتدبر، ولم يتفكر أي: لا تقدر على ذلك، لأن الوكيل هو الكافي للشئ، ولا يكون كذلك إلا وهو قادر عليه. ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أم تحسب) يا محمد (أن أكثرهم يسمعون) ما تقوله سماع طالب للإفهام (أو يعقلون) ما تقوله لهم، وتقرأ عليهم، وما يعاينونه من المعجزات والحجج أي: لا تظن ذلك (إن هم إلا كالأنعام) أي: ما هم إلا كالبهائم التي تسمع النداء ولا تعقل (بل هم أضل سبيلا) من الأنعام، لأنهم مكنوا من المعرفة، فلم يعرفوا. والأنعام لم يمكنوا منها، ولأن الأنعام ألهمت منافعها ومضارها، فهي لا تفعل ما يضرها، وهؤلاء عرفوا طريق الهلاك والنجاة، وسعوا في هلاك أنفسهم، وتجنبوا سبيل نجاتهم، فهم أضل منها. ثم نبه سبحانه على النظر فيما يدل على وحدانيته، وكمال قدرته فقال: (ألم تر) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به سائر المكلفين (إلى ربك كيف مد الظل)
[ 300 ]
أي: ألم تر إلى فعل ربك، ثم حذف المضاف، عن مقاتل. وقيل: معناه ألم تعلم فيكون مات رؤية القلب، عن الزجاج. وذكر أن هذا على القلب، وتقديره: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك، يعني الظل من وقت طلوج الفجر إلى طلوع الشمس، عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير. وجعله ممدودا لأنه لا شمس معه، كما قيل في ظل الجنة ممدودا إذ لم تكن معه الشمس. وقال أبو عبيدة: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفئ ما نسخ الشمس وهو بعد زوال الشمس. ويسمى فيئا لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب. وقيل مد الظل من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها، فيكون الظل بالليل، لأنه ظل الأرض، عن الجبائي والبلخي. (ولو شاء لجعله ساكنا) أي: مقيما دائما لا يزول، ولا تنسخه الشمس. يقال: فلان يسكن بلد كذا: إذا أقام به. فهو مثل قول سبحانه: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة) الآية. في المعنى وفي هذا إشارة إلى أنه قادر على تسكين الشمس، حتى يبقى الظل ممدودا بخلاف ما يقوله الفلاسفة. (ثم جعلنا الشمس عليه) أي: على الظل (دليلا) قال ابن عباس: تدل الشمس على الظل بمعنى: أنه لولا الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، وكل الأشياء تعرف بأضدادها. وقيل: معناه ثم جعلنا الشمس عليه دليلا بإذهابها إياه عند مجيئها، عن ابن زيد. وقيل: لأن الظل يتبع الشمس في طوله وقصره، كما يتبع السائر الدليل، فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل، وإذا انحطت الشمس طال الظل. وقيل: إن على هنا بمعنى مع، فالمعنى: ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا. (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) أي: قبضنا الظل بارتفاع الشمس، لأن الشمس كلما تعلو ينقص الظل، فجعل سبحانه ذلك قبضا. وأخبر أن ذلك يسير، بمعنى أنه سهل عليه، لا يعجزه. قال الكلبي: إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضا خفيا، والمعنى: ثم جمعنا أجزاء الظل المنبسط بتسليط الشمس عليه، حتى ننسخها شيئا فشيئا. وقيل: معناه ثم قبضنا الظل بغروب الشمس إلينا أي: إلى الموضع الذي حكمنا بكون الظل فيه. قبضا يسيرا أي: خفيا. وإنما قيل ذلك، لأن الظل لا يذهب بغروب الشمس دفعة، بل يذهب جزءا فجزءا بحدوث الظلام. فكلما حدث جزء من الظلام نقص جزء من الظل.
[ 301 ]
(وهو الذي جعل لكم الليل لباسا) أي: غطاء ساترا للأشياء بالظلام، كاللباس الذي يشتمل على لابسه. فالله سبحانه ألبسنا الليل، وغشانا به، لنسكن ونستريح من كد الأعمال، كما قال في موضع آخر (لتسكنوا فيه). (والنوم سباتا) أي: راحة لأبدانكم، وقطعا لأعمالكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه. (وجعل النهار نشورا) لانتشار الروح باليقظة فيه، مأخوذ من نشور البعث. وقيل: لأن الناس ينتشرون فيه لطلب حوائجهم ومعايشهم، فيكون النشور هنا بمعنى التفرق لابتغاء الرزق، عن ابن عباس. (وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " مضى الكلام فيه في سورة الأعراف. (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) أي: طاهرا في نفسه ومطهرا لغيره، مزيلا للأحداث والنجاسات. (لنحيي به بلدة ميتا) قد مات بالجدب، وأراد بالبلدة. البلد، أو المكان. فلذلك قال (ميتا) بالتذكير، والمعنى: لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت. قال ابن عباس: لنخرج به النبات والثمار (ونسقيه مما خلقنا أنعاما) أي: ولنسقي من ذلك الماء أنعاما جمة، أو نجعله سقيا لأنعام (وأناسي كثيرا) أي: أناسا كثيرة. (ولقد صرفناه) أي: صرفنا المطر (بينهم)، يدور في جهات الأرض. وقيل: قسمناه بينهم يعني المطر، فلا يدوم على مكان فيهلك، ولا ينقطع عن مكان فيهلك. ويزيد لقوم، وينقص لاخرين على حسب المصلحة. (ليذكروا) أي: ليتفكروا ويستدلوا به على سعة مقدورنا، ولأنه لا يستحق العبادة غيرنا (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) أي: جحودا لما عددناه من النعم وإنكارا، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، عن عكرمة. وقيل: فأبوا إلا كفورا بالبعث والنشور. * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [ 51 ] فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا [ 52 ] وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا [ 53 ] وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا [ 54 ] ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا [ 55 ] وما أرسلناك إلا
[ 302 ]
مبشرا ونذيرا [ 56 ] قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 57 ] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا [ 58 ] الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسأل به خبيرا [ 59 ] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا [ 60 ]) * القراءة: قرأ حمزة والكسائي: (لما يأمرنا) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ بالتاء قال: إنهم تلقوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم بالرد، وزادهم أمره إياهم بالسجود نفورا عما أمروا به. ومن قرأ بالياء فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود على وجه الإنكار منهم لذلك، ولا يكون أنسجد لما يأمرنا الرحمن بالسجود له، لأنهم أنكروا الرحمن تعالى بقولهم: (وما الرحمن). وأقول: إذا جعلت ما بمعنى الذي على ما ذكره فالتقدير: أنسجد لما يأمرنا بالسجود له، وترتيب الحذف فيه على الوجه الذي تقدم بيانه في قوله سبحانه: (فاصدع بما تؤمر). فلا وجه لإعادته (1). وإن جعلت ما مصدرية فإنك لا تحتاج إلى حذف شئ، ويكون تقديره: أنسجد لأمرك، أو لأمره. اللغة: أصل المرج: الخلط، ومنه أمر مريج أي: مختلط. وفي الحديث: " مرجت عهودهم " أي: اختلطت. ومرجت الدابة وأمرجتها: إذا خليتها ترعى. وعذب الماء عذوبة فهو عذب. والفرات أعذب المياه، يقال: فرت الماء يفرت فروتة فهو فرات: إذا عذب. والملح الأجاج: الشديد الملوحة. والنسب: ما يرجع إلى ولادة قريبة. والصهر: خلطة تشبه النسب. القرابة والمصاهرة في النكاح: المقاربة. وفي الحديث: " كان يؤسس (مسجد قبا) فيصهر الحجر العظيم إلى بطنه " أي: يدنيه يقال: صهره وأصهره. الاعراب: (هذا عذب فرات): مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال، وكذلك قوله: (وهذا ملح أجاج) بالعطف عليه. وذو الحال أحد البحرين. (مبشرا 1 - راجع في سورة الحجر آية: 94 (*).
[ 303 ]
ونذيرا): نصب على الحال. (من شاء). نصب على الإستثناء، والمستثنى منه الكاف والميم في (أسألكم). و (أن يتخذ): في موضع نصب بأنه مفعول شاء. (الذي خلق السماوات والأرض). في موضع جر تقديره: وتوكل على الحي الذي لا يموت، خالق السماوات والأرض. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أو رفع على المدح والثناء، على تقدير: أعني الذي خلق، أو هو الذي خلق. و (الرحمن): بالرفع القراءة. وورد عن بعضهم في الشواذ بالجر، ففي الرفع وجوه أحدها: الإبتداء، وخبره (فأسأل به)، عن الزجاج. وفيه نظر، لأن الفاء إنما يجوز في خبر ما فيه الألف واللام، إذا جاز فيه معنى الشرط. ولا يصح ذلك هنا. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هو الرحمن والثالث: أن يكون بدلا من الضمير المستكن في (استوى). والرابع: أن يكون فاعل (استوى). وأما الجر فعلى أن يكون صفة وتقديره، وتوكل على الحي الخالق الرحمن. و (نفورا): مفعول ثان لزاد. المعنى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) ينذرهم، ولكن بعثناك يا محمد إلى القرى كلها، رسولا لعظيم منزلتك لدينا. والنذير: هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب. وقيل: إنه إخبار عن قدرته سبحانه، والمعنى: لو شئنا لقسمنا بينهم النذر، كما قسمنا الأمطار بينهم، ولكنا نفعل ما هو الأصلح لهم، والأعود عليهم في دينهم ودنياهم، فبعثناك إليهم كافة. (فلا تطع الكافرين) فيما يدعونك إليه من المداهنة والإجابة إلى ما يريدون. (وجاهدهم) في الله (به) أي: بالقرآن، عن ابن عباس (جهادا كبيرا) أي: تاما شديدا. وفي هذا دلالة على أن من أجل الجهاد وأعظمه منزلة عند الله سبحانه، جهاد المتكلمين في حل شبه المبطلين، وأعداء الدين. ويمكن أن يتأول عليه قوله: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر). (وهو الذي مرج البحرين) أي: أرسلهما في مجاريهما وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج، وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح، وهو قوله: (هذا) يعني أحد البحرين (عذب فرات) أي: طيب شديد الطيب (وهذا ملح أجاج) شديد الملوحة. وقيل: الفرات البارد، والأجاج الحار. وقيل: الأجاج المر، عن قتادة. (وجعل بينهما برزخا) أي: حجابا وحاجزا من قدرة الله تعالى
[ 304 ]
يمنعهما من الإختلاط. (وحجرا محجورا) أي: حراما محرما أن يفسد الملح العذب (وهو الذي خلق من الماء بشرا) أي: خلق من النطفة إنسانا. وقيل: أراد به آدم عليه السلام، فإنه خلق من التراب الذي خلق من الماء. وقيل: أراد به أولاد آدم فإنهم المخلوقون من الماء. (فجعله نسبا وصهرا) أي: فجعله ذا نسب وصهر. والصهر: حرمة الختونة. وقيل: النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر: النسب الذى يحل نكاحه كبنات العم والخال، عن الفراء. وقيل: النسب سبعة أصناف، والصهر، خمسة، ذكرهم الله في قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم)، عن قتادة، والضحاك. وقد تقدم بيانه في سورة النساء. وقيل: النسب البنون. والصهر البنات اللاتي يستفيد الإنسان بهن الأصهار، فكأنه قال: فجعل منه البنين والبنات. وقال ابن سيرين. نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب. زوج فاطمة عليها السلام عليا عليه السلام فهو ابن عمه، وزوج ابنته، فكان نسبا وصهرا. (وكان ربك قديرا) أي: قادرا على ما أراد. ثم أخبر سبحانه عن الكفار فقال: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم) من الأصنام والأوثان (وكان الكافر على ربه ظهيرا) الظهير: العون والمعين أي: معينا للشيطان على ربه بالمعاصي، عن الحسن ومجاهد. وقال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، فإن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان. وقيل: ظهيرا أي: هينا كالمطرح من قولهم: ظهر فلان بحاجته: إذا جعلها خلف ظهره، فلم يلتفت إليها، واستهان بها. والظهير: بمعنى المظهور، وهو المتروك المستخف به. ومنه قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) والأول أوجه. وقالوا: عنى بالكافر أبا جهل. (وما أرسلناك) يا محمد (إلا مبشرا) بالجنة (ونذيرا) من النار. وقد سبق معناه (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (ما أسئلكم عليه) أي: على القرآن وتبليغ الوحي (من أجر) تعطونيه (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) بإنفاقه ماله في طاعة الله، واتباع مرضاته، والمعنى: إني لا أسألكم لنفسي أجرا، ولكني لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله سبحانه، بل أرغب فيه، وأحث عليه. وفي هذا تأكيد لصدقه، لأنه له طلب على تبليغ الرسالة أجرا، لقالوا: إنما يطلب أموالنا. (وتوكل على الحي الذي لا يموت) أي: فوض أمورك إليه، فإنه ينتقم لك
[ 305 ]
ولو بعد حين، فإنه الحي الذي لا يموت، فلن يفوته الإنتقام. (وسبح بحمده) أي: احمده منزها له عما لا يجوز عليه في صفاته بأن تقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمه وإحسانه الذي لا يقدر عليه غيره. الحمد لله حمدا يكافئ نعمه في عظيم المنزلة، وعلو المرتبة. وما أشبه ذلك. وقيل: معناه واعبده وصل له شكرا منك له على نعمه. (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) أي: عليما فيحاسبهم، ويجازيهم بها. فحقيق بهم أن يخافوه، ويراقبوه (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما) أي: ما بين هذين الصنفين (في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن) قد سبق تفسيره في سورة الأعراف. (فسئل به خبيرا) اختلف في تأويله فقيل: إن المعنى فاسأل عنه خبيرا. والباء بمعنى عن. والخبير ههنا هو الله تعالى، عن ابن جريج. وأنشد في قيام (الباء) مقام (عن) قول علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني * خبير بأدواء النساء طبيب يردن ثراء المال حيث وجدنه، * وشرخ الشباب عندهن عجيب (1) إذا شاب رأس المرء، أو قل ماله، * فليس له في ودهن نصيب وقول الأخطل: دع المعمر لا تسأل بمصرعه، * واسأل بمصقلة البكري ما فعلا وقيل: إن الخبير هنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى ليسأل كل منكم عن الله تعالى محمدا فإنه الخبير العارف به. قيل: إن الباء على أصلها، والمعنى: فاسأل بسؤالك أيها الإنسان خبيرا يخبرك بالحق في صفته. ودل قوله (فاسأل) على السؤال، كما قالت العرب: " من كذب كان شرا له " أي: كان الكذب شرا له. ودل عليه كذب. وقد مر ذكر أمثاله. وقيل: إن الباء فيه مثل الباء في قولك: لقيت بفلان ليثا: إذا وصفت شجاعته، ولقيت به غيثا: إذا وصفت سماحته. والمعنى أنك إذا رأيته رأيت الشئ المشبه به، والمعنى: فاسأله عنه فإنه لخبير به. وروي أن اليهود حكوا عن ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر الله تعالى عنه، فقال سبحانه: (فاسأل به خبيرا) (1) الثراء: كثرة المال. وشرخ الشباب: أوله. (*)
[ 306 ]
قال نفطويه: أي سلني عنه فإنك تسأل بسؤالك (1) خبيرا. (وإذا قيل لهم) أي: لهؤلاء المشركين (اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) أي وأي شئ الرحمن، والمعنى: إنا لا نعرف الرحمن. قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله عز اسمه، مذكور في الكتب الأولى، ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله، فقيل لهم: إنه من أسماء الله ومعناه عند أهل اللغة: ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة، لأن فعلان من أبنية المبالغة، تقول: رجل ريان وعطشان في النهاية من الري والعطش، وفرحان وجذلان: إذا كان في النهاية من الفرح والجذل. (أنسجد لما تأمرنا) مر تفسيره (وزادهم نفورا) أي: زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان، عن مقاتل. والمعنى أنهم ازدادوا عند ذلك نفورا عن الحق وقبول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها: أن فيها إخبارا أنه سبحانه أفرده بالإرسال مراعاة لحسن التدبير في تمييزه بالإكرام والإجلال، لعلمه بما فيه من الخلال الموجبة في الحكمة إرساله إلى الخلق على غاية الكمال. فعلى هذا يتعلق بقوله: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا). ثم ذكر من التصريف للآيات بقوله (وهو الذي مرج البحرين) ما يدل على وحدانيته، وكمال قدرته. ثم عجب سبحانه من إعراضهم عن الآيات، مع وضوحها وظهورها، ومقابلتهم لنعمه بالكفران بقوله: (ويعبدون من دون الله) الآية. ثم بين أنه أراد بتصريف الآيات الخير والإحسان بقوله: (وما أرسلناك) الآية. ثم بين أنه لا يسألهم عليه أجرا لئلا ينفروا عنه. ثم بين سبحانه أنه كما لا يسألهم أجرا، إنه يتوكل عليه في أمره، ويفوض إليه علم المصالح فيما كلفه. ثم هدد سبحانه عباده بقوله: (وكفى به بذنوب عباده خبيرا) فإنه إذا لم يذهب عليه ذنوبهم، لا يذهب عليه جزاؤهم. * (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 61 ] وهو الذى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [ 62 ] وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون (1) [ إياي ] (*).
[ 307 ]
قالوا سلاما [ 63 ] والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما [ 64 ] والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما [ 65 ] إنها ساءت مستقرا ومقاما [ 66 ] والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 67 ] والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 68 ] يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا [ 69 ] إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [ 70 ]) * القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (سرجا) بضمتين من غير ألف. والباقون: (سراجا). وقرأ حمزة وخلف: (أن يذكر) خفيفا. والباقون: (يذكر) بتشديدتين. وقرأ أهل المدينة وابن عامر: (يقتروا) بضم الياء. وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء. وقرأ أهل البصرة وابن كثير بفتح الياء وكسر التاء. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب وسهل: (يضعف له العذاب) بالتشديد والجزم، (ويخلد) بالجزم. وقرأ ابن عامر: (يضعف) بالتشديد والرفع، (ويخلد) بالرفع. وقرأ أبو بكر: (يضاعف) بالألف والرفع (ويخلد) بالرفع. وقرأ نافع وأبو عمرو وأهل الكوفة إلا أبا بكر: (يضاعف) بالألف والجزم. (ويخلد) بالجزم. وقرأ ابن كثير وحفص: (فيهي مهانا) بإشباع كسرة الهاء، وذلك مذهب ابن كثير في جميع القرآن، ووافقه حفص في هذا الموضع فقط. وقرأ (يبدل الله) بسكون الباء البرجمي، عن أبي بكر مختلفا عنه. والباقون بالتشديد. الحجة: من قرأ (سراجا) فحجته قوله: (وجعل فيها سراجا). ومن قرأ (سرجا) فحجته قوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) فشبهت الكواكب بالمصابيح، كما شبهت المصابيح بالكواكب في قوله: (الزجاجة كأنها كوكب دري). وإنما المصباح الزجاجة في المعنى، وقد سبق القول في يذكر ويذكر فيما مضى. والإقتار: الإيسار. قال الشاعر:
[ 308 ]
لكم مسجد الله المزوران والحصى، * لكم قبصه من بين أثرى وأقترا (1) تقديره من بين رجل أثرى، ورجل أقترا. فأقام الصفة مقام الموصوف. ومثله في التنزيل: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق). قال أبو علي: يجوز أن يكون على قبيل مردوا مثل قوله: (ومن آياته يريكم البرق). وأما قتر يقتر ويقتر فمثل عكف يعكف ويعكف، وعرش يعرش ويعرش. فمن ضم الياء أراد لم يقتروا في إنفاقهم، لأن المسرف مشرف على الإقتار. ومن فتح الياء فالمعنى لم يضيقوا في الإنفاق. ومن قرأ يضاعف بالجزم. جعه بدلا من الفعل الذي هو جزاء الشرط، وهو قوله. (يلق أثاما). وذلك أن تضعيف العذاب هو لقي جزاء الأثام في المعنى، ومثله قول الشاعر. إن يجبنوا، أو يغدروا، أو يبخلوا، لا يحفلوا، * يغدوا عليك مرجلين كأنهم لم يفعلوا فغدوهم مرجلين في المعنى ترك الإحتفال. وقد أبدل من الشرط كما أبدل من الجزاء، وذلك في قول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا، ونارا تأججا (2) فأبدل تلمم من تأتنا، لأن الإلمام إتيان في المعنى. قال أبو علي: ومثل حذف الجزاء الذي هو مضاف في المعنى في قوله (يلق أثاما)، أي: جزاء أثام قوله: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم) المعنى: من جزاء ما كسبوا. وقال أبو عبيدة: (يلق أثاما) أي: عقوبة، وأنشد لمسافع الليثي: جزى الله ابن عروة حيث أمسى * عقوقا، والعقوق له أثام قال: وابن عروة رجل من ليث، كان دل عليهم ملكا من غسان، فأغار عليهم. قال أبو علي: ويمكن أن يكون هذا من قول بشر: (1) قائله الكميت. وأراد من قوله " مسجد الله " مسجد مكة، ومسجد المدينة. " والحصى ": أراد به العدد العديد من الأهل والتبع. والقبص، بمعنى العدد الكثير من الناس. والضمير قي " قبصه " يعود إلى الحصى، يقال: إن بني فلان لفي قبص الحصى. (2) الشعر في (جامع الشواهد) (*).
[ 309 ]
فكان مقامنا ندعو عليهم * بأسفل ذي المجاز له أثام (1) ومن رفع يضاعف ويخلد قطعه عما قبله واستأنف. وأما يضاعف ويضعف فهما في المعنى سواء وكذلك يبدل ويبدل. اللغة: قال أبو عبيدة: الخلفة كل شئ بعد شئ الليل خلفة النهار، والنهار خلفة الليل، لأن أحدهما يخلف الآخر. قال زهير: بها العين والآرام، يمشين خلفة، * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (2) والهون: مصدر الهين في السكينة والوقار. والغرام: أشد العذاب وهو اللازم الملح ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه. وفلان مغرم بالنساء أي: ملازم لهن، لا يصبر عنهن. قال بشر بن أبي حازم. ويوم النسار، ويوم الجفار، كانا عذابا، وكانا غراما (3) وقال آخر. إن يعاقب يكن غراما، وإن يعط * جزيلا فإنه لا يبالي الاعراب: (الذين يمشون): خبر المبتدأ الذي هو (عباد الرحمن). ويجوز أن يكون خبره (أولئك يجزون الغرفة)، ويكون (الذين يمشون) صفة العباد. و (هونا): في موضع الحال. و (سلاما): نصب على المصدر بفعل محذوف، وتقديره. فنسلم منكم سلاما لا نجاهلكم، كأنهم قالوا تسلما منكم. و (مستقرا ومقاما): منصوبان على التمييز، والمخصوص بالذم محذوف، وتقديره: ساءت مستقرا جهنم. (وكان بين ذلك قواما) أي: كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار. فقوله (بين ذلك) تبيين لقوام. وإن شئت علقته بنفس كان. وإن شئت (1) في (اللسان) " بأبطع ذي المجاز ". وذو المجاز: موضع سوق خلف العرفة بفرسخ، كانت تقوم في الجاهلية ثمانية أيام. (2) هذا بيت من معلقته الشهيرة يصف دارا. وبها العين أي: البقر العين. فحذف الموصوف. والعين: جمع عيناء واسعة العين. والأرام: جمع ريم الظبي الأبيض والأطلاء جمع طلا: ولد الظبية، والجثوم: القعود. (3) النسار والجفار: موضعان وقعت فيهما حروب للعرب (*).
[ 310 ]
علقته بخبر كان أي: ثابتا بين ذلك فيكون خبرا بعد خبر، المعنى: ثم مدح سبحانه نفسه بأن قال: (تبارك) وقد مر معناه في أول السورة. (الذي جعل في السماء بروجا) يريد منازل النجوم السبعة السيارة التي هي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، وهي إثنا عشر برجا: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وقيل: هي النجوم الكبار، عن الحسن ومجاهد وقتادة. وسميت بروجا لظهورها. (وجعل فيها سراجا) يعني الشمس. ومن قرأ (سرجا) أراد الشمس والكواكب معها. (وقمرا منيرا) أي: مضيئا بالليل إذا لم تكن شمس (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) أي: يخلف كل واحد منهما صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه. فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار، ومن فاته عمل النهار استدركه بالليل، وهو قوله لمن أراد أن يذكر، عن عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تقضي صلاة النهار بالليل، وصلاة الليل بالنهار. وقيل: معناه إنه جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه، فجعل أحدهما أسود، والآخر أبيض، عن مجاهد. (لمن أراد أن يذكر) أي: يتفكر، ويستدل بذلك على أن لهما مدبرا ومصرفا لا يشبههما، ولا يشبهانه، فيوجه العبادة إليه (أو أراد شكورا) يقال: شكر يشكر شكرا وشكورا أي: أراد شكر نعمة ربه عليه فيهما. وعلى القول الأول فمعناه: أو أراد النافلة بعد أداء الفريضة. (وعباد الرحمن) يريد: أفاضل عباده. وهذه إضافة التخصيص والتشريف، كما يقال: إبني من يطيعني أي: إبني الذي أنا عنه راض، ويكون توبيخا لأولاده الذين لا يطيعونه. (الذين يمشون على الأرض هونا) أي: بالسكينة والوقار والطاعة، غير أشرين، ولا مرحين، ولا متكبرين، ولا مفسدين، عن ابن عباس ومجاهد. وقال أبو عبد الله عليه السلام: هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها، لا يتكلف ولا يتبختر. وقيل: معناه حلماء علماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم، عن الحسن. وقيل: أعفاء أتقياء، عن الضحاك. (وإذا خاطبهم الجاهلون) بما يكرهونه أو يثقل عليهم (قالوا) في جوابه (سلاما) أي: سدادا من القول لا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش، عن مجاهد. وقيل: سلاما أي: قولا يسلمون فيه من الإثم، أو سلموا عليهم دليله قوله: (وإذا
[ 311 ]
سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم). وقال قتادة: كانوا لا يجاهلون أهل الجهل. وقال ابن عباس: لا يجهلون مع من يجهل. قال الحسن: هذه صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وليلهم خير ليل، إذا خلوا فيما بينهم، وبين ربهم، يراوحون بين أطوافهم، وهو قوله (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، والمعنى: يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ساجدين وقائمين، طالبين لثواب ربهم، فيكونون سجدا في مواضع السجود، وقياما في مواضع القيام. (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) أي: يدعون بهذا القول وغراما أي لازما ملحا دائما غير مفارق. (إنها ساءت مستقرا ومقاما) أي: إن جهنم بئس موضع قرار وإقامة هي. (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) واختلف في معنى الإسراف فقيل: هو النفقة في المعاصي. والإقتار: الإمساك عن حق الله تعالى، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: السرف مجاوزة الحد في النفقة. والإقتار: التقصير عما لا بد منه، عن إبراهيم النخعي. وروي عن معاذ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: " من أعطى في غير حق فقد أسرف، ومن منع عن حق فقد قتر ". وروي عن أمير المؤمنين، عليه أفضل الصلاة، أنه قال: ليس في المأكول والمشروب سرف، وإن كثر. (وكان بين ذلك قواما) أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار، لا إسرافا يدخلون به في حد التبذير، ولا تضييقا يصيرون به في حد المانع لما يجب. وهذا هو المحمود. والقوام من العيش: ما أقامك وأغناك. وقيل: القوام بالفتح وهو العدل والإستقامة، وبالكسر ما يقوم به الأمر ويستقر، عن تغلب. وقال أبو عبد الله عليه السلام: القوام هو الوسط. وقال عليه السلام: أربعة لا يستجاب لهم دعوة: رجل فاتح فاه جالس في بيته فيقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالطلب. ورجل كانت له امرأة يدعو عليها يقول: يا رب أرحني منها، فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك. ورجل كان له مال فأفسده فيقول: يا رب ارزقني فيقول: ألم آمرك بالإقتصاد. ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقول: ألم آمرك بالشهادة. (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) أي: لا يجعلون لله سبحانه شريكا بل يوجهون عبادتهم إليه وحده. (ولا يقتلون النفس التي حرم الله) أي: حرم الله قتلها
[ 312 ]
(إلا بالحق). والنفس المحرم قتلها نفس المسلم والمعاهد. والمستثناة قتلها نفس الحربي. ومن يجب قتلها على وجه القود والإرتداد، أو للزنا بعد الإحصان، وللسعي في الأرض بالفساد. (ولا يزنون) والزنا هو الفجور بالمرأة في الفرج. وفي هذا دلالة على أن أعظم الذنوب بعد الشرك القتل والزنا. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما بالإسناد عن عبد الله بن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك. قال، قلت: ثم أي ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال، قلت: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله تصديقها (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) الآية. (ومن يفعل ذلك) قال مقاتل: هذه الخصال جميعا (يلق أثاما) أي: عقوبة وجزاء لما فعل. قال الفراء: أثمه الله يأثمه إثما وأثاما أي: جزاه جزاء الإثم. وقال الشاعر: وهل يأثمني الله في أن ذكرتها، * وعللت أصحابي بها ليلة النفر (1) وقيل: إن أثاما إسم واد في جهنم، عن عبد الله بن عمر وقتادة ومجاهد وعكرمة. ثم فسر سبحانه لقي الأثام بقوله: (يضاعف له العذاب يوم القيامة) يريد سبحانه مضاعفة أجزاء العذاب، لا مضاعفة الإستحقاق، لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب بأكثر من الإستحقاق، لأن ذلك ظلم، وهو منفي عنه. وقيل: معناه أنه يستحق على كل معصية منها عقوبة، فيضاعف عليه العقاب. وقيل: المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، عن قتادة. (ويخلد فيه مهانا) أي: ويدوم في العذاب مستحقا به. وإنما قال ذلك لأنه، عز اسمه، قد يوصل الآلام إلى بعض المكلفين، لا على وجه الإستخفاف والإهانة. فبين أنه يوصل العقاب إليهم على وجه الإهانة. ثم استثنى من جملتهم التائب بقوله: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) قال قتادة: إلا من تاب من ذنبه، وآمن بربه، وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه. قال: والتبديل في الدنيا طاعة الله بعد 1 - قائله: صعيب بل الأسود. يعني هل يجزيني الله جزاء إثمي بأن ذكرت هذه المرأة في غنائي وليلة النفر: ليلة الخروج من (منى) إلى (مكة) (*).
[ 313 ]
عصيانه، وذكر الله بعد نسيانه، والخير يعمله بعد الشر. وقيل: يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل. إن معناه أن يمحو السيئة عن العبد، ويثبت له بدلها الحسنة، عن سعيد بن المسيب، ومكحول، وعمرو بن ميمون. واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح مرفوعا إلى أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ونحوا عنه كبارها. فيقال: عملت يوم كذا كذا، وكذا كذا، وهو مقر لا ينكر، وهو مشفق من الكبائر، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا ؟ قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ". (وكان الله غفورا) أي: ساترا لمعاصي عباده (رحيما) أي. منعما عليهم بالرحمة، والفضل. * (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا [ 71 ] والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما [ 72 ] والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا [ 73 ] والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [ 74 ] أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما [ 75 ] خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما [ 76 ] قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما [ 77 ]) * القراءة: قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة غير حفص: (وذريتنا). والباقون: (ذرياتنا) على الجمع. وقرأ (يلقون) بفتح الياء والتخفيف أهل الكوفة غير حفص. والباقون: (يلقون) بضم الياء والتشديد. وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام: (واجعل لنا من المتقين إماما). والقراءة المشهورة: (واجعلنا للمتقين إماما) وفي قراءة ابن عباس وابن الزبير: (فقد كذب الكافرون). الحجة: قال أبو علي: الذرية تكون واحدة، وتكون جمعا. فمن قرأ
[ 314 ]
(وذريتنا) على الإفراد فإنه أراد به الجمع، فاستغنى عن جمعه، لما كان جمعا. ومن جمع فكما يجمع هذه الأسماء التي تدل على الجمع، نحو قوم وأقوام. وجاء في الحديث: " صواحبات يوسف ". وحجة من قرأ (ويلقون) قوله: (ولقاهم نضرة وسرورا). وحجة من خفف: (فسوف يلقون غيا). ومن قرأ (فقد كذب الكافرون) ترك لفظ الحضور إلى الغيبة، ألا ترى أن قبله: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم). اللغة: القرة: مصدر. يقال: قرت عينه قرة. ويكون من القرور وهو برد العين عند السرور. ويكون أيضا من استقرارها عند السرور. وقوله إماما: مصدر من أم فلان فلانا إماما، كما قيل: قام قياما، وصام صياما. ولذلك وحده هنا من جمع إماما فقال: أئمة، فلأنه قد كثر في معنى الصفة. وقيل: إنه إنما وحد لأنه جاء على الجواب، كقول القائل: من أميركم ؟ فيقول المجيب: هؤلاء أميرنا. قال الشاعر. يا عاذلاتي ! لا تردن ملامتي، إن العواذل لسن لي بأمير (1) وقيل: إنما وحد لأن المعنى: واجعل كل واحد منا إماما، فأجمل. فالمعنى معنى التفصيل. وقال الزجاج: تأويل (ما يعبؤ بكم): أي وزن يكون لكم عنده، كما يقال: ما عبأت بفلان أي: ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل العب ء في اللغة. الثقل. وقيل: أصله من تهيئة الشئ، يقال: عبئت الطيب أعبؤ عبأ: إذا هيأته. قال الشاعر يصف أسدا: كأن بنحره، وبمنكبيه، * عبيرا، بات تعبأه عروس (2) أي: تهيئه. وعبأت الجيش بالتشديد والتخفيف: إذا هيأته. وما أعبؤ به أي لا أهئ به أمرا. المعنى: ثم قال سبحانه: (من تاب) أي: أقلع عن معاصيه، وندم عليها (وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) أي: يرجع إليه مرجعا عظيما جميلا. وفرق علي بن عيسى بين التوبة إلى الله، والتوبة من القبيح لقبحه بأن التوبة إلى الله تقتضي طلب ثوابه، وليس كذلك التوبة من القبيح لقبحه. فعلى هذا يكون المعنى: من (1) الشعر في (جامع الشواهد). (2) العبير: الزعفران (*).
[ 315 ]
عزم على التوبة من المعاصي، فإنه ينبغي أن يوجه توبته إلى الله بالقصد إلى طلب جزائه ورضائه عنه، فإنه يرجع إلى الله فيكافيه. وقيل: معناه من تاب وعمل صالحا، فقد انقطع إلى الله، فاعرفوا ذلك له. فإن من انقطع إلى خدمة بعض الملوك، فقد أحرز شرفا، فكيف المنقطع إلى الله سبحانه. ثم عاد سبحانه إلى وصف عباده المخلصين، فقال: (والذين لا يشهدون الزور) أي: لا يحضرون مجالس الباطل، ويدخل فيه مجالس الغناء والفحش والخناء. وقيل: الزور الشرك، عن الضحاك. قال الزجاج: الزور في اللغة: الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله. وقيل: الزور أعياد أهل الذمة، كالشعانين (1) وغيرها، عن محمد بن سيرين. وقيل: هو الغناء، عن مجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام وقيل: يعني شهادة الزور، عن علي بن أبي طلحة. فيكون المراد أنهم لا يشهدون شهادة الزور. فحذف المضاف. وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق. وأصل الزور: تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. (وإذا مروا باللغو مروا كراما) واللغو: المعاصي كلها، أي: مروا به مر الكرماء الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يجلون عن الدخول فيه، والإختلاط بأهله، عن الحسن والكلبي. والتقدير: إذا مروا بأهل اللغو وذوي اللغو، مروا منزهين أنفسهم، معرضين عنهم، فلم يجاروهم فيه، ولم يخوضوا معهم في ذلك. فهذه صفة الكرام، يقال: تكرم فلان عما يشينه. إذا تنزه، وأكرم نفسه عنه. وقيل: مرورهم كراما هو أن يمروا بمن يسبهم فيصفحون عنه، وبمن يستعين بهم على حق فيعينونه. وقيل: هم الذين إذا أرادوا ذكر الفرج، كنوا عنه، عن أبي جعفر عليه السلام، ومجاهد. وأصل اللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه، ولهذا يقال للكلمة التي لا تفيد لغو. وليس المراد به القبيح،. فإن فعل الساهي والنائم لغو، وليس بحسن ولا قبيح، إلا ما يتعدى إلى الغير على الخلاف فيه. (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) أي: إذا وعظوا بالقرآن، والأدلة التي نصبها الله لهم، نظروا فيها، وتفكروا في مقتضاها، ولم يقعوا عليها صما، كأنهم لم يسمعوها، وعميانا كأنهم لهم يروها، لكنهم سمعوها (1) الشعانين: عيد معروف للنصارى قبل عيدهم الكبيبر بأسبوع، كما قاله ابن الأثير في (النهاية) (*).
[ 316 ]
وأبصروها، وانتفعوا بها، وتدبروا لها. قال الحسن: كم من قارئ يقرؤها فخر عليها أصم وأعمى. وقال الأخفش: لم يخروا عليها أي: لم يقيموا. وقال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يروها. (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) أي: إجعل أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، بأن نراهم يطيعون الله، عن الحسن. وقيل: معناه ارزقنا من أزواجنا أولادا، ومن ذريتنا أعقابا، قرة أعين أي أهل طاعة تقر بهم أعيننا في الدنيا بالصلاح، وفي الآخرة بالجنة. (واجعلنا للمتقين إماما) أي: إجعلنا ممن يقتدي بنا المتقون طلبوا العز بالتقوى لا بالدنيا. وقيل: معناه إجعلنا نأتم بمن قبلنا حتى يأتم أي: يقتدي بنا من بعدنا. وعلى هذا فيجوز أن يكون اللام في اللفظ في المتقين، وفي المعنى في نا، والتقدير: واجعل المتقين لنا إماما. ومثله قول الشاعر: " كأننا رعن قف يرفع الآلا " (1). والتقدير: يرفعه الآل. ثم أخبر سبحانه عن جميع هذه الأوصاف، فقال: (أولئك يجزون الغرفة) أي: يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة (بما صبروا) على أمر ربهم، وطاعة نبيهم، وعلى مشاق الدنيا، وصعوبة التكليف. وقيل: هي غرف الزبرجد والدر والياقوت عن عطا. والغرفة في الأصل: بناء فوق بناء. وقيل: الغرفة إسم لأعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أنها في الدنيا أعلى المساكن. (ويلقون فيها تحية وسلاما) أي: تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية، وهي كل قول يسر به الإنسان، وبالسلام بشارة لهم بعظيم الثواب. وقيل: التحية الملك العظيم، والسلام جميع أنواع السلامة. وقيل: التحية البقاء الدائم. وقال الكلبي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويرسل إليهم الرب بالسلام. (خالدين) أي: مقيمين (فيها) من غير موت ولا زوال (حسنت) الغرفة (مستقرا ومقاما) أي: موضع قرار واستقامة. (قل) يا محمد (ما يعبؤ بكم ربي) أي: ما يصنع بكم ربي، عن مجاهد وابن زيد. وقيل: ما يبالي بكم ربي، عن أبي عمرو بن العلاء. وما لا يعبؤ به، فوجوده وعدمه سواء. (1) عجز بيت للنابغة. وصدره: (حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا "، والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما. والقف: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والآل: السراب (*).
[ 317 ]
(لولا دعاؤكم) أي: لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والإسلام، عن ابن عباس. فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، والمعنى: قل للمشركين: ما يفعل بكم ربي أي: أي نفع له فيكم، وأي ضرر يعود إليه من عدمكم، وأي قدر لكم عند الله حتى يدعوكم إلى الإيمان، لكن الواجب في الحكمة دعاؤكم إلى الدين، وإرسالى الرسول، وقد فعل. وقيل: معناه لولا عبادتكم له، وإيمانكم به، وتوحيدكم إياه، عن الكلبي ومقاتل والزجاج. فيكون الدعاء بمعنى العبادة. وفي هذا دلالة على أن من لا يعبد الله، ولا يطيعه، فلا وزن له عند الله. وقيل: معناه ما يعبؤ بعذابكم ربي لولا دعاء بعضكم بعضا إلى الشرك والشر، عن البلخي ودليله (ما يفعل الله بعذابكم) الاية. وقيل معناه: لولا دعاؤكم له إذا مسكم ضر، أو أصابكم سوء، رغبة له، وخضوعا له. وروى العياشي بإسناده عن يزيد بن معاوية العجلي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: كثرة القراءة أفضل، أم كثرة الدعاء أفضل ؟ قال: كثرة الدعاء أفضل، وقرأ هذه الآية. (فقد كذبتم) الخطاب لأهل مكة أي: إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته (فقد كذبتم) يا معاشر الكفار الرسول (فسوف يكون لزاما) أي: فسوف يكون عقابه لتكذيبكم إياه، لازما لكم. قال صخر الغي: فإما ينجوا من حتف أرضي: فقد لقيا حتوفهما لزاما (1) أي: إنه واقع لا محالة. قال الزجاج: تأويله فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم، فلا تعطون التوبة، وتلزمكم به العقوبة. وقال أبو عبيدة: لزاما فيصلا. وقيل في تفسير اللزام. إنه القتل يوم بدر، عن ابن مسعود، وأبي بن كعب. وقيل: هو عذاب الآخرة. وقال أبو ذؤيب في اللزام: ففاجأه بعادية لزام * كما يتفجر الحوض اللقيف (2) فلزام: معناه كثيرة يلزم بعضها بعضا. ولقيف: متساقط متهدم، وبالله التوفيق. (1) الحتف: الموت. (2) العادية: جماعة القوم يعدون للقتال. يصف كثرة الجيش، وشبهها بحوض متهدم، يتفجر الماء من جوانبه (*).
[ 318 ]
26 - سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان مكية كلها غير قوله (والشعراء يتبعهم الغاوون) الآيات إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة. عدد آيها: مائتان وسبع وعشرون آية كوفي وشامي، والمدني الأول، وست في الباقين. اختلافها: أربع آيات (طسم) كوفي (فلسوف تعلمون) غير الكوفي (ما كنتم تعبدون) غير البصري (وما تنزلت به الشياطين) عراقي شامي، والمدني الأول. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ سورة الشعراء، كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدق بنوح عليه السلام وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم عليهم السلام، وبعدد من كذب بعيسى عليه السلام، وصدق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أعطيت سورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه وطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصلة نافلة ". وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة، كان من أولياء الله، وفي جواره وكنفه، وأسكنه الله في جنة عدن، وسط الجنة، مع النبيين والمرسلين والوصيين الراشدين، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا، وأعطي في الآخرة من الأجر الجنة، حتى يرضى، وفوق رضاه، وزوجه الله مائة حوراء من الحور العين. تفسيرها: ذكر الله سبحانه في مختتم سورة الفرقان تكذيبهم بالكتاب، وذكر في مفتتح هذه السورة وصف الكتاب، فقال:
[ 319 ]
بسم الله الرحمن الرحيم * (طسم [ 1 ] تلك آيات الكتاب المبين [ 2 ] لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 3 ] إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ 4 ] وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين [ 5 ] فقد كذبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزءون [ 6 ] أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 7 ] إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 8 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 9 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير الأعشى والبرجمي وحفص: طسم، ويس، وحم بالإمالة. والباقون بالفتح والتفخيم، وابن كثير أشد فتحا وتفخيما، وكذلك عاصم، ثم يعقوب، والآخرون لا يفتحون فتحا شديدا. وقرأ أبو جعفر وحمزة بإظهار النون من سين عند الميم. والآخرون يدغمون. الحجة: قال أبو علي: تبيين النون هو الوجه لأن حروف الهجاء في تقدير الإنفصال والإنقطاع مما بعدها. فإذا كان كذلك، وجب تبيين النون، لأنها إنما تخفى إذا اتصلت بحرف من حروف الفم. فإذا لم تتصل بها، لم يكن شئ يوجب إخفاءها. ووجه إخفائها مع هذه الحروف: أن همزة الوصل قد وصلت ولم تقطع، وهمزة الوصل إنما تذهب في الدرج. فلما سقطت همزة الوصل، وهي لا تسقط إلا في الدرج مع هذه الحروف في ألف لام ميم الله، كذلك لا يبين النون، ويقدر فيها الإتصال بما قبلها، ولا يقدر الإنفصال. الاعراب: (أن لا يكونوا): في محل نصب بأنه مفعول له، والتقدير: لأن لا يكونوا، أو بأن لا يكونوا. (ظلت أعناقهم): في موضع جزم عطفا على تنزل من ذكر في محل رفع. ومن مزيدة وكم: في موضع نصب بأنه مفعول أنبتنا. وأنبتنا: في موضع نصب على الحال. وقد: مضمرة والتقدير: مثبتا. المعنى: (طسم) قد بينا معاني هذه الحروف المقطعة في أول البقرة، فلا معنى لإعادته. وقال مجاهد والضحاك: إن طسم، وطس، من أسماء القرآن. وقال
[ 320 ]
ابن عباس في رواية الوالبي: طسم قسم، وهو من أسماء الله. عز وجل. وقال القرظي: أقسم الله بطوله وسنائه وملكه. وروي عن ابن الحنفية، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى عليه وآله وسلم، لما نزلت طسم قال: " الطاء طور سيناء. وسين الإسكندرية. والميم مكة ". وقيل: الطاء شجرة طوبى، والسين سدرة المنتهى، والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. (تلك آيات الكتاب المبين) أشار (بتلك) إلى ما ليس بحاضر، لكنه متوقع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس، والتقدير: تلك الآيات التي وعدتم بها، هي آيات الكتاب أي: القرآن. والمبين: الذي يبين الحق من الباطل. (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) أي: لعلك مهلك نفسك، وقاتل نفسك، بأن لا يكونوا مؤمنين، وبأن يقيموا على الكفر. إنما قال ذلك سبحانه تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وتخفيفا عنه بعض ما كان يصيبه من الإغتمام لذلك. (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) أي: دلالة وعلامة تلجئهم وتضطرهم إلى الإيمان (فظلت أعناقهم لها) أي: لتلك الآية (خاضعين) منقادين. وقيل في ذلك وجوه أحدها: إن المراد فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين. فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لدلالة الكلام عليه. وثانيها: إنه جعل الفعل أولا للأعناق، ثم جعل خاضعين للرجال، لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون. وثالثها: إن الخضوع مردود إلى المضمر الذي أضيف الأعناق إليه، عن الأخفش والمبرد وأبي عبيدة، وأنشدوا قول جرير: أرى مر السنين أخذن مني، * كما أخذ السرار من الهلال (1) ورابعها: إن المراد بالأعناق الرؤساء والجماعات، يقال: جاءني عنق من الناس أي: جماعة. وخامسها: إنه لما وصف الأعناق بصفة ما يعقل، نسب إليها ما يكون من العقلاء، كما قال الشاعر: تمزرتها والديك صياحه، * إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا (2) وروي: " نادى صياحه ". وذكر أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: أنها صوت (1) السرار: آخر الشهر ليلة يستسر الهلال. (2) مر البيت بمعناه في هذا الجزء (*).
[ 321 ]
يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان، وتخرج له العواتق من البيوت. وقال ابن عباس: نزلت فينا وفي بني أمية، قال: سيكون لنا عليهم الدولة، فتخضع لنا أعناقهم بعد صعوبتها وتلين. (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار، أنه لا يأتيهم ذكر من الرحمن محدث أي: جديد يعني القرآن، كما قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقال: (إن هو إلا ذكر) إلا أعرضوا عن الذكر ولم يتدبروا فيه (فقد كذبوا فسيأتيهم) فيما بعد يعني يوم القيامة (أنباء ما كانوا به يستهزئون) وهي مفسرة في سورة الأنعام. (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج) معناه: من كل نوع معه قرينه (كريم) أي: حسن. وقيل: نافع محمود مما يحتاج إليه. وقيل: من كل صنف يكرم على أهله. وقيل: كريم مما يأكل الناس والأنعام، عن مجاهد. وقال الشعبي: الناس نبات الأرض، كما قال سبحانه: (والله أنبتكم من الأرض نباتا). فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم. (إن في ذلك لآية) أي: لدلالة على وحدانيتنا، وكمال قدرتنا (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي: لا يصدقون بذلك، ولا يعترفون به، عنادا وتقليدا لأسلافهم، وهربا من مشقة التكليف. قال سيبويه: كان هنا مزيدة، ومجازه وما أكثرهم مؤمنين. (وإن ربك) يا محمد (لهو العزيز) أي: القادر، والذي لا يعجز، والغالب الذي لا يغلب. (الرحيم) أي: المنعم على عباده بأنواع النعم. * (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين [ 10 ] قوم فرعون ألا يتقون [ 11 ] قال رب إني أخاف أن يكذبون [ 12 ] ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون [ 13 ] ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ 14 ] قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون [ 15 ] فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 16 ] أن أرسل معنا بني إسرائيل [ 17 ] قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين [ 18 ] وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ 19 ] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 20 ] ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين [ 21 ] وتلك نعمة
[ 322 ]
تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 22 ] قال فرعون وما رب العالمين [ 23 ] قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [ 24 ] قال لمن حوله ألا تستمعون [ 25 ] قال ربكم ورب آبائكم الأولين [ 26 ] قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 27 ] قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [ 28 ] قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 29 ] قال أو لو جئتك بشئ مبين [ 30 ]) * القراءة: قرأ يعقوب: ويضيق ولا ينطلق بالنصب فيهما. والباقون بالرفع. وفي الشواذ قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد بن سلمة: (ألا تتقون) بالتاء. وقراءة الشعبي: (وفعلت فعلتك). الحجة: من قرأ يضيق ولا ينطلق بالرفع عطف على (أخاف). ومن قرأ بالنصب عطف على (أن يكذبوا) أي: أخاف أن يكذبون، وأن يضيق صدري ولا ينطلق لساني. ومن قرأ (ألا تتقون) بالتاء فهو على إضمار القول أي: فقل لهم: ألا تتقون. ومن قرأ (فعلتك) بكسر الفاء فهي مثل الركبة والجلسة، تكون كناية عن الحال التي يكون عليها. وقد يكون المصدر على هذه الزنة تقول: نشدته بالله نشدة. الاعراب: قال الزجاج: موضع (إذ) نصب على معنى: واتل عليهم هذه القصة فيما تتلو. والدليل عليه قوله، عطفا على هذه القصة: (واتل عليهم نبأ إبراهيم أن ائت القوم الظالمين) موضعه نصب بأنه مفعول نادى أي: ناداه بهذه الكلمة رسول رب العالمين واحد في معنى الجمع كقوله: (فإنهم عدو لي). ويجوز أن يكون كل واحد منهما رسولا. (أن عبدت بني إسرائيل): في موضع رفع لأنه بدل من نعمة، تقديره: وتلك نعمة تعبيدك بني إسرائيل وتركك إياي غير عبد. ويجوز أن يكون في موضمع نصب بأنه مفعول له أي: إنما صارت نعمة لأن عبدت بني إسرائيل. والمعنى: لو لم تفعل ما فعلت لكفلين أهلي، ولم يلقوني في اليم. فإنما صارت نعمة لما فعلت من البلاء. (فماذا تأمرون): يجوز أن يكون ما في موضع رفع بالإبتداء، وذا: بمعنى الذي على تقدير: فأي شئ الذي تأمرونه. ويجوز أن يكون في موضع نصب بأنه مفعول (تأمرون)، ويكون مع ذا بمنزلة إسم واحد،
[ 323 ]
وتقديره: أي شئ تأمرون. المعنى: ثم ذكر سبحانه أقاصيص رسله، تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتحريضا له على الصبر، ثقة بنزول النصر، وابتدأ بقصة موسى وفرعون، فقال: (وإذ نادى ربك) أي: واذكر يا محمد، واتل عليهم الوقت الذي نادى فيه ربك الذي خلقك (موسى أن ائت القوم الظالمين) هذا أمر بعد النداء، وتقديره: قال له: يا موسى أن ائت القوم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب. ثم بين القوم الموصوفين بهذه الصفة فقال: (قوم فرعون) وهو عطف بيان (ألا يتقون) إنما قاله بالياء لأنه على الحكاية، ومعناه: أما آن لهم أن يتقوا، ويصرفوا عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. والتقوى: مجانبة القبائح بفعل المحاسن، وأصله صرف الأمر بحاجز بين الصارف وبينه. (قال) موسى (رب إني أخاف أن يكذبون) بالرسالة، ولا يقبلوا مني. والخوف: إنزعاج النفس بتوقيع الضر، ونقيضه الأمن وهو سكون النفس إلى خلوص النفع. (ويضيق صدري) بتكذيبهم إياي. (ولا ينطلق لساني) أي: لا ينبعث بالكلام للعقدة التي كانت فيه، وقد مر بيانها. وقد يتعذر ذلك لآفة في اللسان. وقد يتعذر لضيق الصدر، وغروب المعاني التي تطلب للكلام. (فأرسل إلى هارون) أخي يعني ليعاونني كما يقال: إذا نزلت بنا نازلة أرسلنا إليك أي: لتعيننا، وإنما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة. وقال الجبائي: لم يسأل موسى عليه السلام ذلك إلا بعد أن أذن الله له في ذلك، لأن الأنبياء لا يسألون الله إلا ما يؤذن لهم في مسألته. (ولهم علي ذنب) يعني قتل القبطي الذي قتله موسى عليه السلام أي: لهم علي دعوى ذنب (فأخاف أن يقتلوني) خاف أن يقتلوه بتلك النفس، لا لإبلاغ الرسالة، فإنه علم أن الله تعالى إذا بعث رسولا، تكفل بمعونته على تبليغ رسالته. (قال) الله (كلا) وهو زجر أي: لا يكون ذلك، ولن يقتلوك به، فإني لا أسلطهم عليك. (فاذهبا) أنت وأخوك. وحذف ذكر هارون وإجابة موسى إلى ما اقترحه من إرساله معه إلى فرعون، لدلالة قوله (فاذهبا) عليه. (بآياتنا) أي: بدلالاتنا ومعجزاتنا، التي خصصناكما بها (إنا معكم مستمعون) أي: نحن
[ 324 ]
نحفظكم، ونحن سامعون ما يجري بينكم، ومستمع هنا في موضع سامع، لأن الإستماع طلب السمع بالإصغاء إليه، وذلك لا يجوز عليه سبحانه، وإنما أتى بهذه اللفظة لأنه أبلغ في الصفة وأوكد، وهو قوله: (إني معكما أسمع وأرى) وإنما قال (إنا معكم) لأنه أجراهما مجرى الجماعة. (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته، وترك الإشراك به، ولم يقل رسولا رب العالمين، لأن الرسول قد يكون في معنى الجمع. قال الهذلي: ألكني إليها، وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر (1) أي: غير الرسل. وقيل: إن الرسول بمعنى الرسالة، كما في قوله: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بسر، ولا أرسلتهم برسول أي: برسالة. وقال العباس بن مرداس: ألا من مبلغ عني خفافا * رسولا بيت أهلك منتهاها فأنث الرسول تأنيث الرسالة. وقد يقع المصدر موقع الصفة، كما تقع الصفة موقع المصدر، فيكون مجازه أنا ذوا رسالة رب العالمين. (أن أرسل معنا بني إسرائيل) أي: أمرك الله بأن أرسلهم وأطلقهم من الإستعباد، وخل عنهم. وفي الكلام حذف تقديره: إنهما أتيا فرعون، وبلغا الرسالة على ما أمرهما الله تعالى به. (قال) فرعون لموسى (ألم نربك فينا وليدا) والتربية: تنشية الشئ حالا بعد حال، معناه: ألم تكن فينا صبيا صغيرا، فربيناك (ولبثت فينا من عمرك سنين) أي: أقمت سنين كثيرة عندنا، وهي ثماني عشرة سنة، عن ابن عباس. وقيل: ثلاثين سنة، عن مقاتل. وقيل: أربعين سنة، عن الكلبي. وإنما قال ذلك امتنانا عليه بإحسانه إليه. وقيل: إنه أظهر لؤمه حيث ذكر صنائعه. (وفعلت فعلتك التي فعلت) يعني: قتل القبطي (وأنت من الكافرين) لنعمتنا وحق تربيتنا، عن ابن عباس وعطاء ومقاتل. وقيل: معناه وأنت من الكافرين بإلهك إذ كنت معنا على ديننا الذي تعيب، وتقول: إنه كفر، عن الحسن والسدي. (قال) موسى: (فعلتها إذا وأنا من الضالين) أي: فعلت هذه الفعلة وأنا من 1 - قوله: ألكني إليها أي: كن رسولي، وتحمل رسالتي إليها (*).
[ 325 ]
الجاهلين، لم أعلم بأنها تبلغ القتل. وقيل: معناه من الناسين، عن ابن زيد. وقيل: من الضالين عن العلم بأن ذلك يؤدي إلى قتله، عن الجبائي. وقيل: من الضالين عن طريق الصواب، لأني ما تعمدته، وإنما وقع مني خطأ، كمن يرمي طائرا فيصيب إنسانا. وقيل: من الضالين عن النبوة أي: لم يوح إلي تحريم قتله. (ففررت منكم لما خفتكم) أي: ذهبت من بينكم حذرا على نفسي إلى مدين لما خفتكم أن تقتلوني بمن قتلته (فوهب لي ربي حكما) أي: نبوة. وقيل: إن الحكم العلم بما تدعو إليه الحكمة، وهو الذي وهبه الله تعالى لموسى من التوراة، والعلم بالحلال والحرام، وسائر الأحكام. (وجعلني من المرسلين) أي: نبيا من جملة الأنبياء (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) يقال: عبده وأعبده: إذا اتخذه عبدا. وقيل في معناه أقوال أحدها: إن فيه اعترافا بأن تربيته له كانت نعمة منه على موسى، وإنكارا للنعمة في ترك استعباده. ويكون ألف التوبيخ مضمرا فيه. فكأنه يقول: أو تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل، ولم تعبدني. وثانيها: إنه إنكار للمنة أصلا، ومعناه: أتمن علي بأن ربيتني مع استعبادك قومي ؟ هذه ليست بنعمة. يريد: إن اتخاذك بني إسرائيل الذين هم قومي، عبيدا أحبط نعمتك التي تمن بها علي. وثالثها: إن معناه أنك لو كنت لا تستعبد بني إسرائيل، ولا تقتل أبناءهم، لكانت أفي مستغنية عن قذفي في اليم. فكأنك تمتن علي بما كان بلاؤك سببا له، عن الزجاج. وزاد الأزهري لهذا بيانا فقال: إن فرعون لما قال لموسى عليه السلام ألم نربك فينا وليدا، فاعتد عليه بأن رباه وليدا، منذ ولد إلى أن كبر. فكان من جواب موسى عليه السلام له: تلك نعمة تعتد بها علي، لأنك عبدت بني إسرائيل، ولو لم تعبدهم لكفلني أهلي فلم يلقوني في اليم، فإنما صارت لك علي نعمة، لما أقدمت عليه مما حظره الله عليك. ورابعها: إن فيه بيان أنه ليس لفرعون عليه نعمة، لأن الذي تولى تربيته أمه وغيرها من بني إسرائيل، بأمر فرعون، لما استعبدهم. فيكون معناه: إنك تمن علي بأن استعبدت بني إسرائيل حتى ربوني وحفظوني، عن الجبائي. (قال فرعون وما رب العالمين) أي: أي جنس رب العالمين الذي تدعوني إلى عبادته. (قال) موسى في جوابه (رب السماوات والأرض) أي: مبدعهما ومنشئهما وخالقهما (وما بينهما) من الحيوان والجماد والنبات. (إن كنتم موقنين)
[ 326 ]
بأن الرب من كان بهذه الصفة، أو موقنين بأن هذه الأشياء محدثة، وليست من فعلكم. والمحدث لا بد له من محدث. لم يشتغل موسى لجواب ما سأله فرعون، لأن الله تعالى ليس بذي جنس، بل اشتغل ببيان ربوبيته وصفاته، وبيان الحجة الدالة عليه من خلقه، الذي يعجز المخلوقون عن مثله. (قال) فرعون (لمن حوله ألا تستمعون) يريد: ألا تستمعون مقالة موسى، عن ابن عباس. وقيل: معناه ألا تصغون إليه، وتفهمون ما يقوله، معجبا من قوله: وإنما عجب فرعون من حوله من جوابه، لأنه طلب منه أي أجناس الأجسام هو، جهلا منه بالتوحيد، لأنه لو كان كأحد أجناس الأجسام، لكان محدثا كسائر الأجسام التي هي من جنسه، لحلول الحوادث فيه ودله موسى على الله بدلالة أفعاله التي بها يجب أن يستدل عليه تعالى، فقال فرعون: أنظروا إلى هذا أسأله عن شئ فيجيب عن غيره. فجرى موسى عليه السلام على عادته في الرفق، وتأكيد الحجة، وتكريرها. (قال ربكم ورب آبائكم الأولين) وإنما ذكره تأييدا لما قبله، وتوكيدا له. فإن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره، دون من قبله. فبين أن المستحق للربوبية من هو رب أهل كل عصر، ومالك تدبيرهم، فعند ذلك (قال) فرعون إذ لم يقدر على جواب لكلام موسى عليه السلام، يموه عليهم (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) لأني أسأله عن ماهية رب العالمين، فيجيبني عن غير ذلك، كما يفعل المجنون. فعند ذلك لم يشتغل موسى عليه السلام بالجواب عما نسبه إليه من الجنون، ولكن اشتغل بتأكيد الحجة، والزيادة في الإبانة، بأن (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) ذلك وتتدبرونه. وقيل: إن كنتم تعلمون أنه إنما يستحق العبادة من كان بهذه الصفة. فلما طال على فرعون الإحتجاج من موسى (قال) مهددا له (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) أي: من المحبوسين. قالوا: وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت. فلما توعده بالسجن (قال أولو جئتك بشئ مبين) معناه: أتسجنني ولو جئتك بأمر ظاهر، تعرف به صدقي، وكذبك، وحجة ظاهرة تدل على نبوتي. * (قال فأت به إن كنت من الصادقين [ 31 ] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين [ 32 ] ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 33 ] قال للملإ حوله إن هذا لساحر
[ 327 ]
عليم [ 34 ] يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [ 35 ] قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين [ 36 ] يأتوك بكل سحار عليم [ 37 ] فجمع السحرة لميقات يوم معلوم [ 38 ] وقيل للناس هل أنتم مجتمعون [ 39 ] لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ 40 ] فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين [ 41 ] قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 42 ] قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون [ 43 ] فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ 44 ] فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 45 ] فألقى السحرة ساجدين [ 46 ] قالوا ءامنا برب العالمين [ 47 ] رب موسى وهارون [ 48 ] قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين [ 49 ] قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [ 50 ]) *. المعنى: (قال) فرعون لموسى (فأت به إن كنت من الصادقين) أي: هات ما ادعيت من المعجزات، إن كنت صادقا (فألقى) حينئذ موسى (عصاه فإذا هي ثعبان) أي: حية عظيمة. وقيل الثعبان الذكر من الحيات (مبين) ثعبان لا شبهة فيه. (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) أي: وأخرج يده من كمه أو جيبه على ما روي، فإذا هي بيضاء بياضا نوريا، كالشمس في إشراقها للناظرين إليها. (قال) فرعون (للملأ) الأشراف من قومه (حوله إن هذا) يعني موسى (لساحر عليم) بالسحر، والحيل (يريد أن يخرجكم من أرضكم) ودياركم، ويتغلب عليها (بسحره فماذا تأمرون) في بابه. وإنما شاور قومه في ذلك، مع أنه كان يقول لهم: إنه إله، لأنه يجوز أن يكون ذهب عليه وعلى قومه، أن الإله لا يجوز أن يشاور غيره، كما ذهب عليهم أن الإله لا يجوز أن يكون جسما محتاجا، فاعتقدوا إلهيته مع ظهور حاجته. (قالوا أرجه وأخاه) قد مر تفسيره، واختلاف القراء فيه في سورة الأعراف. (وابعث في المدائن حاشرين) يحشرون الناس من جميع البلدان (يأتوك بكل سحار
[ 328 ]
عليم) وفي الكلام حذف تقديره: إنه أنفذ الحاشرين في البلدان، فحشروهم (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) أي: لوقت يوم بعينه اختاروه وعينوه، وهو يوم عيدهم، يوم الزينة (وقيل للناس) أي لأهل مصر (هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) لموسى وأخيه (فلما جاء السحرة) وحضروا بين يدي فرعون (قالوا لفرعون) (أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين) أي: هل لنا أجرة وجزاء على غلبتنا إياه، إن نحن غلبناه ؟ (قال) فرعون (نعم) لكم على ذلك الأجر الجزيل (وإنكم) مع ما تعطون من الجزاء والأجر (إذا لمن المقربين) والمقرب: المدني من مجلس الكرامة (قال لهم) أي للسحرة (موسى ألقوا ما أنتم ملقون) هذا بصورة الأمر، والمراد به التحدي (فألقوا حبالهم وعصيهم) أي طرحوا ما كان معهم من الحبال والعصي. (وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) والعزة: القوة التي يمتنع بها من لحاق ضيم لعلو منزلتها. وهذا القول قسم منهم، وإن كان غير مبرور. (فألقى) عند ذلك (موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) أي أن العصا تتناول جميع ما موهوا به في أوجز مدة من الزمان (فألقي السحرة ساجدين) لما بهرهم ما أظهره موسى عليه السلام من قلب العصا حية، وتلقفها جميع ما أتعبوا به نفوسهم فيه، وعلموا أن ذلك من عند الله إذ أحد من البشر لا يقدر عليه. (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) فعند ذلك (قال) فرعون مهددا لهم (آمنتم) أي صدقتم (له) فيما يدعو إليه (قبل أن آذن لكم) أي: آذن أنا في تصديقه (إنه لكبيركم) أي: أستاذكم وعالمكم (الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون) فيما بعد ما أفعله بكم عقوبة لكم على تصديقكم إياه. ثم فسر ذلك بقوله (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) يعني قطع اليد من جانب، والرجل من الجانب الآخر، كقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى. (ولأصلبنكم أجمعين) مع ذلك على الجذوع، ولا أترك أحدا منكم لا تناله عقوبتي. (قالوا) في جوابه عن ذلك (لا ضير) أي: لا ضرر علينا فيما تفعله. يقال: ضاره يضيره ضيرا، وضره يضره ضررا. (إنا إلى ربنا منقلبون) أي: إلى ثواب ربنا راجعون، فيجازينا على إيماننا، وصبرنا، بالنعيم الدائم الذي لا ينقضي، ولا يضرنا قطعك وصلبك، فإنه ألم ساعة عن قريب ينقضي. قال الحسن: لم يصل فرعون
[ 329 ]
إلى قتل واحد منهم، ولا قطعه. وقيل: إن أول من قطع الأيدي والأرجل فرعون. * (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين [ 51 ] وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون [ 52 ] فأرسل فرعون في المدائن حاشرين [ 53 ] إن هؤلاء لشرذمة قليلون [ 54 ] وإنهم لنا لغائظون [ 55 ] وإنا لجميع حاذرون [ 56 ] فأخرجناهم من جنات وعيون [ 57 ] وكنوز ومقام كريم [ 58 ] كذلك وأورثناها بنى إسرءيل [ 59 ] فأتبعوهم مشرقين [ 60 ] فلما ترءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون [ 61 ] قال كلآ إن معى ربي سيهدين [ 62 ] فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 63 ] وأزلفنا ثم الأخرين [ 64 ] وأنجينا موسى ومن معه أجمعين [ 65 ] ثم أغرقنا الأخرين [ 66 ] إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 67 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 68 ]) *. القراءة: قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة: (حاذرون) بالألف. والباقون بغير ألف. وقرأ (فاتبعوهم) موصولة الألف، مشددة التاء، زيد عن يعقوب. وقرأ الباقون: (فاتبعوهم) بقطع الألف، وسكون التاء. وقرأ حمزة ونصير، عن الكسائي وخلف: (ترئ الجمعان) بكسر الراء. والباقون بفتحها. وفي الشواذ قراءة أبان بن تغلب: (إن كنا أول المؤمنين) بكسر الهمزة من (إن). وقراءة ابن أبي عامر (حادرون) بالدال غير المعجمة. وقراءة الأعرج، وعبيد بن عمير: (إنا لمدركون) بتشديد الدال. وقراءة عبد الله بن الحرث. (وأزلقنا) بالقاف. الحجة: قال أبو علي: قال أبو عبيدة رجل حذر وحذر وحاذر، قال ابن أحمر: هل ينسأن يومي إلى غيره * أني حوالي، وأني حذر حوالي أي: ذو حيلة. وقال العباس بن مرداس:
[ 330 ]
وإني حاذر أنمي سلاحي * إلى أوصال ذيال منيع (1) ووجه إمالة الحركة على الراء من ترائى أن قياسه أن يكون ترا آى في الموقف مثال تراعى، فأمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة التي أميلت، ليميل الألف نحو الياء، كما قالوا رأى، أمالوا فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة. فإن قيل: فإذا وصل وقيل تراه الجمعان، فهلا لم يجز إمالة الفتحة التي على الراء، لأنه إذا كان إمالتها لإمالة فتحة الهمزة، وما يوجب إمالة الفتحة، فقد سقط، وهو الألف المنقلبة من الياء التي سقطت لالتقاء الساكنين، فإذا سقطت لم يجز إمالة فتحة الهمزة. فإذا لم يجز إمالة فتحة الهمزة، وجب أن لا يجوز إمالة فتحة الراء ؟ فقيل: إن إمالة فتحة الراء في تراآى جائزة في الوصل مع سقوط الألف من تفاعل، لالتقاء الساكنين، وما سقط الألف عن تفاعل لالتقاء الساكنين، فهو عندهم في حكم الثابت. يدل على ذلك قولهم: " ولا ذاكرا الله إلا قليلا (2) فنصب مع سقوط التنوين لالتقاء الساكنين، كما ينصب إذا ثبت. وزعم أبو الحسن أنه قد قرأ في القتلى الحر بإمالة فتحة اللام مع سقوط الألف. وقال ابن جني: قوله: (إن كنا أول المؤمنين) من الكلام الذي يعتاده المستظهر المدل بما عنده. يقول الرجل لصاحبه: أنا أحفظه عليك إن كنت وافيا. ولن يضيع لك جميل عندي. إن كنت شاكرا أي: فكما تعلم أن هذا معروف من حالي، فثق بوفائي وشكري، ومثله بيت كتاب سيبويه: أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا * جهارا، ولم تغضب لقتل ابن حازم فشرط بذلك، وقد كان ووقع قبل ذلك. وقد جاء به أبو تمام فقال: ومكارما عتق النجار تليدة * إن كان هضب عمايتين تليدا (3) أي: كما كان هضب عمايتين تليدا، فكذلك هذه المكارم. وأما قوله (حادرون): فالحادر القوي الشديد، ومنه الحادرة: الشاعرة. وحدر الرجل: إذا قوي جسمه وامتلأ لحما وشحما. قال الأعشى: (1) فرس ذيال أي: طويل القد، وقيل: طويل الذنب. والأوصال: بمعنى المفاصل. (2) هذا عجز بيت لأبي الأسود الدئلي. وصدره: (فألفيته غير مستعتب) والشعر بتمامه مذكور في (جامع الشواهد). وكذا الشعر الآتي. (3) النجار: الأصل. وعتق جمع عتيق: الكريم. والتليد: القديم. والهضب: الجبل. وعمايتين: جبلان (*).
[ 331 ]
وعسير أدماء حادرة العين * خنوف عيرانة شملال (1) ويقال: أدركت الشئ وأدركته بمعنى. ومن قرأ (وأزلفنا) بالفاء، فالآخرون موسى وأصحابه. ومن قرأ بالقاف، فالآخرون فرعون وأصحابه أي: أهلكناهم. اللغة: سرى وأسرى لغتان وقد فرق بينهما والشرذمة العصبة الباقية من عصب كثيرة وشر ذمة كل شئ: بقيته القليلة. قال الراجز: جاء الشتاء، وقميصي أخلاق * شراذم يضحك منها التواق (2) والفرق بين الحذر والحاذر أن الحاذر الفاعل للحذر. والحذر: المطبوع على الحذر. والكنوز: الأموال المخبأة في مواضع غامضة من الأرض بعضها على بعض، ومنه كناز التمر وغيره مما يعبأ بعضه على بعض. والمقام: الموضع الذي يقام فيه. والكريم: الحقيق بإعطاء الخير الجزيل، وهي صفة تعظيم في المدح. واتبع فلان فلانا وتبعه: إذا اقتفى أثره. والإشراق: الدخول في وقت شروق الشمس، ويقال: شرقت الشمس: إذا طلعت. وأشرقت: إذا أضاءت وصفت. وأشرقنا: دخلنا في الشروق. وتراءى الجمعان أي: تقابلا بحيث يرى كل منهما صاحبه. ويقال. تراءى نارا هما: إذا تقابلا. وإنما جاز تثنية الجمع، لأنه يقع عليه صفة التوحيد، فتقول: هذا جمع واحد، كما تقول جملة واحدة. والإدراك: اللحاق، يقال: أدرك قتادة الحسن أي: لحقه. وأدرك الزرع أي: لحق ببلوغه. وأدرك الغلام أي: بلغ. وأدركت القدر: نضجت. والطود: الجبل. قال الأسود بن يعفر: حلوا بأنقرة يجيش عليهم * ماء الفرات، يجئ من أطواد (3) والإزدلاف: الإدناء والتقريب، ومنه المزدلفة (4). أبو عبيدة: أزلفنا جمعنا. (1) العسير: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل سنتها. والأدمة في الإبل: البياض الشديد. والخنوف: الدابة التي تميل رأسها إلى فارسها قي عدوها. والعيرانة: القوية. وناقة شملال: خفيفة سريعة. (2) قيل: إن التواق في البيت: اسم ابنه. (3) هي أنقرة التي ببلاد الروم، واختاره الحموي في (المعجم)، وفيه: " نزلوا بأنقرة يسيل عليهم " بدل المصراع الأول. (4) [ قال ] (*).
[ 332 ]
وليلة المزدلفة: ليلة جمع. قال الشاعر: وكل يوم مضى، أو ليلة سلفت * فيها النفوس إلى الآجال تزدلف والآخر بفتح الخاء: الثاني من قسمي أحد، يقال: نجى الله أحدهما، وأهلك الأخر. وبكسر الخاء: هو الثاني من قسمي الأول، يقال نجا الأول، وهلك الآخر. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن السحرة أنهم قالوا لفرعون حين آمنوا: (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) أي: ما فعلناه من السحر وغيره (أن كنا أول المؤمنين) أي: لأنا كنا أول من صدق موسى، وأقر بنبوته، وبما دعانا إليه من التوحيد، ونفي التشبيه. وقيل: إنهم أول من آمن عند تلك الآية، أو أول من آمن من آل فرعون، لأن بني إسرائيل كانوا آمنوا به. (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) سبق تفسيره في سورة طه (إنكم متبعون) يتبعكم فرعون وجنوده، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) يحشرون إليه الناس، ويجمعون له الجيوش، ليقبضوا على موسى وقومه لما ساروا بأمر الله، عزوجل. فلما حضروا عنده قال لهم (إن هؤلاء) يعني أصحاب موسى (لشرذمة قليلون) أي: عصابة من الناس قليلة. قال الفراء: يقال عصبة قليلة وقليلون، وكثيرة وكثيرون. قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون (وإنهم لنا لغائظون) يقال غاظه واغتاظه وغيظه: إذا أغضبه أي: إنهم غاظونا لمخالفتهم إيانا في الدين، ثم لخروجهم من أرضنا على كره منا، وذهابهم بالحلى الذي استعاروها، وخلوصهم من استعبادنا (وإنا لجميع حاذرون) أي: خائفون شرهم، وحاذرون أي: مؤدون مقوون أي. ذوو أداة وقوة مستعدون شاكون في السلاح. وقال الزجاج: الحاذر المستعد. والحذر: المتيقظ. ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم بقوله: (فأخرجناهم) يعني آل فرعون (من جنات) أي: بساتين (وعيون) جارية فيها (وكنوز) أي: أموال مخبأة وخزائن ودفائن (ومقام كريم) أي: منابر يخطب عليها الخطباء، عن ابن عباس. وقيل. هو مجالس الأمراء والرؤساء التي كان يحف بها الأتباع، فيأتمرون بأمرهم.
[ 333 ]
وقيل: المنازل الحسان التي كانوا مقيمين فيها في كرامة. وقيل: يريد مرابط الخيل لتفرد الرؤساء بارتباطها عدة وزينة، فصار مقامها أكرم مقام متروك (كذلك) أي: كما وصفنا لك أخبارهم (وأورثناها بني إسرائيل) وذلك أن الله سبحانه رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والعقار والمساكن والديار. (فأتبعوهم مشرقين) يعني قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين شرقت الشمس، وظهر ضوؤها، وذلك قوله: (فلما تراءا الجمعان) أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) أي: سيدركنا جمع فرعون، ولا طاقة لنا بهم (قال) موسى ثقة بنصر الله تعالى: (كلا) لن يدركونا، ولا يكون ما تظنون. فانتهوا عن هذا القول (إن معي ربي) بنصره (سيهديني) أي: سيرشدني إلى طريق النجاة. وقيل: سيكفيني، عن السدي (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر) وهو نهر النيل ما بين أيلة ومصر. وقيل: هو بحر قلزم ما بين اليمن ومكة إلى مصر. وفيه حذف أي: فضرب (فانفلق) أي. فانشق البحر، وظهر فيه إثنا عشر طريقا. وقام الماء عن يمين الطريق ويساره، كالجبل العظيم، وذلك قوله: (فكان كل فرق كالطود العظيم) أي: فكان كل قطعة من البحر كالجبل العظيم. والفرق: الإسم لما انفرق والفرق مصدر. (وأزلفنا ثم الآخرين) أي: قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: معناه جمعنا في البحر فرعون وقومه، عن أبي عبيدة. وقيل: معناه وقربناهم إلى المنية لمجئ وقت هلاكهم. (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين) يعني بني إسرائيل أنجينا جميعهم من الغرق والهلاك (ثم أغرقنا الآخرين) فرعون وجنوده (إن في ذلك لآية) معناه: إن في فرق البحر، وإنجاء موسى وقومه، وإغراق فرعون وقومه، لدلالة واضحة على توحيد الله، وصفاته التي لا يشاركه فيها غيره. (وما كان أكثرهم مؤمنين) معناه: إنهم مع هذا السلطان الظاهر، والبرهان الباهر، والمعجز القاهر، ما آمن أكثرهم، فلا تستوحش يا محمد من قعود قومك عن الحق الذي تأتيهم به، وتدلهم عليه، فقد جروا على عادة أسلافهم في إنكار الحق، وقبول الباطل (وإن ربك لهو العزيز) في سلطانه (الرحيم) بخلقه. وقيل: العزيز
[ 334 ]
في انتقامه من أعدائه، الرحيم في إنجائه من الهلاك لأوليائه. وقيل: إنه لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، ومريم التي دلت على عظام يوسف. * (وأتل عليهم نبأ إبرهيم [ 69 ] إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [ 70 ] قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ 71 ] قال هل يسمعونكم إذ تدعون [ 72 ] أو ينفعونكم أو يضرون [ 73 ] قالوا بل وجدنا اباءنا كذلك يفعلون [ 74 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون [ 75 ] أنتم وءاباؤكم الأقدمون [ 76 ] فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ 77 ] الذي خلقني فهو يهدين [ 78 ] والذي هو يطعمني ويسقين [ 79 ] وإذا مرضت فهو يشفين [ 80 ] والذي يميتني ثم يحيين [ 81 ] والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ 82 ] رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين [ 83 ] واجعل لي لسان صدق في الأخرين [ 84 ] واجعلني من ورثة جنة النعيم [ 85 ] واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 86 ] ولا تخزني يوم يبعثون [ 87 ] يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 88 ] إلا من أتى الله بقلب سليم [ 89 ] وأزلفت الجنة للمتقين [ 90 ] وبرزت الجحيم للغاوين [ 91 ] وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون [ 92 ] من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 93 ] فكبكبوا فيها هم والغاو , ن [ 94 ] وجنود إبليس أجمعون [ 95 ] قالوا وهم فيها يختصمون [ 96 ] تالله إن كنا لفي ضلال مبين [ 97 ] إذ نسويكم برب العالمين [ 98 ] وما أضلنا إلا المجرمون [ 99 ] فما لنا من شافعين [ 100 ] ولا صديق حميم [ 101 ] فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين [ 102 ] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 103 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 104 ]) *. اللغة: الأقدم: الموجود قبل غيره، ومثله الأول والأسبق والقدم: وجود الشئ لا إلى أول. والتبريز: الإظهار، يقال: أبرزه وبرزه فبرز يبرز بروزا. والغاوي:
[ 335 ]
العامل بما يوجب الخيبة من الثواب. كبكبوا: أصله كببوا إلا أنه ضوعف بتكرير الفاء أي: دهدهوا، وطرح فيها بعضهم على بعض جماعة جماعة. والحميم: القريب الذي توده ويودك. الاعراب: (هل يسمعونكم): أصله أن يتعدى إلى ما كان صوتا مسموعا، تقول: سمعت كلامك. فإن وقع على جوهر تعدى إلى مفعولين، ولا يكون الثاني منهما إلا صوتا، كقولك: سمعت زيدا يقرأ. ولا يجوز سمعت زيدا يقوم، لأن القيام لا يكون مسموعا. وقوله: (هل يسمعونكم إذ تدعون) على حذف المضاف. والتقدير: هل يسمعون دعاءكم، فحذف المضاف، ودل عليه قوله: (إذ تدعون). (إلا رب العالمين): إستثناء منقطع. ويجوز أن يكون غير منقطع على تقدير: فإن جميع ما عبدتم عدو لي إلا رب العالمين. وقد عبدوا مع الله تعالى الأصنام. (إلا من أتى الله): الموصول والصلة في محل النصب على البدل من مفعول ينفع المحذوف تقديره: يوم لا ينفع أحدا مال ولا بنون إلا من أتى الله. ويجوز أيضا أن يكون منصوبا على الإستثناء. (هم فيها). مبتدأ وخبر. (يختصمون): في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون (يختصمون) خبر المبتدأ، و (فيها): يتعلق به، فيكون منصوبا بإضمار أن في جواب التمني. المعنى: ثم قال سبحانه: (واتل عليهم) يا محمد (نبأ إبراهيم) أي: خبر إبراهيم، فإنه شجرة الأنبياء، وبه افتخار العرب، وفيه تسلية لك، وعظة لقومك. (إذ قال لأبيه وقومه) على وجه الإنكار عليهم (ما تعبدون) أي: أي شئ تعبدون من دون الله (قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) أي: فنظل لها مصلين، عن ابن عباس. وقيل: معناه فنقيم على عبادتها مداومين. (قال) إبراهيم (هل يسمعونكم) أي: هل يسمعون دعاءكم (إذ تدعون) معناه: هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم (أو ينفعونكم) إذا عبدتموهم (أو يضرون) إن تركتم عبادتها. وفي هذا بيان أن الدين إنما يثبت بالحجة، ولولا ذلك لم يحاجهم إبراهيم عليه السلام هذا الحجاج. (قالوا بل وجدنا آبائنا كذلك يفعلون) وهذا إخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام (قال) إبراهيم عليه السلام منكرا عليهم التقليد (أفرأيتم ما كنتم تعبدون) أي: الذي كنتم تعبدونه من الأصنام (أنتم) الآن (وآباؤكم الأقدمون) أي
[ 336 ]
المتقدمون أي: والذين كان آباؤكم يعبدونهم. وإنما دخل لفظة كان، لأنه جمع بين الحال والماضي. (فإنهم عدو لي) معناه: إن عبادة الأصنام مع الأصنام، عدو لي إلا أنه غلب ما يعقل. وقيل: إنه يعني الأصنام. وإنما قال: (فإنهم) فجمعها جمع العقلاء، لما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلا من العقلاء، وجعل الأصنام كالعدو في الضرر من جهة عبادتها. ويجوز أن يكون قال (فإنهم): لأنه كان منهم من يعبد الله مع عبادته الأصنام، فغلب ما يعقل، ولذلك استثنى فقال: (إلا رب العالمين) استثناء من جميع المعبودين. قال الفراء: إنه من المقلوب، والمعنى فإني عدو لهم، ومن عاديته فقد عاداك. ثم وصف رب العالمين فقال: (الذي خلقني) وأخرجني من العدم إلى الوجود (فهو يهديني) أي: يرشدني إلى ما فيه نجاتي. وقيل: الذي خلقني لطاعته، فهو يهديني إلى جنته (والذي هو يطعمني ويسقيني وإذا مرضت فهو يشفيني) معناه: إنه يرزقني ما أتغذى به، ويفعل ما يصح بدني (والذي يميتني ثم يحييني) أي: يميتني بعد أن كنت حيا، ويحييني يوم القيامة بعد أن أكون ميتا (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: يوم الجزاء. وإنما قال ذلك على سبيل الإنقطاع منه إلى الله تعالى، لا على سبيل أن له خطيئة يحتاج إلى أن يغفر له يوم القيامة، لأن عندنا لا يجوز أن يقع من الأنبياء شئ من القبائح. وعند جميع أهل العدل، وإن جوزوا عليهم الصغائر، فإنها تقع عندهم محبطة مكفرة، فليس شئ منها غير مغفور، فيحتاج إلى أن يغفر يوم القيامة. وقيل: معناه أطمع أن يغفر لمن يشفعني فيه، فأضافه إلى نفسه، كقوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). وإنما قال: (وإذا مرضت) فأضاف المرض إلى نفسه، وإن كان من الله، استعمالا لحسن الأدب. فإن المقصود شكر نعمة الله تعالى، ولو كان المقصود بيان القدرة لأضافه إلى الله تعالى، ونظيره قول الخضر عليه السلام: (فأردت أن أعيبها)، ثم قال: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) وإنما حذف الياءات لأنه رؤوس الآيات. وهذا الكلام من إبراهيم عليه السلام إنما صدر على وجه الإحتجاج على قومه، والإخبار بأنه لا يصلح للإلهية إلا من فعل هذه الأفعال. ثم حكى الله عنه أنه سأله وقال: (رب هب لي حكما) والحكم بيان الشئ على ما تقتضيه الحكمة. وقيل: إنه العلم، عن ابن عباس، يعني علما إلى علم،
[ 337 ]
وفقها إلى فقه. وقيل: إنه النبوة، عن الكلبي. (وألحقني بالصالحين) أي: بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة. وقيل: معناه إفعل بي من اللطف ما يؤديني إلى الصلاح والإجتماع مع النبيين في الثواب. وفي هذا دلالة على عظم شأن الصلاح، وهو الإستقامة على ما أمر الله تعالى به، ودعا إليه، (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي: ثناء حسنا في آخر الأمم، وذكرا جميلا، وقبولا عاما في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. فأجاب الله سبحانه دعاه. فكل أهل الأديان يثنون عليه، ويقرون بنبوته، والعرب تضع اللسان موضع القول على الإستعارة، لأن القول يكون بها، وكذلك يسمون اللغة لسانا، قال أعشى باهلة: إني أتتني لسانا لا أسر بها * من علو، لا عجب منها، ولا سخر وقيل: إن معناه واجعل لي ولد صدق في آخر الأمم، يدعو إلى الله، ويقوم بالحق، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم (واجعلني من ورثة جنة النعيم) أي: من الذين يرثون الفردوس (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) أي: من الذاهبين عن الصواب في اعتقاده. ووصفه بأنه ضال يدل على أنه كان كافرا كفر جهالة، لا كفر عناد. وقد ذكرنا الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه في سورة التوبة. (ولا تخزني يوم يبعثون) أي: لا تفضحني، ولا تعيرني بذنب يوم تحشر الخلائق. وهذا الدعاء كان منه عليه السلام على وجه الإنقطاع إلى الله تعالى، لما بينا أن القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء عليهم السلام. ثم فسر ذلك اليوم بأن قال: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) أي: لا ينفع المال والبنون أحدا إذ لا يتهيأ لذي المال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به، ولا يتحمل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه. (إلا من أتى الله بقلب سليم) من الشرك والشك، عن الحسن، ومجاهد. وقيل: سليم من الفساد والمعاصي. وإنما خص القلب بالسلامة، لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد، من حيث إن الفساد بالجارحة، لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: هو القلب الذي سلم من حب الدنيا. ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". (وأزلفت الجنة للمتقين) أي: قربت لهم ليدخلوها (وبرزت الجحيم للغاوين) أي: أظهرت وكشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحق والصواب.
[ 338 ]
(وقيل لهم) في ذلك اليوم على وجه التوبيخ. (أين ما كنتم تعبدون من دون الله) من الأصنام والأوثان وغيرهما. وانما وبخوا بلفظ الإستفهام، لأنه لا جواب لهم عن ذلك إلا بما فيه فضيحتهم. (هل ينصرونكم) بدفع العذاب عنكم في ذلك اليوم (أو ينتصرون) لكم إذا عوقبتم. وقيل: ينتصرون أي: يمتنعون من العذاب. (فكبكبوا فيها، أي: جمعوا وطرح بعضهم على بعض، عن ابن عباس. وقيل: نكسوا فيها على رؤوسهم، عن السدي. (هم) يعني الآلهة التي يعبدونها (والغاوون) أي: والعابدون. والمعنى: إجتمع المعبودون من دون الله، والعابدون لها في النار. (وجنود إبليس أجمعون) أي: وكبكب معهم جنود إبليس، يريد من اتبعه من ولده، وولد آدم. (قالوا وهم فيها يختصمون) أي: قال هؤلاء، وهم في النار، يخاصم بعضهم بعضا (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) وإن هذه هي المخففة من الثقيلة أي: إنا كنا في ضلال. ومعناه: لقد كنا في ضلال عن الحق بين، وذهاب عن الصواب ظاهر، إذ سويناكم بالله، وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم. (وما أضلنا إلا المجرمون) أي: إلا أولونا الذين اقتدينا بهم، عن الكلبي. وقيل: إلا الشياطين، عن مقاتل. وقيل: الكافرون الذين دعونا إلى الضلال. ثم أظهروا الحسرة فقالوا: (فما لنا من شافعين) يشفعون لنا، ويسألون في أمرنا. (ولا صديق حميم) أي: ذي قرابة يهمه أمرنا. والمعنى: ما لنا من شفيع من الأباعد، ولا صديق من الأقارب، وذلك حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون. وفي الخبر المأثور عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة. فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم). وروى العياشي بالإسناد عن حمران بن أعين، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: والله لنشفعن لشيعتنا، والله لنشفعن لشيعتنا، حتى يقول الناس: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) إلى قوله (فنكون من المؤمنين) وفي رواية أخرى: حتى يقول عدونا. وعن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه، فيقول ويرفع سبابتيه: يا رب
[ 339 ]
خويدمي كان يقيني الحر والبرد ! فيشفع فيه. وفي خبر آخر عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن المؤمن ليشفع لجاره، وما له حسنة، فيقول: يا رب جاري، كان يكف عني الأذى ! فيشفع فيه. وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا. ثم قالوا (فلو أن لنا كرة) أي: رجعة إلى الدنيا (فنكون من المؤمنين) المصدقين فتحل لنا الشفاعة (إن في ذلك) أي: فيما قصصناه (لآية) أي: دلالة لمن نظر فيها، واعتبر بها. (وما كان أكثرهم مؤمنين) فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلام له بأن الشر قديم (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) مضى معناه. * (كذبت قوم نوح المرسلين [ 105 ] إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون [ 106 ] إني لكم رسول أمين [ 107 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 108 ] وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 109 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 110 ] * قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون [ 111 ] قال وما علمي بما كانوا يعملون [ 112 ] إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون [ 113 ] وما أنا بطارد المؤمنين [ 114 ] إن أنا إلا نذير مبين [ 115 ] قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين [ 116 ] قال رب إن قومي كذبون [ 117 ] فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين [ 118 ] فأنجينه ومن معه في الفلك المشحون [ 119 ] ثم أغرقنا بعد الباقين [ 120 ] إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 121 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 122 ]) *. القراءة: قرأ يعقوب: (وأتباعك) وهو قراءة ابن مسعود، والضحاك، وابن السميقع، والفراء. والباقون: (واتبعك). الحجة: يحتمل قوله (وأتباعك) وجهين أحدهما: أن يكون مبتدأ. و (الأرذلون) خبره. والمعنى لماذا نؤمن لك، وإنما أتباعك الأرذلون والآخر: أن يكون معطوفا على الضمير في أنؤمن أي: أنؤمن نحن وأتباعك. و (الأرذلون): صفة للأتباع. وجاز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير توكيد، لما وقع
[ 340 ]
هناك من الفصل، وهو قوله (لك)، فصار طول الكلام به كالعرض من توكيد الضمير بقوله (نحن). والمعنى أنؤمن لك وأتباعك الأرذلون فنعد في عدادهم. اللغة: الأرذلون والأراذل: السفلة وأوضاع الناس. والرذل: الوضيع. والرذيلة: نقيض الفضيلة. والطرد: إبعاد الشئ على وجه التنفير، طرده يطرده. وأطرده. جعله طريدا. واطرد في الذهاب: استمر في الذهاب كالطريد. والرجم: الرمي بالحجارة، ولا يقال للرمي بالقوس رجم. ويسمى المشتوم: مرجوما، لأنه يرمى بما يذم. والإنتهاء: بلوغ الحد من غير مجاوزة إلى ما وقع عنه النهي. وأصل النهاية: بلوغ الحد. والنهي: الغدير، لانتهاء الماء إليه. والفتح: الحكم. والفتاح: الحاكم، لأنه يفتح على وجه الأمر بالحكم الفصل، قال الشاعر: ألا أبلغ بني أعيا رسولا * فإني عن فتاحتكم غني والفلك: السفن، يقع على الواحد والجمع. والمشحون: من شحنه يشحنه شحنا: إذا ملأه بما يسد خلله. وشحن الثغر بالرجال، ومنه الشحنة. الاعراب: (ما علمي): ما حرف نفي، و (علمي) مبتدأ، وتقديره ما علمي ثبت، أو وحصل بما كانوا يعملون. المعنى: ثم ذكر سبحانه حديث نوح عليه السلام فقال: (كذبت قوم نوح المرسلين) دخلت التاء في كذبت، والقوم مذكر، لأن المراد بالقوم الجماعة أي: كذبت جماعة نوح المرسلين، لأن من كذب رسولا واحدا من رسل الله، فقد كذب الجماعة، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. وقال أبو جعفر عليه السلام: يعني بالمرسلين نوحا والأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم عليه السلام. (إذ قال لهم أخوهم نوح) أي: في النسب لا في الدين (ألا تتقون) عذاب الله تعالى في تكذيبي ومخالفتي. (إني لكم رسول أمين ! على الرسالة فيما بيني وبين ربكم. (فاتقوا الله ! بطاعته وعبادته (وأطيعوني) فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد (وما أسالكم عليه) أي: على الدعاء إلى التوحيد (من أجر) من مزيدة. (إن أجري) ما جزائي وثوابي (إلا على رب العالمين) وخالق الخلائق أجمعين. ثم كرر عليهم قوله (فاتقوا الله وأطيعوني) لاختلاف المعنى، لأن التقدير فاتقوا الله وأطيعوني، لأني رسول أمين، واتقوا الله وأطيعوني لأني لا أسألكم عليه أجرا،
[ 341 ]
فتخافوا تلف أموالكم به، وكل واحد من هذين المعنيين يقوي الداعي إلى قبول قول الغير، ويبعد عن التهمة. (قالوا أنؤمن لك) أي: نصدقك فيما تقول (واتبعك الأرذلون) أي: وقد اتبعك سفلة الناس، وأراذلهم، وخساسهم، عن قتادة. وقيل: يعنون المساكين الذين ليس لهم مال، ولا عز، عن عطا. وقيل: يعنون الحاكة والأساكفة، عن الضحاك، وعلقمة. والمعنى: إن أتباعك أراذلنا وفقراؤنا، وأصحاب الأعمال الدنية، والمهن الخسيسة، فلو اتبعناك لصرنا مثلهم، ومعدودين في جملتهم. وهذا جهل منهم لأنه ليس في إيمان الأرذلين به ما يوجب تكذيبه، فإن الرذل إذا أطاع سلطانه، استحق التقرب عنده دون الشريف العاصي. (قال وما علمي بما كانوا يعملون) أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أكلف ذلك، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الله، وقد أجابوني إليه (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) أي: ليس حسابهم إلا على ربي الذي خلقني وخلقهم، لو تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم. (وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين) أي: ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الذين تزعمون أنهم الأرذلون، لأني لست إلا نذيرا مخوفا من معصية الله، داعيا إلى طاعته، مبينا لها. (قالوا) له عند ذلك: (لئن لم تنته يا نوح) أي: إن لم ترجع عما تقوله، وتدعو إليه (لتكونن من المرجومين) بالحجارة، عن قتادة. وقيل: من المرجومين بالشتم، عن الضحاك. (قال) نوح (رب إن قومي كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا) أي: فاقض بيننا قضاء بالعذاب، لأنه قال: (ونجني ومن معي من المؤمنين) أي: من ذلك العذاب (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) أي: فخلصناه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة من الناس وغيرهم من الحيوانات. (ثم أغرقنا بعد) أي بعد نجاة نوح، ومن معه (الباقين) أي: الخارجين عن السفينة، الكافرين به (إن في ذلك لآية) واضحة على توحيد الله (وما كان أكثرهم مؤمنين) وليس هذا بتكرار، وإنما كل واحد في قصة على حدة. فهذا ذكر آية في قصة نوح، وما كان من شأنه، بعد ذكر آية مما كان في قصة إبراهيم، وذكر آية أخرى في قصة موسى وفرعون، فبين أنه ذكر كلا من ذلك لما فيه من الآية الباهرة.
[ 342 ]
(وإن ربك لهو العزيز) في إهلاك قوم نوح بالغرق (الرحيم) في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك. * (كذبت عاد المرسلين [ 123 ] إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون [ 124 ] إني لكم رسول أمين [ 125 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 126 ] وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين [ 127 ] أتبنون بكل ريع آية تعبثون [ 128 ] وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 130 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 131 ] واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون [ 132 ] أمدكم بأنعام وبنين [ 133 ] وجنات وعيون [ 134 ] إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 135 ] قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين [ 136 ] إن هذا إلا خلق الأولين [ 137 ] وما نحن بمعذبين [ 138 ] فكذبوه فأهلكنهم إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 139 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 140 ]) *. القراءة: قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو جعفر والكسائي. (خلق الأولين) بفتح الخاء. والباقون بضم الخاء واللام. وفي الشواذ قراءة قتادة: (تخلدون) بضم التاء وكسر اللام. الحجة: قال أبو علي: خلق الأولين عادتهم، وخلق الأولين اختلاقهم وكذبهم مثل قوله (وتخلقون إفكا)، و (إن هذا إلا اختلاق). وخلد الشئ: إذا بقي. وأخلدته وخلدته. وأخلد إلى كذا: إذا أقام عليه ولزمه. وقيل: أخلد الرجل: إذا أبطأ عنه الشيب. اللغة: الريع: الإرتفاع من الأرض، وجمعه أرياع وريعة. قال ذو الرمة: طراق الخوافي، مشرف فوق ريعة * ندى ليله في ريشه يترقرق (1) 1 - الطراق في الريش: أن يكون بعضها فوق بعض. والخوافي: ريشان من الجناح، إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. وترقرق: بمعنى تلألأ (*).
[ 343 ]
ومنه الريع في الطعام وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء. وقال أبو عبيدة: الريع الطريق بين الجبلين في الإرتفاع. وقيل: هو الفج الواسع. والمصانع: مأخذ الماء جمع مصنع. قال أبو عبيدة: كل بناء مصنعة. وقال قتادة ومجاهد: المصانع هي القصور والحصون. والبطش: العسف قتلا بالسيف، وضربا بالسوط. والجبار: العالي على غيره بعظيم سلطانه، وهو في صفة الله سبحانه مدح، وفي صفة غيره ذم، لأن معناه في العبد أنه يتكلف الجبرية. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن عاد، فقال: (كذبت عاد المرسلين) والتأنيث لمعنى القبيلة، لأنه أراد بعاد القبيلة (إذ قال لهم أخوهم) في النسب (هود ألا تتقون) الله باجتناب معاصيه (إني لكم رسول أمين) إلى قوله (رب العالمين) مر تفسيره (أتبنون بكل ريع) أي: بكل مكان مرتفع. وقيل: بكل شرف، عن ابن عباس. وقيل: بكل طريق، عن الكلبي، والضحاك. (آية تعبثون) أي: بناء لا تحتاجون إليه لسكناكم، وإنما تريدون العبث بذلك، واللعب واللهو. كأنه جعل بناهم ما يستغنون عنه عبثا منهم، عن ابن عباس في رواية عطا. ويؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه ؟ قال له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار. فمكث حتى إذا جاء صاحبها، فسلم في الناس، أعرض عنه، وصنع ذلك به مرارا، حتى عرف الرجل الغضب، والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، وقال: والله إني لأنكر نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أدري ما حدث في، وما صنعت ؟ قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى قبتك، فقال: لمن هذه ؟ فأخبرناه. فرجع إلى قبته، فسواها بالأرض. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فلم ير القبة، فقال: ما فعلت القبة التي كانت ههنا ؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها. فقال: إن لكل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلا ما لا بد منه. وقيل: معناه إنهم كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة، ليشرفوا على المارة والسائلة، فيسخروا منهم، ويعبثوا بهم، عن الكلبي، والضحاك. وقيل: إن هذا في بنيان الحمام، أنكر هود عليهم اتخاذهم بروجا للحمام عبثا، عن سعيد بن جبير، ومجاهد. (وتتخذون مصانع) أي: حصونا وقصورا مشيدة، عن مجاهد. وقيل: مأخذا للماء تحت الأرض، عن قتادة (لعلكم تخلدون) كأنكم تخلدون فيها، فلا
[ 344 ]
تموتون. فإن هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود. قال الزجاج: معناه تتخذون مباني للخلود، لا تتفكرون في الموت. (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) البطش: الأخذ باليد أي: إذا بطشتم بأحد تريدون إنزال عقوبة به، عاقبتموه عقوبة من يريد التجبر بارتكاب العظائم، كما قال: (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض). وقيل: معناه وإذا عاقبتم قتلتم، فمعنى الجبار: القتال على الغضب بغير حق. (فاتقوا الله وأطيعون) مر معناه (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون) أي: أعطاكم ما تعلمون من الخير. والإمداد: إتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شئ على انتظام. وهؤلاء أمدوا بأنواع من النعم، وهو قوله (أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون) فأعطاهم رزقهم على إدرار (إني أخاف عليكم) إن عصيتموني (عذاب يوم عظيم) يريد يوم القيامة. وصفه بالعظم لما فيه من الأهوال العظيمة. (قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين) أي: أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا، عن الكلبي، والمعنى: إنا لا نقبل ما تدعونا إليه على كل حال، أوعظت أم سكت أي: حصول الوعظ منك وارتفاعه مستويان عندنا. ثم قالوا (إن هذا إلا خلق الأولين) أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين الذين ادعوا النبوة، ولم يكونوا أنبياء، وأنت مثلهم. ومن قرأ (خلق الأولين) بضم الخاء فالمعنى: ما هذا الذي نحن عليه من تشييد الأبنية، واتخاذ المصانع، والبطش الشديد، إلا عادة الأولين من قبلنا. وقيل: معناه ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين، في أنهم كانوا يحيون ويموتون، ولا بعث ولا حساب. وقيل: معناه ما الذي تدعيه من النبوة والرسالة، إلا عادة الأولين. (وما نحن بمعذبين) على ما تدعيه لا في الدنيا، ولا بعد الموت (فكذبوه فأهلكناهم) بعذاب الإستئصال (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) قد مر تفسيره. * (كذبت ثمود المرسلين [ 141 ] إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون [ 142 ] إني لكم رسول أمين [ 143 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 144 ] وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 145 ] أتتركون في ما ههنا ءامنين [ 146 ] في جنات وعيون [ 147 ] وزروع ونخل طلعها هضيم [ 148 ] وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين [ 149 ]
[ 345 ]
فاتقوا الله وأطيعون [ 150 ] ولا تطيعوا أمر المسرفين [ 151 ] الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون [ 152 ] قالوا إنما أنت من المسحرين [ 153 ] ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين [ 154 ] قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 155 ] ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم [ 156 ] فعقروها فأصبحوا نادمين [ 157 ] فأخذهم العذاب إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 156 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 159 ]) * القراءة: قرأ أهل الكوفة، والشام: (فارهين) بالألف. والباقون: (فرهين) بغير الألف. الحجة: قال الزجاج: فرهين أشرين مرحين. وفارهين. حاذقين. أبو عبيدة قال: قد جاء فارهين في معنى فرهين، وأنشد: لا أستكين إذا ما أزمة أزمت * ولن تراني بخير فاره اللبب (1) أي: مرح اللبب. اللغة: الهضيم: اللطيف في جسمه، ومنه: هضيمة الحشا أي: لطيفة الحشا، ومنه: هضمه حقه أي: نقصه، لأنه لطف جسمه بنقصه. ومنه: هضم الطعام: إذا لطف واستحال إلى مشاكلة البدن. والمسحر: الذي قد سحر مرة بعد أخرى، وهو أن يكون ممن له سحر أي: رئة. ومنه قولهم انتفخ سحره، قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن، فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر أي: المعلل بالطعام والشراب على أمر يخفى كخفاء السحر. والشرب: الحظ من الماء قال: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال (2) (1) الأزمة: الشدة والقحط. وفي (اللسان): " فاره الطلب ". (2) الوقل: ثمرة شجر المقل. وجمعه أو قال. وفي (اللسان): " سحوق ذات أو قال " وقال: السحوق ما طال من شجر المقل (*).
[ 346 ]
أي: لم يمنع حظها من الماء. والسوء: الضر الذي يشعر به صاحبه لأنه يسوؤه وقوعه. والعقر: قطع شئ من بدن الحي، فإذا كثر انتفت معه الحياة، وإذا قل لم تنتف. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن ثمود فقال: (كذبت ثمود المرسلين) وهو مفسر في هذه السورة إلى قوله (أتتركون فيما ههنا آمنين) معناه: أتظنون أنكم تتركون فيما أعطاكم الله من الخير في هذه الدنيا، آمنين من الموت والعذاب. وهذا إخبار بأن ما هم فيه من النعم، لا يبقى عليهم، وأنها ستزول عنهم. ثم عدد نعمهم التي كانوا فيها، فقال: (في جنات) أي: بساتين يسترها الشجر (وعيون) جارية (وزروع ونخل طلعها هضيم) الطلع: الكفرى، مشتق من الطلوع، لأنه يطلع من النخل. والهضيم: اليانع النضيج، عن ابن عباس. وقيل: هو الرطب اللين، عن عكرمة. وقيل: هو الضامر بدخول بعضه في بعض، عن الضحاك. وقيل: هو الذي إذا مس تفتت، عن مجاهد. وقيل: هو الذي ليس فيه نوى، عن الحسن. (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) أي: حاذقين بنحتها من فره الرجل فراهة فهو فاره. وفرهين: أشرين بطرين، عن ابن عباس. (فاتقوا الله) في مخالفته (وأطيعون) فيما أمركم به (ولا تطيعوا أمر المسرفين) يعني الرؤساء منهم، وهم تسعة رهط من ثمود الذين عقروا الناقة. ثم وصفهم فقال: (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا) في جوابه (إنما أنت من المسحرين) قد أصبت بسحر، ففسد عقلك، فصرت لا تدري ما تقول. وهو بمعنى المسحورين. والمراد: سحرت مرة بعد أخرى. وقيل: معناه من المخدوعين. وقيل: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، عن ابن عباس. وقيل: معناه أنت مثلنا لك سحر أي: رئة تأكل وتشرب، فلم صرت أولى منا بالنبوة (ما أنت إلا بشر مثلنا) أي: آدمي مثلنا. (فأت بآية) أي: بمعجزة تدل على صدقك (إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة) وهي الناقة التي أخرجها الله تعالى من الصخرة، عشراء ترغو على ما اقترحوه. (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أي: لها حظ من الماء لا تزاحموها فيه، ولكم حظ لا تزاحمكم فيه. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن أول عين نبعت في الأرض هي التي فجرها الله لصالح، فقال: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم).
[ 347 ]
(ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) هذا مع ما بعده، مفسر في سورة الأعراف، والقصة مشروحة هناك. * (كذبت قوم لوط المرسلين [ 160 ] إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون [ 161 ] إني لكم رسول أمين [ 162 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 163 ] وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 164 ] أتأتون الذكران من العالمين [ 165 ] وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 166 ] قالوا لئن لم تنته يالوط من المخرجين [ 167 ] قال إني لعملكم من القالين [ 168 ] رب نجني وأهلي مما يعملون [ 169 ] فنجيناه وأهله أجمعين [ 170 ] إلا عجوزا في الغابرين [ 171 ] ثم دمرنا الأخرين [ 172 ] وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 173 ] إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 174 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 175 ]) *. اللغة: العادي والظالم والجائر نظائر، وهو من العدوان، وأصله من العدو، والذي هو الإسراع في السعي. والقالي: المبغض، يقال: قلاه يقليه قلى: أبغضه. الغابر: الباقي في قلة كالتراب الذي يذهب بالكنس، ويبقى غباره. والغبر: البقية من اللبن في الأخلاف. قال الحرث بن حلزة: لا تكسع الشول بأغبارها * إنك لأ تدري من الناتج (1) والتدمير: الإهلاك بأهول الأمور. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط، فقال: (كذبت قوم لوط المرسلين) وقد فسرناه إلى قوله: (أتأتون الذكران من العالمين) أي: تصيبون الذكور من جملة (1) الكسع: أن يؤخذ ماء بارد، فيضرب به ضروع الإبل الحلوبة إذا أرادوا تغزيرها، ليجف لبنها، ويكون أقوى لأولادها التي تنتجها. والشول: جمع الشائلة التي أتى عليها من حملها، أو وضعها سبعة أشهر، فخف لبنها. يوصي الشاعر ابنه بإطعام الأضياف. يقول: لا تضرب الماء البارد على ضرع الإبل، تطلب بذلك قوة نسلها، واحلبها للأضياف فلعل عدوا يغير عليها، فيكون نتاجها له دونك (*).
[ 348 ]
الخلائق. (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) أي: وتتركون ما خلقه الله لكم من الأزواج والنساء. والزوجة: هي التي وقع عليها العقد بالنكاح الصحيح، يقال لها: زوجة وزوج. قال سبحانه: (أسكن انت وزوجك الجنة). (بل أنتم قوم عادون) أي: ظالمون معتدون الحلال إلى الحرام، والطاعة إلى المعصية. (قالوا لئن لم تنته يا لوط) وترجع عما تقوله، ولم تمتنع عن دعوتنا، وتقبيح أفعالنا (لتكونن من المخرجين) عن بلدنا. (قال) لوط لهم عند ذلك: (إني لعملكم من القالين) أي: من المبغضين الكارهين. ثم دعا ربه فقال: (رب نجني وأهلي مما يعملون) أي: من عاقبة ما يعملونه، وهو العذاب النازل بهم. وأجاب الله سبحانه دعائه قال: (فنجيناه وأهله أجمعين) يعني من العذاب الذي وقع بهم. ويجوز أن يكون أراد: نجيناه وأهله من نفس عملهم، وتكون النجاة من العذاب النازل بهم تبعا لذلك. والأول أوضح ويدل عليه قوله (إلا عجوزا في الغابرين). وأراد بالعجوز امرأته، لأنها كانت تدل أهل الفساد على أضيافه، فكانت من الباقين في العذاب، وهلكت فيما بعده مع من خرج من القرية، بما أمطره الله من الحجارة (ثم دمرنا الآخرين) أهلكناهم بالخسف. وقيل: بالإئتفاك، وهو الإنقلاب. ثم أمطر على من كان غائبا منهم عن القرية، الحجارة من السماء، وهو قوله: (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) أي: بئس واشتد مطر الكافرين مطرهم، وما بعده مفسر قبل. * (كذب أصحاب لئيكة المرسلين [ 176 ] إذ قال لهم شعيب ألا تتقون [ 177 ] إني لكم رسول أمين [ 178 ] فاتقوا الله وأطيعون [ 179 ] وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين [ 180 ] أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين [ 181 ] وزنوا بالقسطاس المستقيم [ 182 ] ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين [ 183 ] واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 184 ] قالوا إنما أنت من المسحرين [ 185 ] وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين [ 186 ] فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين [ 187 ] قال ربي أعلم بما تعملون [ 188 ] فكذبوه
[ 349 ]
فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [ 189 ] إن في ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 190 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 191 ]) *. القراءة: قرأ أهل الحجاز، والشام (ليكة) بالنصب غير مهموز ها هنا وفي ص. والباقون: (الأيكة) بإثبات الهمزة والجر، في الموضعين. الحجة: قال أبو علي: الأيكة تعريف أيكة، فإذا خففت الهمزة حذفتها، وألقيت حركتها على اللام، فقلت: اليكة، كما قالوا الحمر. ومن قال لحمر قال ليكة. وقول من قال (أصحاب ليكة) بفتح التاء مشكل، لأنه فتح مع لحاق لام المعرفة الكلمة. وهذا في الإمتناع كقول من قال: بلحمر، فيفتح. وإنما يخرج هذا على أن المعنى قد سمي بكلمة تكون اللام فيها فاء، ولم أسمع بها. وقال الزجاج: جاء في التفسير: إن اسم المدينة التي أرسل إليها شعيب كان ليكة. اللغة: الأيكة. الغيضة ذات الشجر الملتف. والجمع الأيك. قال: تجلو بقادمتي حمامة أيكة * بردا أسف لثاثه بالإثمد (1) المخسر: المعرض للخسران في رأس المال بالنقصان. أخسر يخسر إخسارا: إذا جعله يخسر في ماله. ونقيضه أربحه. والجبلة: الخليقة التي طبع عليها الشئ بكسر الجيم والباء. وقيل أيضا بضمها. ويسقطون الهاء أيضا. قال أبو ذؤيب: منايا يقربن الحتوف لأهلها * جهارا، ويستمتعن بالأنس الجبل (2) وقال آخر: والموت أعظم حادث * مما يمر على الجبلة المعنى: ثم أخبر سبحانه عن شعيب فقال: (كذب أصحاب لئيكة المرسلين) وهم أهل مدين عن ابن عباس. وقيل: إنهم غيرهم، عن قتادة. وقال: إن الله سبحانه أرسل شعيبا إلى أمتين (إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخوهم، لأنه لم يكن من نسبهم، وكان من أهل مدين، فلذلك قال في ذلك الموضع: (وإلى مدين (1) شبه شفتي محبوبته بمقدمي جناح الحمامة، وثغرها بالبرد ذر بالإثمد. (2) يقول: الناس كلهم متعة للموت، يستمتع بهم (*).
[ 350 ]
أخاهم شعيبا). (ألا تتقون إني لكم رسول أمين) مفسر فيما قبل إلى قوله (رب العالمين). وإنما حكى الله سبحانه دعوة كل نبي بصيغة واحدة، ولفظ واحد، إشعارا بأن الحق الذي تأتي به الرسل، ويدعون إليه واحد، من اتقاء الله تعالى، واجتناب معاصيه، والإخلاص في عبادته، وطاعة رسله. وإن أنبياء الله تعالى لا يكونون إلا أمناء الله في عباده، فإنه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته، لما في ذلك من التنفير عن قبولهم. ثم قال: (أوفوا الكيل) أي: أعطوا الكيل وافيا غير ناقص، ويدخل الوفاء في الكيل والوزن والذرع والعدد. (ولا تكونوا من المخسرين) أي: من الناقصين للكيل والوزن. (وزنوا بالقسطاس المستقيم) أي: بالعدل الذي لا حيف فيه، يعني زنوا وزنا يجمع الإيفاء والإستيفاء. وذكرنا الأقوال في القسطاس في سورة بني إسرائيل. (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أي: ولا تنقصوا الناس حقوقهم، ولا تمنعوها (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي: ولا تسعوا في الأرض بالفساد. والعثي: أشد الفساد والخراب، عن أبي عبيدة. (واتقوا الذي خلقكم) أي: أوجدكم بعد العدم (والجبلة) أي: الخليقة (الأولين) يعني: وخلق الأمم المتقدمين. (قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا) مر معناه (وإن نظنك لمن الكاذبين) أي: وإنا نظنك كاذبا من جملة الكاذبين. وإن هذه مخففة من الثقيلة، ولذلك لزمها اللام في الخبر. (فأسقط علينا كسفا من السماء) أي: قطعا من السماء جمع كسفة، عن ابن عباس. (إن كنت من الصادقين) في دعواك (قال) شعيب (ربي أعلم بما تعملون) ومعناه: إنه إن كان في معلومه أنه إن بقاكم تبتم، أو تاب بعضكم، لم يقتطعكم بالعذاب. وإن كان في معلومه أنه لا يفلح واحد منكم، فسيأتيكم عذاب الإستئصال. ثم قال: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) أصابهم حر شديد سبعة أيام، وحبس عنهم الريح، ثم غشيتهم سحابة. فلما خرجوا إليها طلبا للبرد من شدة الحر الذي أصابهم، أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم، فكان من أعظم الأيام في الدنيا عذابا. وذلك قوله (إنه كان عذاب يوم عظيم) ومعنى الظلة هاهنا السحابة التي قد أظلتهم (إن في ذلك لآية) مفسر إلى آخره.
[ 351 ]
* (وإنه لتنزيل رب العالمين [ 192 ] نزل به الروح الامين [ 193 ] على قلبك لتكون من المنذرين [ 194 ] بلسان عربي مبين [ 195 ] وإنه لفي زبر الاولين [ 196 ] أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بني إسرائيل [ 197 ] ولو نزلناه على بعض الاعجمين [ 198 ] فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين [ 199 ] كذلك سلكناه في قلوب المجرمين [ 200 ] لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ 201 ] فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 202 ] فيقولوا هل نحن منظرون [ 203 ] أفبعذابنا يستعجلون [ 204 ] أفرأيت إن متعناهم سنين [ 205 ] ثم جاءهم ما كانوا يوعدون [ 206 ] ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون [ 207 ] وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون [ 208 ] ذكرى وما كنا ظالمين [ 209 ] وما تنزلت به الشياطين [ 210 ] وما ينبغي لهم وما يستطيعون [ 211 ] إنهم عن السمع لمعزولون [ 212 ]) * القراءة: قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وحفص وزيد: (نزل) بالتخفيف، (الروح الأمين) بالرفع. والباقون: (نزل) بالتشديد، (الروح الأمين) بالنصب. وقرأ ابن عامر: (أو لم تكن) بالتاء، (آية) بالرفع. والباقون: (لم يكن) بالياء (آية) بالنصب. وفي الشواذ قراءة الحسن: (الأعجميين) وقراءته أيضا (فتأتيهم بغتة) بالتاء (ما تنزلت به الشياطون). الحجة: قال أبو علي: حجة من قال (نزل به) بالتشديد قوله (فإنه نزله على قلبك)، و (تنزل الملائكة بالروح) فإنه مطاوع نزل، وقوله (نزله روح القدس من ربك بالحق). ومن أسند الفعل إلى الروح فقال نزل به الروح الأمين، فإنه ينزل بأمر الله تعالى فمعناه معنى المثقلة والوجه في قراءة ابن عامر (أو لم تكن لهم آية) أن في (تكن) ضمير القصة، والحديث، لأن ما يقع تفسيرا للقصة والحديث من الجملة إذا كان فيها اسم مؤنث، جاز تأنيث المضمر على شريطة التفسير كقوله (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا). وقوله (فإنها لا تعمى الأبصار، وكذلك (أن يعلمه علماء بني إسرائيل): لما كان فيه المؤنث، جاز أن يؤنث تكن. فآية: مرتفعة بأنها
[ 352 ]
خبر المبتدأ الذي هو (أن يعلمه علماء بني إسرائيل). ولا يمتنع أن لا يضمر القصة والحديث، ولكن يرفع (أن يعلمه) بقوله (تكن)، وإن كان في تكن علامة التأنيث، لأن (أن يعلمه) في المعنى هو الآية. فيحمل الكلام على المعنى، كما حمل على المعنى في قوله: (فله عشر أمثالها)، فأنث لما كان المراد بالأمثال الحسنات. وكذلك قراءة من قرأ (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا). وقال ابن جني في قراءة الحسن (الأعجميين): إنها تفسير للغرض في القراءة المجمع عليها، وهي قوله بعض الأعجميين، وذلك أن ما كان من الصفات على أفعل، ومؤنثه فعلى، لا يجمع بالواو والنون، ولا بالألف والتاء. فكان قياسه أن لا يجوز فيه الأعجمون، لأن مؤنثة عجمى. لكن سببه أنه أريد به الأعجميون. ثم حذف ياء النسب، وجعل جمعه بالواو والنون دليلا عليها، وإمارة لإرادتها، كما جعلت صحة الواو في عواور، إمارة لإرادة الياء في عواوير. وقوله (فتأتيهم بغتة) بالتاء معناه فتأتيهم الساعة، فأضمر الساعة لدلالة العذاب الواقع فيها عليها، ولكثرة ما يرد في القرآن من ذكر إتيانها. وأما قوله (الشياطون) فقد قال الفراء فيه غلط الشيخ يعني الحسن. فقيل ذلك للنضر بن شميل، فقال: إذا جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن، مع أنا نعلم أنه لم يقرأ به إلا وقد سمعه. قال ابن جني: هذا مما يعرض مثله للفصيح، لتداخل الجمعين عليه، وتشابههما عنده، ونحو منه قولهم: مسيل، فيمن أخذه من السيل. ثم قالوا في جمعه: مسلان وأمسلة. وفي معين: معنان وأمعنة، مع أن الأقوى أن يكون معنان من العين. فالشياطون غلط لكن يشبهه، كما أن من همز مصائب، كذلك عندهم. وقال الزمخشري: الوجه فيه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون، وبين أن يجريه على ما قبله، فيقول الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن تقول هذه يبرون ويبرين، وفلسطون وفلسطين. وحقه أن يشق من الشيطوطة، وهي الهلاك، كما قيل له الباطل. اللغة: الأعجم: الذي يمتنع لسانه عن العربية. والعجمي. نقيض العربي. والأعجمي: نقيض الفصيح. الاعراب: (لا يؤمنون به): في موضع النصب على الحال. و (بغتة):
[ 353 ]
مصدر وضع موضع الحال. (سنين): ظرف زمان لمتعناهم. (ما أغنى): ما نافية ومفعول (أغنى) محذوف وتقديره: ما أغنى عنهم تمتعهم شيئا. (ذكرى): في محل النصب لأنه مفعول له. (وما ينبغي): فاعل ينبغي مستكن فيه، عائد إلى مصدر تنزل، تقديره: وما ينبغي لهم أن يتنزلوا به. المعنى: ثم بين سبحانه أمر القرآن بعد أن قص أخبار الأنبياء عليهم السلام، ليتصل بها حديث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به) أي: نزل الله بالقرآن (الروح الأمين) يعني جبرائيل عليه السلام، وهو أمين الله، لا يغيره ولا يبدله. وسماه روحا، لأنه يحيي به الدين. وقيل: لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات. وقيل: لأنه جسم روحاني (على قلبك) يا محمد. وهذا على سبيل التوسع، لأن الله تعالى يسمعه جبرائيل عليه السلام فيحفظه، وينزل به على الرسول، ويقرأه عليه، فيعيه ويحفظه بقلبه. فكأنه نزل به على قلبه. وقيل. معناه لقنك الله حتى تلقنته، وثبته على قلبك، وجعل قلبك وعاء له. (لتكون من المنذرين) أي: لتخوف به الناس، وتنذرهم بآيات الله (بلسان عربي مبين) أي: بلغة العرب، مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم. وقيل: أراد به لسان قريش ليفهموا ما فيه، ولا يقولوا: ما نفهم ما قال محمد، عن مجاهد. وقيل. لسان جرهم. وإنما جعله عربيا، لأن المنزل عليه عربي، والمخاطبون به عرب، ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب. وقد تضمنت هذه الآية تشريف هذه اللغة، لانه سماها مبينا، ولذلك اختارها لأهل الجنة (وإنه) أي: وإن ذكر القرآن وخبره (لفي زبر الأولين) أي: في كتب الأولين على وجه البشارة به، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا بمعنى أن الله أنزله على غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وواحد الزبر: زبور. وقيل: معناه إنه أنزل على سائر الأنبياء من الدعاء إلى التوحيد والعدل، والإعتراف بالبعث، وأقاصيص الأمم مثل الذي نزل في القرآن. (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) معناه: أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل بمجيئه، على ما تقدمت البشارة، دلالة لهم على صحة نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل، كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم، وكانت اليهود تبشر به، وتستفتح على العرب به، وكان ذلك سبب إسلام الأوس والخزرج، على ما مر بيانه، وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام وأصحابه، عن
[ 354 ]
ابن عباس. وقيل: هم خمسة: عبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد وأسيد، عن عطية. (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) أي: ولو نزلنا القرآن على رجل ليس من العرب، وعلى من لا يفصح (فقرأه عليهم) أي: على العرب (ما كانوا به مؤمنين) أي: لم يؤمنوا به، وأنفوا من اتباعه، لكنا أنزلناه بلسان العرب على أفصح رجل منهم، من أشرف بيت، ليتدبروا فيه، وليكون أدعى إلى اتباعه وتصديقه. وقيل. معناه لو نزلناه على أعجم من البهائم، أو غيرها، لما آمنوا به، وإن كان فيه زيادة أعجوبة، عن عبد الله بن مطيع. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية، وهو على بعير، فأشار إليه وقال: هذا من الأعجمين. (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) أي: كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا، أمررناه، وأدخلناه وأوقعناه في قلوب الكافرين، بأن أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قرأه عليهم، وبينه لهم. ثم بين أنهم مع ذلك (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) فيلجئهم إلى الإيمان به. وهذا خبر عن الكفار الذين علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا. (فيأتيهم) أي العذاب الذي يتوقعونه، ويستعجلونه (بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون) بمجيئه (فيقولوا هل نحن منظرون) أي: مؤخرون لنؤمن ولنصدق. قال مقاتل: لما أوعدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العذاب، استعجلوا العذاب تكذيبا له، فقال الله: (أفبعذابنا يستعجلون) توبيخا لهم. ثم قال: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي: أرأيت إن أنظرناهم، وأخرناهم سنين، ومتعناهم بشئ من الدنيا، ثم أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متعوا في تلك السنين من النعيم لازديادهم في الآثام، واكتسابهم من الإجرام. وهو استفهام في معنى التقرير. (وما أهلكنا من قرية) أي: وما أهلكنا قرية. (إلا لها منذرون) أي: إلا بعد إقامة الحجج عليهم بتقديم الإنذار، وإرسال الرسل. (ذكرى) أي: تذكيرا وموعظة لهم، ليتعظوا ويصلحوا. فإذا لم يصلحوا مع التخويف والتحذير، واستحقوا عذاب الإستئصال بإصرارهم على الكفر والعناد، أهلكناهم. (وما كنا ظالمين) أي: وما ظلمناهم بالإهلاك، لأنا لا نظلم أحدا. نفى سبحانه عن نفسه الظلم، وفي هذا تكذيب لمن زعم أن كل ظلم وكفر في الدنيا، هو من خلقه وإرادته. وغاية الظلم أن يعاقب عباده على ما خلقه فيهم،
[ 355 ]
وأراده منهم، تعالى الله عن ذلك، وتقدس. (وما تنزلت به) أي: بالقرآن (الشياطين) كما يزعمه بعض المشركين (وما ينبغي لهم) إنزال ذلك أي: الشياطين (وما يستطيعون) ذلك ولا يقدرون عليه، لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموه بها المبطل، فإنه إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق، أخلصها بمثل هذه الحراسة، حتى تصح الدلالة بها. ومعنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب. (إنهم عن السمع لمعزولون) أي: مصروفون عن استماع القرآن أي: عن المكان الذي يستمعون ذلك فيه، ممنوعون عنه بالشهب الثاقبة. وقيل: معناه إن الشياطين عن سمع القرآن منحون، عن قتادة. فإن العزل تنحية الشئ عن موضع إلى خلافه وإزالته عن أمر إلى نقيضه. قال مقاتل: قالت قريش إنما تجئ بالقرآن الشياطين، فتلقيه على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأكذبهم الله تعالى بأن قال: إنهم لا يقدرون بأن يأتوا بالقرآن من السماء، قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب. (فلا تدع مع الله إلها ءاخر فتكون من المعذبين [ 213 ] وأنذر عشيرتك الأقربين [ 214 ] واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [ 215 ] فإن عصوك فقل إنى برئ مما تعملون [ 216 ] وتوكل على العزيز الرحيم [ 217 ] الذي يريك حين تقوم [ 218 ] وتقلبك في الساجدين [ 219 ] إنه هو السميع العليم [ 220 ]). القراءة: قرأ أهل المدينة وابن عامر: (فتوكل) بالفاء. والباقون بالواو. الحجة: هو في مصاحف أهل المدينة والشام بالفاء. وفي مصاحف مكة والعراق بالواو. والوجهان حسنان. اللغة: عشيرة الرجل: قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم، وهم يعاشرونه. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به سائر المكلفين، فقال: (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) بسبب ذلك. وإنما أفرده بالخطاب، ليعلم أن العظيم الشأن إذا أوعد، فمن دونه كيف حاله. وإذا حذر هو، فغيره أولى بالتحذير. (وأنذر عشيرتك الأقربين) أي: رهطك الأدنين أي: أنذرهم بالإفصاح
[ 356 ]
من غير تليين بالقول، كما تدعو إليه مقاربة العشيرة. وإنما خصهم بالذكر تنبيها على أنه ينذر غيرهم، وأنه لا يداهنهم لأجل القرابة، ليقطع طمع الأجانب عن مداهنته في الدين. وقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بأن يبدأ بهم في الإنذار والدعاء إلى الله، ثم بالذين يلونهم، كما قال: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار)، لأن ذلك هو الذي يقتضيه حسن الترتيب. وقيل: إنه إنما خصهم، لأنه يمكنه أن يجمعهم، ثم ينذرهم، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واشتهرت القصة بذلك عند الخاص والعام. وفي الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنه قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنة (1)، ويشرب العس، فأمر عليا عليه السلام برجل شاة، فأدمها (2) ثم قال: ادنوا بسم الله، فدنا القوم عشرة، عشرة، فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بقعب (3) من لبن، فجرع منه جرعة، ثم قال لهم: اشربوا بسم الله. فشربوا حتى رووا. فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ، ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني عبد المطلب ! إني أنا النذير إليكم من الله، عز وجل، والبشير. فأسلموا وأطيعوني تهتدوا. ثم قال: من يؤاخيني ويؤازرني، ويكون وليي، ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي، ويقضي ديني ؟ فسكت القوم. فأعادها ثلاثا، كل ذلك يسكت القوم، ويقول علي عليه السلام: أنا. فقال في المرة الثالثة أنت. فقام القوم، وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك. أورده الثعلبي في تفسيره. وروي عن أبي رافع هذه القصة، وأنه جمعهم في الشعب، فصنع لهم رجل شاة، فأكلوا حتى تضلعوا، وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي ورهطي. وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل من أهله أخا، ووزيرا، ووارثا، ووصيا، وخليفة في أهله، فأيكم يقوم (1) وفي بعض الروايات: " الجذعة "، وفي بعضها: " الجفرة ". وهي من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، وفصل عن أمه، وأخذ في الرعي. والعس: القدح الكبير. (2) أدم الخبز. خلطه بالأدام. (3) القعب: القدح الضخم الغليظ (*).
[ 357 ]
فيبايعني على أنه أخي، ووارثي، ووزيري، ووصيي، ويكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ؟ فسكت القوم، فقال: ليقومن قائمكم، أو ليكونن في غيركم، ثم لتندمن. ثم أعاد الكلام ثلاث مرات. فقام علي عليه السلام فبايعه، وأجابه، ثم قال: أدن مني. فدنا منه، ففتح فاه، ومج في فيه من ريقه، وتفل بين كتفيه وثدييه، فقال أبو لهب: فبئس ما حبوت به (1) ابن عمك أن أجابك، فملأت فاه ووجهه بزاقا ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ملأته حكمة وعلما. وعن ابن عباس قال: لما نزلت الآية، صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، فقال: يا صباحاه ! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك. فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم، أو ممسيكم، ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبا لك ! ألهذا دعوتنا جميعا. فأنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) إلى آخر السورة. وفي قراءة عبد الله بن مسعود (وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين). وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) أي: ألن جانبك وتواضع لهم، وحسن أخلاقك معهم، عن أبي زيد، وغيره. (فإن عصوك) يعني أقاربك في إنذارك إياهم، وخالفوك فيما تدعوهم إليه (فقل) لهم (إني برئ مما تعملون) أي: من أعمالكم القبيحة، وعبادتكم الأصنام. (وتوكل على العزيز الرحيم) أي: فوض أمرك إلى العزيز المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه، ليكفيك كيد أعدائك الذين عصوك فيما أمرتهم به. (الذي يراك حين تقوم) أي: الذي يبصرك حين تقوم من مجلسك، أو فراشك إلى الصلاة وحدك، وفي الجماعة. وقيل: معناه يراك حين تقوم في صلاتك، عن ابن عباس. وقيل: حين تقوم بالليل، لأنه لا يطلع عليه أحد غيره. وقيل: حين تقوم للإنذار، وأداء الرسالة. (وتقلبك في الساجدين) أي: ويرى تصرفك في المصلين بالركوع والسجود، والقيام والقعود، عن ابن عباس، وقتادة. والمعنى: يراك حين تقوم إلى الصلاة مفردا، وتقلبك في الساجدين إذا صليت في جماعة. وقيل: معناه وتقلبك في (1) أي أعطيت به (*).
[ 358 ]
أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي، حتى أخرجك نبيا، عن ابن عباس في رواية عطا، وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، صلوات الله عليهما، قالا: في أصلاب النبيين، نبي بعد نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم عليه السلام. وروى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا ترفعوا قبلي، ولا تضعوا قبلي، فإني أراكم من خلفي، كما أراكم من أمامي " ثم تلا هذه الآية (إنه هو السميع العليم) يسمع ما تتلو في صلاتك، ويعلم ما تضمر فيها. * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [ 221 ] تنزل على كل أفاك أثيم [ 222 ] يلقون السمع وأكثرهم كاذبون [ 223 ] والشعراء يتبعهم الغاون [ 224 ] ألم تر أنهم في كل واد يهيمون [ 225 ] وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ 226 ] إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [ 227 ]) * القراءة: قرأ نافع: (يتبعهم) ساكنة التاء. والباقون: (يتبعهم). الحجة: الوجهان حسنان، يقال: تبعت القوم وأتبعتهم أتبعهم. اللغة: الأفاك: الكذاب. وأصل الإفك القلب. والأفاك: الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب. والأثيم: الفاعل للقبيح، يقال: أثم يأثم إثما: إذا ارتكب القبيح. وتأثم: إذا ترك الإثم. والهائم: الذاهب على وجهه، عن الكسائي. وقيل: هو المخالف للقصد، عن أبي عبيدة. الاعراب: إنتصب قوله (أي منقلب) لأنه صفة مصدر محذوف، وتقديره سيعلم الذين ظلموا انقلابا أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز أن يكون معمول (سيعلم)، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده. والعلة في ذلك الإستخبار قبل الخبر ورتبة الإستخبار التقديم، فلا يجوز أن يعمل فيه الخبر، لأن الخبر بعده، وذلك أنه موضوع على أنه جواب مستخبر. المعنى: لما أخبر الله سبحانه أن القرآن ليس مما تتنزل به الشياطين، وأنه
[ 359 ]
وحي من الله، عقبه بذكر من تنزل عليه الشياطين، فقال: (هل أنبئكم) أي: هل أخبركم (على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) أي: إنما يتنزل الشياطين على كل كذاب فاجر، عامل بالمعاصي، وهم الكهنة. وقيل: طليحة ومسيلمة، عن مقاتل. ولست بكذاب، ولا أثيم، فلا يتنزل عليك الشياطين وإنما يتنزل عليك الملائكة (يلقون السمع) معناه أن الشياطين يلقون ما يسمعونه إلى الكهنة والكذابين، ويخلطون به كثيرا من الأكاذيب، ويوحونه إليهم (وأكثرهم) أي: وأكثر الشياطين (كاذبون) وقيل: أكثر الكهنة كاذبون. قال الحسن: هم الذين يسترقون السمع من الملائكة، فيلقون إلى الكهنة. وهذا كان قبل أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد ذلك (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا). (والشعراء يتبعهم الغاوون) قال ابن عباس: يريد شعراء المشركين، وذكر مقاتل أسماءهم فقال: منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، كلهم من قريش، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم، ويروون عنهم حين يهجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فذلك قوله (يتبعهم الغاوون). وقيل: الغاوون الشياطين، عن قتادة، ومجاهد. وقيل: أراد بالشعراء الذين غلبت عليهم الأشعار حتى اشتغلوا بها عن القرآن والسنة. وقيل: هم الشعراء الذين إذا غضبوا سبوا، وإذا قالوا كذبوا. وإنما صار الأغلب عليهم الغي، لأن الغالب عليهم الفسق، فإن الشاعر يصدر كلامه بالتشبيب، ثم يمدح للصلة، ويهجو على حمية الجاهلية، فيدعوه ذلك إلى الكذب، ووصف الإنسان بما ليس فيه من الفضائل والرذائل. وقيل: إنهم القصاص الذين يكذبون في قصصهم، ويقولون ما يخطر ببالهم. وفي تفسير علي بن إبراهيم: إنهم الذين يغيرون دين الله تعالى، ويخالفون أمره. قال: وهل رأيتم شاعرا قط تبعه أحد، إنما عنى بذلك الذين وضعوا دينا بآرائهم، فتبعهم الناس على ذلك. وروى العياشي بالإسناد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هم قوم تعلموا وتفقهوا بغير علم، فضلوا وأضلوا. (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) أي: في كل فن من الكذب يتكلمون،
[ 360 ]
وفي كل لغو يخوضون، يمدحون ويذمون بالباطل، عن ابن عباس، وقتادة. والمعنى أنهم لما يغلب عليهم من الهوى، كالهائم على وجهه في كل واد، يعني: فيخوضون في كل فن من الكلام والمعاني التي تعن لهم، ويريدونها. فالوادي مثل لفنون الكلام، وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل، وغلو في مدح وذم (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) أي: يحثون على أشياء لا يفعلونها، وينهون عن أشياء يرتكبونها. ثم استثنى من جملتهم فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهم شعراء المؤمنين، مثل عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وسائر شعراء المؤمنين الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردوا هجاء من هجاه. وفي الحديث عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ! ماذا تقول في الشعر ؟ فقال: إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ينضحونهم بالنبل. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت: (أهجهم، أو هاجهم وروح القدس معك). رواه البخاري ومسلم في الصحيحين. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عليه السلام أشعر من الثلاثة. (وذكروا الله كثيرا) لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ولم يجعلوا الشعر همهم. (وانتصروا) من المشركين للرسول والمؤمنين (من بعد ما ظلموا) قال الحسن: انتصروا بما يحبون الإنتصار به في الشريعة، وهو نظير قوله (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أي ردوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين. ثم هدد الظالمين فقال: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) أي: سوف يعلم أي مرجع يرجعون، وأي منصرف ينصرفون، لأن منصرفهم إلى النار، نعوذ بالله منها !
[ 361 ]
27 - سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون عدد آيها: خمس وتسعون آية حجازي، أربع بصري شامي، ثلاث كوفي. إختلافها: آيتان (وأولوا بأس شديد) حجازي، (من قوارير) غير الكوفي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ومن قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدق بسليمان وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله ". تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الشعراء بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم * (طس تلك ءايت القرءان وكتاب مبين [ 1 ] هدى وبشرى للمؤمنين [ 2 ] الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالأخرة هم يوقنون [ 3 ] إن الذين لا يؤمنون بالأخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون [ 4 ] أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون [ 5 ] وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم [ 6 ] إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ 7 ] فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين [ 8 ] يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 9 ] وألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها
[ 362 ]
جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون [ 10 ]) القراءة: قرأ أهل الكوفة، ورويس، عن يعقوب: (بشهاب قبس) منونا غير مضاف. وقرأ الباقون: (بشهاب قبس) مضافا. الحجة واللغة: قال أبو عبيدة: الشهاب النار. والقبس. ما اقتبست. وأنشد: في كفه صعدة مثقفة * فيها سنان كشعلة القبس (1) وقال غيره: كل ذي نور فهو شهاب. قال أبو علي: يجوز أن يكون قبس صفة، ويجوز أن يكون إسما غير صفة. فأما الصفة فإنهم يقولون قبسته أقبسه قبسا. والقبس: الشئ المقبوس. فإذا كان القبس صفة، فالأحسن أن يجري على شهاب، كما جرى على الموصوف في قوله: " كأنه ضرم بالكف مقبوس ". وإن كان مصدرا غير صفة، حسنت فيه الإضافة، ولا يحسن ذلك في الصفة، لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته. وقال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر وسوار ذهب. ولو قلت: سوار ذهب ودار آجر، كان عربيا. قال أبو علي: جعل أبو الحسن القبس فيه غير وصف، ألا ترى أنه جعله بمنزلة الآجر والذهب، وليس واحد منهما صفة. الاعراب: (هدى وبشرى): في محل النصب، أو الرفع. فالنصب على الحال أي: هادية ومبشرة، والعامل فيهما معنى الإشارة. والرفع على ثلاثة أوجه على هي هدى وبشرى، وعلى البدل من آيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر (أن بورك): أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول، يعني: قيل له بورك. ولا يجوز أن يكون مخففة من الثقيلة، على تقدير أنه بورك، لأنه كان يكون لا بد من قد. والهاء في أنه ضمير الشأن. و (أنا الله): مبتدأ وخبر. و (ألق عصاك). عطف على بورك أي: نودي أن بورك، وأن ألق عصاك. المعنى: (طس) سبق تفسيره (تلك) إشارة إلى ما وعدوا بمجيئه من القرآن. (آيات القرآن وكتاب مبين) أضاف الآيات إلى القرآن، وآيات القرآن هي (1) الصعدة: القناة التي نبتت مستوية. ومثقفة أي: مستوية (*).
[ 363 ]
القرآن، فهو كقوله (إنه لحق اليقين). والقرآن والكتاب معناهما واحد، وصفه بالصفتين ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة، ويظهر بالكتابة، وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الأمرين جميعا، ووصفه بأنه (مبين) تشبيه له بالناطق بكذا، ومعناه: إن الله بين فيه أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ووعده ووعيده. وإذا وصفه بأنه بيان، فإنه يجري مجرى وصفه له بالنطق بهذه الأشياء في ظهور المعني به للنفس. والبيان هو الدلالة التي تبين بها الأشياء. والمبين: المظهر. (هدى وبشرى للمؤمنين) أي: هدى من الضلالة إلى الحق بالبيان الذي فيه، والبرهان، وباللطف فيه من جهة الإعجاز الدال على صحة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبشرى للمؤمنين بالجنة والثواب. ويجوز أن يكون في موضع نصب على أن يكون تقديره: هاديا ومبشرا. ويجوز أن يكون في موضع رفع، والتقدير: هو هدى وبشرى. ثم وصف المؤمنين فقال: (الذين يقيمون الصلاة) بحدودها وواجباتها، ويداومون على أوقاتها. (ويؤتون الزكاة) أي: ويخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى من يستحقها (وهم بالآخرة) أي بالنشأة الآخرة والبعث والجزاء (هم يوقنون) لا يشكون فيه. ثم وصف من خالفهم، فقال: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) إختلف في معناه فقيل: إن المعنى زينا لهم أعمالهم التي أمرناهم بها بأحسن وجوه التزيين والترغيب، فهم يتحيرون بالذهاب عنها، عن الحسن، والجبائي، وأبي مسلم. وقيل: زينا لهم أعمالهم بأن خلقنا فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إلى فعل المعاصي، ليجتنبوا المشتهى، فهم يعمهون عن هذا المعنى، ويترددون في الحيرة. وقيل: معناه حرمناهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم، فتزينت أعمالهم في أعينهم، وحليت في صدورهم. (أولئك الذين لهم سوء العذاب) أي: شدة العذاب وصعوبته (وهم في الآخرة هم الأخسرون) أي: لا أحد أخسر صفقة منهم، لأنهم يخسرون الثواب، ويحصل لهم بدلا منه العقاب. (وإنك) يا محمد (لتلقى القرآن) أي: لتعطى (من لدن حكيم) في أمره (عليم) بخلقه أي: من عند الله، لأن الملك يلقيه من قبل الله سبحانه. وقيل: معناه لتلقن. قال علي بن عيسى: عليم بمعنى عالم، إلا أن في عليم مبالغة، فهو مثل سامع وسميع، لأن في قولنا عالم يفيد أن له معلوما، كما أن قولنا سامع يفيد أن
[ 364 ]
له مسموعا. وإذا وصفناه بأنه عليم أفاد أنه متى يصح معلوم فهو عالم به، كما أن سميعا يفيد أنه متى وجد مسموع، فلا بد أن يكون سامعا له. (إذ قال موسى لأهله) قال الزجاج: العامل في (إذ) اذكر أي: اذكر في قصة موسى، إذ قال لأهله أي: امرأته، وهي بنت شعيب. (إني آنست) أي: أبصرت ورأيت (نارا) ومنه اشتقاق الإنس، لأنهم مرئيون، وقيل: آنست أي أحسست بالشئ من جهة يؤنس بها. وما آنست به فقد أحسست به، مع سكون نفسك إليه. (سأتيكم منها بخبر) معناه: فالزموا مكانكم، لعلي آتيكم من هذه النار بخبر الطريق، وأهتدي بها إلى الطريق، لأنه كان أضل الطريق. (أو آتيكم بشهاب قبس) أي: بشعلة نار. والشهاب: نور كالعمود من النار، وكل نور يمتد مثل العمود، يسمى شهابا. وإنما قال لامرأته (آتيكم) على لفظ خطاب الجمع، لأنه أقامها مقام الجماعة في الأنس بها، والسكون إليها في الأمكنة الموحشة. (لعلكم تصطلون) أي: لكي تستدفئوا بها، وذلك لأنهم كانوا قد أصابهم البرد، وكانوا شاتين، عن الحسن وقتادة. (فلما جاءها) أي: جاء موسى إلى النار، يعني التي ظن أنها نار، وهي نور (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) قال وهب: لما رأى موسى النار، وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء، شديدة الخضرة، لا تزداد النار إلا اشتعالا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا. فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة، ولا الشجرة برطوبتها تطفئ النار، فعجب منها، وأهوى إليها بضغث في يده، ليقتبس منها، فمالت إليها، فخافها، فتأخر عنها. ثم لم تزل تطمعه، ويطمع فيها، إلى أن نودي. والمراد به نداء الوحي (أن بورك من في النار ومن حولها) أي: بورك فيمن في النار: وهم الملائكة، وفيمن حولها: يعني موسى، وذلك أن النور الذي رأى موسى، كان فيه ملائكة، لهم زجل بالتقديس والتسبيح، ومن حولها هو موسى، لأنه كان بالقرب منها، ولم يكن فيها، فكأنه قال: بارك الله على من في النار، وعليك يا موسى. ومخرجه الدعاء، والمراد الخبر. قال الكسائي: تقول العرب باركه الله، وبارك عليه، وبارك فيه وقيل: بورك من في النار معناه من في النار سلطانه وقدرته وبرهانه. فالبركة ترجع إلى اسم الله، وتأويله: تبارك من نور هذا النور، ومن حولها، يعني موسى والملائكة. وهذا معنى قول ابن عباس والحسن
[ 365 ]
وسعيد بن جبير. وقيل: معناه بورك من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام. فحذف المضاف، ومن حولها الملائكة أي: دامت البركة لموسى والملائكة. وهذا تحية من الله سبحانه لموسى عليه السلام بالبركة، كما حيا إبراهيم عليه السلام بالبركة على ألسنة الملائكة، حين دخلوا عليه فقالوا (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت). ثم نزه سبحانه نفسه فقال: (وسبحان الله رب العالمين) أي: تنزيها له عما لا يليق بصفاته تعالى، عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة، أو عرضا يحتاج إلى محل، أو يكون ممن يتكلم بآلة. ثم أخبر سبحانه موسى عن نفسه، وتعرف إلى بصفاته، فقال: (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) أي: إن الذي يكلمك هو الله العزيز أي: القادر الذي لا يغالب، ولا يمتنع عليه شئ، الحكيم في أفعاله، المحكم لتدابيره. ثم أراه سبحانه آية يعلم بها صحة النداء، فقال: (وألق عصاك) وفي الكلام حذف تقديره: فألقاها، فصارت حية. (فلما رآها تهتز كأنها جان) أي: تتحرك كما يتحرك الجان، وهو الحية التي ليست بعظيمة، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها واهتزازها، مع أنها ثعبان في عظمها، ولذلك هاله ذلك، حتى ولى مدبرا. وقيل: إن الحالتين مختلفتان، لأن الحال التي صارت ثعبانا هي الحال التي لقي فيها فرعون، والحال التي صارت جانا هي الحال التي خاطبه الله في أول ما بعثه نبيا. (ولى مدبرا) أي: رجع إلى ورائه (ولم يعقب) أي: لم يرجع، وكل راجع معقب. والمفسرون يقولون: لم يلتفت، ولم يقف، فقال الله سبحانه: (يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) وهذا تسكين من الله سبحانه لموسى، ونهي له عن الخوف. يقول له: إنك مرسل، والمرسل لا يخاف، لأنه لا يفعل قبيحا، ولا يخل بواجب، فيخاف عقابي على ذلك. * (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم [ 11 ] وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع ءايت إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 12 ] فلما جاءتهم ءايتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين [ 13 ] وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 14 ]) *.
[ 366 ]
القراءة: في الشواذ قراءة زيد بن أسلم، وأبي جعفر القاري: (ألا من ظلم) بفتح الهمزة خفيفة اللام. وقرأ علي بن الحسين عليه السلام وقتادة: (مبصرة) بفتح الميم والصاد. الحجة: قال ابن جني: من عدل إلى هذه القراءة، فكأنه خفي عليه انقطاع الإستثناء في القراءة الفاشية، فإن (من) في هذه القراءة في موضع رفع بالإبتداء، أو يكون للشرط، كقولك: من يقم إضرب. و (من) هناك منصوبة على الإستثناء وهو استثناء منقطع، بمعنى لكن. وقوله (مبصرة) كقولك (هدى ونورا)، وقد كثرت المفعلة بمعنى الشياع والكثرة في الجواهر والأحداث جميعا، كقولهم: أرض مضبة: كثيرة الضباب، ومفعاة: كثيرة الأفاعي، ومحياة ومحواة: كثيرة الحيات. هذا في الجواهر. وأما الأحداث فكقولك: البطنة موسنة، وأكل الرطب موردة، ومحمة، ومنه المسعاة والمعلاة، والحق مجدرة بك ومخلقة. وفي كله معنى الكثرة من موضعين أحدهما. المصدرية التي فيه، والمصدر إلى الشياع والعموم والآخر: التاء وهي لمثل ذلك. الاعراب: (بيضاء): منصوبة على الحال. و (من غير سوء): يتعلق ببيضاء. و (في تسع آيات): يتعلق بألق، و (أدخل يدك)، ومعناه: إلقاء العصا، وإدخال اليد في جملة الآيات التسع التي يظهرها له. (إلى فرعون). يتعلق بمحذوف، والتقدير: مرسلا إلى فرعون فهو في موضع الحال. (ظلما وعلوا): مفعول له. و (كيف): في موضع نصب بأنه خبر كان. المعنى: ثم قال سبحانه (إلا من ظلم) المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين، لأن الأنبياء لا يقع منهم ظلم، لكونهم معصومين من الذنوب والقبائح. فيكون هذا استثناء منقطعا. وإنما حسن ذلك لاجتماع الأنبياء وغيرهم في معنى شملهم، وهو التكليف. (ثم بدل حسنا بعد سوء) أي: بدل توبة وندما على ما فعله من القبيح، وعزما أن لا يعود إليه في المستقبل. (فإني غفور رحيم) أي: ساتر لذنبه، قابل لتوبته. (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) أعطاه آية أخرى، وقد سبق بيانها (في تسع آيات) أي: مع تسع آيات أخر، أنت مرسل بها (إلى فرعون وقومه) فحذف، أو يكون تقديره: مرسلا بها إلى فرعون، ومبعوثا إليه، ومثله قول الشاعر:
[ 367 ]
رأتني بحبليها فصدت مخافة * وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق (1) والتقدير: رأتني مقبلا بحبليها. وقال الزجاج: في تسع آيات معناه: من تسع آيات أي: أظهر هاتين الآيتين من جملة تسع آيات، كقولهم: خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان. والمعنى منها فحلان. والآيات التسع مفسرة في سورة بني إسرائيل. (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي: خارجين عن طاعة الله إلى أقبح وجوه الكفر (فلما جاءتهم آياتنا) أي: حججنا، ومعجزاتنا (مبصرة) أي: واضحة بينة على من أبصر أنها خارجة عن قدرة البشر، وهو مثل قوله (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) وقد مر بيانه. (قالوا هذا سحر مبين) أي: ظاهر بين. (وجحدوا بها) وأنكروها، ولم يقروا بأنها من عند الله تعالى. قال أبو عبيدة: الباء زائدة والمعنى جحدوها، كما قال العجاج: " نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ". (واستيقنتها أنفسهم) أي: عرفوها وعلموها يقينا بقلوبهم، وإنما جحدوها بألسنتهم. (ظلما) على بني إسرائيل. وقيل: ظلما على أنفسهم (وعلوا) أي: طلبا للعلو والرفعة، وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى عليه السلام. (فانظر) يا محمد، أو أيها السامع. (كيف كان عاقبة المفسدين) في الأرض بالمعاصي. * (ولقد ءاتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ 15 ] - وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين [ 16 ] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون [ 17 ] حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ 18 ] فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضه وأدخلني برحمتك في عبادك (1) قائله حميد بن ثور. وروعاء الفؤاد: حديده. وفروق: بمعنى الخائف (*).
[ 368 ]
الصالحين [ 19 ]) *. اللغة: الوزع: أصله المنع والكف، يقال: وزعه عن المظلم. قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا * وقلت: ألما تصح، والشيب وازع (1) وقال آخر: ألم تزع الهوى إذ لم تواتي ؟ * بلى، وسلوت عن طلب الفتاة والحطم: الكسر، ومنه الحطمة: من أسماء جهنم. والحطام: ما تحطم. والإيزاع: الإلهام. وفلان موزع بكذا أي: مولع به. قال الزجاج: أوزعني تأويله في اللغة: كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك، وكفني عما يباعد منك. الاعراب: (لا يحطمنكم): في موضع جزم، لأنه جواب الأمر. قال الزجاج: ضاحكا حال مؤكدة، لأن تبسم في معنى ضحك. وقال بعض المتأخرين: يجوز أن يكون حالا بعد الفراغ من الفعل، لأن التبسم دون الضحك، فكأنه تبسم أولا ثم آل أمره إلى الضحك. المعنى: ثم عطف سبحانه على قصة موسى عليه السلام، قصة داود وسليمان عليهما السلام، فقال سبحانه: (ولقد آتينا داود وسليمان علما) أي: علما بالقضاء بين الخلق، وبكلام الطير والدواب، عن ابن عباس. (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) أي: اختارنا من بين الخلق، بأن جعلنا أنبياء، وبالمعجزة والملك والعلم الذي آتاناه. وبإلانة الحديد، وتسخير الشياطين، والجن والإنس. وإنما نكر قوله علما، ليدل على أنه أراد علما احتاجا إليه مما ينبئ عن صدقهما في دعوى الرسالة. (وورث سليمان داود) في هذا دلالة على أن الأنبياء يورثون المال، كتوريث غيرهم، وهو قول الحسن. وقيل: معناه أنه ورثه علمه ونبوته وملكه، دون سائر (1) المشيب: الشيب وابيضاض الشعر. والصبا: الميل إلى هوى النفس. وقوله: " تصح " من الصحو، وهو زوال السكر. وقوله: " على حين " الجار والمجرور متعلق بأسبل في البيت الذي قبله وهو قوله: " فأسبل مني عبرة، فرددتها * على النحر منها مستهل، ودامع " (*)
[ 369 ]
أولاده. ومعنى الميراث هنا أنه قام مقامه في ذلك، فأطلق عليه إسم الإرث، كما أطلق على الجنة إسم الإرث، عن الجبائي. وهذا خلاف للظاهر، والصحيح عند أهل البيت عليه السلام هو الأول. (وقال) سليمان مظهرا لنعمة الله، وشاكرا إياها: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) أهل العربية يقولون: إنه لا يطلق النطق على غير بني آدم، وإنما يقال الصوت، لأن النطق عبارة عن الكلام، ولا كلام للطير، إلا أنه لما فهم سليمان معنى صوت الطير، سماه منطقا مجازا. وقيل: إنه أراد حقيقة المنطق، لأن من الطير ما له كلام مهجى كالطيطوى. قال المبرد: العرب تسمي كل مبين عن نفسه ناطقا ومتكلما. قال رؤبة: لو أنني أعطيت علم الحكل * علم سليمان، كلام النمل والحكل: ما لا يسمع له صوت: وقال علي بن عيسى: إن الطير كانت تكلم سليمان معجزة له، كما أخبر عن الهدهد. ومنطق الطير: صوت يتفاهم به معانيها، على صيغة واحدة، بخلاف منطق الناس الذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة، ولذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها، ولم تفهم هي عنا، لأن أفهامها مقصورة على تلك الأمور المخصوصة. ولما جعل سليمان يفهم عنها، كان قد علم منطقها. (وأوتينا من كل شئ) أي: من كل شئ يؤتى الأنبياء والملوك. وقيل: من كل ما يطلبه طالب لحاجته إليه، وانتفاعه به. وقيل: من كل شئ علما وتسخيرا في كل ما يصلح أن يكون معلوما لنا، أو مسخرا لنا، غير أن مخرجه مخرج العموم، فيكون أبلغ وأحسن. وروى الواحدي بالإسناد عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه عليه السلام قال: أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع. وأعطي علم كل شئ، ومنطق كل شئ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي سمع بها الناس، وذلك قوله: (علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ). (إن هذا لهو الفضل المبين) أي: هذا فضل الله الظاهر الذي لا يخفى على أحد، وهذا قول سليمان على وجه الإعتراف بنعم الله عليه. ويحتمل أن يكون قول الله سبحانه على وجه الإخبار بأن ما ذكره هو الفضل المبين. (وحشر لسليمان
[ 370 ]
جنوده) أي: جمع له جموعه، وكل صنف من الخلق جند على حدة، بدلالة قوله (من الجن والإنس والطير) قال المفسرون: كان سليمان إذا أراد سفرا، أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط، ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض. والمعنى: وحشر لسليمان جنوده أي: جمع له جموعه في مسير له. وقال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان بن داود كان معسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرية. فيأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به. فأوحى الله تعالى إليه، وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشئ إلا جاءت به الريح فأخبرتك. وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ، ذهبا في إبريسم، وكان يوضع فيه منبر من الذهب، في وسط البساط، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع الريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الصباح. (فهم يوزعون) أي: يمنع أولهم على آخرهم، عن ابن عباس. ومعنى ذلك أن على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولهم على آخرهم، ليتلاحقوا ولا يتفرقوا، كما تقوم الجيوش إذا كثرت بمثل ذلك، وهو أن تدفع اخراهم، وتوقف اولاهم. وقيل: معناه يحبسون، عن ابن زيد، وهو مثل الأول في أنه يحبس اولاهم على اخراهم. (حتى إذا أتوا على واد النمل) أي: فسار سليمان وجنوده حتى إذا أشرفوا على واد، وهو الطائف، عن كعب. وقيل: هو بالشام، عن قتادة ومقاتل. (قالت نملة) أي: صاحت بصوت خلق الله لها، ولما كان الصوت مفهوما لسليمان، عبر عنه بالقول. وقيل: كانت رئيسة النمل. (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم) أي: لا يكسرنكم (سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) بحطمكم ووطئكم فإنهم لو علموا بمكانكم لم يطؤوكم. وهذا يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الأرض، ولم تحملهم الريح، لأن الريح لو حملتهم بين
[ 371 ]
السماء والأرض، لما خافت النمل أن يطأوها بأرجلهم. ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح سليمان. فإن قيل: كيف عرفت النملة سليمان وجنوده حتى قالت هذه المقالة ؟ قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته، فلا بد أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به أمور طاعته، ولا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك، وقد علمنا أنه تشق ما تجمع من الحبوب بنصفين، مخافة أن يصيبها الندى فتنبت، إلا الكزبرة فإنها تكسرها بأربع قطع، لأنها تنبت إذا شقت بنصفين. فمن هداها إلى هذا فإنه جل جلاله يهديها إلى تمييز ما يحطمها مما لا يحطمها. وقيل: إن ذلك كان منها على سبيل المعجز الخارق للعادة لسليمان عليه السلام. قال ابن عباس: فوقف سليمان بجنوده حتى يدخل النمل مساكنه (فتبسم) سليمان (ضاحكا من قولها) وسبب ضحك سليمان التعجب، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به، تعجب وضحك. وقيل: إنه تبسم بظهور عدله حيث بلغ عدله في الظهور مبلغا عرفه النمل. وقيل: إن الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتى سمع ذلك، فانتهى إليها، وهي تأمر النمل بالمبادرة، فتبسم من حذرها. (وقال رب أوزعني) أي: ألهمني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي) بأن علمتني منطق النمل، وأسمعتني قولها من بعيد، حتى أمكنني الكف، وأكرمتني بالنبوة، والملك. (وعلى والدي) أي: أنعمت على والدي بأن أكرمته بالنبوة، وفصل الخطاب، وألنت له الحديد، وعلى والدتي بأن زوجتها نبيك، وجعل النعمة عليها نعمة لله سبحانه عليه، يلزمه شكرها. (وأن أعمل صالحا ترضاه) أي: وفقني لأن أعمل صالحا في المستقبل ترضاه (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) قال ابن عباس: يعني إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومن بعدهم من النبيين أي: أدخلني في جملتهم، وأثبت إسمي مع أسمائهم، واحشرني في زمرتهم. وقال ابن زيد: (في عبادك) معناه: مع عبادك. قال الزجاج: جاء لفظ (ادخلوا) كلفظ ما يعقل، لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين، حتى نطق كما ينطق الآدميون. وإنما يقال لما لا يعقل: ادخلي. وفي الخبر: دخلت أو دخلن. وروي أن نمل سليمان هذا كان كأمثال الذئاب والكلاب !
[ 372 ]
* (وتفقد الطير فقال ما لى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين [ 20 ] لأعذبنه عذابا شديدا أو لااذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين [ 21 ] فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين [ 22 ] إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم [ 23 ] وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون [ 24 ] ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون [ 25 ] الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم [ 26 ]) *. القراءة: قرأ ابن كثير: (أو ليأتينني) بنونين أولاهما مشددة مفتوحة. والباقون بنون واحدة مشددة. وقرأ عاصم ويعقوب: (فمكث) بفتح الكاف. والباقون بضم الكاف. وقرأ أبو عمرو وابن كثير في رواية البزي: (من سبأ) بفتح الهمزة. وقرأ ابن كثير، في رواية القواس وابن فليح: (من سبا) بغير همزة. وقرأ الباقون: (من سبإ) مجرورة منونة، ومثله سواء في سورة سبأ (لقد كان لسبإ) وقرأ أبو جعفر والكسائي، ورويس عن يعقوب: (ألا يسجدوا) خفيفة اللام. وقرأ الباقون: (ألا يسجدوا) مثل قوله: (ألا يقولوا). ومن خفف وقف على (ألايا)، وابتدأ (اسجدوا). وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم: (ما تخفون وما تعلنون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: من قرأ (ليأتيني): حذف النون الثالثة التي هي قبل ياء المتكلم، لاجتماع النونات. ومن قرأ (ليأتينني) فهو على الأصل. ومكث ومكث. لغتان. ومما يقوي الفتح قوله: (إنكم ماكثون)، وقوله: (ماكثين فيه أبدا) وقال سيبويه: ثمود وسبأ مرة للقبيلتين، ومرة للحيين. قال أبو علي: يريد أن هذه الأسماء منها ما جاء على أنه اسم الحي، نحو معد، وقريش، ومنها ما يستوي فيه الأمران كثمود وسبأ. إن شئت صرفت فجعلته اسم أبيهم، أو إسم الحي. وإن شئت لم تصرف،
[ 373 ]
فجعلته اسم القبيلة. قال: والصرف أحب إلي، لأنه قد عرف أنه اسم أبيهم، وإن كان إسم الأب يصير كالقبيلة، إلا أني أحمله على الأصل. وقال غيره: هو إسم رجل واليمانية كلها تنسب إليه، يقولون: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال الزجاج: من قال إن سبأ إسم رجل فغلط، لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام: قال الشاعر: من سبي الحامرين مأرب إذ * يبنون من دون سيله العرما فمن لم يصرف، فلأنه اسم مدينة، ومن صرفه فلأن يكون اسما للبلد. قال جرير: الواردون، وتيم في ذرى سبأ، * قد عض أعناقهم جلد الجواميس (1) ومن قرأ (ألا يسجدوا) فالتقدير فصدهم عن السبيل لأن لا يسجدوا، على أنه مفعول له. قال أبو علي: وهذا هو الوجه لتجري القصة على سننها، ولا يفصل بين بعضها وبعض ما ليس منها، وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع، لأنه يجري مجرى الإعتراض، وكأنه لما قيل (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) فدل هذا الكلام على أنهم لا يسجدون لله. قال: (ألا يا قوم اسجدوا لله) خلافا عليهم. ووجه دخول حرف التنبيه على الأمر: أنه موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المأمور لتأكيد ما يؤمر به عليه، كما أن النداء موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المنادى لما ينادى له من إخبار، أو أمر، أو نهي، ونحو ذلك مما يخاطب به. وإذا كان كذلك فيجوز أن لا تريد منادى في نحو قولك (ألا يسجدوا) كما لا تريد المنادى في نحو قوله: يا لعنة الله، والأقوام كلهم، * والصالحين علن سمعان من جار (2) وكذلك ما حكي عن أبي عمرو من قوله (يا ويل له). ويجوز أن يراد بعد: يا مأمورون، فحذفوا كما حذف في قوله (يا لعنة الله). فكما أن يا ههنا لا يجوز أن يكون إلا لغير اللعنة، كذلك يجوز أن يكون المأمورون مرادين، وحذفوا من اللفظ. وقد جاء هذا في مواضع من الشعر، فمن ذلك ما أنشده أبو زيد: (1) الذرى جمع الذروة: أعلى كل شئ. (2) الشعر في (جامع الشواهد). وسمعان: اسم رجل (*).
[ 374 ]
فقالت: ألا يا اسمع نعظك بخطة * فقلت سميعا فانطقي وأصيبي وأنشد الزجاج لذي الرمة: ألا يا اسلمي، يا دارمي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القتر (1) وللأخطل: ألا يا اسلمي، يا هند هند بني بدر (2) * ولا زال حيانا عدى آخر الدهر (3) ومما يؤكد قراءة (ألا يسجدوا) بالتشديد: أنها لو كانت مخففة، لما كانت في (يسجدوا) ياء، لأنها اسجدوا. ففي ثبات الياء في المصحف دلالة على التشديد. ومن قرأ يخفون ويعلنون بالياء، فلأن الكلام على الغيبة. وقراءة الكسائي فيهما بالتاء، لأن الكلام قد دخله خطاب على قراءة اسجدوا لله. ومن قرأ (ألا يا اسجدوا): فيجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين والكافرين الذين جرى ذكرهم على لفظ الغيبة. الاعراب: كان أبو عمرو يسكن الياء في قوله: (مالي لا أرى الهدهد)، ويفتح في قوله: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) لئلا يقف الواقف على مالي، ويبتدئ بلا أعبد. و (لا أرى): في موضع نصب على الحال. (أم كان من الغائبين) أم منقطعة التقدير: بل أهو من الغائبين، وكان بمعنى يكون. واللام في (لأعذبنه): جواب قسم مقدر أي: والله لأعذبنه. (غير بعيد): منصوب لأنه صفة ظرف، أو صفة مصدر تقديره فمكث وقتا غير بعيد، أو مكثا غير بعيد. و (يسجدون): في موضع نصب على الحال من (وجدت). المعنى: ثم أخبر سبحانه عن سليمان، فقال: (وتفقد الطير) أي: طلبه عند غيبته (فقال مالي لا أرى الهدهد) أي: ما للهدهد لا أراه. تقول العرب: مالي (1) قوله: إسلمي أمر من السلامة، وهي البراءة من العيوب، المنادى محذوف تقديره: " يا دارمية إسلمى ". وقوله: " يا دارمي " تأكيد للمنادى الأول. " ومي " مرخم مية، محبوبته. وورد ذكرها كثيرا في شعر ذي الرمة. والبلى: الإندراس. والإنهلال: انصباب المطر بشدة. والجرعاء: رملة مستوية لا تنبت شيئا، والقطر: المطر. (2) وفي رواية: " بني بكر ". (3) أي: ولو كان بين قبيلتي وقبيلتك عداوة (*).
[ 375 ]
أراك كئيبا، ومعناه: مالك. ولكنه من القلب الذي يوضح المعنى. واختلف في سبب تفقده الهدهد، فقيل: إنه احتاج إليه في سفره، ليدله على الماء، لأنه يقال: إنه يرى الماء في بطن الأرض، كما يراه في القارورة، عن ابن عباس. وروى العياشي بالإسناد قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله عليه السلام: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال: لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض، كما يرى أحدهم الدهن في القارورة. فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه وضحك. قال أبو عبد الله عليه السلام: ما يضحكك ؟ قال: ظفرت بك جعلت فداك ! قال: وكيف ذلك ؟ قال: الذي يرى الماء في بطن الأرض، لا يرى الفخ في التراب حتى يؤخذ بعنقه ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: يا نعمان ! أما علمت أنه إذا نزل القدر أغشى البصر ؟ وقيل: إنما تفقده لإخلاله بنوبته، عن وهب، وقيل: كانت الطيور تظلله من الشمس، فلما أخل الهدهد بمكانه، بان بطلوع الشمس عليه. (أم كان من الغائبين) معناه: أتأخر عصيانا، أم غاب لعذر وحاجة ؟ قال المبرد: لما تفقد سليمان الطير، ولم ير الهدهد، قال: مالي لا أرى الهدهد ؟ على تقدير: أنه مع جنوده وهو لا يراه. ثم أدركه الشك فشك في غيبته عن ذلك الجمع، بحيث لم يره فقال: أم كان من الغائبين أي: بل أكان من الغائبين، كأنه ترك الكلام الأول، واستفهم عن حاله وغيبته. ثم أوعده على غيبته، فقال: (لأعذبنه عذابا شديدا) معناه: لأعذبنه بنتف ريشه، وإلقائه في الشمس، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد. وقيل: بأن أجعله بين أضداده، وكما صح نطق الطير وتكليفه في زمانه معجزة له، جازت معاتبته على ما وقع منه من تقصير، فإنه كان مأمورا بطاعته، فاستحق العقاب على غيبته. (أو لأذبحنه) أي: لأقطعن حلقه عقوبة على عصيانه. (أو ليأتيني بسلطان مبين) أي: بحجة واضحة تكون له عذرا في الغيبة. (فمكث غير بعيد) أي: فلم يلبث سليمان إلا زمانا يسيرا حتى جاء الهدهد. وقيل: معناه فلبث الهدهد في غيبته قليلا، ثم رجع. وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: فمكث في مكان غير بعيد. قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة. (فقال أحطت بما لم تحط به) أي: اطلعت على ما لم تطلع عليه، وجئتك بأمر لم يخبرك به، ولم يعلم به الإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك. وهو
[ 376 ]
قوله: (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) أي: بخبر صادق. وعلم الإحاطة وهو أن يعلم الشئ من جميع جهاته التي يمكن أن يعلم عليها، تشبيها بالسور المحيط بما فيه. وفي الكلام حذف تقديره: ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن سبب غيبته، فقال: أحطت بما لم تحط به. وفي هذا دلالة على أنه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه. وسبأ: مدينة بأرض اليمن، عن قتادة. وقيل: إن الله تعالى بعث إلى سبأ إثني عشر نبيا، عن السدي. وروى علقمة بن وعلة، عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سبأ فقال: هو رجل ولد له عشرة من العرب، تيامن منهم ستة، وتشأم أربعة، فالذين تشأموا: لخم، وجذام، وغسان، وعاملة. والذين تيامنوا: كندة، والأشعرون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار، ومن الأنمار: خثعم، وبجيلة. (إني وجدت امرأة تملكهم) أي: تتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد. (وأوتيت من كل شئ) وهذا إخبار عن سعة ملكها أي: من كل شئ من الأموال، وما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا، وقال الحسن: وهي بلقيس بنت شراحيل، ملكة سبأ. وقيل: شرحبيل ولدها أربعون ملكا، آخرهم أبوها [ شرحبيل ] (1). قال قتادة: وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر قيلا (2)، كل قيل منهم تحت رايته ألف مقاتل. (ولها عرش عظيم) أي: سرير أعظم من سريرك. وكان مقدمه من ذهب، مرصع بالياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة، مكلل بألوان الجواهر، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق. وعن ابن عباس، قال: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا، في ثلاثين ذراعا، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا. وقال أبو مسلم: المراد بالعرش الملك. (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم) أي: عبادتهم للشمس من دون الله (فصدهم عن السبيل) أي: صرفهم عن سبيل الحق. (فهم لا يهتدون) قال الجبائي: لم يكن الهدهد عارفا بالله تعالى، وإنما أخبر بذلك كما يخبر مراهقو صبياننا، لأنه لا تكليف إلا على الملائكة، والإنس، (1) ما بين المعقفتين غير موجود في المخطوطتين، وكذا في نسخة (البحار). (2) القيل: الرئيس (*).
[ 377 ]
والجن. فيرانا الصبي على عبادة الله، فيتصور أن ما خالفها باطل. فكذلك الهدهد، تصور له أن ما خالف فعل سليمان باطل. وهذا الذي ذكره خلاف ظاهر القرآن، لأنه لا يجوز أن يفرق بين الحق الذي هو السجود لله، وبين الباطل الذي هو السجود للشمس، وأن أحدهما حسن، والآخر قبيح، إلا العارف بالله سبحانه، وبما يجوز عليه وما لا يجوز، هذا مع نسبة تزيين أعمالهم وصدهم عن طريق الحق إلى الشيطان، وهذا مقالة من يعرف العدل، وأن القبيح غير جائز على الله سبحانه. (ألا يسجدوا لله) قد بينا أن التخفيف إنما هو على معنى الأمر بالسجود، ودخلت الياء للتنبيه، أو على تقدير: ألا يا قوم اسجدوا لله. وقيل: إنه أمر من الله تعالى لجميع خلقه بالسجود له. اعترض في الكلام. وقيل: إنه من كلام الهدهد، قاله لقوم بلقيس، حين وجدهم يسجدون لغير الله، وقاله لسليمان عند عوده إليه، استنكارا لما وجدهم عليه. والقراءة بالتشديد على معنى زين لهم الشيطان ضلالتهم، لئلا يسجدوا لله. وذكر الفراء: إن القراءة بالتشديد، لا توجب سجدة التلاوة، وهذا غير صحيح، لأن الكلام قد تضمن الذم على ترك السجود فيه، دلالة على وجوب السجود، وهو كقوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) الآية. (الذي يخرج الخب ء في السموات والأرض) الخب ء: المخبوء، وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه، وهو مصدر وصف به، يقال: خبأته أخبؤه خبأ، وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود، يكون بهذه المنزلة. وقيل: الخب ء الغيب، وهو كل ما غاب عن الإدراك. فالمعنى: يعلم غيب السماوات والأرض، عن عكرمة، ومجاهد. وقيل: إن خب ء السماوات المطر، وخب ء الأرض: النبات والأشجار، عن ابن زيد. (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) أي: يعلم السر والعلانية (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) إلى ها هنا تمام الحكاية لما قاله الهدهد. ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالى. والعرش: سرير الملك الذي عظمه الله، ورفعه فوق السماوات السبع، وجعل الملائكة تحف به، وترفع أعمال العباد إليه، وتنشأ البركات من جهته، فهو عظيم الشأن، كما وصفه الله تعالى، وهو أعظم خلق الله تعالى. * (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين [ 27 ] اذهب بكتابي هذا
[ 378 ]
فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون [ 28 ] قالت يا أيها الملؤا إني ألقي إلي كتاب كريم [ 29 ] إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ 30 ] ألا تعلوا على وأتوني مسلمين [ 31 ]) *. القراءة: في الشواذ ما رواه وهب، عن ابن عباس: (ألا تغلوا) بالغين المعجمة، من الغلو. المعنى: ولما سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد في تأخره (قال) عند ذلك (سننظر أصدقت) في قولك الذي أخبرتنا به (أم كنت من الكاذبين) وهذا ألطف وألين في الخطاب من أن يقول: أم كذبت، لأنه قد يكون من الكاذبين بالميل إليهم، وقد يكون منهم بالقرابة تكون بينه وبينهم، وقد يكون منهم بأن يكذب كما كذبوا. ثم كتب سليمان كتابا، وختمه بخاتمه، ودفعه إليه، فذلك قوله: (إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) يعني إلى أهل سبأ (ثم تول عنهم) أي: استتر منهم قريبا بعد إلقاء الكتاب إليهم، فانظر ماذا يرجعون، عن وهب بن منبه وغيره. وقيل: إنه على التقديم والتأخير (فانظر ماذا يرجعون) أي: ماذا يردون من الجواب. ثم تول عنهم، لأن التولي عنهم بعد الجواب، عن مقاتل، وابن زيد، والجبائي، وأبي مسلم. والأول أوجه، لأن الكلام إذا صح من غير تقديم وتأخير، كان أولى. وفي الكلام حذف تقديره: فمضى الهدهد بالكتاب، وألقاه إليهم. فلما رأته بلقيس (قالت) لقومها (يا أيها الملأ) أي: الأشراف (إني ألقي إلي كتاب كريم) قال قتادة: أتاها الهدهد، وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، فقرأت الكتاب. وقيل: كانت لها كوة مستقبلة للشمس، تقع الشمس عند ما تطلع فيها، فإذا نظرت إليها سجدت. فجاء الهدهد إلى الكوة، فسدها بجناحه، فارتفعت الشمس، ولم تعلم. فقامت تنظر، فرمى الكتاب إليها، عن وهب، وابن زيد. فلما أخذت الكتاب، جمعت الأشراف وهم يومئذ ثلاثمائة عشر قيلا، ثم قالت لهم: إني (ألقي إلي كتاب كريم) سمته كريما، لأنه كان مختوما، عن ابن عباس، ويؤيده الحديث: " إكرام الكتاب ختمه ". وقيل: وصفته بالكريم، لأنه
[ 379 ]
صدره ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: لحسن خطه، وجودة لفظه، وبيانه. وقيل: لأنه كان ممن يملك الإنس، والجن، والطير. وقد كانت سمعت بخبر سليمان، فسمته كريما، لأنه من كريم رفيع الملك، عظيم الجاه. (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) معناه: إن الكتاب من سليمان، وإن المكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم سليمان عليه السلام. ولم تعرفه هي، ولا قومها. وقيل: إن هذا حكاية ما قالته على المعنى باللغة العربية، وإن لم تقل هي بهذا اللفظ. والحكاية على ثلاثة أوجه: حكاية على المعنى فقط، وحكاية على اللفظ فقط. ممن حكاه من غير أن يعلم معناه، وحكاية على اللفظ والمعنى، وهو الأصل في الحكاية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة وموضع. (ألا تعلوا) يجوز أن يكون رفعا بالبدل من (كتاب)، ويجوز أن يكون نصبا على معنى بأن لا تعلوا. والصحيح أن (أن) في مثل هذا الموضع بمعنى أي على ما قاله سيبويه في نحو قوله: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) أي: امشوا، ومعناه لا تترفعوا، ولا تتكبروا (علي وأتوني مسلمين) أي: منقادين طائعين لأمري فيما أدعوكم. وقيل: مسلمين مؤمنين بالله تعالى، ورسوله، مخلصين في التوحيد. قال قتادة: وكذا كانت الأنبياء تكتب كتبها، موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة، من غير بسط. * (قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون [ 32 ] قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر إليك فانظري ماذا تأمرين [ 33 ] قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون [ 34 ] وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون [ 35 ] فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما ءاتين الله خير مما ءاتيكم بل أنتم بهديتكم تفرحون [ 36 ] ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منهآ أذلة وهم صغرون [ 37 ]) *. القراءة: قرأ حمزة، ويعقوب: (أتمدوني) بنون واحدة مشددة على الإدغام. والباقون بنونين مظهرين.
[ 380 ]
الاعراب: (حتى تشهدون): انتصب (تشهدون) بإضمار أن. والنون فيه نون عماد. (فلما جاء سليمان): فاعل (جاء) الضمير المستكن فيه الراجع إلى مفعول (مرسلة) المحذوف، لأن تقديره: إني مرسلة رسولا. (أذلة): نصب على الحال. (وهم صاغرون): جملة في موضع الحال معطوفة على (أذلة). المعنى: ولما وقفت بلقيس على كتاب سليمان (قالت) لأشراف قومها (يا أيها الملأ افتوني في أمري) أي: أشيروا علي بالصواب. والفتيا والفتوى: الحكم بما فيه صواب بدلا من الخطأ، وهو الحكم بما يعمل عليه. فجعلت المشورة هنا فتيا (ما كنت قاطعة أمرا) أي: ما كنت ممضية أمرا (حتى تشهدون) أي: تحضروني تريد: إلا بحضرتكم ومشورتكم وهذا ملاطفة منها لقومها في الإستشارة منهم لما تعمل عليه (قالوا) لها في الجواب عن ذلك (نحن أولوا قوة) أي: أصحاب قوة، وقدرة، وأهل عدد (وأولوا بأس شديد) أي: وأصحاب شجاعة شديدة (والأمر إليك) أي: إن الأمر مفوض إليك في القتال وتركه. (فانظري ماذا تأمرين) أي: ما الذي تأمريننا به لنمتثله، فإن أمرت بالصلح صالحنا، وإن أمرت بالقتال قاتلنا (قالت) مجيبة لهم عن التعريض بالقتال (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) أي: إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، أهلكوها وخربوها (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي: أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، والمعنى: أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وانتهى الخبر عنها. وصدقها الله فيما قالت فقال: (وكذلك) أي: وكما قالت هي (يفعلون) وقيل: إن الكلام متصل بعضه ببعض، وكذلك يفعلون من قولها (وإني مرسلة إليهم) أي: إلى سليمان، وقومه (بهدية) أصانعه بذلك عن ملكي (فناظرة) أي: فمنتظرة (بم يرجع المرسلون) بقبول أم رد. وإنما فعلت ذلك، لأنها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم، وكان غرضها أن يتبين لها بذلك أنه ملك أو نبي. فإن قبل الهدية تبين أنه ملك، وعندها ما يرضيه. وإن ردها تبين أنه نبي. واختلف في الهدية فقيل: أهدت إليه وصفاء ووصائف ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى، عن ابن عباس. وقيل: أهدت مائتي غلام، ومائتي جارية، ألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري ألبسة الغلمان، عن مجاهد. وقيل: أهدت له صفائح الذهب في أوعية من الديباج.
[ 381 ]
فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطريق. فلما جاؤوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان، فلما رأوا ذلك، صغر في أعينهم ما جاؤوا به، عن ثابت اليماني. وقيل: إنها عمدت إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب، مرصع بالجواهر، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وعمدت إلى حقة، فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة جزعية مثقوبة، معوجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالا من قومها، أصحاب رأي وعقل، وكتبت إليه كتابا بنسخة الهدية، قالت فيها: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جن. وقالت للرسول: انظر إليه إن دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرة غضب، فاعلم أنه ملك، فلا يهولنك أمره، فإنا أعز منه. وإن نظر إليك نظر لطف، فاعلم أنه نيي مرسل. فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان، فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب، ولبنات الفضة، ففعلوا. ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ، ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، ففعلوا. ثم قال للجن: علي بأولادكم. فاجتمع خلق كثير، فأقامهم على يمين الميدان ويساره. ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه، ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوام والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره. فلما دنا القوم من الميدان، ونظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا. فلما وقفوا بين يدي سليمان، نظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم ؟ فاخبره رئيس القوم بما جاؤوا له. وأعطاه كتاب الملكة.
[ 382 ]
فنظر فيه، وقال: أين الحقة فأتي بها وحركها، وجاءه جبرائيل عليه السلام فأخبره ما في الحقة، فقال: إن فيها درة يتيمة، غير مثقوبة، وخرزة مثقوبة، معوجة الثقب. فقال الرسول: صدقت فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة. فأرسل سليمان إلى الأرضة، فجاءت فأخذت شعرة في فيها، فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر. ثم قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله. فأخذت الدودة الخيط في فيها، ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. ثم ميز بين الجواري والغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تجعله على اليد الأخرى، ثم تضرب به الوجه. والغلام كان يأخذ من الآنية، يضرب به وجهه. وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد. وكانت الجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر الماء على يده حدرا، فميز بينهما بذلك. هذا كله مروي عن وهب وغيره. وقيل إنها أنفذت مع هداياها عصا، كان يتوارثها ملوك حمير، وقالت: أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها، وبقدح ماء وقالت: تملأها ماء رواء ليس من الأرض، ولا من السماء. فأرسل سليمان العصا إلى الهواء، وقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض، فهو أسفلها. وأمر الخيل، فأجريت حتى عرقت، وملأ القدح من عرقها، وقال: ليس هذا من ماء الأرض، ولا من ماء السماء. (فلما جاء سليمان) أي: فلما جاء الرسول سليمان (قال أتمدونني بمال) أي: تزيدونني مالا. وهذا استفهام إنكار، يعني أنه لا يحتاج إلى مالهم (فما آتاني الله خير مما آتاكم) أي: ما أعطاني الله من الملك والنبوة والحكمة، خير مما أعطاكم من الدنيا وأموالها. (بل أنتم بهديتكم تفرحون) إذا هدى بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بها. أشار إلى قلة اكتراثه بأموال الدنيا. ثم قال عليه السلام: للرسول (إرجع إليهم) بما جئت من الهدايا (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي: لا طاقة لهم بها، ولا قدرة لهم على دفعها (ولنخرجنهم منها أذلة) أي: من تلك القرية، ومن تلك المملكة. وقيل: من أرضها وملكها (وهم صاغرون) أي: ذليلون، صغيرو القدر، إن لم يأتوني مسلمين. فلما رد سليمان الهدية، وميز بين الغلمان والجواري، إلى غير ذلك، علموا أنه نبي مرسل، وأنه ليس كالملوك الذين
[ 383 ]
يغترون بالمال. * (قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين [ 38 ] قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوى أمين [ 39 ] قال الذي عنده علم من الكتب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رأه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم [ 40 ] قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون [ 41 ] فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين [ 42 ] وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [ 43 ] قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ 44 ]) *. القراءة: في الشواذ قراءة أبي رجاء، وعيسى الثقفي: (عفرية). الحجة: والمعنى معنى العفريت، يقال: رجل عفرية نفرية أي: خبيث داه. قال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية * مسوم في سواد الليل منقضب (1) وأصل العفريت، والعفرية من العفر: وهو التراب، لأنه يصرع قرنه في العفر، ومنه قيل للأسد عفرني، وللناقة الشديدة عفرناة. قال الأعشى: بذات لوث عفرناة، إذا عثرت * فالتعس أدنى لها من أن يقال لعا (2) اللغة: التنكير: تغيير الشئ من حال إلى حال ينكرها صاحبها إذا رآه. (1) قوله مسوم أي: معلم بعلامة. ومنقضب أي: منقض من مكانه: يصف ثورا وحشيا. (2) اللوث: القوة. والعرب تدعو على العاثر من الدواب إذا كان جوادا بالتعس، فتقول: تعسا له، وإن كان بليدا كان دعاؤهم له إذا عثر: لعا لك (*).
[ 384 ]
والصرح: القصر، وكل بناء مشرف صرح. وصرحة الدار ساحتها وقارعتها وصحنها، وأصله من الوضوح يقال: صرح بالأمر أي: كشفه وأوضحه. وصرح بالتشديد لازم ومتعد. واللجة: معظم الماء، والجمع لجج. ولج البحر: خلاف الساحل، ومنه لج بالأمر: إذا بالغ بالدخول فيه. والممرد: المملس، ومنه الأمرد. وشجرة مرداء أي: ملساء لا ورق عليها. والمارد: المتملس عن الحق، الخارج منه. المعنى: فلما رجع الرسول، وعرفت أنه نبي، وأنها لا تقاومه، فتجهزت للمسير إليه. وأخبر جبرائيل سليمان عليه السلام أنها خرجت من اليمن، مقبلة إليه ف‍ (قال) سليمان لأماثل جنده، وأشراف عسكره (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) واختلف في السبب الذي خص به العرش بالطلب على أقوال أحدها: إنه أعجبته صفته، فاراد أن يراه، وظهر له آثار إسلامها، فأحب أن يملك عرشها قبل أن تسلم، فيحرم عليه أخذ مالها، عن قتادة. وثانيها: إنه أراد أن يختبر بذلك عقلها وفطنتها، ويختبر هل تعرفه أو تنكره، عن ابن زيد. وقيل: أراد أن يجعل ذلك دليلا ومعجزة على صدقه ونبوته، لأنها خلفته في دارها، وأوثقته، ووكلت به ثقات قومها، يحرسونه ويحفظونه، عن وهب. وقال ابن عباس: كان سليمان رجلا مهيبا، لا يبتدئ بالكلام حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما، فجلس على سريره، فرأى رهجا (1) قريبا منه، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: بلقيس يا رسول الله ! وقد نزلت منا بهذا المكان، وكان ما بين الكوفة والحيرة على قدر فرسخ، فقال: أيكم يأتيني بعرشها. وقوله (مسلمين) فيه وجهان أحدهما: إنه أراد مؤمنين موحدين والآخر: مستسلمين منقادين على ما مر بيانه (قال عفريت من الجن) أي: مارد قوي داهية، عن ابن عباس. (أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) أي: من مجلسك الذي تقضي فيه، عن قتادة (وإني عليه لقوي أمين) أي: وإني على حمله لقوي، وعلى الإتيان به في هذه المدة قادر، وعلى ما فيه من الذهب والجواهر أمين. وفي هذا دلالة على أن القدرة قبل الفعل، لأنه أخبر بأنه قوي عليه، قبل أن يجئ به. وكان (1) أي: غبارا (*).
[ 385 ]
سليمان يجلس في مجلسه للقضاء غدوة إلى نصف النهار، فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك. فعند ذلك (قال الذي عنده علم من الكتاب) وهو آصف بن برخيا، وكان وزير سليمان، وابن أخته، وكان صديقا يعرف اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، عن ابن عباس. وقيل: إن ذلك الإسم الله، والذي يليه الرحمن. وقيل: هو يا حي يا قيوم، وبالعبرانية أهيا شراهيا (1). وقيل: هو يا ذا الجلال والإكرام، عن مجاهد. وقيل: إنه قال. يا إلهنا وإله كل شئ، إلها واحدا لا إله إلا أنت، عن الزهري. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب، كان رجلا من الإنس، يعلم إسم الله الأعظم، إسمه بلخيا عن مجاهد. وقيل: إسمه أسطوم، عن قتادة. وقيل: الخضر عليه السلام عن أبي لهيعة. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب هو جبرائيل عليه السلام، أذن الله في طاعة سليمان عليه السلام، بأن يأتيه بالعرش الذي طلبه. وقال الجبائي: هو سليمان، قال ذلك للعفريت، ليريه نعمة الله عليه. وهذا قول بعيد، لم يؤثر عن أهل التفسير. وأما الكتاب المعرف في الآية بالألف واللام، فقيل: إنه اللوح المحفوظ. وقيل. أراد به جنس كتب الله المنزلة على أنبيائه، وليس المراد به كتابا بعينه، والجنس قد يعرف بالألف واللام. وقيل: إن المراد به كتاب سليمان إلى بلقيس. (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) إختلف في معناه فقيل: يريد قبل أن يصل إليك من كان منك على قدر مد البصر، عن قتادة. وقيل: معناه قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته، ويرجع إليك. قال سعيد بن جبير: قال لسليمان أنظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه، والمعنى: حتى يرتد إليك طرفك بعد مده إلى السماء. وقيل: إرتداد الطرف إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا، عن مجاهد. فعلى هذا معناه: إن سليمان مد بصره إلى أقصاه، وهو يديم النظر، فقبل أن ينقلب بصره إليه حسيرا، يكون قد أتى بالعرش. قال الكلبي: خر آصف (1) كذا في الأصل والمخطوطتين. وفي نسخة مطبوعة: " آهى إشراهى ". واستظهر في هامش نسخة (البحار): أن الصحيح " أهيه اشراهيه ". وقال (اهيه) بمعنى واجب الوجود. وقيل معنى الجملة: الوجود الذي هو موجود (*).
[ 386 ]
ساجدا، ودعا باسم الله الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض، حتى نبع عند كرسي سليمان. وذكر العلماء في ذلك وجوها أحدها: إن الملائكة حملته بأمر الله تعالى. والثاني: إن الريح حملته. والثالث: إن الله تعالى خلق فيه حركات متوالية والرابع: إنه انخرق مكانه حيث هو هناك، ثم نبع بين يدي سليمان والخامس: إن الأرض طويت له وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. والسادس: إنه أعدمه الله في موضعه، وأعاده في مجلس سليمان. وهذا لا يصح على مذهب أبي هاشم، ويصح على مذهب أبي علي الجبائي، فإنه يجوز فناء بعض الأجسام دون بعض. وفي الكلام حذف كثير، لأن التقدير: قال سليمان له: إفعل. فسأل الله تعالى في ذلك، فحضر العرش، فرآه سليمان مستقرا عنده. (فلما رآه مستقرا عنده) أي: فلما رأى سليمان العرش محمولا إليه، موضوعا بين يديه في مقدار رجع البصر (قال هذا من فضل ربي) أي: من نعمته علي، وإحسانه لدي، لأن تيسير ذلك وتسخيره، مع صعوبته وتعذره، معجزة له، ودلالة على علو قدره، وجلالته، وشرف منزلته عند الله تعالى (ليبلوني أأشكر أم أكفر) أي: ليختبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة، أم أكفر بها (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) لأن عائدة شكره ومنفعته ترجعان إليه، وتخصانه دون غيره. وهذا مثل قوله: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) (ومن كفر فإن ربي غني) عن شكر العباد، غير محتاج إليه، بل هم المحتاجون إليه، لما لهم فيه من الثواب والأجر (كريم) أي: متفضل على عباده، شاكرهم وكافرهم، عاصيهم ومطيعهم، لا يمنعه كفرهم وعصيانهم من الإفضال عليهم، والإحسان إليهم. (قال) سليمان (نكروا لها عرشها) أي: غيروا سريرها إلى حال تنكرها إذا رأته، وأراد بذلك اختبار عقلها على ما قيل. (ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون) أي: أتهتدي إلى معرفة عرشها بفطنتها بعد التغيير، أم لا تهتدي إلى ذلك، عن سعيد بن جبير، وقتادة. وقيل: أتهتدي أي: أتستدل بعرشها على قدرة الله، وصحة نبوتي، وتهتدي بذلك إلى طريق الإيمان والتوحيد أم لا، عن الجبائي. قال ابن عباس: فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجواهر. وقال مجاهد: غير ما كان أحمر، فجعله أخضر، وما كان أخضر فجعله أحمر. وقال عكرمة: زيد
[ 387 ]
فيه شئ، ونقص منه شئ. (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو) فلم ثثبته، ولم تنكره. ودل ذلك على كمال عقلها، حيث لم تقل لا، إذ كان يشبه سريرها، لأنها وجدت فيه ما تعرفه، ولم تقل نعم إذ وجدت فيه ما غير وبدل، ولأنها خلفته في بيتها، وحمله في تلك المدة إلى ذلك الموضع غير داخل في قدرة البشر. قال مقاتل: عرفته، ولكن شبهوا عليها حين قالوا لها: أهكذا عرشك ؟ فشبهت حين قالت: كأنه هو. ولو قيل لها: هذا عرشك. لقالت: نعم. قال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن قلت هو، خشيت أن أكذب. وإن قلت لا، خشيت أن أكذب. فقالت: كأنه هو. شبهته به. فقيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب، وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب، لما خرجت. فقالت: (وأوتينا العلم) بصحة نبوة سليمان (من قبلها) أي: من قبل الآية في العرش. (وكنا مسلمين) طائعين لأمر سليمان. وقيل: إنه من كلام سليمان، عن مجاهد. ومعناه: وأوتينا العلم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرة، وكنا مخلصين لله بالتوحيد. وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها. وقيل: إنه من كلام قوم سليمان، عن الجبائي. (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) أي: منعها عبادة الشمس عن الإيمان بالله تعالى، بعد رؤية تلك المعجزة، عن مجاهد. فعلى هذا تكون (ما) موصولة مرفوعة الموضع، بأنها فاعلة (صد). وقيل: معناه وصدها سليمان عما كانت تعبده من دون الله، وحال بينها وبينه، ومنعها عنه. فعلى هذا يكون (ما) في موضع النصب. وقيل: معناه منعها الإيمان والتوحيد الذي كانت تعبده من دون الله وهو الشمس. ثم استأنف فقال (إنها كانت من قوم كافرين) أي: من قوم يعبدون الشمس قد نشأت فيما بينهم، فلم تعرف إلا عبادة الشمس. (قيل لها ادخلي الصرح) والصرح هو الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف. وذكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ، أمر الشياطين ببناء الصرح، وهو كهيئة السطح المنبسط، من قوارير أجرى تحته الماء، وجمع في الماء الحيتان، والضفادع، ودواب البحر. ثم وضع له فيه سرير، فجلس عليه. وقيل: إنه قصر من زجاج، كأنه الماء بياضا. وقال أبو عبيدة: كل بناء من زجاج، أو صخر، أو غير
[ 388 ]
ذلك، موثق، فهو صرح. وإنما أمر سليمان عليه السلام بالصرح، لأنه أراد أن يختبر عقلها، وينظر هل تستدل على معرفة الله تعالى بما ترى من هذه الآية العظيمة. وقيل: إن الجن والشياطين خافت أن يتزوجها سليمان، فلا ينفكون من تسخير سليمان وذريته بعده لو تزوجها، وذلك أن أمها كانت جنية، فأساؤوا الثناء عليها، ليزهدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا، وإن رجلها كحافر الحمار. فلما امتحن ذلك وجدها على خلاف ما قيل. وقيل: إنه ذكر له أن على رجليها شعرا، فلما كشفته بان الشعر فساءه ذلك، فاستشار الجن في ذلك، فعملوا الحمامات، وطبخوا له النورة والزرنيخ، وكان أول ما صنعت النورة. (فلما رأته) أي: رأت بلقيس الصرح (حسبته لجة) وهي معظم الماء (وكشفت عن ساقيها) لدخول الماء. وقيل: إنها لما رأت الصرح، قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق، وأنفت أن تجبن، فلا تدخل، ولم يكن من عادتهم لبس الخفاف. فلما كشفت عن ساقيها (قال) لها سليمان (إنه صرح ممرد) أي: مملس (من قوارير) وليس بماء. ولما رأت سرير سليمان، والصرح (قالت ربي إني ظلمت نفسي بالكفر الذي كنت عليه (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) فحسن إسلامها. وقيل: إنها لما جلست دعاها سليمان إلى الإسلام، وكانت قد رأت الآيات والمعجزات، فأجابته وأسلمت. وقيل: إنها لما ظنت أن سليمان يغرقها، ثم عرفت حقيقة الأمر، قالت: ظلمت نفسي إذ توهمت على سليمان ما توهمت. واختلف في أمرها بعد ذلك فقيل: إنه تزوجها سليمان، وأقرها على ملكها. وقيل: إنه زوجها من ملك يقال له تبع، وردها إلى أرضها، وأمر زوبعة أمير الجن باليمن، أن يعمل له ويطيع. فصنع له المصانع باليمن. قال عون بن عبد الله: جاء رجل إلى عبد الله بن عتبة، فسأله: هل تزوجها سليمان ؟ قال: عهدي بها أن قالت وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، يعني أنه لا يعلم ذلك. وأن آخر ما سمع من حديثها هذا القول. وروى العياشي في تفسيره بالإسناد قال: إلتقى موسى بن محمد بن علي بن موسى عليه السلام، ويحيى بن أكثم، فسأله عن مسائل قال: فدخلت على أخي علي بن محمد عليهما السلام بعد أن دار بيني وبينه من المواعظ، حتى انتهيت إلى طاعته، فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها ؟ فضحك
[ 389 ]
ثم قال: فهل أفتيته فيها ؟ قلت: لا. قال: ولم ؟ قلت: لم أعرفها. قال: وما هي ؟ قلت: أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا ؟ ثم ذكر المسائل الأخر. قال: أكتب يا أخي. " بسم الله الرحمن الرحيم. سألت عن قول الله تعالى في كتابه (قال الذي عنده علم من الكتاب) فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرفه آصف، لكنه عليه السلام أحب أن تعرف أمته من الإنس والجن، أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله تعالى، ففهمه الله ذلك، لئلا يختلف في إمامته ودلالته، كما فهم سليمان في حياة داود، ليعرف إمامته ونبوته من بعده، لتأكيد الحجة على الخلق ". * (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ 45 ] قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون [ 46 ] قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون [ 47 ] وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون [ 48 ] قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون [ 49 ] ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون [ 50 ] فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [ 51 ] فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لأية لقوم يعلمون [ 52 ] وأنجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون [ 53 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (لتبيتنه) بالتاء، وضم التاء الثانية (ثم لتقولن) بالتاء أيضا وضم اللام. والباقون: (لنبيتنه) بالنون، وفتح التاء (ثم لنقولن) أيضا بالنون، وفتح اللام. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وسهل وابن عامر. (إنا دمرناهم) بكسر الألف. والباقون بفتح الألف. وروي عن روح وزيد عن يعقوب بكسر الألف أيضا.
[ 390 ]
الحجة. قال أبو علي: قوله تقاسموا لا يخلو من أن يراد به مثال الماضي، أو مثال الآتي الذي يراد به الأمر، فمن أراد به الأمر جعل (لنبيتنه) جوابا لتقاسموا، فكأنه قال: حلفوا لنبيتنه لأن هذه الألفاظ التي تكون من ألفاظ القسم، تتلقى بما يتلقى به الإيمان، كقوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن)، (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) فكذلك (تقاسموا بالله لنبيتنه) ملقاة باللام والنون الثقيلة. وأدخل المتكلمون أنفسهم مع المقسمين، كما دخلوا في قوله: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم). ومن قال: (تقاسموا لنبيتنه) أراد: ليقسم بعضكم لبعض لنبيتنه، فتقاسموا على هذا أمر، كما كان فيمن قال (لنبيتنه) أمرا. ومن قال (تقاسموا لتبيتنه) بالتاء، فتقاسموا على هذا مثال ماض، ولا يجوز مع هذا إلا بالتاء، لأن مثال الماضي للغيبة، ولتبيتنه للخطاب. ومن كسر (إنا دمرناهم) جاز أن يكون كان في قوله (كيف كان عاقبة مكرهم) تامة، وأن تكون ناقصة. فإن جعلتها تامة بمعنى وقع، كان قوله (كيف كان عاقبة) في موضع حال، تقديره على أي حال وقع عاقبة مكرهم أي: أحسنا وقع عاقبة مكرهم أو سيئا. أو يكون في كيف ضمير من ذي الحال، كما أنك إذا قلت: في الدار حدث الأمر، فجعلته في موضع الحال، كان كذلك. وحكم كيف على ذا أن يكون متعلقا بمحذوف، كما أنك إذا قلت: في الدار وقع زيد، فتقديره: وقع زيد مستقرا في هذه الحال. فإن جعلته ظرفا للفعل، تعلق بكان الذي بمعنى الحدث. وقوله (إنا دمرناهم) فيمن كسر استئناف وهو تفسير للعاقبة كما أن قوله (لهم مغفرة وأجر عظيم) تفسير للموعد. ومن قرأ (إنا دمرناهم) جاز أن يكون كان على ضربيها. وإذا حملته على وقع، كان (كيف) في موضع حال. وجاز في قوله (إنا دمرناهم) أمران أحدهما: أن يكون بدلا من قوله (عاقبة مكرهم). وجاز أن يكون محمولا على مبتدأ مضمر، كأنه قال هو أنا دمرناهم، أو ذاك أنا دمرناهم. فإذا حملتها على المقتضية للخبر، جاز في قوله (أنا دمرناهم) قولان أحدهما: أن يكون بدلا من اسم كان الذي هو العاقبة، فإذا حملته على ذلك كان (كيف) في موضع خبر كان والآخر: أن يكون خبر كان، ويكون موضعه نصبا بأنه خبر كان، كأنه كان عاقبة أمرهم تدميرهم. ويكون (كيف) في موضع حال. ويجوز أن يكون العامل في
[ 391 ]
(كيف) أحد شيئين. إما أن يكون كان، لأنه فعل كما كان العامل في الظرف في قوله (أكان للناس عجبا أن أوحينا) ألا ترى أنه لا يجوز أن يتصل قوله للناس بواحد من المصدرين، إلا أن تجعله صفة لعجب، فتقدمه، فيصير في موضع حال. فالعامل فيه على هذا أيضا كان. ويجوز أن يكون العامل فيه ما في الكلام من الدلالة على الفعل، لأن قوله إنا دمرناهم بمنزلة تدميرنا. وتدميرنا: يدل على دمرنا. فيصير العامل فيه هذا المعنى الذي دل عليه ما في الكلام من معنى الفعل. وزعموا أن في حرف أبي (أن دمرناهم) فهذا يقوي الفتح في (أنا). المعنى: ثم عطف سبحانه على قصة سليمان، قصة صالح، فقال: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم) في النسب (صالحا أن اعبدوا الله) أي: أرسلناه بأن اعبدوا الله وحده، لا شريك له (فإذا هم فريقان يختصمون) أي: مؤمنون وكافرون، يقول كل فريق: الحق معي. (قال) صالح للفريق المكذب (يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) أي: بالعذاب قبل الرحمة أي: لم قلتم: إن كان ما أتينا به حقا فأتنا بالعذاب. وسمى العذاب سيئة، لما فيه من الآلام، ولأنه جزاء على السيئة، لأن السيئة هي الخصلة التي تسوء صاحبها (لولا) أي: هلا (تستغفرون الله) أي: تطلبون مغفرته من الشرك بأن تؤمنوا (لعلكم ترحمون) فلا تعذبون في الدنيا (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) أي: تشأمنا بك، وبمن على دينك، وذلك أنهم قحط المطر عنهم، وجاعوا، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك، وشؤم أصحابك. (قال) لهم صالح (طائركم عند الله) أي: الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم، وهذا كقوله: (يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله). (بل أنتم قوم تفتنون) أي: تختبرون بالخير والشر، عن ابن عباس. وقيل: تعذبون بسوء أعمالكم، عن محمد بن كعب. وقيل: تبتلون، وتمتحنون بطاعة الله ومعصيته (وكان في المدينة) يعني التي بها صالح، وهي الحجر (تسعة رهط يفسدون في الأرض) كانت هذه التسعة النفر من أشرافهم، وهم غواة قوم صالح، وهم الذين سعوا في عقر الناقة (ولا يصلحون) أي: لا يطيعون الله تعالى. وذكر ابن عباس أسماءهم، وقال: هم قدار بن سالف، ومصدع، ودهمي، ودهيم، ودعمي، ودعيم، وأسلم، وقتال، وصداف. (قالوا تقاسموا بالله) أي: قالوا فيما بينهم: احلفوا بالله (لنبيتنه) أي:
[ 392 ]
لنقتلن صالحا (وأهله) بياتا. ومن قرأ بالنون، فكأنهم قالوا: أقسموا لنفعلن. والأمر بالقسم في القراءتين داخل في الفعل منهم. (ثم لنقولن لوليه) أي: لذي رحم صالح، إن سألنا عنه (ما شهدنا مهلك أهله) أي: ما قتلناه، وما ندري من قتله وأهله. وقد ذكرنا اختلاف القراء فيه في سورة الكهف. (وإنا لصادقون) في هذا القول. قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أن يكونوا فعلوا ذلك، أو رأوه. وكان هذا مكرا عزموا عليه. قال الله تعالى: (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا) أي: جازيناهم جزاء مكرهم بتعجيل عقوبتهم (وهم لا يشعرون) بمكر الله بهم، فإنهم دخلوا على صالح ليقتلوه، فأنزل الله سبحانه الملائكة، فرموا كل واحد منهم بحجر حتى قتلوهم، وسلم صالح من مكرهم، عن ابن عباس. وقيل: إن الله أمر صالحا بالخروج من بينهم، ثم استأصلهم بالعذاب. وقيل: نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا، ليأتوا صالحا، فخر عليهم الجبل، عن مقاتل. (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم) أي: أهلكناهم بما ذكرناه من العذاب (وقومهم أجمعين) بصيحة جبرائيل (فتلك بيوتهم) أشار إلى بيوتهم، والمعنى فانظر إليها (خاوية) نصب على الحال أي: فارغة خالية (بما ظلموا) أي: بظلمهم، وشركهم بالله تعالى. (إن في ذلك) أي: في إهلاكهم (لآية لقوم يعلمون) أي: لعبرة لمن نظر إليها، واعتبر بها. وفي هذه الآية دلالة على أن الظلم يعقب خراب الدور. وروي عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرب البيوت، وتلا هذه الآية. وقيل: إن هذه البيوت بوادي القرى، بين المدينة والشام. (وأنجينا الذين آمنوا) به (وكانوا يتقون) قالوا: إنهم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت، وسمي حضرموت لأن صالحا لما دخلها مات. * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون [ 54 ] أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون [ 55 ] * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا ءال لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 56 ] فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من
[ 393 ]
الغابرين [ 57 ] وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين [ 58 ] قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون [ 59 ]) * القراءة: قرأ أهل البصرة وعاصم: (يشركون) بالياء. والباقون بالتاء على الخطاب. وفي شواذ قراءة الحسن: (فما كان جواب قومه) بالرفع. الحجة: الأولى أن يكون (جواب قومه) خبر كان، والإسم قوله: (أن قالوا)، لشبه أن بالمضمر من حيث كانت لا توصف. والمضمر أعرف من المظهر. وقد تقدم القول في هذا. المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة لوط، عاطفا بها على ما تقدم، فقال: (ولوطا) أي: وأرسلنا لوطا (إذ قال لقومه) منكرا عليهم أفعالهم (أتأتون الفاحشة) يعني الخصلة القبيحة، الشنيعة، الظاهرة القبح، وهي إتيان الذكران في أدبارهم (وأنتم تبصرون) أي: تعلمون أنها فاحشة. وقيل: معناه وأنتم يرى بعضكم ذلك من بعض. ثم بين سبحانه الفاحشة التي يأتونها فقال: (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) اللاتي خلقهن الله لكم. (بل أنتم قوم تجهلون) أي: تفعلون أفعال الجهال. قال ابن عباس: تجهلون القيامة، وعاقبة العصيان. (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) عن إتيان الرجال في أدبارهم (فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها) أي: جعلناها (من الغابرين) أي: الباقين في العذاب (وأمطرنا عليهم مطرا) وهو الحجارة (فساء مطر المنذرين) الذين أبلغهم لوط النذارة، وأعلمهم بموضع المخافة ليتقوها، فخالفوا ذلك. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل) يا محمد (الحمد لله) شكرا على نعمه، بأن وفقنا للإيمان. وقيل الحمد لله على هلاك الأمم الكافرة. (وسلام على عباده الذين اصطفى) أي: اصطفاهم الله واجتباهم، واختارهم على بريته، وهم الأنبياء، عن مقاتل. وقيل: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى السلام عليهم: أنهم سلموا مما عذب الله به الكفار، عن الكلبي. وقيل: هل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن علي بن إبراهيم.
[ 394 ]
ثم قال سبحانه مخاطبا للمشركين: (ءالله خير أما يشركون) يا أهل مكة يعني: الله خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها. وهذا إلزام للحجة على المشركين، بعد ذكر هلاك الكفار. والمعنى: إن الله تعالى نجى من عبده من الهلاك، والأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب، وإنما قال ذلك لأنهم توهموا في عبادة الأصنام خيرا. * (أمن خلق السموت والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أءله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 60 ] أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 61 ] أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلا ما تذكرون [ 62 ] أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته أءله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 63 ] أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 64 ] قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [ 65 ]) * القراءة: قرأ أبو عمرو وهشام: (ما يذكرون) بالياء. والباقون بالتاء. والوجه فيهما ظاهر. اللغة: الحديقة: البستان الذي عليه حائط، وكل ما أحاط به البناء فهو حديقة. وقيل: الحديقة البستان الذي فيه النخل. والقرار: المكان المطمئن الذي يستقر فيه الماء. ويقال للروضة المنخفضة. قرارة، ومنه حديث ابن عباس قال: " علمي في علم علي عليه السلام كالقرارة في المثعنجر " أي: كالغدير في البحر. والبرهان: البيان بحجة.
[ 395 ]
الاعراب: (أمن) استفهام في محل الرفع على الإبتداء، وخبره (خلق) و (قرارا): نصب على الحال، لأن (جعل) بمعنى خلق، وإن كان بمعنى صير، فهو مفعول ثان له. (أإله مع الله). مبتدأ وخبر تقديره. أإله ثبت مع الله. وإنما جاز أن تكون النكرة مبتدأ، لأنه استفهام. ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا، أو يكون تقديره: أإله في الوجود مع الله. (قليلا ما تذكرون): صفة مصدر محذوف تقديره: تذكرون تذكرا قليلا. و (ما): مزيدة. و (بشرا): نصب على الحال. و (بين يدي رحمته): ظرف منه (أيان): في محل نصب لأنه ظرف زمان، والعامل فيه (يبعثون). المعنى: ثم عدد سبحانه الدلائل على توحيده، ونعمه الشاملة لعبيده، فقال: (أمن خلق السموات والأرض) وتقديره: أما تشركون خير، أم من خلق السموات الأرض أي: أنشأهما واخترعهما (وأنزل لكم من السماء ماء) أي: غيثا ومطرا لكم أي: لمنافعكم، ولأجل معاشكم. عرفهم سبحانه أن غيره لا يقدر على ذلك (فأنبتنا به حدائق) أي: رياضا وبساتين، وما لم يكن عليه حائط لا يقال له حديقة. (ذات بهجة) أي: ذات منظر حسن، يبتهج به من رآه. ولم يقل ذوات بهجة، لأنه أراد تأنيث الجماعة. ولو أراد تأنيث الأعيان، لقال: ذوات. وقال الشاعر: وسوف يعقبنيه إن ظفرت به * رب كريم، وبيض ذات أطهار (1) (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) ما هنا للنفي أي: لم يكونوا يقدرون على إنبات شجرها. (أإله مع الله) وهذا استفهام إنكار معناه: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه. (بل) ليس معه إله (هم قوم يعدلون) يشركون بالله غيره، يعني كفار مكة (أمن جعل الأرض قرارا) أي: مستقرة لا تميل، ولا تميد بأهلها (وجعل خلالها أنهارا) أي: وجعل وسط الأرض، وفي مسالكها ونواحيها، أنهارا جارية، ينبت بها الزرع، ويحيا بها الخلق. (وجعل لها رواسي) أي: جبالا ثوابت، أثبت بها الأرض. (وجعل بين البحرين حاجزا) أي: مانعا من قدرته، بين العذب والملح، فلا يختلط أحدهما بالآخر. (أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) توحيد 1 - قيل: إن الشعر لسموأل بن عاديا، يضرب به المثل في الوفاء، وكانت عنده دروع أمانة. فطلبها منه رجل، فأبى فأخذ الرجل ابنه وهدده قتله إن لم يسلم الدروع. والبيت يشير إلى ذلك ويقول: إن ظفرت بابني وقتلته، فسوف يخلفني ربي أبناء أخر من نساء بيض ذات أطهار (*).
[ 396 ]
ربهم، وكمال قدرته، وسلطانه. (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) أي: يجيب المكروب المجهود، فيكشف ضره وكربه، وإجابة دعاء المضطر هي فعل ما يدعو به، وهذا لا يكون إلا من قادر على الإجابة، مختار لها. ورأس المضطرين المذنب الذي يدعوه، ويسأله المغفرة، ومنهم الخائف الذي يسأله الأمن، والمريض الذي يطلب العافية، والمحبوس الذي يطلب الخلاص، فإن الكل إذا ضاق بهم الأمر، فزعوا إلى رب العالمين، وأكرم الأكرمين. وإنما خص المضطر، وإن كان قد يجيب غير المضطر، لأن رغبته أقوى، وسؤاله أخضع. (ويكشف السوء) أي: يدفع الشدة، وكل ما يسوء (ويجعلكم خلفاء الأرض) يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، فيهلك قرنا، وينشئ قرنا. وقيل: يجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم، وطاعة الله تعالى بعد شركهم وعنادهم (أإله مع الله قليلا ما تذكرون) أي: قليلا ما تتعظون، عن ابن عباس. ومن قرأ بالياء فالمعنى: قليلا ما يتذكر هؤلاء المشركون. (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي: أما تشركون خير، أم من يرشدكم إلى القصد والسمت في البر والبحر، بما نصب لكم من الدلالات، من الكواكب والقمر، إذا ضللتم، وهو كقوله: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). (ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) قد مضى تفسيره، ووجوه القراآت فيه (1). (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون) أي: جل وتنزه عن الشريك كما يزعمه المشركون. (أمن يبدأ الخلق) بأن يخترعه، ويوجده، وينشئه على غير مثال واحتذاء، ثم يميته ويفنيه. (ثم يعيده) بعد الإفناء. وإنما قال ذلك لأنهم أقروا بأنه الخالق، فيلزمهم الإقرار بالبعث من حيث إن من قدر على الإنشاء، قدر على الإعادة. (ومن يرزقكم من السماه والأرض) بإنزال المطر، وبإخراج الثمار والنبات. (أإله مع الله) يقدر على ذلك (قل) لهم يا محمد (هاتوا برهانكم) أي: حجتكم (إن كنتم صادقين) أن لي شريكا صنع شيئا من هذه الأشياء، فإذا لم يقدروا (1) أي: في سورة الأعراف. راجع 4 (*).
[ 397 ]
على إقامة البرهان على ذلك، فاعلموا انه لا إله معي، ولا يستحق العبادة سواي (قل) يا محمد (لا يعلم من في السموات والأرض) من الملائكة، والإنس، والجن (الغيب) وهو ما غاب علمه عن الخلق مما يكون في المستقبل (إلا الله) وحده، أو من أعلمه الله تعالى. (وما يشعرون أيان يبعثون) أي: متى يحشرون يوم القيامة. دل سبحانه بهذه الآية كما دل بما تقدمها، على قدرته. * (بل ادرك علمهم في الأخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ 66 ] وقال الذين كفروا أءذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون [ 67 ] لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين [ 68 ] قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين [ 69 ] ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون [ 70 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 71 ] قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون [ 72 ] وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون [ 73 ] وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون [ 74 ] وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ 75 ]) *. القراءة: قرأ أهل البصرة، وأبو جعفر، وابن كثير: (بل أدرك) بقطع الألف، وسكون اللام والدال. وقرأ الشموني عن أبي بكر (بل ادرك) موصولة الألف، مشددة الدال بلا ألف بعدها. والباقون: (بل ادارك). وفي الشواذ قراءة سليمان بن يسار، وعطاء بن يسار: (بل درك) بفتح اللام، ولا همزة، ولا ألف. وقراءة الحسن، وأبي رجاء، وابن محيصن، وقتادة: (بل أدرك) وقراءة ابن عباس (بلى) بياء (أدرك). وقراءة أبي: (بل تدارك). وقرأ أهل المدينة: (إذا كنا ترابا) بكسر الألف: (آنا لمخرجون) بالإستفهام بهمزة واحدة ممدودة، عن أبي جعفر. وقالون وغيره ممدودة، عن ورش، وإسماعيل. وقرأ ابن عامر، والكسائي: (أإذا) بهمزتين: (اننا) بنونين. وقرأ ابن كثير، ويعقوب (إذا أنا) بالإستفهام فيهما جميعا، بهمزة واحدة غير ممدودة. وقرأ أبو عمر: (آذا آنا) بالإستفهام فيهما جميعا بهمزة واحدة ممدودة. وقرأ عاصم، وحمزة، وخلف: (أإذا أإنا)
[ 398 ]
بالإستفهام فيهما جميعا بهمزتين، همزتين. وقرأ ابن كثير: (في ضيق) بكسر الضاد. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي: إن علم قد يصل بالجار كقوله تعالى: (ألم يعلم بأن الله يرى) وقولهم: علمي بزيد يوم الجمعة. ومعنى أدرك: بلغ ولحق، يقال: فلان أدرك الحسن أي: لحق أيامه. وهذا ما أدركه علمي أي: بلغه. فالمعنى أنهم لم يدركوا علم الآخرة أي: لم يعلموا حدوثها وكونها. ودل على ذلك قوله: (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) أي: بل هم من علمها عمون. وإذا كان كذلك، كان معنى قوله (في الآخرة) معنى الباء أي: لم يدركوا علمها، ولم ينظروا في حقيقتها، فيدركوا. ولهذا قرأ من قرأ (أدرك) كأنه أراد لم يدركوه، كما تقول: أجئتني أمس أي: لم تجئني. والمعنى: لم يدرك علمهم بحدوث الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم من علمها عمون. والعمى عن علم الشئ أبعد منه من الشاك فيه، لأن الشك قد يعرض عن ضرب من النظر. والعمى عن الشئ: الذي لم يدرك منه شيئا. وأما من قال (إدارك) فإنه أراد تدارك، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها، وكونها من حيزها. فلما سكتت التاء للإدغام اجتلبت لها همزة الوصل، كما اجتلبتها في نحو (ادارأتم). وفي التنزيل (حتى إذا اداركوا فيها) كان معناها تلاحقوا. قال: (تداركتم الاحلاف قد ثل عرشها) (1). وما روي عن أبي بكر (بل ادرك) معناه: افتعل من ادركت. وافتعل وتفاعل يجيئان بمعنى. ومن ثم صح قولهم ازدوجوا، وإن كان الحرف على صورة يجب فيها الإنقلاب، ولكنه صح لما كان بمعنى تفاعلوا. وتفاعلوا يلزم فيه تصحيح حروف العلة، لسكون الحرف الذي قبل حرف العلة. فصار تصحيح هذا كتصحيح عور وحول. لما كان بمعنى إعور واحول. ومن قرأ (بل درك): فإنه خفف الهمزة بحذفها، وإلقاء حركتها على اللام (1) هذا صدر بيت لزهير، وعجزه: " وذبيان قد زلت بأقدامها النعل). ومراده من الأحلاف هم قبيلتا أسد وغطفان، لأنهم تحالفوا على التناصر. وقوله: " وذبيان " عطف على الأحلاف. وثل عرشه أي: تضعضعت حاله (*).
[ 399 ]
الساكنة قبلها، نحو: قد فلح في (قد أفلح). وأما قوله: (بل أدرك) فإن بل استئناف، وما بعدها استفهام، كما تقول: أزيد عندك بل أعمرو عندك، تركا للأول إلى غيره. وأما (بلى) (1) فكأنه جواب، وذلك لأنه لما قال: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) فكأن قائلا قال: ما الأمر كذلك، فقيل له: بلى. ثم استؤنف فقيل. أدرك علمهم في الآخرة. وقد سبق ذكر الإستفهامين فيما تقدم، وكذلك ذكر الضيق والضيق، والأولى أن يحمل على أنهما لغتان. اللغة: قال ابن الأعرابي. ردفت وأردفت، ولحقت وألحقت بمعنى. وترادفوا: تلاحقوا. قال المبرد: اللام في (ردف لكم) قيل: إنه إنما أتي باللام، لأن معنى ردف: دنا، فكأنه قال: دنا لكم، كما قال الشاعر: فقلت لها: الحاجات يطرحن بالفتى * وهم تعناني معنى ركائبه (2) قال: يطرحن بالفتى لما كان معنى يطرحن يرمين. وكننت الشئ في نفسي، وأكننته: إذا سترته في نفسك، فهو مكن ومكنون. قال الرماني: الإكنان جعل الشئ بحيث لا يلحقه أذى بمانع يصده عنه. الاعراب: العامل في إذا معنى قوله (مخرجون)، لأن ما بعد أن، لا يعمل فيما قبل أن، فالتقدير أإذا كنا ترابا أخرجنا. وهذا في محل نصب، لأنه مفعول ثان لوعد. (عسى أن يكون ردف لكم): يكون اسمه ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبره. وأن يكون وما يتعلق به في محل رفع بأنه فاعل (عسى). المعنى: لما أخبر سبحانه عن الكفار أنهم لا يشعرون متى يبعثون، وأنهم شاكون، عقبه بأنهم يعلمون حقيقة ذلك يوم القيامة، فقال: (بل ادارك علمهم في الآخرة) أي: تتابع منهم العلم، وتلاحق حتى كمل علمهم في الآخرة، بما أخبروا به في الدنيا، فهو على لفظ الماضي، والمراد به الإستقبال أي: يتدارك. ومن قرأ (ادرك) فمعناه: سيدرك علمهم هذه الأشياء في الآخرة، حين لا ينفعهم اليقين. (1) أي: في قراءة ابن عباس: " بلى أدرك ". (2) قائله: الفرزدق من قصيدة يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي. وقبل هذا البيت قوله وهو مطلع القصيدة: " تقول ابنة الغوثي مالك ههنا * وأنت تميمي مع الشرق جانبه * فقلت لها...) وقوله: " هم تعناني " أي قاساني. ومعنى من التعنية (*).
[ 400 ]
(بل هم في شك منها) في الدنيا، عن ابن عباس. والمعنى: إن ما جهلوه في الدنيا، وسقط علمه عنهم، علموه في الآخرة. وقيل: معناه اجتمع علمهم يوم القيامة، فلم يشكوا، ولم يختلفوا، عن السدي. وقال مقاتل: يقول بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا. وقيل: إن هذا على وجه الإستفهام، فحذف الألف، والمرادا به النفي، بمعنى أنه لم يدرك علمهم بالآخرة، ولم يبلغها علمهم. وقيل. معناه أدرك هذا العلم جميع العقلاء، لو تفكروا ونظروا، لأن العقل يقتضي أن الإهمال قبيح، فلا بد من تكليف، والتكليف يقتضي الجزاء. وإذا لم يكن ذلك في الدنيا، فلا بد من دار للجزاء. وقيل: إن الآية إخبار عن ثلاث طوائف: طائفة أقرت بالبعث، وطائفة شكت فيه، وطائفة نفته. كما قال (بل هم في أمر مريج). وقوله (بل هم منها عمون) أي: عن معرفتها. وهو جمع عمي، وهو الأعمى القلب لتركه التدبر والنظر. (وقال الذين كفروا) بإنكارهم البعث: (أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون) من القبور مبعوثون. يقولون ذلك على طريق الإستبعاد والإستنكار. (لقد وعدنا هذا) البعث (نحن) فيما مضى (وآباؤنا من قبل) أي: ووعد آباؤنا ذلك من قبلنا، فلم يكن مما قالوه شئ. (إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها (قل) يا محمد (سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) الذين كفروا بالله وعصوه أي: كيف أهلكهم الله، وخرب ديارهم. (ولا تحزن عليهم) أي: على تكذيبهم، وتركهم الإيمان. (ولا تكن في ضيق) وهو ما يضيق به الصدر (مما يمكرون) أي: يدبرون في أمرك، فإن الله تعالى يحفظك، وينصرك عليهم (ويقولون متى هذا الوعد) الذي تعدنا يا محمد من العذاب (إن كنتم صادقين) بأنه يكون. (قل) يا محمد (عسى أن يكون ردف لكم) أي: قرب لكم، عن ابن عباس. وقيل: أقرب لكم، عن السدي. وقيل: أردف لكم، عن قتادة (بعض الذي تستعجلون) من العذاب. وعسى من الله واجب، فمعناه: أنه قرب منكم، وسيأتيكم. وهذا البعض الذي دنا لهم القتل والأسر يوم بدر، وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت. وقيل: هو الإنذار عند الموت وشدته، وعذاب القبر، عن الجبائي.
[ 401 ]
(وإن ربك لذو فضل على الناس) بضروب النعم الدينية والدنيوية. وقيل: بإمهالهم ليتوبوا. والفضل هو الزيادة من الله تعالى للعبد على ما يستحقه بشكره، والعدل: حق للعبد. والفضل فيه واقع من الله تعالى، إلا أنه على ما يصح، وتقتضيه الحكمة. (ولكن أكثرهم لا يشكرون) نعمه (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي: تخفيه وتستره (وما يعلنون) أي: ويعلم ما يظهرونه أيضا (وما من غائبة) أي. من خصلة غائبة (في السماء والأرض) يعني جميع ما أخفاه عن خلقه، وغيبه عنهم، (إلا في كتاب مبين) أي: إلا وهو مبين في اللوح المحفوظ، وقيل: أراد أن جميع أفعالهم محفوظة عنده، غير منسية، كما يقول القائل: أفعالك عندي مكتوبة أي: محفوظة، عن أبي مسلم والجبائي. * (إن هذا القرءان يقص على بنى إسرءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون [ 76 ] وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين [ 77 ] إن ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم [ 78 ] فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 79 ] إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 80 ] وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 81 ] * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون [ 82 ] ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون [ 83 ] حتى إذا جاء و قال أكذبتم بآياتى ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعلمون [ 84 ] ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 85 ]) *. القراءة: قرأ (ولا يسمع) بالياء (الصم) بالرفع ههنا وفي الروم ابن كثير، وابن عباس. والباقون: (لا تسمع) بضم التاء (الصم) بالنصب. وقرأ (وما أنت تهدي العمي) حمزة هاهنا وفي الروم. وقرأ الباقون: (وما أنت بهادي العمي). وفي الشواذ قراءة ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والجحدري، وابن ذرعة: (تكلمهم) بفتح التاء، والتخفيف. وقرأ أهل العراق، غير أبي عمرو
[ 402 ]
وسهل: (أن الناس) بفتح الهمزة. والباقون بكسرها. الحجة. حجة من قال (تسمع): أنه أشبه بما قيل من قوله: (إنك لا تسمع الموتى). ويؤكد ذلك قوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم). ومن قرأ (ولا يسمع الصم الدعاء): فالمعنى لا ينقادون للحق لعنادهم، كما لا يسمع الأصم ما يقال له. ومن قرأ (تهدي العمي): فالتقدير: إنك لا تهديهم لشدة عنادهم، وإعراضهم، وأنت مرفوع بما على قول أهل الحجاز (تهدي): في موضع نصب بأنه خبر. وعلى قوله تميم: يرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر الذي هو (تهدي) تقديره: إذا أظهرت ذلك المضمر ما تهدي تهدي، لأنك إذا أظهرت الفعل المضمر اتصل به الضمير، ولم ينفصل كما ينفصل إذا لم تظهر. ومن قرأ (بهادي العمي) مضافا في السورتين، فاسم الفاعل للحال، أو للآتي. فإذا كان كذلك، كانت الإضافة في نية الإنفصال. وقوله (أن الناس) بالفتح: فالوجه فيه تكلمهم بأن الناس. وزعموا أنه في قراءة أبي (تنبئهم). وعن قتادة: إنه في بعض الحروف (تحدثهم). وهذا يدل على أن تكلمهم من الكلام الذي هو النطق، وليس هو من الكلم الذي هو الجراحة. ومن كسر فقال (إن الناس) فالمعنى: تكلمهم فتقول لهم: إن الناس. وإضمار القول في الكلام كثير، وحسن ذلك، لأن الكلام قول. فكأن القول أظهر. ومن قرأ (تكلمهم) فمعناه: تجرحهم بأكلها إياهم. المعنى: ثم ذكر سبحانه من الحجج ما يقوي قلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) أي: يخبرهم بالصدق (أكثر الذي هم فيه يختلفون) من حديث مريم وعيسى والنبي المبشر به في التوراة، حيث قال بعضهم: هو يوشع، وقال بعضهم: لا بل هو منتظر لم يأت بعد، وغير ذلك من الأحكام. وكان ذلك معجزة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان لا يدرس كتبهم، ولا يقرؤها، ثم أخبرهم بما فيها. (وإنه) يعني القرآن (لهدى) أي: دلالة على الحق (ورحمة للمؤمنين) أي: نعمة لهم. (إن ربك يقضي بينهم بحكمه) يريد بين المختلفين في الدين يوم القيامة. وأشار بذلك إلى شيئين أحدهما: إن الحكم له. فلا ينفذ حكم غيره، فيوصل إلى
[ 403 ]
كل ذي حق حقه والآخر: إنه وعد المظلوم بالإنتصاف من الظالم (وهو العزيز) القادر على ما يشاء، لا يمتنع عليه شئ (العليم) بالمحق والمبطل، فيجازي كلا بحسب عمله. وفي هذه الآية تسلية للمحقين من الذين خولفوا في أمور الدين، وأن أمرهم يؤول إلى أن يحكم بينهم رب العالمين. ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال (فتوكل على الله) يا محمد (إنك على الحق المبين) أي: الواضح البين الظاهر. والمحق أولى بالتوكل من المبطل المدغل. والمراد بهذا الخطاب: سائر المؤمنين، وإن كان في الظاهر لسيد المرسلين. ثم شبه الكفار بالموتى فقال: (إنك لا تسمع الموتى) يقول: كما لا تسمع الميت الذي ليس له آلة السمع النداء، كذلك لا تسمع الكافر النداء، لأنه لا يسمع، ولا يقبل بالموعظة، ولا يتدبر فيها. (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) إنما قال ذلك، لأن الأصم إذا كان قريبا، فالإنسان يطمع في إسماعه. فإذا أعرض وأدبر وتباعد، انقطع الطمع في إسماعه. فجعل سبحانه المصمم على الجهل كالميت في أنه لا يقبل الهدى، وكالأصم في أنه لا يسمع الدعاء. (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) في الدين بالآيات الدالة على الهدى إذا أعرضوا عنها، كما لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق. جعل سبحانه الجهل بمنزلة العمى، لأنه يمنع عن إدراك الحق، كما يمنع العمى من إدراك المبصرات. (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي: ما يسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا (فهم مسلمون) أي: مستسلمون منقادون. جعل سبحانه استماعهم، وقبولهم الحق سماعا، وتركهم للقبول تركا للسماع. وقيل: مسلمون أي: موحدون مخلصون. (وإذا وقع القول عليهم) أي: وجب العذاب والوعيد عليهم. وقيل: معناه إذا صاروا بحيث لا يفلح أحد منهم، ولا أحد بسببهم، عن مجاهد. وقيل: معناه إذا غضب الله عليهم عن قتادة. وقيل: معناه إذا أنزل العذاب بهم عند اقتراب الساعة فسمي المقول قولا، كما يقال: جاء الخبر الذي قلت. ويراد به المخبر. قال أبو سعيد الخدري، وابن عمر: إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، وجب السخط عليهم، وأخذوا بمبادئ العقاب منها قوله:
[ 404 ]
(أخرجنا لهم دابة من الأرض) تخرج بين الصفا والمروة، فتخبر المؤمن بأنه مؤمن، والكافر بأنه كافر، وعند ذلك يرتفع التكليف، ولا تقبل التوبة، وهو علم من أعلام الساعة. وقيل: لا يبقى مؤمن إلا مسحته، ولا يبقى منافق إلا خطمته، تخرج ليلة جمع، والناس يسيرون إلى منى، عن ابن عمر. وروى محمد بن كعب القرظي قال: سئل علي صلوات الرحمن عليه عن الدابة ؟ فقال: أما والله ما لها ذنب، وإن لها للحية. وفي هذا إشارة إلى أنها من الإنس. وروي عن أبن عباس أنها دابة من دواب الأرض لها زغب وريش، ولها أربع قوائم. وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه، وتكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه، وتكتب بين عينيه كافر. ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا. وتختم أنف الكافر بالخاتم، حتى يقال: يا مؤمن، ويا كافر. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجا بأقصى المدينة، فيفشو ذكرها في البادية، ولا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة. ثم تمكث زمانا طويلا، تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة، فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة. ثم سار الناس يوما في أعظم المساجد على الله، عز وجل، حرمة، وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام، لم ترعهم إلا وهي في ناحية المسجد، تدنو وتدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم، عن يمين الخارج في وسط من ذلك، فيرفض الناس عنها، ويثبت لها عصابة، عرفوا أنهم لن يعجزوا الله. فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب، فمرت بهم، فجلت عن وجوههم، حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض، لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي ؟ فيقبل عليها بوجهه، فتسمه في وجهه. فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في الأموال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر. وروي عن وهب أنه قال: ووجهها وجه رجل، وسائر خلقها خلق الطير. ومثل هذا لا يعرف إلا من النبوات الإلهية. وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: إنه صاحب العصا والميسم. وروى علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن أبي عبد الله عليه السلام
[ 405 ]
قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان ! آية في كتاب الله أفسدت قلبي ؟ قال عمار: وأية آية هي ؟ فقال: هذه الآية، فأية دابة الأرض هذه قال عمار: والله ما أجلس، ولا آكل، ولا أشرب، حتى أريكها. فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يأكل تمرا وزبدا، فقال: يا أبا اليقظان ! هلم. فجلس عمار يأكل معه، فتعجب الرجل منه. فلما قام عمار، قال الرجل: سبحان الله حلفت أنك لا تأكل، ولا تشرب، حتى ترينيها ! قال عمار: أريتكها إن كنت تعقل. وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر، رحمه الله، أيضا. وقوله: (تكلمهم) أي: تكلمهم بما يسوؤهم، وهو أنهم يصيرون إلى النار بلسان يفهمونه. وقيل: تحدثهم بأن هذا مؤمن، وهذا كافر. وقيل: تكلمهم بأن تقول لهم: (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) وهو الظاهر. وقيل: بآياتنا معناه بكلامها وخروجها. (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) أي: يدفعون، عن ابن عباس. وقيل: يحبس أولهم على آخرهم. واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول (من) في الكلام، يوجب التبعيض، فدل ذلك على أن اليوم المشار إليه في الآية، يحشر فيه قوم دون قوم، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا). وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي، قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب في القتل، على أيدي شيعته، والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته. ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية، ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره، على ما فسرناه في موضعه. وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: " سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة (1) (1) قال ابن الأثير: القذة واحدة القذذ: ريش السهم: وفي الحديث: " لتركبن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة " أي: كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها، وتقطع. يضرب مثلا للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان (*).
[ 406 ]
حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه ". على أن جماعة من الإمامية تأولوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة، والأمر والنهي، دون رجوع الأشخاص، وإحياء الأموات. وأولوا الأخبار الواردة في ذلك، لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف، وليس كذلك، لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب، والإمتناع من القبيح. والتكليف يصح معها، كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة، والآيات القاهرة، كفلق البحر، وقلب العصا ثعبانا، وما أشبه ذلك. ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة، فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده. ومن قال إن قوله (ويوم يحشر من كل أمة فوجا) المراد به يوم القيامة، قال: المراد بالفوج الجماعة من الرؤساء، والمتبوعين في الكفر، حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم. (حتى إذا جاؤوا) إلى موقف الحساب (قال) الله تعالى لهم (أكذبتم بآياتي) أي: كذبتم بأنبيائي ودلالاتي الدالة على ديني (ولم تحيطوا بها علما) أي: لم تطلبوا معرفتها، ولم تبينوا ما أوجب الله عليكم فيها (أماذا كنتم تعملون) حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا في صحتها يقول ذلك، تبكيتا لهم وتجهيلا، أي: هذا كان الواجب عليكم فتركتموها، ولم تعرفوها حق معرفتها، فبماذا اشتغلتم ؟ ومن قال بالأول قال: المراد بالآيات الأئمة الطاهرون عليهم السلام. (ووقع القول عليهم) أي: وجب العذاب عليهم (بما ظلموا) أي: بظلمهم إذ صاروا بحيث لا يفلح جحد منهم بسببهم (فهم لا ينطقون) إذ ذاك بكلام ينتفعون به. ويجوز أن يكون المراد: أنهم لا ينطقون أصلا، لعظم ما يشاهدونه، وهول ما يرونه. * (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 86 ] ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين [ 87 ] وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون [ 88 ] من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون [ 89 ] ومن جاء بالسيئة فكبت
[ 407 ]
وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 90 ] إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين [ 91 ] وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين [ 92 ] وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون [ 93 ] القراءة: قرأ حمزة وحفص وخلف: (أتوه) مقصورة الألف، غير ممدودة بفتح التاء. وقرأ الباقون: (آتوه) بمد الألف وضم التاء. وقرأ أهل البصرة غير سهل وابن كثير وحماد والأعشى والبرجمي عن أبي بكر: (بما يفعلون) بالياء. والباقون بالتاء. وقرأ أهل الكوفة: (من فزع) منونا (يومئذ) بفتح الميم، وقرأ أهل المدينة غير إسماعيل: (من فزع) بغير تنوين، (يومئذ) بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع برواية إسماعيل ويعقوب: (من فزع) بغير تنوين، (يومئذ) بكسر الميم. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص ويعقوب: (عما تعملون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ أتوه كان فعلوا من الإتيان. ومن قرأ (آتوه): فهو فاعلوه. وكلاهما محمول على معنى كل. ولو حمله على اللفظ جاز، كما في قوله (وكلهم آتيه)، و (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا). وحجة من قال (يفعلون) بالياء: أن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله (وكل أتوه). وحجة التاء: أنه خطاب للكافة، وقد تدخل الغيبة في الخطاب، ولا يدخل الخطاب في الغيبة. وقوله: (من فزع يومئذ). من نون كان في انتصاب (يوم) ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون منتصبا بالمصدر، كأنه قال: وهم من أن يفزعوا يومئذ آمنون والآخر: أن يكون اليوم صفة لفزع، لأن أسماء الأحداث توصف بأسماء الزمان، كما يخبر عنها بها، وفيه ذكر الموصوف وتقديره في هذا الوجه أن يتعلق بمحذوف، كأنه من فزع يحدث يومئذ. والثالث: أن يتعلق باسم الفاعل كأنه آمنون من فزع يومئذ. ويجوز إذا نون الفزع أن يعني به فزعا واحدا. ويجوز أن يعني به كثرة، لأنه مصدر. والمصادر تدل
[ 408 ]
على الكثرة، وإن كانت مفردة الألفاظ، كقوله تعالى (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وكذلك إذا أضاف فقال: (من فزع يومئذ) أو يومئذ. ويجوز أن يعني به مفردا، ويجوز أن يعني به كثرة. فأما القول في إعراب يوم وبنائه إذا أضيف إلى إذ، فقد ذكر فيما تقدم. وحجة من قرأ (يعلمون) بالياء: أنه وعيد للمشركين. وحجة التاء أنه على معنى: قل لهم ذلك. الاعراب: وصف النهار بأنه مبصر فيه وجهان أحدهما: إن معناه ذو إبصار، كقوله (عيشة راضية) أي: ذات رضى. وكقول النابغة: " كليني لهم يا أميمة ناصب " (1) أي. ذي نصب. والثاني: إنه يريك الأشياء كما يراها من يبصرها بالنور الذي تجلى عندها، وفيه قول ثالث: إنه مثل قول جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت، وما ليل المطي بنائم (2) أي: بالذي ينام فيه، فيكون مبصرا، بمعنى ما يبصر فيه. المعنى: ثم بين سبحانه قدرته على الإعادة والبعث، بما احتج به على الكفار، فقال: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) عن التعب والحركات (والنهار مبصرا) أي: يبصر فيه، ويمكن التصرف فيه لضيائه، ويدرك بنوره جميع الأشخاص، كما يدرك بنور البصر (إن في ذلك لآيات) أي: دلالات (لقوم يؤمنون) لأن جعل الشئ لما يصلح له من الإنتفاع، إنما يكون بالإختيار، ولا يكون بالطباع (ويوم ينفخ في الصور) منصوب بتقدير، واذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر الله تعالى، في الصور، وذلك اليوم الذي يقع عليهم القول بما ظلموا ويجوز أن يكون على حذف في الكلام، والتقدير: ويوم ينفخ في الصور، وتكون النشأة الثانية. واختلف في معنى الصور فقيل: هو صور الخلق جمع صورة، عن الحسن وقتادة، ويكون معناه: يوم ينفخ الروح في الصور، فيبعثون. وقيل: هو قرن فيه شبه البوق، عن مجاهد. وقد ورد ذلك في الحديث (ففزع من في السموات ومن في الأرض) أي ماتوا لشدة الخوف والفزع، يدل عليه قوله في موضع آخر (فصعق (1) هذا صدر بيت للنابغة الذبياني، وعجزه: " وليل أقاسيه بطئ الكواكب " وقوله: " كليني " أي دعيني أمر من وكل إليه الأمر: فوض. وأميمة على وزن جهينة: إسم حبيبته. (2) الشعر في (جامع الشواهد) (*).
[ 409 ]
من في السموات) الآية. وقيل: هي ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين. (إلا من شاء الله) من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم، وهم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: يعني الشهداء، فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم. وروي ذلك في خبر مرفوع. (وكل) من الأحياء الذين ماتوا، ثم أحيوا (أتوه) أي: يأتونه في المحشر (داخرين) أي: أذلاء صاغرين، عن ابن عباس وقتادة. (وترى الجبال تحسبها جامدة) أي: واقفة مكانها، لا تسير، ولا تتحرك في مرأى العين (وهي تمر مر السحاب) أي: تسير سيرا حثيثا مثل سير السحاب، عن ابن عباس. وفي مثل هذا المعنى قول النابغة الجعدي، يصف جيشا: بأرعن مثل الطود، تحسب أنهم * وقوف لحاج، والركاب تهملج (1) أي: تحسب أنهم وقوف من أجل كثرتهم والتفافهم، فكذلك المعنى في الجبال، أنك لا ترى سيرها لبعد أطرافها، كما لا ترى سير السحاب إذا انبسط، لبعد أطرافه. وذلك إذا ازيلت الجبال عن أماكنها، للتلاشي، كما في قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش). (صنع الله) أي: صنع الله ذلك صنعا، وانتصب بما دل عليه ما تقدمه من قوله (وهي تمر مر السحاب). وذكر اسم الله، لأنه لم يأت ذكره فيما قبل، وإنما دل عليه (الذي أتقن كل شئ) أي: خلق كل شئ على وجه الإتقان والإحكام والإتساق، قال قتادة: أي أحسن كل شئ خلقه. وقيل: الإتقان حسن في إيثاق. (إنه خبير بما تفعلون) أي: عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة. ثم بين سبحانه كيفية الجزاء على أفعال الفريقين، فقال: (من جاء بالحسنة) أي: بكلمة التوحيد والإخلاص، عن قتادة. وقيل: بالإيمان، عن النخعي. وكان يحلف، ولا يستثني، إن الحسنة لا إله إلا الله، والمعنى من وافى يوم القيامة بالإيمان (فله خير منها) قال ابن عباس: أي فمنها يصل الخير إليه، والمعنى قوله فله من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمان من العقاب. فخير ها هنا (1) الجيش الأرعن: هو المضطرب لكثرته. والطود: الجبل والحاج: جمع الحاجة. والهملاج: حسن سير الدابة في سرعة. (*)
[ 410 ]
اسم، وليس بالذي هو بمعنى الأفضل، وهو المروي عن الحسن وعكرمة وابن جريج. قال عكرمة: فأما أن تكون خيرا من الإيمان، فلا، فليس شئ خيرا من لا إله إلا الله. وقيل: معناه فله أفضل منها في معظم النفع، لأنه يعطي بالحسنة عشرا، عن زيد بن أسلم، ومحمد بن كعب، وابن زيد، وقيل: لأن الثواب فعل الله تعالى، والطاعة فعل العبد. وقيل: هو رضوان الله، (ورضوان من الله أكبر). (وهم من فزع يومئذ آمنون) قال الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها، فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع. (ومن جاء بالسيئة) أي: بالمعصية الكثيرة التي هي الكفر والشرك، عن ابن عباس وأكثر المفسرين. (فكبت وجوههم في النار) أي: ألقوا في النار منكوسين (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) يعني أن هذا جزاء فعلكم، وليس بظلم. حدثنا السيد أبو مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الفضل، قال. حدثني جعفر بن الحسين، قال: حدثني محمد بن زيد بن علي عليهم السلام، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام، يقول دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أبا عبد الله ! ألا أخبرك بقول الله تعالى (من جاء بالحسنة) إلى قوله (تعلمون) قال: بلى، جعلت فداك. قال: الحسنة حبنا أهل البيت، والسيئة بغضنا. وحدثنا السيد أبو الحمد، قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم، قال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الحميري، قال: حدثنا جدي أحمد بن إسحاق الحميري، قال: حدثنا جعفر بن سهل، قال: حدثنا أبو زرعة عثمان بن عبد الله القرشي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ! لو أن أمتي صاموا حتى صاروا كالأوتاد، وصلوا حتى صاروا كالحنايا، ثم أبغضوك، لأكبهم الله على مناخرهم في النار. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قل لهم: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) يعني مكة، عن ابن عباس. وقال أبو العالية: هي منى. (الذي حرمها) أي: جعلها حرما آمنا يحرم فيها ما يحل في غيرها، لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا
[ 411 ]
يقتص فيها. (وله كل شئ) أي: وهو مالك كل شئ مما أحله وحرمه، فيحرم ما شاء، ويحل ما شاء. (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي: من المخلصين لله بالتوحيد (وأن أتلو القرآن) عليكم يا أهل مكة، وأدعوكم إلى ما فيه (فمن اهتدى) إلى الحق، والعمل بما فيه (فإنما يهتدي لنفسه) لأن ثواب ذلك وجزاءه، يصل إليه دون غيره. (ومن ضل) عنه، وحاد ولم يعمل بما فيه، ولم يهتد إلى الحق. (فقل) له يا محمد (إنما أنا من المنذرين) الذين يخوفون بعقاب الله من معاصيه، ويدعون إلى طاعته، ولا أقدر على إكراههم على الإيمان، والدين (وقل الحمد لله) اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته (سيريكم آياته) يوم القيامة (فتعرفونها) وتعرفون أنها على ما أخبرتم بها في الدنيا، عن الحسن. وقيل: معنى آياته هي العذاب في الدنيا، والقتل ببدر، فتعرفونها أي: تشاهدونها، ورأوا ذلك. ثم عجلهم الله إلى النار، عن مقاتل (وما ربك بغافل عما تعملون) بل هو عالم بجميع ذلك، فيجازيكم عليها. وإنما يؤخر عقابكم إلى وقت تقتضيه الحكمة. النظم: وجه اتصال قوله (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) بما قبله: أنه سبحانه لما بين أن الأمن من أهوال القيامة للمؤمن المحسن، فكأن قائلا قال: وما الحسنة ؟ وكيف العبادة ؟ فقال: إنما أمرت.
[ 412 ]
28 - سورة القصص مكية وآياتها ثمان وثمانون عدد ايها: وهي ثمان وثمانون آية. اختلافها: آيتان: (طسم) كوفي، (يسقون) غير الكوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ومن قرأ طسم القصص، أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بموسى، وكذب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض، إلا شهد له يوم القيامة، أنه كان صادقا ان كل شئ هالك إلا وجهه ". تفسيرها: لما أمر سبحانه في خاتمة تلك السورة، بتلاوة القرآن، بين في هذه السورة أن القرآن من طسم، وأنه يتلو عليهم من نبأ موسى وفرعون، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم * (طسم [ 1 ] تلك آيات الكتاب المبين [ 2 ] نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون [ 3 ] إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين [ 4 ] ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [ 5 ] ونمكن لهم في الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ 6 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (ويرى فرعون) بالياء، وما بعده
[ 413 ]
بالرفع. وقرأ الباقون: (ونري) بالنون وضمه وكسر الراء ونصب الياء، وما بعده بالنصب. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ بالنون أن ما قبله للمتكلم فينبغي أن يكون ما بعده أيضا كذلك، ليكون الكلام من وجه واحد. وحجة من قرأ بالياء أن فرعون وجنوده أروه ذلك، والمعلوم أنهم يرونه إذا رأوه، وهو قراءة الأعمش. اللغة: النبأ: الخبر عما هو عظيم الشأن. والشيع: الفرق، وكل فرقة شيعة. وسموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا. والعرب تقول: شاعكم السلام أي: تبعكم. وشيعه: اتبعه. والتمكين: تكميل ما يتم به الفعل. الاعراب: قوله (بالحق): في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: تلاوة كائنة بالحق. ويجوز أن يكون (الحق) صفة محذوف تقديره. بالأمر الحق. والجار والمجرور يتعلق بنتلو. و (يستضعف): في موضع نصب على الحال. و (يذبح): حال بعد حال. ويجوز أن يكون حالا عن الحال. المعنى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين) أي: المبين الرشد من الغي، عن قتادة. وقيل: هو البين الظاهر. والآية مفسرة فيما مضى. (نتلو عليك) يا محمد (من نبأ موسى وفرعون) أي: طرفا من أخبارهما (بالحق) أي: بالصدق والحقيقة، لا ريب فيه (لقوم يؤمنون) أي: يصدقون بالله، وبما أنزله إليك (إن فرعون علا في الأرض) أي: بغى وتجبر، وتعظم واستكبر، في أرض مصر. يقال: علا علوا: إذا تجبر، ومنه قوله: (لا يريدون علوا في الأرض). (وجعل أهلها شيعا) أي: فرقا. قال قتادة: فرق بين بني إسرائيل والقبط، والمعنى: يكرم قوما، ويذل آخرين بالإستعباد، والإستعمال في الأعمال الشاقة. وقيل: معناه جعل بني إسرائيل أصنافا في الخدمة والتسخير. (يستضعف طائفة منهم) يعني من بني إسرائيل. ثم فسر ذلك فقال: (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) يقتل الأبناء، ويستبقي البنات فلا يقتلن، وذلك أن بعض الكهنة قال له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل، يكون سبب ذهاب ملكك. وقال السدي: رأى فرعون في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس، حتى اشتملت على
[ 414 ]
بيوت مصر، فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل. فسأل علماء قومه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده. (إنه كان من المفسدين) بالقتل، والعمل بالمعاصي. (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) المعنى: إن فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل، وإفناءهم. ونحن نريد أن نمن عليهم. (ونجعلهم أئمة) أي: قادة ورؤساء في الخير يقتدى بهم، عن ابن عباس. وقيل: نجعلهم ولاة وملوكا، عن قتادة. وهذا القول مثل الأول، لأن الذين جعلهم الله ملوكا، فهم أئمة، ولا يضاف إلى الله سبحانه ملك من يملك الناس عدوانا وظلما. وقد قال سبحانه: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) والملك من الله تعالى هو الذي يجب أن يطاع. فالأئمة على هذا ملوك مقدمون في الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم. (ونجعلهم الوارثين) لديار فرعون وقومه، وأموالهم. وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها (1). وتلا عقيب ذلك: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) الآية وروى العياشي بالإسناد عن أبي الصباح الكناني، قال: نظر أبو جعفر عليه السلام إلى عبد الله عليه السلام، فقال: هذا والله من الذين قال الله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) الآية. وقال سيد العابدين، علي بن الحسين عليه السلام: والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، إن الأبرار منا أهل البيت، وشيعتهم، بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وأشياعهم، بمنزلة فرعون وأشياعه. (ونمكن لهم في الأرض) أي: ونريد أن نمكن لبني إسرائيل في أرض مصر. والتمكين: هو فعل جميع ما لا يصح الفعل إلا معه، مع القدرة، والآلة، واللطف، وغير ذلك. وقال علي بن عيسى: اللطف لا يدخل في التمكين، لأنه لو دخل فيه، لكان من لا لطف له لم يكن ممكنا، ولكنه من باب إزاحة العلة. (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم) أي: من بني إسرائيل (ما كانوا يحذرون) من ذهاب الملك على يد رجل منهم. قال الضحاك: عاش فرعون أربعمائة سنة، وكان قصيرا (1) شمس الفرس شماسا: كان لا يمكن أحدا من ظهره، ولا من الإسراج، ولا الإلجام، ولا يكاد يستقر. والضروس: الناقة السيئة الخلق تعض حالبيها (*).
[ 415 ]
دميما، وهو أول من خضب بالسواد، وعاش موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة. * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ 7 ] فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنود هما كانوا خاطئين [ 8 ] وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون [ 9 ] وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 10 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (وحزنا) بضم الحاء، وسكون الزاي. والباقون: (حزنا) بفتحها. وفي الشواذ قراءة الحسن وفضالة بن عبد الله: (فؤاد أم موسى فزعا). وقراءة ابن عباس (قرعا) بالقاف والراء. وحكى قطرب عن بعضهم: (فرغا). الحجة: الحزن والحزن: لغتان مثل البخل والبخل، والعرب والعرب، والعجم والعجم. وأما قوله (فزعا) بالفاء والزاي، فمعناه: قلقا يكاد يخرج من غلافه. وأما (قرعا) فمعناه: يرجع إلى معنى فارغ، لأن رأس الأقرع يكون خاليا من الشعر. وأما (فرغا) فمعناه: هدرا وباطلا. قال: فإن تك أذواد أصبن، ونسوة * فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال (1) وقوله (فارغا) معناه: خاليا من الحزن لعلمها أنه لا يغرق. (1) قائله طليحة بن خويلد الأسدي. والأذواد جمع ذود: ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل). وحبال: اسم رجل، وهو ابن أخي طليحة بن خويلد - قائل البيت - (وقال ابن هشام في السيرة ج 1: 638 وكذا الميداني في مجمع الأمثال ج 2: 171 هو ابنه) قتله عكاشة بن محصن الأسدي. فلما أطلع على قتله طليحة، خرج في أثر عكاشة حتى أدركه فقتله. ثم قال في ذلك أبياتا. وهذا البيت أحدها. يقول: إن صار دم الإبل والنسوة هدرا، فلن يصير دم حبال هدرا (*).
[ 416 ]
الاعراب: مفعول (خفت) محذوف، تقديره: خفت عليه أحدا (قرة عين لي ولك): خبر مبتدأ محذوف أي: هو قرة عين. قال الزجاج: ويجوز على بعد أن يكون (قرة عين) مبتدأ، ويكون خبره (لا تقتلوه). (وهم لا يشعرون): في موضع نصب على الحال، والعامك فيه ما يدل على هذه القصة، وتقديره: قالوا ما قالوه غير شاعرين. المعنى: ثم بين سبحانه كيف دبر في إهلاك فرعون وقومه، منبها بذلك على كمال قدرته وحكمته، فقال: (وأوحينا إلى أم موسى) أي: ألهمناها وقذفنا في قلبها، وليس بوحي نبوة، عن قتادة وغيره. وقيل: أتاها جبرائيل عليه السلام بذلك، عن مقاتل. وقيل: كان هذا الوحي رؤيا منام عبر عنها من يثق به من علماء بني إسرائيل، عن الجبائي. (أن أرضعيه) ما لم تخافي عليه الطلب. (فإذا خفت عليه) في القتل الذي أمر به فرعون في أبناء بني إسرائيل (فألقيه في اليم) أي: في البحر، وهو النيل (ولا تخافي) عليه الضيعة (ولا تحزني) من فراقه (إنا رادوه إليك) سالما عن قريب (وجاعلوه من المرسلين) والأنبياء. وفي هذه الآية أمران ونهيان، وخبران وبشارتان. وحكي أن بعضهم سمع بدوية تنشد أبياتا فقال لها: ما أفصحك ! فقالت: الفصاحة لله تعالى، وذكرت هذه الآية وما فيها. قال وهب بن منبه: لما حملت أم موسى بموسى، كتمت أمرها عن جميع الناس، فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله، وذلك شئ ستره الله تعالى، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل. فلما كانت السنة التي يولد فيها موسى، بعث فرعون القوابل، وتقدم إليهن أن يفتشن النساء تفتيشا لم يفتشنه قبل ذلك. رحلت أم موسى بموسى، فلم ينت (1) بطنها، ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، فكانت القوابل لا يعرضن لها. فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسى، ولدته أمه ولا رقيب عليها، ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد، إلا اخته مريم. فأوحى الله تعالى إليها (أن أرضعيه) الآية. قال: فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها، لا يبكي، ولا يتحرك. فلما خافت عليه، عملت له تابوتا مطبقا، ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلا، كما أمرها الله تعالى. (1) نتا ينتو الشئ، ارتفع. ورد في بعض النسخ: " فلم ينتأ " بالهمزة، ومعناهما واحد (*).
[ 417 ]
قال ابن عباس: لما قربت ولادة أم موسى، وكانت قابلة من النساء اللاتي وكلهن فرعون بحبالي بني إسرائيل، مصافية لأم موسى. فلما ضربها الطلق، أرسلت إليها، فجاءت فعالجتها. فلما ولد موسى، رأت نورا بين عينيه، فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى في قلبها. ثم قالت: يا هذه ! ما جئت إليك إلا ومن ورائي قتل مولودك، ولكن وجدت لابنك هذا حبا وما وجدت حب شئ مثل حبه، فاحفظي ابنك، فإني أراه هو عدونا. فلما خرجت من عندها القابلة، بصرتها العيون، فجاؤوا ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه ! هذا الحرس بالباب. فلفت موسى في خرقة، فوضعته في تنور مسجور، فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن، فخرجوا من عندها. وانطلقت إلى الصبي، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. قال: ثم لما رأت إلحاح فرعون في الطلب، خافت على ابنها، فانطلقت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا. فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت ؟ قالت: إن لي إبنا أخبأه في التابوت، وكرهت الكذب. فلما اشترت التابوت، وحملته، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلم يطق الكلام، فرجع وأخذ في النجر، فانطلق لسانه. فرجع ثانيا، فلما انتهى إليهم، اعتقل لسانه، هكذا ثلاث مرات، فعلم أن ذلك أمر إلهي. (فالتقطه آل فرعون) أي: أصابوه، وأخذوه من غير طلب (ليكون لهم عدوا وحزنا) أي: ليكون لهم في عاقبة أمره كذلك، لا إنهم أخذوه لهذا، كما يقال لمن كسب مالا فأداه ذلك إلى الحتف والهلاك: إنما كسب فلان لحتفه، وهو لم يطلب المال للحتف. (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي: عاصين ربهم في أفعالهم. وكانت القصة في ذلك: أن النيل جاء بالتابوت إلى موضع فيه فرعون وامرأته على شط النيل، فأمر فرعون فأتي به، وفتحت آسية بنت مزاحم بابه، فلما نظرت إليه، ألقى الله في قلبها محبة موسى، وكانت آسية بنت مزاحم امرأة من بني إسرائيل، استنكحها فرعون، وهي من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء. وكانت أما للمؤمنين، ترحمهم، وتتصدق عليهم، ويدخلون عليها. فلما نظر فرعون إلى موسى، غاظه ذلك، وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ؟ قالت آسية وهي قاعدة
[ 418 ]
إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة، وإنك أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة، فدعه يكن قرة عين لي ولك. وذلك قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) وإنما قالت ذلك، لأنه لم يكن له ولد. فأطمعته في ولد. قال ابن عباس: إن أصحاب فرعون لما علموا بموسى، جاؤوا ليقتلوه، فمنعتهم وقالت لفرعون: قرة عين لي ولك لا تقتلوه. قال فرعون: قرة عين لك، وأما لي فلا. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (والذي يحلف به، لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين، كما أقرت امرأته، لهداه الله به، كما هداها، ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه). (وهم لا يشعرون) أي: لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. وقيل: لا يشعرون أن هذا هو المطلوب الذي يطلبونه (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) أي: خاليا من كل شئ، إلا من ذكر موسى. أي: صار فارغا له، عن ابن عباس وقتادة والضحاك. وقيل. فارغا من الحزن، لعلمها أن ابنها ناج، سكونا إلى ما وعدها الله تعالى به. وقيل: فارغا من الوحي الذي أوحي إليها بنسيانها، فإنها نسيت ما وعدها الله تعالى به، عن الحسن وابن زيد. (إن كادت لتبدي به) معناه: إنها كادت تبدي بذكر موسى، فتقول: يا إبناه ! من شدة الغم والوجد، عن ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل: معناه كادت تصيح على ابنها شفقة عليه من الغرق، عن مقاتل. وقيل: معناه همت بأن تقول إنها امه، لما رأته عند دعاء فرعون إياها للإرضاع، لشدة سرورها به، عن جعفر بن حرب. وقيل: معناه أنها كادت تبدي بالوحي. (لولا أن ربطنا على قلبها) بالصبر واليقين. والربط على القلب إلهام الصبر وتقويته، عن الزجاج. وقيل: معناه لولا أن قوينا قلبها بالعصمة والوحي. وجواب لولا محذوف، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لأظهرته. (لتكون من المؤمنين) أي: فعلنا ذلك لتكون من جملة المصدقين بوعدنا، الواثقين بوحينا، وقولنا: (إنا رادوه إليك). * (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون [ 11 ] وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه
[ 419 ]
لكم وهم له ناصحون [ 12 ] فرددنه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 13 ] ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين [ 14 ] ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين [ 15 ]) *. اللغة: القص: اتباع الأثر، ومنه القصص في الحديث، لأنه يتبع فيه الثاني الأول. والقصاص: اتباع الجاني في الأخذ بمثل جنايته في النفس. فبصر به: رآه. فبصر لا يتعدى إلا بحرف الجر. ورأى يتعدى بنفسه. ومعنى بصرت به عن جنب: أبصرته عن جنابة، أي: عن بعد. قال الأعشى: أتيت حريثا زائرا عن جنابة، * وكان حريث عن عطائي جامدا وقيل: جنب صفة وقعت موقع الموصوف أي: عن مكان جنب. والمراضع: جمع مرضعة. والنصح: إخلاص العمل من جانب الفساد، وهو نقيض الغش. والوكز: الدفع. وقيل: هو بجمع الكف، ومثله: اللكز واللهز. الاعراب: (عن جنب): الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وتقديره: فبصرت به بعيدة. وإن جعلت (جنبا) صفة على تقدير من مكان جنب: فهو في موضع نصب بأنه ظرف مكان. (هذا من شيعته، وهذا من عدوه): جملتان في محل النصب، لأنهما صفة: (رجلين)، صفة بعد صفة. المعنى: ثم ذكر سبحانه لطف صنعه في تسخيره لفرعون، حتى تولى تربية موسى، فقال: (وقالت) يعني أم موسى (لأخته) يعني أخت موسى، واسمها كلثمة، عن الضحاك. (قصيه) أي: اتبعي أثره، وتعرفي خبره. (فبصرت به عن جنب) في الكلام حذف واقتصار تقديره: فذهبت أخت موسى، فوجدت آل فرعون قد أخرجوا التابوت، وأخرجوا موسى، فبصرت به. وهذا من الإيجاز الدال على الإعجاز باللفظ القليل المعنى على المعنى الكثير أي: فرأت أخاها موسى عن جنب
[ 420 ]
أي: عن بعد، عن مجاهد. وقيل: عن جانب تنظر إليه كأنها لا تريده، عن قتادة. وتقديره: عن مكان جنب. (وهم لا يشعرون) أي: وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته، عن قتادة. وقيل: معناه وهم لا يشعرون أنها جاءت متعرفة عن خبره. ويمكن أن يكون سبحانه كرر هذا القول، تنبيها على أن فرعون لو كان إلها لكان يشعر بهذه الأمور (وحرمنا عليه المراضع) المعنى أنه لا يؤتى بمرضع فيقبلها، وتأويله: منعناهن منه، وبغضناهن إليه، عن ابن عباس. وقيل: هو جمع مرضع، بمعنى الرضاع أي: منعناه من الرضاع. فهذا تحريم منع، لا إن هناك نهيا عن الفعل، ومثله قول امرئ القيس: جالت لتصرعني، فقلت لها: اقصري، * إني امرؤ صرعي عليك حرام (1) أي: صرعي ممتنع عليك، فإني فارس أمنعك من ذلك. ويقال: فلان حرم على نفسه كذا أي: امتنع منه كما يمتنع بالنهي (من قبل) أي: من قبل مجئ أخته. وقيل: من قبل رده على أمه. (فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم) وهذا يدل على أن الله تعالى ألقى محبته في قلب فرعون، فلشدة محبته، وغاية شفقته عليه، طلب له المراضع. وكان موسى لا يقبل ثدي واحدة منهن، بعد أن أتته مرضع بعد مرضع. فلما رأت أخته وجدهم به، وحبهم له، ورقتهم عليه، قالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يقبلون هذا الولد، ويبذلون النصح في أمره، ويحسنون تربيته، ويضمنون لكم القيام بأمره. (وهم له ناصحون) يشفقون عليه وينصحونه. وقيل: إنه لما قالت أخته ذلك، قال هامان: إن هذه المرأة تعرف أن هذا الولد من أي أهل بيت هو. فقالت هي: إنما عنيت أنهم ناصحون للملك. فأمسكوا عنها. (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) يعني عين أمه. وانطلقت أخت موسى إلى امها، فجاءت بها إليهم. فلما وجد موسى ريح أمه قبل ثديها، وسكن بكاؤه. وقيل: إن فرعون قال لأمه: كيف ارتضع منك، ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أكاد أؤتى بصبي إلا ارتضع مني. فسر (1) الضمائر ترجع إلى الناقة المذكورة في الأبيات السابقة على هذا البيت (*).
[ 421 ]
فرعون بذلك. (ولتعلم أن وعد الله حق) أراد به ما وعدها الله به في الآية المتقدمة لقوله: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تحقيق ذلك الوعد كما علمت. (ولما بلغ أشده) أي: ثلاثا وثلاثين سنة (واستوى) أي: بلغ أربعين سنة، عن مجاهد وقتادة وابن عباس. (آتيناه حكما وعلما) أي: فقها وعلما وعقلا بدينه ودين آبائه، فعلم موسى وحكم، قبل أن يبعث نبيا. وقيل: نبوة وعلما، عن السدي. (وكذلك نجزي المحسنين) وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف (ودخل المدينة) يريد مصر. وقيل: مدينة منف من أرض مصر. وقيل: على فرسخين من أرض مصر (على حين غفلة من أهلها) أراد به نصف النهار، والناس قائلون، عن سعيد بن جبير. وقيل: ما بين المغرب والعشاء الآخرة، عن ابن عباس. وقيل: كان يوم عيد لهم، وقد اشتغلوا بلعبهم، عن الحسن. وقيل: اختلفوا في سبب دخوله المدينة في هذا الوقت على أقوال أحدها: إنه كان موسى حين كبر، يركب في مواكب فرعون. فلما جاء ذات يوم. قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره. فلما كان وقت القائلة، دخل المدينة ليقيل، عن السدي والثاني: إن بني إسرائيل، كانوا يجتمعون إلى موسى، ويسمعون كلامه. ولما بلغ أشده، خالف قوم فرعون، فاشتهر ذلك منه، وأخافوه. فكان لا يدخل مصر إلا خائفا، فدخلها على حين غفلة، عن ابن إسحاق. والثالث: إن فرعون أمر بإخراجه من البلد، فلم يدخل إلا الآن، عن ابن زيد. (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي: يختصمان في الدين، عن الجبائي. وقيل: في أمر الدنيا (هذا من شيعته وهذا من عدوه) أي: أحدهما إسرائيلي، والآخر قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون. وقيل: كان أحدهما مسلما، والآخر كافرا، عن محمد بن إسحاق. (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) أي: استنصره لينصره عليه. وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليهنكم الإسم. قال، قلت: وما الإسم ؟ قال: الشيعة. قال: أما سمعت الله سبحانه يقول: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه).
[ 422 ]
(فوكزه موسى) أي: دفع في صدره بجمع كفه، عن مجاهد. وقيل: ضربه بعصاه، عن قتادة. (فقضى عليه) أي: فقتله، وفرغ من أمره. (قال هذا من عمل الشيطان) أي: بسببه حتى هيج غضبي فضربته، فهو من إغرائه. قال الحسن: لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ، لأن الحال كانت حال الكف عن القتال. وقيل: معناه أن الأمر الذي وقع القتل بسببه، من عمل الشيطان أي: حصل بوسوسة الشيطان. وذكر المرتضى، قدس الله روحه، فيه وجهين آخرين أحدهما: إنه أراد أن تزيين قتلي له، وتركي لما ندبت إليه، من تأخيره، وتفويتي ما أستحقه عليه من الثواب، من عمل الشيطان والآخر: إنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان، يبين بذلك أنه مخالف لله تعالى، مستحق للقتل. ثم وصف الشيطان فقال: (إنه عدو) لبني آدم (مضل مبين) ظاهر العداوة والإضلال. سؤال: قالوا إن هذا القتل لا يخلو من أن يكون مستحقا، أو غير مستحق. فإن كان غير مستحق، فالأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم ذلك عندكم، لا قبل النبوة، ولا بعدها. وإن كان مستحقا، فلا معنى لندمه عليه، واستغفاره منه والجواب: إن القتل، إنما وقع على سبيل تخليص المؤمن من يد من أراد ظلمه، والبغي عليه، ودفع مكروهه عنه، ولم يكن مقصودا في نفسه. وكل ألم وقع على هذا الوجه، فهو حسن، غير قبيح، سواء كان القاتل مدافعا عن نفسه، أو عن غيره. وسنذكر الوجه في استغفاره منه، وندمه عليه. * (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ 16 ] قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ 17 ] فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين [ 18 ] فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ 19 ] وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين [ 20 ]) *.
[ 423 ]
اللغة: الترقب: الإنتظار. والإستصراخ. طلب الصراخ على العدو بما يردعه عن الإيقاع به. والائتمار: التشاور، والإرتياء. يقال: أئتمر القوم وارتاءوا بمعنى. قال امرؤ القيس: أخار ابن عمرو كأني خمر * ويعدو على المرء ما يأتمر (1) وقال النمر بن تولب: أرى الناس قد أحدثوا شيمة * وفي كل حادثة يؤتمر الاعراب: (بما أنعمت علي) الباء للقسم. ويجوز أن يكون (ما) حرفا موصولا، والمعنى: بإنعامك علي. ويجوز أن يكون اسما موصولا، والضمير العائد محذوفا، والتقدير: بالذي أنعمته علي. وجواب القسم (لن أكون). والفاء: لجواب القسم مقدر في الموصول بالجملة الفعلية. (أن أراد أن يبطش) أن الأولى زائدة، وأن الثانية مع صلتها: منصوبة الموضع، بأنها مفعولة أراد. (إني لك من الناصحين): لا يجوز أن تتعلق اللام في (لك) بالناصحين، لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول، وإنما تتعلق بمحذوف يفسره هذا الظاهر تقديره: إني من الناصحين لك. المعنى: ثم حكى سبحانه: أن موسى عليه السلام حين قتل القبطي، ندم على ذلك. و (قال رب إني ظلمت نفسي) في هذا القتل، فإنهم لو علموا بذلك لقتلوني. وقال المرتضى، قدس الله روحه العزيز: إنما قاله على سبيل الإنقطاع والرجوع إلى الله تعالى، والإعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب. (فاغفر لي) معناه قول آدم عليه السلام: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وقبول الإستغفار والتوبة، قد يسمى غفرانا (فغفر له أنه هو الغفور) لعباده (الرحيم) بهم المنعم عليهم. (قال) موسى: (رب بما أنعمت علي) أي: بنعمتك علي من المغفرة، وصرف بلاء الأعداء عني. (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) المعنى: فلك علي ألا أكون مظاهرا ومعينا (1) قوله حار مرخم حارث، ورجل خمر ككتف: خالطه داء. وقيل: رجل خمر أي في عقب خمار وهو بقية السكر (*).
[ 424 ]
للمشركين، عن ابن عباس. وفي هذا دلالة على أن مظاهرة المجرمين، جرم ومعصية، ومظاهرة المؤمنين طاعة. وإنما ظاهر موسى عليه السلام من كان ظاهره الإيمان، وخالف من كان ظاهره الكفر. وجاء في الأثر: أن رجلا قال لعطاء بن أبي رباح: إن فلانا يكتب لفلان، ولا يزيد على كتبه دخله وخرجه، فإن أخذ منه أجرا كان له غنى، وإن لم يأخذ اشتد فقره، وفقر عياله ! فقال عطاء: أما سمعت قول الرجل الصالح (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين). (فأصبح) موسى في اليوم الثاني (في المدينة خائفا) من قبل القبطي (يترقب) أي: ينتظر الأخبار في قتل القبطي، عن ابن عباس. يعني أنه خاف من فرعون وقومه، أن يكونوا عرفوا أنه هو الذي قتل القبطي، فكان يتجسس، وينتظر الأخبار في شأنه (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) معناه: إن الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس، ووكز القبطي من أجله، يستصرخ موسى، ويستعين به على رجل آخر من القبط، خاصمه. قال ابن عباس: لما فشا أمر قتل القبطي، قيل لفرعون: إن بني إسرائيل قتلت منا رجلا. قال: أتعرفون قاتله، ومن يشهد عليه ؟ قالوا: لا. فأمرهم بطلبه. فبينا هم يطوفون إذ مر موسى من الغد، وأتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته، ويستغيث به. (قال له موسى إنك لغوي مبين) أي: ظاهر الغواية حيث قاتلت بالأمس رجلا، وتقاتل اليوم الآخر. ولم يرد الغواية في الدين. والمراد أن من خاصم آل فرعون مع كثرتهم، فإنه غوي أي: خائب فيما يطلبه، عادل عن الصواب، فيما يقصده. (فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) معناه: فلما أخذته الرقة على الإسرائيلي، وأراد أن يدفع القبطي الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي عنه، ويبطش به أي: يأخذه بشدة، ظن الإسرائيلي أن موسى قصده لما قال له: (إنك لغوي مبين) فقال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، عن ابن عباس، وأكثر المفسرين. وقال الحسن: هو من قول القبطي، لأنه قد اشتهر أمر القتل بالأمس، وأنه قتله بعض بني إسرائيل. (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) أي: ما تريد إلا أن تكون عاليا في الأرض بالقتل والظلم. قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. (وما تريد أن تكون من المصلحين) ولما قال الإسرائيلي ذلك،
[ 425 ]
علم القبطي أن القاتل موسى. فانطلق إلى فرعون، وأخبر به. فأمر فرعون بقتل موسى، وبعث في طلبه. (وجاء رجل من أقصى المدينة) أي: آخرها. فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى (يسعى) أي: يسرع في المشي، فأخبره بذلك، وأنذره. وكان الرجل حزقيل مؤمن آل فرعون. وقيل: رجل إسمه شمعون. وقيل: سمعان. (قال يا موسى إن الملأ) أي: الأشراف من آل فرعون (يأتمرون بك) أي: يتشاورون فيك، عن أبي عبيدة. وقيل: يأمر بعضهم (ليقتلوك فاخرج) من أرض مصر (إني لك من الناصحين) في هذا يقال: نصحته ونصحت له. * (فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ 21 ] ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهديني سواء السبيل [ 22 ] ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير [ 23 ] فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [ 24 ] فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ 25 ]) *. القراءة: قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر: (حتى يصدر) بفتح الياء، وضم الدال. وقرأ الباقون: (يصدر) بضم الياء، وكسر الدال. الحجة: من قرأ (حتى يصدر الرعاء) فمعناه: حتى يرجعوا من سقيهم. وفي التنزيل: (يصدر الناس من أشتاتا ليروا). ومن قرأ (حتى يصدر) أراد: حتى يصدروا مواشيهم من وردهم، فحذف المفعول، كما قال الشاعر: لا يعدلن أتاويون تضربهم * نكباء صر بأصحاب المحلات (1) (1) الأتاويون: الغرباء. والصر: شدة البرد. والمحلات: القدر، والرحى، والدلو، والقربة، = (*)
[ 426 ]
أي: أحدا. اللغة: تلقاء الشئ: حذاؤه. ويقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي: من حذاء داعي نفسه. وسواء السبيل: وسط الطريق. قال الشاعر: " حتى أغيب في سواء الملحد " (1). وذاد شاته أو إبله عن الشئ يذودها ذودا أي: حبسها عنه بمنعه منه. قال سويد بن كراع: أبيت على باب القوافي، كأنما * أذود بها سربا من الوحش، نزعا (2) قال الغراء: ولا يقال ذدت في الناس، وإنما يقال في الإبل والغنم. وهذا ليس بشئ، يدل عليه قول الكميت، يصف بني هاشم (3): سادة ظك ذادة عن الخرد البي‍ * - ض، إذا اليوم كان كالأيام (4) والخطب: الأمر الذي فيه تفخيم، ومنه الخطبة والخطبة والخطاب، كل ذلك فيه معنى العظم. وما خطبكما أي: ما شأنكما. قال الراجز: " يا عجبا ما خطبه وخطبي ". والرعاء جمع راع، ويجمع على الرعيان والرعاة. الاعراب: (تلقاء) ظرف مكان. (لا نسقي) أي: لا نسقي الغنم الماء فحذف مفعولاه لدلالة الكلام عليه، وكذلك قوله: (فسقى لهما). واللام في قوله (لما أنزلت): يتعلق بفقير (تمشي): في موضع نصب على الحال من (جاءت). وقوله: (على استحياء): في موضع الحال أيضا من (تمشي) أي: تمشي مستحيية. ويجوز أن يكون حالا بعد حال. (قالت إن أبي يدعوك): الجملة يجوز أن يكون بدلا من قوله (فجاءته إحداهما). ويجوز أن تكون في موضع الحال = والجفنة، والسكين، والفأس، والزند. سمي بذلك لأن من كانت هذه معه، حل حيث شاء إلا فلا بد من أن يجاور الناس يستعير منهم بعضها أي: لا تعدل أتاويون إذا أصابهم الصر أحدا بأصحاب المحلات. (1) سواء الملحد، وسط القبر. (2) السرب: القطيع من الظباء، والبقر، والطير، وغيرها، ونزع أي: طالبة الفحل. (3) وقد ورد في حديث الحوض أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لبعقر حوضي أذود الناس عنه لأهل اليمن " وفي حديت آخر: " فليذادن رجال عن حوضي " وغير ذلك. ذكره الجزري في (النهاية) فراجع. وفي (زيارة الجامعة) أيضا: " السادة الولاة، والذادة الحماة ". (4) الخريد من النساء: البكر التي لم تمسس قط (*).
[ 427 ]
بإضمار قد، والعامل فيه: جاءت، أو تمشي. المعنى: ثم بين سبحانه خروج موسى من مصر إلى مدين، فقال: (فخرج منها) أي: من مدينة فرعون (خائفا) من أن يطلب فيقتل (يترقب) الطلب (قال رب نجني من القوم الظالمين) قال ابن عباس: خرج موسى متوجها نحو مدين، وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. قال: (رب نجني من فرعون وقومه). وقيل: إنه خرج بغير زاد، ولا ماء، ولا حذاء، ولا ظهر، وكان لا يأكل إلا من حشيش الصحراء، حتى بلغ ماء مدين. (ولما توجه تلقاء مدين) التوجه صرف الوجه إلى جهة من الجهات. وقوله: هذا المعنى يتوجه إلى كذا أي: هو كالطالب له يصرف وجهه إليه. قال الزجاج: معناه ولما سلك في الطريق الذي يلقى مدين فيها، وهي على مسيرة ثمانية أيام من مصر، نحو ما بين البصرة إلى الكوفة، ولم يكن له علم بالطريق. ولذلك (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي: يرشدني قصد السبيل إلى مدين. وقيل: سواء السبيل: وسطه المؤدي إلى النجاة، لأن الأخذ يمينا وشمالا يباعد عن طريق الصواب. وقيل: إنه لم يقصد موضعا بعينه، ولكنه أخذ في طريق مدين. وقال عكرمة: عرضت لموسى أربعة طرق، فلم يدر أيتها يسلك، ولذلك قال عند أستواء الطرق له: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل). فلما دعا ربه استجاب له، ودله على الطريق المستقيم إلى مدين. وقيل: جاء ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين. وقيل: إنه خرج حافيا، ولم يصر إلى مدين حتى وقع خف قدميه، عن سعيد بن جبير. (ولما ورد ماء مدين) وهو بئر كانت لهم (وجد عليه أمة من الناس يسقون) أي: جماعة من الرعاة يسقون مواشيهم الماء من البئر. (ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي: تحبسان وتمنعان غنمهما من الورود إلى الماء، عن السدي. وقيل: تذودان الناس عن مواشيهما، عن قتادة. وقيل: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، عن الحسن. فترك ذكر الغنم اختصارا. (قال) موسى لهما: (ما خطبكما) أي: ما شأنكما، وما لكما لا تسقيان مع الناس، عن ابن إسحاق (قالتا لا نسقي) عند المزاحمة مع الناس (حتى يصدر الرعاء) مر معناه أي: حتى ينصرف الناس، فإنا لا نطيق السقي، فننتظر فضول الماء، فإذا انصرف الناس سقينا مواشينا
[ 428 ]
من فضول الحوض، عن ابن عباس وقتادة. (وأبونا شيخ كبير) لا يقدر على أن يتولى السقي بنفسه من الكبر، ولذلك احتجنا، ونحن نساء، أن نسقي الغنم. وإنما قالتا ذلك تعريضا للطلب من موسى أن يعينهما على السقي. وقيل: إنما قالتا ذلك اعتذارا إلى موسى في الخروج بغير محرم. (فسقى لهما) معناه: فسقى موسى غنمهما الماء لأجلهما، وهو أنه زحم القوم عن الماء، حتى أخرجهم عنه، ثم سقى لهما، عن ابن إسحاق. وقيل: رفع لأجلهما حجرا عن بئر، كان لا يقدر على رفع ذلك الحجر عنها إلا عشرة رجال، وسألهم أن يعطوه دلوا، فناولوه دلوا، وقالوا له: إنزح إن أمكنك. وكان لا ينزحها إلا عشرة، فنزحها وحده، وسقى أغنامهما، ولم يستق إلا ذنوبا (1) واحدا، حتى رويت الغنم. (ثم تولى إلى الظل) أي: ثم انصرف إلى ظل سمرة، فجلس تحتها من شدة الحر، وهو جائع. (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) قال ابن عباس: سأل نبي الله فلق خبز يقيم به صلبه. وقال أمير المؤمنين، عليه أفضل الصلوات: والله ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض. لقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله، وتشذب لحمه. قال الأخفش: يقال فقير إليه، وفقير له. قال ابن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما، وسألهما، فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: علي به. فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه. فذلك قوله (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي: مستحيية معرضة على عادة النساء الخفرات. وقيل: إراد باستحيائها أنها غطت وجهها بكم درعها، عن عمر بن الخطاب. وقيل: هو بعدها من النداء، عن الحسن، قال: فوالله ما كانت ولاجة، ولا خراجة، ولكنها كانت من الخفرات اللاتي لا يحسن المشي بين أيدي الرجال، والكلام معهم. وقيل: أراد أنها كانت تمشي عادلة عن الطريق. (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) أي: ليكافئك على سقيك لغنمنا، وأكثر المفسرين على أن أباها شعيب عليه السلام. وقال وهب، وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن (1) الذنوب، الدلو التي لها ذنب (*).
[ 429 ]
أخي شعيب، وكان شعيب مات قبل ذلك بعد ما كف بصره، ودفن بين المقام وزمزم. وقيل: يثروب. وقيل: هو إسم شعيب، لأن شعيبا إسم عربي. قال أبو حازم: لما قالت: (ليجزيك أجر ما سقيت لنا)، كره ذلك موسى، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بدا من أن يتبعها، لأنه كان في أرض مسبعة، وخوف. فخرج معها، وكانت الريح تضرب ثوبها، فتصف لموسى عجزها. فجعل موسى يعرض عنها مرة، ويغض مرة، فناداها: يا أمة الله ! كوني خلفي، وأرني السمت بقولك. فلما دخل على شعيب، إذا هو بالعشاء مهيئا، فقال له شعيب: إجلس يا شاب فتعش. فقال له موسى: أعوذ بالله. قال شعيب: ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملك الأرض ذهبا. فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف، ونطعم الطعام. قال: فجعل موسى يأكل وذلك قوله: (فلما جاءه وقض عليه القصص) أي: فلما جاء موسى شعيبا، وقص عليه أمره أجمع، من قتل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. (قال) له شعيب (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) يعني فرعون وقومه، فلا سلطان له بأرضنا، ولسنا في مملكته. * (قالت إحداهما يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوى الأمين [ 26 ] قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين [ 27 ] قال ذلك بينى وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل [ 28 ] فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون [ 29 ] فلما
[ 430 ]
أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين [ 30 ]) *. القراءة: قرأ عاصم: (أو جذوة) بفتح الجيم. وقرأ حمزة، وخلف: (جذوة) بضم الجيم. والباقون: (جذوة) بالكسر. وفي الشواذ قراءة الحسن: (إلى الأجلين) بتخفيف الياء، وسكونها. الحجة: في الجذوة ثلاث لغات على حسب القراءات الثلاث. وأما (أيما) فهي لغة. قال الفرزدق: تنظرت نسرا، والسماكين، أيهما * علي من الغيث استهلت مواطره (1) اللغة: الجذوة: القطعة الغليظة من الحطب فيها النار، وجمعها جذى. قال: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها * جزل الجذى، غير خوار، ولا دعر (2) وشاطئ الوادي: جانبه، وهو الشط، والجمع الشواطئ. الاعراب: (هاتين): صفة لابنتي. (ثماني حجج): ظرف زمان. (ذلك بيني وبينك): ذلك مبتدأ وخبره (بيني وبينك) ومعناه: ما شرطت علي فلك، وما شرطت لي فلي، كذلك الأمر بيننا، عن الزجاج. و (أي) في معنى الجزاء، وهي منصوبة بقضيت. و (ما) مزيدة مؤكدة، وجوابه: (فلا عدوان علي). (أن موسى): أن في موضع نصب، وهي مخففة من الثقيلة، تقديره: نودي بأنه يا موسى، وبأنه (ألق عصاك). المعنى: ثم ذكر سبحانه أمر موسى في (مدين)، وانصرافه عنه، فقال. (قالت إحداهما) أي: إحدى ابنتيه، واسمها صفورة، وهي التي تزوج بها. واسم الأخرى ليا. وقيل: إن اسم الكبرى صفراء، واسم الصغرى صفيراء (يا أبت (1) النسر، والسماكان: أسماء لكواكب. وفي (جامع الشواهد): " نصرا " بالصاد. وقال في ترجمته: نصر بالنون والصاد والراء المهملتين كفلس: هو ابن سيار أمير خراسان. واستهل المطر: انصب بشدة. (2) الحواطب: الجواري يلتمسن الحطب، والجزل: الحطب اليابس. وقيل: الغليظ. والخوار من كل شئ: الضعيف الذي لا بقاء له. وعود دعر بالدال المهملة: أي: كثير الدخان (*).
[ 431 ]
استأجره) أي: اتخذه أجيرا (إن خير من استأجرت القوي الأمين) أي: خير من استعملت من قوي على العمل، وأداء الأمانة. قال عمر بن الخطاب: لما قالت المرأة هذا، قال شعيب: وما علمك بأمانته وقوته ؟ قالت: أما قوته فلأنه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا وكذا. وأما أمانته: فإنه قال لي: إمشي خلفي، فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي عجزك. وقيل: القوي في نزعه الحجر من البئر، وكان لا يستطيعه إلا النفر. الأمين في غض طرفه عنهما، حين سقى لهما، فصدرتا، وقد عرفتا قوته وأمانته. فلما ذكرت المرأة من حاله ما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه. (قال إني أريد أن أنكحك) أي: أزوجك (إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) أي: على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين (فإن أتممت عشرا فمن عندك) أي: ذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك. وقيل: معناه على أن تجعل جزائي وثوابي إياك، على أن أنكحك إحدى ابنتي، أن تعمل لي ثماني سنين. فزوجه ابنته بمهر، واستأجره للرعي، ولم يجعل ذلك مهرا، وإنما شرط ذلك عليه. وهذا على وفق مذهب أبي حنيفة، والأول أصح وأوفق لظاهر الآية. (وما أريد أن أشق عليك) في هذه الثمانية حجج، وأن أكلفك خدمة سوى رعي الغنم. وقيل: وما أشق عليك بأن آخذك بإتمام عشر سنين. (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) في حسن الصحبة، والوفاء بالعهد. وإنما علق الصلاح بمشيئة الله، لأن مراده إن شاء الله تبقيتي. فمن الجائز أن يخترمه الله، ولا يفعل الصلاح الديني الذي يريده. وحكى يحيى بن سلام أنه جعل لموسى كل سخلة توضع على خلاف شية أمها، فأوحى الله إلى موسى في المنام، أن ألق عصاك في الماء ففعل، فولدن كلهن على خلاف شيتهن. وقيل: إنه وعده أن يعطيه تلك السنة من نتاج غنمه كل أدرع (1)، وأنها نتجت كلها درعا. وروى الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل أيتها التي قالت: (إن أبي يدعوك). قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى ؟ قال: أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه ؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة، ويشترط لأبيها إجارة شهرين، (1) الأدرع من الخيل والشاة: ما اسود رأسه، وابيض سائر جسده (*).
[ 432 ]
أيجوز ذلك ؟ قال. إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف ؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي. (قال) موسى (ذلك بيني وبينك) أي: ذلك الذي وصفت وشرطت علي فلك وما شرطت لي، من تزويج إحداهما، فلي. وتم الكلام، ثم قال: (أيما الأجلين) من الثماني والعشر (قضيت) أي: أتممت وفرغت منه (فلا عدوان علي) أي: لا ظلم علي بأن أكلف أكثر منها، وأطالب بالزيادة عليهما (والله على ما نقول وكيل) أي: شهيد فيما بيني وبينك، عن ابن عباس. (فلما قضى موسى الأجل) أي: أوفاهما. روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: " أوفاهما وأبطأهما ". وبالإسناد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل: خيرهما وأبرهما. وإن سئلت: أي المرأتين تزوج ؟ فقل: الصغرى منهما، وهي التي جاءت، فقالت: (يا أبت استأجره). وقال وهب: تزوج الكبرى منهما. وفي الكلام حذف وإيجاز وهو: فلما قضى موسى الأجل، وتسلم زوجته، ثم توجه نحو الشام. (وسار بأهله آنر من جانب الطور نارا). وقيل: إنه لما زوجها منه، أمر الشيخ أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها، فأعطي العصا، وقد ذكرنا حديث العصا في سورة الأعراف. وقيل: خرج آدم بالعصا من الجنة، فأخذها جبرائيل بعد موت آدم عليه السلام، وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا، فدفعها إليه، عن عكرمة. وقيل: لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى، وكانت عصا الأنبياء عنده. وروى عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة، أتاه به جبرائيل عليه السلام، لما توجه تلقاء مدين. وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها شعيبا ملك في صورة رجل، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت وأخذت العصا، فأتته بها. فلما رآها الشيخ قال: لا أاتيه بغيرها. فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها، فكانت لا تقع في يدها إلا هي. فعلت ذلك مرارا، فأعطاها موسى. وقوله (وسار بأهله) قيل: إنه مكث بعد انقضاء الأجل عند صهره عشرا أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم استأذنه في العود إلى مصر، ليزور والديه
[ 433 ]
وأخاه. فأذن له، فسار بأهله، عن مجاهد. وقيل إنه لما قضى العشر، سار بأهله أي: بامرأته وبأولاد الغنم التي كانت له، وكانت قطيعا، فأخذ على غير الطريق، مخافة ملوك الشام، وامرأته في شهرها. فسار في البرية غير عارف بالطريق، فألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن، في ليلة مظلمة شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق، وضل الطريق، وتفرقت ماشيته، فأصابه المطر، فبقي لا يدري أين يتوجه. فبينا هو كذلك، آنس من جانب الطور نارا. وروى أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما قضى موسى الأجل، وسار بأهله نحو بيت المقدس، أخطأ الطريق ليلا، فرأى نارا (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا) وقد مر تفسيره (لعلي آتيكم منها بخبر) أي: بخبر من الطريق الذي أريد قصده، وهل أنا على صوبه أو منحرف عنه. وقيل: بخبر من النار هل هي لخبر نأنس به، أو لشر نحذره. (أو جذوة من النار) أي: قطعة من النار. وقيل: بأصل شجرة فيها نار (لعلكم تصطلون) أي: تستدفئون بها (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن) أي: نودي موسى من الجانب الأيمن للوادي (في البقعة المباركة) وهي البقعة التي قال الله تعالى فيها لموسى (إخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى). وإنما كانت مباركة، لأنها معدن الوحي والرسالة، وكلام الله تعالى. وقيل: مباركة لكثرة الأشجار والأثمار، والخير والنعم بها والأول أصح. (من الشجرة): إنما سمع موسى النداء والكلام من الشجرة، لأن الله تعالى فعل الكلام فيها، وجعل الشجرة محل الكلام، لأن الكلام عرض، يحتاج إلى محل. وعلم موسى بالمعجز أن ذلك كلامه تعالى، وهذه أعلى منازل الأنبياء، أعني: أن يسمعوا كلام الله من غير واسطة ومبلغ. وكان كلامه سبحانه: (أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين) أي: إن المكلم لك هو الله مالك العالمين، وخالق الخلائق أجمعين، تعالى وتقدس عن أن يحل في محل، أو يكون في مكان، لأنه ليس بعرض، ولا جسم. * (وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الأمنين [ 31 ] اسلك يدك في جيبك تخرج
[ 434 ]
بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 32 ] قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 33 ] وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون [ 34 ] قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 35 ]) *. القراءة: قرأ أهل الحجاز والبصرة من الرهب بفتح الراء والهاء وقرأ حفص من الرهب بفتح الراء وسكون الهاء والباقون بضم الراء وسكون الهاء وقرأ أهل البصرة وابن كثير فذانك بالتشديد والباقون بالتخفيف وقرأ أبو جعفر ونافع ردا بغير همزة والباقون بالهمزة وقرأ عاصم وحمزة يصدقني بالرفع والباقون يصدقني بالجزم وفي الشواذ قراءة الحسن عضدك. الحجة: الرهب والرهب لغتان مثل الرشد والرشد والرهب والرهب مثل الشمع والشمع والنهر والنهر وقوله (فذانك) قد مضى القول فيه فيما تقدم وقال الزجاج التشديد تثنية ذلك والتخفيف تثنية ذاك وجعل بدل اللام في ذلك تشديد النون ومن قرأ ردا فإنه خفف الهمزة وذلك حكم الهمزة إذا خففتها وكان قبلها ساكن أن تحذف وتلقى حركتها على الساكن قبلها ومن قرأ يصدقني بالرفع جعله صفة للنكرة وتقديره ردءا مصدقا ومن قرأ بالجزم كان على معنى الجزاء أي إن أرسلته يصدقني وفي عضد خمس لغات عضد وعضد وعضد وعضد وعضد وأفصحها عضد مثل رجل. الاعراب: قوله إلى فرعون يتعلق بما يتعلق به من من قوله (برهانان من ربك) ويجوز أن يتعلق بمحذوف كما تقدم ذكره في قوله في تسع آيات. إلى فرعون وهارون عطف بيان. ردءا نصب على الحال والباء في قوله بآياتنا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يتعلق بيصلون والثاني: أن يتعلق بنجعل والثالث: أن يتعلق بقوله (الغالبون). المعنى: ثم بين سبحانه تمام قصة موسى عليه السلام فقال (وأن ألق عصاك) إنما أعاد سبحانه هذه القصة وكررها في السور تقريرا للحجة على أهل الكتاب واستمالة
[ 435 ]
بهم إلى الحق ومن أحب شيئا أحب ذكره والقوم كانوا يدعون محبة موسى وكل من ادعى اتباع سيده مال إلى من ذكره بالفضل على أن كل موضع من مواضع التكرار لا تخلو من زيادة فائدة وههنا حذف تقديره فألقاها من يده فانقلبت بإذن الله تعالى ثعبانا عظيما تهتز كأنها جان في سرعة حركتها وشدة اهتزازها (فلما رآها تهتز) أي تتحرك (كأنها جان ولى مدبرا) موسى (ولم يعقب) أي لم يرجع إلى ذلك الموضع فنودي (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) من ضررها وفي انقلاب العصا حية دلالة على أن الجواهر متماثلة وأنها من جنس واحد لأنه لا حال أبعد إلى حال الحيوان من حال الخشب وما جرى مجرى ذلك من الجماد فإذا صح قلب الخشب إلى حال الحيوان صح أيضا قلب الأبيض إلى حال الأسود (اسلك يدك في جيبك) أي: أدخلها فيه (تخرج بيضاء من غير سوء) أي: من غير برص. (واضمم إليك جناحك من الرهب) أي: ضم يدك إلى صدرك من الخوف، فلا خوف عليك، عن ابن عباس، ومجاهد. والمعنى: إن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره، فيذهب ما أصابه من الخوف عند معاينة الحية. وقيل: أمره سبحانه بالعزم على ما أراده منه، وحثه على الجد فيه، لئلا يمنعه الخوف الذي يغشاه في بعض الأحوال، مما أمره بالمضي فيه. وليس يريد بقوله (إضمم يدك) الضم المزيل للفرجة بين الشيئين. عن أبي علي الفارسي، قال: وهذا كما أن اشدد في قوله: " أشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا " ليس يراد به الشد الذي هو الربط، والمراد به: تأهب للموت، واستعد للقائه، حتى لا تهاب لقاه، ولا تجزع من وقوعه. وقد جاء ذكر اليدين في مواضع يراد بهما جملة ذي اليد، فمن ذلك قولهم: " لبيك والخير بين يديك " ومنه قوله تعالى: (بما قدمت يداك). وفي المثل: " يداك أوكتا وفوك نفخ) (1). وإنما يقال هذا عند تفريغ الجملة. وقال أبو عبيدة: جناحا الرجل يداه. وقال غيره: الجناح هنا العضد، ويدل على قوله إن العضد قد تقام مقام الجملة في مثل قوله: (سنشد عضدك بأخيك). وقد جاء المفرد ويراد به التثنية، قال: يداك يد إحداهما الجود كله * وراحتك الأخرى طعان تغامره (1) أوكى القربة: شدها بالوكاء (*).
[ 436 ]
المعنى يداك يدان بدلالة قوله " إحداهما ". فعلى هذا يجوز أن يراد بالإفراد في قوله (واضمم إليك جناحك) التثنية. وقيل: إنه لما ألقى العصا، وصارت حية، بسط يديه كالمتقي وهما جناحاه. فقيل له: اضمم إليك جناحك أي: ما بسطته من يديك. والمعنى: لا تبسط يديك خوف الحية، فإنك آمن من ضررها. ويجوز أن يكون معناه: اسكن ولا تخف، فإن من هاله أمر أزعجه حتى كأنه يطيره، وآلة الطيران الجناح. فكأنه عليه السلام قد بلغ نهاية الخوف، فقيل له: ضم منشور جناحك من الخوف، وأسكن. وقيل: معناه إذا هالك أمر يدك، لما تبصر من شعاعها، فاضممها إليك لتسكن. (فذانك برهانان من ربك) معناه: فاليد والعصا حجتان من ربك على نبوتك. (إلى فرعون وملئه) أي: أرسلناك إلى فرعون وملئه، بهاتين الآيتين الباهرتين. (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي: خارجين من طاعة الله إلى أعظم المعاصي، وهو الكفر. (قال) موسى (رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني) بتلك النفس (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) وإنما قال ذلك لعقدة كانت في لسانه، وقد مر فيما مضى ذكر سببها، وقد كان الله تعالى أزال أكثرها، أو جميعها بدعائه. (فأرسله معي ردءا) أي: معينا لي على تبليغ رسالتك. يقال: فلان ردء لفلان: إذا كان ينصره، ويشد ظهره. (يصدقني إني أخاف أن يكذبوني) أي: مصدقا لي على ما أؤديه من الرسالة. وإن جزمته فالمعنى: إنك إن ترسله معي يصدقني. وإنما كان سؤاله ذلك بعد أن أذن له فيه، لأن الإنسان لا يعلم أن المصلحة في إرسال نبي واحد، أو اثنين، إلا بالوحي. وقال مقاتل: معناه لكي يصدقني فرعون. (قال سنشد عضدك بأخيك) هذه استعارة رابعة، والمعنى سنجعله رسولا معك، ونؤيدك بأن نقرنه إليك في النبوة، وننصرك به. (ونجعل لكما سلطانا) أي: حجة وقوة وبرهانا. (فلا يصلون إليكما بآياتنا) أي: لا يصل فرعون وقومه إلى الإضرار بكما، بسبب ما نعطيكما من الآيات، وما يجري على أيديكما من المعجزات، فيخافكما فرعون وقومه لأجلها. وقيل: إن قوله (بآياتنا): موضعه التقديم أي: ونجعل لكما سلطانا بآياتنا، فلا يصلون إليكما. ثم أخبر أن الغلبة لهما عليهم فقال: (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) على
[ 437 ]
فرعون وقومه، القاهرون لهم، وهذه الغلبة غير السلطان، فإن السلطان بالحجة، والغلبة بالقهر، حين هلك فرعون وقومه، وملك موسى وقومه ديارهم. وروي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل قال: فلما رجع موسى عليه السلام إلى امرأته، قالت: من أين جئت ؟ قال. من عند رب تلك النار. قال: فغدا إلى فرعون، فو الله لكأني أنظر إليه طويل الباع، ذو شعر أدم، عليه جبة من صوف، عصاه في كفه، مربوط حقوه بشريط (1)، نعله من جلد حمار، شراكها من ليف. فقيل لفرعون: إن على الباب فتى يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال فرعون لصاحب الأسد: خل سلاسلها، وكان إذا غضب على رجل خلاها فقطعته. فخلاها فقرع موسى الباب الأول، وكانت تسعة أبواب. فلما قرع الباب الأول، انفتحت له الأبواب التسعة. فلما دخل جعلن تبصبصن تحت رجليه، كأنهن جراء (2). فقال فرعون لجلسائه: رأيتم مثل هذا قط. فلما أقبل إليه فقال: (ألم نربك فينا وليدا) إلى قوله (وإنا من الضالين). فقال فرعون لرجل من أصحابه: قم فخذ بيده. وقال للآخر: إضرب عنقه، فضرب جبرائيل بالسيف حتى قتل ستة من أصحابه، فقال: خلوا عنه. قال: فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه وبين وجهه. فألقى العصا فإذا هي حية، فالتقمت الإيوان بلحييها، فدعاه أن يا موسى أقلني إلى غد، ثم كان من أمره ما كان. * (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 36 ] وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون [ 37 ] وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه من الكاذبين [ 38 ] واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم (1) الحقو: الخصر. والشريط: خوص مفتول يشرط به السرير ونحوه. (2) بصبص الكلب: تحرك ذنبه. والجراء جمع الجرو: أولاد السباع (*).
[ 438 ]
إلينا لا يرجعون [ 39 ] فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [ 40 ] وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون [ 41 ] وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين [ 42 ]) *. القراءة: قرأ ابن كثير: (قال موسى) بغير واو، وكذلك هو في مصاحف مكة. والباقون: (وقال) بالواو. وقرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم: (من يكون) بالياء. والباقون بالتاء. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ويعقوب: (لا يرجعون) بفتح الياء. والباقون بضم الياء، وفتح الجيم. الحجة: قال أبو علي: قد مضى القول في نحو هذا فيما قبل، وكذلك في نحو الياء والتاء من (يكون)، وكلاهما حسن. وكذلك قد مضى فيما تقدم القول في يرجعون، ويرجعون. اللغة: الصرح: البناء العالي كالقصر، وأصله من الظهور. فالتصريح: شدة ظهور المعنى قال الشاعر: بهن نعام بناها الرجال * تحسب أعلامهن الصروحا (1) والنبذ: الإلقاء والطرح. والشئ منبوذ. قال أبو الأسود: نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا والقبح: الإبعاد. قبحه الله أي: أبعده، يقبحه قبحا. ويقال: قبحه: إذا جعله قبيحا. وقيل: قبحه فهو مقبوح: أهلكه. الاعراب: (بينات): نصب على الحال. (ما سمعنا بهذا): يحتمل أن تكون الباء زائدة، ويحتمل أن تكون على أصلها. وقوله (بغير الحق): الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والتقدير: واستكبر هو وجنوده مبطلين. و (يدعون): صفة الأئمة. (ويوم القيامة): ظرف لفعل يدل عليه قوله (من (1) النعام: المفازة. والأعلام: الجبال (*).
[ 439 ]
المقبوحين) على تقدير قبحوا يوم القيامة، لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول. والألف واللام في (المقبوحين) موصول، وتقديره: الذين قبحوا. المعنى: ثم قال سبحانه: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) التقدير: فمضى موسى إلى فرعون وقومه. فلما جاءهم بآياتنا أي: بحججنا البينات، ومعجزاتنا الظاهرات (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) أي: مختلق مفتعل، لم يبن على أصل صحيح، لأنه حيلة توهم خلاف الحقيقة. فوصفوا الأيات بالسحر والإختلاف على هذا المعنى، جهلا منهم، وذهابا عن الصواب. (وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) أي: لم نسمع ما يدعيه ويدعو إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا. وإنما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح، وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله، وإخلاص عبادته، لأحد أمرين: إما للفترة التي دخلت بين الوقتين، والزمان الطويل. وإما لأن آباهم ما صدقوا بشئ من ذلك، ولا دانوا به. فيكون المعنى: ما سمعنا بآبائنا أنهم صدقوا الرسل فيما جاؤوا به. ووجه شبهتهم في ذلك أنهم قالوا إنهم الكبراء. فلو كان حقا لأدركوه، فإنه لا يجوز أن يدرك الحق الأنقص في الرأي والعقل، ولا يدركه الأفضل فيهما. وهذا غلط لأن ما طريقه الإستدلال، لا يمتنع أن يصيبه الأدون في الرأي إذا سلك طريقه، ولا يصيبه الاكمل في الرأي إذا لم يسلك طريقه. (وقال موسى) مجيبا لهم (ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار) ومعناه: ربي يعلم أني جئت بهذه الآيات الدالة على الهدى من عنده، فهو شاهد لي على ذلك إن كذبتموني، ويعلم أن العاقبة الحميدة لنا، ولأهل الحق والإنصاف. وهذا كما يقال على سبيل المظاهرة: الله أعلم بالمحق منا والمبطل. وحجتي ظاهرة فأكثرها إن قدرت على ذلك. (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا يفوز بالخير من ظلم نفسه، وعصى ربه، وكفر نعمه. (وقال فرعون) منكرا لما أتى به موسى من آيات الله، لما أعياه الجواب، وعجز عن محاجته (يا أيها الملأ) يريد أشراف قومه (ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين) أي: فاجج النار على الطين، واتخذ الآجر. وقيل: إنه أول من اتخذ الآجر، وبنى به، عن قتادة. (فاجعل لي صرحا) أي: قصرا، وبناء عاليا (لعلي أطلع إلى إله موسى) أي: أصعد إليه، وأشرف عليه، وأقف على
[ 440 ]
حاله. وهذا تلبيس من فرعون، وإيهام على العوام أن الذي يدعو إليه موسى، يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة. (وإني لأظنه من الكاذبين) في ادعائه إلها غيري، وأنه رسوله. (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) أي: رفع فرعون وجنوده أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل والظلم، وأنفوا وتعظموا عن قبول الحق في اتباع موسى. (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) أي: أنكروا البعث وشكوا فيه. (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي: فعاقبناهم، وطرحناهم في البحر، وأهلكناهم بالغرق. وعنى باليم نيل مصر. وقيل: بحر من وراء مصر يقال له أساف، غرقهم الله فيه. (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) أي: تفكر، وتدبر، وانظر بعين قلبك، كيف أخرجناهم من ديارهم، وأغرقناهم (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) وهذا يحتاج إلى تأويل لأن ظاهره يوجب أنه تعالى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، كما جعل الأنبياء أئمة يدعون إلى الجنة. وهذا ما لا يقول به أحد. فالمعنى أنه أخبر عن حالهم بذلك، وحكم بأنهم كذلك، وقد تحصل الإضافة على هذا الوجه بالتعارف. ويجوز أن يكون أراد بذلك أنه لما أظهر حالهم على لسان أنبيائه، حتى عرفوا، فكأنه جعلهم كذلك. ومعنى دعائهم إلى النار أنهم يدعون إلى الأفعال التي يستحق بها دخول النار من الكفر والمعاصي. (ويوم القيامة لا ينصرون) أي: لا ينظر بعضهم لبعض، ولا ينصرهم غيرهم يوم القيامة، كما كانوا يتناصرون في الدنيا. (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي: أردفناهم لعنة بعد لعنة، وهي البعد عن الرحمة والخيرات. وقيل: معناه ألزمناهم اللعنة في هذه الدنيا، بان أمرنا المؤمنين بلعنهم، فلعنوهم، عن أبي عبيدة. (ويوم القيامة هم من المقبوحين) أي: من المهلكين عن الأخفش. وقيل: من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه، وزرقة الأعين، عن الكلبي، عن ابن عباس. وقيل: من الممقوتين المفضوحين. * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 43 ] وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين [ 44 ] ولكنا أنشأنا قرونا
[ 441 ]
فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين [ 45 ] وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون [ 46 ] ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 47 ] فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون [ 48 ] قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين [ 49 ] فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 50 ]) *. القراءة: قرأ أهل الكوفة: (سحران) بغير ألف. والباقون: (ساحران) بالألف. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (ساحران) أنه قال تظاهرا، والمظاهرة: المعاونة. وفي التنزيل: (وإن تظاهرا عليه). والمعاونة في الحقيقة إنما تكون للساحرين، لا للسحرين. والوجه في قوله (سحران) أنه نسب المعاونة إلى السحرين، على وجه الإتساع، كأن كل سحر منهما يقوي الآخر. الاعراب: قال الزجاج قوله: (بصائر) حال أي: آتيناه الكتاب مبينا. وأقول فيه إنه بدل من الكتاب. فإن المعرفة يجوز أن تبدل منها النكرة. والبصائر في معنى الحجج، فلا يصح معنى الحال فيها، إذا كان إسما محضا، لا شائبة فيه للفعل. وقوله (إذا قضينا): ظرف للمحذوف الذي يتعلق به الباء في قوله: (بجانب الغربي). و (تتلو): جملة منصوبة الموضع على الحال (ولكن رحمة): رحمة منصوبة مفعول لها تقديره: ولكنا أوحينا إليك رحمة أي: للرحمة، كما تقول:
[ 442 ]
فعلت ذلك ابتغاء الخير. (لولا أن تصيبهم مصيبة) لولا هذه، هي التي معناها امتناع الشئ لوجود غيره. و (أن تصيبهم): مبتدأ. وجواب (لولا) محذوف وتقديره: لم يحتج إلى إرسال الرسل. و (لولا) الثانية في قوله (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا): هي التي معناها التخصيص بمعنى هلا. (بغير هدى): الجار والمجرور في موضع نصب على الحال. المعنى: ثم ذكر سبحانه من أخبار موسى عليه السلام ما فيه دلالة على معجزة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) أي: الجموع التي كانت قبله من الكفار، مثل قوم نوح وعاد وثمود. ويجوز أن يريد بالقرون قوم فرعون، لأنه سبحانه أعطاه التوراة بعد إهلاكهم بمدة (بصائر للناس) أي: حججا وبراهين للناس، وعبرا يبصرون بها أمر دينهم، وأدلة يستدلون بها في أحكام شريعتهم. (وهدى) أي: دلالة لمن اتبعه يهتدي بها (ورحمة) لمن آمن به (لعلهم يتذكرون) أي: يتعظون ويعتبرون. وجاءت الرواية بالإسناد عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أهلك الله قوما، ولا قرنا، ولا أمة، ولا أهل قرية، بعذاب من السماء، منذ أنزل التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية التي مسخوا قردة. ألم تر أن الله تعالى قال: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) " الآية. (وما كنت بجانب الغربي) أي: وما كنت يا محمد حاضرا، بجانب الجبل الغربي أي: في الجانب الغربي من الجبل، الذي كلم الله فيه موسى، عن قتادة والسدي. وقيل: بجانب الوادي الغربي، عن ابن عباس والكلبي. (إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي: عهدنا إليه، وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه. وقيل: معناه أخبرناه بأمرنا ونهينا. وقيل: أراد كلامه معه في وصف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته. (وما كنت من الشاهدين) أي: الحاضرين لذلك الأمر، وبذلك المكان، فتخبر قومك عن مشاهدة وعيان. ولكنا أخبرناك به، ليكون معجزة لك. (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر) أي: خلقنا قرنا بعد قرن، فطال عهدهم بالمهلكين قبلهم، وفترة النبوة، فحملهم ذلك على الإغترار، وأنكروا بعثة الله رسله، لجهلهم بأمر الرسل، فأرسلناك للناس رسولا، وجعلناك رحمة للناس، كما جعلنا موسى رحمة. لا يتم الكلام إلا بهذا التقدير. وقيل: إن المعنى: خلقنا خلقا
[ 443 ]
كثيرا، عهدنا إليهم في نعتك وصفتك، وأمرنا الأول بالإبلاغ للناس إلى الثاني، فامتد بهم الزمان فنسوا عهدنا إليهم فيك. (وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا) معناه: وما كنت مقيما في قوم شعيب، تتلو عليهم آياتنا. قال مقاتل معناه ولم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم. (ولكنا كنا مرسلين) أي: أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها. قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، حتى تخبر قومك بهذا، فيدل ذلك على صحة نبوتك. وقيل: معناه أنك لم تشهد إحساننا إلى عبادنا في إرسال الرسل، ونصب الآيات، وإنزال الكتب بالبينات والهدى. وهذا كما يقال: لم تدر أي شئ كان هناك، تفخيما للأمر. ولولا الوحي لما علمت من ذلك ما علمت، ولم تهتد له. (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) أي: ولم تك حاضرا بناحية الجبل الذي كلمنا عليه موسى، وناديناه: يا موسى خذ الكتاب بقوة. وقيل: أراد بذلك المرة الثانية التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، حين اختار من قومه سبعين رجلا، ليسمعوا كلام الله تعالى. (ولكن رحمة من ربك) أي: ولكن الله تعالى أعلمك ذلك، وعرفك إياه نعمة من ربك أنعم بها عليك، وهو أن بعثك نبيا، واختارك لإيتاء العلم بذلك، معجزة لك. (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) أي: لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول قبلك. (لعلهم يتذكرون) أي: لكي يتفكروا ويعتبروا، وينزعوا عن المعاصي. وفي هذا دلالة على وجوب فعل اللطف، فإن الإنذار والدعوة لطف من الله تعالى، مؤثر في القبول، ومقرب منه. (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) معناه. لولا أن لهم أن يحتجوا لو أصابتهم عقوبة بأن يقولوا: هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى ما يجب الإيمان به، فنتبع الرسول، ونأخذ بشريعته، ونصدق به، لما أرسلنا الرسل، ولكنا أرسلنا رسلا لقطع حجتهم. وهو في معنى قوله: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). وقيل: إن جواب (لولا) ههنا: (لعجلنا لهم العقوبة). وقيل: المراد بالمصيبة ههنا: عذاب الإستئصال. وقيل: عذاب الدنيا
[ 444 ]
والآخرة، عن أبي مسلم. (فلما جاءهم الحق من عندنا) أي: محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والإسلام (قالوا لولا أوتي) أي: هلا أعطي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مثل ما أوتي موسى) من فلق البحر، واليد البيضاء، والعصا. وقيل: معناه هلا أوتي كتابا جملة واحدة. وإنما قاله اليهود، أو قريش، بتعليم اليهود، فاحتج الله عليهم بقوله: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) أي: وقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وآله وسلم و (قالوا سحران تظاهرا) يعنون التوراة والقرآن، عن عكرمة والكلبي ومقاتل. ومن قرأ (ساحران تظاهرا) فمعناه: أنهم قالوا تظاهر موسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس. (وقالوا إنا بكل كافرون) من التوراة والقرآن. قال الكلبي: وكانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم، فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروهم بنعته، وصفته في كتابهم التوراة. فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: سحران تظاهرا. (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) معناه: قل يا محمد لكفار قومك: فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن، حتى أتبعه ان صدقتم أن التوراة والقرآن سحران. وقيل: معناه فأتوا بكتاب من عند الله، يؤمن معه التكذيب أي: لم يكذب به طائفة من الناس. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن لم يستجيبوا لك) أي: فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن. وقيل: فإن لم يستجيبوا لك إلى الإيمان، مع ظهور الحق. (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي: ما تميل إليه طباعهم، لأن الهوى ميل الطبع إلى المشتهى. قال الزجاج: أي فاعلم أنما ركبوه من الكفر، لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى. ثم ذمهم فقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) أي: لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد، ولا بيان جاءه من الله. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) إلى طريق الجنة. وقيل: معناه لا يحكم الله بهدايتهم. وقيل: إنهم إذا لم يهتدوا بهدى الله، فكأنه لم يهدهم. * (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [ 51 ] الذين ءاتيناهم
[ 445 ]
الكتاب من قبله هم به يؤمنون [ 52 ] وإذا يتلى عليهم قالوا ءامنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين [ 53 ] أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون [ 54 ] وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 55 ]) *. اللغة: أصل التوصيل: من وصل الحبال بعضها ببعض. قال امرؤ القيس: درير كخذروف الوليد أمره * تتابع كفيه بخيط موصل (1) أي: موصول بعضه ببعض، وهو في الكلام أن يصير بعضه يلي بعضا. والدرء: الدفع. النزول: نزل قوله (الذين آتيناهم الكتاب) وما بعده في عبد الله بن سلام، وتميم الداري، والجارود العبدي، وسليمان الفارسي، فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات، عن قتادة. وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل، كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه إثنان وثلاثون من الحبشة، أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام وقت قدومه، وثمانية قدموا من الشام، منهم بحيرا وأبرهة والأشرف وعامر وأيمن وادريس ونافع وتميم. المعنى: ثم بين سبحانه صفة القرآن، فقال: (ولقد وصلنا لهم القول) أي: فصلنا لهم القول وبينا، عن ابن عباس. ومعناه: أتينا بآية بعد آية، وبيان بعد بيان، وأخبرناهم بأخبار الأنبياء والمهلكين من أممهم. (لعلهم يتذكرون) أي: ليتذكروا ويتفكروا، فيعلموا الحق، ويتعظوا. (الذين آتيناهم الكتاب من قبله) أي: من قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (هم به) أي: بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (يؤمنون) لأنهم (1) هذا بيت من معلقته المعروفة. يصف فرسه، وشدة عدوه، ومهارته في الجري. والدرير: السريع من الدواب. والخذروف: شئ مستدير يديره الصبيان بخيط أدخل في ثقبه، وفتل. والوليد: الصبي. والإمرار: إحكام الفتل. شبه شدة عدوه بإدارة خذروف أحكم الصبي فتل خيطه، وتتابعت كفاه في فتله وإدارته بخبط انقطع، ثم وصل، وذلك أشد لدورانه. يقول: يدير الجرى والعدو، ويسرع فيهما كإسراع هذا الخذروف (*).
[ 446 ]
وجدوا نعته في التوراة. وقيل: معناه من قبل القرآن، وهم بالقرآن يصدقون. والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، يعني الذين أوتوا الكتاب. (وإذا يتلى) القرآن (عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله) أي: من قبل نزوله (مسلمين) به. وذلك أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فهؤلاء لم يعاندوا. ثم أثنى الله سبحانه عليهم فقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) مرة بتمسكهم بدينهم حتى أدركوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا به، ومرة بإيمانهم به. وقيل: بما صبروا على الكتاب الأول، وعلى الكتاب الثاني، وإيمانهم بما فيهما، عن قتادة. وقيل: بما صبروا على دينهم، وعلى أذى الكفار وتحمل المشاق. (ويدرؤون بالحسنة السيئة) أي: يدفعون بالحسن من الكلام، الكلام القبيح الذي يسمعونه من الكفار. وقيل: يدفعون بالمعروف المنكر، عن سعيد بن جبير. وقيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل، عن يحيى بن سلام، ومعناه: يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم. وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (ومما رزقناهم ينفقون) مر معناه، (وإذا سمعوا اللغو) أي: السفه من الناس، والقبيح من القول، والهزء الذي لا فائدة فيه. (أعرضوا عنه) ولم يقابلوه بمثله (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: لا نسأل نحن عن أعمالكم، ولا تسألون عن أعمالنا، بل كل منا يجازى على عمله. وقيل: معناه لنا ديننا ولكم دينكم. وقيل: لنا حلمنا، ولكم سفهكم. (سلام عليكم) أي: أمان منا لكم أن نقابل لغوكم بمثله. وقيل: هي كلمة حلم، واحتمال بين المؤمنين والكافرين. وقيل: هي كلمة تحية بين المؤمنين، عن الحسن. (لا نبتغي الجاهلين) أي: لا نطلب مجالستهم ومعاونتهم، وإنما نبتغي الحكماء والعلماء. وقيل: معناه لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، عن مقاتل. وفيل: لا نبتغي دين الجاهلين، ولا نحبه، عن الكلبي. * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين [ 56 ] وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن
[ 447 ]
لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 57 ] وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [ 58 ] وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 59 ] وما أوتيتم من شئ فمتاع الحيوة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون [ 60 ]) *. القراءة: قرأ أهل المدينة ويعقوب وسهل: (تجبي) بالتاء. والباقون بالياء. وقرأ أبو عمرو: (أفلا تعقلون) بالياء وبالتاء كيف شئت. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي: تأنيث ثمرات جمع، وليس بتأنيث حقيقي، فيكون بمنزلة الوعظ والموعظة، والصوت والصيحة، إذا ذكرت جاز، وإذا أنثت جاز وحجة من قرأ (أفلا تعقلون) بالتاء، قوله (فما أوتيتم). والياء على (أفلا يعقلون) يا محمد. اللغة: التخطف: أخذ الشئ على وجه الإستلاب من كل وجه، يقال: تخطفه تخطفا، واختطفه اختطافا، وخطفه يخطفه خطفا. قال امرؤ القيس: تخطف خزان الأنيعم بالضحى * وقد حجرت منها ثعالب أورال (1) يجبي: من جبيت الماء في الحوض أي: جمعته. والجابية: الحوض. والبطر: الطغيان عند النعمة قال ابن الأعرابي: البطر سوء احتمال الغنى. وقيل: إن أصله من قولهم ذهب دمه بطرا أي: باطلا، عن الكسائي. وقيل: هو أن يتكبر عند الحق، فلا يقبله. (1) يصف فرسه. وقبل البيت قوله: " كأني بفتخاء الجناحين لقوه * صيود من العقيان طأطأت شملال " شبهه بعقاب تخطف الأرانب والثعالب. وتخطف: أصله تتخطف، فحذف إحدى التائين. والخزان: ذكور الأرانب. والأنيعم: موضع وفي بعض الروايات " خزان الشربة " وهو اسم موضع أيضا. وأورال: أجبل ثلاثة سود في جوف الرمل، بحذاء ماء لبني دارم، وكان يسكنها قوم من العرب. (*)
[ 448 ]
الاعراب: (رزقا): مصدر وضع موضع الحال، تقديره: يجبي إليه ثمرات كل شئ من رزقه. ويجوز أن يكون مصدر فعل محذوف، تقديره: نرزق. ويجوز أن يكون مصدرا من معنى قوله يجبي إليه ثمرات، لأنه في معنى رزق، فيكون مثل قولهم حمدته شكرا. ويجوز أن يكون مفعولا له. وقوله (من لدنا): في موضع نصب على الصفة، لقوله رزقا. (وكم أهلكنا) أي: كثيرا من القرى أهلكنا. فكم: في موضع نصب بأهلكنا. و (من قرية): في موضع نصب على التمييز لأن كم الخبرية إذا فصل بينها وبين مميزها بكلام، نصب كما ينصب كم الإستفهامية. (معيشتها): انتصب بقوله (بطرت). وتقديره في معيشتها، فحذف الجار فأفضى الفعل. (فتلك مساكنهم): مبتدأ وخبر. (لم تسكن): في موضع نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة في تلك. (قليلا): صفة مصدر محذوف تقديره إلا سكونا قليلا، أو صفة ظرف تقديره وقتا أو زمانا قليلا. النزول: قيل: نزل قول (إنك لا تهدي من أحببت) في أبي طالب، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب إسلامه، فنزلت هذه الآية، وكان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة، فنزل فيه: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية. فلم يسلم أبو طالب، وأسلم وحشي. ورووا ذلك، عن ابن عباس، وغيره. وفي هذا نظر كما ترى، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في إرادته، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه. وإذا كان الله تعالى على ما زعم القوم، لم يرد إيمان أبي طالب، وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمانه، فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمرسل. فكأنه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم: إنك يا محمد تريد إيمانه، ولا أريد إيمانه، ولا أخلق فيه الإيمان مع تكفله بنصرتك، وبذل مجهوده في إعانتك، والذب عنك، ومحبته لك، ونعمته عليك. وتكره أنت إيمان وحشي لقتله عمك حمزة، وأنا أريد إيمانه، وأخلق في قلبه الإيمان. وفي هذا ما فيه. وقد ذكرنا في سورة الأنعام أن أهل البيت، عليهم السلام، قد أجمعوا على أن أبا طالب مات مسلما، وتظاهرت الروايات بذلك عنهم، وأوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالة على تصديقه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوحيده، فإن استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير، وما روي من ذلك في كتب المغازي وغيرها، أكثر من أن يحصى،
[ 449 ]
يكاشف فيها من كاشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويناضل عنه، ويصحح نبوته. وقال بعض الثقات: إن قصائده في هذا المعنى التي تنفث في عقد السحر، وتغبر في وجه شعراء الدهر، يبلغ قدر مجلد وأكثر من هذا. ولا شك في أنه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء، استصلاحا لهم، وحسن تدبيره في دفع كيادهم، لئلا يلجئوا الرسول إلى ما ألجأوه إليه بعد موته. المعنى: لما تقدم ذكر الرسول والقرآن، وأنه أنزل هدى للخلق، بين سبحانه أنه ليس عليه الإهتداء، وإنما عليه البلاغ، والأداء، فقال: (إنك) يا محمد (لا تهدي من أحببت) هدايته. وقيل: من احببته لقرابته، والمراد بالهداية هنا: اللطف الذي يختار عنده الإيمان، فإنه لا يقدر عليه إلا الله تعالى، لأنه إما أن يكون من فعله خاصة، أو بإعلامه. ولا يعلم ما يصلح المرء في دينه إلا الله تعالى، فإن الهداية التي هي الدعوة والبيان، قد أضافها سبحانه إليه في قوله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). وقيل: إن المراد بالهداية في الآية: الإجبار على الإهتداء أي: أنت لا تقدر على ذلك. وقيل: معناه ليس عليك اهتداؤهم، وقبولهم الحق. (ولكن الله يهدي من يشاء) بلطفه. وقيل: على وجه الإجبار. (وهو أعلم بالمهتدين) أي: القابلين للهدى، فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد. ثم قال سبحانه حاكيا عن الكفار: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) أي: نستلب من أرضنا، يعني أرض مكة والحرم. وقيل: إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد ناف، فإنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك، مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب، فقال سبحانه رادا عليه هذا القول (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) أي: أو لم نجعل لهم مكة في أمن وأمان قبل هذا، ودفعنا ضرر الناس عنهم، حتى كانوا يأمنون فيه ؟ فكيف يخافون زواله الآن، أفلا نقدر على دفع ضرر الناس عنهم، لو آمنوا. بل حالة الإيمان والطاعة أولى بالأمن والسلامة من حالة الكفر. (يجبى إليه ثمرات كل شئ) أي: تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد (رزقا من لدنا) أي: إعطاء من عندنا، جاريا عليهم (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما أنعمنا به عليهم. وقيل: لا يعلمون الله، ولا يعبدونه فيعلموا ما يفوتهم من الثواب. (وكم أهلكنا من قرية) أي: من أهل قرية. (بطرت معيشتها) أي: في
[ 450 ]
معيشتها بأن أعرضت عن الشكر، وتكبرت، والمعنى: أعطيناهم المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة، وكفروا فأهلكناهم. (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) تلك إشارة إلى ما يعرفونه هم من ديار عاد وثمود وقوم لوط. أي: صارت مساكنهم خاوية، خالية عن أهلها، وهي قريبة منكم. فإن ديار عاد، إنما كانت بالأحقاف، وهو موضع بين اليمن والشام، وديار ثمود بوادي القرى، وديار قوم لوط بسدوم. وكانوا هم يمرون بهذه المواضع في تجاراتهم. (وكنا نحن الوارثين) أي: المالكين لديارهم، لم يخلفهم أحد فيها. ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وما كان ربك) يا محمد (مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) قيل: إن معنى أمها أم القرى، وهي مكة. وقيل: يريد معظم القرى من سائر الدنيا (يتلو عليهم آياتنا) أي: يقرأ عليهم حججنا وبيناتنا. (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) لنفوسهم بالكفر والطغيان، والعتو والعصيان. ثم خاطب سبحانه خلقه، فقال: (وما أوتيتم من شئ) أي: وما أعطيتموه من شئ. (فمتاع الحياة الدنيا وزينتها) أي: هو شئ تتمتعون به في الحياة، وتتزينون به (وما عند الله) من الثواب، ونعيم الآخرة (خير) من هذه النعم (وأبقى) لأنها فانية، ونعم الآخرة باقية. (أفلا تعقلون) ذلك، وتتفكرون فيه، حتى تميزوا بين الباقي والفاني. * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متع الحيوة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين [ 61 ] ويوم يناديهم فيقول أين شركاءى الذين كنتم تزعمون [ 62 ] قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 63 ] وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 64 ] ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين [ 65 ] فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون [ 66 ]) *. اللغة: المتعة: المنفعة. وقد فرق بينهما بأن المتعة منفعة توجب الإلتذاذ في الحال. والمنفعة قد تكون بألم تؤدي عاقبته إلى نفع. فكل متعة منفعة وليس كل
[ 451 ]
منفعة متعة. والإحضار: إيجاد ما به يكون الشئ بحيث يشاهد. والزعم: القول في الأمر على ظن أو علم. ولذلك دخل في باب علمت وأخواته قال: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم * فإني شريت الحلم عندك بالجهل النزول: نزل قوله (أفمن وعدناه) الآية. في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي جهل. وقيل: نزل في حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم، وفى أبي جهل، عن محمد بن كعب والسدي. وقيل: نزل في عمار، وفي الوليد بن المغيرة، والأولى أن يكون عاما فيمن يكون بهذه الصفة. المعنى: لما تقدم ذكر ما أوتوا من زينة الحياة الدنيا، عقبه سبحانه بالفرق بين من أوتي نعيم الدنيا، وبين من أوتي نعيم الآخرة، فقال: (أفمن وعدناه وعدا حسنا) من ثواب الجنة ونعيمها، جزاء على طاعته (فهو لاقيه) أي: فهو واصل إليه، ومدركه لا محالة. (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) من الأموال وغيرها. (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) للجزاء والعقاب. وقيل: من المحضرين في النار. والمعنى: أيكون حال هذا، كحال ذاك أي: لا يكون حالهما سواء، لأن نعم الدنيا مشوبة بالغموم، وتعرض للزوال والفناء. ونعم الآخرة خالصة صافية، دائمة لا تتكدر بالشوب، ولا تتنقص بالإنقضاء. (ويوم يناديهم) أي: واذكر يوم ينادي الله الكفار، وهو يوم القيامة. وهذا نداء تقريع وتبكيت. (فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) أي: كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركاء في الإلهية، وتعبدونهم، وتدعون أنهم ينفعونكم. (قال الذين حق عليهم القول) أي: حق عليهم الوعيد بالعذاب، من الجن والشياطين، والذين أغووا الخلق من الإنس. (ربنا هؤلاء الذين أغوينا) يعنون أتباعهم (أغويناهم كما غوينا) أي. اضللناهم عن الدين بدعائنا إياهم إلى الضلال، كما ضللنا نحن بأنفسنا. (تبرأنا إليك) منهم، ومن أفعالهم. قال الزجاج: برئ بعضهم من بعض، وصاروا أعداء كما قال سبحانه: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو). (ما كانوا إيانا يعبدون) أي: لم يكونوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا. وقيل: معناه لم يعبدونا باستحقاق وحجة. (وقيل ادعوا شركائكم) أي: ويقال للأتباع: أدعوا الذين عبدتموهم من دون الله، وزعمتم أنهم
[ 452 ]
شركائي، لينصروكم، ويدفعوا عنكم عذاب الله. وإنما أضاف الشركاء إليهم، لأنه لا يجوز أن يكون لله شريك، ولكنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء لله بعبادتهم إياهم. (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) أي: فيدعونهم فلا يجيبونهم إلى ملتمسهم. (ورأوا العذاب) أي: ويرون العذاب. (لو أنهم كانوا يهتدون) جواب لو محذوف تقديره: لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي: لاعتقدوا أن العذاب حق. وهذا القول أولى لدلالة الكلام على المحذوف. (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) أي: ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين. وهذا سؤال تقرير بالذنب، وهو نداء يجمع العلم والعمل معا، فإن الرسل يدعون إلى العلم والعمل جميعا، فكأنه قيل لهم: ماذا علمتم ؟ وماذا عملتم ؟ (فعميت عليهم الأنباء يومئذ) أي: فخفيت واشتبهت عليهم طرق الجواب يومئذ، فصاروا كالعمي لانسداد طرق الأخبار عليهم، كما تنسد طرق الأرض على العمي. وقيل: معناه فالتبست عليهم الحجج، عن مجاهد. وسميت حججهم أنباء، لأنها أخبار يخبر بها، فهم لا يحتجون، ولا ينطقون بحجة، لأن الله تعالى أدحض حجتهم، وأكل ألسنتهم، فسكتوا. فذلك قوله: (فهم لا يتساءلون) أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا عن العذر الذي يعتذر به في الجواب، فلا يجيبون. وقيل: معناه لا يتساءلون بالأنساب والقرابة كما في الدنيا. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله، لشغله بنفسه، عن الجبائي. وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل ذنوبه عنه، عن الحسن. * (فأما من تاب وءامن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين [ 67 ] وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [ 68 ] وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون [ 69 ] وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 70 ]) * المعنى: ثم ذكر سبحانه التائبين، ورغب في التوبة بعد التخويف، فقال:
[ 453 ]
(فأما من تاب) أي: رجع عن المعاصي والكفر. (وآمن وعمل صالحا) أي: وأضاف إلى إيمانه الأعمال الصالحة. (فعسى أن يكون من المفلحين) وإنما أتى بلفظة (عسى) مع أنه مقطوع بفلاحه، لأنه على رجاء أن يدوم على ذلك، فيفلح. وقد يجوز أن يزل فيما بعد، فيهلك. على أنه قد قيل: إن (عسى) من الله سبحانه لفظة وجوب في جميع القرآن. ولما كان المفلح مختار الله تعالى، ذكر عقيبه أن الإختيار إلى الله تعالى، والخلق والحكم له، لكونه قادرا عالما على الكمال. فقال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) الخيرة: إسم من الإختيار، أقيم مقام المصدر. والخيرة: اسم للمختار أيضا. يقال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيرة الله من خلقه. ويجوز التخفيف فيهما. واختلف في الآية، وتقديرها على قولين أحدهما: إن معناه (وربك يخلق ما يشاء) من الخلق، (ويختار) تدبير عباده، على ما هو الأصلح لهم، ويختار للرسالة ما هو الأصلح لعباده. ثم قال (ما كان لهم الخيرة) أي: ليس لهم الإختيار على الله، بل لله الخيرة عليهم. وعلى هذا تكون (ما) نفيا، ويكون الوقف على قوله (ويختار). وفيه رد على المشركين الذين قالوا (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فاختاروا الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف. والآخر: أن يكون (ما) في الآية بمعنى الذي أي: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه. فيكون الوقف على هذا عند قوله (ما كان لهم الخيرة). وهذا أيضا في معنى الأول، لأن حقيقة المعنى فيهما أنه سبحانه يختار، وإليه الإختيار ليس لمن دونه الإختيار، لأن الإختيار يجب أن يكون على العلم بأحوال المختار، ولا يعلم غيره سبحانه جميع أحوال المختار، ولأن الإختيار هو أخذ الخير. وكيف يأخذ الخير من الأشياء من لا يعلم الخير فيها. (سبحان الله وتعالى عما يشركون) أي: تقدس وتنزه عن أن يكون له شريك في خلقه واختياره. ثم أقام ام سبحانه البرهان على صحة اختياره بقوله: (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) أي: وربك يعلم ما يخفونه، وما يظهرونه، فإليه الإختيار. وفي هذا دلالة على أن من لا يعلم السر والجهر، فلا اختيار إليه. ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: (وهو الله لا إله إلا هو) لا يستحق العبادة سواه (له الحمد في الأولى والآخرة) أي: له الثناء والمدح والتعظيم، على ما أنعم به على خلقه في
[ 454 ]
الدنيا، والعقبى. (وله الحكم) بينهم بما يميز به الحق من الباطل. قال ابن عباس: يحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل، ولأهل معصيته بالشقاء والويل. (وإليه) أي: وإلى جزائه وحكمه (ترجعون). * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون [ 71 ] قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [ 72 ] ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 73 ] ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 74 ] ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 75 ]) * المعنى: ثم بين سبحانه ما يدل على توحيده، فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل) يا محمد لأهل مكة الذين عبدوا معي آلهة، تنبيها لهم على خطئهم. (أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا) أي: دائما (إلى يوم القيامة) لا يكون معه نهار (من إله غير الله يأتيكم بضياء) كضياء النهار، تبصرون فيه، فإنهم لا يقدرون على الجواب عن ذلك، إلا بأنه لا يقدر على ذلك سوى الله، فحينئذ تلزمهم الحجة بأنه لا يستحق العبادة غيره. (أفلا تسمعون) أي: أفلا تقبلون ما وعظتم به. وقيل: أفلا تسمعون ما بينه الله لكم من أدلته، وتتفكرون فيه. (قل) يا محمد لهم (أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا) أي: دائما (إلى يوم القيامة) لا يكون معه ليل (من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي: تستريحون فيه من الحركة والنصب. (أفلا تبصرون) أي أفلا تعلمون من البصيرة. وقيل: أفلا تشاهدون الليل والنهار، وتتدبرون فيهما، فتعلموا أنهما من صنع مدبر حكيم. ثم قال: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار) أي: ومن نعمته عليكم،
[ 455 ]
وإحسانه إليكم، أن جعل لكم الليل والنهار، (لتسكنوا فيه) أي في الليل. (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار (ولعلكم تشكرون) نعم الله في تصريف الليل والنهار، وفي سائر أنواع النعم. (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) مضى تفسيره. فإنما كرر النداء للمشركين (بأين شركائي) تقريعا لهم، بعد تقريع. وقيل: لأن النداء الأول لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغي الذي كانوا عليه، ودعوا إليه. والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان على ما طلبوا به بحضرة الأشهاد. (ونزعنا من كل أمة شهيدا) أي: وأخرجنا من كل أمة من الأمم رسولها الذي يشهد عليهم بالتبليغ، وبما كان منهم، عن مجاهد وقتادة. وقيل: هم عدول الآخرة، ولا يخلو كل زمان منهم يشهدون على الناس بما عملوا (فقلنا هاتوا برهانكم) أي: حججكم على صحة ما ذهبتم إليه (فعلموا أن الحق لله) أي: فبهتوا وتحيروا لما لم يكن لهم حجة يقيمونها، وعلموا يقينا أن الحق ما أنتم عليه، وما أنزله الله، وأن الحجة لله ولرسوله، فلزمتهم الحجة لأن المشهود عليه إذا لم يأت بمخلص من بينة الخصم، توجهت القضية عليه، ولزمه الحكم. (وضل عنهم) أي: ذهب عنهم (ما كانوا يفترون) من الكذب، وبطل ما عبدوه من دون الله تعالى. النظم: إنما اتصلت هذه الآيات بما قبلها: بأنه جرى ذكر معبودي الكفار، وأنهم لم يغنوا من الله شيئا، فعقبه سبحانه بأن وصف نفسه بأنه المنعم المالك للنفع والضر. وقيل: لما تقدم أن الحمد لله سبحانه في الدارين، ذكر عقيبه ما يوجب الحمد من النعم السابقة. وقيل: يتصل بقوله (يخلق ما يشاء ويختار) أي: ويختار لعباده ما هو الأصلح لهم والأنفع. * (* إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين [ 76 ] وابتغ في ما ءاتاك الله الدار الأخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب
[ 456 ]
المفسدين [ 77 ] قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 78 ] فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم [ 79 ] وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون [ 80 ] فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [ 81 ] وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [ 82 ]) * القراءة: قرأ حفص عن عاصم ويعقوب وسهل: (لخسف) بفتح الخاء والسين، وهو قراءة الحسن والأعرج وشيبة ومجاهد. والباقون: (لخسف) بضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب: (ويك) يقف عليها ثم يبتدي فيقول: (إنه). الحجة: قال أبو علي: من قرأ (الخسف بنا) بفتح الخاء، فلتقدم ذكر الله تعالى. ومن قرأ بضم الخاء فبنى الفعل للمفعول به: فإنه يؤول إلى الأول في المعنى. وقال ابن جني في (ويكأنه) ثلاثة أقوال: منهم من جعلها كلمة واحدة، فلم يقف على (وي)، ومنهم من وقف على (وي). ومنهم من قال (ويك) وهو مذهب أبي الحسن. والوجه فيه عندنا هو قول الخليل وسيبويه، وهو أن (وي) إسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه إسم أعجب. ثم ابتدأ فقال: (كأنه لا يفلح الكافرون)، و (كأن الله يبسط الرزق) فوي: منفصلة من كأن، وعليه بيت الكتاب: سألتاني الطلاق إن رأتاني * قل مالي، قد جئتماني بنكر وي كأن من يكن له نشب يحب حب‍ * - ب ومن يفتقر يعش عيش ضر (1) (1) النشب: المال والعقار (*).
[ 457 ]
ومما جاءت فيه (كأن) عارية من معنى التشبيه، ما أنشده أبو علي: كأنني حين أمسي لا تكلمني * متيم يشتهي ما ليس موجود (1) أي: أنا حين أمسي متيم من حالي كذا. ومن قال إنها (ويك): فكأنه قال: أعجب لأنه لا يفلح الكافرون. وأعجب لأن الله يبسط الرزق، وهو قول أبي الحسن. وينبغي أن يكون الكاف هنا حرف خطاب بمنزلة الكاف في ذلك وأولئك، ويشهد لهذا قول عنترة: لقد شفا نفسي، وأذهب سقمها،: قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم وقول من قال (ويكأنه) كلمة واحدة، إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه من بعض. اللغة: البغي: طلب العتو بغير حق، ومنه قيل لولاة الجور: بغاة. والكنز: جمع المال بعضه على بعض، وصار بالعرف عبارة عما يخبأ تحت الأرض، ولا يطلق في الشرع اسم الكنز إلا على مال لا تخرج زكاته للوعيد الذي جاء فيه. والمفاتح: جمع مفتح. والمفاتيح: جمع مفتاح. ومعناهما واحد، وهو عبارة عما يفتح به الأغلاق. وناء بحمله ينوء نوءا: إذا نهض به مع ثقله عليه، ومنه أخذت الأنواء، لأنها تنهض من المشرق على ثقل نهوضها. وقال أبو زيد: ناءني الحمل إذا أثقلني. والعصبة: الجماعة الملتف بعضها ببعض، يقال: ناءت المفاتيح بالعصبة، وأناءت العصبة بمعنى. كما يقال: ذهبت به وأذهبته. فالباء والهمز يتعاقبان في تعدي الفعل. قال سبحانه: (فأجاءها المخاض) أي: جاء بها. وقال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، ومعنى قوله (لتنوء بالعصبة): تنوء العصبة بها، كما قال الشاعر: إن سراجا لكريم مفخره تجلى به العين إذا ما تجهره ومعناه: يجلى بالعين فقلب. وقال آخر: كانت عقوبة ما جنيت كما * كان الزناء عقوبة الرجم (1) المتيم: من تيمه الحب أي: عبده وذلله والشعر في (جامع الشواهد) وكذا الشعر الآتي (*).
[ 458 ]
قال امرؤ القيس: يضيئ الظلام وجهها لضجيعاها * كمصباح زيت في قناديل ذبال (1) أي: في ذبال قناديل. وهذا غير صحيح. ولا يجوز أن يحمل القرآن عليه، لأنه يجري مجرى الغلط من العرب، ومثل ذلك في شعرهم كثير قال: غداة أحلت لابن صرمة طعنة * حصين، غبيطات السدايف والخمر (2) والعبيطات: مفعولة. والطعنة فاعلة، فقلب. ومن أغلاطهم قول الراجز: جارية لم تعلم المرققا، ولم تذق من البقول الفستقا فظن الفستق من البقول. فأما قول خداش بن زهير: وتركت خيلا لا هوادة بينها، * وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر (3) فذهب كثير من العلماء إلى أن المعنى وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح (4)، فقلب. وليس الأمر كذلك، وإنما أراد: إن رماحهم تشرف عن هؤلاء الضياطرة، فإذا طعنوا بها فقد شقيت الرماح، لأن منزلتها أرفع من أن يطعنوا بها. وقالوا أيضا في قول زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم، * كأحمر عاد، ثم تنتج فتتئم (ه) إنه غلط، فنسبه إلى عاد، وإنما هو أحمر ثمود. وهذا أيضا ليس بغلط، فإن ثمود يسمى عادا الآخرة، لقوله تعالى: (وانه أهلك عادا الأولى) وقيل: إنما سموا ثمود، لأن الله تعالى أهلك عادا، وبقيت منهم بقية تناسلوا فهم ثمود. واشتق لهم هذا الإسم من الثمد: وهو الماء القليل، لأنهم قلوا عن عدد عاد الأولى. وإذا جاء (1) ذبال: جمع ذبالة بمعنى الفتيلة. (2) حصين بدل ابن أصرم أي: حصين بن أصرم. وسدائف، جمع سديف: السنام. 3 - الهوادة: المصالحة، الضياطرة. الضخام الذين لا غناء عندهم، والحمر جمع الأحمر، من لا سلاح معه. (4) أي: إنهم يقتلون بها. 5 - هذا بيت من المعلقات قاله في ذم الحرب. ورواية المعلقات العشر والزوزني وغيره هكذا. " كأحمر عاد ثم ترضع " (*).
[ 459 ]
في الشعر ما يجري مجرى الغلط، فلا يجوز أن يحمل كلام الله تعالى عليه. المعنى: (إن قارون كان من قوم موسى) أي: كان من بني إسرائيل، ثم من سبط موسى، وهو ابن خالته، عن عطا، عن ابن عباس، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: كان ابن عم موسى لحا، لأنه كان قارون بن يصهر بن فاهث وموسى بن عمران بن فاهث، عن ابن جريج. وقيل: كان موسى ابن أخيه، وقارون عمه، عن محمد بن إسحاق. (فبغى عليهم) أي: استطال عليهم بكثرة كنوزه، عن قتادة قال: وكان يسمى المنور، لحسن صورته، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فبغى عليهم. وقيل: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل، فكان يبغي عليهم، ويطالبهم لما كانوا بمصر، عن سعيد بن المسيب، وابن عباس. وقيل: إنه زاد عليهم في الثياب شبرا، عن عطاء الخراساني، وشهر بن حوشب. (وآتيناه من الكنوز) قال عطا: أصاب كنزا من كنوز يوسف (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) ما هذه موصولة بمعنى والذي، وصلتها إن مع اسمها وخبرها أي: أعطيناه من الأموال المدخرة قدر الذي ينئ مفاتحه العصبة. والمفاتح هنا: الخزائن في قول أكثر المفسرين، وهو اختيار الزجاج، كما في قوله سبحانه: (وعنده مفاتح الغيب). فيكون المراد بمفاتحه: خزائن ماله، وهو قول ابن عباس والحسن. وقيل: هي المفاتح التي تفتح بها الأبواب، عن قتادة ومجاهد. وروى الأعمش عن خيثمة قال: كانت مفاتيح قارون من جلود كل مفتاح مثل الإصبع. واختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشرة، عن مجاهد. وقيل: ما بين عشرة إلى أربعين، عن قتادة. وقيل: أربعون رجلا، عن ابي صالح. وقيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، عن ابن عباس. وقيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. (إذ قال له قومه) من بني إسرائيل (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) أي: لا تأشر ولا تمرح ولا تتكبر، بسبب كنوزك، إن الله لا يحب من كان بهذه الصفة، ويدل على أن الفرح بمعنى البطر، قول الشاعر: ولست بمفراح إذا الدهر سرني * ولا جازع من صرفه المتقلب وقول الآخر: (ولا أرخي من الفرح الإزارا). (وابتغ فيما آتاك الله الدار
[ 460 ]
الآخرة) وهذا أيضا من مقالة المؤمنين من قوم قارون له. وقيل: إن المخاطب له بذلك موسى، وإن ذكر بلفظ الجمع، ومعناه: اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة، بأن تنفقها في سبيل الخير، ووجوه الخير والبر. (ولا تنس نصيبك من الدنيا) وهو أن تعمل في الدنيا للآخرة عن أكثر المفسرين، ومعناه: لا تنس أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته. وروي في معناه عن علي عليه السلام: لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك وغناك، أن تطلب بها الآخرة. وقيل: امر أن يقدم الفضل، وأن يمسك ما يغنيه، عن الحسن. وقيل: معناه أنه كان قتورا شحيحا، فقيل له. كل واشرب واستمتع بما آتاك الله من الوجه الذي أباحه الله لك، فإن ذلك غير محظور عليك. (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي: أفضل على الناس كما أفضل الله عليك. وقيل: أحسن فيما افترض الله عليك، كما احسن في إنعامه عليك، عن يحيى بن سلام. وقيل: معناه وأحسن شكر الله تعالى على قدر إنعامه عليك، وواس عباد الله بمالك. (ولا تبغ الفساد) أي: لا تطلب العمل (في الأرض) بالمعاصي (إن الله لا يحب المفسدين) ظاهر المعني. (قال) قارون (إنما أوتيته على علم عندي) اختلف في معناه فقيل: أراد إنما اعطيت هذا المال بفضل وعلم عندي، ليس ذلك عندكم، عن قتادة، يعني أنه قدر أن هذا ثواب من الله له، لفضيلته، كما أخبر سبحانه عن ذلك الكافر بقوله (ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا). وقيل: معناه لرضا الله عني، ومعرفته باستحقاقي، عن ابن زيد، وهذا قريب من الأول. وقيل: معناه إن المال حصل له على علم عندي بوجوه المكاسب، وبما لا يتهيأ لأحد أن يكتسبه من التجارات والزراعات وغيرها. وقيل: على علم عندي بصنعة الذهب، وهو علم الكيمياء، عن الكلبي. وحكي أن موسى عليه السلام علم قارون الثلث من صنعة الكيمياء، وعلم يوشع الثلث منها، وعلم ابن هارون الثلث منها، فخدعهما قارون حتى علم ما عندهما، وعمل بالكيمياء، فكثرت أمواله. (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون) الكافرة بنعمته. (من هو أشد قوة وأكثر جمعا) كقوم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم. ثم بين سبحانه أن اغتراره بماله وعدده من الخطأ العظيم، لأنه لا ينتفع بذلك عند نزول العذاب به، كما أن من كانوا أقوى وأغنى منه، لم تغن أموالهم وأشغالهم عنهم شيئا، عند ذلك. (ولا يسأل
[ 461 ]
عن ذنوبهم المجرمون) قال قتادة: يعني أنهم يدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة: إن الملائكة تعرفهم بسيماهم، فلا يسألون عنهم لعلامتهم، ويأخذونهم بالنواصي والأقدام، فيصيرونهم إلى النار. وهذا كقوله (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان). وأما قوله (فوربك لنسألنهم أجمعين): فإنما ذلك سؤال تقريع وتوبيخ، لا ليعلم ذلك من قبلهم، عن الحسن. (فخرج على قومه) أي: خرج قارون على بني إسرائيل (في زينته) التي كان يتزين بها، وحشمه وتبعه. وقيل: إنه خرج في أربعة آلاف دابة، عليها أربعة آلاف فارس، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، عن قتادة. والأرجوان في اللغة: صبغ أحمر. وقيل: خرج في جوار بيض على سرج من ذهب، على قطف أرجوان، على بغال بيض، عليهن ثياب حمر، وحلي من ذهب، عن السدي. وقيل: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات. (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) من الكفار والمنافقين، وضعيفي الإيمان بما للمؤمنين عند الله من ثواب الجنة، لما رأوه في تلك الزينة والجمال: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) أي: ذو نصيب وافر من الدنيا. والمعنى: أنهم تمنوا مثل منزلته، ومثل ماله (وقال الذين أوتوا العلم) وهم المصدقون بوعد الله المؤمنون لهم (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) مما أوتي قارون. وحذف لدلالة الكلام عليه. (ولا يلقاها إلا الصابرون) أي: ولا يلقى مثل هذه الكلمة، ولا يوفق لها إلا الصابرون على أمر الله. وقيل: معناه ولا يعطاها يعني الجنة في الآخرة. ودل عليها قوله (ثواب الله). (إلا الصابرون) على طاعة الله وعن زينة الدنيا، عن الكلبي. (فخسفنا به وبداره الأرض) قال السدي: دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيا، فقال لها: إني أعطيك ألفين على أن تجيئي غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي، فتقولي: يا معشر بني إسرائيل ! مالي ولموسى قد آذاني. قالت: نعم. فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه. فلما جاءت بيتها، ندمت وقالت: يا ويلتي ! قد عملت كل فاحشة، فما بقي إلا أن أفتري على نبي الله. فلما أصبحت، أقبلت ومعها الخريطتان، حتى قامت بين بني إسرائيل، فقالت: إن قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين، على أن آتي جماعتكم، فأزعم أن موسى يراودني عن نفسي، ومعاذ الله
[ 462 ]
أن افتري على نبي الله، وهذه دراهمه عليها خاتمه. فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون، فغضب موسى، فدعا الله عليه. فأوحى الله إليه، إني أمرت الأرض أن تطيعك، وسلطتها عليه، فمرها. فقال موسى: يا أرض خذيه ! وهو على سريره وفرشه. فأخذته حتى غيبت سريره، فلما رأى قارون ذلك، ناشده الرحم، فقال: خذيه ! فأخذته حتى غيبت قدميه. ثم أخذته حتى غيبت ركبتيه. ثم أخذته حتى غيبت حقويه، وهو يناشده الرحم، فأخذته حتى غيبته فأوحى الله إليه: يا موسى ! ناشدك الرحم واستغاثك فأبيت أن تغيثه. لو إياي دعا واستغاثني لأغثته ! قال مقاتل: ولما أمر موسى الأرض فابتلعته، قال بنو إسرائيل: إنما فعل ذلك موسى ليرث ماله، لأنه كان ابن عمه، فخسف بداره، وبجميع أمواله بعده بثلاثة أيام، فلم يقدر على ماله بعده أبدا. (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) أي: فما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذى نزل به. وإنما قال سبحانه ذلك، لأنه كان يقدر مع نفسه الإمتناع بحاشيته وجنوده. (وما كان من المنتصرين) بنفسه لنفسه (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) حين خرج عليهم في زينته (يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) وهذه كلمة ندم واعتراف. وقد بينا أن عند الخليل وسيبويه لفظة (وي) مفصولة من (كأن) وإن وقعت في المصحف موصولة، بقول القائل إذا تبين له الخطأ: وي كنت على خطأ. وقال الفراء: أصله ويلك، فحذفت اللام، وجعلت أن مفتوحة في موضع نصب بفعل مضمر، كأنه قال: إعلم أن الله تعالى. قال وحدثني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك ؟ فقال لها: ويك إنه وراء البيت. قال: معناه أما ترينه وراء البيت. وقيل: معناه ألا كان وأما كان. وقال الكسائي: ويكأن في التأويل: ذلك أن الله، وهو قول ابن عباس أي قالوا: ذلك أن الله يبسط الرزق لمن يشاء، لا لكرامته كما بسط لقارون، ويقدر أن يضيق على من يشاء، لا لهوان، لكن بحسب المصلحة. وقال مجاهد وقتادة. ويكأن معناه ألم تعلم.
[ 463 ]
(لولا أن من الله علينا لخسف بنا) أي: لولا أنه أنعم علينا بنعمه، فلم يعطنا ما أعطى قارون، لخسف بنا كما خسف به. وقيل: معناه لو أن الله تعالى من علينا بالتجاوز عما تمنينا، لخسف بنا لما تمنينا منزلة قارون. (ويكأنه لا يفلح الكافرون) أي: لا يفوز بثواب الله، وينجو من عقابه، الجاحدون لنعمه، العابدون معه سواه. النظم: إنما اتصلت قصة قارون بما قبلها من قوله (نتلو عليك من نبإ موسى) فكأنه قال ومن نبإ موسي الذي وعدنا تلاوته في أول السورة، قصة قارون معه. وقيل: أتصل بقوله (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى) فأكد سبحانه ذلك بحديث قارون وحاله. وقيل: إنه لما تقدم خزي الكفار وافتضاحهم يوم القيامة، ذكر عقيبه أن قارون من جملتهم، وأنه يفتضح يوم القيامة، كما افتضح في الدنيا. * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ 83 ] من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [ 84 ] إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين [ 85 ] وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين [ 86 ] ولا يصدنك عن ءايات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين [ 87 ] ولا تدع مع الله إلها ءاخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 88 ]) * النزول: قيل لما نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة في مسيره إلى المدينة، لما هاجر إليها، اشتاق إلى مكة، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال: نعم. قال جبرائيل: فإن الله يقول (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) يعني مكة ظاهرا عليها. فنزلت الآية بالجحفة، وليست بمكية ولا مدنية، وسميت مكة معادا، لعوده إليها، عن ابن عباس.
[ 464 ]
المعنى: (تلك الدار الآخرة) يعني الجنة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض) أي: تجبرا وتكبرا على عباد الله، واستكبارا عن عبادة الله (ولا فسادا) أي: عملا بالمعاصي، عن ابن جريج، ومقاتل. وروى زاذان عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يمشي في الأسواق وحده، وهو دال يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال، فيفتح عليه القرآن، ويقرأ (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل، والمواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وروى أبو سلام الأعرج عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله، فيدخل في هذه الآية: (تلك الدار الآخرة) الآية. يعني أن من تكبر على غيره بلباس يعجبه، فهو ممن يريد علوا في الأرض. قال الكلبي: يعني بقوله (فسادا) الدعاء إلى عبادة غير الله. وقال عكرمة: هو أخذ المال بغير حق. (والعاقبة للمتقين) أي: والعاقبة الجميلة، المحمودة من الفوز بالثواب، للذين اتقوا الشرك والمعاصي. وقيل: معناه الجنة لمن اتقى عقاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. (من جاء بالحسنة فله خير منها) مضى تفسيره) (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) أي: لا يزاد في عقابهم على قدر استحقاقهم، بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق، فإنه يكون تفضلا، فهو مثل قوله (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها). (إن الذي فرض عليك القرآن) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: إن الذي أوجب عليك الإمتثال بما تضمنه القرآن، وأنزله عليك (لرادك إلى معاد) أي: يردك إلى مكة، عن ابن عباس ومجاهد والجبائي. وعلى هذا فيكون في الآية دلالة على صحة النبوة، لأنه أخبر به من غير شرط، ولا استثناء، وجاء المخبر مطابقا للخبر. قال القتيبي: معاد الرجل: بلده، لأنه يتصرف في البلاد، ثم يعود إليه. وقيل: إلى معاد: إلى الموت، عن ابن عباس في رواية أخرى وعن أبي سعيد الخدري قيل: إلى المرجع يوم القيامة أي: يعيدك بعد الموت كما بدأك، عن الحسن والزهري وعكرمة وأبي مسلم. وقيل: إلى الجنة عن مجاهد وأبي صالح. فالمعنى: إنه مميتك، وباعثك، ومدخلك الجنة. والظاهر يقتضي أنه العود إلى مكة، لأن ظاهر العود يقتضي ابتداء، ثم عودا إليه، على أنه يجوز أن يقال: الجنة معاد، وإن لم
[ 465 ]
يتقدم له فيها كون، كما قال سبحانه في الكفار (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم). ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال: (قل) يا محمد (ربي أعلم من جاء بالهدى) الذي يستحق به الثواب (ومن هو في ضلال مبين) أي: ومن لم يجئ بالهدى، وضل عنه أي: لا يخفى عليه المؤمن والكافر، ومن هو على الهدى، ومن هو ضال عنه، وثأويله: قل ربي يعلم أني جئت بالهدى من عنده، وأنكم في ضلال، سينصرني عليكم. ثم ذكر نعمه فقال: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) أي: وما كنت يا محمد ترجو فيما مضى، أو يوحي الله إليك، ويشرفك بإنزال القرآن عليك. (إلا رحمة من ربك) قال الفراء: هذا من الإستثناء المنقطع، ومعناه: إلا أن ربك رحمك، وأنعم به عليك، وأراد بك الخير، كذلك ينعم عليك بردك إلى مكة، فاعرف هذه النعم. وقيل: معناه وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم، تتلوها على أهل مكة، ولم تشهدها، ولم تحضرها بدلالة قوله (وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا) أي: إنك تتلو على أهل مكة قصص مدين وموسى، ولم تكن هناك ثاويا مقيما، وكذلك قوله (وما كنت بجانب الغربي) وأنت تتلو قصصهم وأمرهم، فهذه رحمة من ربك (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) أي: معينا لهم. وفي هذه دلالة على وجوب معاداة أهل الباطل. وفي هذه الآية وما بعدها، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فالمراد غيره. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: القرآن كله إياك أعني واسمعي يا جارة. (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) أي: ولا يمنعك هؤلاء الكفار عن اتباع آيات الله التي هي القرآن والدين بعد إذ نزلت إليك تعظيما لذكرك، وتفخيما لشأنك. (وادع إلى ربك) أي: إلى طاعة ربك الذي خلقك، وأنعم عليك، وإلى توحيده. (ولا تكونن من المشركين) أي: لا تمل إليهم، ولا ترض بطريقتهم، ولا توال أحدا منهم. (ولا تدع مع الله إلها آخر) أي. لا تعبد معه غيره، ولا تستدع حوائجك من جهة ما سواه. (لا إله إلا هو) أي: لا معبود إلا هو، وحده لا شريك له. توال أحدا منهم. (ولا تدع مع الله إلها آخر) أي. لا تعبد معه غيره، ولا تستدع حوائجك من جهة ما سواه. (لا إله إلا هو) أي: لا معبود إلا هو، وحده لا شريك له. (كل شئ هالك إلا وجهه) أي: كل شئ فان بائد، إلا ذاته. وهذا كما يقال: هذا وجه الرأي، ووجه الطريق، وهذا معنى قول مجاهد. (إلا هو) وفي
[ 466 ]
هذا دلالة على أن الأجسام تفنى، ثم تعاد، فإن ذلك يبقي ثوابه، عن عطا، وابن عباس، وعن أبي العالية، والكلبي، وهو اختيار الفراء، وأنشد: أستغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل أي: إليه أوجه العمل. وعلى هذا يكون وجه الله ما وجه إليه من الأعمال. (له الحكم) أي: له القضاء النافذ في خلقه. وقيل: له الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره (وإليه ترجعون) أي: تردون في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم. النظم: اتصل قوله (تلك الدار الآخرة) الآية. بما قبله على معني أنه سبحانه كما حرم نعم الدنيا عليهم بالهلاك، كذلك يحرم عليهم نعم الآخرة. وأما وجه اتصال قوله (إن الذي فرض عليك القرآن) الآية بما قبله، فقد ذكر فيه من حمل المعاد على البعث أنه اتصل بقوله (تلك الدار الآخرة). ومن حمله على العود إلى مكة قال: إنه لما بين سبحانه وعده لأم موسى رد موسى عليها، مع شرف النبوة، كذلك وعده ربه العودة إلى مكة، مع الشرف العظيم. وقد أنجز وعده، كما أنجز وعده هناك. ويكون معنى الكلام: إن الذي أنزل القران بذلك الوعد، سينجز هذا الوعد. واتصل قوله (قل ربي أعلم من جاء بالهدى) على معنى أنه أمره بأن يقول لهم: ربي أعلم بالصادق والكاذب، لا يلتبس عليه شئ. [ تم الجزء السابع من مجمع البيان في تفسير القرآن ]