تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 9
[ 1 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف امين الاسلام ابى علي الفضل بن الحسن الطبرسي من اعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين قدم له الامام الاكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء التاسع منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب: 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه - 1995 م مؤسسة الأعلمي للمطبوعات PUBLISHED BY بيروت - شارع المطار - قرب كلية الهندسة. AL ALAMI LIBRARY ملك الاعلمي - ص. ب: 7120 BEIRUT - LEBANON الهاتف: 833447 - 7120 833453 P. O. BOX
[ 5 ]
41 - سورة فصلت مكية وآياتها 54 نزلت بعد غافر عدد آيها: أربع وخمسون آية كوفي، ثلاث حجازي، آيتان بصري شامي. اختلافها: آيتان حم كوفي، عاد وثمود حجازي كوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ حم السجدة، أعطي (1) بعدد كل حرف منها عشر حسنات ". وروى ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ حم السجدة، كانت له نورا يوم القيامة مد بصره، وسرورا، وعاش في هذه الدنيا مغبوطا محمودا. تفسيرها: ختم الله سورة المؤمن بذكر المنكرين لآيات الله، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال: * بسم الله الرحمن الرحيم * * حم [ 1 ] * تنزيل من الرحمن الرحيم [ 2 ] * كتاب فصلت أياته، قرءانا عربيا لقوم يعلمون [ 3 ] * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون [ 4 ] * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفئ اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 5 ] *. الاعراب: قال الزجاج: تنزيل رفع بالإبتداء، وخبره: (كتاب فصلت) هذا مذهب البصريين. وقال الفراء: يجوز أن يكون (تنزيل) يرتفع بحم. ويجوز أن (1) [ من الأجر ]. (*)
[ 6 ]
يرتفع بإضمار هذا، والمعنى هذا تنزيل، أو هو تنزيل. وقوله (قرآنا عربيا): نصب (قرآنا) على الحال بمعنى: بينت آياته في حال جمعه، وبشيرا ونذيرا من صفته. المعنى. (حم) قد تقدم القول فيه. وقيل في وجه الإشتراك في افتتاح هذه السور السبع بحم أنه للمشاكلة التي بينها بما يختص به، وليس لغيرها، وذلك أن كل واحدة منها استفتحت بصفة الكتاب مع تقاربها في الطول، ومع شدة تشاكل الكلام في النظم. (تنزيل من الرحمن الرحيم) نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (كتاب فصلت آياته) وصف الكتاب بالتفصيل دون الإجمال، لأن التفصيل يأتي على وجوه البيان أي: الذي بينت آياته بيانا تاما، والتبيين فيه على وجوه منها: تبيين الواجب مما ليس بواجب، وتبيين الأولى في الحكمة مما ليس بأولى، وتبيين الجائز مما ليس بجائز، وتبيين الحق من الباطل، وتبيين الدليل على الحق مما ليس بدليل، وتبيين ما يرغب فيه مما لا يرغب فيه، وتبيين ما يحذر منه مما لا يحذر منه، إلى غير ذلك من الوجوه. وقيل: فصلت آياته بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والحلال والحرام، والمواعظ والأمثال. وقيل: فصلت أي: نظمت آياته على أحسن نظام، وأوضح بيان. (وقرآنا عربيا): وصفه بأنه قرآن، لأنه جمع بعضه إلى بعض، وبأنه عربي لأنه يخالف جميع اللغات التي ليست بعربية. وكل ذلك يدل على حدوث القرآن. (لقوم يعلمون) اللسان العربي، ويعجزون عن مثله، فيعرفون إعجازه. وقيل: يعلمون أن القرآن من عند الله نزل، عن الضحاك (بشيرا ونذيرا) يبشر المؤمن بما فيه من الوعد، وينذر الكافر بما فيه من الوعيد. (فأعرض أكثرهم) يعني أهل مكة، عدلوا عن الإيمان باللة، والتدبر فيه. (فهم لا يسمعون) أي: لا يسمعونه سمع تفكر وقبول، فكأنهم لا يسمعونه حقيقة. (وقالوا قلوبنا في أكنة) أي: في أغطية، عن مجاهد، والسدي. (مما تدعونا إليه) فلا نفقه ما تقول. وإنما قالوا ذلك ليؤيسوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبولهم دينه، فكأنهم شبهوا قلوبهم بما يكون في غطاء، فلا يصل إليه شئ مما وراءه. (وفي آذاننا وقر) أي: ثقل عن استماع القرآن، وصمم (ومن بيننا وبينك حجاب) أي: بيننا وبينك فرقة في الدين، وحاجز في النحلة، فلا نوافقك على ما تقول، عن الزجاج. وقيل: إنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة، عن علي بن عيسى.
[ 7 ]
(فاعمل إننا عاملون) قيل: إن أبا جهل رفع ثوبا بينه وبين النبي صل الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ! أنت من ذلك الجانب، ونحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك ومذهبك، إننا عاملون على ديننا ومذهبنا، عن مقاتل. وقيل: معناه فاعمل في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك، عن الفراء، وقيل: فاعمل به في إبطال أمرنا، إنا عاملون في إبطال أمرك، وهذا غاية في العناد. * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين [ 6 ] * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 7 ] * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون [ 8 ] * قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين [ 9 ] * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سوآء للسائلين [ 10 ] *. القراءة: قرأ أبو جعفر: (سواء) بالرفع. وقرأ يعقوب: (سواء) بالجر. والباقون سواء بالنصب. الحجة: من قرأ (سواء) بالرفع جعله خبر مبتدأ محذوف أي: هي سواء. ومن قرأ (سواء) بالجر جعله صفة أيام، التقدير: في أربعة أيام مستويات تامات. وأما النصب فعلى المصدر على معنى استوت سواء، واستواء. المعنى: ثم قال لنبيه صل الله عليه وآله وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (إنما أنا بشر مثلكم) من ولد آدم لحم ودم، وإنما خصني الله تعالى بنبوته، وميزني منكم بأن أوحى إلي، ولولا الوحي ما دعوتكم، وهو قوله: (يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في العبادة. (فاستقيموا إليه) أي: لا تميلوا عن سبيله، وتوجهوا إليه بالطاعة، كما يقال: استقم إلى منزلك، أي: لا تعدل عنه إلى غيره. (واستغفروه) من الشرك، واطلبوا المغفرة لذنوبكم من جهته. ثم أوعدهم فقال: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) أي. لا يعطون
[ 8 ]
الزكاة المفروضة وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالشرائع، وهذا هو الظاهر. وقيل: معناه لا يطهرون أنفسهم من الشرك بقول (لا إله إلا الله) فإنها زكاة الأنفس، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذا كما يقال: أعطى فلان من نفسه الطاعة أي: ألزمها نفسه. وقد وصف سبحانه الكفر بالنجاسة بقوله: (إنما المشركون نجس،)، وذكر الزكاة بمعنى التطهير في قوله: (خيرا منه زكاة). وقيل: معناه لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها، ولا يؤمنون بها، عن الحسن وقتادة. وعن الكلبي: عابهم الله بها وقد كانوا يحجون ويعتمرون. وقيل: لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون، عن الضحاك ومقاتل. وكان يقول: الزكاة قنطرة الإسلام. وقال الفراء: الزكاة في هذا الموضع أن قريشا كانت تطعم الحاج وتسقيهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صل الله عليه وآله وسلم (وهم بالآخرة هم كافرون) وهم مع ذلك يجحدون بما أخبر الله تعالى به من أحوال الآخرة. ثم عقب سبحانه ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين فقال: (إن الذين آمنوا) أي: صدقوا بأمر الآخرة من الثواب والعقاب. (وعملوا الصالحات) أي: الطاعات (لهم أجر غير ممنون) أي: لهم جزاء على ذلك غير مقطوع، بل هو متصل دائم. ويجوز أن يكون معناه: إنه لا أذى فيه من المن الذي يكدر الصنيعة. ثم وبخهم سبحانه على كفرهم فقال: (قل) يا محمد لهم، على وجه الإنكار عليهم، (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض) وهذا استفهام تعجيب أي: كيف تستجيزون أن تكفروا وتجحدوا نعمة من خلق الأرض (في يومين) أي: في مقدار يومين (وتجعلون له أندادا) أي: أمثالا وأشباها تعبدونهم. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه، إنما يستدل على إثبات ذاته وصفاته بأفعاله، فهي دالة على إثبات صفاته، إما بنفسها كما يدل صحة الفعل على كونه قادرا وأحكامه على كونه عالما، وإما بواسطة كما يدل كونه قادرا عالما على كونه حيا موجودا سميعا بصيرا. (ذلك رب العالمين) أي: ذلك الذي خلق الأرض في يومين، خالق العالمين، ومالك التصرف فيهم. (وجعل فيها) أي: في الأرض (رواسي) أي: جبالا راسيات ثابتات (من فوقها) أي: من فوق الأرض. (وبارك فيها) بما خلق فيها من المنافع، وقيل: بأن أنبت شجرها من غير غرس، وأخرج نبتها من غير
[ 9 ]
زرع، وبذر، وأودعها مما ينتفع به العباد، عن السدي. (وقدر فيها أقواتها) أي: قدر في الأرض أرزاق أهلها على حسب الحاجة إليها، في قوام أبدان الناس، وسائر الحيوان. وقيل: قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في اخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة، من بلد إلى بلد. (في أربعة أيام) أي في تتمة أربعة أيام من حين ابتداء الخلق، فاليومان الأولان داخلان فيها، كما تقول خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي: في تتمة خمسة عشر يوما. (سواء للسائلين) أي: مستوية كاملة، من غير زيادة، ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض. وقيل: معناه للذين يسألون الله أرزاقهم، ويطلبون أقواتهم، فإن كلا يطلب القوت ويسأله، عن قتادة والسدي. واختلف في علة خلق الأرض، وما فيها في أربعة أيام فقيل: إنما خلق ذلك شيئا بعد شئ في هذه الأيام الأربعة، ليعلم الخلق أن من الصواب التأني في الأمور، وترك الإستعجال فيها، فإنه سبحانه كان قادرا على أن يخلق ذلك في لحظة واحدة، عن الزجاج. وقيل: إنما خلق ذلك في هذه المدة، ليعلم بذلك أنها صادرة عن قادر مختار، عالم بالمصالح، وبوجوه الأحكام. إذ لو صدرت عن مطبوع، أو موجب، لحصلت في حالة واحدة. وروى عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صل الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء، فتلك أربعة أيام. وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم). * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [ 11 ] * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 12 ] * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 13 ] * إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما
[ 10 ]
أرسلتم به كافرون [ 14 ] * فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من اشد منا قوة اولم يروا ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة وكانوا بأياتنا يجحدون [ 15 ] *. الاعراب: (طوعا وكرها): مصدران وضعا موضع الحال، التقدير: إئتيا تطيعا اطاعة، أو تكرهان كرها. و (طائعين): يدل على ذلك، وهو منصوب على الحال. (سبع سماوات) أيضا منصوب على الحال بعد الفراغ من الفعل. المعنى: ثم ذكر سبحانه خلق السماوات، فقال: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) أي: ثم قصد إلى خلق السماء، وكانت السماء دخانا. وقال ابن عباس: كانت بخار الأرض، وأصل الاستواء الإستقامة والقصد للتدبير المستقيم تسوية له. وقيل: معناه ثم استوى أمره إلى السماء، عن الحسن. (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) قال ابن عباس: أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم. وأتت الأرض بما فيها من الأنهار والأشجار والثمار. وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة، ولا جواب لذلك القول، بل أخبر الله سبحانه عن اختراعه السماوات والأرض، وإنشائه لهما من غير تعذر، ولا كلفة، ولا مشقة، بمنزلة ما يقال للمأمور: إفعل فيفعل من غير تلبث، ولا توقف. فعبر عن ذلك بالأمر والطاعة، وهو كقوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وإنما قال (أتينا طائعين)، ولم يقل أتينا طائعتين، لأن المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء (1)، فغلب حكم العقلاء، عن قطرب. وقيل: إنه لما خوطبن خطاب من يعقل، جمعن جمع من يعقل، كما قال: (وكل في فلك يسبحون). ومثله كثير في كلامهم قال: فأجهشت للبوباة (2) حين رأيته، وكبر للرحمن حين رآني فقلت له: أين الذين رأيتهم بجنبك في خفض، وطيب زمان فقال مضوا، واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان (1) (وغير العقلاء). (2) جهش وأجهش إليه: فزع إليه هاما بالبكاء، ومتهيئا له، كالطفل يفزع إلى أمه. والبوباة: الفلاة، والضمير في رأيته راجع إلى المكان. (*)
[ 11 ]
وقال آخر: ألا انعم صباحا أيها الرسم، وانطق وحدث حديث الحي إن شئت، واصدق وقد ذكرنا فيما تقدم من أمثال ذلك ما فيه كفاية. وقوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء) يفيد أنه خلق السماء بعد الأرض، وخلق الأقوات فيها. وقال سبحانه في موضح آخر: (والأرض بعد ذلك دحاها). وعلى هذا فتكون الفائدة فيه أن الأرض كانت مخلوقة غير مدحوة، فلما خلق الله السماء دحا بعد ذلك الأرض، وبسطها، وإنما جعل الله السماء أولا دخانا، ثم سماوات أطباقا، ثم زينها بالمصابيح، ليدل ذلك على أنه سبحانه قادر لنفسه، لا يعجزه شئ، عالم لذاته لا يخفى عليه شئ، غني لا يحتاج، وكل ما سواه محتاج إليه سبحانه وتعالى. (فقضاهن) أي: صنعهن وأحكمهن، وفرغ من خلقهن (سبع سماوات في يومين) يوم الخميس والجمعة. قال السدي: إنما سمي جمعة، لأنه جمع فيه السماوات والأرض. (وأوحى في كل سماء أمرها) أي: خلق فيها ما أراده من ملك وغيره، عن السدي وقتادة. وقيل: معناه وأمر في كل سماء بما أراد، عن مقاتل. وقيل. وأوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة، عن علي بن عيسى. (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) سمى الكواكب مصابيح، لأنه يقع الإهتداء بها كقوله (وبالنجم هم يهتدون). (وحفظا) أي: وحفظناها من استماع الشياطين قيل (1) بالكواكب حفظا (ذلك) الذي ذكر (تقدير العزيز) في ملكه لا يمتنع عليه شئ (العليم) بمصالح خلقه، لا يخفى عليه شئ. ثم عقب سبحانه دلائل التوحيد بذكر الوعيد، لأهل الشرك والجحود من العبيد فقال: (فإن أعرضوا) عن الإيمان بك بعد هذا البيان. (فقل) يا محمد لهم مخوفا إياهم (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أي: استعدوا للعذاب، فقد خوفتكم عذابا مثل عذاب عاد وثمود، لما أعرضوا عن الإيمان، والصاعقة: المهلكة من كل شئ، وهي في العرف اسم للنار التي تنزل من السماء فتحرق. (1) ليس في بعض النسخ لفظة (قيل) وهو الصواب (*)
[ 12 ]
(إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم). إذ متعلقة بقوله صاعقة. والتقدير: نزلت بهم حين أتتهم الرسل من قبلهم، ومن بعدهم، عن ابن عباس، يعني به الرسل الذين جاؤوا آباءهم، والرسل الذين جاؤوهم في أنفسهم، لأنهم كانوا خلف من جاء آباءهم من الرسل. فيكون الهاء والميم في (من خلفهم) للرسل. وقيل: معناه أن منهم من تقدم زمانهم، ومنهم من تأخر، قال البلخي: ويجوز أن يكون المراد: أتاهم أخبار الرسل من ههنا، ومن ههنا. (ألا تعبدوا) أي: أرسلناهم بأن لا تعبدوا (إلا الله) وحده، ولا تشركوا بعبادته غيره (قالوا) أي: فقال المشركون عند ذلك (لو شاء ربنا) أن نؤمن به، ونخلع الأنداد (لأنزل ملائكة) تدعونا إلى ذلك، ولم يبعث بشرا مثلنا. وكأنهم أنفوا من الإنقياد لبشر مثلهم، وجهلوا أن الله تعالى يبعث الأنبياء على حسب ما يعلمه من مصالح عباده، ويعلم من يصلح للقيام بأعباء النبوة. (فإنا بما أرسلتم به كافرون) أي: أظهروا الكفر بهم والجحود. ثم فصل سبحانه أخبارهم فقال: (فأما عاد فاستكبروا) أي: تجبروا وعتوا (في الأرض) وتكبروا على أهلها (بغير الحق) أي: بغير حق جعله الله لهم، بل للكفر المحض، والظلم الصراح. (وقالوا من أشد منا قوة) اغتروا بقوتهم لما هددهم بالعذاب فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوتنا، إذ لا أحد أشد منا قوة. فقال الله سبحانه ردأ عليهم: (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) أي: أولم يعلموا أن الله الذي خلقهم، وخلق فيهم هذه القوة، أعظم اقتدارا منهم، فلو شاء أهلكهم (وكانوا بآياتنا) أي: بدلالاتنا (يجحدون) ينكرونها ولا يعترفون بها. * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [ 16 ] * وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون [ 17 ] * ونجينا الذين ءآمنوا وكانوا يتقون [ 18 ] * ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 19 ] * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم
[ 13 ]
بما كانوا يعملون [ 20 ] *. القراءة: قرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة: (نحسات) بكسر الحاء. والباقون: (نحسات) بسكونها. وقرأ نافع ويعقوب: (نحشر) بالنون (أعداء الله) بالنصب. والباقون: (يحشر) بالياء على ما لم يسم فاعله (أعداء الله) بالرفع. الحجة: قال أبو علي: النحس كلمة يكون على ضربين أحدهما: أن يكون إسما والآخر: أن يكون وصفا فمما جاء فيه إسما مصدرا قوله. (في يوم نحس مستمر)، فالإضافة إليه يدل على أنه اسم ليس بوصف (1) لا يضاف إليه الموصوف. وقال المفسرون في (نحسات) قولين أحدهما. الشديدة البرد والآخر: إنها المشؤومة عليهم. فتقدير قوله (في يوم نحس) في يوم مشؤوم. وقالوا: يوم نحس، ويوم نحس. فمن أضافه كان مثل ما في التنزيل. ومن أجراه على الأول احتمل أمرين أحدهما: أن يكون وصفا مثل فسل (2) ورذل والآخر: أن يكون مصدرا وصف به نحو: رجل عدل. فمن قرأ (في أيام نحسات) فأسكن الحاء، أسكنها لأنه صفة مثل عبلات (3) وصعبات. ويجوز أن يكون جمع المصدر، وتركه على إسكانه في الجمع، كما قالوا زورة وعدلة. قال أبو الحسن: لم أسمع في النحس إلا الإسكان. وقال أبو عبيدة: نحسات ذوات نحس، فيمكن أن يكون من كسر العين، جعله صفة من باب فرق ونزق (4)، وجمع على ذلك. ومن قرأ (نحشر أعداء الله) فحجته أنه معطوف على قوله (ونجينا)، ويقويه قوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا). ومن قرأ (يحشر) فبنى الفعل للمفعول به، يقويه قوله: (فهم يوزعون)، وكلا الأمرين حسن. اللغة: اشتقاق الصرصر من الصرير، ضوعف اللفظ إشعارا بمضاعفة المعنى، يقال: صر يصر صريرا، وصرصر يصرصر صرصرة. وريح صرصر: شديدة الصوت، وأصله صرر، ثم قلبت الراء صادا، كما يقال: نهنهه ونههه، وكفكفه وكففه. قال النابغة: (1) [ لان الوصف ] (2) الفسل: الضعيف الرذل. (3) العبلة: الضخمة. وامرأة عبلة أي تامة الخلق. (4) فرق فرقا: فزع فهو فرق ونزق نزقا ونزوقا: طاش وخف عند القبب، ونشط فهو نزق. (*)
[ 14 ]
أكفكف عبرة غلبت عزائي إذا نهنهتها عادت ذباحا (1) الخزي: الهون الذي يستحيى من مثله خوفا من الفضيحة. والهون: الهوان. والوزع: المنع والكف، ومنه قول الحسن: (لا بد للناس من وزعة). الاعراب: قوله: (ويوم يحشر) انتصب الظرف بمدلول قوله: (فهم يوزعون)، لأن يوما بمنزلة إذا. ولا ينتصب بقوله (ونجينا الذين آمنوا) لأنه ماض. وقوله (ويوم يحشر): مستقبل، فلا يعمل فيه الماضي. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن إهلاكهم بقوله. (فأرسلنا عليهم ريحا صر صرا) أي: عاصفا، شديدة الصوت، من الصرة: وهي الصيحة. وقيل: هي الباردة من الصر: وهو البرد، عن ابن عباس، وقتادة. وقال الفراء: هي الباردة تحرق كما تحرق النار. (في أيام نحسات) أي: نكدات مشؤومات ذوات نحوس، عن مجاهد، وقتادة، والسدي. والنحس: سبب الشر. والسعد. سبب الخير. وبذلك سميت سعود النجوم ونحوسها. وقيل: نحسات ذوات غبار وتراب، حتى لا يكاد يبصر بعضهم بعضا، عن الجبائي. وقيل: نحسات باردات، والعرب تسمي البرد نحسا، عن أبي مسلم. (لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) أي: فعلنا ذلك بهم، لنذيقهم عذاب الهون والذل، وهو العذاب الذي يجزون في الدنيا، فيوقنوا بقوة معذبهم، وبقدرته عليهم، ويظهر ذلك لمن رأى حالهم. (ولعذاب الآخرة أخزى) وأفضح من ذلك، (وهم لا ينصرون) أي: لا يدفع عنهم العذاب الذي ينزل بهم. ثم ذكر قصة ثمود فقال: (وأما ثمود فهديناهم) أي: بينا لهم سبيل الخير والشر، عن قتادة. وقيل: دللناهم، وبينا لهم الحق، عن ابن عباس والسدي وابن زيد (فاستحبوا العمى على الهدى) فاختاروا العمى في الدين على قبول الهدى، وبئس الإختيار ذلك، عن الحسن. وقيل: اختاروا الكفر على الإيمان، عن ابن زيد والفراء. (1) كفكف الدمع: مسحه مرة بعد مرة ليرده. والعبرة: الدمعة قبل أن تفيض. وقيل: تردد البكاء في الصدر. والعزاء: الصبر. والذباح بالضم والكسر: وجع في الحلق. مقصوده: أمنع عبرة غلبت صبري عن ظهورها، ولكن إذا دفعتها صارت وجعا، وشجى في الحلق. (*)
[ 15 ]
(فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) أي: ذي الهون وهو الذي يهينهم ويخزيهم. وقد قيل: إن كل عذاب صاعقة، لأن كل من يسمعها يصعق لها. (بما كانوا يكسبون) من تكذيبهم صالحا، وعقرهم الناقة. (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) الشرك أي: ونجينا صالحا، ومن آمن به، من العذاب. ثم أخبر سبحانه عن أحوال الكفار يوم القيامة فقال: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) أي: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، ولا يتفرقوا، والمعنى: إذا حشروا وقفوا (حتى إذا ما جاءوها) أي: جاؤوا النار التي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أي: شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدعاء إلى الحق، فأعرضوا عنه ولم يقبلوه، وأبصارهم بما رأوا من الآيات الدالة على وحدانية الله، فلم يؤمنوا، وسائر جلودهم بما باشروه من المعاصي والأفعال القبيحة. وقيل: في شهادة الجوارح قولان أحدهما: إن الله تعالى يبنيها بنية الحي (1)، ويلجؤها إلى الإعتراف والشهادة بما فعله أصحابه والآخر: إن الله يفعل فيها الشهادة، وإنما أضاف الشهادة إليها مجازا. وقيل في ذلك أيضا وجه ثالث وهو. إنه يظهر فيها أمارات دالة على كون أصحابها مستحقين للنار، فسمى ذلك شهادة مجازا، كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك. وقيل: إن المراد بالجلود هنا الفروج على طريق الكناية، عن ابن عباس، والمفسرين. * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [ 21 ] * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولآ أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون [ 22 ] * وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 23 ] * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [ 24 ] * وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم (1) وفي نسخة: ينبهها تنبيه الحي. (*)
[ 16 ]
وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 25 ] *. القراءة: في الشواذ قراءة الحسن وعمرو بن عبيد: (وإن يستعتبوا) بضم الياء وفتح التاء (فما هم من المعتبين) بكسر التاء. الحجة: قال ابن جني: معناه لو استعطفوا لما عطفوا، لأنه لا غناء عندهم، ولا خير فيهم، فيجيبوا إلى جميل. اللغة: الإنطاق: جعل القادر على الكلام ينطق، إما بالإلجاء إلى النطق، أو الدعاء إليه. والنطق: إدارة اللسان في الفم بالكلام، ولذلك لا يوصف سبحانه بأنه ناطق، وإن وصف بأنه متكلم. والإرداء: الإهلاك، يقال: أرداه فردي يردى فهو رد. قال الأعشى: أفي الطوف خفت علي الردى، وكم من رد أهله لم يرم (1) والإستعتاب: طلب العتبى، وهي الرضا، وهو الإسترضاء. والإعتاب: الإرضاء. وأصل الإعتاب عند العرب: استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ. ثم استعير فيما يستعطف به البعض بعضا، لإعادته إلى ما كان من الإلفة. وأصل التقييض: التبديل، ومنه المقايضة وهي مبادلة مال بمال. قال الشماخ: تذكرت لما أثقل الدين كاهلي، وعاب بزيد ما أردت تعذرا رجالا مضوا مني، فلست مقايضا بهم أبدا من سائر الناس معشرا (2) الاعراب: (وذلكم ظنكم): ذلكم مبتدأ، وظنكم: خبره. وأرداكم خبر بعد خبر، وان اضمرت قد فجعلته حالا جاز أي: ذلك ظنكم مرديا إياكم. ويجوز أن يكون ذلكم مبتدأ، وظنكم. بدلا منه، وأرداكم: خبر المبتدأ. (1) رام بالمكان: أقام وثبت. يقول: أتخاف علي الردى في الطوف، وعدم القرار في مكان، مع أن كثيرا ممن هلك أهله لم يقم بمكان، وسار معه ولم ينفعه المنية، ولم تمنعه عن الردى. (2) رجالا: مفعول تذكرت، ومعشرا: مفعول مقايضا. يتأسف على فوت رجال أجواد كان يرجوهم لرفع ثقل الدين عنه ويقول: لا أبادل بهم معشرا من سائر الناس. (*)
[ 17 ]
المعنى: ثم حكى سبحانه عنهم بقوله: (وقالوا) يعني الكفار (لجلودهم لم شهدتم علينا) أي: يعاتبون أعضاءهم، فيقولون لها: لم شهدتم علينا (قالوا) أي: فتقول جلودهم في جوابهم (أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) أي: مما ينطق. والمعنى. أعطانا الله آلة النطق والقدرة على النطق، وتم الكلام. ثم قال سبحانه: (وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) في الآخرة أي: إلى حيث لا يملك أحد الأمر والنهي سواه تعالى. وليس هذا من جواب الجلود. (وما كنتم تستترون أن يشهد) أي: من أن يشهد (عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) معناه: وما كنتم تستخفون أي: لم يكن يتهيأ لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء، لأنكم كنتم بها تعملون، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة. وقيل: معناه وما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن تشهد عليكم جوارحكم بها، لأنكم ما كنتم تظنون ذلك. (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) لجهلكم بالله تعالى، فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذاك. وروي عن ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تساروا وقالوا: أترى الله يسمع سرارنا ؟ ويجوز أن يكون المعنى: إنكم عملتم عمل من ظن أن عمله يخفى على الله، كما يقال: أهلكت نفسي أي: عملت عمل من أهلك النفس. وقيل: إن الكفار كانوا يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكنه يعلم ما يظهر، عن ابن عباس. (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) (ذلكم) مبتدأ، و (ظنكم) خبره، و (أرداكم) خبر ثان. ويجوز أن يكون (ظنكم) بدلا من (ذلكم). ويكون المعنى: وظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي، وأدى بكم إلى الكفر. (فأصبحتم من الخاسرين) أي: فظللتم من جملة من خسرت تجارته، لأنكم خسرتم الجنة، وحصلتم في النار. قال الصادق عليه السلام: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا، كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة. إن الله تعالى يقول (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم،) الآية. ثم قال. إن الله عند ظن عبده به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم أخبر سبحانه عن حالهم فقال: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) أي: فإن
[ 18 ]
يصبر هؤلاء على النار وآلامها. وليس المراد به الصبر المحمود، ولكنه الإمساك عن إظهار الشكوى، وعن الإستغاثة فالنار مسكن لهم (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) أي: وإن يطلبوا العتبى، وسألوا الله تعالى أن يرضى عنهم، فليس لهم طريق إلى الإعتاب، فما هم ممن يقبل عذرهم، ويرضى عنهم، وتقدير الآية: إنهم إن صبروا وسكتوا، أو جزعوا، فالنار مأواهم، كما قال سبحانه: (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم). والمعتب هو الذي يقبل عتابه، ويجاب إلى ما سأل. وقيل: معناه وإن يستغيثوا فما هم من المغاثين. (وقيضنا لهم قرناء) أي: هيأنا لهم قرناء من الشياطين، عن مقاتل، ومعناه: بدلناهم قرناء سوء من الجن والإنس، مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم، فلم يفعلوا. بين الله سبحانه أنه إنما فعل ذلك عقوبة لهم على مخالفتهم، ونظيره: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين). وقيل: معناه خلينا بينهم وبين قرناء السوء بما استوجبوه من الخذلان، عن الحسن. (فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروه، وعملوا له. وما خلفهم من أمر الآخرة بدعائهم إلى أنه لا بعث، ولا جزاء، عن الحسن والسدي. وقيل: فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة، فقالوا: لا جنة، ولا نار، ولا بعث، ولا حساب. وما خلفهم من أمر الدنيا من جمع الأموال، وترك النفقة في وجوه البر، عن الفراء. وقيل: ما بين أيديهم: ما قدموه من أفعالهم السيئة حتى ارتكبوها، وما خلفهم: ما سنوه لغيرهم ممن ياتي بعدهم. (وحق عليهم القول) أي: وجب عليهم الوعيد والعذاب (في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) أي: صاروا في أمم أمثالهم كذبوا لتكذيبهم، قد مضوا قبلهم، وجب عليهم العذاب بعصيانهم. ثم قال سبحانه: (إنهم كانوا خاسرين) خسروا الجنة ونعيمها. * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون [ 26 ] * فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون [ 27 ] * ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا باياتنا يجحدون [ 28 ] * وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت
[ 19 ]
أقدامنا ليكونا من الأسفلين [ 29 ] * إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 30 ] *. اللغة: اللغو: الكلام الذي لا معنى له يستفاد. وإلغاء الكلمة: إسقاط عملها. يقال: لغي يلغي ويلغو لغوا، ولغى يلغي لغا. قال عن اللغاء، ورفث التكلم. الاعراب: (ذلك): مبتدأ و (جزاء أعداء الله) خبره و (النار) بدل من قوله (جزاء أعداء الله). ويجوز أن تكون (النار) تفسيرا كأنه قيل: ما هو ؟ فقيل: يقول (1) هو النار. قال الزجاج: قوله: (لهم فيها دار الخلد) أي: لهم في النار دار الخلد. والنار هي الدار، كما تقول لك في هذه الدار دار سرور، وأنت تعني الدار بعينها، كما قال الشاعر: أخو رغائب يعطيها، ويسألها، يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (2) فيكون ذلك من باب التجريد. وموضع (أن لا تخافوا) نصب تقديره تتنزل عليهم الملائكة بأن لا تخافوا. فلما حذف الباء، وصل الفعل فنصبه. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الكفار، فقال: (وقال الذين كفروا) أي: قال رؤساؤهم لأتباعهم، أو قال بعضهم لبعض، يعني كفار قريش (لا تسمعوا لهذا القران) الذي يقرؤه محمد، ولا تصغوا إليه (والغوا فيه) اي: عارضوه باللغو والباطل، وبما لا يعتد به من الكلام. (لعلكم تغلبون) اي: لتغلبوه (1) كذا في النسخ، ولا حاجة الى لفظة يقول. (2) الرغائب: العطايا ويحتمل قويا كون يسألها بضم الياء ليناسب المدح. والظلامة: ما تظلمه الرجل كالظليمة. والنوفل: الرجل المعطاء. والزفر: السيد الذي يحمل الاثقال، ومنه للتجريد نحو: لقيت منه اسدا، والمراد التشبيه بالاسد. وكذا هنا مقصوده ان السيد المعطاء ينشأ اباء الظلامة في افعاله من هذا الممدوح، فكأنه جعله عين اباء الظلامة، وجرد منه اباء الظلامة الذي هو في النوفل الزفر. وقد مر البيت في ج 2 بلفظ (يسلبها) بدل (يسألها). وقال في اللسان: قوله منه مؤكدة للكلام كما قال تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم) والمعنى: يأبى الظلامة لأنه النوفل الزفر. (*)
[ 20 ]
باللغو والباطل، ولا يتمكن أصحابه من الإستماع. وقيل: ألغوا فيه بالتخليط في القول والمكاء والصفير، عن مجاهد. وقيل: معناه ارفعوا أصواتكم في وجهه بالشعر والرجز، عن ابن عباس والسدي. لما عجزوا عن معارضة القرآن احتالوا في اللبس على غيرهم، وتواصوا بترك استماعه، والإلغاء فيه عند قراءته. ثم أوعدهم الله سبحانه فقال: (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا) في الدنيا بالأسر والقتل يوم بدر وقيل: في الآخرة (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) أي: نجازيهم بأقبح الجزاء على أقبح معاصيهم، وهو الكفر والشرك. وخص الأسوأ بالذكر للمبالغة في الزجر. وقيل: معناه لنجزينهم بأسوا أعمالهم، وهي المعاصي دون غيرها، مما لا يستحق به العذاب (ذلك) يعني ما تقدم الوعيد به (جزاء أعداء الله) الذين عادوه بالعصيان والكفر، وعادوا أولياءه من الأنبياء والمؤمنين (النار) وهي النار، والكون فيها (لهم فيها دار الخلد) أي: منزل الدوام والتأبيد (جزاء) لهم وعقوبة (بما كانوا بآياتنا يجحدون) يعني القرآن يجحدون بأنه من عند الله، عن مقاتل. (وقال الذين كفروا) أي: وسيقول الكفار في النار. (ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس) يعنون إبليس الأبالسة، وقابيل بن آدم، أول من أبدع المعصية، روي ذلك عن علي عليه السلام وقيل: المراد بذلك كل من أبدع الكفر والضلالة من الجن والإنس. والمراد باللذين. جنس الجن والإنس، كما في قوله (واللذان يأتيانها منكم) (نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) تمنوا لشدة عداوتهم لهم، وبغضهم إياهم، بما أضلوهم وأغووهم، أن يجعلوهم تحت أقدامهم في الدرك الأسفل من النار، وقيل: إن المراد به، ندوسهما ونطؤهما بأقدامنا إذلالا لهما، ليكونا من الأسفلين الأذلين. قال ابن عباس. ليكونا أشد عذابا منا. ولما ذكر سبحانه وعيد الكفار، عقبه بذكر الوعد للمؤمنين الأبرار، فقال: (إن الذين قالوا ربنا الله) أي: وحدوا الله تعالى بلسانهم، واعترفوا به، وصدقوا أنبياءه (ثم استقاموا) أي: استمروا على أن الله ربهم وحده، لم يشركوا به شيئا، عن مجاهد. وقيل: معناه ثم استقاموا على طاعته، وأداء فرائضه، عن ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. وقيل: ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم. وقيل: ثم استقاموا على ما توجبه الربوبية من عبادته، عن ابن مسلم. وروي عن
[ 21 ]
أنس قال. قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية، ثم قال: (قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حتى يموت، فهو ممن استقام عليها). وروى محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الإستقامة فقال: هي والله ما أنتم عليه. (تتنزل عليهم الملائكة) يعني عند الموت، عن مجاهد والسدي، وروي ذلك عن ابي عبد الله عليه السلام. وقيل: تستقبلهم الملائكة إذا خرجوا من قبورهم في الموقف بالبشارة من الله، عن الحسن وثابت وقتادة. وقيل: في القيامة، عن الجبائي، وابي مسلم. وقيل: إن البشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، عن وكيع بن الجراح. (ألا تخافوا ولا تحزنوا) أي: تقول لهم لا تخافوا عقاب الله، ولا تحزنوا لفوات الثواب. وقيل: لا تخافوا مما أمامكم من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما وراءكم وعلى ما خلفتم من أهل وولد، عن عكرمة ومجاهد. وقيل: لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم، عن عطاء بن أبي رياح. وقيل: إن الخوف يتناول المستقبل، والحزن يتناول الماضي. وكأن المعنى: لا تخافوا فيما يستقبل من الأوقات، ولا تحزنوا على ما مضى، وهذا نهاية المطلوب. (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) بها في دار الدنيا على ألسنة الأنبياء. * (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون [ 31 ] * نزلا من غفور رحيم [ 32 ] * ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين [ 33 ] * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 34 ] * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 35 ] *. الاعراب: (نزلا). نصب على المصدر، وتقديره: أنزلكم ربكم فيما تشتهون نزلا. ويجوز ان يكون نصبا على الحال، وتقديره: ولكم فيها ما تشتهي
[ 22 ]
أنفسكم منزلا نزلا، كما يقال: جاء زيد مشيا أي: ماشيا. والقولان جميعا يرجعان إلى كونه مصدرا. وقال أبو علي: نزلا يحتمل ضربين أحدهما: أن يكون جمع نازل، كقوله: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا، أو تنزلون، فإنا معشر نزل ويكون حالا من الضمير في تدعون أي. ما تدعون من غفور رحيم نازلين. والآخر: أن يراد به القوت الذي يقام للنازل، أو الضيف، حالا مما تدعون أي: لكم ما تدعون نزلا. (من غفور رحيم): صفة نزل، وفيه ضمير يعود إليه. (وقولا): نصب على التفسير. وقوله (ولا السيئة): لا هاهنا زائدة مؤكدة لتبعيد المساواة. المعنى: ثم حكى سبحانه أن الملائكة تقول للمؤمنين الذين استقاموا بعد البشارة: (نحن أولياؤكم) أي: نحن معاشر الملائكة أنصاركم وأحباؤكم (في الحياة الدنيا) نتولى إيصال الخيرات إليكم من قبل الله تعالى (وفي الآخرة) فلا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة، عن مجاهد. وقيل: كنا نتولى حفظكم في الدنيا بأنواع المعونة، وفي الآخرة نتولاكم بأنواع الإكرام والمثوبة. وقيل: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا أي: نحرسكم في الدنيا، وعند الموت، وفي الآخرة، عن أبي جعفر عليه السلام. (ولكم فيها) أي: في الآخرة (ما تشتهي أنفسكم) من الملاذ، وتتمنونه من المنافع (ولكم فيها ما تدعون) أنه لكم. فإن الله سبحانه يحكم لكم بذلك. وقيل. إن المراد بقوله (ما تشتهي أنفسكم) البقاء، لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا. أي: لكم فيها ما كنتم تشتهون من البقاء، ولكم فيها ما كنتم تتمنونه من النعيم، عن ابن زيد. (نزلا من غفور رحيم) معناه: إن هذا الموعود به، مع جلالته في نفسه، له جلالة بمعطيه إذ هو عطاء لكم، ورزق يجري عليكم ممن يغفر الذنوب، ويستر العيوب، رحمة منه لعباده، فهو أهنأ لكم، وأكمل لسروركم. قال الحسن: أرادوا أن جميع ذلك من الله، وليس منا. وفي هذه الآية بشارة للمؤمنين بمودة الملائكة لهم. وفيها بشارة بنيل مشتهياتهم في الجنة. وفيها دلالة على أن الملائكة تتردد إلى من كان مستقيما على الطاعات، وعلى شرف الإستقامة أيضا تتولى الملائكة صاحبها من أجلها.
[ 23 ]
(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا) صورته صورة الإستفهام، والمراد به النفي، تقديره: وليس أحد أحسن قولا ممن دعا إلى طاعة الله، وأضاف إلى ذلك أن يعمل الأعمال الصالحة (وقال إنني من المسلمين) أي: ويقول مع ذلك إنني من المستسلمين لأمر الله، المنقادين إلى طاعته. وقيل: معناه ويقول إنني من جملة المسلمين، كما قال إبراهيم: (وأنا أول المسلمين). وهذا الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن وابن زيد والسدي. وقيل: هو وجميع الأئمة الدعاة الهداة إلى الحق، عن مقاتل وجماعة من المفسرين. وقيل: هم المؤذنون، عن عائشة وعكرمة. وفي هذه الآية رد على من قال أنا مؤمن إن شاء الله، لأنه مدح من قال إنني من المسلمين، من غير أن يقرنه بالمشيئة. وفي هذه الآية دلالة على أن الدعاء إلى الدين من أعظم الطاعات، وأجل الواجبات. وفيها دلالة على أن الداعي يجب أن يكون عاملا بعلمه، ليكون الناس إلى القبول منه أقرب، وإليه أسكن. ثم قال سبحانه: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قيل: معناه لا تستوي الملة الحسنة التي هي الإسلام، والملة السيئة التي هي الكفر. وقيل: معناه لا تستوي الأعمال الحسنة، ولا الأعمال القبيحة. وقيل: لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة، فلا يستوي الصبر والغضب، والحلم والجهل، والمداراة والغلظة، والعفو والإساءة. ثم بين سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعو، فقال: (إدفع بالتي هي أحسن) [ خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إدفع بالتي هي أحسن ] (1). خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إدفع بحقك باطلهم، وبحلمك جهلهم، وبعفوك إساءتهم. (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) معناه: فإنك إذا دفعت خصومك بلين ورفق ومداراة، صار عدوك الذي يعاديك في الدين، بصورة وليك القريب، فكأنه وليك في الدين، وحميمك في النسب. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: إن الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة. (وما يلقاها) أي وما يلقى هذه الفعلة، وهذه الحالة التي هي دفع السيئة بالحسنة (إلا الذين صبروا) على كظم الغيظ واحتمال المكروه. وقيل. إلا الذين صبروا في الدنيا على الأذى، عن أبي عبد الله عليه السلام. (وما يلقاها) أي وما يلقى (1) ما بين المعقفتين زائد. (*)
[ 24 ]
هذه الخصلة المذكورة ولا يؤتاها (إلا ذو حظ عظيم) أي: ذو نصيب وافر من الرأي والعقل. وقيل: إلا ذو نصيب عظيم من الثواب والخير. وقيل: الحظ العظيم الجنة، عن قتادة، وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: وما يلقاها إلا كل ذي حظ عظيم. النظم: اتصل قوله (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) الآية. بما قبله من قوله. (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) الآية. فكأنه قال: ألا تتعجبون من إعراض الكفار عن استماع القرآن، وتواصيهم فيما بينهم باللغو في قراءته، ولا قائل أحسن قولا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم إلى من تقرون أنه خالقكم، ثم إنه قد عمل في دينه بما دعاكم إليه، فانتفت عنه التهمة من جميع الوجوه. * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 36 ] * ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 37 ] * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون [ 38 ] * ومن آياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتى إنه على كل شئ قدير [ 39 ] * إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير [ 40 ] * إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز [ 41 ] * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 42 ] *. اللغة: النزغ. النخس (1) بما يدعو إلى الفساد، يقال: نزغ ينزغ، وفلان ينزغ فلانا، كأنه ينخسه بما يدعوه إلى خلاف الصواب. وألحد: مال عن الحق، ويقال (1) نخس الدابة نخسا: غرز مؤخرها، أو جنبها بعود ونحوه، فهاجت. ونخس بفلان: هيجه وأزعجه. (*)
[ 25 ]
لحد يلحد أيضا بمعناه. ويسمى القرآن ذكرا، لأنه ذكر فيه الدلائل، والأحكام. الاعراب: (وإما ينزغنك). هي إن التي للجزاء، زيد عليها ما تأكيدا، فأشبه لذلك القسم. فلذلك دخل الفعل نون التأكيد (إن الذين كفروا بالذكر) لم يذكر لأن خبرا. والتقدير: إن الذين كفروا بالذكر مبتدأ الخبر، معذبون. فحذف الخبر. ويجوز أن يكون الخبر (أولئك ينادون من مكان بعيد). المعنى: ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يستعيذ بالله إذا صرفه الشيطان عن الإحتمال فقال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) (1) إن ما يدعونك نزغ من الشيطان بالوسوسة (فاستعذ بالله) أي: فاطلب الإعتصام من شره بالله (إنه هو السميع العليم) الآية مفسرة في آخر سورة الأعراف. ثم ذكر سبحانه دلالات التوحيد، فقال: (ومن آياته) أي: حججه الدالة على وحدانيته، وادلته على صفاته التي باين بها جميع خلقه (الليل) بذهاب الشمس عن بسيط الأرض (والنهار) بطلوعها على وجهها، وتقديرهما على وجه مستقر، وتدبيرهما على نظام مستمر. (والشمس والقمر) وما اختصا به من النور، وظهر فيهما من التدبير في المسير والتعريف في فلك التدوير (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) وإن كان فيهما منافع كثيرة لأنهما ليسا بخالقين (واسجدوا لله الذي خلقهن) وأنشأهن. وإنما قال (خلقهن) لوجهين أحدهما. إن ضمير غير ما يعقل على لفظ التأنيث تقول: هذه كباشك (2) فسقها، وإن شئت قلت: فسقهن والآخر: إن الضمير يرجع إلى معنى الآيات، لأنه قال: (ومن آياته) هذه الأشياء، واسجدوا لله الذي خلقهن. (إن كنتم إياه تعبدون) إن كنتم تقصدون بعبادتكم الله كما تزعمون فاسجدوا لله دون غيره. ثم قال: (فإن استكبروا) عن توجيه العبادة إلى الله وحده (فالذين عند ربك) وهم الملائكة (يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) أي لا يملون ولا يفترون، وهو مفسر في سورة الأعراف، والمروي عن ابن عباس وقتادة وابن المسيب أن موضع السجود عند قوله (هم لا يسأمون). وعن ابن مسعود والحسن أنه عند قوله: (إن كنتم إياه تعبدون) وهو اختيار أبي عمرو بن العلا، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. (1) [ معناه ]. (2) جمع كبش: وهو الحمل إذا دخل في السنة الثانية. (*)
[ 26 ]
(ومن آياته) أي من أدلته الدالة على ربوبيته (أنك ترى الأرض خاشعة) أي غبراء دارسة متهشمة، عن قتادة والسدي. أي كان حالها حال الخاضع المتواضع. وقيل: ميتة يابسة لا نبات فيها. قال الأزهري: إذا يبست الأرض، ولم تمطر قيل: قد خشعت. (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) أي تحركت بالنبات، وربت أي انتفخت وارتفعت قبل أن تنبت. وقيل: (اهتزت) بالنبات (وربت) بكثرة ريعها، عن الكلبي. (إن الذي أحياها) أي: أحيا الأرض بما أنزله من المطر (لمحي الموتى) في الآخرة مثل ذلك (إنه على كل شئ قدير) ظاهر المعنى. (إن الذين يلحدون في آياتنا) أي: إن الذين يميلون عن الإيمان بآياتنا (لا يخفون علينا) بأشخاصهم وأقوالهم وأفعالهم. وهذا وعيد، عن قتادة وابن زيد والسدي. وقد قيل: إن معنى الإلحاد في آيات الله، هو ما كانوا يفعلونه من المكاء والصفير، عن مجاهد. وقيل: هو تبديلهم ذلك، ووضعه في غير موضعه، عن ابن عباس. وقال بعض المفسرين: إن المراد بالآيات هنا دلالات التوحيد والإلحاد فيها: الانحراف عنها، وترك الإستدلال بها. ثم قال سبحانه على وجه الإنكار عليهم، والتهجين لفعلهم، والتهديد لهم: (أفمن يلقى في النار خير) وهم الملحدون (أم من يأتي آمنا يوم القيامة) من عذاب الله، وهم المؤمنون المطيعون. وهذا استفهام تقرير معناه: إنهما لا يستويان. وقيل: إن الذي يلقى في النار أبو جهل، والذي ياتي آمنا يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مقاتل. وقيل: هو عمار بن ياسر، عن عكرمة. والصحيح أن الآية على العموم، والمراد بهما المؤمن والكافر. ثم قال سبحانه: (اعملوا ما شئتم) لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد والتهديد أي: فإذا علمتم أنهما لا يستويان، فليختر كل واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين، فإن العاقل لا يختار الإلقاء في النار، فإذا لم يختر ذلك، فلا بد أن يؤمن بالآيات، فلا يلحد فيها. (إنه بما تعملون) أي: بأعمالكم (بصير) عالم لا يخفى عليه شئ منها. ثم أخبر سبحانه عنهم مهجنا لهم، فقال: (إن الذين كفروا بالذكر) الذي هو القرآن، وجحدوه (لما جاءهم) أي: حين جاءهم. ثم أخذ سبحانه في وصف
[ 27 ]
الذكر، وترك خبر (إن) على تقدير إن الذين كفروا بالذكر، يجازون بكفرهم، ونحو ذلك. وقيل: إن خبره (أولئك ينادون من مكان بعيد) عن أبي عمرو بن العلا. وقيل. إن قوله (وإنه لكتاب عزيز) في موضع الخبر، والتقدير: الكتاب الذي جاءهم عزيز. وأما قوله (وإنه) فالهاء يعود إلى القرآن الذي هو الذكر، والمعنى: إن الذكر لكتاب عزيز، بأنه لا يقدر أحد من العباد على أن ياتي بمثله. وقيل: إنه عزيز بإعزاز الله - عزوجل - إياه، إذ حفظه من التغيير والتبديل. وقيل: هو عزيز إذ جعله الله على أتم صفات الإحكام. وقيل: عزيز بأنه يجب أن يعز ويجل بالإنتهاء إلى ما فيه، وترك الإعراض عنه. وقيل: عزيز أي كريم على الله، عزوجل، عن ابن عباس. (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) قيل فيه أقوال أحدها: إن الباطل الشيطان، ومعناه: لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقا، أو يزيد فيه باطلا، عن قتادة والسدي. وثانيها: إنه لا يأتيه ما يبطله من بين يديه أي: من الكتب التي قبله، ولا من خلفه أي. لا يجئ من بعده كتاب يبطله أي ينسخه، عن ابن عباس والكلبي ومقاتل. وثالثها: معناه أنه ليس في إخباره عما مضى باطل، ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام. ورابعها: لا يأتيه الباطل من أول تنزيله، ولا من آخره، عن الحسن. وخامسها: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات، فلا تناقض في ألفاظه، ولا كذب في أخباره، ولا يعارض، ولا يزاد فيه، ولا يغير، بل هو محفوظ حجة على المكلفين إلى يوم القيامة، ويؤيده قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون). (تنزيل من حكيم) أي: هو تنزيل من عالم بوجوه الحكمة (حميد) مستحق للحمد على خلقه بالإنعام عليهم، والقرآن هو من أعظم نعمه، فاستحق به الحمد والشكر. * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم [ 43 ] * ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءاعجمى وعربي قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون فئ آذانهم وقر وهو
[ 28 ]
عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد [ 44 ] * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب [ 45 ] *. القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص: (أأعجمي) بهمزتين. وقرأ هشام، عن ابن عامر بهمزة واحدة. وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة. الحجة: قال أبو علي: الأعجمي الذي لا يفصح، من العرب كان أو من العجم، قالوا زياد الأعجم لآفة كانت في لسانه، وكان عربيا. وقالوا: صلاة النهار عجماء، أي تخفى فيها القراءة ولا تبين، ويجمع الأعجم على عجم. أنشد أبو زيد: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا إلى ربنا صوت الحمار اليجدع (1) أي: أبغض صوت العجم صوت الحمار. وتسمي العرب من لم يبين كلامه، من أي صنف كان من الناس أعجم، ومنه قول ابن الأخزر: سلوم (2) لو أصبحت وسط الأعجم بالروم، أو بالترك، أو بالديلم فقال: لو كنت وسط الأعجم. ولم يقل وسط العجم، لأنه جعل كل من لم يبن كلامه أعجم، فكأنه قال: وسط القبيل الأعجم. والعجم خلاف العرب. والعجمي خلاف العربي، منسوب إلى العجم. وإنما قوبل الأعجمي بالعربي في الآية، وخلاف العربي العجمي، لأن الأعجمي في أنه لا يبين مثل العجمي عندهم. فمن حيث اجتمعا في أنهما لا يبينان، قوبل به العربي في قوله (أعجمي وعربي). وينبغي أن يكون الأعجمي الياء فيه للنسب، نسب إلى الأعجم الذي لا يفصح، وهو في المعنى كالعجمي، وإن كانا يختلفان في النسبة، فيكون الأعجمي عربيا. ويجوز أن يقال للرجل أعجمي، ويراد به ما يراد بأعجم بغير ياء النسب، كما يقال أحمر (1) الخنا: الفحش في الكلام. وجدعه: قطع أنفه. والمراد من قوله أبغض... الخ: تهجين المهجو بتشبيهه في قول الخنا بالحمار المجدع. وتوصيف الحمار بجدع الانف، لانه إذا قطع انفه صار صوته انكر. (2) سلوم: منادى. (*)
[ 29 ]
واحمري، ودوار ودواري. وقوله: ولو نزلناه على بعض الاعجمين مما جمع على إرادة ياء النسب فيه، مثل قولهم النميرون. ولولا ذلك لم يجز جمعه بالواو والنون. الا ترى انك لا تقول في الاحمر إذا كان صفة احمرون، وانما جاز الاعجمون لما ذكرنا. فأما الاعاجم، فينبغي ان تكون تكسير اعجمي، كما كان المسامعة تكسير مسمعي. وقد استعمل هذا الوصف استعمال الاسماء فمن ذلك قوله: (حزق يمانية لاعجم طمطم) (1). فينبغي أن يكون من باب الأجارع (2) والأباطح. وأما قوله تعالى: (أعجمي وعربي) فالمعنى المنزل أعجمي، والمنزل عليه عربي، فقوله أعجمي وعربي يرتفع كل منهما على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهذه الآية في المعنى كقوله: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين). المعنى: ثم عزى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على تكذيبهم، فقال: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) أي: ما يقول هؤلاء الكفار لك، إلا ما قد قيل للأنبياء قبلك، من التكذيب والجحد لنبوتهم، عن قتادة والسدي والجبائي. وقيل: معناه ما يقول الله لك إلا ما قد قاله للرسل من قبلك، وهو الأمر بالدعاء إلى الحق في عبادة الله، ولزوم طاعته. فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب. وقيل: معناه ما حكاه تعالى بعده من (إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) فيكون على جهة الوعد والوعيد أي: إنه لذو مغفرة لمن آمن بك، وذو عقاب أليم لمن كذب بك. (ولو جعلناه قرآنا أعجميا) أي: لو جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس، بغير لغة العرب (لقالوا لولا فضلت آياته) أي: هلا بينت بلسان العرب حتى نفهمه (أأعجمي وعربي) أي: كتاب أعجمي، ونبي عربي. وهذا استفهام على وجه الإنكار، والمعنى. إنهم كانوا يقولون المنزل عليه عربي، والمنزل أعجمي، وكان ذلك أشد لتكذيبهم، فبين الله سبحانه أنه أنزل الكتاب بلغتهم، وأرسل الرسول من عشيرتهم، ليكون أبلغ في الحجة، وأقطع للمعذرة. (1) الحزق جمع حزقة أي: الجماعات. وطمطم من في نطقه عجمة أي: تأوي أفراخ النعام إلى الظليم، وهو الذكر من النعام، كما تأوي الإبل اليمانية إلى راع أعجم عي لا يفصح. وجه الشبه شدة سواد الظليم والراعي، وشدة سواد القلوص والإبل اليمانية. (2) جمع الأجرع أي: رملة مستوية لا تنبت شيئا. (*)
[ 30 ]
(قل) يا محمد لهم (هو) أي: القرآن (للذين آمنوا هدى) من الضلالة (وشفاء) من الأوجاع. وقيل: وشفاء للقلوب من كل شك وريب وشبهة. وسمى اليقين شفاء كما سمى الشك مرضا في قوله: (في قلوبهم مرض). (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أي ثقل وصمم عن سماعه من حيث يثقل عليهم استماعه، فلا ينتفعون به، فكأنهم صم عنه (وهو عليهم عمى) عميت قلوبهم عنه، عن السدي. يعني أنهم لما ضلوا عنه، وحاروا عن تدبره، فكأنه عمى لهم (أولئك ينادون من مكان بعيد) أي: إنهم لا يسمعون، ولا يفهمون، كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع، ولم يفهم. وإنما قال ذلك لبعد أفهامهم، وشدة إعراضهم عنه، وقيل: لبعده عن قلوبهم، عن مجاهد. وقيل. ينادى الرجل منهم في الآخرة بأشنع اسمه عن الضحاك. (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي التوراة (فاختلف فيه) لأنه آمن به قوم، وكذب به آخرون. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا عن جحود قومه له، وإنكارهم لنبوته (ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن قومك، وأنه لا يعذبهم وأنت فيهم (لقضي بينهم) أي: لفرغ من عذابهم واستئصالهم. وقيل: معناه لو لا حكم سبق من ربك بتأخيرهم العذاب (1) إلى وقت انقضاء آجالهم، لقضي بينهم قبل انقضاء آجالهم، فيظهر المحق من المبطل. (وإنهم لفي شك منه مريب) أي: وإن قومك لفي شك مما ذكرناه، موقع لهم الريبة، وهو أفظع الشك. * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد [ 46 ] * إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركاءي قالوا ءاذناك ما منا من شهيد [ 47 ] * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص [ 48 ] * لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط [ 49 ] * ولئن أذقناه رحمة (1) ليس في بعض النسخ لفظة (العذاب). (*)
[ 31 ]
منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 50 ] *. القراءة: قرأ أهل المدينة والشام وحفص: (من ثمرات) على الجمع والباقون: (من ثمرة) على التوحيد. الحجة: قال أبو علي: من ثمرة إذا أفرد يدل على الكثرة، واستغني به عن الجمع. ويقوي الإفراد قوله: (وما تحمل من أنثى). وحجة من جمع أن الجمع صحيح، وأن المعنى على ذلك. اللغة: الأكمام: جمع كم وكم جمع كمة، عن ابن خالويه. وقيل: هي جمع كمة، عن أبي عبيدة، وهي الكفري (1). وتكمم الرجل في ثوبه إذا تلفف به. والإيذان: الإعلام. المعنى: ثم احتج سبحانه عليهم بأن قال: (من عمل صالحا فلنفسه) أي: من عمل طاعة فلنفسه، لأن ثواب ذلك واصل إليه، ومنفعته تكون له دون غيره (ومن أساء فعليها) أي: من عمل معصية، فعلى نفسه وبال ذلك، وعقابه يلحقه دون غيره. (وما ربك بظلام للعبيد) وهذا على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه للعبيد. وإنما قال ذلك مع أنه لا يظلم مثقال ذرة لأمرين أحدهما. إن من فعل الظلم - وإن قل - وهو عالم بقبحه، وبأنه غني عنه، لكان ظلاما. والآخر: إنه على طريق الجواب لمن زعم أنه يظلم العباد، فيأخذ أحدا بذنب غيره، ويثيبه بطاعة غيره. ثم بين سبحانه أنه العالم بوقت القيامة فقال: (إليه يرد علم الساعة) التي يقع فيها الجزاء للمطيع والعاصي، وهو يوم القيامة (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) أي وما تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها (وما تحمل من أنثي ولا تضع إلا بعلمه) أي: ولا تحمل أنثى من حمل، ذكرا كان أو أنثى، ولا تضع أنثى إلا في الوقت الذي علم (1) بتثليث الكاف والفاء: وعاء طلع النخل. (*)
[ 32 ]
سبحانه أنها تحمل فيه، وتضع فيه، فيعلم سبحانه قدر الثمار وكيفيتها وأجزاءها وطعومها وروائحها، ويعلم ما في بطون الحبالى، وكيفية انتقالها حالا بعد حال حتى يصير بشرا سويا. (ويوم يناديهم) أي: ينادي الله المشركين (أين شركائي) أي: في قولكم وزعمكم كما قال: (أين شركائي الذين كنتم تزعمون). (قالوا آذناك ما منا من شهيد) أي: يقولون أعلمناك ما منا شاهد بأن لك شريكا. يتبر أون يومئذ من أن يكون مع الله شريك. (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) أي: بطل عنهم وذهب ما كانوا أملوه من أصنامهم (وظنوا) أي: أيقنوا (ما لهم من محيص) أي من مهرب وملجأ. دخل الظن على (ما) التي للنفي، كما تدخل على لام الإبتداء. وكلاهما له صدر الكلام. والمعنى: إنهم علموا أن لا مخلص لهم من عذاب الله، وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان. ثم بين سبحانه طريقتهم في الدنيا فقال: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) قال الكلبي: الإنسان ههنا يراد به الكافر أي: لا يمل الكافر من دعائه الخير، ولا يزال يسأل ربه الخير الذي هو المال والغنى والصحة والولد. (وإن مسه الشر) أي البلاء والشدة والفقر (فيؤوس) أي فهو يؤوس شديد اليأس من الخير. (قنوط) من الرحمة. وقيل: يؤوس من إجابة الدعاء، قنوط سئ الظن بربه (ولئن أذقناه رحمة منا) أي خيرا وعافية وغنى (من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي) أي: هذا بعملي وأنا محقوق به، عن مجاهد قال: وكل هذا من أخلاق الكافر. وقيل: معناه هذا لي دائما أبدا. (وما أظن الساعة قائمة) أي: كائنة على ما يقوله المسلمون (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) أي: لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك، ورددت إلى ربي، إن لي عنده الحالة الحسنى، والمنزلة الحسنى، وهي الجنة، سيعطيني في الآخرة مثل ما أعطاني في الدنيا. ثم هدد سبحانه من هذه صفته بأن قال: (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي: لنقفنهم يوم القيامة على مساوئ أعمالهم، عن ابن عباس (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) أي شديد متراكم. * (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء
[ 33 ]
عريض [ 51 ] * قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد [ 52 ] * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد [ 53 ] * ألآ إنهم في مرية من لقاء ربهم ألآ إنه بكل شئ محيط [ 54 ] *). المعنى: ثم أخبر سبحانه عن جهل الإنسان الذي تقدم وصفه، بمواقع نعم الله سبحانه، فقال: (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) عن الشكر (ونأى بجانبه) أي: بعد بجانبه تكبرا وتجبرا عن الإعتراف بنعم الله تعالى. ومن قرأ (ناء): فإنه مقلوب من نأى، كما في قول الشاعر: أقول وقد ناءت بها غربة النوى نوى خيتعور لا تشط ديارك (1) (وإذا مسه الشر) أي الضر أو الفقر أو المرض (فذو دعاء عريض) أي: فهو ذو دعاء كثير عند ذلك، عن السدي. وإنما قال (فذو دعاء عريض) ولم يقل طويل لأنه أبلغ. فإن العرض يدل على الطول، والطول لا يدل على العرض، إذ قد يصح طويل ولا عرض له، ولا يصح عريض ولا طول له. فإن العرض الإنبساط في خلاف جهة الطول، والطول الإمتداد في أي جهة كان. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر القائلين بأنه ليس لله على الكافر نعمة، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ينعم على الكافر، وأنه يعرض عن موجبها من الشكر. والمراد بالآية أن الكافر يسأل ربه بالتضرع والدعاء أن يكشف ما به من الضر والبلاء، ويعرض عن الدعاء في الرخاء. (قل) يا محمد (أرأيتم إن كان) القرآن (من عند الله) وقيل: إن كان هذا الإنعام من عند الله (ثم كفرتم به) وجحدتموه (من أضل ممن هو في شقاق بعيد) أي في خلاف للحق، بعيد عنه، وهو أنتم. والشقاق والمشاقة: الميل إلى شق العداوة أي: فلا أحد أضل منكم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) إختلف في (1) الخيتعور: كل شئ لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب، وبمعنى الغول.. وشط يشط شطأ وشطوطا: بعد. ولا تشط ديارك محكى أقول في صدر البيت. ونوى خيتعور: مفعول مطلق نوعي لقوله: ناءت، وهو محل الإستشهاد. (*)
[ 34 ]
معناه على أقوال أحدها: إن المعنى سنريهم حججنا ودلائلنا على التوحيد في آفاق العالم، وأقطار السماء والأرض، من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والبحار والجبال، وفي أنفسهم وما فيها من لطائف الصنعة، وبدائع الحكمة. (حتى يتبين لهم) أي: يظهر لهم (أنه الحق) أي أن الله هو الحق، عن عطاء وابن زيد وثانيها: إن معناه سنريهم آياتنا ودلائلنا على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحة نبوته في الآفاق أي: بما يفتح من القرى عليه، وعلى المسلمين في أقطار الأرض، وفي أنفسهم، يعني فتح مكة، عن السدي والحسن ومجاهد. وقالوا: هو ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الآفاق، وعلى مكة، حتى يعرفوا أن ما أتى به من القرآن حق، ومن عند الله، لأنهم بذلك يعرفون أنه مؤبد من قبل الله تعالى، بعد أن كان واحدا لا ناصر له وثالثها: إن المراد بقوله في الآفاق، وقائع الله في الأمم، وفي أنفسهم وقعة يوم بدر، عن قتادة ورابعها: إن معناه سنريهم آياتنا في الآفاق بصدق ما كان يخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحوادث فيها، وفي أنفسهم، يعني ما كان بمكة من انشقاق القمر حثى يعلموا أن خبره حق من قبل الله سبحانه وخامسها: إن المراد سنريهم آثار من مضى من قبلهم، ممن كذب الرسل من الأمم، وآثار خلق الله في كل البلاد، وفي أنفسهم، من أنهم كانوا نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما، ثم كسيت لحما، ثم نقلوا إلى التمييز والعقل، وذلك كله دليل على أن الذي فعله واحد، ليس كمثله شئ، عن الزجاج. (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) موضع قوله (بربك) رفع. والمعنى: أو لم يكف ربك، و (أنه على كل شهيد) في موضع رفع أيضا على البدل. وإن حملته على اللفظ فهو في موضع جر، والمفعول محذوف وتقديره: أو لم يكف شهادة ربك على كل شئ. ومعنى الكفاية هنا أنه سبحانه بين للناس ما فيه كفاية من الدلالة على توحيده، وتصحيح نبوة رسله. قال مقاتل: معناه أولم يكف ربك شاهدا، أن القرآن من عند الله. وقيل: معناه أولم يكف ربك، لأنه على كل شئ شهيد أي: عليم بالأشياء، شاهد لجميعها، لا يغيب عنه شئ. (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) ألا: كلمة تنبيه وتأكيد أن الكفار في شك من لقاء ثواب ربهم وعقابه أي: في شك من مجازاة ربهم. وفي هذا تسفيه لهم في إضافة العبث إلى الله. (ألا إنه بكل شئ محيط) أي: أحاط علمه بكل شئ، فلا يخفى عليه شئ.
[ 35 ]
42 - سورة الشوري مكية وآياتها ثلاث وخمسون وتسمى سورة حم عسق أيضا، وهي مكية، عن الحسن إلا قوله: (والذين استجابوا والذين إذا أصابهم) إلى قوله: (لا يحب الظالمين). وعن ابن عباس وقتادة إلا أربع آيات منها نزلن في المدينة: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قال ابن عباس: ولما نزلت هذه الآية قال رجل: والله ما أنزل الله هذه الآية، فأنزل الله: (أم يقولون افترى على الله كذبا). ثم إن الرجل تاب وندم. فنزل: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) إلى قوله (لهم عذاب شديد). عدد آيها: ثلاث وخمسون آية كوفي، وخمسون في الباقي. إختلافها: ثلاث آيات حم عسق كالإعلام ثلاثهن كوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ سورة حم عسق، كان ممن يصلي عليه الملائكة، ويستغفرون له ويسترحمون). وروى سيف بن عميرة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ حم عسق، بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتى يقف بين يدي الله، عز وجل، فيقول: عبدي أدمنت قراءة حم عسق، ولم تدر ما ثوابها. أما لو دريت ما هي، وما ثوابها، لما مللت من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة. وله فيها قصر من ياقوتة حمراء، أبوابها وشرفها ودرجها منها، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وله فيها حوراوان من الحور العين، وألف جارية، وألف غلام من الولدان المخلدين الذين وصفهم الله. تفسيرها: ختم الله سورة حم السجدة، بذكر القرآن، وافتتح هذه السورة بذكره أيضا فقال:
[ 36 ]
* بسم الله الرحمن الرحيم * * (حم [ 1 ] * عسق [ 2 ] * كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [ 3 ] * له ما في السماوات وما في الارض وهو العلي العظيم [ 4 ] * تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألآ إن الله هو الغفور الرحيم [ 5 ] *. القراءة: قرأ ابن كثير: (كذلك يوحى إليك) بفتح الحاء. والباقون: (يوحي) بكسر الحاء. وفي الشواذ رواية الأعمش، عن ابن مسعود: (حم سق) بغير عين. الحجة: قال أبو على: من قرأ يوحى، فبنى الفعل للمفعول به احتمل أمرين أحدهما. إن المعنى يوحى إليك السورة، كما أوحي إلى الذين من قبلك، زعموا أن هذه السورة قد أوحي إلى الأنبياء قبل والآخر: أن يكون الجار والمجرور يقومان مقام الفاعل. ويجوز أن يكون قوله تعالى: (الله العزيز الحكيم) تبيينا للفاعل، كقوله (يسبح له فيها). ثم قال رجال: كأنه قيل من يسبح فقال: رجال. ومن قرأ يوحي إليك، على بناء الفعل للفاعل، فإن اسم الله يرتفع بفعله. وأما اختلاف القراء في يتفطرن وينفطرن والوجه في ذلك، قد مر ذكره في سورة مريم. وقال ابن جني: قراءة ابن مسعود (حم سق) مما يؤكد أن الغرض في هذه الفواتح إنما هو لكونها فواصل بين السور، ولو كان في أسماء الله سبحانه، لما جاز تحريف شئ منها، بل كانت مؤداة بأعيانها. وقد كان ابن عباس قد قرأها بلا عين أيضا. وكان يقول: السين كل فرقة تكون والقاف كل جماعة تكون. المعنى: (حم) قد مضى تفسيره، (عسق) قيل: إنما فضلت هذه السورة من بين سائر الحواميم بعسق، لأن جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به، إلا هذه، فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب دلالة التضمين، وإن لم يدل عليه دلالة التصريح، وهو معنى قول قتادة، فإنه قال: هو اسم من أسماء القرآن. وقيل: لأن هذه السورة انفردت بأن معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء، فلذلك خصت بهذه
[ 37 ]
التسمية. وقال عطا: هي حروف مقطعة من حوادث آتية. فالحاء من حرب، والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين من الإستئصال بسنين كسني يوسف، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض. وسائر الأقوال في ذلك مذكورة في أول البقرة. (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) أي: كالوحي الذي تقدم يوحي إليك أخبار الغيب وما يكون قبل أن يكون، وإلى الذين من قبلك من الأنبياء، عن عطا، عن ابن عباس، قال: وما من نبي أنزل الله عليه الكتاب، إلا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم. وقيل: معناه كهذا الوحي الذي يأتي في هذه السورة، يوحي إليك، لأن ما لم يكن حاضرا تراه صلح فيه هذا، لقرب وقته، وذلك لبعده في نفسه. ومعنى التشبيه في كذلك أن بعضه كبعض في أنه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد. (الله) الذي تحق له العبادة (العزيز) القادر الذي لا يغالب (الحكيم) المحكم لأفعاله (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي) المستعلي على كل قادر (العظيم) شأنه (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) أي: تكاد كل واحدة من السماوات تنشق من فوق التي تليها من قول المشركين: اتخذ الله ولدا، استعظاما لذلك، عن ابن عباس والحسن. وقيل: معناه تكاد السموات يتشققن فرقا من عظمة الله وجلاله. من فوقهن تقديره ممن فوقهن، أي من عظمة من فوقهن، عن الضحاك وقتادة والزجاج. وقيل: من فوقهن أي من فوق الأرضين، وهذا على طريق التمثيل. والمعنى: لو كانت السماوات تنفطر لشئ لا نفطرت لهذا. (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) أي: ينزهونه عما لا يجوز عليه في صفاته، ويعظمونه عما لا يليق به في ذاته وأفعاله. وروى عن أبي عبد الله عليه السلام: والملائكة، ومن حول العرش يسبحون بحمد ربهم لا يفترون. (ويستغفرون لمن في الأرض) من المؤمنين (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) والمعنى ظاهر. * (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل [ 6 ] * وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع
[ 38 ]
لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 7 ] * ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشآء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير [ 8 ] * أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شئ قدير [ 9 ] * وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب [ 10 ] *. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن إمهاله الكفار بعد تقديم الإنذار، فقال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء) أي: آلهة عبدوها من دون الله، يعني كفار مكة (الله حفيظ عليهم) أي: حافظ عليهم أعمالهم، لا يعزب شئ منها عنه ليجازيهم على ذلك كله (وما أنت) يا محمد (عليهم بوكيل) أي: وما أنت بمسلط عليهم لتدخلهم في الإيمان قهرا. وقيل: معناه إنك لم توكل بحفظ أعمالهم، وإنما بعثت نذيرا لهم، داعيا إلى الله، مبينا سبيل الرشد أي: فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم إياك. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا) أي: ومثل ما أوحينا إلى من تقدمك من الأنبياء بالكتب التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم، أوحينا إليك قرآنا بلغة العرب، ليفقهوا ما فيه. (لتنذر أم القرى ومن حولها) أي: لتنذر أهل ام القرى، وهي مكة ومن حولها من سائر الناس، وقرى الأرض كلها. (وتنذر يوم الجمع) أي: وتنذرهم يوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وأهل السماوات والأرضين. يوم الجمع مفعول ثان لتنذر، وليس بظرف. (لا ريب فيه) اي: لا شك في كونه. ثم قسم سبحانه اهل يوم الجمع فقال: (فريق في الجنة وفريق في السعير) اي: فريق منهم في الجنة بطاعتهم، وفريق منهم في النار بمعصيتهم (ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة) اي: ولو شاء الله ان يحملهم على دين واحد وهو الاسلام، بأن يلجئهم إليه، لفعله. ولكنه لم يفعله لانه يؤدي الى ابطال التكليف، والتكليف انما يثبت مع الاختيار، عن الجبائي. وقيل: ان معناه ولو شاء الله لسوى بين الناس في المنزلة بأن يخلقهم في الجنة، ولكنه اختار لهم اعلى الدرجتين، وهو استحقاق الثواب.
[ 39 ]
(ولكن يدخل من يشاء في رحمته) وهم المؤمنون (والظالمون ما لهم من ولي) يواليهم (ولا نصير) يمنع عنهم عذاب الله (أم اتخذوا من دونه أولياء) أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام والأوثان، يوالونهم (فالله هو الولي) معناه: إن المستحق للولاية في الحقيقة هو الله تعالى دون غيره، لأنه المالك للنفع والضر (وهو يحي الموتى) أي يبعثهم للجزاء (وهو على كل شئ قدير) من الإحياء والإماتة وغير ذلك. (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) معناه: إن الذي تختلفون فيه من أمور دينكم ودنياكم، وتتنازعون فيه، فحكمه إلى الله، فإنه الفاصل بين المحق والمبطل فيه، فيحكم للمحق بالثواب والمدح، وللمبطل بالعقاب والذم. وقيل: معناه فبيان الصواب إلى الله بنصب الأدلة. وقيل: فحكمه إلى الله يوم القيامة فيجازي كل أحد بما يستحقه. (ذلكم الله) الذي يحكم بين المختلفين (ربي) أي هو ربي (عليه توكلت) في مهماتي (وإليه أنيب) أي: إليه أرجع في جميع أموري. * (فاطر السماوات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرءكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير [ 11 ] * له مقاليد السماوات والارض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم [ 12 ] * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب [ 13 ] * وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب [ 14 ] * فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواء هم وقل ءامنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لا عدل بينكم الله ربنا وربكم لنا
[ 40 ]
أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير [ 15 ] *. اللغة: الذرأ: إظهار الخلق بإيجاده. يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم. ومنه ملح ذرآني لظهور بياضه. ويقال: أنمى الله ذراك وذروك أي: ذريتك، عن الأزهري. وشرع الله الدين أي: بين وأظهر. ومنه المشرعة والشريعة، لأنهما في مكان معلوم ظاهر من الأنهار. فالشريعة والشرعة: الظاهر المستقيم من المذاهب التي شرعها الله. الاعراب: (أن أقيموا الدين): يجوز أن يكون موضعه رفعأ ونصبا وجرا، فالرفع على معنى هو أن أقيموا الدين، والنصب على معنى شرع لكم أن أقيموا الدين، والجر على البدل من الهاء في به. وجائز أيضا أن يكون أن اقيموا الدين نفسيرا لما وصى به نوحا، ولقوله: (والذي أوحينا إليك)، ولقوله: (وما وصينا به إيراهيم) فيكون المعنى: شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين، وترك الفرقة فيه. المعنى: ثم وصف سبحانه نفسه بما يوجب أن لا يعبد غيره، فقال. (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما ابتداء (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أي أشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن إليها ويألفها (ومن الأنعام أزواجا) أي: ذكورا وإناثا لتكمل منافعكم بها، كما قال: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) إلى آخره. (يذرؤكم فيه) أي يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج. فالهاء في (فيه) يعود إلى الجعل المراد بقوله (جعل لكم). وقيل. معناه يذرؤكم في التزاوج لتكثروا به لدلالة الكلام عليه، وهو ذكر الأزواج. ومثله قول ذي الرمة: ومية أحسن الثقلين جيدا، وسالفة، وأحسنه قذالا (1) أي: وأحسن من ذكر يعني الثقلين. وقال الزجاج والفراء: معناه يذرؤكم به، أي يكثركم بأن جعل من أنفسكم أزواجا، ومن الأنعام أزواجا. وأنشد الأزهري في ذلك: (1) مية معشوقته. السالفة: صفحة العنق. وقيل: ناحية مقدمها من لدن معلق القرط إلى فقرة الترقوة. والقذال: جماع مؤخر الرأس. وقيل: ما بين نقرة القفا إلى الأذن. (*)
[ 41 ]
وأرغب فيها عن لقيط وأهله، ولكنني عن سنبس لست أرغب أي: أرغب بها عن لقيط (ليس كمثله شئ) أي ليس مثله شئ. والكاف زائدة مؤكدة لمعنى النفي. قال أوس بن حجر: وقتلى كمثل جذوع النخيل يغشاهم سبل منهمر (1) وقال آخر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم، ما إن كمثلهم في الناس من أحد وقيل: معناه أنه لو قدر لله تعالى مثل لم يكن لذلك المثل مثل، لما تقرر في العقول أن الله تعالى متفرد بصفات لا يشاركه فيها غيره. فلو كان له مثل لتفرد بصفات لا يشاركه فيها غيره، فكان هو الله. وقد دل الدليل على أنه ليس مع الله إله آخر. وقيل: فيه حذف مضاف، ومثل بمعنى الصفة تقديره: ليس كصاحب صفته شئ، وصاحب صفته هو، أي ليس كهو شئ. والوجه هو الأول. (وهو السميع البصير) لما نفى أن يكون له نظير وشبيه، على وجه من الوجوه بين أنه مع ذلك سميع بصير، فإنما المدحة في أنه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا لجميع المسموعات والمبصرات. (له مقاليد السماوات والأرض) أي: مفاتيح أرزاق السماوات والأرض، وأسبابها. فتمطر السماء بأمره، وتنبت الأرض بإذنه، عن مجاهد. وقيل: معناه خزائن السماوات والأرض، عن السدي (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي: يوسع الرزق لمن يشاء، ويضيق على من يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد (إنه بكل شئ عليم) فيفعل ذلك بحسب المصالح. ثم خاطب سبحانه خلقه فقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) أي: بين لكم ونهج وأوضح من الدين والتوحيد والبراءة من الشرك، ما وصى به نوحا (والذي أوحينا إليك) أي: وهو (2) الذي أوحينا إليك يا محمد (و) وهو (ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى). ثم بين ذلك بقوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (1) السبل: المطر النازل من السحاب قبل أن يصل إلى الأرض. (2) لا يخفى أن قوله تعالى: الذي.. وما وصينا مفعول لشرع كما في سائر التفاسير، وهو رحمه الله تبع (البيان) وأرجع ضمير هو إلى (المشروع) المستفاد من ذيل الآية (أن أقيموا الدين). ولا يخفى ما فيه. (*)
[ 42 ]
وإقامة الدين التمسك به، والعمل بموجبه، والدوام عليه، والدعاء إليه. ولا تتفرقوا أي: ولا تختلفوا فيه، وائتلفوا فيه واتفقوا، وكونوا عباد الله إخوانا. (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) من توحيد الله، والإخلاص له، ورفض الأوثان، وترك دين الآباء، لأنهم قالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا). ومعناه: ثقل عليهم وعظم اختيارنا لك بما تدعوهم إليه، وتخصيصك بالوحي والنبوة دونهم. (الله يجتبي إليه من يشاء) أي: ليس إليهم الاختيار لأن الله يصطفي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة، وتحمله لها، فاجتباك الله لها كما اجتبى من قبلك من الأنبياء. وقيل: معناه الله يصطفي من عباده لدينه من يشاء (ويهدي إليه من ينيب) أي: ويرشد إلى دينه من يقبل إلى طاعته. وهذا كقوله (والذين اهتدوا زادهم هدى). وقيل: يهدي إلى جنته وثوابه من يرجع إليه بالنية والإخلاص. ثم قال: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم) معناه: وإن هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن أتاهم طريق العلم بصحة نبوتك، فعدلوا عن النظر فيه (بغيا بينهم) أي: فعلوا ذلك للظلم والحسد والعداوة، والحرص على طلب الدنيا. وقيل: معناه وما تفرقوا عنه أي عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن علموا أنه حق، ولكنهم تفرقوا عنه حسدا له، وخوفا أن تذهب رئاستهم. (ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) معناه: ولو لا وعد الله تعالى وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم، وتأخر العذاب عنهم في الحال، لفصل بينهم الحكم، وأنزل عليهم العذاب الذي استحقوه عاجلا. وقيل: معناه ولو لا وعد الله بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، وهو الأجل المسمى، لقضي بينهم بإهلاك المبطل، وإثابة المحق. (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) معناه: وإن اليهود والنصارى الذين أورثوا الكتاب من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ومن بعد أحبارهم، لفي شك من القرآن، أو من محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤد إلى الريبة، عن السدي. بين بذلك أن أحبارهم أنكروا الحق عن معرفته، وأن عوامهم كانوا شاكين فيه، يدل عليه قوله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه). وقيل: معناه وإن الذين أورثوا الكتاب أي القرآن وهم العرب، من بعدهم أي من بعد اليهود والنصارى، لفي شك منه بليغ، ولو استقصوا في النظر أدى بهم إلى اليقين والرشد.
[ 43 ]
(فلذلك فادع) أي: فإلى ذلك فادع، عن الفراء والزجاج. يقال: دعوت لفلان وإلى فلان، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، ومعناه: فإلى الدين الذي شرعه الله تعالى، ووصى به أنبياءه، فادع الخلق يا محمد. وقيل: إن اللام للتعليل أي فلأجل الشك الذي هم فيه، فادعهم إلى الحق، حتى تزيل شكهم. (واستقم كما أمرت) أي: فاثبت على أمر الله، وتمسك به، واعمل بموجبه. وقيل: واستقم على تبليغ الرسالة. (ولا تتبع أهواءهم) يعني أهواء المشركين في ترك التبليغ. (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) أي: آمنت بكتب الله التي أنزلها على الأنبياء قبلي كلها. (وأمرت لأعدل بينكم) أي: كي أعدل بينكم أي أسوي بينكم في الدين والدعاء إلى الحق، ولا أحابي أحدا. وقيل: معناه أمرت بالعدل بينكم في جميع الأشياء. وفي الحديث: (ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات: فالمنجيات العدل في الرضاء والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السر والعلانية. والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). (الله ربنا وربكم) أي: وقل لهم أيضا الله مدبرنا ومدبركم، ومصرفنا ومصرفكم، والمنعم علينا وعليكم. وإنما قال ذلك لأن المشركين قد اعترفوا بأن الله هو الخالق. (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: لا يضرنا إصراركم على الكفر، فإن جزاء أعمالنا لنا، وجزاء أعمالكم لكم، لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. (لا حجة بيننا وبينكم) أي: لا خصومة بيننا وبينكم، عن مجاهد وابن زيد. والمعنى: إن الحق قد ظهر فسقط الجدال والخصومة. وكنى بالحجة عن الخصومة، لاحتجاج أحد الخصمين على الآخر، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة، لم تكن بينه وبين من لا يجيب خصومة. وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا، والعداوة لنا، والمعاندة لا على طريق الشبهة، وليس ذلك تحريما لإقامة الحجة، لأنه لا يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها المحق من المبطل، فإذا صار الإنسان إلى البغي والعداوة، سقط الحجاج بينه وبين أهل الحق. (الله يجمع بيننا) يوم القيامة لفصل القضاء (وإليه المصير) يحكم بيننا بالحق. وفي هذا غاية التهديد.
[ 44 ]
* (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم و عليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 16 ] * الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب [ 17 ] * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألآ إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد [ 18 ] * الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوي العزيز [ 19 ] * من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب [ 20 ] *. المعنى: لما تقدم ظهور الحجة، وانقطاع المحاجة، عقبه بذكر من يحاج بالباطل، فقال سبحانه: (والذين يحاجون في الله) أي يخاصمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في دين الله وتوحيده، وهم اليهود والنصارى، قالوا. كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، وأولى بالحق، عن مجاهد وقتادة. وإنما قصدوا بما قالوا، ليدفعوا ما أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (من بعد ما استجيب له) أي: من بعد ما دخل الناس في الإسلام، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه. (حجتهم داحضة عند ربهم) أي: خصومتهم باطلة حيث زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام، ولأن ما ذكروه لا يمنع من صحة نبؤة نبينا بأن ينسخ الله كتابهم، وشريعة نبيهم. وقل: معناه والذين يجادلون في الله بنصرة مذهبهم من بعد ما استجيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاؤه في كفار بدر، حتى قتلهم الله بأيدي المؤمنين، واستجيب دعاؤه على أهل مكة، وعلى مضر، حتى قحطوا. ودعاؤه للمستضعفين حتى خلصهم الله من أيدي قريش، وغير ذلك مما يطول تعداده، عن الجبائي. وقيل: من بعد ما استجيب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم دعاؤه في إظهار المعجزات وإقامتها. وقيل: من بعد ما استجيب له بأن أقروا به قبل مبعثه، فلما بعث جحدوه، كما قال: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا). وإنما سمي سبحانه شبهتهم حجة على اعتقادهم، ولشبهها بالحجة أجرى عليها اسمها من غير إطلاق الصفة بها. (وعليهم غضب) أي غضب الله عليهم لأجل كفرهم. (ولهم عذاب شديد)
[ 45 ]
دائم يوم القيامة (الله الذي أنزل الكتاب) أي القرآن (بالحق) أي بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل. وقيل: بالحق أي بالأمر والنهي، والفرائض والأحكام، وكله حق من الله (والميزان) أي وأنزل الله العدل، والميزان عبارة عن العدل، كنى به عنه، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقاتل. وإنما سمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق. وقيل: أراد به الميزان المعروف، وأنزله الله من السماء، وعرفهم كيف يعملون به بالحق، وكيف يزنون به، عن الجبائي. وقيل: الميزان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بينهم بالكتاب، عن علقمة. ويكون على التوسع والتشبيه. ولما ذكر العدل، أتبعه بذكر الساعة فقال: (وما يدريك لعل الساعة قريب) أي وما يدريك يا محمد، ولا غيرك، لعل مجئ الساعة قريب. وإنما أخفى الله الساعة، ووقت مجيئها على العباد، ليكونوا على خوف، وليبادروا إلى التوبة. ولو عرفهم مجيئها، لكانوا مغرين بالقبائح قبل ذلك، تعويلا على التلافي بالتوبة. (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) لجهلهم بأحوالها وأهوالها، فلا يخافون ما فيها، إذ لم يؤمنوا بها، فهم يطلبون قيامها إبعادا لكونها. (والذين آمنوا مشفقون منها) أي: خائفون من مجيئها، وهم غير متأهبين لها. (ويعلمون أنها الحق) أي أن مجيئها الحق الذي لا خلف فيه. (ألا إن الذين يمارون) أي تدخلهم المرية والشك. (في الساعة) فيخاصمون في مجيئها على وجه الإنكار لها. (لفي ضلال) عن الصواب (بعيد) حين لم يذكروا فيعلموا أن الذي خلقهم أولا، قادر على بعثهم. ثم قال: (الله لطيف بعباده) أي حفي بار بهم رفيق، عن ابن عباس وعكرمة والسدي. وقيل: اللطيف العالم بخفيات الأمور والغيوب. والمراد به هنا: الموصل المنافع إلى العباد من وجه يدق إدراكه، وذلك في الأرزاق التي قسمها الله لعباده، وصرف الآفات عنهم، وإيصال السرور والملاذ إليهم، وتمكينهم بالقدر والآلات، إلى غير ذلك من ألطافه التي لا يوقف على كنهها لغموضها. ثم قال سبحانه: (يرزق من يشاء) أي يوسع الرزق على من يشاء، يقال: فلان مرزوق إذا وصف بسعة الرزق وقيل: معناه يرزق من يشاء في خفض ودعة، ومن يشاء في كد ومشقة ومتعبة، وكل من رزقه الله من ذي روح، فهو ممن شاء الله
[ 46 ]
أن يرزقه (وهو القوي) القادر الذي لا يعجز (العزيز) الغالب الذي لا يغالب (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) معنى الحرث في اللغة: الكسب. وفلان يحرث لعياله ويحترث أي يكتسب. أي: من كان يريد بعمله نفع الآخرة، ويعمل لها، نجازه بعمله، ونضاعف له ثواب عمله، فنعطيه على الواحد عشرة، ونزيد على ذلك ما نشاء. (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) أي: ومن كان يريد بعمله نفع الدنيا، نعطه نصيبا من الدنيا، لا جميع ما يريده، بل على حسب ما تقتضيه الحكمة، كما قال سبحانه: (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وما له في الآخرة من نصيب). وقيل: معناه من قصد بالجهاد وجه الله، فله سهم الغانمين، والثواب في الآخرة، ومن قصد به الغنيمة، لم يحرم ذلك، وحصل له سهمه من الغنيمة، ولكن لا نصيب له من الثواب في الآخرة. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت نيته الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة). وقيل: من كان يعمل للآخرة نال الدنيا والآخرة، ومن عمل للدنيا فلا حظ له في ثواب الآخرة، لأن الأعلى لا يجعل تبعا للأدون، عن الحسن. (* أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم [ 21 ] * ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ 22 ] * ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لآ أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور [ 23 ] * أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور [ 24 ] * وهو
[ 47 ]
الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون [ 25 ] *. القراءة: قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف: (يبشر الله) بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. والباقون: (يبشر الله) بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (ويعلم ما تفعلون) بالتاء على الخطاب. والباقون بالياء. الاعراب: (ذلك الذي يبشر الله عباده) تقديره: الذي يبشر الله به عباده. فحذف الباء ثم حذف الهاء. ويجوز أن يكون (الذي) حكمه حكم ما التي تكون مصدرية أي: ذلك تبشير الله عباده. (ويمح الله الباطل) ليس بمعطوف على (يختم) لأن محو الباطل واجب، فلا يكون معلقا بالشرط. المعنى: لما أخبر الله سبحانه أن من يطلب الدنيا بأعماله، فلا حظ له في خير الآخرة، قال: (أم لهم شركاء) أي: بل لهؤلاء الكفار شركاء فيما كانوا يفعلونه (شرعوا لهم) أي بينوا لهم، ونهجوا لهم (من الدين ما لم يأذن به الله) أي ما لم يأمر به الله، ولا أذن فيه، أي شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام، عن ابن عباس. (ولو لا كلمة الفصل لقضي بينهم) أي: لولا أن الله حكم في كلمة الفصل بين الخلق بتأخير العذاب لهذه الأمة إلى الآخرة، لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا (وإن الظالمين) الذين يكذبونك (لهم عذاب أليم) في الآخرة. (ترى الظالمين مشفقين) أي خائفين (مما كسبوا) أي من جزاء ما كسبوا من المعاصي، وهو العقاب الذي استحقوه. (وهو واقع بهم) لا محالة لا ينفعهم منه خوفهم من وقوعه، والإشفاق الخوف من جهة الرقة على المخوف عليه من وقوع الأمر. (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات) فالروضة: الأرض الخضرة بحسن النبات. والجنة. الأرض التي يحفها الشجر، (لهم) فيها (ما يشاؤون عند ربهم) أي: لهم ما يتمنون ويشتهون يوم القيامة الذي لا يملك فيه الأمر والنهي غير ربهم، ولا يريد بعند قرب المسافة، لأن ذلك من صفات الأجسام. وقيل: عند ربهم أي في حكم ربهم. (ذلك هو الفضل الكبير) أي: ذلك الثواب هو الفضل العظيم من الله، إذ نالوا نعيما لا ينقطع بعمل قليل منقطع. ثم قال: (ذلك) الفضل الكبير (الذي يبشر
[ 48 ]
الله) به (عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا. من شدد الشين أراد به التكثير. ومن خفف فلأنه يدل على القليل والكثير. ثم قال سبحانه. (قل) لهم يا محمد (لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) اختلف في معناه على أقوال أحدها: لا أسألكم على تبليغ الرسالة، وتعليم الشريعة، أجرا إلا التواد والتحاب فيما يقرب إلى الله تعالى من العمل الصالح، عن الحسن والجبائي وأبي مسلم. قالوا: هو التقرب إلى الله تعالى، والتودد إليه بالطاعة. وثانيها: إن معناه إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة. قالوا: وكل قريش كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قرابة، وهذا لقريش خاصة. والمعنى: إن لم تودوني لأجل النبوة، فودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم. وثالثها: إن معناه إلا أن تودوا قربتي وعترتي، وتحفظوني فيهم، عن علي بن الحسين عليهما السلام، وسعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب وجماعة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وأخبرنا السيد أبو المحمد مهدي بن نزار الحسيني قال: أخبرنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: حدثني القاضي أبو بكر الحميري قال: أخبرنا أبو العباس الضبعي قال: أخبرنا الحسن بن علي بن زياد السري قال: أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني (1) قال: حدثنا حسين الأشتر قال: أخبرنا قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجرا) الآية. قالوا: يا رسول الله ! من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم ؟ قال: علي وفاطمة وولدهما. وأخبرنا السيد أبو الحمد قال. أخبرنا الحاكم أبو القاسم، بالإسناد المذكور في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل مرفوعا إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتى، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة. فانا أصلها، وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها. فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى. ولو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتى (1) الجماني خ ل. (*)
[ 49 ]
يصير كالشن البالي، ثم لم يدرك محبتنا، كبه الله على منخريه في النار). ثم تلا (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). وروى زاذان عن علي عليه السلام قال: فينا، في آل حم، آية لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن ثم قرأ هذه الآية، وإلى هذا أشار الكميت في قوله: وجدنا لكم في آل حم آية، تأولها منا تقي ومعرب (1) وعلى الأقوال الثلاثة فقد قيل في (الا المودة) قولان: أحدهما: إنه استثناء منقطع، لأن هذا مما يجب بالإسلام، فلا يكون أجرا للنبوة والآخر: إنه استثناء متصل، والمعنى. لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا، فقد رضيت به أجرا. كما أنك تسأل غيرك حاجة، فيعرض المسؤول عليك برا، فتقول له: إجعل بري قضاء حاجتي. وعلى هذا يجوز أن يكون المعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا، ونفعه أيضا عائد عليكم، فكأني لم أسألكم أجرا كما مر بيانه في قوله (قل ما أسألكم من أجر فهو لكم). وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدثني عثمان بن عمير، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة، واستحكم الإسلام، قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك. فأتوه في ذلك فنزلت: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتي من بعدي. فخرجوا من عنده مسلمين لقوله. فقال المنافقون: إن هذا لشئ افتراه في مجلسه، أراد بذلك أن يذللنا لقرابته من بعده. فنزلت: (أم يقولون افترى على الله كذبا) فأرسل إليهم فتلاها عليهم، فبكوا واشتد عليهم، فأنزل الله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) الآية. فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقال. (ويستجيب الذين آمنوا)، وهم الذين سلموا لقوله. ثم قال سبحانه: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) أي: ومن فعل طاعة، نزد له في تلك الطاعة حسنا، بأن نوجب له الثواب. وذكر أبو حمزة الثمالي عن السدي قال: إن اقتراف الحسنة المودة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وصح عن الحسن بن (1) تقي أي: صاحب التقية. والمعرب أي: من يظهر مذهبه علانية. (*)
[ 50 ]
علي عليهما السلام أنه خطب الناس، فقال في خطبته: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة: مودتنا أهل البيت. وروى اسماعيل بن عبد الخالق: عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنها نزلت فينا أهل البيت، أصحاب الكساء. (إن الله غفور شكور) أي: غفور للسيئات، شكور للطاعات، يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحق، حتى كأنه ممن وصل إليه النفع فشكره. (أم يقولون افترى على الله كذبا) أي: بل يقولون افترى محمد على الله كذبا في ادعائه الرسالة عن الله (فإن يشأ الله يختم على قلبك) أي: لو حدثت نفسك بأن تفتري على الله كذبا، لطبع الله على قلبك، ولأنساك القرآن، فكيف تقدر أن تفتري على الله ؟ وهذا كقوله: (لئن أشركت ليحبطن عملك). وقيل: معناه فإن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، حتى لا يشق عليك قولهم. إنه مفتر وساحر، عن مجاهد (1) ومقاتل. فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار وحذف. ثم أخبر سبحانه أنه يذهب ما يقولونه باطلا فقال: (ويمح الله الباطل) أي: يزيله ويرفعه بإقامة الدلائل على بطلانه، وحذف الواو من يمحو في المصاحف، كما حذف من قوله (سندع الزبانية) على اللفظ في ذهابها، لالتقاء الساكنين. وليس بعطف على قوله (يختم) لأنه مرفوع يدل عليه قوله (ويحق الحق بكلماته) أي: ويثبت الحق بأقواله التي ينزلها على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو هذا القرآن المعجز (إنه عليم بذات الصدور) أي: بضمائر القلوب. (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وإن جلت معاصيهم، فكأنه قال: من نسب محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإفتراء، ثم تاب، قبلت توبته، وإن جلت معصيته. (ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) من خير وشر، فيجازيهم على ذلك. * (ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد [ 26 ] * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن (1) وفي نسخة مجاهد وقتادة ومقاتل. (*)
[ 51 ]
ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 27 ] * وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد [ 28 ] * ومن ءاياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير [ 29 ] * وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير [ 30 ] *. القراءة: قرأ أهل امدينة، وابن عامر: (وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم) بغير ناء. والباقون بالفاء. الحجة: قال أبو علي: القول في ذلك إن (أصاب) في قوله (وما أصابكم) يحتمل أمرين: يجوز أن يكون صلة ما ويجوز أن يكون شرطا في موضع جزم. فمن قدره شرطا، لم يجز حذف الفاء منه على قول سيبويه. وقد تأول أبو الحسن بعض الآي على حذف الفاء في جواب الشرط. وقال بعض البغداديين: حذف الفاء من الجواب جائز، واستدل على ذلك بقوله (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون). وإذا كان صلة، فالإثبات والحذف جائزان على معنيين مختلفين. أما إذا ثبت الفاء ففيه دليل على أن الأمر الثاني وجب بالأول، وإذا لم يذكر الفاء، جاز أن يكون الثاني وجب للأول، وجاز أن يكون لغيره. المعنى: لما تقدم وعيد أهل العصيان، عقبه سبحانه بالوعد لأهل الطاعة، فقال: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي: يجيبهم إلى ما يسألونه. وقيل: معناه يجيبهم في دعاء بعضهم لبعض، عن معاذ بن جبل. وقيل: معناه يقبل طاعاتهم وعباداتهم، ويزيدهم من فضله على ما يستحقونه من الثواب. وقيل: معناه ويستجيب الذين آمنوا بأن يشفعهم في إخوانهم (ويزيدهم من فضله) ويشفعهم في إخوان إخوانهم، عن ابن عباس. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (ويزيدهم من فضله): (الشفاعة لمن وجبت له النار ممن أحسن إليهم في الدنيا). (والكافرون لهم عذاب شديد) ظاهر المعنى. ولما بين سبحانه أنه يزيد المؤمنين من فضله، أخبر عقيبه أن الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح، فقال: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) أي: لو وسع الرزق على عباده على حسب ما يطلبونه، لبطروا النعمة،
[ 52 ]
وتنافسوا، وتغالبوا، وظلموا في الأرض، وتغلب بعضهم على بعض، وخرجوا عن الطاعة. قال ابن عباس: بغيهم في الأرض: طلبهم منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، وملبسا بعد ملبس. (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أي: ولكنه ينزل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء، نظرا منه لهم، عن قتادة. والمعنى: إنه يوسع الرزق على من تكون مصلحته فيه، ويضيق على من تكون مصلحته فيه، ويؤيده الحديث الذي رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عليه السلام عن الله: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو صححته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده. وذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم). والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة. ومتى قيل: نحن نرى كثيرا ممن يوسع عليه الرزق يبغي في الأرض ؟ قلنا: إنا إذا علمنا على الجملة أنه سبحانه يدبر امور عباده بحسب ما يعلم من مصالحهم، فلعل هؤلاء كان يستوي حالهم في البغي، وسع عليهم أو لم يوسع، أو لعلهم لو لم يوسع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي، فلذلك وسع عليهم، والله أعلم بتفاصيل أحوالهم. (إنه بعباده خبير بصير) أي. عليم بأحوالهم، بصير بما يصلحهم، وما يفسدهم. ثم بين سبحانه حسن نظره بعباده فقال: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) أي: ينزله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله. والغيث: ما كان نافعا في وقته. والمطر قد يكون نافعا، وقد يكون ضارا في وقته، وغير وقته. ووجه إنزاله بعد القنوط أنه أدعى إلى شكر الآتي به، وتعظيمه، والمعرفة بموقع إحسانه. (وينشر رحمته) أي. ويفرق نعمته، ويبسطها بإخراج النبات والثمار التي يكون سببها المطر (وهو الولي) الذي يتولى تدبير عباده، وتقدير أمورهم ومصالحهم، المالك لهم. (الحميد) المحمود على جميع أفعاله، لكون جميعها إحسانا ومنافع. (ومن آياته) الدالة على وحدانيته، وصفاته التي باين بها خلقه (خلق السماوات والأرض) لأنه لا يقدر على ذلك غيره، لما فيهما من العجائب والأجناس التي لا يقدر عليها القادر بقدرته. (وما بث فيهما من داتجة) والدابة: ما تدب، فيدخل فيه جميع الحيوانات (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) أي: وهو على
[ 53 ]
حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر لا يتعذر عليه ذلك. ثم قال سبحانه: (وما أصابكم) معاشر الخلق (من مصيبة) من بلوى في نفس، أو مال، (فبما كسبت أيديكم) من المعاصي (ويعفو عن كثير) منها، فلا يعاقب بها. قال الحسن: الآية خاصة بالحدود التي تستحق على وجه العقوبة. وقال قتادة: هي عامة. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير آية في كتاب الله هذه الآية. يا علي ! ما من خدش عود، ولا نكبة قدم، إلا بذنب. وما عفا الله عنه في الدنيا، فهو أكرم من أن يعود فيه. وما عاقب عليه في الدنيا، فهو أعدل من أن يثني على عبده). وقال أهل التحقيق: إن ذلك خاص، وإن خرج مخرج العموم، لما يلحق من مصائب الأطفال والمجانين، ومن لا ذنب له من المؤمنين، ولأن الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب، وإن كانوا معصومين من الذنوب، لما يحصل لهم على الصبر عليها من الثواب. النظم: والوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى لما بين عظيم إنعامه على العباد، بين بعده أن لا يعاقبهم إلا على معاصيهم. * (وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 31 ] * ومن ءاياته الجوار في البحر كالأعلام [ 32 ] * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور [ 33 ] * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير [ 34 ] * ويعلم الذين يجادلون فئ اياتنا ما لهم من محيص [ 35 ] *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، وابن عامر: (الجوار) بحذف الياء في الوصل والوقف. وقرأ الباقون: (الجواري) بإثبات الياء في الوصل، وابن كثير، ويعقوب في الوقف أيضا. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر: (يعلم الذين يجادلون) بالرفع. والباقون: (ويعلم) بالنصب. الحجة: قال أبو علي: القياس الجواري، ومن حذف، فلأن حذف هذه الياءات، وإن كانت لاما، قد كثر في كلامهم، فصار كالقياس المستمر. ومن قرأ (يعلم) بالرفع، استأنف لأنه موضع استئناف من حيث جاء من بعد الجماعة، إن
[ 54 ]
شئت جعلته خبر مبتدأ محذوف. ومن نصب، فلأن قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب. تقول في الشرط: إن تأتني وتعطيني أكرمك، فتنصب تعطيني، وتقديره: إن يكن إتيان منك وإعطاء أكرمك. فالنصب بعد الشرط إذا عطفت عليه بالفاء أمثل من النصب بالفاء بعد جزاء الشرط. فأما قوله: ومن لأ يقدم رجله مطمئنة، فيثبتها في مستوى الأرض يزلق فالنصب فيه حسن لمكان النفي. فأما العطف على الشرط نحو: إن تأتني وتكرمني فأكرمك، فالذي يختار سيبويه النصب في العطف على جزاء (1) الشرط، فيختار (ويعلم الذين يجادلون) إذا لم يقطعه من الأول فيرفعه، ويزعم أن المعطوف على جزاء الشرط شبيه بقوله: (وألحق بالحجاز فأستريحا) (2) قال: إلا أن من ينصب في العطف على جزاء الشرط أمثل من ذلك، لأنه ليس يوقع فعلا إلا بأن يكون من غيره فعل، فصار بمنزلة غير الواجب. وزعم سيبويه أن بعضهم قرأ (يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) بالنصب. وأنشد للأعشى في نصب ما عطف بالفاء على الجزاء: ومن يغترب عن أهله، لم يزل يرى مصارع مظلوم، مجرا، ومسحبا وتدفن منة الصالحات، وإن يسئ يكن ما اساء النار في رأس كبكبا (3) فهذا حجة لمن قرأ (ويعلم). اللغة: الأعلام. الجبال واحدها علم. قالت الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به، كأنه علم في رأسه نار فيظللن أي: يدمن ويقمن. يقال: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا. والرواكد: الثوابت. والإيباق. الإهلاك والإتلاف. ووبق الرجل يبق، ووبق يوبق إذا هلك. والمحيص: المعدل والملجأ. (1) وفي نسخة: العطف على الشرط. (2) أوله، سأترك ناقتي لبني تميم وهو لمغيرة بن حنين. (3) مجرا ومسحبا بمعنى. وكبكب: جبل. مقصوده أن من بعد عن أهله يصير مظلوما، ولم يزل يرى مصارعه في كل مكان، فإن عمل صالحا دفنوه، وإن عمل شهرا شهروه به كالنار على جبل كبكب، وفي جميع النسخ: (وتدفن) مع أن الغرض من الإستشهاد أن يكون فتدفن، ليكون من العطف على الجزاء بالفاء، وقيل كوكبا بدل كبكبا. (*)
[ 55 ]
المعنى: ثم قال سبحانه: (وما أنتم) يا معشر المشركين (بمعجزين في الأرض) أي. لا تعجزونني حيث ما كنتم، فلا تسبقونني هربا في الأرض. وفي هذا استدعاء إلى العبادة وترغيب فيما أمر به، وترهيب عما نهى عنه. (وما لكم من دون الله من ولي) يدفع عنكم عقابه (ولا نصير) ينصركم عليه. (ومن آياته) أي: ومن حججه الدالة على اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره (الجوار) أي: السفن الجارية (في البحر كالأعلام) أي: كالجبال الطوال. (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) أي: إن يشأ الله يسكن الريح فتبقى السفن راكدة واقفة على ظهر الماء، لا يبرحن من المكان، لأن ماء البحر يكون راكدا، فلو لم تجئ الريح، لوقفت السفينة في البحر، ولم تجر. فالله سبحانه جعل الريح سببا لجريها فيه، وجعل هبوبها في الجهة التي تسير إليها السفينة. (إن في ذلك) الذي ذكر (لأيات) أي حججا واضحات (لكل صبار) على أمر الله (شكور) على نعمته. وقيل: صبار على ركوبها، شكور على جريها، والنجاة من البحر. (أو يوبقهن بما كسبوا) معناه: إن يشأ إسكان الريح، يسكن الريح، أو إن يشأ يجعل الريح عاصفة، فيهلك السفن أي: أهلها بالغرق في الماء، عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي (ويعف عن كثير) من أهلها، فلا يغرقهم، ولا يعاجلهم بعقوبة معاصيهم. (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا) أي: في إبطال آياتنا ودفعها (ما لهم من محيص) أي: ملجأ يلجأون إليه، عن السدي. * (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون [ 36 ] * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ 37 ] * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون [ 38 ] * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [ 39 ] * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين [ 40 ] *. القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم هنا، وفي سورة والنجم: (كبير الإثم)
[ 56 ]
على التوحيد، والباقون: (كبائر الإثم) على الجمع. الحجة: حجة الجمع قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه)، ومن قال (كبير) فأفرد جاز أن يريد به الجمع، كقوله: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). وفي الحديث: (منعت العراق درهمها وقفيزها). الاعراب: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون): يجوز أن يكون (هم) تأكيدا للضمير في (غضبوا) و (يغفرون): جواب إذا. ويجوز أن يكون (هم) إبتداء. و (يغفرون) خبره. وكذا (هم ينتصرون). وإن شئت كان (هم) وصفا للمنصوب قبله. وإن شئت كان مبتدأ. وقياس قول سيبويه أن يرتفع (هم) بفعل مضمر دل عليه (هم ينتصرون). المعنى: ثم خاطب سبحانه من تقدم وصفهم فقال: (فما أوتيتم من شئ) أي: الذي أعطيتموه من شئ من الأموال (فمتاع الحياة الدنيا) أي: فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما، ثم تموتون، فيبقى عنكم، أو يهلك المال قبل موتكم. (وما عند الله) من الثواب والنعيم، وما أعده للجزاء على الطاعة (خير وأبقى) من هذه المنافع القليلة (للذين آمنوا) أي: صدقوا بتوحيد الله، وبما يجب التصديق به (وعلى ربهم يتوكلون) والتوكل على الله: تفويض الأمور إليه باعتقاد أنها جارية من قبله على أحسن التدبير، مع الفزع إليه بالدعاء من كل ما ينوب. (والذين يجتنبون كبائر الإثم) يجوز أن يكون موضع (الذين) جرا عطفا على قوله: (للذين آمنوا) فيكون المعنى: وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين المتوكلين على ربهم، المجتنبين كبائر الإثم. (والفواحش) ويجوز أن يكون في موضع رفع بالإبتداء. ويكون الخبر محذوفا، فيكون المعنى: والذين يجتنبون الكبائر، والفواحش. (وإذا ما غضبوا) مما يفعل بهم من الظلم (هم يغفرون) ويتجاوزون عنه، لهم مثل ذلك. والفواحش: جمع فاحشة، وهي أقبح القبيح. والمغفرة في الآية، المراد بها ما يتعلق بالإساءة إلى نفوسهم، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين. فأما ما يتعلق بحقوق الله، وواجبات حدوده، فليس للإمام تركها، ولا العفو عنها، ولا يجوز له العفو عن المرتد، وعمن جرى مجراه. ثم زاد سبحانه في صفاتهم فقال: (والذين استجابوا لربهم) أي: أجابوه فيما
[ 57 ]
دعاهم إليه من أمور الدين. (وأقاموا الصلاة) أي: أداموها في أوقاتها بشرائطها (وأمرهم شورى بينهم) يقال: صار هذا الشئ شورى بين القوم إذا تشاوروا فيه، وهو فعلى من المشاورة، وهي المفاوضة في الكلام، ليظهر الحق أي: لا يتفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه. وقيل: إن المعني بالآية الأنصار، كانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام، وقبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتمعوا وتشاوروا، ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك. وقيل: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورود النقباء عليه، حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به، والنصرة له، عن الضحاك. وفي هذا دلالة على فضل المشاورة في الأمور. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد). (ومما رزقناهم ينفقون) في طاعة الله تعالى، وسبيل الخير (والذين إذا أصابهم البغي) من غيرهم (هم ينتصرون) ممن بغى عليهم، من غير أن يعتدوا، عن السدي. وقيل: ينتصرون أي يتناصرون ينصر بعضهم بعضا نحو يختصمون ويتخاصمون، عن أبي مسلم. وقيل: يعني به المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة، وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض، حتى انتصروا ممن ظلمهم، عن عطاء. وقيل: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عمن ظلمهم، وهم الذين ذكروا قبل هذه الآية، وهو قوله: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) وصنف ينتصرون ممن ظلمهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية. فمن انتصر وأخذ بحقه، ولم يجاوز في ذلك ما حد الله، فهو مطيع لله. ومن أطاع الله، فهو محمود، عن ابن زيد. ثم ذكر سبحانه حد الإنتصار فقال: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) قيل: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله، تقول: أخزاك الله، من غير أن تعتدي، عن ابن نجيح والسدي ومجاهد. وقيل: يعني القصاص في الجراحات والدماء، عن مقاتل. وسمى الثانية سيئة، لأنها في مقابلة الأولى، كما قال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم). ثم ذكر سبحانه العفو فقال: (فمن عفى وأصلح فأجره على الله) أي: فمن عفا عما له المؤاخذة به، وأصلح أمره فيما بينه وبين ربه، فثوابه على الله (إنه لا يحب الظالمين). ثم بين سبحانه أنه لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله
[ 58 ]
إلى الظالم، أو لحبه إياه، ولكن ليعرضه (1) بذلك لجزيل الثواب، ولحبه الإحسان والفضل. وقيل: إنه لا يحب الظالم في قصاص وغيره، بتعديه عما هو له، إلى ما ليس له. وقيل: إن الآية الأولى عامة في وجوب التناصر بين المسلمين. وهذه الآية في خاصة الرجل يجازي من ظلمه بمثل ما فعله، أو يعفو. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله، فليدخل الجنة، فيقال: من ذا الذي أجره على الله ؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنة بغير حساب). * (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ 41 ] * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم [ 42 ] * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور [ 43 ] * ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل [ 44 ] * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألآ إن الظالمين في عذاب مقيم [ 45 ] *. الاعراب: (إن ذلك لمن عزم الأمور): جواب القسم الذي دل عليه قوله: (ولمن صبر وغفر) كما قال سبحانه: (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم) وقيل: بل هي جملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو (من صبر وغفر). والتقدير: إن ذلك منه لمن عزم الأمور. وحسن الحذف لطول الكلام. وقوله: (خاشعين) منصوب على الحال من (يعرضون). و (يعرضون) في موضع النصب على الحال من (تراهم). المعنى: ثم ذكر سبحانه المنتصر فقال: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) معناه: من انتصر لنفسه، وانتصف من ظالمه بعد ظلمه، أضاف (1) من باب عرض المتاع للبيع. والهاء يعود إلى المظلوم أي: ليجعل نفسه معرضا لجزيل الثواب (*).
[ 59 ]
الظلم إلى المظلوم، أي بعد أن ظلم وتعدي عليه، فأخذ لنفسه بحقه، فالمنتصرون ما عليهم من إثم وعقوبة وذم. ومثله في إضافة المصدر إلى المفعول قوله (من دعاء الخير). (إنما السبيل) أي الإثم والعقاب (على الذين يظلمون الناس) ابتدا: (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) أي موجع (ولمن صبر) أي تحمل المشقة في رضاء الله (وغفر) فلم ينتصر ف (إن ذلك) الصبر والتجاوز (لمن عزم الأمور) أي من ثابت الأمور التي أمر الله تعالى بها، فلم تنسخ. وقيل: عزم الأمور هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والأجر. (ومن يضلل الله) أي ومن يضلله الله عن رحمته وجنته (فما له من ولي) أي معين (من بعده) أي: سواه. وقيل: من عذبه الله عقوبة له على عناده وجحوده، فما له من ولي يلي أمره، ويدفع عذاب الله عنه. (وترى الظالمين لما رأوا العذاب) أي: ترى الظالمين يا محمد إذا شاهدوا عذاب النار (يقولون هل إلى مرد) أي: رجوع ورد إلى دار الدنيا (من سبيل) تمنيا منهم لذلك. (وتراهم) يا محمد (يعرضون عليها) أي على النار قبل دخولهم النار. (خاشعين من الذل) أي ساكنين متواضعين في حال العرض (ينظررن من طرف خفي) أي خفي النظر لما عليهم من الهوان، يسارقون النظر إلى النار، خوفا منها، وذلة في نفوسهم، عن الحسن وقتادة. وقيل: خفي ذليل عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: من عين لا تفتح كلها، وإنما نظروا ببعضها إلى النار (1). (وقال الذين آمنوا) لما رأوا عظيم ما نزل بالظالمين (إن الخاسرين) في الحقيقة هم (الذين خسروا أنفسهم) بأن فوتوها الإنتفاع بنعيم الجنة (وأهليهم) أي وأولادهم وأزواجهم وأقاربهم، لا ينتفعون بهم. (يوم القيامة) لما حيل بينهم وبينهم. وقيل: وأهليهم من الحور العين في الجنة لو آمنوا (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) هذا من قول الله تعالى. والمقيم: الدائم الذي لا زوال له. * (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل [ 46 ] * استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لامرد له من الله ما لكم (1) في المخطوطة بزيادة (خوفا منها). (*)
[ 60 ]
من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 47 ] * فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [ 48 ] * لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور [ 49 ] * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير [ 50 ] *. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الظالمين الذين ذكرهم فقال: (وما كان لهم من أولياء) لا فيما عبدوه من دونه، ولا فيمن أطاعوه في معصيته، أي: نصار (ينصرونهم من دون الله) ويدفعون عنهم عقابه. (ومن يضلل الله فما له من سبيل، يوصله إلى الجنة. ثم قال سبحانه: (استجيبوا لربكم) أي: أجيبوا داعي ربكم، يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما دعاكم إليه، ورغبكم فيه من المصير إلى طاعته، والإنقياد لأمره. (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي لا رجوع بعده إلى الدنيا. وقيل: معناه لا يقدر أحد على رده ودفعه، وهو يوم القيامة، عن الجبائي. وقيل: معناه لا يرد ولا يؤخر عن وقته، وهو يوم الموت، عن أبي مسلم. (ما لكم من ملجأ يومئذ) أي: معقل يعصمكم من العذاب (وما لكم من نكير) أي: إنكار وتغيير للعذاب. وقيل: من نصير منكر ما يحل بكم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (فإن أعرضوا) يعني الكفار، أي عدلوا عما دعوتهم إليه (فما أرسلناك عليهم حفيظا) أي: مأمورا بحفظهم لئلا يخرجوا عما دعوتهم إليه، كما يحفظ الراعي غنمه لئلا يتفرقوا أي: فلا تحزن لإعراضهم (إن عليك إلا البلاغ) أي: ليس عليك إلا إيصال المعنى إلى أفهامهم، والبيان لما فيه رشدهم. (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة) وأوصلنا إليه نعمة (فرح بها) أي بطر لأن الفرح المراد هنا ما قارنه أشر، أو جحود، أو إنكار، لأنه خرج مخرج الذم. وقيل: إن الرحمة هنا العافية. (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) أي: قحط، أو فقر، أو مرض، أو غير ذلك مما يسوؤهم (فإن الإنسان كفور) يعدد ألمصيبة، ويجحد النعم.
[ 61 ]
ثم بين سبحانه أن النعم كلها منه فقال: (لله ملك السماوات والأرض) أي له التصرف فيهما، وفيما بينهما، وسياستهما بما تقتضيه الحكمة. (يخلق ما يشاء) من أنواع الخلق (يهب لمن يشاء) (1) من خلقه (إناثا) فلا يولد له ذكر. (ويهب لمن يشاء الذكور) البنين فلا يولد له أنثى (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) معناه: أو يجمع لهم بين البنين والبنات، تقول العرب. زوجت إبلي أي جمعت بين صغارها وكبارها. قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما، ثم جارية، ثم غلاما، ثم جارية. وقيل: هو أن تلد توأما ذكرا وأنثى، أو ذكرا وذكرا، أو أنثى وأنثى، عن ابن زيد. وقيل: هو أن يجمع في الرحم الذكر والأنثى، عن محمد بن الحنفية. (ويجعل من يشاء) من الرجال والنساء (عقيما) لا يلد ولا يولد له (إنه عليم) بما خلق (قدير) على خلق من يشاء. * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [ 51 ] * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 52 ] * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور [ 53 ] *. القراءة: قرأ نافع: (أو يرسل) بالرفع، (فيوحي) بسكون الياء. والباقون: (أو يرسل)، (فيوحي) بالنصب. الحجة: قال أبو علي: من نصب (أو يرسل) فلا يخلو من أن يكون محمولا على أن في قوله. (أن يكلمه الله) أو على غيره. فلا يجوز أن يكون محمولا عليه، لأنه يصير تقديره: ما كان لبشر أن يكلمه الله، أو أن يرسل رسولا إليه. ولم يخل قوله: (أو يرسل رسولا) من أن يكون المراد: أو يرسله رسولا، أو يكون، أو يرسل إليه رسولا والتقديران جميعا فاسدان. ألا ترى أن كثيرا من البشر قد أرسل رسولا، وكثيرا منهم قد أرسل إليه الرسل. فإذا لم يخل من هذين التقديرين، ولم يصح واحد منهما، علمت أن المعنى ليس عليه، والتقدير على غيره، فالذي عليه المعنى (1) [ يهب لمن يشاء ]. (*)
[ 62 ]
والتقدير الصحيح ما ذهب إليه الخليل من أن يحمل (يرسل) على أن يوحي الذي يدل عليه وحيا، فصار التقدير: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا، أو يرسل رسولا فيوحي. ويجوز في قوله (إلا وحيا) أمران أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا والآخر. أن يكون حالا. فإن قدرته استثناء منقطعا لم يكن في الكلام شئ يوصل بمن، لأن ما قبل الإستثناء لا يعمل فيما بعده، لأن حرف الإستثناء في معنى حرف النفي. ألا ترى أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فالمعنى. قام القوم لا زيد. فكما لا يعمل ما قبل حرف النفي فيما بعده، كذلك لا يعمل ما قبل الاستثناء إذا كان كلاما تاما فيما بعده، إذ كان بمعنى النفي. وكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها، نحو: ما أنا الخبز إلا آكل، كما لم يعمل ما بعد حرف ماض فيما قبله. فإذا كان كذلك لم يتصل الجار بما قبل إلا، ويمتنع أن يتصل به الجار من وجه آخر، وهو أن قوله. (أو من وراء حجاب) في صلة وحي الذي هو بمعنى أن يوحي. فإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل الجار الذي هو من قوله: (أو من وراء حجاب) على (أو يرسل)، لأنك تفصل بين الصلة والموصول بما ليس منهما. ألا ترى أن المعطوف على الصلة في الصلة. فإذا حملت على العطف على ما ليس في الصلة، فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي الذي ليس منهما. فإذا لم يجز حمله على (يكلمه) من قوله: (ما كان لبشر أن يكلمه الله)، ولم يكن بد من أن يعلق الجار بشئ، ولم يكن في اللفظ شئ تحمله عليه، أضمرت يكلم، وجعلت الجار في قوله: (أو من وراء حجاب) متعلقا بفعل مراد في الصلة، محذوف منها، للدلالة عليه. وقد يحذف من الصلة أشياء للدلالة عليها، ويكون في المعنى معطوفا على الفعل المقدر صلة، لأن الموصولة، وهي يوحي، فيكون التقدير: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه، أو يكلمه من وراء حجاب. فحذف يكلم من الصلة، لأن ذكره قد جرى، وإن كان خارجا من الصلة فحسن ذلك حذفه من الصلة وسوغه. ألا ترى أن ما قبل حرف الإستفهام مثل ما قبل الصلة، في أنه لا يعمل قي الصلة، كما لا يعمل ما قبل الإستفهام فيما كان من حيز الإستفهام. وقد جاء: (الآن وقد عصيت قبل) والمعنى: الآن آمنت وقد عصيت قبل. فلما كان ذكر الفعل قد جرى
[ 63 ]
في الكلام أضمر. ولا يجوز أن يقدر عطف (ومن وراء حجاب) على الفعل الخارج من الصلة، فيفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي منهما كما فصل في قوله: (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس). ثم قال: (أو فسقا أهل لغير الله به) فعطف ب (أو) على ما في الصلة بعد ما فصل بين الصلة والموصول بقوله: (فإنه رجس). لأن قوله (فإنه رجس) من الإعتراض الذي يسدد ما في الصلة ويوضحه، فصار بذلك بمنزلة الصفة لما في الصفة من التبيين والتخصيص. ومثل هذا في الفصل في الصلة قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات)، (جزاء سيئة بمثلها)، و (ترهقهم ذلة) وفصل بقوله جزاء (1) بمثلها، وعطف عليه قوله: (وترهقهم ذلة) على الصلة مع هذا الفصل من حيث قوله: (جزاء سيئة بمثلها) يسدد ما (2) الصلة. وأما من رفع فقال: (أو يرسل رسولا فجعل يرسل حالا، فإن الجار في قوله: (أو من وراء حجاب) متعلق بمحذوف ويكون في الظرف ذكر من ذي الحال، فيكون قوله: (إلا وحيا) على هذا التقدير، مصدرا وقع موقع الحال، كقولك: جئت ركضا، وأتيت عدوا. ويكون (من) في أنه مع ما انجر به، في موضع الحال، كقوله: (ومن الصالحين) بعد قوله: (ويكلم الناس في المهد وكهلا). ومعنى: (أو من وراء حجاب) فمن قدر الكلام استثناء منقطعا أو حالا، يكلمهم غير مجاهر لهم بكلامه، يريد أن كلامه يسمع ويحدث من حيث لا يرى، كما يرى سائر المتكلمين. وليس أن ثم حجابا يفصل موضعا من موضع، فيدل ذلك على تحديد المحجوب. ومن رفع (يرسل) كان في موضع نصب على الحال، والمعنى: هذا كلامه إياهم كما يقول. تحيتك الضرب، وعتابك السيف. المعنى: ثم ذكر سبحانه أجل النعم، وهي النبوة، فقال: (وما كان لبشر أن يكلمه الله) أي ليس لأحد من البشر أن يكلمه الله (إلا) أن يوحي إليه (وحيا) وهو داود أوحى في صدره، فزبر الزبور (أو من وراء حجاب) أي. ويكلمه من وراء حجاب، وهو موسى عليه السلام (أو يرسل رسولا) وهو جبرائيل، أرسل إلى (1) [ سيئة ]. (2) [ في ] (*)
[ 64 ]
محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مجاهد. وقيل: معناه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بمثل ما يكلم به عباده من الأمر بطاعته، والنهي عن معاصيه، وتنبيه إياهم على ذلك من جهة الخاطر، أو المنام، وما أشبه ذلك، على سبيل الوحي. وسماه وحيا لأن الوحي في اللغة، ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشئ من غير أن يفصح به، أو من وراء حجاب، وهو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه، إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السلام، لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه السلام وحده. وفي المرة الثانية حجبه عن جميع الخلق إلا عن موسى والسبعين الذين كانوا معه. وقد يقال: إنه حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه، فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه، لأن الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم. ولا يجوز أن يكون أراد بقوله. إن الله تعالى كان من وراء حجاب يكلم عباده، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة. وعنى بقوله. (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء). إرساله ملائكته بكتبه وكلامه إلى أنبيائه، ليبلغوا ذلك عنه عباده. فهذا أيضا ضرب من الكلام الذي يكلم الله به عباده، ويأمرهم فيه، وينهاهم من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى. وهو خلاف الوحي الذي ذكر في أول الآية، لأنه تنبيه خاطر، وليس فيه إفصاح، عن أبي علي الجبائي. وقال الزجاج: معناه إن كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو بكلام من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء الله. (إنه علي) عن الإدراك بالأبصار (حكيم) في جميع أفعاله (وكذلك أوحينا إليك) أي: مثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك، أوحينا إليك. (روحا من أمرنا) يعني الوحي بأمرنا، ومعناه القرآن، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر، عن قتادة والجبائي وغيرهما. وقيل: هو روح القدس، عن السدي. وقيل: هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام قالا: ولم يصعد إلى السماء، وإنه لفينا. (ما كنت تدري) يا محمد قبل الوحي (ما الكتاب ولا الإيمان) أي: ما القرآن، ولا الشرائع، ومعالم الإيمان. وقيل. معناه ولا أهل الإيمان أي: من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن. وهذا من باب حذف المضاف. (ولكن جعلناه نورا)
[ 65 ]
أي: جعلنا الروح الذي هو القرآن نورا، لأن فيه معالم الدين، عن السدي. وقيل: جعلنا الإيمان نورا لأنه طريق النجاة، عن ابن عباس. (نهدي به من نشاء من عبادنا) أي نرشده إلى الجنة (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) أي ترشد وتدعو إلى طريق مفض إلى الحق، وهو الإيمان. ثم فسر ذلك الصراط بقوله (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) ملكا وخلقا (ألا إلى الله تصير الأمور) أي: إليه ترجع الأمور، والتدبير يوم القيامة، فلا يملك ذلك غيره.
[ 66 ]
43 - سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون مكية كلها. وقيل: إلا آية منها (واسئل من أرسلنا) الآية. نزلت ببيت المقدس، عن مقاتل. عدد آيها: ثمان وثمانون آية شامي، تسع في الباقين. اختلافها: آيتان حم كوفي، هو مهين حجازي بصري. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة الزخرف، كان ممن يقال له يوم القيامة: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ادخلوا الجنة بغير حساب). وعن أبي بصير قال: قال أبو جعفر عليه السلام: من أدمن قراءة حم الزخرف، آمنه الله في قبره من هوام الأرض، ومن ضمة القبر، حتى يقف بين يدي الله، عز وجل. ثم جاءت حتى تكون هي التي تدخله الجنة بأمر الله، عز وجل. تفسيرها. لما ختم الله سورة حم عسق بذكر القرآن والوحي، افتتح هذه السورة بذلك أيضا، فقال: * (بسم الله الرحمن الرحيم *) * حم [ 1 ] * والكتاب المبين [ 2 ] * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 3 ] * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ 4 ] * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 5 ]. القراءة: قرأ أهل المدينة والكوفة، غير عاصم: (إن كنتم) بكسر الهمزة. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي: من قال (أن كنتم) فالمعنى. لأن كنتم. فأما صفحا
[ 67 ]
فانتصابه من باب صنع الله، لأن قوله: (أفنضرب عنكم الذكر) يدل على أن نصفح عنكم صفحا. وكأن قولهم: صفحت عنه أي أعرضت عنه ووليته صفحة العنق. فالمعنى: أفنضرب عنكم ذكر الإنتقام منكم، والعقوبة لكم، لأن كنتم قوما مسرفين. وهذا يقرب من قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى). والكسر على أنه جزاء استغني عن جوابه بما تقدمه مثل: أنت ظالم إن فعلت كذا، كانه قال. إن كنتم مسرفين نضرب. اللغة: يقال. ضربت عنه، وأضربت عنه أي: تركته وأمسكت عنه. ويقال: صفح عني بوجهه. قال كثير، وذكر امرأة: صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة، فمن مل منها ذلك الوصل ملت (1) أي: معرضة بوجهها. والصفوح في صفات الله تعالى معناه: العفو عن الذنب، كأنه أعرض عن مجازاته تفضلا، يقال: صفح عن ذنبه إذا عفا. والإسراف: مجاوزة الحد في العصيان. المعنى: (حم) مر معناه (والكتاب المبين) أقسم بالقرآن المبين للحلال والحرام، المبين ما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام (إنا جعلناه) أي أنزلناه، عن السدي. وقيل: قلناه، عن مجاهد، ونظيره (ويجعلون لله البنات) أي يقولون. (قرآنا عربيا) أي بلسان العرب. والمعنى. جعلناه على طريقة العرب في مذاهبهم في الحروف، والمفهوم، ومع ذلك فإنه لا يتمكن أحد منهم من إنشاء مثله، والإبتداء بما يقاربه من علو طبقته في البلاغة والفصاحة، إما لعدم علمهم بذلك، أو لأنهم صرفوا عنه على الخلاف بين العلماء فيه. (لعلكم تعقلون) أي: لكي تعقلوا وتتفكروا فيه، فتعلموا صدق من ظهر على يده. وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لأن المجعول هو المحدث بعينه. (وإنه) يعني القرآن (في أم الكتاب) أي: في اللوح المحفوظ، وإنما سمي أما، لأن سائر الكتب تنسخ منه. وقيل: لأن أصل كل شئ أمه. والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) عن الزجاج، (1) أي: كثيرة الصفح عن عشاقها، فما تلقاك إلا بخيلة بالوصل، وسريعة الملال. فمن أظهر من وصلها الملال ملت سريعا. (*)
[ 68 ]
وهو الكتاب الذي كتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة، لما رأى في ذلك من صلاح ملائكته بالنظر فيه، وعلم فيه من لطف المكلفين بالإخبار عنه (لدينا) أي الذي عندنا، عن ابن عباس (لعلي) أي عال في البلاغة، مظهر ما بالعباد إليه من الحاجة. وقيل: معناه يعلو كل كتاب بما اختص به من كونه معجزا وناسخا للكتب، وبوجوب إدامة العمل به، وبما تضمنه من الفوائد. وقيل: (علي) أي عظيم الشأن رفيع الدرجة، تعظمه الملائكة والمؤمنون (حكيم) أي مظهر للحكمة البالغة. وقيل: حكيم دلالة على كل حق وصواب، فهو بمنزلة الحكيم الذي لا ينطق إلا بالحق. وصف الله تعالى القرآن بهاتين الصفتين على سبيل التوسع، لأنهما من صفات الحي. ثم خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن، وجحد ما فيه من الحكمة والبيان، فقال: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) والمراد بالذكر هنا القرآن أي: أفنترك عنكم الوحي صفحا، فلا نأمركم، ولا ننهاكم، ولا نرسل إليكم رسولا. (إن كنتم قوما مسرفين) أي لأن كنتم. والمعنى: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم، فلا نعرفكم ما يجب عليكم من أجل أنكم اسرفتم في كفركم. وهذا استفهام إنكار، ومعناه: إنا لا نفعل ذلك. وأصل ضربت عنه الذكر، أن الراكب إذا ركب دابة، فأراد أن يصرفه عن جهة، ضربه بعصى أو سوط، ليعدل به إلى جهة أخرى. ثم وضع الضرب موضع الصرف والعدل. وقيل: إن الذكر بمعنى العذاب، ومعناه: أحسبتم أنا لا نعذبكم أبدا، عن السدي. * (وكم أرسلنا من نبي في الأولين [ 6 ] * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون [ 7 ] * فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 8 ] * ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 9 ] * الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 10 ] *. المعنى: ثم عزى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) أي في الأمم الماضية (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) يعني: إن الأمم الخالية التي ذكرناها، كفرت بالأنبياء، وسخرت منهم، لفرط جهالتهم
[ 69 ]
وغباوتهم، واستهزأت بهم كما استهزأ قومك بك أي: فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم، بل كررنا الحجج، وأعدنا الرسل. (فأهلكنا أشد منهم بطشا) أي فأهلكنا من أولئك الأمم بأنواع العذاب، من كان أشد قوة ومنعة من قومك، فلا يغتر هؤلاء المشركون بالقوة والنجدة. (ومضى مثل الأولين) أي سبق فيما أنزلنا إليك. شبه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب. ولما أهلك أولئك بتكذيبهم رسلهم، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك. (ولئن سألتهم) أي إن سألت قومك يا محمد (من خلق السماوات والأرض) أي أنشأهما، واخترعهما (ليقولن خلقهن العزيز العليم) أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا خلقهن يعني السماوات والأرض، العزيز القادر الذي لا يقهر، العليم بمصالح الخلق، وهو الله تعالى، لأنهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام والأوثان. وهذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ اعترفوا بأن الله خلق السماوات والأرض، ثم عبدوا معه غيره، وأنكروا قدرته على البعث. ثم وصف سبحانه نفسه فقال: (الذي جعل لكم الأرض مهدا) وقرئ (مهادا) وقد مضى ذكره في طه. (وجعل لكم فيها سبلا) تسلكونها (لعلكم تهتدون) لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم. وقيل: معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين بالإعتبار الذي حصل لكم بالنظر فيها. * (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون [ 11 ] * والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون [ 12 ] * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين [ 13 ] * وإنآ إلى ربنا لمنقلبون [ 14 ] * وجعلوا له من عباده جزء إن الإنسان لكفور مبين [ 15 ] *. اللغة: يقال: أنشر الله الخلق فنشروا أي: أحياهم فحيوا. قال الأعشى: لو أسندت ميتا إلى نحرها، عاش ولم ينقل إلى قاير حتى يقول الناس مما رأوا: يا عجبا للميت الناشر (1) (1) يصف المرأة بأنها من فرط الجمال تحيي الأموات، فلو أسندت ميتا إلى نحرها صار حيا، ولم (*)
[ 70 ]
الإقران: الإطاقة. يقال: أقرنت لهذا البعير أي: أطقته. المعنى: ثم أكد سبحانه ما قدمه بقوله: (والذي نزل من السماء ماء) أي غيثا ومطرا (بقدر) أي بقدر الحاجة، لا زائدا عليها فيفسد، ولا ناقصا عنها فيضر ولا ينفع. وفي ذلك دلالة على أنه واقع من قادر مختار، قد قدره على ما تقتضيه الحكمة، لعلمه بذلك. (فأنشرنا) أي فأحيينا (به) أي بذلك المطر (بلدة ميتا) أي جافة يابسة بإخراج النبات والأشجار والزروع والثمار. (كذلك) أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة (تخرجون) من قبوركم يوم البعث. (والذي خلق الأزواج كلها) يعني أزواج الحيوان من ذكر وأنثى. وقيل: معناه خلق الأشكال جميعها من الحيوان والجماد. فمن الحيوان الذكر والأنثى، ومن غير الحيوان مما هو كالمقابل كالحلو والمر، والرطب واليابس، وغير ذلك. وقيل: الأزواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والشمس والقمر، والسماء والأرض، والجنة والنار، عن الحسن. (وجعل لكم من الفلك) أي السفن (والأنعام) من الإبل والبقر، عن سعيد بن جبير. وقيل: الإبل (ما تركبون) في البحر والبر (لتستووا على ظهوره) بين سبحانه أن الغرض في خلق ما ذكر لتستووا على ظهور ما جعل لكم. فالضمير في (ظهوره) يعود إلى لفظ (ما). (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) فتشكروا على تلك النعمة التي هي تسخير ذلك المركب (وتقولوا) معترفين بنعمه منزهين له عن شبه المخلوقين: (سبحان الذي سخر لنا هذا) المركب أي ذلله لنا حتى ركبناه (وما كنا له مقرنين) أي: مطيقين مقاومين في القوة. (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) أي ولتقولوا أيضا ذلك، ومعناه: وإنا إلى الله راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر، وهو الجنازة. قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذ ركبتم. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبر ثلاثا وقال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، والعمل بما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا، واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة = ينقل إلى قابر يقبره ويدفنه، فيتعجب الناس ويقولون: يا عجبا للميت الحي. (*)
[ 71 ]
في الأهل والمال. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال). وإذا رجع قال: (آئبون تائبون لربنا حامدون). أورده مسلم في الصحيح. وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر النعمة أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وتقول بعده: سبحان الذي سخر لنا هذا. إلى آخره. ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال: (وجعلوا له من عباده جزءا) أي نصيبا يعني: حكموا بأن بعض عباده وهم الملائكة له أولاد، ومعنى الجعل هنا: الحكم، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن قالوا: زعموا أن الملائكة بنات الله. قال الزجاج: قد أنشد بعض أهل اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناث، وهو: إن أجزأت حرة يوما، فلا عجب، قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا (1) أي: أنثت. وقيل: إن معناه وجعلوا لله من مال عباده نصيبا، فيكون كقوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) فحذف المضاف. (إن الإنسان لكفور مبين) أي جاحد لنعم الله، مظهر لكفره، غير مستتر به. * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [ 16 ] * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 17 ] * أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 18 ] * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون [ 19 ] * وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 20 ] *. (1) المذكار: التي من عادتها أن تلد الذكور، وكذلك الرجل. المراد: إنه إن كانت الحرة مؤنثا بأن خلقها الله أنثى، فلا عجب، فإن الحرة المذكار التي هي سبب الفخر، تكون أنثى. قال في الكشاف: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: (أجزأت المرأة). الخ. (*)
[ 72 ]
القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (ينشأ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين. والباقون: ينشأ بفتح الياء وسكون النون والتخفيف. وقرأ أهل الكوفة، وأبو عمر: (وعباد الرحمن). والباقون: (عند الرحمن) وقرأ أهل المدينة (أ أشهدوا) على أفعلوا بضم الهمزة وسكون الشين، وقبلها همزة الإستفهام مفتوحة، ثم تخفف الثانية من غير أن يدخل بينهما ألف، وبعضهم يدخل بينهما ألفا. وقرأ الباقون (أشهدوا) بفتح الألف والشين. الحجة: قال أبو علي: يقال نشأت السحابة، ونشأ الغلام. فإذا نقل هذا الفعل بالهمزة كقوله (ينشئ السحاب الثقال) (ثم أنشأناه خلقا آخر) تعدى إلى مفعول. ومن قرأ (ينشأ) كان مثل فرح وأفرح، وغرم وأغرم. وموضع (من) نصب على تقدير: اتخذوا له من ينشأ في الحلية على وجه التقريع لهم بما افتروه، كما قال تعالى: (أم له البنات ولكم البنون). وحجة من قرأ (عباد الرحمن) قوله: (بل عباد مكرمون). وحجة من قرأ (عند الرحمن) قوله: (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون)، وقوله: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون). وفي هذا دلالة على رفع المنزلة والتقريب، كما قال: (ولا الملائكة المقربون) وليس من قرب المسافة. وشهدت تستعمل على ضربين أحدهما: بمعنى الحضور. والآخر: بمعنى العلم. والذي بمعنى الحضور يتعدى إلى مفعول به، يدلك على ذلك قوله: (ويوم شهدناه سليما وعامرا) تقديره شهدنا فيه سليما، ومن ذلك قوله: شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة يد الدهر إلا جبرئيل أمامها فهذا محذوف المفعول، والتقدير فيه شهدنا المعركة فهذا الضرب إذا نقل بالهمزة، تعدى إلى مفعولين. تقول: شهد زيد المعركة، وأشهدته إياها. ومن ذلك قوله: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض). وأما (شهدت) الذي بمعنى علمت، فيستعمل على ضربين أحدهما: أن يكون قسما والآخر: أن يكون غير قسم. فاستعمالهم إياه قسما، كاستعمالهم علم الله ويعلم الله قسمين تقول: علم الله لأفعلن، فيتلقاه ما يتلقى الأقسام. وأنشد سيبويه: ولقد علمت لتأتين منيتي، إن المنايا لا تطيش سهامها (1) (1) طاش السهم عن الهدف: جاز عنه ولم يصبه. وما في هذه الصفحة من البيت والمصراع مذكور = (*)
[ 73 ]
وحكي أن زفر كان يذهب إلى أنه إذا قال: (أشهد بالله) كان يمينا، وإن قال: (أشهد) ولم يقل (بالله) لم يره يمينا. وقال محمد الشيباني: (أشهد) غير موصولة بقوله (بالله)، مثل أشهد موصولة بقولك بالله في أنه يمين، واستشهد على ذلك بقوله: (قالوا نشهد أنك لرسول الله). ثم قال: (والله يشهد أن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة). فجعله يمينا، ولم يوصل بقوله (بالله). وأما شهدت الذي يراد به علمت، ولا يراد به حضرت، فهو ضرب من العلم مخصوص، فكل شهادة علم، وليس كل علم شهادة. ومما يدل على اختصاصه في العلم، أنه لو قال عند الحاكم: أعلم أن لزيد على عمرو عشرة، لم يحكم بها حتى يقول (أشهد). فالشهادة مثل التيقن في أنه ضرب من العلم مخصوص، وليس كل علم تيقنا، وإن كان كل تيقن علما، فكان معنى أشهد أيها الحاكم على كذا: أعلمه علما يحضرني. وقد تذلل لي فلا أتوقف فيه لوضوحه عندي، وتبينه لي. وليس كذلك سبيل المعلومات كلها. ألا ترى أن منها ما يحتاج إلى توقف فيه، واستدلال عليه. وأما قوله (أشهدوا خلقهم) فمن الشهادة التي هي الحضور، كأنهم وبخوا على أن قالوا ما لم يحضروه مما حكمه أن يعلم بالمشاهدة. ومن قال: (أشهدوا خلقهم) فالمعنى أحضروا ذلك. وكان الفعل متعديا إلى مفعولين. فلما بني للمفعول به، نقص مفعولا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد. ويقوي هذه القراءة: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض). وأما قوله (إني أشهد الله) و (أشهدوا فحذف المفعول (1) الأول على حد: ضربني وضربت. وهذا منقول من شهد بكذا إلا أن حرف الجر يحذف مع أن، وإن. المعنى: ثم أنكر سبحانه عليهم قولهم فقال: (أم) وهذا استفهام إنكار وتوبيخ ومعناه: بل (اتخذ مما يخلق بنات) أي اتخذ ربكم لنفسه البنات (وأصفاكم) أي أخلصكم (بالبنين) وهذا كقوله: (أفأصفاكم ربكم بالبنين) الآية. ثم زاد في = في (جامع الشواهد). (1) كذا في النسخ، والصواب مفعول الأول أي: مفعول الفعل الأول، وهو أشهد الله، فإن جملة أني برئ ليست مفعولا أولا على أي تقدير. (*)
[ 74 ]
الإحتجاج عليهم بأن قال: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا) أي بما جعل لله شبها، وذلك أن ولد كل شئ شبهه وجنسه، فالمعنى: وإذا بشر أحدهم بولادة ابنة له (ظل وجهه مسودا) بما يلحقه من الغم بذلك (وهو كظيم) أي مملوء كربا وغيظا. ثم وبخهم بما افتروه فقال: (أو من ينشؤا في الحلية) أي أو جعلوا من ينشؤ في الحلية أي في زينة النساء لله، عزوجل، يعني البنات (وهو في الخصام) يعني المخاصمة (غير مبين) للحجة. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، أي: لا يمكنها أن تبين الحجة عند الخصومة لضعفها وسفهها. وقيل: معناه أو تعبدون من ينشأ في الحلية، ولا يمكنه أن ينطق بحجته، ويعجز عن الجواب، وهم الأصنام، فإنهم كانوا يحلونها بالحلي، عن ابن زيد. وإنما قال. (وهو في الخصام) ولم يقل (وهي)، لأنه حمله على لفظ من. (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثا) بأن زعموا أنهم بنات الله. (أشهدوا خلقهم) هذا رد عليهم أي: أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث. وهذا كقوله (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون). (ستكتب شهادتهم) بذلك (ويسألون) عنها يوم القيامة (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) أي لو شاء الرحمن أن لا نعبدهم ما عبدناهم، فإنما عبدناهم بمشيئة الله. (ما لهم بذلك من علم) أي لا يعلمون صحة ما يقولون. هذا إشارة إلا بطلان قولهم لما لم يصدر عن دليل وعلم. (إن هم إلا يخرصون) أي ما هم إلا كاذبون. قال أبو حامد: كذبهم الله تعالى لأنهم أنكروا التوحيد بإضافتهم الولد إليه سبحانه، وفارقوا العدل بإضافتهم الكفر إلى مشيئة الله تعالى. * (أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 21 ] * بل قالوا إنا وجدنا أبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون [ 22 ] * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنآء آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 23 ] * قال أو لوجئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون [ 24 ] * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين [ 25 ] *.
[ 75 ]
القراءة: قرأ ابن عامر وحفص: (قال أولو). وقرأ الباقون: (قل أولو). وقرأ أبو جعفر: (جئناكم). والباقون: (جئتكم). الحجة: قال أبو علي: من قرأ (قال) فالمعنى: قال لهم النذير أولو جئتكم. ومن قرأ (قل) فإنه يكون حكاية ما أوحي إلى النذير، كأنه أوحينا إليه، فقلنا له: قل لهم أولو جئتكم بأهدى من ذلك. المعنى: لما حكى الله سبحانه تخرص من أضاف عبادة الأصنام والملائكة إلى مشيئة الله، قال: (أم آتيناهم كتابا) وهو استفهام بمعنى التقرير لهم على خطئهم، والتقدير: أهذا الذي ذكروه شئ تخرصوه وافتعلوه، أم آتيناهم كتابا. (من قبله فهم به مستمسكون) أي مستمسكون بذلك. فإذا لم يمكنهم ادعاء أن الله تعالى أنزل بذلك كتابا، علم أن ذلك من تخرصهم، ودل أم على حذف حرف الإستفهام، لأنه المعادل له. ثم أعلم أنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال: ليس الأمر كذلك (بل قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة) أي على ملة وطريقة، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. وقيل: على جماعة، أي كانوا مجتمعين موافقين على ما نحن عليه، عن الجبائي. (وإنا على آثارهم مهتدون) نهتدي بهداهم. ثم قال سبحانه: (وكذلك) أي ومثل ما قال هؤلاء في الحوالة على تقليد آبائهم في الكفر (ما أرسلنا من قبلك) يا محمد (في قرية) ومجمع من الناس (من نذير) أي نذيرا، لأن (من) زائدة. (إلا قال مترفوها) وهم المتنعمون الذين آثروا الترفه على طلب الحجة، يريد الرؤساء (إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون) نقتدي بهم، فلا نخالفهم. وأحال جميعهم على التقليد للآباء فحسب، دون الحجة والتقليد قبيح في العقول، إذ لو كان جائزا لكان يلزم في ذلك أن يكون الحق في الشئ ونقيضه، فكل فريق يقلد أسلافه مع أن كلا منهم يعتقد أن من سواه على خطأ وضلال، وهذا باطل لا شبهة في بطلانه. فإذا لا بد من الرجوع إلى حجة عقلية أو سمعية. ثم قال سبحانه للنذير: (قل) لهم (أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم) تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، ولا تقبلون ما جئتكم به. وفي هذا أحسن التلطف في الإستدعاء إلى الحق، وهو أنه لو كان ما يدعونه حقا وهدى، وكان ما جئتكم به من الحق أهدى منه، كان أوجب أن يتبع ويرجع إليه.
[ 76 ]
ثم أخبر أنهم أبوا أن يقبلوا ذلك و (قالوا إنا بما أرسلتم به) أيها الرسل (كافرون). ثم ذكر سبحانه ما فعل بهم، فقال: (فانتقمنا منهم) بأن أهلكناهم، وعجلنا عقوبتهم (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) أنبياء الله، والجاحدين لهم. وفي هذا إشارة إلى أن العاقبة المحمودة تكون لأهل الحق، والمصدقين لرسل الله. * (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون [ 26 ] * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 27 ] * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون [ 28 ] * بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين [ 29 ] * ولمآ جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 30 ] *. اللغة: تقول العرب: أنا براء منك، ونحن براء منك، الذكر والأنثى، والإثنان والجماعة، فيه سواء. والمعنى: أنا ذو براء منك، كما قالوا: رجل عدل (1)، وقوم عدل أي ذو عدل (2)، وذو وعدل. المعنى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه) حين رآهم يعبدون الأصنام والكواكب. (إنني براء) أي برئ (مما تعبدون) ثم استثنى خالقه من جملة ما كانوا يعبدون، فقال: (إلا الذي فطرني) أي سوى الله الذي خلقني وابتدأني، وتقديره: إلا من الذي فطرني. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا مع عبادتهم الأوثان (فإنه سيهديني) إلى طريق الجنة بلطف من ألطافه. وقيل: سيهديني إلى الحق بما نصب لي من الأدلة. وفيه بيان ثقته بالله تعالى، ودعاء لقومه إلى أن يطلبوا الهداية من عنده. (وجعلها كلمة باقية في عقبه) أي: جعل كلمة التوحيد وهي قول: (لا إله إلا الله) كلمة باقية في ذرية إبراهيم ونسله، فلم يزل فيهم من يقولها، عن قتادة ومجاهد والسدي. وقيل: جعل هذه الكلمة التي قالها إبراهيم، وهو براءة من الشرك، باقية في ولده من بعده. وقيل. الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين، عن أبي عبد الله عليه السلام. واختلف في عقبه من هم فقيل: ذريته وولده، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: ولده إلى يوم القيامة، عن الحسن. وقيل: هم آل محمد، عن السدي. (1) [ وامرأة عدل ]. (2) [ وذات عدل ]. (*)
[ 77 ]
(لعلهم يرجعون) أي لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم عليه إلى الإقتداء بأبيهم إبراهيم في توحيد الله تعالى، كما اقتدى الكفار بآبائهم، عن الفراء والحسن. وقيل: لعلهم يرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله تعالى. ثم ذكر سبحانه نعمه على قريش فقال: (بل متعت هؤلاء وآبائهم) المشركين بأنفسهم وأموالهم وأنواع النعم، ولم اعاجلهم بالعقوبة لكفرهم (حتى جاءهم الحق) أي القرآن، عن السدي. وقيل: الآيات الدالة على الصدق (ورسول مبين) يبين الحق ويظهره، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (ولما جاءهم الحق) أي القرآن (قالوا هذا سحر) أي حيلة خفية وتمويه (وإنا به كافرون) جاحدون لكونه من قبل الله تعالى. النظم: وجه اتصال قصة إبراهيم عليه السلام بما قبلها: أنه سبحانه لما ذم التقليد، وأوجب اتباع الحق والدليل، أتبعه بذكر إبراهيم الخليل، حيث اتبع الحجة، وأوضح المحجة. وقيل: إنه سبحانه لما ذم التقليد، وذكر أن الكفار أبوا إلا ذلك، ذكر أن تقليد إبراهيم أولى لأنهم من أولاده وذريته، ويدعون أنهم على طريقته. وإثما اتصل قوله (بل متعت هؤلاء وآباءهم) بما تقدمه من ذكر إعراضهم عن الحجة، وتعويلهم على التقليد. فبين سبحانه أنهم أتوا من قبل نفوسهم، فقد أزيحت علتهم بأن امهلوا ومتعوا، ثم جاءهم الحق فلم يؤمنوا. * (وقالوا لو لا نزل هذا القرأن على رجل من القريتين عظيم [ 31 ] * أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون [ 32 ] * ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون [ 33 ] * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون [ 34 ] * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والأخرة عند ربك للمتقين [ 35 ] *. القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر. (سقفا) بفتح السين.
[ 78 ]
والباقون: (سقفا) بضم السين والقاف. وقرأ عاصم وحمزة: (وإن كل ذلك لما) بتشديد الميم. والباقون: (لما) خفيفة الميم. الحجة: قال أبو علي: سقف جمع سقف، مثل رهن ورهن، ويخفف فيقال: رهن وفعل في الجمع يخفف. وسقف واحد يدل على الجمع، ألا ترى أنه علم بقوله (لبيوتهم) أن لكل بيت سقفا. ومن شدد (لما) كانت إن عنده بمنزلة ما النافية، فالمعنى: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا. ولما في معنى إلا. حكى سيبويه: نشدتك الله لما فعلت، وحمله على إلا. وهذه الآية تدل على فساد قول من قال إن قوله (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) إن المعنى لمن هو جميع لدينا حاضرون. وزعموا أن في حرف أبي: وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا. ومن قوم (لما) بالتخفيف، فإن (إن) في قوله (وإن كل) هي المخففة من الثقيلة. واللام فيها هي التي تدخل لتفصل بين النفي والإيجاب في قوله: (هبلتك أمك إن قتلت لفارسا). ومن نصب بها مخففة فقال. إن زيدا لمنطلق، استغنى عن هذه اللام، لأن النافية لا ينتصب بعدها إسم، فلا يقع اللبس، وما فيه زيادة. والمعنى: وإن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا. اللغة: المعارج: الدرج، واحدها معرج. والعروج: الصعود. وظهر عليه: إذا علاه وصعده. قال النابغة الجعدي: بلغنا السماء مجدنا، وجدودنا، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا (1) والسرر جمع سرير، ويجمع على أسرة أيضا. والزخرف: كمال حسن الشئ، ومنه قيل للذهب زخرف. ويقال: زخرفه زخرفة إذا حسنه وزينه، ومنه قيل للنقوش والتصاوير: زخرف. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي. المعنى: (وقالوا) أي وقال هؤلاء الكفار (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) يعنون بالقريتين مكة والطائف، وتقدير الآية على رجل عظيم من القريتين أي من إحدى القريتين، فحذف المضاف. ويعنون بالرجل العظيم من إحدى (1) حدود جمع جد: وهو بمعنى الحظ والبخت والعظمة. (ومجدنا وجدودنا) إما منصوبان مفعولان له لقوله: (بلغنا)، وإما مرفوعان يدلان عن ضمير (بلغنا). (*)
[ 79 ]
القريتين الوليد بن المغيرة من مكة، وأبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف، عن قتادة. وقيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكة، وابن عبد يا ليل من الطائف، عن مجاهد. وقيل: الوليد بن المغيرة من مكة، وحبيب بن عمر الثقفي من الطائف، عن ابن عباس. وإنما قالوا ذلك لأن الرجلين كانا عظيمي قومهما، وذوي الأموال الجسيمة فيهما، فدخلت الشبهة عليهم حتى اعتقدوا أن من كان كذلك كان أولى بالنبوة. فقال سبحانه ردا عليهم: (أهم يقسمون رحمة ربك) يعني النبوة بين الخلق. بين سبحانه أنه هو الذي يقسم النبوة لا غيره، والمعنى: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا، عن مقاتل. ثم قال سبحانه: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي نحن قسمنا الرزق في المعيشة على حسب ما علمناه من مصالح عبادنا، فليس لأحد أن يتحكم في شئ من ذلك، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق، فكذلك اصطفينا للرسالة من نشاء. وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) معناه أفقرنا البعض، وأغنينا البعض، فتلقى ضعيف الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه، ولم نفوض ذلك إليهم مع قلة خطره، بل جعلناه على ما توجبه الحكمة والمصلحة، فكيف نفوض اختيار النبوة إليهم مع عظم محلها، وشرف قدرها. وقوله: (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) معناه: إن الوجه في اختلاف الرزق بين العباد في الضيق والسعة زيادة على ما فيه من المصلحة، أن في ذلك تسخيرا من بعض العباد لبعض بإحواجهم إليهم يستخدم بعضهم بعضا، فينتفع أحدهم بعمل الآخر له، فينتظم بذلك قوام أمر العالم. وقيل: معناه ليملك بعضهم بعضا بمالهم، فيتخذونهم عبيدا ومماليك، عن قتادة، والضحاك. (ورحمة ربك خير مما يجمعون) أي ورحمة الله سبحانه ونعمته من الثواب والجنة، خير مما يجمعه هؤلاء من حطام الدنيا. وقيل: معناه والنبوة لك من ربك خير مما يجمعونه من الأموال، عن ابن عباس. ثم أخبر سبحانه عن هوان الدنيا عليه، وقلة مقدارها عنده، فقال: (ولولا أن يكون الناص أمة واحدة) أي لولا أن يجتمع الناس على الكفر، فيكونوا كلهم كفارا
[ 80 ]
على دين واحد، لميلهم إلى الدنيا، وحرصهم عليها، عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي. وقيل: معناه ولو لا أن يجتمع الناس على اختيار الدنيا على الدين، عن ابن زيد. (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) قوله (لبيوتهم) بدل من قوله (لمن يكفر) والمعنى: لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن سقفا من فضة. فالسقف إذا كان من فضة، فالحيطان من فضة. وقيل: إن اللام الثانية بمعنى على فكأنه قال: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم سقفا من فضة. وقال مجاهد: ما يكون من السماء فهو سقف بالفتح، وما يكون من البيت فهو سقف بضمتين، ومنه قوله: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا). (ومعارج عليها يظهرون) أي وجعلنا درجا وسلاليم من فضة لتلك السقف، عليها يعلون ويصعدون. (ولبيوتهم أبوابا وسررا) أي وجعلنا لبيوتهم أبوابا وسررا من فضة (عليها) أي على تلك السرر (يتكئون وزخرفا) أي ذهبا، عن ابن عباس، والضحاك، وقتادة. وهو منصوب بفعل مضمر أي وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا. وقيل: الزخرف النقوش عن الحسن. وقيل: هو الفرش، ومتاع البيت، عن ابن زيد. والمعنى: لأعطي الكافر في الدنيا غاية ما يتمناه فيها، لقلتها وحقارتها عنده، ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك لما فيه من المفسدة. ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا، فقال: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) وقد مر بيانه. (والآخرة) أي الجنة الباقية (عند ربك للمتقين) خاصة لهم. قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل سبحانه ذلك، فكيف لو فعله ؟ وفي هذه الآية (1) دلالة على اللطف، وأنه تعالى لا يفعل المفسدة، وما يدعو إلى الكفر. وإذا لم يفعل ما يؤدي إلى الكفر، فلأن لا يفعل الكفر ولا يريده أولى. * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 36 ] * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 37 ] * حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 38 ] * ولن ينفعكم اليوم إذ (1) وفي المخطوطة: هذه الآيات. (*)
[ 81 ]
ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 39 ] * أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين [ 40 ] *. القراءة: قرأ عاصم في رواية حماد ويعقوب: (يقيض) بالياء. والباقون: (نقيض) بالنون. وقرأ أهل العراق، غير أبي بكر. (حتى إذا جاءنا) على الواحد. والباقون: (جاءانا) على الإثنين. الحجة: من قرأ (يقيض) بالياء فالضمير يعود إلى (الرحمن). ومن قرأ بالنون فالمعنى على ذلك، لكنه سبحانه أخبر عن نفسه بنون العظمة. ومن قرأ (جاءانا) على التثنية فهو الكافر وقرينه. ومن قرأ (جاءنا) فهو الكافر، لأنه أفرد بالخطاب في الدنيا، وأقيمت عليه الحجة بإنفاذ الرسول إليه، فاجتزئ بالواحد عن الإثنين كما قال: (لينبذن في الحطمة)، والمراد: لينبذن هو وماله. اللغة: العشو: أصله النظر ببصر ضعيف. يقال: عشى يعشو عشوا وعشوا، إذا ضعف بصره، وأظلمت عينه، كان عليها غشاوة. وقال الأعشى: متى تأته، تعشو إلى ضوء ناره، تجد خير نار عندها خير موقد وإذا ذهب البصر قيل: عشي يعشى عشا، والرجل أعشى. وقرأ في الشواذ (ومن يعش) بفتح الشين ومعناه: يعم. ويقال: عشى إلى النار إذا أتاها وقصد لها. وعشى عنها إذا أعرض عنها قاصدا لغيرها، كقولهم: مال إليه، ومال عنه. والتقييض: الإتاحة. الأزهري. قيض الله فلانا لفلان: جاء به. المعنى: لما تقدم ذكر الوعد للمتقين، عقبه بذكر الوعيد لمن هو على ضد صفتهم فقال: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) أي يعرض عنه، عن قتادة والسدي. وقيل: معناه ومن يعم عنه، عن ابن عباس وابن زيد. قال الجبائي: شبههم بالأعمى لما لم يبصروا الحق. والذكر هو القرآن. وقيل: هو الآيات والأدلة. (نقيض له شيطانا فهو له قرين) أي نخل بينه وبين الشيطان الذي يغويه، ويدعوه إلى ألضلالة، فيصير قرينه عوضا عن ذكر الله، عن الحسن وأبي مسلم، قال الحسن: وهو الخذلان عقوبة أحد عن الإعرأض حين علم أنه لا يفلح. وقيل: معناه نقرن به شيطانا في الآخرة، يلزمه فيذهب به إلى النار، كما أن المؤمن يقرن به ملك، فلا يفارقه
[ 82 ]
حتى يصير به إلى الجنة، عن قتادة. وقيل: أراد به شياطين الإنس نحو علماء السوء، ورؤساء الضلالة، يصدونهم عن سبيل الله فيتبعونهم. (وإنهم) يعني: وإن الشياطين. وإنما جمع، لأن قوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا) في مذهب جمع، وإن كان اللفظ على الواحد. (ليصدونهم) أي يصرفون هؤلاء الكفار (عن السبيل) أي عن طريق الجنة (1) (ويحسبون أنهم مهتدون) أي ويحسب الكفار أنهم على الهدى فيتبعونهم. (حتى إذا جاءنا) من قرأ على التثنية فالمعنى: جاءنا الشيطان، ومن أغواه يوم القيامة الذي يتولى سبحانه حساب الخلق فيه. ومن قرأ على التوحيد فالمعنى: حتى إذا جاءنا الكافر، وعلم ما يستحقه من العقاب. (قال) في ذلك الوقت لقرينه الذي أغواه (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) يعني المشرق والمغرب، فغلب أحدهما كما قال الشاعر. أخذنا بآفاق السماء عليكم، لنا قمراها، والنجوم الطوالع يعني: الشمس والقمر. وقيل: يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام. وقيل: أراد بالمشرقين مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما في قوله (رب المشرقين) والمراد: يا ليت بيني وبينك هذا البعد مسافة فلم أرك، ولا اغتررت بك. (فبئس القرين) كنت لي في الدنيا حيث أضللتني وأوردتني النار، وبئس القرين أنت لي اليوم. فإنهما يكونان مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة وغم، عن ابن عباس. ويقول الله سبحانه في ذلك اليوم للكفار: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) أي لا يخفف الإشتراك عنكم شيئا من العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب. وقيل: معناه أنه لا تسلي لهم عما هم فيه بما يرونه بغيرهم من العذاب، لأنه قد يتسلى الإنسان عن المحنة إذا رأى أن عدوه في مثلها. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) شبه الكفار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه ويرونه بالصم والعمي. (ومن كان في ضلال مبين) أي بين ظاهر مضاف (2) معناه: لا يضيقن صدرك، فإنك لا تقدر على إكراههم على الإيمان. (1) وفي نسخة: طريق الحق. (2) ليس قي نسختين: لفظة مضاف. (*)
[ 83 ]
* (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون [ 41 ] * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 42 ] * فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 ] * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون [ 44 ] * وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون [ 45 ] *. الاعراب: لما دخل ما على حرف الشرط، أشبه القسم في التأكيد، والإيذان بطلب التصديق، فدخلت النون في الكلام لذلك، لأن النون يلزم في جواب القسم، ولا يلزم في الجزاء، لأنه مشبه به. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) أي. فإما نتوفينك فإنا منهم منتقمون من أمتك بعدك. (أو نريك الذي وعدناهم) معناه: أو نبقينك ونرينك في حياتك ما وعدناهم من العذاب (فإنا عليهم مقتدرون) أي قادرون على الإنتقام منهم، وعقوبتهم في حياتك، وبعد وفاتك. قال الحسن وقتادة: إن الله أكرم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لم يره تلك النقمة، ولم ير في أمته إلا ما قرت به عينه، وقد كان بعده نقمة شديدة. وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أري ما تلقى أمته بعده، فما زال منقبضا، ولم ينبسط ضاحكا، حتى لقي الله تعالى. وروى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: إني لأدناهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بمنى، حتى قال: (لا ألفينكم ترجعون بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم). ثم التفت إلى خلفه فقال: (أو علي، أو علي)، ثلاث مرات فرأينا أن جبرائيل غمزه. فأنزل الله على أثر ذلك: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) بعلي بن أبي طالب عليه السلام. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أري الإنتقام منهم، وهو ما كان من نقمة الله من المشركين يوم بدر، بعد أن أخرجوه من مكة، فقد أسر منهم وقتل، مع قلة أصحابه، وضعف منتهم (1)، وكثرة الكفار، وشدة شوكتهم. ثم أمره سبحانه بالتمسك بالقرآن فقال: (فاستمسك بالذي أوحي إليك) من (1) المنة بالضم: القوة، وبمعنى الضعف أيضا، فهي من الأضداد. (*)
[ 84 ]
القرآن بأن تتلوه حق تلاوته، وتتبع أو امره، وتنتهي عما نهي فيه عنه. (إنك على صراط مستقيم) أي على دين حق وصواب، وهو دين الإسلام (وإنه لذكر لك ولقومك) أي وإن القرآن الذي أوحي إليك، لشرف لك ولقومك من قريش، عن ابن عباس والسدي. وقيل: لقومك أي للعرب لأن القرآن نزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص من العرب، حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم، ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لقريش. (وسوف تسئلون) عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف، عن الكلبي والزجاج وغيرهما. وقيل: تسألون عن القرآن، وعما يلزمكم من القيام بحقه. (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) معناه: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلنا إليهم الرسل، هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد ؟ وهو قول أكثر المفسرين والتقدير: سل أمم من أرسلنا، أو أتباع من أرسلنا فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. وقيل: إن المراد سل أهل الكتابين التوراة والإنجيل، وإن كانوا كفارا، فإن الحجة تقوم بتواتر خبرهم، والخطاب وإن توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالمراد به الأمة أي: سلوا من ذكرنا. (أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) أي: هل جعلنا فيما مضى معبودا سوى الله يعبده قوم، فإنهم يقولون: إنا لم نأمرهم بذلك، ولا تعبدناهم. وقيل: معناه وسل الأنبياء وهم الذين جمعوا له ليلة الإسراء، وكانوا تسعين نبيا، منهم موسى وعيسى، ولم يسألهم صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه كان أعلم بالله منهم، عن الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد. * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنآ إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين [ 46 ] * فلما جاءهم باياتنآ إذا هم منها يضحكون [ 47 ] * وما نريهم من أية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون [ 48 ] * وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون [ 49 ] * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون [ 50 ] * ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون [ 51 ] * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 52 ] * فلو لآ ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة
[ 85 ]
مقترنين [ 53 ] * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 54 ] *. القراءة: قرأ حفص ويعقوب وسهل: (أسورة). والباقون: (أساورة). الحجة: الأسورة: جمع سوار مثل سقاء وأسقية، وخوان وأخونة. ومن قرأ (أساورة) جعله جمع أسوار، فتكون الهاء عوضا عن الياء التي كانت ينبغي أن تلحق في جمع أسوار على حد إعصار وأعاصير. ويجوز في أساورة أن يكون جمع أسورة، فيكون مثل أسقية وإساق. ولحق الهاء كما لحق في قشعم وقشاعمة (1). المعنى: ثم ذكر سبحانه حديث موسى عليه السلام فقال: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي بالحجج الباهرة، والمعجزات القاهرة (إلى فرعون وملئه) أي أشراف قومه. وخص الملأ بالذكر، وإن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم، لأن من عداهم تبع لهم (فقال) موسى (إني رسول رب العالمين) أرسلني إليكم (فلما جاءهم بآياتنا) أي فلما أظهر المعجزات التي هي اليد البيضاء والعصا. (إذا هم منها يضحكون) استهزاء واستخفافا، وجهلا منهم بما عليهم من ترك النظر فيها، وبما لهم من النفع بحصول العلم بها. (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) المراد بذلك: ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) لأنهم عذبوا بهذه الآيات، وكانت عذابا لهم ومعجزات لموسى عليه السلام، فغلب عليهم الشقاء، ولم يؤمنوا. (وقالوا يا أيها الساحر) يعنون بذلك: يا أيها العالم. وكان الساحر عندهم عظيما يعظمونه، ولم يكن صفة ذم، عن الكلبي والجبائي. وقيل: إنما قالوا استهزاء بموسى عليه السلام، عن الحسن. وقيل: معناه يا أيها الذي سلبنا بسحره، تقول العرب: خاصمته فخصمته، وحاججته فحججته، فكذلك ساحرته (2). وأرادوا أنه غالب السحرة فغلبهم بسحره. (أدع لنا ربك بما عهد عندك) أي: بما زعمت أنه عهد عندك وهو أنه ضمن لنا أنا إذا آمنا بك أن يكشف العذاب عنا. (إننا لمهتدون) (1) القشعم: المسن من الرجال، والنسور، والضخم، والأسد. (2) [ فسحرته ]. (*)
[ 86 ]
أي راجعون إلى الحق الذي تدعونا إليه متى كشف عنا العذاب. وفي الكلام حذف، لأن التقدير: فدعا موسى، وسأل ربه أن يكشف عنهم ذلك العذاب، فكشف الله عنهم ذلك. (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) أي يغدرون، وينقضون العهد. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: فاصبر يا محمد على أذى قومك، فإن حالك معهم كحال موسى مع قومه، فيؤول أمرك إلى الإستعلاء على قومك، كما آل أمره إلى ذلك. (ونادى فرعون في قومه) معناه: إنه لما رأى أمر موسى يزيد على الأيام ظهورا واعتلاء، خاف على مملكته، فأظهر الخداع، فخطب الناس بعد ما اجتمعوا (قال يا قوم أليس لي ملك مصر) أتصرف فيها كما أشاء. أراد بذلك إظهار بسطته في الملك والمال. (وهذه الأنهار) مثل النيل وغيرها (تجري من تحتي) أي من تحت أمري. وقيل: إنها كانت تجري تحت قصره، وهو مشرف عليها. (أفلا تبصرون) هذا الملك العظيم، وقوتي، وضعف موسى. (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) أي ضعيف حقير يعني به موسى. قال سيبويه والخليل: عطف أنا بأم على قوله (أفلا تبصرون) لأن معنى أم أنا خير: معنى أم تبصرون، فكأنه قال: أفلا تبصرون أم تبصرون، لأنهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده. وقيل: المهين الفقير الذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه، ليس له من يكفيه أمره. (ولا يكاد يبين) أي: ولا يكاد يفصح بكلامه وحججه للعقدة التي في لسانه. وقال الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه، حين أرسله الله كما قال مخبرا عن نفسه: (وأحلل عقدة من لساني) ثم قال: (قد أوتيت سؤلك يا موسى). وإنما عيره بما كان في لسانه قبل. وقيل: كان في لسانه لثغة (1)، فرفعه (2) الله تعالى، وبقي فيه ثقل، عن الجبائي. (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) أي هلا طرح عليه أسورة من ذهب إن كان صادقا في نبوته، وكان إذا سودوا رجلا سوروه بسوار من ذهب، وطوقوه بطوق من ذهب. (أو جاء معه الملائكة مقترنين) متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له، (1) اللثغة. ثقل اللسان بالكلام. تحول اللسان من السين إلى الثاء، أو من الراء إلى الغين، أو من حرف إلى حرف. (2) كذا في النسخ. ولعل تذكير الضمير باعتبار الثقل. (*)
[ 87 ]
ويشهدون له بصدقه. وقيل: متعاضدين متناصرين كل واحد منهم يمالئ صاحبه (فاستخف قومه) ومعناه: إن فرعون استخف عقول قومه (فأطاعوه) فيما دعاهم إليه، لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل وهو قوله: (أليس لي ملك مصر) إلى آخره. ولو عقلوا لقالوا: ليس في ملك الإنسان دلالة على أنه محق، وليس يجب أن يأتي مع الرسل ملائكة، لأن الذي يدل على صدق الرسل، هو المعجز دون غيره. (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله تعالى. النظم: وجه اتصال قصة موسى عليه السلام بما قبلها أنه لما تقدم السؤال عن أحوال الرسل، وما جاءوا به، اتصل به حديث موسى وعيسى عليه السلام، لأن أهل الكتابين إليهما ينتسبون. وقيل: إنه لما تقدم ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيب قومه إياه، ذكر حديث موسى تسلية له، وتطييبا لقلبه صلى الله عليه وآله وسلم. * (فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 55 ] * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ 56 ] * ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون [ 57 ] * وقالوا ءألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جد لا بل هم قوم خصمون [ 58 ] * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل [ 59 ] * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون [ 60 ] *. القراءة: قرأ حمزة والكسائي. (سلفا) بضم السين واللام. وقرأ الباقون بفتحهما. وقرأ أهل المدينة وابن عامر والأعشى والبرجمي والكسائي وخلف: (يصدون) بضم الصاد. والباقون بكسر الصاد. الحجة: من قرأ (سلفا) جاز أن يكون جمعا لسلف، مثل أسد وأسد، ووثن ووثن. ومن قرأ (سلفا) فلأن فعلا قد جاء في حروف يراد بها الكثرة، فكأنه إسم من أسماء الجمع، قالوا: خادم وخدم، وطالب وطلب، وحارس وحرس. وكذلك المثل واحد يراد به الجمع، ولذلك عطف على سلف في قوله (فجعلناهم سلفا) ومثلا. ومعنى يصدون، ويصدون جميعا: يضجون، عن أبي عبيدة قال: والكسر أجود، ويقال: صد عن كذا فيوصل بعن، كما قال الشاعر:
[ 88 ]
صددت الكأس عنا أم عمرو، وكان الكأس مجراها اليمينا (1) وصدوا عن سبيل الله. فمن ذهب في يصدون إلى معنى يعدلون، كان المعنى إذا قومك منه أي من أجل المثل يصدون. ولم يوصل يصدون بعن. ومن قال يصدون يضجون، جعل من متصلة بيضج، كما تقول: يضج من كذا. وقال بعض المفسرين: معنى يصدون يضجون. والمعنى أنه لما نزل (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الآية. لأنها اتخذت آلهة وعبدت، فعيسى في حكمهم قال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك) في هذا الذي قالوه منه يضحكون لما أتوا به من عندهم، من تسويتهم بين عيسى، وبين آلهتهم، وما ضربوه إلا إرادة للمجادلة لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوا من الموات. اللغة. يقال: آسفه فأسف يأسف أسفا أي: أغضبه فغضب، وأحزنه فحزن. ويقال: الأسف الغيظ من المغتم، إلا أنه ههنا بمعنى الغضب، والسلف: المتقدم على غيره قبل مجئ وقته. ومنه السلف في البيع. والسلف: نقيض الخلف. والجدل: مقابلة الحجة بالحجة. وقيل: الجدل اللدد في الخصام، وأصله من جدل الحبل وهو شدة فتله. ورجل مجدول الخلق أي شديده. وقيل: أصله من الجدالة، وهي الأرض، كأن كل واحد من الخصمين يروم إلقاء صاحبه على الجدالة. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون وقومه فقال: (فلما آسفونا) أي أغضبونا، عن ابن عباس ومجاهد. وغضب الله سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم، ورضاه عن المطيعين. إرأدة ثوابهم الذي يستحقونه على طاعتهم. وقيل: معناه آسفوا رسلنا لأن الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله سبحانه. (انتقمنا منهم) أي انتقمنا لأولياتنا منهم (فأغرقناهم أجمعين) ما نجا منهم أحد. (فجعلناهم سلفا) أي متقدمين إلى النار (ومثلا) أي عبرة وموعظة (للآخرين) أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم. والمعنى: إن حال غيرهم يشبه حالهم إذ أقاموا على العصيان. (1) أي: عملت يا أم عمرو خلاف العادة، ولم تجريها على العادة. وكانت العادة في الكأس أن تدار في مجلس الشرب من جانب اليمين إلى اليسار. وفي أصل الديوان صبيت، وهو أيضا بمعنى صرفت. (*)
[ 89 ]
(ولما ضرب ابن مريم مثلا) إختلف في المراد به على وجوه أحدها. إن معناه ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة، أي فيما قالوه على زعمهم، وذلك أنه لما نزل قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال المشركون: قد رضينا بأن تكون آلهتنا حيث يكون عيسى، وذلك قوله: (إذا قومك منه يصدون) أي يضجون ضجيج المجادلة، حيث خاصموك. وهو قوله: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) * أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون ألله، فكذلك آلهتنا، عن ابن عباس ومقاتل وثانيها: إن معناه لما ضرب ألله المسيح مثلا بآدم في قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) أي: من قدر على أن ينشئ آدم من غير أب وأم، قادر على إنشاء المسيح من غير أب، إعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك قوم من كفار قريش، فنزلت هذه الآية وثالثها: إن معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما مدح المسيح وأمه، وأنه كآدم في الخاصية قالوا: إن محمدا يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى، عن قتادة ورابعها: ما رواه سادة أهل البيت عن علي، عليهم أفضل الصلوات، أنه قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما، فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلي ثم قال: (يا علي ! إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم، أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا). فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا: يشبهه بالأنبياء والرسل ! فنزلت الآية: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) أي آلهتنا أفضل أم المسيح، فإذا كان المسيح في النار رضينا أن تكون آلهتنا معه، عن السدي وابن زيد. وقيل: معناه إن آلهتنا خير من المسيح، فإذا عبد المسيح جاز أن تعبد آلهتنا، عن الجبائي. وقيل: هو كناية عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: آلهتنا خير من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأمرنا بأن نعبده كما عبد النصارى المسيح، ونطيعه ونترك آلهتنا، عن قتادة. وقال علي بن عيسى: معنى سؤالهم بقولهم (أآلهتنا خير أم هو) أنهم ألزموا ما لا يلزم على ظن منهم وتوهم، كأنهم قالوا. ومثلنا فيما نعبد، مثل ما يعبد المسيح، فأيما خير عبادة آلهتنا، أم عبادة المسيح ؟ على أنه إن قال عبادة المسيح أقر بعبادة غير الله، وكذلك إن قال عبادة الأوثان وإن قال: ليس في عبادة المسيح خير، قصر به عن المنزلة التي أبين لأجلها من سائر العباد. وجوابهم عن ذلك: إن اختصاص المسيح بضرب من التشريف والإنعام عليه، لا يوجب العبادة له، كما لا يوجب أن ينعم عليه بأعلى مراتب النعمة.
[ 90 ]
(ما ضربوه لك إلا جدلا) أي ما ضربوا هذا المثل لك إلا ليجادلوك به، ويخاصموك، ويدفعوك به عن الحق، لأن المتجادلين لا بد أن يكون أحدهما مبطلا بخلاف المتناظرين، لأن المناظرة قد تكون بين المحقين. (بل هم قوم خصمون) أي جدلون في دفع الحق بالباطل. ثم وصف سبحانه المسيح فقال: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) أي ما هو إلا عبد أنعمنا عليه بالخلق من غير أب، وبالنبوة. (وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) أي آية لهم ودلالة يعرفون بها قدرة الله تعالى على ما يريد، حيث خلقه من غير أب، فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله. ثم قال سبحانه، دالا على كمال قدرته، وعلى أنه لا يفعل إلا الأصلح. (ولو نشاء لجعلنا منكم) أي بدلا منكم معاشر بني آدم (ملائكة في الأرض يخلفون) بني آدم أي يكونون خلفاء منهم. والمعنى: لو نشاء أهلكناكم، وجعلنا الملائكة بدلكم سكان الأرض، يعمرونها، ويعبدون الله. ومثل قوله (منكم) في الآية ما في قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان (1) وقيل: معناه ولو نشاء لجعلناكم أيها البشر ملائكة، فيكون من باب التجريد. وفيه إشارة إلى قدرته على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة، يخلفون أي يخلف بعضهم بعضا. * (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم [ 61 ] * ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 62 ] * ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولا بين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون [ 63 ] * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 64 ] * فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 65 ] *. (1) الطهيان: قلة الجبل. يتمنى أن يكون لهم بدلا من ماء زمزم شربة ماء، وضعت على قلة الجبل، فصارت باردة شديدا. (*)
[ 91 ]
القراءة: في الشواذ قراءة ابن عباس وقتادة والضحاك: (وإنه لعلم) بفتح العين واللام. أي إمارة وعلامة. المعنى: ثم رجع سبحانه إلى ذكر عيسى عليه السلام فقال: (وإنه لعلم للساعة) يعني أن نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة، يعلم بها قربها. (فلا تمترن بها) أي بالساعة فلا تكذبوا بها، ولا تشكوا فيها، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ينزل (1) عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا. فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة من الله لهذه الأمة). أورده مسلم في الصحيح. وفي حديث آخر: (كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم). وقيل. إن الهاء في قوله (وإنه) يعود إلى القرآن، ومعناه: إن القرآن لدلالة على قيام الساعة والبعث يعلم به ذلك، عن الحسن. وقيل: معناه أن القرآن لدليل الساعة، لأنه آخر الكتب، أنزل على آخر الأنبياء، عن أبي مسلم. وقوله: (واتبعوني هذا صراط مستقيم) معناه: واتبعوني فيما آمركم به هذا الذي أنا عليه طريق واضح قيم. (ولا يصدنكم الشيطان) أي ولا يصرفنكم الشيطان بوساوسه عن دين الله (إنه لكم عدؤ مبين) بين العداوة، يدعوكم إلى الضلال الذي هو سبب هلاككم. ثم أخبر سبحانه عن حال عيسى عليه السلام حين بعثه الله نبيا فقال: (ولما جاء عيسى بالبينات) أي بالمعجزات الدالة على نبوته. وقيل: بالإنجيل، عن قتادة (قال) لهم (قد جئتكم بالحكمة) أي بالنبوة، عن عطاء. وقيل: بالعلم بالتوحيد، والعدل والشرائع. (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) قيل: إن المعنى كل الذي تختلفون فيه، كقول لبيد: (أو يخترم بعض النفوس حمامها) (2) أي كل النفوس، وكقول القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته، وقد يكون من المستعجل الزلل أي كل حاجته، عن أبي عبيدة. قال الزجاج: والصحيح أن البعض لا يكون (1) وفي الحجري بدل ينزل: (كيف بكم إذا نزل). (2) أوله: (تراك أمكنة إذا لم أرضها). أي: إني أترك أمكنة إذا لم أرضها إلا أن يأخذ الموت نفسي، فلا يمكنها البراح. (*)
[ 92 ]
في معنى الكل، والذي جاء به عيسى في الإنجيل. إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه. وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقول الشاعر: (أو يخترم بعض النفوس حمامها) إنما يعني نفسه. وقيل: معناه لأبين لكم ما تختلفون فيه من أمور الدين دون أمور الدنيا. (فاتقوا الله) بأن تجتنبوا معاصيه، وتعملوا بالطاعات (وأطيعوني) فيما أدعوكم إليه (إن الله هو ربي وربكم الذي) تحق له العبادة (فاعبدوه) خالصا، ولا تشركوا به شيئا (1). (هذا صراط مستقيم) يفضي بكم إلى الجنة، وثواب الله. (فاختلف الأحزاب من بينهم) يعني اليهود والنصارى اختلفوا في أمر عيسى (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) قد مر تفسير الآية في سورة مريم. * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 66 ] * الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [ 67 ] * يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [ 68 ] * الذين ءامنوا باياتنا وكانوا مسلمين [ 69 ] * ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [ 70 ] * يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون [ 71 ] * وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ 72 ] * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 73 ] * إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون [ 74 ] * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 75 ] *. القراءة: قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص: (ما تشتهيه الأنفس) بزيادة الهاء. والباقون: (تشتهي الأنفس) بحذف الهاء. الحجة: قال أبو علي: حذف هذه الهاء من الصلة في الحسن كإثباتها، إلا أن الحذف يرجح على الإثبات بأن عامة هذا النحو في التنزيل، جاء على الحذف، نحو قوله: (أهذا الذي بعث الله رسولا). (وسلام على عباده الذين اصطفى) ويقوي (1) وفي المخطوطة والحجري: (شيئا معبودا). (*)
[ 93 ]
الحذف من جهة القياس أنه إسم قد طال. والأسماء إذا طالت فقد يحذف منها، كما يحذف في اشهيباب، واحميرار. وكما حذفوا من كينونة، فكما ألزموا الحذف لهذا كذلك حسن أن تحذف الهاء من الصلة. اللغة: الحبور: السرور الذي يظهر في الوجه أثره. وحبرته أي حسنته. والحبار: الأثر. والصحاف: جمع صحفة، وهي الجام الذي يؤكل فيه الطعام. والأكواب: جمع كوب، وهي إناء على صورة الإبريق لا أذن له، ولا خرطوم. وقيل. إنه كالكأس للشراب. قال الأعشى: صريفية (1) طيب طعمها، لها زبد بين كوب، ودن المعنى: قال سبحانه موبخا لهم: (هل ينظرون) أي هل ينتظر هؤلاء الكفار بعد ورود الرسل وألقرآن (إلا الساعة) أي القيامة (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون) أي لا يدرون وقت مجيئها (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) معناه إن الذين تخالوا وتواصلوا في الدنيا، يكون بعضهم أعداء لبعض ذلك اليوم، يعني يوم القيامة، وهم الذين تخالوا على الكفر والمعصية، ومخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يرى كل واحد منهم من العذاب بسبب تلك المصادقة. ثم استثنى من جملة الأخلاء المتقين فقال: (إلا المتقين) من المؤمنين الموحدين الذين خال بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن تلك الخلة تتأكد بينهم يوم القيامة، ولا تنقلب عداوة. (يا عبادي لا خوف عليكم اليوم) أي يقال لهم وقت الخوف: يا عبادي ! لا خوف عليكم من العذاب اليوم. (ولا أنتم تحزنون) من فوات الثواب. ثم وصف سبحانه عباده، وميزهم من غيرهم فقال: (الذين آمنوا بآياتنا) أي صدقوا بحججنا ودلائلنا، واتبعوها (وكانوا مسلمين) أي مستسلمين لأمرنا، خاضعين منقادين (والذين آمنوا) في محل النصب على البدل من (عبادي) أو الصفة له. ثم بين سبحانه ما يقال لهم بقوله: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) اللاتي كن مؤمنات مثلكم. وقيل: يعني أزواجهم من الحور العين في الجنة (تحبرون) أي تسرون وتكرمون. وقد مر تفسيره في سورة الروم. (1) الصريفية: الخمر المنسوبة إلى صريفون، وهي قرية عند عكبراء، أو منسوب إلى صريفة: قرية بواسط - كما قيل - أو لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الحار ساعة يصرف عن الضرع. (*)
[ 94 ]
(يطاف عليهم بصحاف) أي بقصاع (من ذهب) فيها ألوان الأطعمة (وأكواب) أي كيزان لا عرى لها. وقيل: بآنية مستديرة الرأس. إكتفى سبحانه بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب. (وفيها) أي وفي الجنة (ما تشتهيه الأنفس) من أنواع النعيم المشروبة والمطعومة والملبوسة والمشمومة وغيرها (وتلذ الأعين) أي وما تلذه العيون بالنظر إليه. وإنما أضاف الإلتذاذ إلى الأعين، وإنما الملتذ على الحقيقة هو الإنسان، لأن المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذة. فإضافة اللذة إلى الموضع الذي يلذ الإنسان به أحسن، لما في ذلك من البيان مع الإيجاز. وقد جمع الله سبحانه بقوله (ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان. (وأنتم فيها) أي في الجنة وأنواع من الملاذ (خالدون) أي دائمون مؤبدون. (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) أي اعطيتموها بأعمالكم. قال ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، والمؤمن يرث جنة الكافر. وهذا كقوله: (أولئك هم الوارثون) (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) جمع لهم بين الطعام والشراب والفواكه، وبين دوام ذلك، فهذه غاية الأمنية. ثم أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار فقال: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون) دائمون (لا يفتر عنهم) العذاب أي لا يخفف عنهم (وهم فيه مبلسون) آيسون من كل خير. * (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين [ 76 ] * ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 77 ] * لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 78 ] * أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون [ 79 ] * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 80 ] * قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 81 ] * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون [ 82 ] * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 83 ] * وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم [ 84 ] * وتبارك الذي له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده
[ 95 ]
علم الساعة وإليه ترجعون [ 85 ]. * القراءة: قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى وروح عن يعقوب: (وإليه يرجعون) بالياء. والباقون: بالتاء. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود ويحيى والأعمش: (يا مال). وروي ذلك عن علي عليه السلام وقراءة أبي عبد الرحمن اليماني: (فأنا أول العبدين) بغير ألف. والقراءة المشهورة. (العابدين). الحجة: قال أبو علي: حجة الياء في (يرجعون) أن قبله غيبة وهو قوله: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا). وحجة التاء أن يراد به مع الغيبة مخاطبون، فغلب الخطاب على الغيبة، أو يكون على قل لهم، وإليه ترجعون. وقوله: (يا مال) على المذهب المألوف في الترخيم. قال الشاعر: فأبلغ مالكا عني رسولا، وما يغني الرسول لديك مال أي يا مالك. قال ابن جني: وفي هذا الموضع سر، وهو أنهم لعظم ما هم فيه خفيت (1) قواهم، وصغر كلامهم، فكان هذا في موضع الإختصار. وقوله (أنا أول العابدين) من قولهم: عبدت من الأمر أعبد عبدا أي: أنفت منه. قال الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم، وأعبد أن تهجى كليعب بدارم ولكن نصفا إن سسببت، وسبني بنو عبد شمس، قريش، وهاشم (2) الاعراب: قوله (وهو الذي في السماء إله) إرتفع (إله) بكونه خبر مبتدأ محذوف من الصلة وتقديره: وهو الذي هو في السماء إله. و (في السماء) يتعلق بقوله: (إله) وموضعه نصب به، وإن كان مقدما عليه. (وعنده علم الساعة) أي علم وقوع الساعة. فالمصدر مضاف إلى المفعول، أي يعلم وقوع الساعة. المعنى لما بين سبحانه ما يفعله بالمجرمين، بين أنه لم يظلمهم بذلك (1) وفي المخطوطة (خفت) بدل (خفيت). (2) النصف بالكسر: الاسم من الإنصاف. مقصوده: إني آنف أن تهجى قبيلة كليب في قبال دارم، لأن دارما أمنع حسبا من كليب، فليسا بكفوء ولكن الإنصاف أن يقع التساب والتهاجي بين قومي، وبين بني عبد شمس، وبني هاشم، فإنهما كفوان لقومي. (*)
[ 96 ]
فقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) نفوسهم بما جنوا عليها من العذاب (ونادوا يا مالك) أي ويدعون خازن جهنم، فيقولون: يا مالك (ليقض علينا ربك) أي ليمتنا ربك حتى نتخلص ونستريح من هذا العذاب (قال) أي: فيقول مالك مجيبا لهم: (إنكم ماكثون) أي لابثون دائمون في العذأب. قال ابن عباس، والسدي: إنما يجيبهم مالك بذلك بعد ألف سنة. وقال عبد الله بن عمر: بعد أربعين عاما. (لقد جئناكم) أي: يقول الله تعالى لقد أرسلنا إليكم الرسل (بالحق) أي جاءكم رسلنا بالحق، وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره. وقيل: هو من قول مالك، وإنما قال: (لقد جئناكم) لأنه من الملائكة، وهم من جنس الرسل، عن الجبائي. (ولكن أكثركم) معاشر الخلق (للحق كارهون) لأنكم ألفتم الباطل فكرهتم مفارقته. (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) أي بل أحكموا أمرا في كيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمكر به، فإنا مبرمون أي محكمون أمرا في مجازاتهم. (أم يحسبون) أي بل أيظن هؤلاء الكفار (أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) أي ما يسرونه من غيرهم، ويتناجون به بينهم. والسر ما يضمره الإنسان في نفسه، ولا يظهره لغيره. والنجوى ما يحدث به المحدث غيره في الخفية. (بلى) (1) نسمع ذلك، وندركه (ورسلنا لديهم يكتبون) ما يقولونه ويفعلونه - يعني الحفظة - وسبب نزول الآية مذكور في تفسير أهل البيت عليه السلام. (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) اختلف في معناه على أقوال أحدها: إن معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم، وعلى زعمكم، فأنا أول العابدين أي: أول من عبد الله وحده (2) فقد دفع أن يكون له ولد. والمعنى: فأنا أول الموحدين لله، المنكرين لقولكم، عن مجاهد. وثانيها: إن (إن) بمعنى ما النفي. والمعنى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين لله، المقرين بذلك، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وثالثها: إن معناه لو كان له ولد، لكنت أنا أول الآنفين من عبادته، لأن من كان له ولد لا يكون إلا جسما محدثا، ومن كان كذلك لا يستحق (1) [ أي: بل ]. (2) في الحجري زيادة وهي (ومن عبد الله وحده) وهو الصواب. (*)
[ 97 ]
العبادة، لأنه لا يقدر على النعم التي يستحق بها العبادة، عن الجبائي وغيره ورابعها: إنه يقول: كما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس لله ولد. وهذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب تريد: لست كاتبا، ولا أنا حاسب، عن سفيان بن عيينة. وخامسها. إن معناه لو كان له ولد، لكنت أول من يعبده، بأن له ولدا، ولكن لا ولد له، عن السدي وأبي مسلم. وهذا كما يقال: لو دعت الحكمة إلى عبادة غيره لعبدته، لكن الحكمة لا تدعو إلى عبادة غيره. ولو دل الدليل على أن له ولدا، لقلت به، ولكنه لا يدل، فهذا تحقيق لنفي الولد، وتبعيد له، لأنه تعليق محال بمحال. ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك فقال: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) أي تنزيها لمالك السماوات والأرض، وخالقهن، وخالق العرش ومدبره، عما يصفونه به من اتخاذ الولد، لأن من قدر على ذلك استغنى عن اتخاذ الولد. ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على وجه التهديد للكفار فقال: (فذرهم يخوضوا) في باطلهم (ويلعبوا) في دنياهم (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) فيه بعذاب الأبد، وهو يوم القيامة. (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي هو الذي تحق له العبادة في السماء، وتحق له العبادة في الأرض. وإنما كرر لفظ (إله) لأمرين أحدهما. التأكيد ليتمكن المعنى في النفس. والثاني: لأن المعنى هو إله في السماء، يجب على الملائكة عبادته. وإله في الأرض يجب على الإنس والجن عبادته. (وهو الحكيم) في جميع أفعاله (العليم) بمصالح عباده. * (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما) أي دامت بركته، فمنه البركات، وإيصال السعادات، وجل عن أن يكون له ولد، أو شبيه، من له التصرف في السماوات والأرض، وفيما بينهما، بلا دافع، ولا منازع (وعنده علم الساعة) أي علم يوم القيامة، لأنه لا يعلم وقته على التعيين غيره (وإليه ترجعون) يوم القيامة، فيجازي كلا على قدر عمله. * (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون [ 86 ] * ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [ 87 ] * وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون [ 88 ] * فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 89 ] *).
[ 98 ]
القراءة: قرأ عاصم وحمزة: (وقيله) بالجر. والباقون بالنصب. وفي الشواذ قراءة الأعرج ومجاهد: (وقيله) بالرفع. وقرأ أهل المدينة والشام: (فسوف تعلمون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: قال أبو علي. وجه الجر في (وقيله) أنه معطوف على قوله (وعنده علم الساعة) وعلم قيله أي: يعلم الساعة، ومن يصدق بها، ويعلم قيله. ومعنى يعلم قيله أي يعلم أن الدعاء مندوب إليه نحو قوله: (ادعوني أستجب لكم) و (ادعوا ربكم تضرعا وخفية). وأما من نصب حمله على موضع (وعنده علم الساعة) لأن (الساعة) مفعول بها، وليست بظرف. فالمصدر مضاف إلى المفعول به، ومثل ذلك قوله: قد كنت داينت بها حسانا مخافة الإفلاس، والليانا (1) يحسن بيع الأصل، والقيانا فكما أن القيان والليان، محمولان على ما أضيف إليه المصدر من المفعول به، فكذلك قوله تعالى: (وعنده علم الساعة) لما كان معناه يعلم الساعة، حملت (قيله) على ذلك. ويجوز أن تحمله على يقول قيله، فيدل انتصاب المصدر على فعله، وكذلك قول كعب: يسعى الوشاة جنابيها، وقيلهم: إنك يابن أبي سلما لمقتول (2) أي ويقولون حقا. ووجه ثالث: أن يحمل على قوله: (يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) وقيله. ومن قرأ (وقيله) بالرفع احتمل ضربين أحدهما. أن يجعل الخبر وقيله قيل يا رب فيحذف. والآخر: أن يجعل الخبر وقيله يا رب مسموع ومتقبل. فيا رب منصوب الموضع بقيله المذكور. وعلى القول الآخر بقيله المضمر، وهو من صلته. ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع أن يحذف بعض الموصول، ويبقى بعضه، لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. وقد يحتمل بيت كعب (1) داينت أي: أقرضت. والضمير في بها راجع إلى القنية، وهي ما يكتسب من المال. والليان: المماطلة بالدين. والأصل المال الأصيل مقابل القيان: وهو جمع القين والقينة: وهما العبد والأمة أي: يحسن بيع أنواع أمواله من الأصل والقيان، لقضاء دينه. (2) مر البيت في ج 1. (*)
[ 99 ]
الرفع على هذين الوجهين. وقال ابن جني: هو معطوف على علم أي وعلم قيله، فحذف المضاف. فالمصدر الذي هو قيل، مضاف إلى الهاء الذي هو مفعول في المعنى. والتقدير: وعنده علم أن يقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. ومن قرأ (فسوف تعلمون) بالتاء فالوجه فيه أنه على تقدير: قل لهم فسوف تعلمون. ووجه الياء أن يحمل على الغيبة التي هي (فاصفح عنهم). وقوله (وقل سلام) تقديره: وقل أمرنا وأمركم سلام أي متاركة. المعنى: ثم ذكر سبحانه أنه لا شفاعة لمعبوديهم فقال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه) أي الذي يدعوه الكفار إلها، ويوجهون عبادتهم إليه من الأصنام وغيرها (الشفاعة) لمن يعبدهم كما توهمه الكفار، وهي مسألة الطالب العفو عن غيره، وإسقاط العقاب عنه. (إلا من شهد بالحق) وهم عيسى بن مريم وعزير والملائكة، استثناهم سبحانه ممن عبد من دون الله، فإن لهم عند الله منزلة الشفاعة، عن قتادة. وقيل: معناه لا يملك أحد من الملائكة وغيرهم الشفاعة، إلا لمن شهد بالحق أي شهد أن لا إله إلا الله، وذلك أن النضر بن الحارث، ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، وهم أحق بالشفاعة لنا منه. فنزلت الآية. فالمعنى: إنهم يشفعون للمؤمنين بإذن الله. (وهم يعلمون) أي يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. وفي هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان هو الإعتقاد بالقلب، والمعرفة، لأن الله شرط مع الشهادة العلم، وهو ما اقتضى طمأنينة القلب إلى ما اعتقده، بحيث لا يتشكك إذا شكك، ولا يضطرب إذا حرك. (ولئن سألتهم) يا محمد (من خلقهم) أي أخرجهم من العدم إلى الوجود. (ليقولن الله) لأنهم يعلمون ضرورة أن أصنامهم لم تخلقهم (فأنى يؤفكون) أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه، وينكر عليه تخلفهم عن الإيمان. وذكر أن قراءة عبد الله: وقال الرسول يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وعلى هذا فالهاء في وقيله، يعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (فاصفح عنهم) أي فأعرض عنهم يا محمد بصفح وجهك، كما قال. (وأعرض عن الجاهلين). (وقل سلام) أي مداراة ومتاركة. وقيل: هو سلام هجران ومجانبة، لا سلام تحية وكرامة، كقوله: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين). وقيل: معناه قل ما تسلم به من شرهم وأذاهم. وهذا منسوخ بآية
[ 100 ]
السيف، عن قتادة. وقيل: معناه فاصفح عن سفههم، ولا تقابلهم بمثله. ندبه سبحانه إلى الحلم، فلا يكون منسوخا، عن الحسن. ثم هددهم سبحانه بقوله: (فسوف يعلمون) يعني: يوم القيامة إذا عاينوا ما يحل بهم من العذاب.
[ 101 ]
44 - سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون عدد آياتها: تسع وخمسون آية كوفي، سبع بصري، ست في الباقين. اختلافها: أربع آيات حم، وإن هؤلاء ليقولون كوفي، شجرة الزقوم عراقي شامي والمدني الأول في البطون عراقي مكي والمدني الأخير. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (ص): " ومن قرأ الدخان في ليلة الجمعة، غفر له ". أبو هريرة عن النبي (ص) قال. " من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ". وعنه عن النبي (ص) قال: " ومن قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ". أبو إمامة عن النبي (ص) قال: " ومن قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، بنى الله له بيتا في الجنة ". وروى أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع) قال: من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله، بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظله تحت ظل عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، وأعطي كتابه بيمينه. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة الزخرف بالوعيد والتهديد، وافتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد، فقال: * بسم الله الرحمن الرحيم * * حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين
[ 102 ]
(8) بل هم في شك يلعبون (9) فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11). احدى عشرة آية كوفي (1) في غيرهم. القراءة: قرأ أهل الكوفة: (رب السماوات) بالجر. والباقون بالرفع. الحجة: الرفع فيه على أحد أمرين: إما أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هو رب السماوات. وإما أن يكون مبتدأ وخبره الجملة التي عاد الذكر منها إليه، وهو قوله: (لا إله إلا هو) ويقويه قوله: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو). ومن قرأ بالجر جعله بدلا من ربك المتقدم ذكره. قال أبو الحسن: الرفع أحسن، وبه يقرأ. الاعراب: (إنا كنا منذرين) جواب القسم دون قوله (إنا أنزلناه) لأنك لا تقسم بالشئ على نفسه. فإن القسم تأكيد خبر بخبر آخر فقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) اعتراض بين القسم وجوابه. (أمرا من عندنا) في انتصابه وجهان أحدهما: أن يكون نصبا على الحال وتقديره: إنا أنزلناه آمرين أمرا، كما يقال: جاء فلان مشيا وركضا أي: ماشيا وراكضا. وعلى هذا فيكون مصدرا موضوعا موضع الحال، وهذا اختيار الأخفش. ويجوز أن يكون تقديره ذا أمر، فحذف المضاف كما قال: (ولكن البر) بمعنى ذا البر والثاني: أن يكون منصوبا على المصدر، لأن معنى قوله (فيها يفرق) فيها يؤمر، قد دل يفرق على يؤمر. وقوله: (رحمة) منصوب على أنه مفعول له أي. أنزلناه للرحمة. وقال الأخفش: هو منصوب على الحال أي راحمين رحمة. المعنى: (حم) مر بيانه (والكتاب المبين) أقسم سبحانه بالقرآن الدال على صحة نبوة نبينا (ص). وفيه بيان الأحكام، والفصل بين الحلال والحرام. وجواب القسم: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) أي إنا أنزلنا القرآن، والليلة المباركة هي ليلة القدر، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقيل. هي ليلة النصف من شعبان، عن عكرمة. والأصح الأول، (1) [ عشرة ]. (*)
[ 103 ]
ويدل عليه قوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن). واختلف في كيفية إنزاله فقيل: أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل نجوما إلى النبي (ص). وقيل: إنه كان ينزل جميع ما يحتاج في كل سنة في تلك الليلة، ثم كان ينزلها جبرائيل (ع) شيئا فشيئا، وقت وقوع الحاجة إليه. وقيل: كان بدء إنزاله في ليلة القدر. وروي عن ابن عباس أنه قال: قد كلم الله جبرائيل في ليلة واحدة، وهي ليلة القدر، فسمعه جبرائيل، وحفظه بقلبه، وجاء به إلى السماء الدنيا إلى الكتبة، وكتبوه. ثم نزل على محمد (ص) بالنجوم في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في عشرين سنة. وإنما وصف الله سبحانه هذه الليلة بانها مباركة لأن فيها يقسم الله نعمه على عباده من السنة إلى السنة، فتدوم بركاتها. والبركة نماء الخير وضدها الشؤم وهو نماء الشر. فالليلة التي أنزل فيها كتاب الله، مباركة ينمى الخير فيها على ما دبر الله سبحانه لها من علو مرتبتها، واستجابة الدعاء فيها. (إنا كنا منذرين) أي مخوفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة. والإنذار: الإعلام لموضع الخوف ليتقى، وموضع الأمن ليجتبى. فالله عز اسمه قد أنذر عباده بأتم الإنذار من طريق العقل والسمع. (فيها يفرق كل أمر حكيم) أي في هذه الليلة يفصل ويبين. والمعنى: يقضي كل أمر محكم لا تلحقه الزيادة والنقصان، وهو أنه يقسم فيها الاجال والأرزاق وغيرها من أمور السنة إلى مثلها من العام القابل، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى. وقالى عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان، يبرم فيها أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج فلا يزيد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد. (أمرا من عندنا) معناه: إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ (إنا كنا مرسلين) محمدا إلى عبادنا، كمن كان قبله من الأنبياء (رحمة من ربك) أي رأفة منا بخلقنا، ونعمة منا عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، عن ابن عباس. (إنه هو السميع) لمن دعاه من عباده (العليم) بمصالحهم (رب السماوات والأرض) أي خالقهما ومدبرهما (وما بينهما إن كنتم موقنين) بهذا الخبر، محققين له، وهو أنه (لا إله إلا هو) لا يستحق العبادة سواه (يحيي) الخلق بعد موتهم (ويميت) أي
[ 104 ]
ويميتهم بعد إحيائهم (ربكم) الذي خلقكم ودبركم (ورب آبائكم الأولين) الذين سبقوكم. ثم ذكر سبحانه الكفار فقال: ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه (بل هم في شك) مما أخبرناك به (يلعبون) مع ذلك ويستهزئون بك وبالقرآن إذا قرئ عليهم، عن الجبائي. وقيل: يلعبون أي يشتغلون بالدنيا، ويترددون في أحوالها. ثم خاطب نبيه (ص) فقال: (فارتقب) أي فانتظر يا محمد (يوم تأتي السماء بدخان مبين) وذلك أن رسول (ص) دعا على قومه لما كذبوه فقال: " اللهم سنينا (1) كسني يوسف ! " فأجدبت الأرض، فأصابت قريشا المجاعة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان، وأكلوا الميتة والعظام، ثم جاؤوا إلى النبي (ص) وقالوا: يا محمد ! جئت تأمر بصلة الرحم، وقومك قد هلكوا. فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسعة، فكشف عنهم. ثم عادوا إلى الكفر، عن ابن مسعود والضحاك. وقيل: إن الدخان آية من أشراط الساعة، تدخل في مسامع الكفار والمنافقين، وهو لم يأت بعد، وإنه يأتي قبل قيام الساعة، فيدخل أسماعهم حتى أن رؤوسهم تكون كالرأس الحنيذ، ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه، ليس فيه خصاص (2)، ويمكث ذلك أربعين يوما، عن ابن عباس وابن عمر والحسن والجبائي. (يغشى الناس) يعني أن الدخان يعم جميع الناس. وعلى القول الأول المراد بالناس أهل مكة، وهم الذين يقولون (هذا عذاب أليم) أي موجع مؤلم. ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16) ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين (1) في نسخة " سنين " وهو الصواب، فإن علامة النصب فيه الياء من دون التنوين. (2) الخصاص: كل خلل وخرق في باب، ومنخل، وبرقع ونحوه. والفرج في البناء بين الأثافي. (*)
[ 105 ]
(18) وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين (19) وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21). الاعراب. (يوم نبطش) منصوب بقوله: (إنا كاشفو العذاب قليلا). ويجوز أن ينتصب بمضمر دل عليه (منتقمون)، ولا ينتصب بقوله (منتقمون) لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبله. المعنى: ثم لما أخبر سبحانه أن الدخان يغشى الناس، عذابا لهم، وأنهم قالوا ويقولون على ما فيه من الخلاف: (هذا عذاب أليم) حكى عنهم أيضا قولهم: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) بمحمد (ص) والقرآن. قال سبحانه (أنى لهم الذكرى) أي من أين لهم التذكر والإتعاظ ؟ وكيف يتذكرون ويتعظون. (وقد جاءهم رسول مبين) أي وحالهم أنهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والدلالة (ثم تولوا عنه) أي أعرضوا عنه، ولم يقبلوا قوله. (وقالوا معلم مجنون) أي هو معلم يعلمه بشر مجنون بادعاء النبوة. ثم قال سبحانه: (إنا كاشفو العذاب) أي عذاب الجوع والدخان (قليلا) أي زمانا قليلا يسيرا إلى يوم بدر، عن مقاتل. (إنكم عائدون) في كفركم وتكذيبكم. فلما كشف الله سبحانه ذلك عنهم بدعاء النبي (ص) واستسقائه لهم، عادوا إلى تكذيبه. هذا على تأويل من قال إن ذلك الدخان كان وقت النبي (ص). فأما على القول الآخر فمعناه أنكم عائدون إلى العذاب الأكبر، وهو عذاب جهنم. والقليل مدة ما بين العذابين (يوم نبطش البطشة الكبرى) أي واذكر لهم ذلك اليوم، يعني يوم بدر على القول الأول. قالوا: لما كشف عنهم الجوع، عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم يوم بدر. وعلى القول الآخر البطشة الكبرى تكون يوم القيامة. والبطش هو الأخذ بشدة وقع الألم. (إنا منتقمون) منهم ذلك اليوم. ثم قال سبحانه: (ولقد فتنا قبلهم) أقسم سبحانه أنه فتن قبل كفار قوم النبي (ص) (قوم فرعون) أي اختبرهم، وشدد عليهم التكليف، لأن الفتنة شدة التعبد، وأصلها الإحراق بالنار، لخلاص الذهب من الغش. وقيل: إن الفتنة معاملة المختبر، ليجازى بما يظهر دون ما يعلم مما لا يظهر. (وجاءهم رسول كريم) أي كريم الأخلاق والأفعال، بالتجاوز والصفح، والدعاء إلى الصلاح والرشد. وقيل:
[ 106 ]
كريم عند الله بما استحق بطاعته من الإكرام والإعظام. وقيل: كريم شريف في قومه من بني إسرائيل (أن أدوا إلي عباد الله) هذا من قول موسى (ع) لفرعون وقومه والمعنى: أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير، فإنهم أحرار فهو كقوله (فأرسل معي بني إسرائيل) فيكون (عباد الله) مفعول (أدوا). وقال الفراء: معناه أدوا إلي ما آمركم به يا عباد الله. (إني لكم رسول أمين) على ما أؤديه وأدعوكم إليه (وأن لا تعلوا على الله) أي لا تتجبروا على الله بترك طاعته، عن الحسن. وقيل: لا تتكبروا على أولياء الله بالبغي عليهم. وقيل: لا تبغوا عليه بكفران نعمه، وافتراء الكذب عليه، عن ابن عباس وقتادة (إني آتيكم بسلطان مبين) أي بحجة واضحة يظهر الحق معها. وقيل: بمعجز ظاهر يبين صحة نبوتي، وصدق مقالتي. فلما قال ذلك توعدوه بالقتل والرجم فتال: (وإني عذت بري وربكم) أي لذت بمالكي ومالككم، والتجأت إليه (أن ترجموني) أي من أن ترموني بالحجارة، عن قتادة. وقيل: إن الرجم الذي استعاذ منه موسى هو الشتم كقولهم: هو ساحر كذاب ونحوه، عن ابن عباس وأبي صالح. (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلوني) أي إن لم تصدقوني فاتركوني، لا معي ولا علي. وقيل: معناه فاعتزلوا أذاي، عن ابن عباس. فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من جنات وعيون (25 ] وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين (29) اللغة: الرهو: السهل الساكن، يقال: عيش راء أي خافض وادع. قال الشاعر: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة، * ولا الصدور على الأعجاز تتكل (1) (1) مقصوده توصيف نساء مورد مدحه بالإستواء في المشي، فلا أعجازهن متخلفة عن سائر أعضاء = (*)
[ 107 ]
وقيل: الرهو الدمث (1) ليس برمل ولا حزن، عن الأزهري. يقال: جاءت الخيل رهوا أي مسابقة. قال ابن الأعرابي: الرهو من الطير والخيل السراع. قال الشاعر: طيرا رأت بازيا نضخ (2) الدماء به، * وأمه خرجت رهوا إلى عيد الاعراب: (رهوا) نصب على الحال من (البحر). ويكون حالا بعد الفراغ من الفعل كقولهم: قطعت الثوب قباء. وهذا يدل على أن البحر كان قبل تركه وبعد تركه رهوا. و (كم) في قوله (كم تركوا) في موضع نصب بأنه صفة موصوف محذوف، وهو مفعول (تركوا) وتقديره: شيئا كثيرا تركوا (كذلك) خبر مبتدأ محذوف أي. الأمر كذلك. المعنى: ثم ذكر سبحانه تمام قصة موسى بأن قال: (فدعا ربه) أي فدعا موسى ربه حين يئس من قومه أن يؤمنوا به فقال: (إن هؤلاء قوم مجرمون) أي مشركون لا يؤمنون، عن الكلبي ومقاتل. فكأنه قال: اللهم عجل لهم مما يستحقونه بكفرهم ما يكونون به نكالا لمن بعدهم. وما دعا عليهم إلا بعد أن أذن له في ذلك. وقوله: (فأسر بعبادي ليلا) الفاء وقعت موقع الجواب. والتقدير فأجيب بأن قيل له: فأسر بعبادي. أمره سبحانه أن يسير بأهله وبالمؤمنين به ليلا، حتى لا يردهم فرعون إذا خرجوا نهارا، وأعلمه بأنه سيتبعهم فرعون بجنوده، بقوله: (إنكم متبعون واترك البحر رهوا) أي ساكنا على ما هو به إذا قطعته وعبرته. وكان قد ضربه بالعصا فانفلق لبني إسرائيل، فأمره الله سبحانه أن يتركه كما هو، ليغرق فرعون وقومه، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: رهوا أي منفتحا منكشفا حتى يطمع فرعون في دخوله، عن أبي مسلم قال قتادة: لما قطع موسى البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده فقيل له: (واترك البحر رهوا) أي كما هو طريقا يابسا. (إنهم جند مغرقون) سيغرقهم الله تعالى. ثم أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم فقال: (كم تركوا من جنات) رائعة = البدن، ولا الصدور متكلة على الأعجاز بأن يتاخر الصدر عن الاعضاء، ويتكل على الأعجاز، (1) الدمث والدمث والدميث: المكان اللين ذو الرمل. وأرض دمثاء: لينة سهلة. (2) وفي بعض النسخ بالحاء المهملة، والنضخ: الأثر من الطيب وغيره، يبقى في الثوب. وبالحاء: رشاش الماء، ونحوه. (*)
[ 108 ]
(وعيون) جارية (وزروع) كثيرة (ومقام كريم) أي مجالس شريفة، ومنازل خطيرة. وقيل: هي المناظر الحسنة، ومجالس الملوك، عن مجاهد. وقيل: منابر الخطباء، عن ابن عباس. وقيل: المقام الكريم الذي يعطي اللذة، كما يعطي الرجل الكريم الصلة، عن علي بن عيسى. (ونعمة كانوا فيها فاكهين) أي وتنعم وسعة في العيش، كانوا ناعمين متمتعين، كما يتمتع الاكل بانواع الفواكه. (كذلك) قال الكلبي: معناه كذلك أفعل بمن عصاني. (وأورثناها قوما آخرين) إيراث النعمة: تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقة، كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة. فلما كانت نعمة قوم فرعون، وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك إيراثا من الله لهم وأراد بقوم آخرين بني إسرائيل، لأنهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون. (فما بكت عليهم السماء والأرض) اختلف في معناه على وجوه أحدها: إن معناه لم تبك عليهم أهل السماء والأرض، لكونهم مسخوطا عليهم، عن الحسن. فيكون مثل قوله: (حتى تضع الحرب أوزارها) أي أصحاب الحرب، ونحوه قول الحطيئة: وشر المنايا ميت وسط أهله، * كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره (1) أي وشر المنايا ميتة ميت. وقال ذو الرمة: لهم مجلس صهب السبال (2)، أذلة * سواسية (3)، أحرارها، وعبيدها أي لهم أهل مجلس وثانيها: إنه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، فإن العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السماء والأرض، وأظلم لفقده الشمس والقمر. قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز: * (هامش) (1) الحاضر: القوم الحي إذا اجتمعوا في الدار التي بها مجتمعهم. (2) صهب جمع أصهب: الأحمر والأشقر. والسبال: جمع سبلة: الدائرة في وسط الشفة العليا. وقيل: ما على الشارب من الشعر، أو طرفه، أو مجتمع الشاربين. وصهب السباى: وصف الروميين، ولأنهم أعداء العرب يوصف به الأعداء. (3) سواء وسواسية، يقال للجمع وسواء يقال للمفرد والمثنى والجمع. وسواسية لا تقال إلا في الشر كقولهم: هم سواسية في الشر، وكذا هنا. (*)
[ 109 ]
الشمس طالعة ليست بكاسفة، * تبكي عليك نجوم النيل، والقمرا (1) أي ليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر، لأن عظم المصيبة قد سلبها ضؤها. وقال النابغة: تبدو كواكبه، والشمس طالعة، * لا النور نور، ولا الإظلام إظلام وثالثها: أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء. وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقيل: وهل يبكيان على أحد ؟ قال: نعم مصلاه في الأرض، ومصعد عمله في السماء. وروى أنس عن النبي (ص) قال: " ما من مؤمن إلا وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه. فإذا مات بكيا عليه " فعلى هذا يكون معنى البكاء الإخبار عن الإختلال بعده، كما قال مزاحم العقيلي: بكت دارهم من أجلهم، فتهللت (2) * دموعي، فأي الجازعين ألوم أمستعبرا يبكي من الهون، والبلى، * أم آخر يبكي شجوه، ويهيم (3) وقال السدي: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) بكت السماء عليه. وبكاؤها حمرة أطرافها. وروى زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريا، وعلى الحسين بن علي (ع)، أربعين صباحا، ولم تبك إلا عليهما. قلت: وما بكاؤها ؟ قال: كانت تطلع حمراء، وتغيب حمراء. (وما كانوا منظرين) أي عوجلوا بالعقوبة، ولم يمهلوا. (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين (33) إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الاولى (1) كسفت الشمس النجوم: غلب ضوئها على النجوم، فلم يبد منها شئ. ونجوم الليل والقمر مفعول كاسفة. مقصوده: إن موتك صار سببا لقلة ضوء الشمس، بحيث لا يغلب نورها نور القمر والنجوم، وهي تبكي عليك. (2) تهلل العين: سالت بالدمع. (3) هاو على وجهه: ذهب من العشق وغيره، لا يدري أين يتوجه. (*)
[ 110 ]
وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37) وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40). الاعراب: (من فرعون) أي من عذاب فرعون، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون حالا من العذاب المهين أي ثابتا من فرعون، فلا يكون على حذف المضاف. (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم): يجوز أن يكون (الذين من قبلهم) مبتدأ و (أهلكناهم) خبره. ويجوز أن يكون منتصبا بفعل مضمر دل عليه (أهلكناهم). ويجوز أن يكون رفعا بالعطف على (قوم تبع). فعلى هذا تقف على (قبلهم)، ويكون (أهلكناهم) في تقدير وأهلكناهم أي والمهلكون من قبلهم. المعنى: ثم أقسم سبحانه بقوله: (ولقد نجينا بني إسرائيل) الذين آمنوا بموسى (من العذاب المهين) يعني قتل الأبناء، واستخدام النساء، والإستعباد، وتكليف المشاق (من فرعون إنه كان عاليا) أي متجبرا متكبرا متغلبا. (من المسرفين) أي المجاوزين الحد في الطغيان. وصفه بأنه عال، وإن جاز أن يكون عال صفة مدح، لأنه قيده بأنه عال في الإسراف لأن العالي في الإحسان ممدوح، والعالي في الإساءة مذموم. (ولقد اخترناهم) أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل، وفضلناهم بالتوراة، وكثرة الأنبياء منهم. (على علم) أي على بصيرة منا باستحقاقهم التفضيل والإختيار (على العالمين) أي على عالمي زمانهم، عن قتادة والحسن ومجاهد. ويدل عليه قوله تعالى لأمة نبينا (ص) (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وقيل: فضلناهم على جميع العالمين في أمر كانوا مخصوصين به، وهو كثرة الأنبياء منهم. (وآتيناهم) أي وأعطيناهم (من الايات) يعني الدلالات والمعجزات مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى. (ما فيه بلاء مبين) أي ما فيه النعمة الظاهرة، عن الحسن. وقيل: ما فيه شدة وامتحان مثل العصا، واليد البيضاء. فالبلاء يكون بالشدة والرخاء، عن ابن زيد. فيكون في الآيات نعمة على الأنبياء وقومهم، وشدة على الكفار المكذبين بهم.
[ 111 ]
ثم أخبر سبحانه عن كفار قوم نبينا (ص) الذين ذكرهم في أول السورة فقال: (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى) أي ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا، ثم لا نبعث بعدها، وهو قوله: (وما نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، ولا معادين (فائتوا بآبائنا) الذين ماتوا قبلنا، وأعيدوهم (إن كنتم صادقين) في أن الله تعالى يقدر على إعادة الأموات وإحيائهم. وقيل: إن قائل هذا أبو جهل بن هشام قال: إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول جهل من أبي جهل من وجهين أحدهما: إن الإعادة إنما هي للجزاء، لا للتكليف. وليست هذه الدار بدار جزاء، ولكنها دار تكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء، فأعدهم للتكليف. والثاني: إن الإحياء في دار الدنيا إنما يكون للمصلحة، فلا يقف ذلك على اقتراحهم، لأنه ربما تعلق بذلك مفسدة. ولما تركوا الحجة وعدلوا إلى الشبهة جهلا، عدل سبحانه في إجابتهم إلى الوعيد والوعظ فقال: (أهم خير أم قوم تبع) أي أمشركو قريش أظهر نعمة، وأكثر أموالا، وأعز في القوة والقدرة، أم قوم تبع الحميري الذي سار بالجيوش حتى حير (1) الحيرة، ثم أتى سمرقند فهدمها، ثم بناها، وكان إذا كتب كتب باسم الذي ملك برا وبحرا وضحا وريحا، عن قتادة. وسمي تبعا لكثرة أتباعه من الناس. وقيل: سمي تبعا لأنه تبع من قبله من ملوك اليمن. والتبابعة. اسم ملوك اليمن. فتبع لقب له كما يقال خاقان لملك الترك، وقيصر لملك الروم واسمه أسعد (2) أبو كرب. وروى سهل بن سعد عن النبي (ص) أنه قال: " لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم ". وقال كعب: نعم الرجل الصالح ذم الله قومه، ولم يذمه. وروى الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (ع) قال: إن تبعا قال للأوس والخزرج كونوا ههنا، حتى يخرج هذا النبي. أما أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه. (والذين من قبلهم) يعني من تقدمهم من قوم نوح وعاد وثمود. (أهلكناهم) (1) ثم لم نجد له فيما بأيدينا من كتب اللغة معنى يناسبه ولعله مما يشتق، ويؤخذ الفعل من الاسم نحو خيم القوم أي: ضربوا خياما. وهذا أيضا مأخوذ من الحيرة. وفي نسخة: حيز مأخوذ من الحيز. (2) وفي المخطوطة " سعد ". (*)
[ 112 ]
معناه: إنهم ليسوا بأفضل منهم، وقد أهلكناهم بكفرهم، وهؤلاء مثلهم. بل أولئك كانوا أكثر قوة وعددا. فإهلاك هؤلاء أيسر. (إنهم كانوا مجرمين) أي كافرين. فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك. (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) أي لم نخلق ذلك لغرض العبث، بل خلقناهما لغرض حكمي، وهو أن ننفع المكلفين بذلك، ونعرضهم للثواب، وننفع سائر الحيوانات بضروب المنافع واللذات. (ما خلقناهما إلا بالحق) أي إلا بالعلم الداعي إلى خلقهما، والعلم لا يدعو إلا إلى الصواب والحق. وقيل: معناه ما خلقناهما إلا للحق، وهو الإمتحان بالأمر والنهي والتمييز بين المحسن والمسئ، لقوله: (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا) الأية. وقيل: معناه ما خلقناهما إلا على الحق الذي يستحق به الحمد، خلاف الباطل الذي يستحق به الذم. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) صحة ما قلناه، لعدولهم عن النظر فيه، والإستدلال على صحته. (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) يعني اليوم الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل، وهو يوم القيامة. وقيل: معناه يوم الحكم ميقات قوم فرعون، وقوم تبع، ومن قبلهم، ومشركي قريش، وموعدهم. (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42) إن شجرة الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48) ذق إنك أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50) القراءة: قرأ أهل مكة وحفص ورويس: (يغلي) بالياء. والباقون: (تغلي) بالتاء. وقرأ أهل الكوفة وأبو جعفر وأبو عمرو: (فاعتلوه) بكسر التاء. والباقون بضمها. وقرأ الكسائي وحده: (ذق أنك) بفتح الهمزة. والباقون: (إنك) بكسرها.
[ 113 ]
الحجة: من قرأ (تغلي) بالتاء فعلى الشجرة كأن الشجرة تغلي. ومن قرأ بالياء حمله على الطعام، وهو الشجرة في المعنى. ويعتل ويعتل مثل يعكف ويعكف، ويفسق ويفسق في أنهما لغتان. ومعنى فاعتلوه: قودوه بعنف. ومن قرأ (إنك) بالكسر فالمعنى: إنك أنت العزيز الكريم في زعمك، فاجرى ذلك على حسب ما كان يذكره، أو يذكر به. ومن قرأ (أنك) بالفتح فالمعنى. ذق بأنك. المعنى: لما ذكر سبحانه أن يوم الفصل ميقات الخلق، يحشرهم فيه، بين أي يوم هو فقال: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) فالمولى: الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه على أموره، فيدخل في ذلك ابن العم والناصر والحليف، وغيرهم ممن هذه صفته. والمعنى: إن ذلك اليوم، يوم لا يغني فيه ولي عن ولي شيئا، ولا يدفع عنه عذاب الله تعالى. (ولا هم ينصرون) وهذا لا ينافي ما يذهب إليه أكثر الأمة من إثبات الشفاعة للنبي (ص) والأئمة (ع) والمؤمنين لأن الشفاعة لا تحصل إلا بأمر الله تعالى وإذنه. والمراد بالآية أنه ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله وينصرهم، من غير أن ياذن الله له فيه. وقد بين ما أشرنا إليه باستثنائه من رحمه منهم، فقال: (إلا من رحم الله) أي إلا الذين رحمهم الله من المؤمنين، فإنه إما أن يسقط عقابهم ابتداء، أو ياذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده، فيسقط عقاب المشفوع له لشفاعته. (إنه هو العزيز) في انتقامه من أعدائه (الرحيم) بالمؤمنين. ثم وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين فقال: (إن شجرت الزقوم) وقد مر تفسيره في سورة الصافات (طعام الأثيم) أي الآثم، وهو أبو جهل. وروي أن أبا جهل أتى بتمر وزبد، فجمع بينهما وأكل وقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا محمد به، نحن نتزقمه أي: نملأ أفواهنا به فقال سبحانه: (كالمهل) وهو المذاب من النحاس، أو الرصاص، أو الذهب، أو الفضة، وقيل: هو دردي الزيت (يغلي في البطون كغلي الحميم) أي إذا حصلت في أجواف أهل النار، تغلي كغلي الماء الحار، الشديد الحرارة. قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يكون المعنى يغلي المهل في البطون، لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب. ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون، وإنما يغلي ما شبه به. (خذوه) أي يقال للزبانية خذوا الأثيم (فاعتلوه) أي: زعزعوه،
[ 114 ]
وادفعوه بعنف، ومنه قول الشاعر: فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه * ببطن الثرى مثل الفنيق المسدم (1) وقيل: معناه جروه على وجهه، عن مجاهد (إلى سواء الجحيم) أي إلى وسط النار، عن قتادة. وسمي وسط الشئ سواء، لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به. والسواء: العدل. (ثم صبوا فوق رأسه) قال مقاتل إن خازن النار يمر به على رأسه فيذهب رأسه عن دماغه ثم يصب فيه (من عذاب الحميم) وهو الماء الذي قد انتهى حره، ويقول له: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) وذلك أنه كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم ! فيقول له الملك: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقول. وقيل. إنه على معنى النقيض، فكأنه قيل: إنك أنت الذليل المهين، إلا أنه قيل على هذا الوجه للإستخفاف به. وقيل: معناه إنك أنت العزيز في قومك، الكريم عليهم. فما أغنى ذلك عنك. (إن هذا ما كنتم به تمترون) أي ثم يقال لهم: إن هذا العذاب ما كنتم تشكون فيه في دار الدنيا. (إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) كذلك وزوجناهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فاكهة آمنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59) القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر. (في مقام) بالضم. والباقون: (في مقام) بالفتح. الحجة: من فتح الميم أراد به المجلس والمشهد، كما قال: (في مقعد (1) وفي نسخة: الفتيق بالتاء، وهو من الجمال ما ينفتق سمنا. وبالنون: الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته على أهله، ولا يركب. والمسدم. البعير المهمل، الهائج. (*)
[ 115 ]
صدق)، ووصفه بالأمن يقوي أن المراد به المكان. ومن ضم فإنه يحتمل أن يريد به المكان من أقام، فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا. ويجوز أن يجعله مصدرا، ويقدر المضاف محذوفا أي: موضع إقامة. اللغة: السندس: الحرير. والإستبرق: الديباج الغليظ الصفيق. قال الزجاج. إنما قيل له استبرق لشدة بريقه. والحور جمع حوراء من الحور وهو شدة البياض، وهن البيض الوجوه. وقال أبو عبيدة: الحوراء الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها. والعين: جمع العيناء، وهي العظيمة العينين. الاعراب. (كذلك) جار ومجرور في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ. التقدير: الأمر كذلك. (متقابلين) نصب على الحال من (يلبسون). و (يلبسون) يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون حالا من الظرف الذي هو قوله (في مقام) لأن التقدير: إن المتقين ثبتوا في مقام. ومفعول (يلبسون) محذوف وتقديره: يلبسون ثيابا من سندس. فآمنين. حال من (يدعون). (الموتة الأولى) نصب على الإستثناء. قال الزجاج: معناه سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا كقوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) المعنى. سوى ما قد سلف. وأقول: إن سوى لا يكون إلا ظرفا، وإلا حرف، فكيف يكون بمعناه ؟ فالأولى أن يكون إلا هنا مع ما بعدها، صفة، أو بدلا بمعنى غير، تقديره. ولا يذوقون فيها الموت غير الموتة الأولى، إذ الموتة الأولى قد انقضت، فلا يمكن أن يستثنى من الموت الذي لا يذوقونه في الجنة، إذ ليست بداخلة فيه. وقوله (فضلا من ربك): مفعول له تقديره. فعل الله ذلك بهم فضلا منه، وتفضلا منه. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر تقديره: وأعطاهم فضلا. ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لما قبله، لأن ما ذكره قبله تفضل منه سبحانه، كقول امرئ القيس: (ورضت (1) فذلت صعبة أي إذلال " على معنى أذللته أي إذلال. فاستغنى عن أذللته بذكر رضت. المعنى. ثم عقب سبحانه الوعيد بذكر الوعد فقال: (إن المتقين) الذين يجتنبون معاصي الله لكونها قبائح، ويفعلون الطاعات لكونها طاعات. (في مقام) (1) راض المهر: ذلله وسخره، وجعله مطيعا، وعلمه السير. ويقال: رض نفسك بالتقوى أي: ذللها. (*)
[ 116 ]
أمين) أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث. وقيل: أمنوا فيه من الشيطان والأحزان، عن قتادة (في جنات وعيون) أي بساتين وعيون ماء نابعة فيها (يلبسون من سندس وإستبرق) خاطب العرب فوعدهم من الثياب بما عظم عندهم، واشتهته أنفسهم. وقيل: السندس ما يلبسونه، والإستبرق ما يفترشونه. (متقابلين) في المجالس، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، بل يقابل بعضا. وقيل: معناه متقابلين بالمحبة، لا متدابرين بالبغضة (كذلك) حال أهل الجنة (وزوجناهم بحور عين) قال الأخفش: المراد به التزويج المعروف، يقال: زوجته امرأة وبامرأة. وقال غيره: لا يكون في الجنة تزويج، والمعنى: وقرناهم بحور عين. (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) أي يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوا واشتهوا، غير خائفين فوتها، آمنين من نفادها ومضرتها. وقيل. آمنين من التخم والأسقام والأوجاع. (لا يذوقون فيها الموت) شبه الموت بالطعام الذي يذاق، ويتكره عند المذاق. ثم نفى أن يكون ذلك في الجنة، وإنما خصهم بانهم لا يذوقون الموت مع أن جميع أهل الأخرة لا يذوقون الموت، لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنة، فأما من يكون فيما هو كالموت في الشدة، فإنه لا يطلق له هذه الصفة، لأنه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة. (إلا الموتة الأولى) قيل: معناه بعد الموتة الأولى. وقيل: معناه لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. وقيل. سوى الموتة الأولى، وقد بينا ما عندنا فيه. (ووقاهم عذاب الجحيم) أي فصرف عنهم عذاب النار. استدلت المعتزلة بهذا على أن الفاسق الملي لا يخرج من النار، لأنه يكون قد وقي النار. والجواب عن ذلك: إن هذه الآية يجوز أن تكون مختصة بمن لا يستحق دخول النار، فلا يدخلها، أو بمن استحق النار فتفضل عليه بالعفو، فلم يدخلها. ويجوز أن يكون المراد: ووقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد، أو على الوجه الذي يعذب عليه الكفار. (فضلا من ربك) أي فعل الله ذلك بهم، تفضلا منه، لأنه سبحانه خلقهم، وأنعم عليهم، ورتب فيهم العقل، وكلفهم، وبين لهم من الآيات ما استدلوا به على وحدانية الله تعالى، وحسن الطاعات، فاستحقوا به النعم العظيمة، ثم جزاهم بالحسنة عشر أمثالها، فكان ذلك فضلا منه، عز اسمه. وقيل. إنما سماه فضلا،
[ 117 ]
وإن كان مستحقا، لأن سبب الاستحقاق هو التكليف والتمكين، وهو فضل منه سبحانه. (ذلك هو الفوز العظيم) أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن. (فإنما يسرناه بلسانك) أي سهلنا القرآن. فالهاء كناية عن غير مذكور. والمعنى: هونا القرآن على لسانك، ويسرنا قراءته عليك. وقيل: معناه جعلنا القرآن عربيا، ليسهل عليك، وعلى قومك تفهمه. (لعلهم يتذكرون) أي ليتذكروا ما فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ويتفكروا فيه. (فارتقب إنهم مرتقبون) أي فإن أعرضوا، ولم يقبلوا، فانتظر مجئ ما وعدناك به، إنهم منتظرون، لأنهم في حكم من ينتظر، لأن المحسن يترقب عاقبة الإحسان، والمسئ يترقب عاقبة الإساءة. وقيل. معناه انتظر بهم عذاب الله، فإنهم ينتظرون بك الدوائر. وقيل: انتظر قهرهم، ونصرك عليهم، فإنهم منتظرون قهرك بزعمهم.
[ 118 ]
45 - سورة الجاثية مكية إلا آية 14 فمدنية وآياتها 37 نزلت بعد الدخان وتسمى أيضا سورة الشريعة، لقوله فيها (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) وهي مكية. قال قتادة. إلا آية منها نزلت بالمدينة (قل للذين آمنوا يغفروا) الاية. عدد آياتها: سبع وثلاتون آية كوفي، ست في الباقين. إختلافها: آية حم كوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ حم الجاثية، ستر الله عورته، وسكن روعته عند الحساب). وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ سورة الجاثية، كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، ولا يسمع زفير جهنم، ولا شهيقها، وهو مع محمد (ص). تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال سبحانه: (بسم الله الرحمن الرحيم) حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والارض لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5). القراءة: قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: (آيات) في الموضعين على
[ 119 ]
النصب. والباقون: (آيات) على الرفع فيهما. الحجة: قال أبو علي: قوله (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات) جاز الرفع في قوله (آيات) من وجهين أحدهما: العطف على موضع إن، وما عملت فيه، فإنه رفع بالإبتداء، فيحتمل الرفع فيه على الموضع والاخر: أن يكون مستأنفا، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة. فيكون قوله (آيات) على هذا، مرتفعا بالظرف. فهذا وجه من رفع (آيات) في الموضعين. قال أبو الحسن: من دابة آيات قراءة الناس بالرفع، وهي أجود، وبها نقرأ، لأنه قد صار على كلام آخر نحو إن في الدار زيدا، وفي البيت عمرو، لأنك انما تعطف الكلام كله على الكلام كله. قال: وقد قرئ بالنصب، وهو عربي. (انتهت الحكاية عنه). وأما قوله (واختلاف الليل والنهار) إلى آخره آيات، فإنك إن تركت الكلام على ظاهره، فإن فيه عطفا على عاملين أحد العاملين الجار الذي هو في من قوله (وفي خلقكم وما يبث من دابة)، والعامل الآخر إن نصبت آيات، وإن رفعت، فالعامل المعطوف عليه الإبتداء، أو الظرف. ووجه قراءة من قرأ (آيات) بالنصب أنه لم يحمل على موضع (إن) كما حمل من رفع آيات في الموضعين، أو قطعه واستأنف. ولكن حمل على لفظ (إن) دون موضعها، فحمل (آيات) في الموضعين على نصب (إن) في قوله (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) فإن قلت: إنه يعرض في هذه القراءة العطف على عاملين، وذلك في قوله (واختلاف الليل والنهار آيات). وسيبويه وكثير من النحويين لا يجيزونه ؟ قيل: يجوز أن يقدر في قوله (واختلاف الليل والنهار... آيات) وإن كانت محذوفة من اللفظ، وذلك أن ذكره قد تقدم في قوله. (إن في السماوات)، وقوله: (وفي خلقكم). فلما تقدم ذكر الجاز في هذين، قدر فيه الإثبات في اللفظ، وإن كان محذوفا منه، كما قدر سيبويه في قوله. أكل امرئ تحسبين امرأ * ونارتأجج بالليل نارا إن كل في حكم الملفوظ به، واستغني عن إظهاره بتقدم ذكره. ومما يؤكد هذه القراءة في أن آيات محمولة على أن ما ذكر عن أبي أنه قرأ في المواضع الثلاثة لآيات، فدخول اللامات تدذ على أن الكلام محمول على إن. وإذا كان محمولا
[ 120 ]
عليها حسن النصب، وصار كل موضع من ذلك، كأن إن مذكورة فيه، بدلالة دخول اللام، لأن هذه اللام إنما تدخل على خبر إن، أو على اسمها. ومما يجوز أن يتأول على ما ذكرنا، قول الفرزدق: وباشر راعيها الصلا بلبانه، * وكفيه، حر النار ما يتحرف (1) فهذا إن حملت الكلام على ظاهره، كان عطفا على عاملين على الفعل والباء إن قدرت أن الباء ملفوظ بها لتقدم ذكرها صارت في حكم الثبات في اللفظ. وإذا صار كذلك، كان العطف على عامل واحد، وهو الفعل دون الجار، وكذلك قول الآخر: أوصيت من برة قلبا حرا، * بالكلب خيرا، والحماة شرا (2) فإن قدرت الجار في حكم المذكور لدلالة المتقدم عليه، لم يكن عطفا على عاملين كما لم يكن قوله (واختلاف الليل والنهار لآيات) كذلك. وقد يخرج قوله (واختلاف الليل والنهار آيات) من أن يكون عطفا على عاملين من وجه آخر، وهو أن تقدر قوله: (واختلاف الليل والنهار) على في المتقدم ذكرها، وتجعل (آيات) متكررة كررتها لما تراخى الكلام وطال، كما قال بعض شيوخنا في قوله تعالى: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم) أن هي أن الاولى كررت، وكما جاء: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) لما تراخى عن قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) وهذا النحو في كلامهم غير ضيق. المعنى: (حم) قد بينا ما قيل فيه، وأجود الأقوال إنه إسم للسورة. قال علي بن عيسى: وفي تسمية السورة بحم، دلالة على أن هذا القرآن المعجز كله من حروف المعجم، لأنه سمي به ليدل عليه بأوصافه، ومن أوصافه: أنه معجز وأنه مفصل قد فصلت كل سورة من أختها. وأنه هدى ونور، فكأنه قيل. هذا اسمه الدال (1) الصلا. وسط الظهر من الناس، ومن كل ذي أربع. النار: الوقود. واللبان بالفتح: الصدر. وفي نسختين (يتحرق) بدل (يتحرف). وتحرق أي: وقع في النار. وتحرف أي: مال إلى حرف أي: إلى جانب. (2) برة: امرأة وهي جدة قريش أم النضر بن كنانة. والحماة بالفتح: أم الزوجة. وحماة المرأة: أم زوجها أي: أوصتني برة من قلب حر، أو بقلب حر، بالكلب خيرا، وبالحماة شرا. (*)
[ 121 ]
عليه بأوصافه. (تنزيل الكتاب من الله) أضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور، استفتاحا بتعظيم شأنه، وتفخيم قدره، بإضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلها. وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا، فقد يقول القائل. اللهم اغفر لي. اللهم ارحمني. اللهم عافني. اللهم وسع علي في رزقي. فيأتي بما يؤذن أن تعظيمه لربه منعقد بكل ما يدعو به. وقوله (من الله) يدل على أن ابتداءه من الله تعالى. (العزيز) أي القادر الذي لا يغالب (الحكيم) العالم الذي أفعاله كلها حكمة وصواب. (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) الذين يصدقون بالله وبأنبيائه، لأنهم المنتفعون بالآيات، وهي الدلالات والحجج الدالة على أن لهما مدبرا صانعا قادرا عالما. (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات) معناه: وفي خلقه إياكم بما فيكم من بدائع الصنعة، وعجائب الخلقة، وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبتدأ خلقكم في بطون الأمهات إلى انقضاء الآجال، وفي خلق ما يفرق على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها، والمقاصد المطلوبة منها، دلالات واضحات على ما ذكرناه. (لقوم يوقنون) أي يطلبون علم اليقين بالتدبر والتفكر. (واختلاف الليل والنهار) أي وفي ذهاب الليل والنهار، ومجيئهما على وتيرة واحدة. وقيل: معناه وفي اختلاف حالهما من الطول والقصر. وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور، والآخر ظلمة. (وما أنزل من السماء من رزق) أراد به المطر الذي ينبت به النبات الذي هو رزق الخلائق، فسماه رزقا، لأنه سبب الرزق. (فاحيا به الأرض بعد موتها) أي فأحيا بذلك المطر الأرض بعد يبسها وجفافها (وتصريف الرياح) أي وفي تصريف الرياح يجعلها مرة جنوبا، وأخرى شمالا، ومرة صبا، وأخرى دبورا، عن الحسن. وقيل. يجعلها تارة رحمة، وتارة عذابا، عن قتادة. (أيات لقوم يعقلون) وجوه الأدلة، ويتدبرونها فيعلمون أن لهذه الأشياء مدبرا حكيما قادرا عليما حيا غنيا قديما لا يشبهه شئ. (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره
[ 122 ]
بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير حفص والأعشى والبرجمي وابن عامر ويعقوب: (تؤمنون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أن قبله غيبة، وهو قوله: (لقوم يؤمنون). ومن قرأ بالتاء: فالتقدير: قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الأدلة، عقب ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها، ولم يتفكر فيها، فقال: (تلك آيات الله) أي ما ذكرناه أدلة الله التي نصبها لخلقه المكلفين. (نتلوها عليك) أي نقرأها عليك يا محمد لتقرأها عليهم (بالحق) دون الباطل. والتلاوة: الإتيان بالثاني في أثر الأول في القراءة. والحق الذي تتلى به الايات هو كلام مدلوله على ما هو به في جميع أنواعه. (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) معناه: إن هؤلاء الكفار إن لم يصدقوا بما تلوناه عليك، فبأي حديث بعد حديث الله، وهو القرآن وآياته، يصدقون، وبأي كلام ينتفعون. وهذا إشارة إلى أن المعاند لا حيلة له. والفرق بين الحديث الذي هو القرآن، وبين الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه الحق من الباطل، والآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح والفاسد. (ويل لكل أفاك أثيم) الأفاك: الفعال من الإفك، وهو الكذب، ويطلق ذلك على من يكثر كذبه، أو يعظم كذبه، وإن كان في خبر واحد ككذب مسيلمة في ادعاء النبوة. والأثيم ذو الإثم وهو صاحب المعصية التي يستحق بها العقاب. والويل: كلمة وعيد يتلقى بها الكفار. وقيل: هو واد سائل من صديد جهنم. ثم وصف سبحانه الأفاك الأثيم بقوله: (يسمع آيات الله تتلى عليه) أي يسمع آيات القرآن التي فيها الحجة، تقرأ عليه (ثم يصر مستكبرا) أي يقيم على كفره وباطله، متعظما عند نفسه عن الإنقياد للحق. (كأن لم يسمعها) أصلا في عدم القبول لها، والإعتبار بها (فبشره بعذاب أليم) أي مؤلم.
[ 123 ]
(وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) أي: وإذا علم هذا الأفاك الأثيم من حججنا وأدلتنا شيئا، استهزأ بها ليرى العوم أنه لا حقيقة لها، كما فعله أبو جهل حين سمع قوله: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)، أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس. (أولئك لهم عذاب مهين) أي مذل مخز مع ما فيه من الألم (من ورائهم جهنم) أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالمال والدنيا، جهنم. ومعناه: قدامهم ومن بين أيديهم، كقوله: (وكان وراءهم ملك). ووراء إسم يقع على القدام والخلف فيما توارى عنك، فهو وراؤك، خلفك كان أو أمامك. (ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا) أي لا يغني عنهم ما حصلوا وجمعوه من المال والولد شيئا من عذاب الله تعالى. (ولا ما اتخذوا من درن الله أولياء) من الألهة التي عبدوها، لتكون شفعاءهم عند الله (ولهم) مع ذلك (عذاب عظيم). هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15) القراءة: قرأ ابن كثير وحفص: (من رجز أليم) بالرفع. والباقون: (أليم) بالجر. وقرأ أبو جعفر: (ليجز) بضم الياء، وفتح الزاي. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف (لنجزي) بالنون وكسر الزاي والنصب. وقرأ الباقون: (ليجزي) بفتح الياء، وكسر الزاي. الحجة: قال أبو علي: الرجز العذاب، فمن جر فالتقدير: لهم عذاب من عذاب أليم. ومن رفع فالمعنى: عذاب أليم من عذاب، وفيه قولان أحدهما. إن الصفة قد تجئ على وجه التأكيد، كما أن الحال قد تجئ كذلك. وذلك نحو قوله: (نفخة واحدة)، (ومناة الثالثة الأخرى). وقولهم: أمس الدابر. قال:
[ 124 ]
وأبي الذي ترك الملوك، وجمعهم، * بفعال هامدة كأمس الدابر (1) والآخر: إنه محمول على أنه بمعنى الرجس الذي هو النجاسة على البدل للمقاربة. ومعنى النجاسة فيه قوله (ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه) فكأن المعنى لهم عذاب من تجرع رجس، أو شرب رجس. فتكون (من) تبيينا للعذاب مم هو ؟ ومن قرأ (ليجزي) بالياء، فحجته أن ذكر الله قد تقدم في قوله: (لا يرجون أيام الله)، فيكون فاعل (يجزي). ومن قرأ بالنون، فالنون في معنى الياء، وإن كانت الياء أشد مطابقة لما في اللفظ. ومن قرأ (ليجزي قوما)، فقال أبو عمرو: إنه لحسن ظاهر. وذكر أن الكسائي قال: إن معناه ليجزي الجزاء قوما. قال الجامع البصير: معناه ليجزي الخير قوما. فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه. وليس التقدير: ليجزي الجزاء قوما، لأن المصدر لا يقوم مقام الفاعل، ومعك مفعول صحيح. فإذا الخبر مضمر كما أضمر الشمس في قوله (حتى توارت بالحجاب) لأن قوله: (إذ عرض عليه بالعشي) يدل على تواري الشمس. المعنى: ثم قال سبحانه: (هذا هدى) أي هذا القرآن الذي تلوناه، والحديث الذي ذكرناه، هدى أي دلالة موصلة إلى الفرق بين الحق والباطل من أمور الدين والدنيا (والذين كفروا بآيات ربهم) وجحدوها (لهم عذاب من رجز أليم) مر معناه. ثم نبه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بامره) أي جعله على هيئته (2) لتجري السفن فيه (ولتبتغوا من فضله) أي ولتطلبوا بركوبه في أسفاركم من الأرباح بالتجارات. (ولعلكم تشكرون) له هذه النعمة (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) أي سخر لكم مع ذلك معاشر الخلق، ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والمطر والثلج والبرد، وما في الأرض من الدواب والأشجار والنبات والأثمار والأنهار. ومعنى تسخيرها لنا: أنه تعالى خلقها جميعا لانتفاعنا بها، فهي مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع بها على الوجه الذي نريده. وقوله (جميعا منه) قال ابن عباس: أي كل ذلك رحمة منه لكم. قال (1) الهامدة: البالية المتقطعة. (2) وفي نسخة على هيئة تجري السفن فيه. وفي أخرى على هيئة لتجري.. والأول هو الصواب. (*)
[ 125 ]
الزجاج. كل ذلك منه تفضل وإحسان. ويحسن الوقف على قوله (جميعا)، ثم يقول (منه) أي ذلك التسخير منه، لا من غيره، فهو فضله وإحسانه. وروي عن ابن عباس، وعبد الله بن عمر، والجحدري أنهم قرأوا (منة) منصوبة ومنونة. وعلى هذا فيكون من باب تبسمت وميض البرق. فكأنه قال: من عليهم منة، وروي عن سلمة أنه قرأ (منة) بالرفع، وعلى هذا فيكون خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك منة، أو هو منة، أو يكون على معنى سخر لكم ذلك منة. (إن في ذلك لآيات) أي دلالات (لقوم يتفكرون). ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال: (قل) يا محمد (للذين آمنوا يغفروا) هذا جواب أمر محذوف، دل عليه الكلام وتقديره: قل لهم اغفروا يغفروا. فصار قل لهم على هذا الوجه يغني عنه، عن علي بن عيسى. وقيل: معناه قل للذين آمنوا اغفروا، ولكنه شبه بالشرط والجزاء كقوله: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) عن الفراء. وقيل: يغفروا تقديره: يا هؤلاء اغفروا. فحذف المنادى كقوله. (ألا يا اسجدوا لله). وقول الشاعر: (ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد) (1). (للذين لا يرجون أيام الله) أي لا يخافون عذاب الله إذا نالوكم بالأذى والمكروه، ولا يرجون ثوابه بالكف عنكم. وقد مر تفسير أيام الله عند قوله: (وذكرهم بأيام الله). ومعنى يغفروا ههنا: يتركوا مجازاتهم على أذاهم، ولا يكافؤوهم ليتولى الله مجازاتهم. (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) بيان هذا الجزاء في الاية التي تليها، وهو قوله: (من عمل صالحا) أي طاعة وخيرا وبرا (فلنفسه) لأن ثواب ذلك يعود عليه (ومن أساء فعليها) أي فوبال إساءته على نفسه (ثم إلى ربكم ترجعون) يوم القيامة أي إلى حيث لا يملك أحد النفع والضر، والنهي والأمر، غيره سبحانه، فيجازي كل إنسان على قدر عمله. ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء (1) جمع الدملوج: حلي يلبس في المعصم. والعقد: القلادة. (*)
[ 126 ]
الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20). المعنى: لما تقدم ذكر النعمة، ومقابلتهم إياها بالكفر والطغيان، بين عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم من الكفران، فقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب) يعني التوراة (والحكم) يعني العلم بالدين. وقيل: العلم بالفصل بين الخصمين، وبين المحق والمبطل (والنبوة) أي وجعلنا فيهم النبوة حتى روي أنه كان فيهم ألف نبي. (ورزقناهم من الطيبات) أي وأعطيناهم من أنواع الطيبات (وفضلناهم على العالمين) أي عالمي زمانهم. وقيل: فضلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم، وإن كانت أمة محمد (ص) أفضل منهم في كثرة المطيعين لله، وكثرة العلماء منهم، كما يقال: هذا أفضل في علم النحو، وذاك في علم الفقه. فأمة محمد (ص) أفضل في علو منزلة نبيها عند الله على سائر الأنبياء، وكثرة المجتبين الأخيار من آله وأمته، والفضل: الخير الزائد على غيره. فأمة محمد (ص) أفضل بفضل محمد وآله. (وآتيناهم بينات من الأمر) أي أعطيناهم دلالات وبراهين واضحات من العلم بمبعث محمد (ص)، وما بين لهم من أمره وقيل: يريد بالأمر أحكام التوراة. (فما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم) أي من بعد ما أنزل الله الكتب على أنبيائهم، وأعلمهم بما فيها (بغيا بينهم) أي طلبا للرئاسة، وأنفة من الإذعان للحق. وقيل: بغيا على محمد (ص) في جحود ما في كتابهم من نبوته وصفته. (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) ظاهر المعنى. (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) أي ثم جعلناك يا محمد على دين ومنهاج وطريقة. يعني: بعد موسى وقومه، والشريعة: السنة التي من سلك طريقها أدته إلى البغية، كالشريعة التي هي طريق إلى الماء، فهي علامة منصوبة على الطريق من الأمر. والنهي يؤدي إلى الجنة، كما يؤدي ذلك إلى الوصول إلى الماء. (فاتبعها) أي: إعمل بهذه الشريعة (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الحق، ولا يفصلون بينة وبين الباطل، من أهل الكتاب الذين غيروا التوراة اتباعا لهواهم، وحبا للرئاسة، واستتباعا للعوام، ولا
[ 127 ]
المشركين الذين اتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) أي لن يدفعوا عنك شيئا من عذاب الله إن اتبعت أهواءهم (1). (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) يعني. إن الكفار بأجمعهم متفقون على معاداتك، وبعضهم أنصار بعض عليك (والله ولي المتقين) أي ناصرهم وحافظهم، فلا تشغل قلبك بتناصرهم وتعاونهم عليك، فإن الله ينصرك عليهم ويحفظك (هذا بصائر للناس) أي هذا الذي أنزلته عليك من القرآن بصائر، أي معالم في الدين، وعظات وعبر للناس، يبصرون بها من أمور دينهم (وهدى) أي دلالة واضحة (ورحمة) أي ونعمة من الله (لقوم يوقنون) بثواب الله وعقابه، لأنهم هم المنتفعون به. (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر وروح وزيد: (سواء) بالنصب. والباقون بالرفع. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (غشوة) بفتح الغين بغير ألف. والباقون: (غشاوة) بالألف. الحجة: قال أبو علي: ليس الوجه في الآية نصب (سواء) على أن تجريه على ما قبله على حد قولك: مررت برجل ضارب أبوه، وبزيد خارجا أخوه، لأنه ليس باسم فاعل، ولا مشبه به. مثل حسن وشديد ونحو ذلك. إنما هو مصدر فلا (1) وفي نسخة: ان اتبعت أهواءهم في عبادة الأصنام. (*)
[ 128 ]
ينبغي أن يجري على ما قبله، كما يجري اسم الفاعل، وما شبه به، لتعريه من المعاني التي أعمل فيها اسم الفاعل، وما شبه به عمل الفعل. ومن قال مررت برجل خير منه أبوه، وسرج خز صفته، وبرجل مئة إبله، استجاز أن يجري (سواء) أيضا على ما قبله، كما أجرى الضرب الأول. فأما من قرأ (سواء) بالنصب، فإن انتصابه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يجعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في (نجعلهم) فيصير التقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، فينتصب (سواء) على أنه مفعول ثان لنجعل، ويكون انتصاب (سواء) على هذا القول حسنا، لأنه لم يرفع مظهرا. ويجوز أيضا أن يجعل (محياهم ومماتهم) ظرفين من الزمان، فيكون كذلك أيضا. ويجوز أن يعمل في الظرفين أحد شيئين أحدهما: ما في (سواء) من معنى الفعل، كأنه يستوون في المحيا والممات. والأخر: أن يكون العامل الفعل، ولم يعلم الكوفيون الذين نصبوا (سواء) نصبوا الممات. فإذا لم ينصبوه كان النصب في (سواء) على غير هذا الوجه. وغير هذا الوجه لا يخلو من أن ينتصب على أنه حال، أو على أنه المفعول الثاني لنجعل. وعلى أي هذين الوجهين حملته، فقد أعملته عمل الفعل، فرفعت به المظهر. فإن جعلته حالا أمكن أن يكون الحال من الضمير في (نجعلهم)، ويكون المفعول الثاني قوله (كالذين آمنوا). فإذا جعلت قوله (كالذين آمنوا) المفعول الثاني، أمكن أن يكون (سواء) منتصبا على الحال مما في قوله (كالذين آمنوا) من معنى الفعل. فيكون ذو الحال الضمير المرفوع في قوله (كالذين آمنوا). وهذا الضمير يعود إلى الضمير المنصوب في (نجعلهم)، وانتصابه على الحال من هذين الوجهين. ويجوز أن لا يجعل قوله (كالذين آمنوا) المفعول الثاني، ولكن يجعل المفعول الثاني قوله: (سواء محياهم ومماتهم)، فيكون جملة في موضع نصب بكونها في موضع المفعول الثاني لنجعل. ويجوز فيمن قال: مررت برجل مائة إبله، فاعمل المائة عمل الفعل، أن ينصب (سواء) على هذا الوجه أيضا ويرتفع به المحيا، كما جاز أن يرتفع به إذا قدرت الجملة في موضع الحال. والحال في الجملة التي هي (سواء محياهم ومماتهم) يكون من جعل، ويكون مما في قوله (كالذين) من معنى الفعل. وقد قيل في الضمير في قوله (محياهم ومماتهم) قولان أحدهما: إنه ضمير
[ 129 ]
الكفار دون الذين آمنوا، فكان (سواء) على هذا القول مرتفعا بأنه خبر مبتدأ مقدم تقديره: محياهم ومماتهم سواء أي محياهم محيا سوء، ومماتهم ممات سوء. ولا يكون النصب على هذا في (سواء) لأنه إثبات في الإخبار بأن محياهم ومماتهم يستويان في الذم والبعد من رحمة الله. والقول الأخر. إن الضمير في (محياهم ومماتهم) للقبيلين. فإذا كان كذلك جاز أن ينتصب (سواء) على أنه المفعول الثاني من (نجعل) فيمن استجاز أن يعمله في الظاهر، لأنه يلتبس بالقبيلين جميعا، وليس في الوجه الأول كذلك، لأنه للكفار دون المؤمنين، ولا يلتبس للمؤمنين من حيث كان للكفار من دونهم. ولا يجوز أن ينتصب (سواء)، ولم يكن فيه إلا الرفع، ويكون على هذا الوجه قوله (كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) في موضع المفعول الثاني. و (سواء محياهم) استئناف. ولا يكون في موضع حال من قوله (كالذين آمنوا) لأنه لا يلتبس بهم. والقول في (غشوة) و (غشاوة) مذكور في سورة البقرة. اللغة: الإجتراح: الاكتساب. يقاك: جرح واجترح، وكسب واكتسب. وفلان جارحة قومه أي: كاسبة قومه. وأصله من الجراح، لأن لذلك تأثيرا كتأثير الجراح. ومثله الإقتراف، وهو مشتق من قرف (1) القرحة. والسيئة: الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها. والحسنة هي التي تسر صاحبها باستحقاق المدح عليها. قال علي بن عيسى: القبيح ما ليس للقادر عليه أن يفعله، والحسن هو ما للقادر عليه أن يفعله. وكل فعل وقع لا لأمر من الأمور، فهو لغو لا ينسب إلى الحكمة، ولا إلى السفه. المعنى. ثم قال سبحانه للكفار على سبيل التوييخ لهم: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهبم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) معناه: بل أحسب وهذا استفهام إنكار وقيل: إن هذا معطوف على معنى مضمر تقديره هذا القرآن بصائر للناس مؤدية إلى الجنة، أفعلموا ذلك أم حسب الذين اكتسبوا الشرك والمعاصي أن نجعل منزلتهم منزلة الذين صدقوا الله ورسوله، وحققوا أقوالهم باعمالهم (سواء محياهم ومماتهم) أي يستوي محيا القبيلين ومماتهم، يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم. (1) قرف القرحة يقرفها: قشرها بعد يبسها. (*)
[ 130 ]
(ساء ما يحكمون) أي ساء ما حكموا على الله تعالى، فإنه لا يسوي بينهم، ولا يستقيم ذلك في العقول، بل ينصر المؤمنين في الدنيا، ويمكنهم من المشركين، وينصر الكافرين، ولا يمكنهم من المسلمين. وينزل الملائكة عند الموت على المؤمنين بالبشرى، وعلى الكافرين يضربون وجوههم وأدبارهم. وقيل: أراد محياهم بعد البعث، ومماتهم عند حضور الملائكة لقبض أرواحهم. وقيل: أراد إن المؤمنين محياهم على الإيمان والطاعة، ومماتهم على الإيمان والطاعة، ومحيا المشركين على الشرك والمعصية، ومماتهم كذلك، فلا يستويان، عن مجاهد. وقيل. إن الضمير في (مماتهم ومحياهم) للكفار، والمعنى: إنهم يتساوون في حال كونهم أحياء، وفي حال كونهم أمواتا، لأن الحي متى لم يفعل الطاعة فهو بمنزلة الميت. ثم قال سبحانه: (وخلق الله السموات والأرض بالحق) أي لم يخلقهما عبثا، وإنما خلقهما لنفع خلقه بأن يكلفهم، ويعرضهم للثواب الجزيل. (ولتجزى كل نفس بما كسبت) من ثواب على طاعة، أو عقاب على معصية. (وهم لا يظلمون) أي لا يبخسون حقوقهم. ثم قال: (أفرأيت) يا محمد (من اتخذ إلهه هواه) أي اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه، لأنه لا يؤمن بالله، ولا يخافه، فاتبع هواه في أموره، ولا يحجزه تقوى، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: معناه من اتخذ معبوده ما يهواه دون ما دلت الدلالة على أن العبادة تحق له، فإذا استحسن شيئا وهواه اتخذه إلها. وكان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه، رمى به، وعبد الآخر، عن عكرمة، وسعيد بن جبير وقيل: معناه أفرأيت من انقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده، ويرتكب ما يدعوه إليه، ولم يرد أنه يعبد هواه، ويعتقد أنه تحق له العبادة، لأن ذلك لا يعتقده أحد، عن علي بن عيسى. قد أيس الله رسوله من إيمان هؤلاء بهذا. (وأضله الله على علم) أي خذله الله وخلاه وما اختاره جزاء له على كفره وعناده، وترك تدبره على علم منه باستحقاقه لذلك. وقيل: أضله الله أي وجده ضالا على حسب ما علمه، فخرج معلومه على وفق ما علمه، كما يقال: أحمدت فلانا أي وجدته حميدا وكقول عمرو بن معديكرب: قاتلناهم فما أجبناهم، وسألناهم فما أبخلناهم، وقاولناهم فما أفحمناهم أي ما وجدناهم كذلك. وقيل: معناه إنه ضل عن الله كما قال:
[ 131 ]
هبوني امرأ منكم أضل بعيره، * له ذمة، إن الذمام كبير أي ضل عنه بعيره. (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) فسرناه في سورة البقرة. (فمن يهديه من بعد الله) أي من بعد هداية الله إياه، والمعنى: إذا لم يهتد بهدى الله بعد ظهوره ووضوحه، فلا طمع في اهتدائه. (أفلا تذكرون) أي أفلا تتعظون بهذه المواعظ. وهذا استبطاء بالتذكر منهم أي: تذكروا واتعظوا حتى تحصلوا على معرفة الله تعالى. ثم أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ليس الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث، ولا حساب. (نموت ونحيا) قيل في معناه أقوال أحدها: إن تقديره نحيا ونموت، فقدم وأخر والثاني. إن معناه نموت ونحيي أولادنا والثالث: يموت بعضنا ويحيا بعضنا، كما قال (فاقتلوا أنفسكم) أي ليقتل بعضكم بعضا. (وما يهلكنا إلا الدهر) أي وما يميتنا إلا الأيام والليالي أي مرور الزمان، وطول العمر، إنكارا منهم للصانع. (وما لهم بذلك من علم) نفى سبحانه عنهم العلم أي إنما ينسبون ذلك إلى الدهر لجهلهم، ولو علموا أن الذي يميتهم هو الله، وأنه قادر على إحيائهم، لما نسبوا الفعل إلى الدهر. (إن هم إلا يظنون) أي ما هم فيما ذكروه إلا ظانون، وإنما الأمر بخلافه، وقد روي في الحديث عن النبي (ص) أنه قال: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر) وتأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة، والبلايا النازلة إلى الدهر، فيقولون: فعل الدهر كذا. وكانوا يسبون الدهر فقال (ص): " إن فاعل هذه الأمور هو الله تعالى، فلا تسبوا فاعلها " وقيل: معناه فإن الله مصرف الدهر ومدبره، والوجه الأول أحسن. فإن كلامهم مملوء من ذلك ينسبون أفعال الله إلى الدهر. قال الأصمعي: ذم أعرابي رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر، وقال كثير: وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة، * ورجل، رمى فيها الزمان، فشلت وقال آخر: فاستأثر الدهر الغداة بهم * والدهر يرميني، وما أرمي
[ 132 ]
يا دهر قد أكثرت فجعتنا * بسراتنا، ووقرت في العظم (1) ثم قال سبحانه: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا قرأت عليهم حججنا ظاهرات (ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) أي لم يكن لهم في مقابلتها حجة إلا مقالتهم: إن كنتم صادقين في أن الله يعيد الأموات، ويبعثهم يوم القيامة، فائتوا بآبائنا، وأحيوهم حتى نعلم أن الله قادر على بعثنا. وإنما لم يجبهم الله إلى ذلك، لأنهم قالوا ذلك متعنتين مقترحين، لا طالبين الرشد. (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثرا الناس لا يعلمون (26) ولله ملك السماوات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30). القراءة: قرأ يعقوب: (كل أمة تدعى إلى كتابها) بفتح اللام. والباقون بالرفع. الحجة: الوجه في نصبه أنه بدل من الأول، وفي الثاني من الإيضاح ما ليس في الأول، لأن فيه ذكر السبب الداعي إلى الجثو، فلذلك جاز إبداله منه. وتكون (تدعى) في موضع نصب على الحال، أو على أنه مفعول ثان على تفصيل معنى ترى. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) رادا على الكفار قولهم، فقال: (قل) يا محمد (الله يحييكم) في دار الدنيا، لأنه لا يقدر على الإحياء أحد سواه، لأنه القادر لنفسه (ثم يميتكم) عند انقضاء آجالكم (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) بأن يبعثكم، ويعيدكم أحياء (لا ريب فيه) أي لا شك فيه لقيام الحجة عليه. وإنما احتج بالإحياء في دار الدنيا، لأن من قدر على فعل الحياة في وقت قدر على فعلها (1) السراة بالفتح: جمع السري، وهو السيد الشريف السخي، وصاحب المروة في شرف، وهو جمع نادر. ووقر العظم يقره أي: صدعه. (*)
[ 133 ]
في كل وقت. ومن عجز عن ذلك في وقت مع ارتفاع الموانع المعقولة، وكونه حيا، عجز عنه في كل وقت. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ذلك بعدولهم عن النظر الموجب للعلم بصحته. (ولله ملك السماوات والأرض) وهو قادر على البعث والإعادة. (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) العادلون عن الحق الفاعلون للباطل، أنفسهم وحياتهم في الدنيا لا يحصلون من ذلك إلا على عذاب دائم. (وترى كل أمة جاثية) أي وترى يوم القيامة أهل كل ملة باركة على ركبها، عن ابن عباس. وقيل: باركة مستوفزة (1) على ركبها كهيئة قعود الخصوم بين يدي القضاة، عن مجاهد والضحاك وابن زيد. وقيل. إن الجثو للكفار خاصة. وقيل: هو عام للكفار والمؤمنين، ينتظرون الحساب. (كل أمة تدعى إلى كتابها) أي كتاب أعمالها الذي كان يستنسخ لها. وقيل: إلى كتابها المنزل على رسولها، ليسئلوا عما عملوا به. (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) أي يقال لهم ذلك (هذا كتابنا) يعني ديوان الحفظة. (ينطق عليكم بالحق) أي يشهد عليكم بالحق، والمعنى: يبينه بيانا شافيا حتى كأنه ناطق. (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) أي نستكتب الحفظة ما كنتم تعملون في دار الدنيا. والإستنساخ: الأمر بالنسخ، مثل الإستكتاب: الأمر بالكتابة. وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يشهد بما قضي فيه من خير وشر، وعلى هذا فيكون معنى نستنسخ أن الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدون عندها من أحوال العباد، وهو قول ابن عباس. (فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته) أي جنته وثوابه (ذلك هو الفوز المبين) أي الفلاح الظاهر. (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) استوفز في قعدته: قعد منتصبا غير مطمئن، أو وضع ركبتيه ورفع إليتيه، أو استقل على رجليه، ولما يستو قائما. وقد تهيأ للوثوب. (*)
[ 134 ]
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35) فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37). القراءة: قرأ حمزة وحده: (والساعة) بالنصب. والباقون بالرفع. الحجة: قال أبو علي: الرفع على وجهين أحدهما: أن يقطع من الأول فيعطف جملة على جملة والآخر: أن يكون محمولا على موضع (إن) وما عملت فيه، وموضعهما رفع. وأما النصب فمحمول على لفظ (إن) وموضع (لا ريب فيها) رفع بأنه في موضع خبر (إن). وقد عاد الذكر إلى الاسم فكأنه قال: والساعة حق، لأن قوله (لا ريب فيها) في معنى حق. قال أبو الحسن. والرفع أجود في المعنى، وأكثر في كلام العرب، إذا جاء بعد خبر (إن) اسم معطوف. ويقويه قوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). المعنى: ثم عقب سبحانه الوعد بالوعيد فقال: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم) أي فيقال لهم: أفلم تكن حججي وبيناتي، تقرأ عليكم من كتابي (فاستكبرتم) أي تعظمتم عن قبولها (وكنتم قوما مجرمين) أي كافرين كما قال: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين). والفاء في قوله (أفلم تكن) دالة على جواب أما المحذوف. (وإذا قيل إن وعد الله حق) أي إن ما وعد الله به من الثواب والعقاب، كائن لا محالة. (والساعة لا ريب فيها) أي وإن القيامة لا شك في حصولها. (قلتم) معاشر الكفار (ما ندري ما الساعة) وأنكرتموها (إن نظن إلا ظنا) ونشك فيه (وما نحن بمستيقنين) في ذلك (وبدا لهم سيئات ما عملوا) أي ظهر لهم جزاء معاصيهم التي عملوها (وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) أي جزاء استهزائهم (وقيل اليوم ننساكم) أي نترككم في العقاب (كما نسيتم لقاه يومكم هذا) أي تركتم التأهب للقاء يومكم هذا، عن ابن عباس. وقيل: معناه نحلكم في العذاب محل المنسي، كما أحللتم هذا اليوم عندكم محل المنسي. (وماواكم النار) أي مستقركم جهنم (وما لكم من ناصرين) يدفعون عنكم عذاب الله (ذلكم) الذي فعلنا بكم (بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا) أي سخرية تسخرون منها (وغرتكم الحياة
[ 135 ]
الدنيا) أي خدعتكم بزينتها فاغتررتم بها. (فاليوم لا يخرجون منها) أي من النار. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم يخرجون بفتح الياء كما في قوله: (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها). (ولا هم يستعتبون) أي لا يطلب منهم العتبى والإعتذار، لأن التكليف قد زال. وقيل: معناه لا يقبل منهم العتبى. ثم ذكر سبحانه عظمته فقال: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) أي الشكر التام، والمدحة التي لا يوازيها مدحة، لله الذي خلق السماوات والأرض، ودبرهما، وخلق العالمين. (وله الكبرياء) أي السلطان القاهر، والعظمة القاهرة، والعلو والرفعة. (في السماوات والأرض، لا يستحقهما أحد سواه. وفي الحديث: " يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنم ". (وهو العزيز) في جلاله (الحكيم) في أفعاله. وقيل: العزيز في انتقامه من الكفار، والحكيم فيما يفعله بالمؤمنين والأخيار.
[ 136 ]
سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون مكية. قال ابن عباس، وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة: (قل أرأيتم أن كان من عند الله) الآية. نزلت في عبد الله بن سلام. عدد آياتها: خمس وثلاثون آية كوفي، أربع في الباقين. إختلافها: آية حم كوفي. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كل رمل في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات). وعن عبد الله بن أبي يعقوب، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ كل ليلة، أو كل جمعة، سورة الأحقاف، لم يصبه الله بروعة في الدنيا، وآمنه من فزعة يوم القيامة. تفسيرها: لما ختم الله تلك السورة بذكر التوحيد، وذم أهل الشرك والوعيد، افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)
[ 137 ]
ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5). القراءة: قرأ علي (ع) وأبو عبد الرحمن السلمي: (أو أثرة) بسكون الثاء من غير ألف وقرأ ابن عباس بخلاف. وعكرمة وقتادة: (أو أثرة) بفتحتين. والقراءة المشهورة: (أو أثارة) بالألف. الحجة: قال ابن جني: الأثرة والأثارة: البقية، وهي ما يؤثر من قولهم: أثر الحديث يأثره أثرا وأثرة، ويقولون: هل عندك من هذا أثرة وأثارة أي أثر. ومنه سيف مأثور أي عليه أثر الصنعة، وطريق العمل. وأما الأثرة ساكنة الثاء فهي أبلغ معنى، وذلك أنها الفعلة الواحدة من هذا الأصل فهي كقولهم: إئتوني بخبر واحد، أو حكاية شاذة أي: قنعت في الاحتجاج لكم بهذا الأصل على قلته. المعنى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) مر تفسيره (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) أي ما خلقناهما عبثا، ولا باطلا، وإنما خلقناهما لنتعبد سكانهما بالأمر والنهي، ونعرضهم للثواب، وضروب النعم، فنجازيهم في الآخرة بأعمالهم (وأجل مسمى) يعني يوم القيامة، فإنه أجل مسمى عنده، مطوي عن العباد علمه، إذا انتهى إليه، تناهى وقامت القيامة. وقيل: هو مسمى للملائكة، وفي اللوح المحفوظ (والذين كفروا عما أنذروا معرضون) أي إن الكافرين عما أنذروا من القيامة والجزاء، معرضون عادلون عن التفكر فيه (قل) لهؤلاء الذين كفروا بالله (أرأيتم ما تدعون من دون الله) من الأصنام (أروني ماذا خلقوا من الأرض) فاستحقوا بخلق ذلك العبادة والشكر (أم لهم شرك في السماوات) أي في خلقها، وتقديره أم لهم شرك ونصيب في خلق السماوات. ثم قال: قل لهم (ائتوني بكتاب من قبل هذا) القران أنزله الله، يدل على صحة قولكم. (أو أثارة من علم) أي بقية من علم يؤثر، من كتب الأولين يعلمون به أنهم شركاء الله (إن كنتم صادقين) فيما تقولون، عن مجاهد. وقيل: أو أثارة من علم أي خبر من الأنبياء، عن عكرمة ومقاتل. وقيل: هو الخط أي بكتاب مكتوب، عن ابن عباس. وقيل: خاصة من علم أوثرتم بها، عن قتادة. والمعنى: فهاتوا إحدى هذه الحجج الثلاث أولاها دليل العقل، والثانية الكتاب، والثالثة الخبر
[ 138 ]
المتواتر. فإذا لم يمكنهم شئ من ذلك، فقد وضح بطلان دعواهم (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) أي: من أضل عن طريق الصواب ممن يدعو من دون الله شيئا، لو دعاه إلى يوم القيامة لم يجبه، ولم يغثه. والمراد: لا يستجيب له أبدا (وهم عن دعائهم غافلون) أي ومن يدعونهم مع ذلك لا علم لهم بدعائهم، ولا يسمعون دعاءهم. وإنما كنى عن الأصنام بالواو والنون، لما أضاف إليها ما يكون من العقلاء، كقوله: (رأيتهم لي ساجدين). (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8) قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9) قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني سرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10). اللغة: الآية: الدلالة التي تدل على ما يتعجب منه، قال: بآية تقدمون الخيل زورا * كأن على سنابكها مداما (1) أفاض القوم في الحديث إذا مضوا فيه. وأصل الإفاضة: الدفع. وأفاضوا من عرفات: اندفعوا منها. وحديث مفاض ومستفاض ومستفيض أي: جار شائع. والبدع والبديع بمعنى: وهو بدع من قوم أبداع، قال عدي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري * رجالا عرت من بعد بؤس، وأسعد (2) (1) قدم القوم يقدمهم قدوما: سبقهم والزور: ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين. مقصوده: إن تقدمهم على الخيل بتقدم صدورهم على صدورها حال كون سنابكها محمرة من الدم، كأنه انصبت عليها الخمر، وهي شديدة العدو آية عجيبة وفي نسخة " شعثا " بدل " زورا ". (2) عراه واعتراه بمعنى أصابه. وأسعد جمع سعد: وهو اليمن وضد النحس. يقول: لست أنا بأول من أصابته الحوادث مع أنها تصيب رجالا قد أصابتهم في السعد من البخت، والبؤس منه. (*)
[ 139 ]
النزول: قيل: نزلت الآية الأخيرة في عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل، فروي أن عبد الله بن سلام، جاء إلى النبي (ص) فأسلم وقال: يا رسول الله ! سل اليهود عني فإنهم يقولون هو أعلمنا. فإذا قالوا ذلك قلت لهم: إن التوراة دالة على نبوتك، وإن صفاتك فيها واضحة. فلما سألهم قالوا ذلك، فحينئذ أظهر عبد الله بن سلام إيمانه فكذبوه. المعنى: ثم ذكر سبحانه أنه إذا قامت القيامة، صارت آلهتهم التي عبدوها أعداء لهم، فقال: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) وكذلك قوله: (ويكونون عليهم ضدا). (وكانوا بعبادتهم كافرين، يعني إن هذه الأوثان التي عبدوها ينطقها الله حتى يجحدوا أن يكونوا دعوا إلى عبادتها، ويكفروا بعبادة الكفار، ويجحدوا ذلك. ثم وصفهم الله سبحانه فقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم) أي: للقرآن والمعجزات التي ظهرت على يد النبي (ص). (هذا سحر مبين) أي حيلة لطيفة ظاهرة، وخداع بين. (أم يقولون افتراه قل) يا محمد لهم (إن افتريته) أي إن كذبت على الله، واختلقت القرآن كما زعمتم (فلا تملكون لي من الله شيئا) أي إن كان الأمر على ما تقولون إني ساحر مفتر، فلا يمكنكم أن تمنعوا الله مني إذا أراد إهلاكي على افترائي عليه. والمراد: كيف أفتري على الله من أجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني، إن افتريت عليه. (هو أعلم بما تفيضون فيه) أي: إن الله أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه إنه سحر. (كفى به شهيدا بيني وبينكم) أن القران جاء من عنده (وهو الغفور الرحيم) في تأخير العقاب عنكم، حين لا يعجل بالعقوبة. قال الزجاج: هذا دعاء لهم إلى التوبة أي: من أتى من الكبائر مثل ما أتيتم به من الافتراء على الله وعلي، ثم تاب، فإن الله غفور له، رحيم به (قل) يا محمد (ما كنت بدعا من الرسل) أي لست بأول رسول بعث، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. والبدع: الأول من الأمر (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أي لا أدري أأموت أم أقتل، ولا أدري أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم ليس يفعل بكم ما فعل بالأمم المكذبة. وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه قد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه في النار، عن الحسن والسدي. وقيل: معناه لست أدعي غير الرسالة، ولا
[ 140 ]
أدعي علم الغيب، ولا معرفة ما يفعله الله تعالى بي ولا بكم في الإحياء والإماتة والمنافع والمضار، إلا أن يوحى إلي، عن أبي مسلم. وقيل: ما أدري ما أؤمر به، ولا ما تؤمرون به، عن الضحاك. وقيل: ما أدري أأترك بمكة، أم أخرج منها، بأن أؤمر بالتحول عنها إلى بلد آخر، وما أدري أأؤمر بقتالكم، أو بالكف عن قتالكم، وهل ينزل بكم العذاب أم لا. (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) أي: لست أتبع في أمركم من حرب أو سلم، أو أمر أو نهي، إلا ما يوحي الله إلي، وما يأمرني به. (وما أنا إلا نذير مبين) أي مخوف لكم ظاهر. (قل) يا محمد لهم (أرأيتم) معناه: أخبروني ماذا تقولون (إن كان من عند الله) أي إن كان هذا القرآن من عند الله، هو أنزله، وهذا النبي رسوله. (وكفرتم) أنتم أيها المشركون (به وشهد شاهد من بني إسرائيل) يعني عبد الله بن سلام (على مثله) معناه: عليه أي على أنه من عند الله. وقيل: على مثله أي على التوراة، عن مسروق. وقيل: الشاهد موسى، شهد على التوراة كما شهد النبي (ص) على القرآن، لأن السورة مكية، وابن سلام أسلم بالمدينة (فآمن) يعني الشاهد (واستكبرتم) أنتم على الإيمان به. وجواب قوله (إن كان من عند الله) محذوف وتقديره: ألستم من الظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقيل: جوابه (فمن أضل منكم)، عن الحسن. وقيل: جوابه أفتؤمنون عن الزجاج. (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) ومن قبله ككتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا فلاخوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14) ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن
[ 141 ]
أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15). القراءة: قرأ أهل الحجاز وابن عامر ويعقوب: (لتنذر) بالتاء. والباقون بالياء. وقرأ أهل الكوفة: (إحسانا) والباقون: (حسنا). وروي عن علي (ع) وأبي عبد الرحمن السلمي: (حسنا) بفتح الحاء والسين. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو والكسائي: (كرها) بفتح الكاف. والباقون: بضمها. وقرأ يعقوب: (وفصله)، وهو قراءة الحسن وأبي رجاء وعاصم والجحدري. والباقون: (وفصاله). الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ لتنذر بالتاء قوله (إنما أنت منذر) وقوله: (لتنذر به وذكرى). وحجة الياء: (لينذر بأسا شديدا) أو أسند الإنذار إلى الكتاب، كما أسنده إلى الرسول. وأما الباء في قوله (بوالديه) فيجوز أن يتعلق بوصينا، بدلالة قوله: (ذلكم وصاكم به). ويجوز أن يتعلق بالإحسان، ويدل عليه قوله: (وقد أحسن بي إذ أخرجني). ولا يجوز أن يتعلق في الآية بالإحسان، لتقدمها على الموصول، ولكن يجوز أن تعلقه بمضمر يفسره الإحسان، كما جاز في نحو قوله: (وكانوا فيه من الزاهدين) وقوله: " كان جزائي بالعصا أن أجلدا " في قول من لم يعلقه بالجزاء. والإحسان: خلاف الإساءة. والحسن: خلاف القبح. فمن قال (إحسانا)، كان انتصابه على المصدر، وذلك أن معنى قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) أمرناه بالإحسان أي ليأتي الإحسان إليهما دون الإساءة. ولا يجوز أن يكون انتصابه بوصينا، لأن (وصينا) قد استوفى مفعوليه اللذين أحدهما منصوب، والآخر المتعلق بالباء. ومن قرأ (حسنا) فمعناه: ليأت في أمرهما أمرا ذا حسن أي: ليأت الحسن في أمرهما دون القبيح. ويؤيده قراءة علي، صلوات الرحمن عليه: (حسنا) لأن معناه ليأت في أمرهما فعلا حسنا. وأما (الكره) بالفتح فهو المصدر. والكره بالضم الاسم، كأنه الشئ المكروه. قال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) وهذا بالضم. وقال: (أن ترثوا النساء كرها) فهذا في موضع الحال، والفتح فيه أحسن. وقد قيل: إنهما لغتان. وأما الفصل فهو بمعنى الفصال، إلا أن الأكثر بالألف. وفي
[ 142 ]
الحديث: (لا رضاع بعد الفصال) يعني بعد الفطام. اللغة: القديم: ما تقادم وجوده. وفي عرف المتكلمين: هو الموجود الذي لا أول لوجوده. والإيزاع: أصله المنع. وأوزعني: امنعني عن الإنصراف عن ذلك باللطف. ومنه قول الحسن: (لا بد للناس من وزعة) (1). وقال أبو مسلم: الإيزاع إيصال الشئ إلى القلب. الاعراب: (إماما): منصوب على الحال من الضمير في الظرف عند سيبويه، ومن (كتاب موسى) عند الأخفش، ومن رفع بالظرف. ويجوز أن يرتفع قوله: (كتاب موسى) بالعطف على قوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) أي وشهد من قبل القرآن كتاب موسى. ففصل بالظرف بين الواو والمعطوف به. (ورحمة): معطوف على قوله (إماما). و (لسانا عربيا): منصوب على الحال أيضا من قوله: (هذا كتاب). ويجوز أن يكون حالا مما في (مصدق) من الضمير وتقديره: وهذا كتاب مصدق ملفوظا به على لسان العرب. (وبشرى): عطف على قوله (لينذر)، وهو مفعول له. (جزاء): مصدر مؤكد لما قبله وتقديره: جوزوا جزاء، فاستغنى عن ذكر جوزوا لدلالة الجملة قبلها عليها. ويجوز أن يكون (جزاء) مفعولا له. و (كرها): منصوب على الحال أي حملته كارهة. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين جحدوا وحدانيته فقال. (وقال الذين كفروا للذين آمنوا) بالله ورسوله (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) أي لو كان هذا الذي يدعونا إليه محمد خيرا أي نفعا عاجلا، أو آجلا، ما سبقنا هؤلاء الذين آمنوا به إلى ذلك، لأنا كنا بذلك أولى. واختلف فيمن قال ذلك، فقيل: هم اليهود قالوا: لو كان دين محمد (ص) خيرا، ما سبقنا إليه عبد الله بن سلام، عن أكثر المفسرين. وقيل: إن أسلم وجهينة ومزينة وغفارا، لما أسلموا، قال بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع، هذا القول، عن الكلبي. ونظم الكلام يوجب أن يكون: ما سبقتمونا إليه، ولكنه على ترك المخاطبة. (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) أي فإذا لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدبروه، فسيقولون هذا القرآن كذب متقادم أي أساطير الأولين. ثم قال (1) جمع الوازع: وهو المانع الزاجر أي: لا بد للناس من ولاة مانعين عن محارم الله تعالى. (*)
[ 143 ]
سبحانه: (ومن قبله كتاب موسى) أي من قبل القرآن، كتاب موسى، وهو التوراة (إماما) يقتدى به (ورحمة) من الله للمؤمنين به قبل القرآن. وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إماما. وفي الكلام محذوف يتم به المعنى، تقديره: فلم يهتدوا به. ودل عليه قوله في الأية الاولى: (وإذ لم يهتدوا به)، وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة، فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ويعرفوا منها صفة محمد (ص). ثم قال: (وهذا كتاب) يعني القرآن (مصدق) للكتب التي قبله (لسانا عربيا) ذكر اللسان توكيدا كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا (لتنذر الذين ظلموا) أي: لتخوفهم، يخاطب النبي (ص). ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب (وبشرى للمحسنين) وبشارة للمؤمنين. وقيل: معناه ويبشر بشرى، فيكون نصبا على المصدر. ويجوز أن يكون في موضع رفع أي: وهو بشرى للمحسنين الموحدين (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) مر تفسيره (فلا خوف عليهم) من العقاب. (ولا هم يحزنون) من أهوال يوم القيامة. (أولئك أصحاب الجنة) الملازمون لها، المنعمون فيها (خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) في الدنيا من الطاعات، والأعمال الصالحات (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) مر تفسيره (حملته أمه كرها) أي بكره ومشقة، عن الحسن وقتادة ومجاهد. يعني حين أثقلت، وثقل عليها الولد. (ووضعته كرها) يريد به شدة الطلق، عن ابن عباس. (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) يريد: إن أقل مدة الحمل، وكمال مدة الرضاع، ثلاثون شهرا. قال ابن عباس: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت أحدا وعشرين شهرا. وإذا حملت ستة أشهر، أرضعت أربعة وعشرين شهرا. (حتى إذا بلغ أشده) وهو ثلاث وثلاثون سنة، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: بلوغ الحلم، عن الشعبي. وقيل: وقت قيام الحجة عليه، عن الحسن. وقيل: هو أربعون سنة، وذلك وقت إنزال الوحي على الأنبياء، ولذلك فسر به فقال: (وبلغ أربعين سنة) فيكون هذا بيانا لزمان الأشد. وأراد بذلك أنه يكمل له رأيه، ويجتمع عليه عقله عند الأربعين سنة.
[ 144 ]
(قال رب أوزعني) أي ألهمني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) قد مر تفسيره في سورة النمل. (وأصلح لي في ذريتي) أي: إجعل ذريتي صالحين، عن الزجاج. وقيل: إنه دعاء بإصلاح ذريته لبره وطاعته، لقوله: (أصلح لي). وقيل: إنه الدعاء بإصلاحهم لطاعة الله، عز وجل، وهو عبادته وهو الأشبه، لأن طاعتهم لله من بره، لأن اسم الذرية يقع على من يكون بعده. وقيل: معناه اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق، عن سهل بن عبد الله (إني تبت إليك) من سيئاتي وذنوبي (وإني من المسلمين) المنقادين لأمرك. (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهنم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذى كانوا يوعدون (16) والذى قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين (18) ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19) ويوم يعرض الذين على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (نتقبل ونتجاوز) بالنون، (أحسن) بالنصب. والباقون: (يتقبل ويتجاوز) بضم الياء (أحسن) بالرفع. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب: (آذهبتم) بهمزة واحدة ممدودة. وقرأ ابن عامر. (ءأذهبتم) بهمزتين. والباقون: (أذهبتم) بفتح الهمزة.. الحجة: من قرأ (يتقبل) فلأن الفعل، وإن كان مبنيا للمفعول به، فمعلوم أنه لله تعالى، كما جاء في الأخرى: (إنما يتقبل الله من المتقين). فبناؤه للمفعول كبنائه للفاعل في العلم بالفاعل. وحجة من قرأ (نتقبل) بالنون أنه قد تقدم الكلام
[ 145 ]
(ووصينا الإنسان)، وكلاهما حسن. وقد ذكرنا اختلافهم في (أف) في بني إسرائيل. وحجة الاستفهام في (أذهبتم) أنه قد جاء هذا النحو بالاستفهام نحو: أليس هذا بالحق، وقوله: (أكفرتم بعد إيمانكم). ووجه الخبر أن الإستفهام تقرير فهو مثل الخبر، ألا ترى أن التقرير لا يجاب بالفاء، كما يجاب بها إذا لم يكن تقريرا، فكأنهم يوبخون بهذا الذي يخبرون به ويبكتون. والمعنى في القراءتين يقال لهم هذا، فحذف القول كما حذف في نحو قوله: (أكفرتم بعد إيمانكم). الاعراب: (وعد الصدق): نصب على المصدر، تقديره: وعدهم الله ذلك وعدا. وإضافته إلى (الصدق) غير حقيقية، لأن (الصدق) في تقدير النصب بأنه صفة وعد. (الذي كانوا يوعدون): موصول وصلة في موضع النصب بكونه صفة الوعد. و (أف لكما): مبتدأ وخبر تقديره هذه الكلمة التي تقال عند الأمور المكروهة كائنة لكما. (ويلك): منصوب لأنه مفعول فعل محذوف تقديره ألزمك الله الويل. وقيل: تقديره وي لك، فهو مبتدأ وخبر، كما قلناه في (أف). و (ليوفيهم): معطوف على محذوف تقديره والله أعلم: ليجزيهم بما عملوا، وليوفيهم أعمالهم. المعنى: ثم أخبر سبحانه بما يستحقه هذا الإنسان من الثواب، فقال: (أولئك) يعني أهل هذا القول (الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) أي يثابون على طاعاتهم والمعنى: نقبل بإيجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم، وهو ما يستحق به الثواب من الواجبات والمندوبات، فإن المباح أيضا من قبيل الحسن، ولا يوصف بأنه متقبل. (ونتجاوز عن سيئاتهم) التي اقترفوها (في أصحاب الجنة) أي في جملة من يتجاوز عن سيئاتهم، وهم أصحاب الجنة. فيكون قوله (في أصحاب الجنة) في موضع نصب على الحال. (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) أي وعدهم وعد الصدق، وهو ما وعد أهل الإيمان بأن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، إذا شاء أن يتفضل عليهم بإسقاط عقابهم، أو إذا تابوا، الوعد الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل. (والذي قال لوالديه) إذا دعوه إلى الإيمان (أف لكما) وهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار التسخط، ومعناه: بعدا لكما. وقيل: معناه نتنا وقذرا لكما، كما يقال عند شم الرائحة المكروهة. (أتعدانني أن أخرج) من القبر وأحيا وأبعث. (وقد
[ 146 ]
خلت القرون من قبلي) أي مضت الأمم وماتوا قبلي، فما أخرجوا ولا أعيدوا. وقيل: معناه خلت القرون على هذا المذهب، ينكرون البعث (وهما) يعني والديه (يستغيثان الله) أي يستصرخان الله، ويطلبان منه الغوث، ليتلطف له بما يؤمن عنده، ويقولان له (ويلك آمن) بالقيامة وبما يقوله محمد (ص) (إن وعد الله) بالبعث والنشور، والثواب والعقاب. (حق فيقول) هو في جوابهما (ما هذا) القرآن، وما تزعمانه، وتدعوا نني إليه (إلا أساطير الأولين) أي أخبار الأولين وأحاديثهم التي سطروها، وليس لها حقيقة. وقيل: إن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال له أبواه: أسلم، وألحا عليه فقال: أحيوا لي عبد الله بن جدعان، ومشايخ قريش حتى أسالهم عما تقولون، عن ابن عباس وأبي العالية والسدي ومجاهد. وقيل: الاية عامة في كل كافر عاق لوالديه، عن الحسن وقتادة والزجاج قالوا: ويدل عليه أنه قال عقيبها: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم) أي حقت عليهم كلمة العذاب في أمم أي: مع أمم (قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) على مثل حالهم واعتقادهم. قال قتادة: قال الحسن: الجن لا يموتون، فقلت: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم) الآية تدل على خلافه. ثم قال سبحانه مخبرا عن حالهم: (إنهم كانوا خاسرين) لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي. (ولكل درجات مما عملوا) أي لكل واحد ممن تقدم ذكره من المؤمنين البررة والكافرين الفجرة، درجات على مراتبهم ومقادير أعمالهم. فدرجات الأبرار في عليين، ودرجات الفجار دركات في سجين، عن ابن زيد، وأبي مسلم. وقيل: معناه ولكل مطيع درجات ثواب، وإن تفاضلوا في مقاديرها، عن الجبائي وعلي بن عيسى. (ولنوفيهم أعمالهم) أي جزاء أعمالهم وثوابها. ومن قرأ بالياء فالمعنى: وليوفيهم الله أعمالهم. (وهم لا يظلمون) بعقاب لا يستحقونه أو بمنع ثواب يستحقونه. (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) يعني يوم القيامة أي يدخلون النار كما يقال: عرض فلان على السوط. وقيل: معناه عرض عليهم النار قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) أي فيقال لهم: آثرتم طيباتكم ولذاتكم في الدنيا على طيبات الجنة (واستمتعتم بها) أي انتفعتم بها منهمكين فيها.
[ 147 ]
وقيل: هي الطيبات من الرزق يقول: أنفقتموها في شهواتكم، وفي ملاذ الدنيا، ولم تنفقوها في مرضاة الله. ولما وبخ الله سبحانه الكفار بالتمتع بالطيبات واللذات في هذه الدار، آثر النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع) الزهد والتقشف واجتناب الترفه والنعمة. وقد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله (ص)، فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم، وإنه لمضطجع على خصفة (1)، وإن بعضه على التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فسلمت عليه، ثم جلست فقلت: يا رسول الله ! أنت نبي الله وصفوته، وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على سرر الذهب، وفرش الديباج والحرير ؟ فقال رسول الله (ص): (أولئك قوم عجلت طيباتهم، وهي وشيكة الإنقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا). وقال علي بن أبي طالب، عليه أفضل الصلوات، في بعض خطبه: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها ؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى). وروى محمد بن قيس، عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: " والله إن كان علي (ع) ليأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما، ثم يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا جاز كعبه حذفه، ولقد ولي خمس سنين، ما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، وإن كان ليطعم الناس على خبز البر واللحم، وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير، والزيت والخل، وما ورد عليه أمران كلاهما لله، عز وجل، فيه رضى، إلا أخذ بأشدهما على بدنه. ولقد أعتق ألف مملوك من كد يمينه، تربت منه يداه، وعرق فيه وجهه. وما أطاق عمله أحد من الناس بعده، وإن كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وإن كان أقرب الناس شبها به علي بن الحسين (ع)، ما أطاق عمله أحد من الناس بعده ". ثم إنه قد اشتهر في الرواية أنه (ع) لما دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده، قال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، لبس (1) الخصفة: الجلة تعمل من الخوص للتمر، (*)
[ 148 ]
العباءة، وتخلى من الدنيا ؟ فقال (ع): علي به. فلما جاء به قال: يا عدي نفسه ! لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك ؟ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك ! قال: يا أمير المؤمنين ! هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك ؟ قال: ويحك إني لست كأنت ! إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ (1) بالفقير فقره). (فاليوم تجزون عذاب الهون) أي العذاب الذي فيه الذل والخزي والهوان. (بما كنتم تستكبرون في الأرض) أي باستكباركم عن الإنقياد للحق في الدنيا، وتكبركم على أنبياء الله وأوليائه (بغير الحق وبما كنتم تفسقون) أي بخروجكم من طاعة الله إلى معاصيه. (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير الكسائي ويعقوب وسهل: (لا يرى) بضم الياء (إلا مساكنهم) بالرفع. وقرأ الباقون: (لا ترى) بالتاء (إلا مساكنهم) بالنصب. وفي الشواذ قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة ومالك بن دينار والأعمش: (إلا ترى) بضم التاء (إلا مساكنهم) بالرفع. وقرأ الأعمش: (مسكنهم). الحجة: قال أبو علي: تذكير الفعل في قوله (لا يرى إلا مساكنهم) حسن، (1) باغ الدم بيغا وتبيغ: هاج وثار. (*)
[ 149 ]
وهو أحسن من إلحاق علامة التأنيث الفعل، من أجل الجمع، وذلك أنهم حملوا الكلام في هذا الباب على المعنى، فقالوا: ما قام إلا هند، ولم يقولوا: ما قامت، لما كان المعنى ما قام أحد. ولا يجئ التأنيث فيه إلا في شذوذ وضرورة، فمن ذلك قول الشاعر: برى النخز والإجراز ما في عروضها، * فما بقيت إلا الصدور الجراشع (1) وقول ذي الرمة: كأنها جمل، وهم، وما بقيت * إلا النحيزة، والألواح، والعصب (2) قال ابن جني: قوله (مسكنهم): إن شئت جعلته مصدرا، وقدرت حذف المضاف أي: لا ترى إلا آثار مسكنهم، كما قال ذو الرمة: تقول عجوز: مدرجي متروحا * على بابها من عند أهلي، وغاديا (3) فالمدرج هنا: مصدر. ألا تراه قد نصب الحال. وإن شئت قلت: مسكنهم واحد كفى من جماعة. اللغة: الأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل العظيم، لا يبلغ أن يكون جبلا. قال المبرد: الحقف هو الرمل الكثير المكتنز غير العظيم، وفيه اعوجاج. قال العجاج: " بات على أرطاة حقف أحقفا ". والعارض: السحاب يأخذ في عرض السماء، قال الأعشى: يا من رأى عارضا قد بت أرمقه، * كأنما البرق في حافاته (4) شعل (1) برى السفر الإنسان والحيوان هزله، وأذهب لحمه. ونخزه بحديدة أو نحوها نخزا. وجأه بها، وبكلمة: أوجعه بها، وأجرز الناقة: هزلت فهي مجرز. والعرض: الناحية. والعرض من الحديث: معظمه ومن العنق: جانبه. والجرشع: العظيم الصدر المنتفخ الجنبين. يقال: أذهب النخز والهزال ما في نواحي بدنها من اللحم والشحم، فلم يبق منها إلا عظام صدر منتفخ، ليس عليها شحم، ولا دم. (2) الجمل والجمل: حبل السفينة والوهم: الضخم. والنحيزة من نحز البعير إذا أصابه النحاز: وهو داء في رئته بسعل به شديدا. ولوح الجسد: عظمه، يصفها بأنها صارت من الهزال بمنزلة الحبل، فما بقي فيها شئ سوى النفس، والعظم، والعصب. (3) مذكور في (جامع الشواهد). (4) حافات الشئ: جوانبه. (*)
[ 150 ]
والتدمير: الإهلاك، وإلقاء بعض الأشياء على بعض، حتى يخرب ويهلك، قال جرير: وكان لهم كبكر ثمود لما * رغى ظهرا، فدمرهم دمارا (1) المعنى: ثم قال سبحانه لنبيه (ص): (واذكر) يا محمد لقومك أهل مكة (أخا عاد) يعني هودا (إذ أنذر قومه) أي خوفهم بالله تعالى، ودعاهم إلى طاعته (بالأحقاف) وهو واد بين عمان ومهرة، عن ابن عباس. وقيل: رمال فيما بين عمان إلى حضرموت، عن ابن إسحاق. وقيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر (2) من اليمن، عن قتادة. وقيل: أرض خلالها رمال، عن الحسن. (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) أي: وقد مضت الرسل من قبل هود (ع) ومن بعده (ألا تعبدوا إلا الله) أي بأن لا تعبدوا. والمعنى: إني لم أبعث قبل هود ولا بعده، إلا بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا اعتراض كلام وقع بين إنذار هود وكلامه لقومه. ثم عاد إلى كلام هود لقومه فقال: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) وتقدير الكلام: إذ أنذر قومه بالأحقاف فقال: (إني أخاف عليكم) الآية. ثم حكى ما أجاب به قومه بقوله: (قالوا أجئتنا) يا هود (لتأفكنا) أي لتلفتنا وتصرفنا (عن آلهتنا) أي عن عبادة آلهتنا (فأتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من الصادقين) أن العذاب نازل بنا. (قال) هود (إنما العلم عند الله) هو يعلم متى يأتيكم العذاب، لا أنا (وأبلغكم ما أرسلت به) إليكم أي وأنا أبلغكم ما أمرت بتبليغه إليكم (ولكني أراكم قوما تجهلون) حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم ونجاتكم، وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم. وهذا لا يفعله إلا الجاهل بالمنافع والمضار. (فلما رأوه) أي فلما رأوا ما يوعدون. والهاء تعود إلى ما تعدنا في قوله: (فائتنا بما تعدنا) (عارضا) أي سحابا يعرض في ناحية من السماء، ثم يطبق السماء (مستقبل أوديتهم) قالوا: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة سوداء، خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا. (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي سحاب ممطر (1) رغى البعير رغاء: صوت وضج. والبكر: الفتي من الإبل. (2) الشحر: ساحل اليمن. وشحر عمان وشحر عمان: وهو ساحل البحر بين (عمان)، و (عدن). (*)
[ 151 ]
إيانا، هذا تقديره، لأنه نكرة بدلالة أنه صفة لعارض. فقال هود (ع): (بل هو ما استعجلتم به) أي ليس هو كما توهمتم، بل هو الذي وعدتكم به، وطلبتم تعجيله. ثم فسره فقال: (ريح فيها عذاب أليم) أي هو ريح فيها عذاب مؤلم. وقيل: بل هو قول الله تعالى. (تدمركل شئ بامر ربها) أي تهلك كل شئ مرت به من الناس والدواب والأموال. واعتزل هود ومن معه في حظيرة لم يصبهم من تلك الريح إلا ما يلين على الجلود، وتلتذ به الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض، حتى نرى الظعينة كأنها جرادة، عن عمر بن ميمون. (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) وما عداها قد هلك. ومن قرأ بالتاء فهو على وجه الخطاب للنبي (ص). (كذلك) أي مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف، وجازيناهم بالعذاب (نجزي القوم المجرمين) أي الكافرين الذين يسلكون مسالكهم. (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30). القراءة: في الشواذ قراءة ابن عباس وعكرمة وأبي عامر: (أفكهم) بفتح الألف والفاء والكاف. وقراءة عبد الله بن الزبير: (آفكهم) وقراءة ابن عياض: (أفكهم) بالتشديد. الحجة: قوله (أفكهم) معناه: صرفهم وثناهم، قال:
[ 152 ]
إن يك عن أحسن المروءة مأفو * كا، ففي آخرين قد أفكوا (1) و (آفكهم): أفعلهم منه أي: أصارهم إلى الإفك. ويجوز أن يكون فاعلهم من ذلك مثل خادعهم. وأما (أفكهم) ففعلهم، وذلك لتكثيره ذلك الفعل بهم. وروي عن قطرب: أن ابن عباس قرأ (آفكهم) أي صارفهم. اللغة: التمكين: إعطاء ما يتمكن به من الفعل، وتدخل فيه القدرة والآلة، وسائر ما يحتاج إليه الفاعل. وقيل: التمكين إزالة الموانع، وذلك داخل في الأول، لأنه كما يحتاج الفاعل في الفعل إلى الآلات، يحتاج إلى زوال الموانع، فإذا أزيحت عنه العلل كلها فقد مكن. والقربان: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة أو نسك، والجمع: قرابين. الاعراب: (فيما إن مكناكم فيه): إن هنا بمعنى ما وإن في النفي مع ما الموصولة بمعنى الذي، أحسن في اللفظ من ما. ألا ترى أنك لو قلت: رغبت فيما ما رغبت فيه، لكان أحسن منه أن تقول: رغبت فيما إن رغبت فيه، لاختلاف اللفظين. المعنى: ثم خوف سبحانه كفار مكة، وذكر فضل عاد بالأجسام والقوة عليهم فقال: (ولقد مكناهم فيما إن مكنكم) أي: في الذي ما مكناكم (فيه) والمعنى في الشئ الذي لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان، وبسطة الأجسام، وطول العمر، وكثرة الأموال، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: معناه فيما مكناكم فيه، وإن مزيدة، والمعنى: مكناهم من الطاعات، وجعلناهم قادرين متمكنين بنصب الأدلة على التوحيد، والتمكين من النظر فيها، والترغيب والترهيب، وإزاحة العلل في جميع ذلك. (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) ثم أخبر سبحانه عن أولئك أنهم أعرضوا عن قبول الحجج، والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله من الحواس الصحيحة التي بها تدرك الأدلة. (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ) أي لم ينفعهم جميع ذلك لأنهم لم يعتبروا ذلك ولا استعملوا أبصارهم وأفئدتهم في النظر والتدبر (إذ كانوا يجحدون بآيات الله) وأدلته (وحاق بهم) أي حل بهم جزاء (ما كانوا به (1) مر البيت في ج 3. (*)
[ 153 ]
يستهزءون ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) معناه: ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم، وهم قوم هود، وكانوا باليمن، وقوم صالح بالحجر، وقوم لوط على طريقهم إلى الشام (وصرفنا الآيات) تصريف الآيات: تصييرها تارة في الإعجاز، وتارة في الإهلاك، وتارة في التذكير بالنعم، وتارة في التذكير بالنقم، وتارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم، وتارة في وصف الفجار ليجتنب مثل فعلهم. (لعلهم يرجعون) أي لكي يرجعوا عن الكفر (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) أي فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم آلهة، وزعموا أنهم يعبدونهم تقربا إلى الله تعالى ثم لم ينصروهم، لأن هذا استفهام إنكار (بل ضلوا عنهم) أي ضلت الآلهة وقت الحاجة إليها، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم. (وذلك إفكهم) أي اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم، وهو قوله: (وما كانوا يفترون) أي: يكذبون من أنها آلهة. ثم بين سبحانه أن في الجن مؤمنين وكافرين، كما في الإنس، فقال: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) معناه: واذكر يا محمد إذ وجهنا إليك جماعة من الجن، تستمع القرآن. وقيل: معناه صرفناهم إليك عن بلادهم بالتوفيق والألطاف حتى أتوك. وقيل: صرفناهم إليك عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب، ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه، فقالوا: ما هذا الذي حدث في السماء إلا من أجل شئ قد حدث في الأرض. فضربوا في الأرض حتى وقفوا على النبي (ص) ببطن نخلة، عامدا إلى عكاظ، وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن، ونظروا كيف يصلي، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وعلى هذا فيكون الرمي بالشهب لطفا للجن. (فلما حضروه) أي حضروا القرآن، أو النبي (ص). (قالوا أنصتوا) أي قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين القرآن (1) شئ. (فلما قضي) أي فرغ من تلاوته (ولوا إلى قومهم) أي انصرفوا إلى قومهم (منذرين) أي محذرين إياهم عذاب الله إن لم يؤمنوا (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) يعنون القرآن (مصدقا لما بين يديه) أي لما تقدمه من الكتب (1) وفي نسختين: " الإستماع " بدل " القرآن ". (*)
[ 154 ]
(يهدي إلى الحق) أي يرشد إلى دين الحق، ويدل عليه، ويدعو إليه (وإلى طريق مستقيم) يؤدي بسالكه إلى الجنة. القصة: عن الزهري قال: لما توفي أبو طالب (ع)، اشتد البلاء على رسول الله (ص)، فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة، وهم إخوة: عبد ياليل ومسعود وحبيب، بنو عمرو. فعرض عليهم نفسه، فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة، إن كان الله بعثك بشئ قط. وقال الأخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا أبدا، فلئن كنت رسولا كما تقول، فأنت أعظم خطرا من أن يرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك بعد ! وتهزؤوا به، وأفشوا في قومه ما راجعوه به، فقعدوا له صفين على طريقه. فلما مر رسول الله (ص) بين صفيهم، جعلوا لا يرفع رجليه، ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه. فخلص منهم وهما يسيلان دما إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل نخلة منه، وهو مكروب موجع، تسيل رجلاه دما، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة. فلما رآهما، كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله. فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس، معه عنب، وهو نصراني من أهل نينوى. فلما جاءه قال له رسول الله (ص): من أي أرض أنت ؟ قال: من أهل نينوى. قال: من مدينة العبد الصالح يونس بن متى. فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى ؟ قال: أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى. فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن يونس خر عداس ساجدا لله ولرسول الله (ص)، وجعل يقبل قدميه، وهما يسيلان الدماء. فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما، سكتا. فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد، وقبلت قدميه، ولم نرك فعلت ذلك بأحد منا ؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشئ عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى. فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع ! فرجع رسول الله (ص) إلى مكة حتى إذا كان بنخلة، قام في جوف الليل يصلي، فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وقيل: من اليمن. فوجدوه يصلي صلاة الغداة، ويتلو القرآن، فاستمعوا له. وهذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة.
[ 155 ]
وقال آخرون: أمر رسول الله (ص) أن ينذر الجن، ويدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن. فصرف الله إليه نفرا من الجن من نينوى، فقال (ص): إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني ؟ فاتبعه عبد الله بن مسعود. قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، ودخل نبي الله شعبا يقال له شعب الحجون، وخط لي خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك. ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيته اسودة كثيرة، حتى حالت بيني وبينه، حتى لم أسمع صوته. ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين حتى بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله (ص) مع الفجر. فانطلق فبرز. ثم قال: هل رأيت شيئا ؟ فقلت: نعم رأيت رجالا سودا مستثفري (1) ثياب بيض. قال: أولئك جن نصيبين. وروى علقمة عن عبد الله قال: لم أكن مع رسول الله (ص) ليلة الجن، ووددت أني كنت معه. وروي عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة نفر من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله (ص) رسلا إلى قومهم. قال زر بن حبيش: كانوا تسعة نفر منهم زوبعة. وررى محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله (ص) الرحمن على الناس، سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله (ص): الجن كانوا أحسن جوابا منكم لما قرأت عليهم (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا، ولا بشئ من آلائك ربنا نكذب. (يقومنا أجيبوا داعي الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32) أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى إنه على كل شئ قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا (1) الإستثفار: هو أن يدخل الرجل ثوبه بين رجليه، كما يفعل الكلب بذنبه. (*)
[ 156 ]
تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35). القراءة: قرأ يعقوب وحده: (يقدر) بالياء، وهو قراءة جده عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعاصم الجحدري، ومالك بن دينار. وقرأ جميع القراء: (بقادر). وفي الشواذ قراءة الحسن، وعيسى الثقفي: (بلاغا) بالنصب. وقراءة ابن محيصن: (فهل يهلك) بفتح الياء. الحجة: قال أبو علي: قراءة القراء (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض) إلى قوله: (بقادر)، من الحمل على المعنى أدخل الباء لما كان في معنى: أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر، ومثل ذلك في الحمل على المعنى، قول الشاعر: بادت وغير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء (1) ثم قال: (ومشجج أما سواء قذاله) لما كان غير آيهن مع البلى إلا رواكد، بمعنى بها رواكد. حمل مشجج على ذلك. وكذلك قوله: (يطاف عليهم بكأس من معين) ثم قال: (وحور عين) لما كان يطاف عليهم بكذا معناه لهم فيها كذا، وقالوا إن أحدا لا يقول ذلك إلا زيد، فأدخل أحدا في الموجب، لما كان معنى الكلام النفي. ومن قرأ بلاغا، فهو على تقدير فعل مضمر أي: بلغوا بلاغا، كما أن الرفع على تقدير مضمر أي: هو بلاغ أو هذا بلاغ. وقرأ أبو مجلز (2): بلغ على الأمر. المعنى: ثم بين سبحانه تمام خبر الجن فقال حاكيا عنهم: (يا قومنا أجيبوا داعي الله) يعنون محمدا (ص) إذ دعاهم إلى توحيده، وخلع الأنداد دونه (وأمنوا (1) الضمير في (بادت) راجع إلى (الديار). وفي نسخة (من) بدل (مع). والرواكد: الأثافي مشتقة من الركود لثباتها. وعجز قوله: (ومشجج): فبدا وغيب سأره المعزاء). والمشجج: الوتد مأخوذ من الشجة: وهو الجرح يكون في الوجه والرأس. شدد لكثرة ذلك فيه. وسواء بمعنى الوسط. والقذال: جماع مؤخر الرأس. يقول: بادت الديار وغيرت أعلامها فلم يبق فيها إلا أحجار أثاف جمرها صار هباء أيضا، وكذا لم يبق فيها إلا وتد بدا رأسه، وأخفت الأرض الكثير الحصى سائره ومر البيت في ج 2 وج 3. (2) وفي نسختين: أبو محلز. (*)
[ 157 ]
به) أي بالله (يغفر لكم من ذنوبكم) أي فإنكم إن آمنتم بالله ورسوله، يغفر لكم ذنوبكم (ويجركم) أي ويخلصكم (من عذاب أليم) قال علي بن إبراهيم: فجاؤوا إلى رسول الله (ص) فآمنوا به، وعلمهم رسول الله (ص) شرائع الإسلام، وأنزل الله سبحانه: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) إلى آخر السورة. وكانوا يفرون إلى رسول الله (ص) في كل وقت. وفي هذا دلالة على أنه كان مبعوثا إلى الجن، كما كان مبعوثا إلى الإنس، ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله. (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي لا يعجز الله فيسبقه ويفوته (وليس له من دونه أولياء) أي أنصار يمنعونه من الله، ويدفعون عنه العذاب إذا نزل بهم. ويجوز أن يكون هذا من كلام الله تعالى ابتداء. ثم قال: (أولئك) يعني الذين لا يجيبون داعي الله (في ضلال مبين) أي عدول عن الحق ظاهر. ثم قال سبحانه، منبها على قدرته على البعث والإعادة، فقال: (أولم يروا) أي أولم يعلموا (أن الله الذي خلق السماوات والأرض) وأنشأهما (ولم يعي بخلقهن) أي لم يصبه في خلق ذلك إعياء ولا تعب، ولم يعجز عنه. يقال: عيي فلان بأمره إذا لم يهتد له، ولم يقدر عليه. (بقادر) الباء زائدة، وموضعه رفع بأنه خبر إن (على أن يحيي الموتى) أي فخلق السماوات والأرض أعجب من إحياء الموتى. ثم قال: (بلى) هو قادر عليه (إنه على كل شئ قدير). ثم عقبه بذكر الوعيد فقال: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق) أي يقال لهم على وجه الاحتجاج عليهم: أليس هذا الذي جوزيتم به حق لا ظلم فيه. (قالوا) أي فيقولون (بلى وربنا) اعترفوا بذلك وحلفوا عليه بعد ما كانوا منكرين. (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بكفركم في الدنيا، وإنكاركم. ثم قال لنبيه (ص): (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) أي فاصبر يا محمد على أذى هؤلاء الكفار، وعلى ترك إجابتهم لك، كما صبر الرسل. ومن ههنا لتبيين الجنس كما في قوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان). وعلى هذا القول، فيكون جميع الأنبياء هم أولو العزم، لأنهم عزموا على أداء الرسالة، وتحمل أعبائها، عن ابن زيد والجبائي وجماعة. وقيل: إن من ههنا للتبعيض، وهو قول أكثر المفسرين، والظاهر في روايات أصحابنا.
[ 158 ]
ثم اختلفوا فقيل: أولو العزم من الرسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه، وهم خمسة: أولهم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد (ص)، عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع) قال: وهم سادة النبيين، وعليهم دارت رحا المرسلين. وقيل هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد، وذهاب البصر، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر والبلوى، عن مقاتل. وقيل: هم الذين أمروا بالجهاد والقتال، وأظهروا المكاشفة، وجاهدوا في الدين، عن السدي والكلبي. وقيل: هم إبراهيم وهود ونوح ورابعهم محمد (ص)، عن أبي العالية. والعزم: هو الوجوب والحتم. وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع، وأوجبوا على الناس الأخذ بها، والانقطاع عن غيرها. (ولا تستعجل لهم) أي ولا تستعجل لهم العذاب، فإنه كائن واقع بهم عن قريب، وما هو كائن فكأن قد كان وقع (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) أي من العذاب في الآخرة (لم يلبثوا) في الدنيا (إلا ساعة من نهار) أي إذا عاينوا العذاب، صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ، كأنه ساعة من نهار، لأن ما مضى كأن لم يكن، وإن كان طويلا، وتم الكلام. ثم قال: (بلاغ) أي هذا القرآن وما فيه من البيان، بلاغ من الله إليكم. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل: معناه ذلك اللبث بلاغ (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) أي لا يقع العذاب إلا بالعاصين الخارجين من أمر الله تعالى. وقيل: معناه لا يهلك على الله تعالى إلا هالك مشرك، ولى ظهره الإسلام، أو منافق صدق بلسانه، وخالف بعمله، عن قتادة. وقيل: معناه لا يهلك مع رحمة الله وتفضله، إلا القوم الفاسقون، عن الزجاج، قال: وما جاء في الرجاء لرحمة الله، شئ أقوى من هذه الآية.
[ 159 ]
47 - سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون وهي مدنية وقال ابن عباس، وقتادة: غير آية منها نزلت على النبي (ص)، وهو يريد التوجه إلى المدينة من مكة، وجعل ينظر إلى البيت، وهو يبكي حزنا عليه، فنزلت: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) الآية. عدد آياتها: أربعون آية بصري ثمان وثلاثون كوفي، تسع في الباقين. اختلافها: آيتان: أوزارها غير الكوفي، للشاربين بصري. فضلها: أبي بن كعب قال: قال النبي (ص): (من قرأ سورة محمد، كان حقا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة). وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأها لم يدخله شك في دينه أبدا، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت، فإذا مات وكل الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره، ويكون ثواب صلواتهم له، ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند الله، ويكون في أمان الله، وأمان محمد (ص). وقال (ع): من أراد أن يعرف حالنا، وحال أعدائنا، فليقرأ سورة محمد (ص) فإنه يراها آية فينا، وآية فيهم. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بوعيد الكفار، وافتتح هذه السورة بمثلها، فقال جل ثناؤه: (بسم الله الرحمن الرحيم) (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك
[ 160 ]
يضرب الله للناس أمثالهم (3) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6). القراءة: قرأ أهل البصرة وحفص: (والذين قتلوا) على ما لم يسم فاعله. والباقون: (قاتلوا) بالألف. الحجة: قال أبو علي: قاتلوا أعم من قتلوا. ألا ترى أن من قاتل ولم يقتل، لن يضل عمله، كما أن الذي قتل كذلك، فهو لعمومه أولى. اللغة: البال: الحال والشأن. والبال: القلب أيضا. يقال: خطر ببالي كذا. والبال: لا يجمع لأنه أبهم أخواته من الحال والشأن. والإثخان: إكثار القتل، وغلبة العدو وقهرهم، ومنه أثخنه المرض: اشتد عليه، وأثخنه الجراح. والوثاق: اسم من الإيثاق، ويقال: أوثقه إيثاقا ووثاقا: إذا اشتد أسره كيلا يفك. والأوزار: السلاح، وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان، فسقي السلاح أوزارا، لأنه يحمل. قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها، * رماحا طوالا، وخيلا ذكورا ومن نسج داود يحدو بها * على أثر الحي، عيرا فعيرا (1) الاعراب: (ذلك): خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: ذلك كائن (فضرب الرقاب): مصدر فعل محذوف تقديره: فاضربوا الرقاب ضربا. فحذف الفعل، وأضيف المصدر إلى المفعول، وهذه الإضافة في تقدير الإنفصال، لأن تقديره فضربا الرقاب. قال الشاعر: " فندلا زريق المال ندل الثعالب ". وكذلك قوله (منا وفداء): تقديره فإما تمنون منا، وإما تفدون فداء. (1) حدا الإبل وبها: ساقها وغنى لها. حدا الليل النهار: اتبعه. *
[ 161 ]
المعنى: (الذين كفروا) بتوحيد الله، وعبدوا معه غيره (وصدوا) الناس (عن سبيل الله) أي عن سبيل الإيمان والإسلام باستدعائهم إلى تكذيب النبي (ص) يعني مشركي العرب (أضل أعمالهم) أي أحبط الله أعمالهم التي كان في زعمهم أنها قربة، وأنها تنفعهم كالعتق، والصدقة، وقرى الضيف. والمعنى: أذهبها وأبطلها حتى كأنها لم تكن، إذ لم يروا لها في الآخرة ثوابا. وقيل: نزلت في المطعمين ببدر، وكانوا عشرة أنفس، أطعم كل واحد منهم الجند يوما. (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي صدقوا بتوحيد الله، وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة (وآمنوا بما نزل على محمد) من القرآن والعبادات. خص الإيمان بمحمد (ص) بالذكر مع دخوله في الأول، تشريفا له وتعظيما، ولئلا يقول أهل الكتاب: نحن آمنا بالله، وبأنبيائنا، وكتبنا. (وهو الحق من ربهم) أي وما نزل على محمد (ص) هو الحق من ربهم، لأنه ناسخ للشرائع، والناسخ هو الحق. وقيل: معناه ومحمد الحق من ربهم، دون ما يزعمون من أنه سيخرج في آخر الزمان نبي من العرب، فليس هذا هو، فرد الله ذلك عليهم. (كفر عنهم سيئاتهم) أي سترها عنهم، بأن غفرها لهم، يعني: غفر سيئاتهم المتقدمة بإيمانهم، وحكم بإسقاط المستحق عليها من العقاب (وأصلح بالهم) أي أصلح حالهم في معاشهم، وأمر دنياهم، عن قتادة. وقيل: أصلح أمر دينهم ودنياهم، بأن نصرهم على أعدائهم في الدنيا، ويدخلهم الجنة في العقبى. ثم بين سبحانه لم فعل ذلك، ولم قسمهم هذين القسمين فقال: (ذلك بان الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم) أي ذلك الإضلال والإصلاح باتباع الكافرين الشرك، وعبادة الشيطان، واتباع المؤمنين التوحيد والقرآن، وما أمر الله سبحانه باتباعه. (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) أي كالبيان الذي ذكرنا، يبين الله سبحانه للناس أمثال حسنات المؤمنين، وسيئات الكافرين. فإن معنى قول القائل: ضربت لك مثلا: بينت لك ضربا من الأمثال، عن الزجاج. وقيل: أراد به المثل المقرون به، فجعل الكافر في اتباعه الباطل، كمن دعاه الباطل إلى نفسه، فأجابه، والمؤمن كمن دعاه الحق إلى نفسه، فأجابه. وقيل: معناه كما بينت عاقبة الكافر والمؤمن، وجزاء كل واحد منهما، أضرب للناس أمثالا يستدلون بها، فيزيدهم علما ووعظا. وأضاف المثل إليهم، لأنه مجعول لهم.
[ 162 ]
ثم أمر سبحانه بقتال الكفار فقال: (فإذا لقيتم) معاشر المؤمنين. (الذين كفروا) يعني أهل دار الحرب (فضرب الرقاب) أي فاضربوا رقابهم والمعنى: اقتلوهم، لأن أكثر مواضع القتل ضرب العنق، وإن كان يجوز الضرب في سائر المواضع، فإن الغرض قتلهم. (حتى إذا أثخنتموهم) أي أثقلتموهم بالجراح، وظفرتم بهم. وقيل: حتى إذا بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل حتى ضعفوا (فشدوا الوثاق) أي أحكموا وثاقهم في الأسر. أمر سبحانه بقتلهم، والإثخان فيهم، ليذلوا. فإذا ذلوا بالقتل أسروا، فالأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال سبحانه. (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). (فإما منا بعد وإما فداء) أي فإما أن تمنوا عليهم منا بعد أن تأسروهم فتطلقوهم بغير عوض، وإما أن تفدوهم فداء. واختلف في ذلك فقيل: كان الأسر محرما بآية الأنفال، ثم أبيح بهذه الآية، لأن هذه السورة نزلت بعدها. فإذا أسروا فالإمام مخير بين المن والفداء بأسارى المسلمين، وبالمال، وبين القتل والاستعباد، وهو قول الشافعي، وأبي يوسف، ومحمد بن إسحاق. وقيل: إن الإمام مخير بين المن، والفداء، والاستعباد، وليس له القتل بعد الأسر، عن الحسن. وكأنه جعل في الاية تقديما وتأخيرا تقديره: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد، وإما فداء. وقيل: إن حكم الآية منسوخ بقوله: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، وبقوله (فإما تثقفنهم في الحرب)، عن قتادة والسدي وابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك: الفداء منسوخ. وقيل: إن حكم الآية ثابت غير منسوخ، عن ابن عمر والحسن وعطاء قالوا: لأن النبي (ص) من على أبي غرة، وقتل عقبة بن أبي معيط، وفادى أسارى بدر. والمروي عن أئمة الهدى، صلوات الرحمن عليهم: أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة، فهؤلاء يكون الإمام مخيرا بين أن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويتركهم حتى ينزفوا، ولا يجوز المن ولا الفداء. والضرب والاخر: الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وانقضى القتال، فالإمام مخير فيهم بين المن والفداء: إما بالمال، أو بالنفس، وبين الاسترقاق وضرب الرقاب. فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك، وكان حكمهم حكم المسلمين.
[ 163 ]
(حتى تضع الحرب أوزارها) أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم، فلا يقاتلون. وقيل: حتى لا يبقى أحد من المشركين، عن ابن عباس. وقيل: حتى لا يبقى دين غير دين الإسلام، عن مجاهد، والمعنى: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين، وقبائح أعمالهم، بأن يسلموا فلا يبقى إلا الإسلام خير الأديان، ولا تعبد الأوثان. وهذا كما جاء في الحديث: " والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ". وقال الفراء: المعنى حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم. وقال الزجاج: أي اقتلوهم وائسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر فالحرب قائمة أبدا. (ذلك) أي الأمر الذي ذكرنا (ولو يشاء الله لانتصر منهم) أي من الكفار بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء (ولكن) يأمركم بالحرب، وبذل الأرواح في إحياء الدين (ليبلو بعضكم ببعض) أي ليمتحن بعضكم ببعض، فيظهر المطيع من العاصي، والمعنى: إنه لو كان الغرض زوال الكفر فقط، لأهلك الله سبحانه الكفار بما يشاء من أنواع الهلاك، ولكن أراد مع ذلك أن يستحقوا الثواب، وذلك لا يحصل إلا بالتعبد، وتحمل المشاق. (والذين قتلوا في سبيل الله) أي في الجهاد في دين الله يوم أحد، عن قتادة. ومن قرأ (قاتلوا) فالمعنى: جاهدوا سواء قتلوا، أو لم يقتلوا. (فلن يضل أعمالهم) أي لن يضيع الله أعمالهم، ولن يهلكها، بل يقبلها، ويجازيهم عليها ثوابا دائما. (سيهديهم) إلى طريق الجنة والثواب. (ويصلح بالهم) أي شأنهم وحالهم. والوجه في تكرير قوله (بالهم) أن المراد بالأول أنه أصلح بالهم في الدين والدنيا، وبالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى. فالأول سبب النعيم، والثاني نفس النعيم (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) أي بينها لهم حتى عرفوها إذا دخلوها وتفرقوا إلى منازلهم، فكانوا أعرف بها من أهل الجنة إذا انصرفوا إلى منازلهم، عن سعيد بن جبير، وأبي سعيد الخدري، وقتادة ومجاهد وابن زيد. وقيل: معناه بينها لهم وأعلمهم بوصفها على ما يشوق إليها، فيرغبون فيها، ويسعون لها، عن الجبائي. وقيل: معناه طيبها لهم، عن ابن عباس في رواية عطاء من العرف وهو الرائحة الطيبة. يقال: طعم معرف أي: مطيب. (يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)
[ 164 ]
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10). اللغة: التعس: الانحطاط والعثار والإتعاس والإزلال والإدحاض بمعنى، وهو العثار الذي لا يستقل صاحبه، فإذا سقط الساقط فأريد به الانتعاش والاستقامة. قيل: لعا له، وإذا لم يرد ذلك قيل: تعسا. قال الأعشى. " فالتعس أولى لها من أن أقول لعا " (1). المعنى: ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (يا أيها الذين أمنوا إن تنصروا الله) أي إن تنصروا دين الله، ونبي الله بالقتال والجهاد (ينصركم) على عدوكم (ويثبت أقدامكم) أي يشجعكم، ويقو قلوبكم لتثبتوا. وقيل: ينصركم في الآخرة، ويثبت أقدامكم عند الحساب، وعلى الصراط. وقيل: ينصركم في الدنيا والآخرة، ويثبت أقدامكم في الدارين، وهو الوجه. قال قتادة: حق على الله أن ينصر من نصره لقوله. (إن تنصروا الله ينصركم) وأن يزيد من شكره لقوله (لئن شكرتم لأزيدنكم) وأن يذكر من ذكره لقوله: (فاذكروني أذكركم) وأن يوفي بعهد من أقام على عهده لقوله: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم). (والذين كفروا فتعسا لهم) أي مكروها لهم وسوءا، عن المبرد أي أتعسهم الله فتعسوا تعسا. قال ابن عباس: يريد في الدنيا العسرة، وفي الآخرة التردي في النار. (وأضل أعمالهم) مر معناه (ذلك) التعس والإضلال (بأنهم كرهوا ما أنزل الله) على نبيه (ص) من القرآن والأحكام، وأمرهم بالإنقياد فخالفوا ذلك. وقال أبو جعفر (ع): كرهوا ما أنزل الله في حق علي (ع). (فاحبط أعمالهم) لأنها لم تقع على الوجه المأمور به. ثم نبههم سبحانه على الاستدلال على صحة ما دعاهم إليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله فقال: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) حين أرسل الله إليهم الرسل، فدعوهم إلى توحيده، وإخلاص العبادة له، فلم يقبلوا منهم، وعصوهم أي: فهلا ساروا ورأوا عواقب أولئك. (دمر الله (1) مر البيت في ج 3. (*)
[ 165 ]
عليهم) أي أهلكهم. ثم قال: (وللكافرين) بك يا محمد (أمثالها) من العذاب، إن لم يؤمنوا ويقبلوا ما تدعوهم إليه، والمعنى: إنهم يستحقون أمثالها. وإنما يؤخر الله سبحانه عذابهم إلى الآخرة تفضلا منه. (ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11) إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12) وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15). القراءة: قرأ ابن كثير: (أسن) مقصورا. والباقون: (آسن) بالمد. وقرأ علي (ع) وابن عباس: (أمثال الجنة) على الجمع. الحجة: قال أبو زيد: يقال أسن الماء يأسن أسونا إذا تغير. وأسن الرجل يأسن أسنا إذا غشي عليه من ريح خبيثة، وربما مات منها. قال: التارك القرن مصفرا أنامله، * تميل في الرمح ميل المائح الأسن (1) قال أبو عبيدة: الأسن المتغير (2). فحجة ابن كثير أن اسم الفاعل من فعل (1) القرن: كفؤك، ومن يقاومك، ونظيرك في الشجاعة. واصفرار الأنامل: كناية عن الموت. ماح الرجل: دخل البئر فملأ الدلو لقلة مائها، ولا يمكن أن يستقي منها إلا بالإغتراف باليد. ومقابله الماتح أي: من يستقي وهو على رأس البئر. سئل الأصمعي عن المتح والميح، فقال: (الفوق للفوق، والتحت للتحت) أي: المتح أن يستقي وهو على رأس البئر. والميح: أن يملأ الدلو وهو في قعرها. والآسن: من دخل البئر فأصابته ريح منتنة، فغشي عليه، أو دار رأسه. (2) [ الريح ]. (*)
[ 166 ]
يفعل على فعل وقال أبو الحسن: أسن إنما هو للحال التي تكون عليها. ومن قرأ (آسن) على فاعل، فإنما يريد أن ذلك لا يصير إليه فيما يستقبل. وقوله (أمثال الجنة). فيه دليل على أن القراءة العامة التي هي مثل في معنى الكثرة، لما فيه من معنى المصدرية. اللغة: المثوى: المنزل من قولهم. ثوى بالمكان ثواء إذا أقام به. ويقال للمرأة أم المثوى أي ربة المنزل. والمثل والمثل بمعنى مثل الشبه والشبه، والبدل والبدل (1). والأمعاء: جمع معى. وفي الحديث. (المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). وفيه وجوه من التأويل أحدها: إنه قال علي (ع) في رجل معين والثاني: إن المعنى يأكل المؤمن فيسمي الله تعالى، فيبارك في أكله والثالث: إن المؤمن يضيق عليه في الدنيا، والكافر يصيب منها. والرابع: إنه مثل لزهد المؤمن في الدنيا، وحرص الكافر عليها، وهذا أحسن الوجوه. الاعراب: قال الزجاج: مثل الجنة مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: مثل الجنة التي وعد المتقون مما قد عرفتموه من الدنيا، جنة فيها أنهار إلى آخره. وقوله (كمن هو خالد في النار) تقديره أفمن كان على بينة من ربه، وأعطي هذه الأشياء، كمن زين له سوء عمله، وهو خالد في النار. المعنى: ثم قال سبحانه (ذلك) أي الذي فعلناه في الفريقين (بأن الله مولى الذين آمنوا) يتولى نصرهم وحفظهم، ويدفع عنهم (وأن الكافرين لا مولى لهم) ينصرهم، ولا أحد يدفع عنهم، لا عاجلا ولا آجلا. ثم ذكر سبحانه حال الفريقين فقال: (إن الله يدخل الذين أمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت أشجارها وأبنيتها (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام) أي سيرتهم سيرة الأنعام. آثروا لذات الدنيا وشهواتها، وأعرضوا عن العبر، يأكلون للشبع، ويتمتعون لقضاء الوطر. (والنار مثوى لهم) أي موضع مقامهم، يقيمون فيها. ثم خوفهم وهددهم سبحانه فقال: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) (1) كلاهما بمعنى الشريف الكريم، ومنهما الأبدال. (*)
[ 167 ]
يا محمد يعني مكة (التي أخرجتك) أي أخرجك أهلها. والمعنى: كم من رجال هم أشد من أهل مكة، ولهذا قال: (أهلكناهم) فكنى عن الرجال، عن ابن عباس. (فلا ناصر لهم) يدفع عنهم إهلاكنا إياهم. والمعنى: فمن الذي يؤمن هؤلاء أن أفعل بهم مثل ذلك. ثم قال سبحانه على وجه التهجين والتوبيخ للكفار والمنافقين (أفمن كان على بينة من ربه) أي على يقين من دينه، وعلى حجة واضحة من اعتقاده في التوحيد والشرائع (كمن زين له سوء عمله) زين له الشيطان المعاصي وأغواه (واتبعوا أهواءهم) أي شهواتهم وما تدعوهم إليه طباعهم، وهو وصف لمن زين له سوء عمله، وهم المشركون. وقيل: هم المنافقون، عن ابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر (ع). ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله. (مثل الجنة التي وعد المتقون) تقدم تفسيره في سورة الرعد. (فيها أنهار من ماء غير آسن) أي غير متغير لطول المقام، كما تتغير مياه الدنيا (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) فهو غير حامض، ولا قارص، ولا يعتريه شئ من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي لذيذة يلتذون بشربها، ولا يتأذون بها، ولا بعاقبتها، بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المزازة (1) والسكر والصداع. (وأنهار من عسل مصفى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى، ومن جميع الأذى والعيوب التي تكون لعسل الدنيا (ولهم فيها من كل الثمرات) أي مما يعرفون اسمها، ومما لا يعرفون اسمها، مبرأة من كل مكروه يكون لثمرات الدنيا (ومغفرة من ربهم) أي ولهم مع هذا مغفرة من ربهم، وهو أنه يستر ذنوبهم، وينسيهم سيئاتهم، حتى لا يتنغص عليهم نعيم الجنة (كمن هو خالد في النار) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار (وسقوا ماء حميما) شديد الحر (فقطع أمعاءهم) إذا دخل أجوافهم. وقيل: إن قوله (كمن هو خالد في النار) معطوف على قوله. (كمن زين له سوء عمله) أي كمن زين له سوء عمله، ومن هو خالد في النار، فحذف الواو كما يقال: قصدني فلان شتمني ظلمني. (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا (1) وفي نسختين (المرارة، بدل " المزازة ". والمزازة: طعم بين الحموضة والحلاوة. (*)
[ 168 ]
قال ءانفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم (17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18) فاعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19) ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت من الموت فأوى لهم (20). القراءة: روي في بعض الروايات، عن ابن كثير: (أنفا) بالقصر. والقراءة المشهورة: (آنفا) بالمد. الحجة: قال أبو علي: أنشد أبو زيد: وجدنا آل مرة حين خفنا * جريرتنا، هم الأنف الكراما ويسرح جارهم من حيث يمسي، * كأن عليه مؤتنفا حراما (1) أي: كان عليه حرمة شهر مؤتنف حرام، فحذف. والأنف: الذين يأنفون من احتمال الضيم. قال أبو علي: فإذا كان كذلك، فقد جمع فعل على فعل، لأن واحد أنف أنف بدلالة قول الشاعر. وحمال المئين إذا ألمت * بنا الحدثان، والأنف النصور (2) وليس الأنف والأنف في البيتين مما في الآية في شئ، لأن ما في الشعر من الأنفة، وما في الاية من الإبتداء، ولم يسمع أنف في معنى ابتداء. ويجوز أن يكون توهمه ابن كثير مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه، والوجه المد. والآنف: الجائي من (1) مرة: بطن من قريش. والجريرة: الذنب، وهي مفعول خفنا. والأنف الكراما مفعول ثان لوجدنا. والأنف: صفة من أنف من الشئ أي: استنكف وتنزه عنه. وفي المخطوطة (يمسي) بدل (يمشي) وهو الأنسب للمقام. والمؤتنف: المستأنف والمبتدأ. (2) ألمت أي: نزلت. وحدثان الدهر وحدثانه: نوائبه. والنصور: مبالغة من الناصر. (*)
[ 169 ]
الإئتناف: وهو الإبتداء. فقوله آنفا أي: في أول وقت يقرب منا. اللغة: الأهواء: جمع الهوى، وهو شهوة النفس يقال: هوى يهوى هوى فهو هو، واستهواه هذا الأمر أي: دعاه إلى الهوى. والأشراط: العلامات. وأشرط فلان نفسه للأمر إذا أعلمها بعلامة. قال أوس بن حجر: فأشرط فيها نفسه، وهو معصم، * وألقى بأسباب له، وتوكلا (1) وواحد الأشراط شرط. والشرط بالتحريك: العلامة. وأشراط الساعة: علاماتها. والشرط أيضا: رذال المال. قال جرير: ترى شرط المعزى مهور نسائهم، * وفي شرط المعزى لهن مهور (2) وأصحاب الشرط: سموا بذلك للبسهم لباسا يكون علامة لهم. والشرط في البيع: علامة بين المتبايعين. المعنى: ثم بين سبحانه حال المنافقين فقال. (ومنهم من يستمع إليك) أي ومن الكافرين الذين تقدم ذكرهم، من يستمع إلى قراءتك ودعوتك وكلامك، لأن المنافق كافر (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) يعني الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين. قال ابن عباس: أنا ممن أوتوا العلم بالقرآن. وعن الأصبغ بن نباته، عن علي (ع) قال: إنا كنا عند رسول الله (ص) فيخبرنا بالوحي، فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا: (ماذا قال آنفا) وقولهم: (ماذا قال آنفا) أي: أي شئ قال الساعة ؟ وإنما قالوه استهزاء، أو إظهار أنا لم نشتغل أيضا بوعيه وفهمه. وقيل: إنما قالوا ذلك لأنهم لم يفهموا معناه، ولم يعلموا ما سمعوه. وقيل: بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله أي: لم يقل شيئا فيه فائدة. ويحتمل أيضا أن يكونوا سألوا رياء ونفاقا أي: لم يذهب عني من قوله إلا هذا. فماذا قال ؟ أعده علي لأحفظه ؟ وإنما قال: (يستمع إليك)، ثم قال: (خرجوا من عندك)، لأن في (1) الضمير في " فيها " راجع إلى الجبال. وأعصم: يجوز أن يكون من قولهم: أعصم الراكب إذا لم يثبت على الفرس. وأن يكون من أعصم به إذا تمسك به. والأسباب: الأحبال. وتوكل عليه أي وثق. بصف رجلا تدلى من رأس الجبل ليقطع النبعة، لاتخاذ القوس منه. (2) يذمهم بأنهم صعاليك مهور نسائهم من رذال المعزى، ومعروف أن المعزى من أموال الصعاليك، فيذم على مالكيتها. وأشد الذم إذا كان مهر نساء قوم من رذال المعزى. (*)
[ 170 ]
الأول رد الضمير إلى لفظة من، وفي الثاني إلى معناه، فإنه موحد اللفظ، مجموع المعنى. ثم قال: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) أي وسم قلوبهم بسمة الكفار، أو خلى بينهم وبين اختيارهم (واتبعوا أهواءهم) أي شهوات نفوسهم، وما مالت إليه طباعهم، دون ما قامت عليه الحجة. ثم وصف سبحانه المؤمنين فقال: (والذين اهتدوا) بما سمعوا من النبي (ص) (زادهم) الله، أو قراءة القرآن، أو النبي (ص) (هدى) وقيل: زأدهم استهزاء المنافقين إيمانا وعلما وبصيرة، وتصديقا لنبيهم (ص) (وآتاهم تقواهم) أي وفقهم للتقوى. وقيل: معناه وآتاهم ثواب تقواهم، عن سعيد بن جبير، وأبي علي الجبائي. وقيل: بين لهم ما يتقون، وهو ترك الرخص والأخذ بالعزائم (فهل ينظرون إلا الساعة) أي فليس ينتظرون إلا القيامة. (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة. فقوله (أن تأتيهم) بدل من (الساعة) وتقديره: إلا الساعة إتيانها بغتة. والمعنى: إلا إتيان الساعة إياهم بغتة. (فقد جاء أشراطها) أي علاماتها. قال ابن عباس: معالمها، والنبي من أشراطها. ولقد قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". وقيل: هي أعلامها من انشقاق القمر والدخان وخروج النبي (ص)، ونزول آخر الكتب، عن مقاتل. (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) أي فمن أين لهم الذكر والإتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة. وموضع (ذكراهم) رفع مثله في قوله: (يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى) أي ليس تنفعه الذكرى. والذكرى: ما أمر الله سبحانه أن يتذكروا به، ومعناه: وكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الساعة، فإنه لا ينفعهم في ذلك الوقت الإيمان والطاعات، لزوال التكليف عنهم. ثم قال لنبيه (ص) والمراد به جميع المكلفين: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: أقم على هذا العلم، واثبت عليه، واعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الان، ويدل عليه ما روي عن النبي (ص) أنه قال: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ". أورده مسلم في الصحيح. وقيل: إنه يتعلق بما قبله على معنى: إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا إله إلا الله أي يبطل الملك عند ذلك، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا الله. وقيل. إن هذا إخبار بموته (ص) والمراد: فاعلم أن الحي الذي لا يموت هو الله وحده. وقيل: إنه كان
[ 171 ]
ضيق الصدر من أذى قومه، فقيل له: فاعلم أنه لا كاشف لذلك إلا الله. (واستغفر لذنبك) الخطاب له، والمراد به الأمة، وإنما خوطب بذلك لتستن أمته بسنته. وقيل: إن المراد بذلك الإنقطاع إلى الله تعالى، فإن الإستغفار عبادة يستحق به الثواب. وقد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي، فقلت: يا رسول الله ! إني لأخشى أن يدخلني لساني في النار ؟ فقال رسول الله (ص): " فأين أنت من الإستغفار ؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ". (وللمؤمنين والمؤمنات) أكرمهم الله سبحانه بهذا، إذ أمر نبيهم أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم. ثم أخبر سبحانه عن علمه، وأحوال الخلق ومآلهم فقال: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) أي متصرفكم في أعمالكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة إلى الجنة، أو إلى النار، عن ابن عباس. وقيل: يعلم متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ومثواكم أي مقامكم في الأرض، عن عكرمة. وقيل: متقلبكم من ظهر إلى بطن، ومثواكم في القبور، عن ابن كيسان. وقيل: يعلم متقلبكم متصرفكم في النهار، ومثواكم مضجعكم بالليل. والمعنى: إنه عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شئ منها. ثم قال سبحانه حكاية عن المؤمنين: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) أي هلا نزلت، لأنهم كانوا يأنسون بنزول القران، ويستوحشون لإبطائه، ليعلموا أوامر الله تعالى فيهم، وتعبده لهم. (فإذا أنزلت سورة محكمة) ليس فيها متشابه، ولا تأويل. وقيل: سورة ناسخة لما قبلها من إباحة التخفيف في الجهاد. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. قيل: محكمة أي مقرونة بوعيد يؤكد الأمر كقوله: (ألا تنفروا يعذبكم عذابا أليما). وقيل: محكمة بوضوح ألفاظها. وعلى هذا القرآن كله محكم. وقيل: هي التي تتضمن نصا لم يختلف تأويله، ولم يتعقبه نص. وفي قراءة ابن مسعود: " سورة محدثة " أي مجددة. (وذكر فيها القتال) أي وأوجب عليهم فيها القتال، وأمروا به (رأيت) يا محمد (الذين في قلوبهم مرض) أي شك ونفاق (ينظرون إليك نظر المغشي عليه
[ 172 ]
من الموت) قال الزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بابصارهم، وينظرون إليك نظرا شديدا، كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت، لثقل ذلك عليهم، وعظمه في نفوسهم. (فاولى لهم) هذا تهديد ووعيد. قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد أولى لك وليك وقارنك ما تكره. وقال قتادة: معناه العقاب لهم، والوعيد لهم. وعلى هذا يكون أولى إسما للتهديد والوعيد، ويكون (أولى لهم) مبتدأ وخبرا، ولا ينصرف (أولى) لأنه على وزن الفعل، وصار إسما للوعيد. وقول الأصمعي: إن معناه (وليك ما تكره) لا يريد به أن (أولى) فعل وإنما فسره على المعنى. وقيل: معناه أولى لهم طاعة الله ورسوله، وقول معروف بالإجابة أي: لو أطاعوا فأجابوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، واختيار الكسائي. فيكون على هذا طاعة، وقول معروف، متصلا بما قبله. وكذلك لو كانت صفة لسورة، وتقديره: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، وقول معروف على ما قاله الزجاج، وعلى القول الأول يكون (طاعة) مبتدأ محذوف الخبر، تقديره طاعة وقول معروف، أمثل أو أحسن، أو يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة، ويكون الوقف حسنا عند قوله: (فأولى لهم). (طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25). القراءة: قرأ يعقوب وسهل: (وتقطعوا) بفتح التاء والطاء وسكون القاف. والباقون: (وتقطعوا) بالتشديد وضم التاء وكسر الطاء. وقرأ أهل البصرة: (وأملي لهم) بضم الهمزة وفتح الياء. وفي رواية رويس عن يعقوب بسكون الياء. وقرأ الباقون: (وأملى لهم) بفتح الهمزة واللام. وروي عن النبي (ص): (فهل عسيتم إن وليتم)، وعن علي (ع): (إن توليتم). قال أبو حاتم معناه: إن تولاكم الناس.
[ 173 ]
الحجة: حجة من قرأ (وتقطعوا) بالتخفيف قوله تعالى: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) والتشديد للمبالغة. وقوله: (وليتم من الولاية) وفيه دلالة على أن القراءة المشهورة (توليتم) معناه توليتم الأمر. قال أبو علي: قالوا انتظرته مليا من الدهر أي متسعا منه، صفة استعمل استعمال الأسماء. وقالوا: تمليت حبيبا أي: عشت معه ملاوة من الدهر. وقالوا: الملوان يريدون بهما تكرر الليل والنهار، وطول مدتهما، قال: نهار وليل دائم ملواهما، * على كل حال المرء يختلفان فلو كان الليل والنهار لم يضافا إلى ضميرهما من حيث لا يضاف الشئ إلى نفسه، ولكن كأنه يراد تكرار الدهر، واتساعه بهما. والضمير في (أملي لهم) لاسم الله، كما قال: (وأملي لهم إن كيدي متين). فمن قرأ (وأملي لهم): فبنى الفعل للمفعول به، فإنه يحسن في هذا الموضع للعلم بانه لا يؤخر أحد مدة أحد، ولا يوسع له فيها إلا الله سبحانه. المعنى: (طاعة وقول معروف) قد ذكرنا أن فيه مذهبين أحدهما: أن يكون كلاما متصلا بما قبله، وقد مر ذكره والآخر: أن يكون كلاما مبتدأ. ثم اختلف في تقديره على وجهين أحدهما: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر. ثم قيل: إن معناه طاعة وقول معروف أمثل وأليق من أحوال هؤلاء المنافقين. وقيل: معناه طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض الجهاد، عن الحسن. والوجه الآخر. إنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: قولوا أمرنا طاعة وقول معروف أي حسن لا ينكره السامع. وهذا أمر أمر الله به المنافقين، عن مجاهد. وقيل: هو حكاية عنهم أنهم كانوا يقولون ذلك، ويقتضيه قوله: (فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم). (فإذا عزم الأمر) معناه: فإذا جد الأمر، ولزم فرض القتال، وصار الأمر معزوما عليه. والعزم: العقد على الأمر بالإرادة لأن يفعله، فإذا عقد العازم العزم على أن يفعله قيل: عزم الأمر على طريق البلاغة. وجواب إذا محذوف، ويدل عليه قوله (فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) وتقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا من أنفسهم، فلو صدقوا الله فيما أمرهم به من الجهاد، وامثتلوا أمره، لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم من نفاقهم (فهل عسيتم) يا معشر المنافقين (إن توليتم
[ 174 ]
أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) معناه: إن توليتم الأحكام ووليتم أي: جعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشاء، وسفك الدم الحرام، فيقتل بعضكم بعضا، ويقطع بعضكم رحم بعض، كما قتلت قريش بني هاشم، وقتل بعضهم بعضا. وقيل: (إن توليتم) معناه. إن أعرضتم عن كتاب الله، والعمل بما فيه، أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتفسدوا بقتل بعضكم بعضا. قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن القرآن ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن ؟ ثم ذم الله سبحانه من يريد ذلك فقال: (أولئك الذين لعنهم الله) أي أبعدهم من رحمته (فأصمهم وأعمى أبصارهم) ومعناه: إنهم لا يعون الخبر، ولا يبصرون ما به يعتبرون، فكأنهم صم عمي، عن أبي مسلم. وقيل: إنهم في الآخرة لا يهتدون إلى الجنة بمنزلة الأصم الأعمى في الدنيا، عن أبي علي الجبائي. ولا يجوز حمله على الصمم والعمى في الجارحة، بلا خلاف، لأنهم لو كانوا كذلك، لما ذموا على أنهم لا يسمعون ولا يبصرون، وإنما أطلق الصمم، لأنه لا يكون إلا في الأذن، وقرن العمى بالأبصار، لأنه قد يكون بالبصر وبالقلب. (أفلا يتدبرون القرآن) بأن يتفكروا فيه، ويعتبروا به. وقيل: أفلا يتدبرون القرآن، فيقضوا ما عليهم من الحق، عن أبي عبد الله (ع) وأبي الحسن موسى (ع). (أم على قلوب أقفالها) معنى تنكير القلوب إرادة قلوب هؤلاء، ومن كان مثلهم من غيرهم. وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شئ من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. وفيه تنبيه أيضا على فساد قول من يقول: إن الحديث ينبغي أن يروى على ما جاء، وإن كان مخالفا لأصول الديانات في المعنى، لأنه سبحانه دعا إلى التدبر والتفكر، وذلك مناف للتعامي والتجاهل. ثم قال سبحانه: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) أي رجعوا عن الحق والإيمان (من بعد ما تبين لهم الهدى) أي من بعد ما بان لهم طريق الحق، وهم المنافقون، عن ابن عباس والضحاك والسدي، كانوا يؤمنون عند النبي (ص)، ثم يظهرون الكفر فيما بينهم، فتلك ردة منهم. وقيل: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بمحمد (ص) وقد عرفوه، ووجدوا نعته مكتوبا عندهم، عن قتادة. وليس في هذا دلالة على أن المؤمن قد يكفر، لأنه لا يمتنع أن يكون المراد من رجع في باطنه عن
[ 175 ]
الإيمان، بعد أن أظهره، وقامت الحجة عنده بصحته. (الشيطان سول لهم) أي زين لهم خطاياهم، عن الحسن. وقيل: أعطاهم سؤلهم وأمنيتهم، إذ دعاهم إلى ما يوافق مرادهم وهواهم، عن أبي مسلم. (وأملى لهم) أي طول لهم أملهم، فاغتروا به. وقيل: أوهمهم طول العمر مع الأمن من المكاره، وأبعد لهم في الأمل والأمنية. (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر: (إسرارهم) بالكسر والباقون: (أسرارهم) بالفتح. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (إسرارهم) أنه لما كان مصدرا أفرد ولم يجمع، ويقوي الإفراد قوله: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) فكما أفرد السر ولم يجمع،، كذلك قال (إسرارهم). ومن فتح الهمزة جعله جمع سر، فكأنه جمع لاختلاف ضروب السر. وجميع الأجناس يحسن جمعها مع الإختلاف. وقد جاء سرهم في قوله (يعلم سرهم) على ما عليه معظم المصادر، لأنه يتناول جميع ضروبه، فأفرد مرة، وجمع أخرى. اللغة: الأضغان: جمع الضغن، وهو الحقد. واللحن: أصله إزالة الكلام عن جهته، ثم إنه يستعمل على وجهين في الصواب والخطأ. أما في الصواب فمعناه: الكناية عن الشئ، والعدول عن الإفصاح عنه، قال الشاعر: ولقد وحيت لكم لكيلا تفطنوا، * ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
[ 176 ]
وقيل: اللحن هي الفطنة وسرعة الفهم. والفاعل منه لحن يلحن، فهو لحن إذا فطن. ومنه الحديث: (لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من بعض) أي أفطن لها، وأعرض بها. ومنه قول الشاعر: منطق صائب، وتلحن أحيانا، * وخير الحديث ما كان لحنا وإنما يسمى التعريض لحنا، لأنه ذهاب بالكلام إلى خلاف جهته، ومنه قول عمر: تعلموا اللحن كما تتعلمون القرآن. وأما في الخطأ فإن اللحن إزالة الإعراب عن جهته، والفعل منه لحن يلحن فهو لاحن. المعنى: ثم بين سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم، فقال: (ذلك) أي التسويل والإملاء (بانهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) من القرآن، وما فيه من الأمر والنهي والأحكام، والمروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع) أنهم بنو أمية، كرهوا ما نزل الله في ولاية علي بن أبي طالب (ع). (سنطيعكم في بعض الأمر) أي نفعل بعض ما تريدونه (والله يعلم إسرارهم) أي ما أسره بعضهم إلى بعض من القول، وما أسروه في أنفسهم من الإعتقاد (فكيف إذا توفتهم الملائكة) أي فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم. وإنما حذف تفخيما لشأن ما ينزل بهم في ذلك الوقت. (يضربون وجوههم وأدبارهم) على وجه العقوبة لهم. ثم ذكر الله سبحانه سبب نزول ذلك الضرب فقال: (ذلك بانهم اتبعوا ما أسخط الله) من المعاصي التي يكرهها الله، ويعاقب عليها (وكرهوا رضوانه) أي سبب رضوانه من الإيمان، وطاعة الرسول (فاحبط) الله (أعمالهم) التي كانوا يعملونها من صلاة وصدقة وغير ذلك، لأنها في غير إيمان. ثم قال سبحانه: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) أي أحقادهم على المؤمنين، ولا يبدي عوراتهم للنبي (ص). (ولو نشاء لأريناكهم) بأعيانهم يا محمد حتى تعرفهم، وهو قوله: (فلعرفتهم بسيماهم) أي بعلاماتهم التي ننصبها لك لكي تعرفهم بها. (ولتعرفنهم في لحن القول) أي وتعرفهم الآن في فحوى كلامهم، ومعناه ومقصده ومغزاه، لأن كلام الإنسان يدل على ما في ضميره. وعن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب (ع) قال: وكنا نعرف المنافقين على
[ 177 ]
عهد رسول الله (ص) ببغضهم علي بن أبي طالب (ع). وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور (1) أولادنا بحب علي (ع)، فإذا رأينا أحدهم لا يحبه، علمنا أنه لغير رشدة (2). وقال أنس: ما خفي منافق على عهد رسول الله بعد هذه الاية. (والله يعلم أعمالكم) ظاهرها وباطنها. (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32) يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35). القراءة: قرأ أبو بكر: (وليبلونكم) وما بعده بالياء، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (ع). والباقون بالنون. وقرأ يعقوب: (ونبلو) ساكنة الواو. الحجة: قال أبو علي: وجه الياء أن قبله (والله يعلم أعمالكم)، واسم الغيبة أقرب إليه من لفظ الجمع، فحمل على الأقرب. ووجه النون قوله: (ولو نشاء لأريناكهم). اللغة: يقال: وتره يتره وترا: إذا نقصه، ومنه الحديث: (فكأنه وتر أهله وماله)، وأصله القطع. ومنه الترة: القطع بالقتل، ومنه الوتر: المنقطع بانفراده عن غيره. المعنى: ثم أقسم سبحانه فقال: (ولنبلونكم) أي نعاملكم معاملة المختبر بما (1) باره: جربه واختبره. (2) الرشدة بالفتح وتكسر: ضد الزنية، يقال (ولد لرشدة). (*)
[ 178 ]
نكلفكم به من الأمور الشاقة (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) أي حتى يتميز المجاهدون في سبيل الله من جملتكم، والصابرون على الجهاد. وقيل: معناه حتى يعلم أولياؤنا المجاهدين منكم. وأضافه إلى نفسه تعظيما لهم وتشريفا كما قال: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) أي يؤذون أولياء الله. وقيل: معناه حتى نعلم جهادكم موجودا، لأن الغرض أن تفعلوا الجهاد، فيثيبكم على ذلك. (ونبلوا أخباركم) أي نختبر أسراركم بما تستقبلونه من أفعالكم. (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) أي امتنعوا عن اتباع دين الله، ومنعوا غيرهم من اتباعه (1) تارة، وبالإغواء أخرى. (وشاقوا الرسول) أي عاندوه وعادوه (من بعد ما تبين لهم الهدى) أي من بعد ما ظهر لهم أنه الحق، وعرفوا أنه رسول الله (ص). (لن يضروا الله) بذلك (شيئا) وإنما ضروا أنفسهم (وسيحبط) الله (أعمالهم) فلا يرون لها في الآخرة ثوابا. وفي هذه الاية دلالة على أن هؤلاء الكفار، كانوا قد تبين لهم الهدى، فارتدوا عنه، فلم يقبلوه عنادا، وهم المنافقون. وقيل: إنهم أهل الكتاب، ظهر لهم أمر النبي (ص) فلم يقبلوه. وقيل: هم رؤساء الضلالة، جحدوا الهدى طلبا للجاه والرياسة، لأن العناد يضاف إلى الخواص. (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) بتوحيده (وأطيعوا الرسول) بتصديقه. وقيل: أطيعوا الله في حرمة الرسول، وأطيعوا الرسول في تعظيم أمر الله. (ولا تبطلوا أعمالكم) بالشك والنفاق، عن عطاء. وقيل: بالرياء والسمعة، عن الكلبي. وقيل: بالمعاصي والكبائر، عن الحسن. (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) مضى معناه (ثم ماتوا وهم كفار) أي أصروا على الكفر حتى ماتوا على كفرهم (فلن يغفر الله لهم) أبدا، لأن لفظ (لن) للتأبيد (فلا تهنوا) أي فلا تتوانوا، ولا تضعفوا عن القتال (وتدعوا إلى السلم) أي ولا تدعوا الكفار إلى المسالمة والمصالحة. (وأنتم الأعلون) أي وأنتم القاهرون الغالبون، عن مجاهد. وقيل: إن الواو للحال أي لا تدعوهم إلى الصلح في الحال التي تكون الغلبة لكم فيها. وقيل: إنه ابتداء إخبار من الله عن حال المؤمنين أنهم الأعلون، يدا ومنزلة، آخر الأمر، وإن (1) (بالقهر). (*)
[ 179 ]
غلبوا في بعض الأحوال (والله معكم) أي بالنصرة على عدوكم (ولن يتركم أعمالكم) أي لن ينقصكم شيئا من ثوابها، بل يثيبكم عليها، ويزيدكم من فضله، عن مجاهد. وقيل: معناه لن يظلمكم، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. (إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36) إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38). القراءة: في بعض الروايات عن أبي عمرو: (ويخرج) بالرفع. والمشهور عنه وعن الجميع: (ويخرج) بالجزم. الحجة: وهذا يكون على استئناف الكلام أي: وهو يخرج أضغانكم على كل حال. اللغة: الإحفاء. الإلحاح في السؤال حتى ينتهي إلى مثل الحفاء والمشي بغير حذاء، يقال: أحفاه بالمسألة يحفيه إحفاء. وقيل: الإحفاء بالمسالة: الإلطاف فيها، عن أبي مسلم. والبخل هو منع الواجب. وقيل: هو منع النفع الذي هو أولى في العقل، عن علي بن عيسى. الاعراب: (إن يسألكموها فيحفكم): إنما قدم المخاطب على الغائب، لأن الإبتداء بالأقرب، مع أنه المفعول الأول، أولى. وتقول: إن يسالها جماعتكم، لأنه غائب مع غائب. فالمتصل أولى بأن يلي الفعل من المنفصل. وقال: (ها أنتم هؤلاء) كرر التنبيه في الموضعين للتأكيد. وأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: بدل منه. وتدعون: خبر المبتدأ. المعنى: ثم حض الله سبحانه على طلب الآخرة فقال: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) أي سريعة الفناء والإنقضاء. ومن اختار الفاني على الباقي كان جاهلا ومنقوصا. قال الحسن: الذي خلقها هو أعلم بها. (وإن تؤمنوا) بالله ورسوله (وتتقوا) معاصيه (يؤتكم أجوركم) أي جزاء أعمالكم في الآخرة (ولا يسألكم
[ 180 ]
أموالكم) كلها في الصدفة، وإن أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم، عن سفيان بن عيينة والجبائي. وقيل: لا يسألكم أموالكم، لأن الأموال كلها لله، فهو أملك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقيل: لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه. (إن يسئلكموها فيحفكم) أي يجهدكم بمسالة جميعها (تبخلوا) بها فلا تعطوها أي: إن يسئلكم جميع ما في أيديكم تبخلوا. وقيل: فيحفكم أي فيلطف في السؤال بأن يعد عليه الثواب الجزيل، عن أبي مسلم. (ويخرج أضغانكم) أي ويظهر بغضكم وعداوتكم لله ورسوله، ولكنه فرض عليكم ربع العشر. قالى قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان وهي الأحقاد التي في القلوب، والعداوات الباطنة (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله) يعني ما فرض عليهم في أموالهم أي: إنما تؤمرون بإخراج ذلك، وإنفاقه في طاعة الله. (فمنكم من يبخل) بما فرض عليه من الزكاة (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) لأنه يحرمها مثوبة جسيمة، ويلزمها عقوبة عظيمة. وهذه إشارة إلى أن معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ. فبخله بخل على نفسه، وذلك أشد البخل. قال مقاتل: إنما يبخل بالخير والفضل في الاخرة عن نفسه. وقيل: معناه فإنما يبخل بداع عن نفسه، يدعوه إلى البخل، فإن الله تعالى نهى عن البخل وذمه، فلا يكون البخل بداع من جهته (والله الغني) عما عندكم من الأموال (وأنتم الفقراء) إلى ما عند الله من الخير والرحمة أي: لا يأمركم بالإنفاق لحاجته، ولكن لتنتفعوا به في الآخرة. (وإن تتولوا) أي تعرضوا عن طاعته، وعن أمر رسوله. (يستبدل قوما غيركم) أمثل وأطوع لله منكم (ثم لا يكونوا أمثالكم) بل يكونوا خيرا منكم وأطوع لله. وروى أبو هريرة أن ناسا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا: يا رسول الله ! من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه، وكان سلمان إلى جنب رسول الله (ص). فضرب بيده على فخذ سلمان فقال: (هذا وقومه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس) وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: إن تتولوا يا معشر العرب، يستبدل قوما غيركم، يعني الموالي. وعن أبي عبد الله (ع) قال: قد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي.
[ 181 ]
48 - سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون عدد آيها !: تسع وعشرون آية بالاجماع. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (من قرأها فكأنما شهد مع محمد صلى الله عليه واله وسلم فتح مكة). وفي رواية أخرى: (فكأنما كان مع من بايع محمدا صلى الله عليه واله وسلم تحت الشجرة). عمر بن الخطاب قال. كنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في سفر فقال. " نزلت علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: (إنا فتحنا) إلى قوله (وما تأخر). أورده البخاري في الصحيح. قتادة عن أنس قال: لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، إذ أنزل الله عز وجل. (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا كلها). عبد الله بن مسعود قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من الحديبية، فجعلت ناقته تثقل، فتقدمنا، فأنزل الله عليه (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) فأدركنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وبه من السرور ما شاء الله، فأخبر أنها أنزلت عليه. عبد الله بن بكير، عن أبيه قال. قال أبو عبد الله عليه السلام: حصنوا أموالكم، ونساءكم، وما ملكت أيمانكم من التلف، بقراءة (إنا فتحنا) فإنه إذا كان ممن يدمن قراءتها، ناداه مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق. أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه جنات النعم، واسقوه الرحيق المختوم بمزاج الكافور. تفسيرها: ختم الله تلك السورة بقوله (والله الغني وأنتم الفقراء) ومن غناه أنه فتح لنبيه صلى الله عليه واله وسلم ما احتاج إليه في دينه ودنياه، فقال. بسم الله الرحمن الرحيم
[ 182 ]
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته وعليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3) هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان ألله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنت تجرى من تحتها ألأنهار خلدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5)). اللغه: الفتح. ضد الإغلاق، وهو الأصل. ثم استعمل في مواضع فمنها الحكم والقضاء. ويسمى الحاكم فتاحا. والفتاحة. الحكومة. ومنها النصر والإستفتاح: الإستنصار. ومنها فتح البلدان ومنها العلم. وقوله: (عنده مفاتح الغيب " من ذلك. المعنى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أي قضينا لك قضاء ظاهرا، عن قتادة. وقيل: معناه يسرنا لك يسرا بينا، عن مقاتل. وقيل: معناه أعلمناك علما ظاهرا فيما أنزلناه عليك من القرآن، وأخبرناك به من الدين. وقيل: معناه أرشدناك إلى الإسلام، وفتحنا لك أمر الدين، عن الزجاج. ثم اختلف في هذا الفتح على وجوه أحدها: إن المراد به فتح مكة، وعده الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه منها، عن أنس وقتادة، وجماعة من المفسرين. قال قتادة: نزلت هذه الاية عند مرجع النبي صلى الله عليه واله وسلم من الحديبية، بشر في ذلك الوقت بفتح مكة، وتقديره: إنا فتحنا لك مكة أي قضينا لك بالنصر على أهلها. وعن جابر قال: ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية وثانيها. إن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية، وكان فتحا بغير قتال. قال الفراء: الفتح قد يكون صلحا. ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق. والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا، حتى فتحه الله. وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، فكثر بهم سواد الإسلام. وقال الشعبي: بويع بالحديبية، وذلك بيعة الرضوان، وأطعم نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب، وهم الروم، على المجوس، إذ كان فيه مصداق قول الله تعالى.
[ 183 ]
إنهم سيغلبون و (يبلغ الهدي محله) والحديبية: بئر روي أنه نفد ماؤها، فظهر فيها من أعلام النبوة ما اشتهرت به الروايات. قال البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعذ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه واله وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر، فنزحناها فما ترك منها قطرة. فبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم فأتاها، فجلس على شفرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ ثم تمضمض، ودعا، ثم صبه فيها، وتركها. ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا. وفي حديث سلمة بن الأكوع: إما دعا، وإما بزق فيها، فجاشت فسقينا وأسقينا. وعن محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة (1): إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خرج لزيارة البيت، لا يريد حربا، فذكر الحديث إلى أن قال (2) رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: انزلوا. فقالو ا: يا رسول الله ما بالوادي ماء. فأخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من كنانته سهما، فأعطاه رجلا من أصحابه، فقال له: إنزل في بعض هذه القلب، فاغرزه في جوفه. ففعل، فجاش بالماء الرواء، حتى ضرب الناس بعطن. وعن عروة وذكر خروج النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: وخرجت قريش من مكة، فسبقوه إلى بلدح، وإلى الماء. فنزلوا عليه. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قد سبق، نزل على الحديبية، وذلك في حر شديد، وليس فيها إلا بئر واحدة. فاشفق القوم من الظمأ، والقوم كثير. فنزل فيها رجال يمتحنونها. ودعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بدلو من ماء، فتوضأ (3) ومضمض فاه، ثم مج فيه، وأمرأن يصب في البئر. ونزع سهما من كنانته، وألقاه في البئر. فدعا الله تعالى، ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بايديهم منها، وهم جلوس على شفتها. وروى سالم بن ابي الجعد قال: قلت لجابر. كم كنتم يوم الشجرة ؟ قال: كنا ألفا وخمسمائة. وذكر عطشا أصابهم قال. فاتى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بماء في تور، (1) محزمة خ ل. (2) (قال) (3) في بعض النسخ: فتوضأ من الدلو. (*)
[ 184 ]
فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كانه العيون. قال: فشربنا وسعنا وكفانا. قال: قلت كم كنتم ؟ قال: لو كنا مائة ألف كفانا كنا ألفا وخمسمائة. وثالثها. إن المراد بالفتح هنا فتح خيبر عن مجاهد والعوفي. وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري كان أحد القراء، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض. ما بال الناس ؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه واله وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم. فلما اجتمع الناس إليه قرأ (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) السورة. فقال عمر: أفتح هو يا رسول الله ؟ قال: نعم والذي نفسي بيده، إنه لفتح. فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل فيها أحد إلا من شهدها. ورابعها: إن الفتح الظفر على الأعداء كلهم بالحجج والمعجزات الظاهرة، وإعلاء كلمة الإسلام. (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قد قيل فيه أقوال كلها غير موافق لما يذهب إليه أصحابنا: أن الأنبياء معصومون من الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها، قبل النبوة وبعدها. فمنها. إنهم قالوا معناه ما تقدم من معاصيك قبل النبوة، وما تأخر عنها ومنها: قولهم ما تقدم الفتح، وما تأخر عنه ومنها. قولهم ما وقع وما لم يقع على الوعد بانه يغفره له إذا وقع ومنها: قولهم ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك. والكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبينا صلى الله عليه واله وسلم. ومن حمل ذلك على الصغائر التي تقع محبطة عندهم، فالذي يبطل قولهم: أن الصغائر إذا سقط عقابها، وقعت مكفرة، فكيف يجوز أن يمن الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه واله وسلم بان يغفرها له، وإنما يصح الإمتنان والتفضل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به، لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم، فوضح فساد قولهم. ولأصحابنا فيه وجهان من التأويل أحدهما: إن المراد لغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك، وما تأخر بشفاعتك، وأراد بذكر التقدم والتاخر ما تقدم زمانه، وما تأخر، كما يقول القائل لغيره: صفحت عن السالف والانف من ذنوبك. وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للإتصال والسبب بينه وبين أمته. ويؤيد هذا الجواب ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام قال: سأله رجل عن هذه الاية فقال: والله ماكان
[ 185 ]
له ذنب، ولكن (لله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي عليه السلام ما تقدم من ذنبهم وما تأخر. وروى عمربن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام عن قول الله سبحانه (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال: ما كان له ذنب، ولا هم بذنب، ولكن الله حمله ذنوب شيعته، ثم غفرها له. والثاني: ما ذكره المرتضى، قدس الله روحه، أن الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول، والمراد ما تقدم من ذنبهم اليك في منعهم إياك عن مكة، وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة، والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه أي: يزيل الله تعالى ذلك عنك، ويستر عليك تلك الوصمة، بما فتح لك من مكة، فستدخلها فيما بعد. ولذلك جعله جزاء على جهاده، وغرضا في الفتح، ووجها له قال: ولو أنه أراد مغفرة ذنوبه، لم يكن لقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك) معنى معقول، لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح، فلا يكون غرضا فيه. وأما قوله. ما تقدم وما تأخر، فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك. وقيل أيضا في ذلك وجوه أخر منها: إن معناه: لو كان لك ذنب قديم أو حديث، لغفرناه لك ومنها: إن المراد بالذنب هناك ترك المندوب، وحسن ذلك، لأن من المعلوم أنه ممن لا يخالف الأوامر الواجبة. فجاز أن يسمى ذنبا منه، ما لو وقع من غيره، لم يسم ذنبا، لعلو قدره ورفعة شانه ومنها: إن القول خرج مخرج التعظيم، وحسن الخطاب كما قيل في قوله: (عفا الله عنك). وهذا ضعيف لأن العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء. وقوله: (ويتم نعمته عليك) معناه. ويتم نعمته عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك، وإعلاء أمرك، ونصرة دينك، وبقاء شرعك. وفي الاخرة برفع محلك. فإن معنى إتمام النعمة: فعل ما يقتضيها وتبقيتها على صاحبها، والزيادة فيها. وقيل: يتم نعمته عليك بفتح خيبر ومكة والطائف. (ويهديك صراطا مستقيما) أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة (وينصرك الله نصرا عزيزا) النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل جبار عنيد وعات مريد. وقد فعل ذلك بنبيه صلى الله عليه واله وسلم إذ صير دينه أعز الأديان، وسلطانه أعظم السلطان.
[ 186 ]
(هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) وهي: أن يفعل الله اللطف الذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحق، ما تسكن إليه نفوسهم، وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلة الدالة عليه، فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة. وأما غيرهم فتضرب نفوسهم لأول عارض من شبهة ترد عليهم، إذ لا يجدون برد اليقين، وروح الطمأنينة في قلوبهم. وقيل. هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم، ويثبتوا في القتال. وقيل: هي ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله. (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح، وعلو كلمة الإسلام، على وفق ما وعدوا. وقيل. ليزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام، وهو أنهم كلما أمروا بشئ من الشرائع والفرائض، كالصلاة والصيام والصدقات، صدقوا به، وذلك بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم، عن ابن عباس. والمعنى. ليزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم. (ولله جنود السماوات والأرض) يعني الملائكة والجن والإنس والشياطين، عن ابن عباس. والمعنى: إنه لو شاء لأعانكم بهم. وفيه بيان أنه لو شاء لأهلك المشركين، لكنه عالم بهم، وبما يخرج من أصلابهم، فامهلهم لعلمه وحكمته، ولم يأمر بالقتال عن عجز واحتياج، لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب. (وكان عليما حكيما) فكل أفعاله حكمة وصواب (ليدخل المؤمنين والمؤمنات) تقديره: إنا فتحنا لك ليغفر لك الله، إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات (جنات) ولذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل إعلاما بالتفصيل. (تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت أشجارها الأنهار (خالدين فيها) أي دائمين مؤبدين، لا يزول عنهم نعيمها (ويكفر عنهم سيئاتهم) أي عقاب معاصيهم التي فعلوها في دار الدنيا (وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) أي ظفرا يعظم الله به قدره. (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائره السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السماوات والارض وكان الله عزيزا حكيما (7) انا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله
[ 187 ]
وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن الذين يبايعونك أنما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسة ومن اوفى بما عاهدا عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما (10). القراءة. قد بينا اختلافهم في السوء في سورة التوبة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (ليؤمنوا بالله) وما بعده بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وقرأ أهل العراق: (فسيؤتيه) بالياء. والباقون بالنون. وفي الشواذ قراءة الجحدري: (وتعزروه) بفتح التاء، وضم الزاي مخففا. الحجة: قال أبو علي: حجة الياء أنه لا يقال لتؤمنوا بالله ورسوله (1)، وهو الرسول، فإذا لم يسهل ذلك، كانت القراءة بالياء (ليؤمنوا). ومن قرأ بالتاء فعلى قوله لهم: (إنا أرسلناك إليهم شاهدا لتؤمنوا). وحجة الياء في (فسيؤتيه) قوله. (ومن أوفى مما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) على تقديم ذكر الغيبة. وزعموا أن في حرف عبد الله (فسوف يؤتيه الله). والنون على الإنصراف من الإفراد إلى لفظ الكثرة. وقال ابن جني: من قرأ (تعزروه) فالمنى: تمنعوه وتمنعوا دينه ونبيه فهو كقوله. (إن تنصروا الله ينصركم) أي إن تنصروا دينه، فهو على حذف المضاف. وأما (تعزروه) بالتشديد فتمنعوا منه بالسيف، عن الكلبي. وعزرت فلانا: فخمت أمره. ومنه عزرة إسم رجل. ومنه عندي التعزير للضرب دون الحد، وذلك أنه لم يبلغ به ذل الحد الكامل، فكأنه محاسنة فيه. قال أبو حاتم: وقرأ بعضهم (تعززوه) أي تجعلوه عزيزا. المعنى: لما تقدم الوعد للمؤمنين، عقبه سبحانه بالوعيد للكافرين فقال: (ويعذب) الله (المنافقين والمنافقات) وهم الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الشرك. فالنفاق. إسرار الكفر، وإظهار الإيمان. اخذ من نافقاء اليربوع وهو أن يجعل لسربه بابين، يظهر أحدهما، ويخفي الآخر، فإذا أتى من الظاهر، خرج من الاخر. (والمشركين والمشركات) وهم الذين يعبدون مع الله غيره (الظانين بالله ظن السوء) أي يتوهمون أن الله ينصرهم على رسوله، وذلك سوء أي قبيح. والسوء: (1) (المخاطب). *
[ 188 ]
المصدر. والسوء: الإسم. وقيل: هوظنهم أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لا يعود إلى موضع ولادته أبدا. وقيل: هو ظنهم أن لن يبعث الله أحدا. ومثله: (وظننتم ظن السوء) (عليهم دائرة السوء) أي يقع عليهم العذاب والهلاك. والدائرة هي الراجعة بخير أو شر. قال حميد بن ثور: (ودائرات الدهر أن تدورا). وقيل: إن من قرأ بالضم فالمراد: دائرة العذاب. ومن قرأ بالفتح فالمراد: ما جعله للمؤمنين من قتلهم، وغنيمة أموالهم. (وغضب الله عليهم ولعنهم) أي أبعدهم من رحمته. (وأعد لهم جهنم) يجعلهم فيها (وساءت مصيرا) أي مآلا ومرجعا. (ولله جنود السماوات والأرض) إنما كرر، لأن الأول متصل بذكر المؤمنين أي. فله الجنود التي يقدر أن يعينكم بها. والثاني متصل بذكر الكافرين أي. فله الجنود التي يقدر على الإنتقام منهم بها. (وكان الله عزيزا) في قهره وانتقامه (حكيما) في فعله وقضائه. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه واله وسلم فقال: (إنا أرسلناك) يا محمد (شاهدا) على أمتك لما عملوه من طاعة ومعصية، وقبول ورد، أو شاهدا عليهم تبليغ الرسالة (ومبشرا) بالجنة لمن أطاع (ونذيرا) من النار لمن عصى. ثم بين سبحانه الغرض بالإرسال فقال: (لتؤمنوا بالله) من قرأ (ليؤمنوا) بالياء فالمعنى: ليؤمن هؤلاء الكفار بالله (ورسوله وتعزروه) أي تنصروه بالسيف واللسان. والهاء تعود إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم. (وتوقروه) أي تعظموه وتبجلوه (وتسبحوه بكرة وأصيلا) أي وتصلوا (1) بالغداة والعشي. وقيل: معناه وتنزهوه عما لا يليق به. وكثير من القراء اختاروا الوقف على (وتوقروه)، لاختلاف الضمير فيه، وفيما بعده. وقيل: وتعزروه أي وتنصروا الله، وتوقروه أي وتعظموه وتطيعوه، كقوله. (لا ترجون الله وقارا). وعلى هذا فتكون الكنايات متفقة. وفي هذه الأية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر أن الله سبحانه يريد من الكفار الكفر، لأنه صرح هنا أنه يريد من جميع المكلفين الإيمان والطاعة. (إن الذين يبايعونك) المراد بالبيعة هنا بيعة الحديبية، وهي بيعة الرضوان، بايعوا رسول اللة صلى الله عليه واله وسلم على الموت. (إنما يبايعون الله) يعني ان المبايعة معك (1) (اللة). (*)
[ 189 ]
تكون مبايعة مع الله، لأن طاعتك طاعة الله. وإنما سميت بيعة، لأنها عقدت على بيع أنفسهم بالجنة، للزومهم في الحرب النصرة. (يد الله فوق أيديهم) أي عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم، لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه صلى الله عليه واله وسلم، فكأنهم بايعوه من غير واسطة، عن السدي. وقيل. معناه قوة الله في نصرة نبيه صلى الله عليه واله وسلم فوق نصرتهم إياه أي: ثق بنصرة الله لك لا بنصرتهم، وإن بايعوك، عن ابن كيسان. وقيل. نعمة الله عليهم بنبيه صلى الله عليه واله وسلم فوق أيديهم بالطاعة والمبايعة، عن الكلبي. وقيل: يد الله بالثواب وما وعدهم على بيعتهم من الجزاء، فوق أيديهم بالصدق والوفاء، عن ابن عباس. (فمن نكث) أي نقض ما عقد من البيعة (فإنما ينكث على نفسه) أي يرجع ضرر ذلك النقض عليه، وليس له الجنة ولا كرامة، عن ابن عباس. (ومن أوفى) أي ثبت على الوفاء (بما عاهد عليه الله) من البيعة (فسيؤتيه أجرا عظيما) أي ثوابا جزيلا. (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلنونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنين الى اهليهم ابدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله فانا أعتدنا للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14) سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15)). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (ضرا) بضم الضاد (يبدلوا كلم
[ 190 ]
الله) بغير ألف. والباقون. (ضرا) بالفتح، (كلام الله) بالألف. الحجة: قال أبو علي. الضر خلاف النفع. وفي التنزيل: (ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا). والضر: سؤ الحال. وفي التنزيل: (فكشفنا ما به من ضر) هذا الأبين في هذا الحرف عندي. ويجوز أن يكونا لغتين في معنى كالفقر والفقر، والضعف والضعف (ومن قرأ كلام الله) فوجهه أنه قيل فيهم لن تخرجوا معي أبدا، فخص الكلام بما كان مفيدا وحديثا. فقال: كلام الله. ومن قرأ (كلم الله) قال: الكلم قد يقع على ما يقع عليه الكلام، وعلى غيره. وإن كان الكلام بما ذكرنا أخص. ألا ترى أنه قال: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) فإنما هو والله أعلم (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) وما يتصل به. اللغة. المخلف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، وهو مشتق من الخلف، وضده المقدم. والأعراب: الجماعة من عرب البادية. وعرب الحاضرة ليسوا بأعراب فرقوا بينهما، وإن كان اللسان واحدا. والبور: الفاسد الهالك، وهو مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال: رجل بور، ورجال بور. قال: يارسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور وقال حسان: لا ينفع الطول من نوك القلوب، وقد يهدي الإله سبيل المعشر البور المعنى: ثم أخبر سبحانه عمن تخلف عن نبيه صلى الله عليه واله وسلم فقال: (سيقول لك المخلفون من الأعراب) أي الذين تخلفوا عن صحبتك في وجهتك وعمرتك، وذلك أنه لما أراد المسير إلى مكة، عام الحديبية، معتمرا، وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، استنفر من حول المدينة إلى الخروج معه، وهم: غفار وأسلم ومزينة وجهينة وأشجع والدئل، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو بصد. وأحرم بالعمرة، وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. فتثاقل عنه كثير من الاعراب، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل، فقال سبحانه: إنهم يقولون لك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شغلتنا أموالنا وأهلونا) عن الخروج معك (فاستغفر لنا) في قعودنا عنك. فكذبهم على الله تعالى فقال. (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) كذبهم في
[ 191 ]
اعتذارهم بما أخبر عن ضمائرهم وأسرارهم أي: لا يبالون استغفر لهم النبي صلى الله عليه واله وسلم أم لا. (قل) يا محمد (فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) أي فمن يمنعكم من عذاب الله، إن أراد بكم سؤا ونفعا أي: غنيمة، عن ابن عباس. وذلك أنهم ظنوا عن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه واله وسلم يدفع عنهم الضر، أو يعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم سبحانه أنه إن أراد شيئا من ذلك، لم يقدر أحد على دفعه عنهم (بل كان الله بما تعملون خبيرا) أي عالما بما كنتم تعملون في تخلفكم (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا) أي ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد، لأن العدو يستأصلهم ويصطليهم (1) (وزين ذلك في قلوبكم) أي زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، وسوله لكم. (وظننتم ظن السوء) في هلاك النبي صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين، وكل هذا من الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله، فصار معجزا لنبينا صلى الله عليه واله وسلم. (وكنتم قوما بورا) أي هلكى لا تصلحون لخير، عن مجاهد. وقيل: قوما فاسدين، عن قتادة (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا) أي نارا تسعرهم وتحرقهم (ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشهاء) ذنوبه (ويعذب من يشاء) إذا استحق العقاب (وكان الله غفورا رحيما) ظاهر المعنى. ثم قال: (سيقول) لك (المخلفون) يعني هؤلاء (إذا انطلقتم) أيها المؤمنون (إلى مغانم لتأخذوها) يعني غنائم خيبر (ذرونا نتبعكم) أي اتركونا نجئ معكم، وذلك أنهم لما انصرفوا من عام الحديبية بالصلح، وعدهم الله سبحانه فتح خيبر، وخص بغنائمها من شهد الحديبية. فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم. فقال سبحانه: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أي مواعيد الله لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة. أرادوا تغيير ذلك بان يشاركوهم فيها، عن ابن عباس. وقيل: يريد أمر الله لنبيه أن لا يسيرمعه منهم أحد، عن مقاتل. (قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) أي: قال الله بالحديبية قبل خيبر. (1) وفي بعض النسخ: " يصطلمهم ". (*)
[ 192 ]
وقبل مرجعنا إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، لا يشركهم فيها غيرهم، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن إسحاق، وغيرهم من المفسرين. وقال الجبائي. أراد بقوله (يريدون أن يبدلوا كلام الله) قوله سبحانه: (قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) وهذا غلط فاحش، لأن هذه السورة نزلت بعد الإنصراف من الحديبية في سنة ست من الهجرة، وتلك الأية نزلت في الذين تخلفوا عن تبوك، وكانت غزوة تبوك بعد فتح مكة، وبعد غزوة حنين والطائف، ورجوع النبي صلى الله عليه واله وسلم منها إلى المدينة، ومقامه ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم تهيأ في رجب للخروج إلى تبوك، وكان منصرفه من تبوك في بقية رمضان، من سنة تسع من الهجرة، ولم يخرج صلى الله عليه واله وسلم بعد ذلك لقتال، ولا غزو، إلى أن قبضه الله تعالى، فكيف تكون هذه الآية مرادة بقوله. (كلام الله)، وقد نزلت بعده بأربع سنين لولا أن العصبية ترين على القلوب. ثم قال. (فسيقولون بل تحسدوننا) أي فسيقول المخلفون عن الحديبية لكم إذا قلتم هذا لم يأمركم الله تعالى به، بل أنتم تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة. فقال سبحانه ليس الأمر على ما قالوه: (بل كانوا لا يفقهون) الحق، وما تدعونهم إليه (إلا قليلا) أي إلا فقها قليلا، أو شيئا قليلا. وقيل: معناه إلا القليل منهم، وهم المعاندون. (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى باس شديد تقتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16) ليس على الاعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطيع الله ورسوله يدخلة جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17) لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجره فعلم مافى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثبهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيره ياخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19) وعدكم الله مغانم كثيره تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدى الناس عنكم ولتكون إية للمؤمنين ويهديكم
[ 193 ]
صراطا مستقيما) القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر: ندخله ونعذبه بالنون. والباقون بالياء، وهما في المعنى سواء. المعنى. ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه واله وسلم: (قل) يا محمد (للمخلفين) الذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (من الأعراب ستدعون) فيما بعد (إلى قوم، أولي بأس شديد) وهم هوازن وحنين، عن سعيد بن جبير وعكرمة. وقيل: هم هوازن وثقيف، عن قتادة. وقيل. هم ثقيف، عن الضحاك. وقيل: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب، عن الزهري. وقيل: هم أهل فارس عن ابن عباس. وقيل: هم الروم، عن الحسن وكعب. وقيل. هم أهل صفين أصحاب معاوية. والصحيح أن المراد بالداعي في قوله (ستدعون) هو النبي صلى الله عليه واله وسلم، لأنه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة، وقتال أقوام ذوي نجدة وشدة، مثل أهل حنين والطائف ومؤتة إلى تبوك وغيرها. فلا معنى لحمل ذلك على ما بعد وفاته. (تقاتلونهم أو يسلمون) معناه: إن أحد الأمرين لا بد أن يقع لا محالة، وتقديره: أو هم يسلمون أي يقرون بالإسلام ويقبلونه. وقيل: ينقادون لكم. وفي حرف أبي: (أو يسلموا) وتقديره: إلى أن يسلموا. وفي النصب دلالة على أن ترك القتال من أجل الإسلام إذا وقع. (فإن تطيعوا) أي فإن تجيبوا إلى قتالهم (يؤتكم الله أجرا حسنا) أي جزاءا صالحا (وإن تتولوا) عن القتال، وتقعدوا عنه (كما توليتم من قبل) عن الخروج الى الحديبية (يعذبكم عذابا أليما) في الأخرة. (ليس على الأعمى حرج) أي ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد، والأعمى الذي لا يبصر بجارحة العين. (ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج) في ترك الجهاد أيضا. قال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة والآفات الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الاية. (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) معناه: في الأمر بالقتال (ومن يتول) عن أمر الله وأمر رسوله، فيقعد عن القتال (يعذبه عذابا أليما لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) يعني بيعة الحديبية وتسمى بيعة الرضوان لهذه الأية. ورضاء اللة سبحانه عنهم هو إرادته تعظيمهم وإثابتهم. وهذا إخبار منه سبحانه أنه رضي عن
[ 194 ]
المؤمنين، إذ بايعوا النبي صلى الله عليه واله وسلم في الحديبية تحت الشجرة المعروفة، وهي شجرة السمرة. (فعلم ما في قلوبهم) من صدق النية في القتال والكراهة له، لأنه بايعهم على القتال، عن مقاتل. وقيل: ما في قلوبهم من اليقين والصبر والوفاء. (فأنزل السكينة عليهم) وهي اللطف القوي لقلوبهم والطمأنينة (وأثابهم فتحا قريبا) يعني فتح خيبر، عن قتادة وأكثر المفسرين. وقيل. فتح مكة، عن الجبائي. (ومغانم كثيرة يأخذونها) يعني غنائم خيبر، فإنها كانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار. وقيل: يعني غنائم هوازن بعد فتح مكة، عن الجبائي. (وكان الله عزيزا) أي غالبا على أمره (حكيما) في أفعاله، ولذلك أمر بالصلح وحكم للمسلمين بالغنيمة، ولأهل خيبر بالهزيمة. ثم ذكر سبحانه سائر الغنائم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان، فقال: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) مع النبي صلى الله عليه واله وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة (فعجل لكم هذه) يعني غنيمة خيبر (وكف أيدي الناس عنكم) وذلك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لما قصد خيبر، وحاصر أهلها، همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة، فكف الله أيديهم عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: إن مالك بن عوف، وعيينة بن حصين، مع بني أسد وغطفان، جاؤوا لنصرة اليهود من خيبر، فقذف الله الرعب في قلوبهم، وانصرفوا. (ولتكون) الغنيمة التي عجلها لهم (أية للمؤمنين) على صدقك، حيث وعدهم أن يصيبوها، فوقع المخبر على وفق الخبر. (ويهديكم صراطا مستقيما) أي ويزيدكم هدى بالتصديق بمحمد صلى الله عليه واله وسلم، وما جاء به مما ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة. قصة فتح الحديبية قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية، وقفت ناقته، وزجرها فلم تنزجر، وبركت الناقة. فقال أصحابه: خلأت الناقة. فقال صلى الله عليه واله وسلم: ما هذا لها عادة، ولكن حبسها حابس الفيل. ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة، ليأذنوا له بأن يدخل مكة، ويحل من عمرته، وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ! مالي بهاحميم، وإني أخاف قريشا لشدة عداوتي إياها. ولكن
[ 195 ]
أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان. فقال: صدقت. فدعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عثمان، فارسله إلى أبي سفيان، وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والمسلمين، أن عثمان قد قتل. فقال صلى الله عليه واله وسلم: لا نبرح حتى نناجز القوم. ودعا الناس إلى البيعة، فقام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين، ولا يفروا. قال عبد الله بن معقل: كنت قائما على رأس رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك إليوم، وبيدي غصن من السمرة، أذب عنه، وهو يبايع الناس، فلم يبايعهم على الموت، وإنما بايعهم على أن لا يفروا. وروى الزهري، وعروة بن الزبير، والمسور بن مخرمة (1) قالوا. خرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش. وسار رسول اللة صلى الله عليه واله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، قريبا من عسفان، أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش (2)، وجمعوا جموعا، وهم قاتلوك، أو مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال صلى الله عليه واله وسلم: روحوا فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين. وسار صلى الله عليه واله وسلم حتى إذا كان بالثنية، بركت راحلته، فقال صلى الله عليه واله وسلم: ما خلأت القصواء، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها فوثبت به قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء. إنما يتبرضه الناس تبرضا (3). فشكوا إليه العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه في الماء. فوالله ما زال يجيش لهم بالري، حتى صدروا عنه. (1) وفي بعض النسخ " محزمة ". (2) جمع الأحبوش والأحبوشة أي: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. (3) تبرض الماء: أخذه قليلا قليلا من ههنا، وههنا. (*)
[ 196 ]
فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم. فإن شاؤوا ما دونهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا. وإلا فقد جمعوا (1). وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله تعالى أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وإنه يقول كذا وكذا. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنه قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: إئته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد. أرأيت إن أستأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ؟ فقال: من ذا ؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه واله وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته وإلمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه واله وسلم ومعه السيف. وعليه المغفر. فكلما أهوى عروه بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ضرب يده بنعل السيف، ؟ قال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل أن لا ترجع إليك. فقان: من هذا ؟ قال -: المغيرة بن شعبة. قال أي غدر، ولست أسعى في غدرتك. قال: وكان المغيره صحب قوما في الجاهلية فقلهم، ؟ أخذ أ موالهم. ثم جاء فأسلم. فقأل النبي صلى الله عليه واله وسلم: " أما الإسلام فقد قبلنا. وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه ". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم إذا أمرهم رسول اللة صلى الله عليه واله وسلم ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا اصواتهم (1) قي بعض النسخ: " جموا " وفي المخطوطة " حموا ". (*)
[ 197 ]
عنده، وما يحدون إليه النضر تعظيما له. قال: فرجع عروه إلى أصحابه، فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا قط يعظمه اصحابه ما يعظم اصحاب محمد ! إذا امرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادو يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وانه وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة: دعوني أته. فقالوا: إئته. فلما أشرف عليهم. قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لأصحابه: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها، فبعثت له، واستقبله القوم يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا ائته. فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: هذا مكرز، وهو رجل فاجر وفجعل يكلم النبي صلى الله عليه واله وسلم فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل: بن عمرو: فقال صلى الله عليه واله وسلم: قد سهل عليكم أمركم. فقال: أكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم علي بن أبي طالب فقال له رسول الله: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن فوا لله ما ادري ما هو: ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال المسلمون والله لا نكتب الا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: اكتب باسمك اللهم. هذا ما قاضى عليه رسول الله. فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك لرسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: إني لرسول الله، وإن كذبتموني. ثم قال لعلي عليه السلام امح رسول الله. فقال: يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة. فأخذه رسول الله فمحاه. ثم قال أكتب: (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهم الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أنه من قدم مكه من أصحاب محمد حاجا، أو معتمر:، أو يبتغي من فضل الله، فهو امن على دمه وماله. ومن قدم المدينة من قريش، مجتازا إلى مصر، أو إلى الشام، فهو امن على دمه وماله. وإن بيننا عيبة مكفوله (1) وإنه لا إسلال، ولا إغلال. وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه.
[ 198 ]
(1) وفي بعض النسخ مكفوفة. (*) ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا. نحن في عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف. فقال سهيل: والله ما تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من جاءهم منا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه، جعل له مخرجا. فقال سهيل. وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك، فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب، وسلاح الراكب. وعلى أن هذا الهدي حيث ما حبسناه محله لا تقدمه علينا. فقال: نحن نسوق وأنتم تردون. فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف (1) في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما اقاضيك عليه أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: إنا لم نقض بالكتاب بعد. قال. والله إذا لا أصالحك على شئ أبدا. فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم. فأجره لي. فقال. ما أنا بمجيره لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين أأرد إلى المشركين، وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ. فاتيت النبي صلى الله عليه واله وسلم فقلت: ألست نبي الله ؟ فقال: بلى. قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل ؟ قال ! بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذا ؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف حقا ؟ قال: بلى، أفاخبرتك أن نأتيه العام ؟ قلت: لا. فأنك. (1) رسف يرسف رسفا: مشى مشي المقيد. (*)
[ 199 ]
تأتيه وتطوف به. فنحر رسول اللة صلى الله عليه واله وسلم بدنة، فدعا بحالقه فحلق شعره، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: (إيا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) الآية. قال محمد بن إسحاق بن يسار: وحدثني بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب: أن كاتب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في هذا الصلح كان علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، فجعل علي عليه السلام يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله، فقال رسول الله: فإن لك مثلها، تعطيها وأنت مضطهد. فكتب ما قالوا. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلا يأكلان من تمر لهم. قال أبو بصير لأحد الرجلين: وإني لأرى سيفك هذا جيدا جدا، فاستله وقال: أجل، إنه لجيد، وجربت به، ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى بلغ المدينة. فدخل المسجد يعدو. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. قال: فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله ! قد أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد ! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم. فخرج حتى أتى سيف البحر. وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بابي بصير، حتى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل صلى الله عليه واله وسلم إليهم فأتوه. قصة فتح خيبر ولما قدم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم المدينة من الحديبية، مكث بها عشرين ليلة، ثم خرج منها غاديا إلى خيبر. ذكر ابن إسحاق بإسناده، عن أبي مروان الأسلمي عن
[ 200 ]
أبيه، عن جده قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا منها وأشرفنا عليها، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قفوا. فوقف الناس. فقال اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع، وما أقللن، ورب الشياطين، وما أضللن. إنا نسألك خير هذه القرية، وخير اهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر اهلها، وشر ما فيها. أقدموا باسم الله. وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا. فقال رجل من الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فجعل يقول: لا هم لولا أنت ما حجينا (1) * ولا تصدقنا، ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتنينا، * وثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينه علينا، إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصباح (3) عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من هذا السابق ؟ قالو: عامر: يرحمه الله. قال عمر وهو على جمل له وجيب: يا رسول الله لولا أمتعتنا به، وذك أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما استغفر لرجل قط يخصه إلا استشهد. قالوا: فلما جد الحرب، وتصاف القوم، خرج يهودي، وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز إليه عامر، وهو يقول: قد علمت خيبرأني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر، وكان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه. قال سلمه: فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقولون: بطل عامل (1) وفي نسخة: ما اهتدينا. (2) وفي بعضها: وبالصياح. (3) وفي بعضها السائق. (*)
[ 201 ]
عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه واله وسلم وأنا أبكي فقلت: قالوا: إن عامرا بطل عمله ؟ فقال: من قال ذلك ؟ قلت: نفر من أصحابك. فقال: كذب أولئك بل أوتي من الأجر مرتين. قال: فحاصرناهم حتى أصابتنا. مخمصة شديدة. ثم إن الله فتحها علينا وذلك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول ألله صلى الله عليه واله وسلم يجبنه أصحابه ويجبنهم. وكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس. فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر ؟ فأخبر فقال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "، وروى البخاري ومسلم عن قتيبة، عن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن ألإسكندراني، عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غدا، رجل يفتح الله على يديه، يحب اللة ورسوله، ويحبه الله ورسوله " قال فبات الناس يدوكون (1) بجملتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: يا رسول الله ! هويشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله ! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، ؟ وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم. قال سلمة: فبرز مرحب وهو يقول: " قد علمت خيبر أني مرحب " الأبيات. فبرز له علي عليه السلام وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدرة * كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة (2) فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله، وكان الفتح على يده. أورده مسلم في (1) أي: يخوضون، ويموجون، ويختلفون. (2) ضرب من الكيل جراف، والمعنى: أقتلكم قتلا واسعا كبيرا. (*)
[ 202 ]
الصحيح. وروى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن رافع (1) مولى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: خرجنا مع على عليه السلام حين بعثه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فلما دنا من الحصن، خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل، من اليهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه. ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه. وبإسناده عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال: حدثني جابر بن عبد الله أن عليا عليه السلام حمل الباب يوم خيبر، حتى صعد المسلمون عليه، فاقتحموها، وإنه حرك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. قال: وروي من وجه آخر، عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا، فكان جهدهم أن أعادوا الباب. وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان علي عليه السلام يلبس في الحر الشديد في القباء المحشو الثخين، وما يبالي الحر، فأتاني أصحابي فقالوا: إنا رأينا من أمير المؤمنين عليه السلام شيئا، فهل رأيت ؟ فقلت: وما هو ؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الثديد في القباء المحشو الثخين، وما يبالي الحر، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين، وما يبالي البرد، فهل سمعت في ذاك شيئا ؟ فقلت: لا. فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك، فإنه يسمر معه. فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على علي عليه السلام فسمر معه، ثم سأله عن ذلك، فقال: أوما شهدت (2) خيبر ؟ قلت: بلى. قال: أفما رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين دعا أبا بكر فقعد له، ثم بعثه إلى القوم فانطلق، فلقي القوم، ثم جاء بالناس وقد هزم ؟ فقال: بلى. قال: ثم بعث إلى عمر، فقعد له، ثم بعثه إلى القوم فانطلق، فلقي القوم فقاتلهم، ثم رجع وقد هزم، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. " لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، كرارا غير فرارا فدعاني فاعطاني الراية. ثم قال: " اللهم اكفه الحر والبردا فما وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا. وهذا كله منقول من كتاب دلائل النبوة للإمام أبي بكر البيهقي. ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. يفتح الحصون، حصنا حصنا، ويحوز الأموال (1) (أبي رافع) بدل " رافع " وهو الصحيح. (2) وفي المخطوطة: (أو ما شهدت معنا خيبر). (*)
[ 203 ]
حتى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر، افتتح، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بضع عشرة ليلة. قال ابن إسحاق: ولما افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق، أتي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها، فمر بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قتلى يهود. فلما رأتهم التي معها صفية، صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: اغربوا عني هذه الشيطانة، وأمر بصفية فحيزت (1) خلفه، وألقى عليها رداءه. فعرف المسلمون أنه قد أصطفاها لنفسه. وقال صلى الله عليه واله وسلم لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟ وكانت صفية قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمد. ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها. فأتي بها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وبها أثر منها، فسألها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما هو فأخبرته. وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. إنزل فأكلمك قال: نعم. فنزل وصالح رسول الله صالى الله عليه واله وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول اللة وبين ما كان لهم من مال وأرض، على الصفراء والبيضاء، وإلكراع، والحلقة (2)، وعلى البز إلا ثوبا على ظهر إنسان. وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا. فصالحوه على ذلك. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعو، بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم، ويحقن دماءهم، ويخلون بينه وبين الأموال، ففعل. وكان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وبينهم في ذلك، محيصة بن مسعود، أحد بني حارثة. فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف وقالوا: نحو أعلم بها منكم، وأعمر لها. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرنجاكم. وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين. وكانت فدك خالصة لرسول الله، لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب. (1) في المخطوطة: فجرت. (2) وفي بعض النسخ: الخلفة. (*)
[ 204 ]
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، وهي أبنة أخي مرحب، شاة مصلية، وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ فقيل لها: الذراع. فأكثرت فيها السم، وسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها. فلما وضعتها بين يديه، تناول الذراع، فأخذها فلاك منها مضغة، وانتهش منها، ومعه بشر بن البرأء بن معرور، فتناول عظما فانتهش منه. فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ارفعوا أيديكم، فأن كتف هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة. ثم دعاها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك ؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك ! فقلت: إن كان نبيا فسيخبر، وإن كان ملكا استرحت منه. فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: ودخلت أم بشر بن البراء، على رسول الله تعوده في مرضه الذي توفي فيه، فقال صلى الله عليه واله وسلم: يا أم بشر ! ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني (1). فهذا أوان قطعت أبهري (2). وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة. (وأخرى لم تقدروا عليها أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا (21) ولوقتلكم الذين كفروا لولوا الأدبر ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التى قدخلت من قبل ولن تجد لسنه الله تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد ان أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24) هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا ان يبلغ محله ولولا رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25) (1) وفي الحجري (تعازني) (2) الأبهر: عرق مستبطن الصلب إذا انقطع لم يبق صاحبه. (*)
[ 205 ]
القراءة: قرأ أبو عمروا: (بما يعملون) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي: وجه قول أبي عمرو: وكان الله بما عمل الكفار من كفرهم، وصدكم عن المسجد الحرام، ومنعكم من دخوله بصيرا، فيجازي عليه. ووجه التاء أن الخطاب قد جرى للقبيلتين في قوله: (وهوا الذي كف ايديهم عنكم وايديكم عنهم) فلخطاب لتقدم هذا الخطاب. اللغة: التبديل: رفع احد الشيئين، وجعل الاخر مكانه فيما حكم أن يستمر على ما هوا به، ولو رفع الله حكما الى خلافه، لم يكن تبديلا لحكمه، لانه لا يرفع شئ الا في الوقت الذي تقتضي الحكمه رفعه فيه. والمعكوف: الممنوع من الذهاب في جهة بالاقامة في مكانه، ومنه الاعتكاف وهو الاقامه في المسجد للعبادة. وعكف على هذا الامر يعكف عكوفا: إذا قام عليه. والمعرة: الامر القبيح المكروه، يقال: عر فلان فلانا: إذا شانه، والحق به عيبا، وبه سمي الجرب عرا. والعذرة: عرة الاعراب: (سنه الله): منصوب على المصدر، والمعنى: سن الله خذلانهم سنة. وموضع (أن تطأوهم): رفع بدل من رجال، والمعنى: لولا أن تطأوا رجالا مؤمنين، ونساء مؤمنات. ثم قال: لو تزيلوا لعذبنا) الايه. والتقدير (1): وطء رجال ونساء أي: قتلهم، وهو بدل الاشتمال مثل: نفعني عبد الله علمه، واعجبتني الجارية حسنها. ويجوز ان يكون موضع (أن تطؤوهم) نصبا على البدل من الهاء والميم في (تعلموهم) والتقدير: ولولا رجالا ونساء لم تعلموا أن تطؤوهم أي: لم تعلموا وطأهم. وهوا بدل الاشتمال ايضا. وقوله (لم تعلموهم إن تطؤوهم): في موضع رفع صفه لرجال ونساء. وجواب لولا يغني عنه جواب لو في قوله (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا). وقوله: (والهدي معكوفا): حال. وقوله: (أن يبلغ محله تقديره: كراهة أن يبلغ فحذف المضاف. وقيل معكوفا من أن يبلغ، فحذف من. النزول: سبب نزول قوله: (وهوا الذي كف ايديهم عنكم الايه أن المشركين بعثوا أربعين رجلا، عام الحديبية ليصيبوا من المسلمين فأتي بهم الى (1) وفي نسختين لولا وطء. (*)
[ 206 ]
النبي صلى الله عليه واله وسلم أسرى، فخلى سبيلهم، عن ابن عباس. وقيل: إنهم كانوا ثمانين رجلا من أهل مكة، هبطوا من جبل التنعيم، عند صلاة الفجر، عام الحديبية، ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأعتقهم، عن انس. وقيل كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم جالسا في ظل شجرة، وبين يديه علي، صلوات الله عليه، يكتب كتاب الصلح، فخرج ثلاثون شابا عليهم السلاح، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه واله وسلم فأخذ الله تعالى بأبصارهم، فقمنا فأخذناهم، فخلى سبيلهم، فنزلت هذه الآية، عن عبد الله بن المغفل. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم يعد النبي صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين فتوحا أخر، فقال: (وأخرى لم تقدروا عليها) معناه: ووعدكم الله مغانم اخرى لم تقدروا عليها بعد. فتكون (أخرى) في محل النصب. وقيل: معناه وقرية أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم، وهي مكة، عن قتادة. وقيل: هي ما فتح الله على المسلمين بعد ذلك إلى اليوم، عن مجاهد. وقيل: إن المراد بها فارس والروم، عن ابن عباس والحسن والجبائي قال: كما أن النبي (ص) بشرهم كنوز كسرى وقيصر، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، وفتح مدائنهم، بل كانوا خولا لهم، حتى قدروا عليها بالإسلام. (قد أحاط الله بها) أي قدر الله عليها، وأحاط علما بها، فجعلهم بمنزلة قوم قد أدير حولهم، فما يقدر أحد منهم أن يفلت. قال الفراء: أحاط الله بها لكم، حتى يفتحها عليكم، فكأنه قال: حفظها عليكم، ومنعها من غيركم، حتى تفتحوها وتأخذوها (وكان الله على كل شئ) من فتح القرى وغير ذلك (قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا) من قريش يوم الحديبية، يا معشر المؤمنين (لولوا الأدبار) منهزمين بنصرة الله إياكم، وخذلان الله إياهم، عن قتادة والجبائي. وقيل: الذين كفروا من أسد وغطفان، الذين أرادوا نهب ذراري المسلمين (ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) يواليهم وينصرهم، ويدافع عنهم. وهذا من علم الغيب. وفي الآية دلالة على أنه يعلم ما لم يكن أن لو كان، كيف يكون. وفي ذلك إشارة إلى أن المعدوم معلوم (سنت الله التي قد خلت من قبل) أي هذه سنتي في أهل طاعتي، وأهل معصيتي، أنصر أوليائي، وأخذل أعدائي، عن ابن عباس وقيل معناه: هذه طريقة الله وعادته السالفة أن كل قوم إذا قاتلوا أنبيائهم أنهزموا وقتلوا (ولن تجد لسنة الله) في نصرة
[ 207 ]
رسله (تبديلا) أي تغييرا (وهو الذي كف أيديهم عنكم) بالرعب (وأيديكم عنهم) بالنهي (ببطن مكة) يعني الحديبية (من بعد أن أظفركم عليهم) ذكر الله منته على المؤمنين بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلا، وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح (وكان الله بما تعملون بصيرا) مر تفسيره. ثم ذكر سبحانه سبب منعه رسول الله (ص) ذلك العام دخول مكة، فقال: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) أن تطوفوا وتحلوا من عمرتكم يعني قريشا (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) أي وصدوا الهدي، وهي البدن التي ساقها رسول الله (ص) معه، وكانت سبعين بدنة، حتى بلغ ذي الحليفة، فقلد البدن التي ساقها، وأشعرها، وأحرم بالعمرة حتى نزل بالحديبية، ومنعه المشركون، وكان الصلح. فلما تم الصلح نحروا البدن، فذلك قوله (معكوفا) أي: محبوسا عن أن يبلغ محله أي منحره، وهو حيث يحل نحره يعني مكة، لأن هدي العمرة لا يذبح إلا بمكة، كما أن هدي الحج لا يذبح إلا بمنى. (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) يعني المستضعفين الذين كانوا بمكة بين الكفار من أهل الإيمان (لم تعلموهم) بأعيانهم لاختلاطهم بغيرهم (أن تطؤوهم) بالقتل، وتوقعوا بهم (فتصيبكم منهم معرة) أي إثم وجناية، عن ابن زيد. وقيل: فيلحقكم بذلك عيب يعيبكم المشركون بأنهم قتلوا أهل دينهم. وقيل: هو غرم الدية والكفارة في قتل الخطأ، عن ابن عباس. وذلك أنهم لو كبسوا مكة وفيها قوم مؤمنون، لم يتميزوا من الكفار، لم يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين، فتلزمهم الكفارة، وتلحقهم السيئة بقتل من على دينهم، فهذه المعرة التي صان الله المؤمنين عنها. وجواب لولا محذوف وتقديره: لولا المؤمنون الذين لم تعلموهم، لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا اياكم. وقوله: (بغير علم) موضعه التقديم لأن التقدير لولا أن تطؤوهم بغير علم. وقوله: (ليدخل الله في رحمته من يشاء) اللام متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام، تقديره: فحال بينكم وبينهم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، يعني من أسلم من الكفار بعد الصلح. وقيل: ليدخل الله في رحمته أولئك بسلامتهم من القتل ويدخل هؤلاء في رحمته بسلامتهم من الطعن والعيب. (لو تزيلوا) أي لو تميز المؤمنون من الكافرين (لعذبنا الذين كفروا منهم) أي. من أهل مكة (عذابا أليما)
[ 208 ]
بالسيف والقتل بأيديكم. ولكن الله تعالى يدفع المؤمنين عن الكفار، فلحرمة اختلاطهم بهم لم يعذبهم. (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26) لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله إمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلمون فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27) هو الذى ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفره واجرا عظيما (29) القراءة: قرأ ابن كثير عن ابن فليح وابن ذكوان (شطأه) بفتح الطاء الباقون باسكونها وقراء ابن عامر: (فأزره) بقصر الهمزه. والباقون: (فآزره) بالمد. وفي الشواذ قراءة الحسن: (اشداء على اكفار رحماء بينهم) بالنصب فيهما. وقراءة عيسى الهمداني: (شطاءه) بالمد والهمزة، و (شطاه) أيضا. الحجة: قال أبو علي: يشبة أن يكون (شطأ) لغة في شطء، فيكون كالشمع والشمع، والنهر والنهر. ومن خفف الهمزة في شطاه، حذفها وألقى حركتها على الطاء فقال: شطاه. قال أبو زيد: أشطأت الشجرة بغصونها إذا أخرجت قصونها. أبو عبيده: أخرج شطاه فراخه، واشطأ الزرع فهوا مشطئ أي مفرخ وآزره على (1) وفي نسختين: (يدفع بالمؤمنين). (*)
[ 209 ]
فاعله معناه: ساواه أي. صار مثل الأم، وفاعله الشطء. أي. آزر الشطء الزرع، فصار في طوله. قال امرؤ القيس: بمحنية قد آزر الضال نبتها، * مضم جيوش غانمين، وخيب (1) أي: ساوى نبته الضال، فصار في قامته، لأنه لا يرعى. ويجوز أن يكون فاعل آزر الزرع أي: آزر الزرع الشطء. ومن الناس من يفسر آزره: أعانه وقواه. فعلى هذأ يكون آزر الزراع الشطء. قال أبو الحسن: آزره أفعله، وهو الاشبه، ليكون قول ابن عامر أزره فعله، فيكون فيه لغتان فعل وأفعل، لأنهما كثيرا ما يتعاقبان على الكلمة. ومن قرأ (أشداء) بالنصب، فهو نصب على الحال من معه أي: هم معه على هذا الحال. اللغة: الحمية: الأنفة والإنكار، يقال: فلان ذو حمية منكرة إذا كان ذا غضب وأنفة. والكفار: الزراع هنا، لأن الزارع يغطي البذر. وكل شئ قد غطيته فقد كفرته. ومنه يقال لليل: كافر، لأنه يستر بظلمته كل. شئ. قال: (ألقت ذكاء يمينها في كافر). وقال لبيد. (في ليلة كفر النجوم غمامها). الاعراب: (محمد): مبتدأ. و (رسول الله): عطف بيان (والذين معه) عطف على (محمد). و (أشداء): خبر محمد، وما عطف عليه. وقيل. (محمد): مبتدأ، و (رسول الله) خبره (والذين معه): مبتدأ وما بعده خبره (يبتغون فضلا من الله) أن شئت كإن خبرا بعد خبر وان شئت كان هوا الخبر في من نصب (اشداء) ويكون (تراهم) ايظا في موضع النصب مثل (أشداء) (ذلك مثلهم في التوراة) أبتداء وخبر والكلام تام ثم أبتدا فقال (ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه) فلهم مثلان احدهما في التوراة والثاني في الأنجيل وقال مجاهد بل قوله (أشداء على الكفار) مع ما بعده جميعا في التوراة والإنجيل وكذلك قوله (كزرع أخرجه شطأه) في التوراة والإنجيل فيكون قوله (كزرع) خبر مبتدأ مضمر أي هم كزرع أخرج شطأه (1) الضال من السدر: ما كان عذيا أي: لا يسقيه الا المطر. والمحنية: معطف الوادي أي: في معطف واد قد ساوى نبته شجر الضال، وهو مجمع جيوش بعضها غانم، وبعضها حائب من الغنيمة (*).
[ 210 ]
المعنى: ثم قال سبحانه: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية) إذ يتعلق بقوله لعذبنا أي: لعذبنا الذين كفروا، وأذنا لك في قتالهم، حين جعلوا في قلوبهم الأنفة التي تحمي الإنسان أي: حميت قلوبهم بالغضب. ثم فسر تلك الحمية فقال: (حمية الجاهلية) أي عاده أبائهم في الجاهلية، أن لا يذعنوا لأحد، ولا ينقادوا له، وذلك أن كفار مكة قالوا: قد قتل محمد وأصحابة أبائنا وأخواننا، ويدخلون علينا في منازلنا، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا. واللآت والعزى لا يدخلونها علينا. فهذه الحمية جاهلية التي دخلت قلوبهم. وقيل: هي أنفتهم من الأقرار لمحمد (ص) بالرسالة، والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم حيث أراد أن يكتب كتاب العهد بينهم، عن الزهري. (فأنزل سكينته على رسولة وعلى المؤمنين والزمهم كلمة التقوى) وهي قول (لا آله الا الله)، عن أبن عباس وقتادة ومجاهد. (وكانوا أحق بها وأهلها) قيل: أن في تقديما وتأخيرا، والتقدير: كانوا اهلها واحق بها أي: كان المؤمنون أهل تلك الكلمة، وأحق بها من المشركين. وقيل: معناه وكانوا أحق بنزول السكينة عليهم، وأهلها وقيل: وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها واهلها، وقد يكون حق أحق من غيره. ألا ترى أن الحق الذي هو طاعة يستحق بها المدح، أحق من الحق الذي هو مباح، لا يستحق به ذلك. (وكان الله بكل شئ عليما) لما ذم الكفار بالحمية، ومدح المؤمنين بالزوم الكلمة، بين علمه ببواطن سرائرهم، وما ينطوي عليه عقد ضمائرهم. (لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق) قالوا: أن الله تعالى أرى نبيه (ص) في المنام في المدينة، قبل أن يخرج الى الحديبية، أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فاخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك. فلما أنصرفوا، ولم يدخلوا مكة، قال المنافقون: ما حلقنا، ولا قصرنا، ولا دخلنا المسجد الحرام ! فانزل الله هذه الآيه. وأخبره أنه ارى رسوله (ص) الصدق في منامه، لا الباطل، وانهم يدخلونه. واقسم على ذلك فقال: (لتدخلن المسجد الحرام) يعني العام المقبل (أن شاء الله آمنين) قال أبو العباس ثعلب: استثنى الله في ما يعلم ليستثني الناس فيما لا يعلمون. وقيل: أن الاستثناء من الدخول، وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة، وقد مات منهم أناس في السنة، فيكون تقديره:
[ 211 ]
لتدخلن كلكم إن شاء الله إذ علم الله أن منهم من يموت قبل السنة، أو يمرض، فلا يدخلها. فأدخل الإستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف، عن الجبائي. وقيل: إن الإستثناء داخل على الخوف والأمن. فأما الدخول فلا شك فيه، وتقديره: لتدخلن المسجد الحرام آمنين من العدو إن شاء الله، فهذه الأقوال الثلاثة للبصريين. وقيل إن (أن) هنا بمعنى إذ أي: إذ شاء الله حين أرى رسوله ذلك، عن أبي عبيدة، ومثله قوله (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) قال: معناه إذ كنتم. وهذا القول لا يرتضيه البصريون (محلقين رؤوسكم ومقصرين) أي: محرمين يحلق بعضكم رأسه، ويقصر بعض، وهو أن الإحرام إن يأخذ بعض الشعر. وفي هذا دلالة على أن المحرم بالخيار عند التحلل من الإحرام إن شاء حلق، وإن شاء قصر (لا تخافون) مشركا (فعلم) من الصلاح في صلح الحديبية (ما لم تعلموا) وقيل: علم في تأخير دخول المسجد الحرام من الخير والصلاح، ما لم تعلموه أنتم، وهو خروج المؤمنين من بينهم، والصلح المبارك موقعه. (فجعل من دون ذلك) أي من قبل الدخول (فتحا قريبا) يعني فتح خيبر، عن عطا ومقاتل. يعني صلح الحديبية. عمرة القضاء وكذلك جرى الأمر في عمرة القضاء، في السنة التالية للحديبية، وهي سنة سبع من الهجرة، في ذي القعدة وهو الشهر الذي صده فيه المشركين عن المسجد الحرام، فخرج النبي (ص)، ودخل مكة مع أصحابه معتمرين، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا الى المدينة وعن الزهري قال بعث رسول الله (ص) جعفر بن ابي طالب (ع) بين يديه الى ميمونة بنت الحرث العامرية، فخطبها عليه، فجعلت أمرها الى العباس بن عبد المطلب، وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث، فزوجها العباس رسول الله. فلما قدم رسول الله (ص) أمر أصحابه فقال: اكشفوا عن المناكب، واسعوا في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم. فستكف (1) أهل مكة الرجال والنساء والصبيان، ينضرون الى رسول الله (ص) واصحابه، وهم (1) استكف الناس حوله: أحاطوا به ينظرون إليه. (*)
[ 212 ]
يطوفون البيت، وعبد الله بن رواحة، يرتجز بين يدي رسول الله (ص) متوحشا بالسيف، يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * قد انزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله * اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنيزيله * ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله * يا رب اني مؤمن لقيله اني رأيت الحق في قبوله ويشير بيده الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانزل الله في تلك العمرة (الشهر الحرام بالشهر الحرام) وهو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر في الشهر الحرام الذي صد فيه ثم قال سبحانه (هو الذي ارسل رسوله) يعني محمدا (بالهدى) أي بالدليل الواضح والحجة الساطعة وقيل: بالقرآن (ودين الحق) اي الاسلام (ليظهره على الدين كله) اي ليظهر دين الاسلام بالحجج والبراهين على جميع الاديان. وقيل: بالغلبة والقهر والانتشار في البلدان وقيل: ان تمام ذلك عند خروج المهدي عليه السلام فلا يبقى في الارض دين سوى دين الاسلام (وكفى بالله شهيدا) بذلك. ثم قال سبحانه (محمدا رسول الله) نص سبحانه على اسمه ليزيل كل شبهة، تم الكلام هنا. ثم اثنى على المؤمنين فقال: (والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) قال الحسن: بلغ من تشددهم على الكفار ان كانوا يتحرزون من ثياب المشركين، حتى لا تلتزق بثيابهم وعن ابدانهم حتى لا تمس ابدانهم وبلغ تراحمهم فيما بينهم ان كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه، ومثله قوله (اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين) (تراهم ركعا سجدا) هذا اخبار عن كثرة صلاتهم، ومداومتهم عليها (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) اي يلتمسون بذلك زيادة نعمهم من الله ويطلبون مرضاته (سيماهم في وجوههم من اثر السجود) اي علامتهم يوم القيامة ان تكون مواضع سجودهم اشد بياضا، عن ابن عباس وعطية، قال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر. وقيل: هو التراب على الجباه، لانهم يسجدون على التراب، لا على الاثواب، عن عكرمة وسعيد بن جبير، وابي العالية. وقبل: هو الصفرة والنحول، عن الضحاك. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عطاء الخراساني: دخل
[ 213 ]
في هذه الاية كل من صلى الخمس. (ذلك مثلهم في التوراة) يعني أن ما ذكر من وصفهم، هو ما وصفوا به في التوراة أيضا. ثم ذكر نعتهم في الانجيل فقال: ليس بينهما وقف. والمعنى: ذلك مثلهم في التوراة والانجيل جميعا، عن مجاهد. والمعنى كمثل زرع أخرج شطأه أي فراخه (فآزره) أي شده وأعانه وقواه. وقال المبرد: يعني أن هذه الافراخ لحقت الامهات حتى صارت مثلها (فاستغلظ) أي غلظ ذلك الزرع (فاستوى على سوقه) أي قام على قصبه وأصوله، فاستوى الصغار مع الكبار. والسوق: جمع الساق. والمعنى أنه تناهى، وبلغ الغاية. (يعجب الزراع) أي يروع ذلك الزرع الزراع أي: الاكرة الذين زرعوه. قال الواحدي: هذا مثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه. فالزرع: محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشطأ: أصحابه، والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة، كما يكون أول الزرع دقيقا، ثم غلظ وقوي، وتلاحق، فكذلك المؤمنون قوى بعضهم بعضا حتى استغلظوا، واستووا على أمرهم. (ليغيظ بهم الكفار) أي إنما كثرهم الله وقواهم، ليكونوا غيظا للكافرين، بتوافرهم، وتظاهرهم، واتفاقهم على الطاعة. ثم قال سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي وعد من أقام على الايمان والطاعة (منهم مغفرة) أي سترا على ذنوبهم الماضية (وأجرا عظيما) أي ثوابا جزيلا دائما.
[ 214 ]
49 - سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة عن الحسن وقتادة وعكرمة وعن ابن عباس، إلا آية قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى). عدد آيها: ثماني عشرة آية بالاجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من قرأ سورة الحجرات، أعطي من الاجر عشر حسنات، بعدد من أطاع الله، ومن عصاه ". الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة الحجرات في كل ليلة، أو في كل يوم، كان من زوار محمد صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الفتح بذكر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، وما يختص به من الاجلال والاعظام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا شتعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور
[ 215 ]
رحيم (5). القراءة: قرأ يعقوب: (لا تقدموا) بفتح التاء والدال. والباقون: (لا تقدموا) بضم التاء وكسر الدال. وقرأ أبو جعفر: (الحجرات) بفتح الجيم. والباقون بضمها. الحجة: قال ابن جني: معناه لا تفعلوا ما تؤثرونه، وتتركوا ما أمركم الله ورسوله به. وهذا معنى القراءة المشهورة (لا تقدموا) أي لا تقدموا أمرا على ما أمركم الله به. فالمفعول هنا محذوف، كما ترى. ومن قرأ (الحجرات) أبدل من الضمة فتحة استثقالا بتوالي الضمتين، ومنهم من أسكن فقال (الحجرات) مثل عضد، وعضد. وقال أبو عبيدة: (حجرات): جمع حجر، فهو جمع الجمع. اللغة: قدم تقديما، وأقدم إقداما، واستقدم وقدم، كل ذلك بمعنى تقدم. والجهر: ظهور الصوت بقوة الاعتماد. ومنه الجهارة في المنطق. وجاهر بالامر مجاهرة. ويقال: جهارا، ونقيض الجهر الهمس. والحروف المجهورة تسعة عشر حرفا، يجمعها قولك: " أطلقن ضرغم عجز ظبي ذواد " وما عداها من الحروف مهموس يجمعها قولك: " حث فسكت شخصه ". والغض: الحط من منزلة على وجه التصغير، يقال: غض فلان إذا صغر حالة من هو أرفع منه. وغض بصره إذا ضعفه عن حدة النظر. قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير، * فلا كعبا بلغت، ولا كلابا الاعراب: (أن تحبط أعمالكم): في محل النصب، لانه مفعول له. ويجوز أن يكون في محل جر باللام المقدرة أي: لان تحبط أعمالكم. وقيل تقديره كراهة أن تحبط، أو حذرا أن تحبط. النزول: نزل قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) إلى قوله (غفور رحيم) في وفد تميم، وهم عطارد بن حاجب بن زرارة، في أشراف من بني تميم، منهم الاقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الاهتم، وقيس بن عاصم، في وفد عظيم. فلما دخلوا المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الحجرات، أن اخرج إلينا يا محمد. فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم. فقالوا: جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا. فقال: قد أذنت. فقام عطارد بن حاجب،
[ 216 ]
وقال: الحمد لله الذي جعلنا ملوكا، الذي له الفضل علينا، والذي وهب علينا أموالا عظاما، نفعل بها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثر عددا وعدة، فمن مثلنا في الناس. فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا، ولو شئنا لاكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الاكثار. ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه. فقام فقال: الحمد لله الذي في السماوات والارض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شئ قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمهم نسبا، وأصدقهم حديثا، وأفضلهم حسبا، فأنزل الله عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله على العالمين، ثم دعا الناس إلى الايمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه، وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسنهم وجوها، فكان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن، فنحن أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردؤه، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن نكث (1) جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. ثم قام الزبرقان بن بدر ينشد، وأجابه حسان بن ثابت. فلما فرغ حسان من قوله، قال الاقرع: إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغوا أجازهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحسن جوائزهم، وأسلموا، عن ابن إسحاق. وقيل: إنهم أناس من بني العنبر، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصاب من ذراريهم، فأقبلوا في فدائهم، فقدموا المدينة، ودخلوا المسجد، وعجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلوا يقولون: يا محمد ! أخرج إلينا، عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، عن ابن عباس. المعنى: (يا أيها الذين آمنوا) روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: ما سلت السيوف، ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف، ولا جهر بأذان، ولا أنزل الله (يا أيها الذين آمنوا) حتى أسلم أبناء قبيلة الاوس والخزرج. (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) بين اليدين عبارة عن الامام، لان ما بين يدي الانسان أمامه، (1) وفي نخسة: " مكث " بدل " نكث ". (*)
[ 217 ]
ومعناه: لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله، ولا تعجلوا به. قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدم بين يدي الامام، وبين يدي الاب أي: لا تعجل بالامر دونه، والنهي. وقدم هنا بمعنى تقدم، وهو لازم. وقيل: معناه لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسوله به، حتى أنه قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها، عن الزجاج. وقيل (1): لا تمكنوا أحدا يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كونوا تبعا له، وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله. وقال الحسن: نزل في قوم ذبحوا الاضحية قبل صلاة العيد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاعادة. وقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا قبل كلامه أي: إذا كنتم جالسين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسئل عن مسألة، فلا تسبقوه بالجواب، حتى يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا. وقيل: معناه لا تسبقوه بقول، ولا فعل، حتى يأمركم به، عن الكلبي والسدي. والاولى حمل الاية على الجميع، فإن كل شئ كان خلافا لله ورسوله، إذا فعل، فهو تقديم بين يدي الله ورسوله، وذلك ممنوع. (واتقوا الله) أي اجتنبوا معاصيه (إن الله سميع) لاقوالكم (عليم) بأعمالكم فيجازيكم بها (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) لان فيه أحد الشيئين: إما نوع استخفاف به فهو الكفر، وإما سوء الادب فهو خلاف التعظيم المأمور به. (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) أي غضوا أصواتكم عند مخاطبتكم إياه، وفي مجلسه، فإنه ليس مثلكم إذ يجب تعظيمه وتوقيره من كل وجه. وقيل: معناه لا تقولوا له يا محمد كما يخاطب بعضكم بعضا، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، وقولوا: يا رسول الله (أن تحبط أعمالكم) أي كراهة أن تحبط، أو لئلا تحبط أعمالكم. وقيل: إنه في حرف عبد الله " فتحبط أعمالكم ". (وأنتم لا تشعرون) أي وأنتم لا تعلمون أنكم أحبطتم أعمالكم بجهر صوتكم على صوته، وترك تعظيمه. قال أنس: لما نزلت هذه الاية، قال ثابت بن قيس: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجهر له بالقول، حبط عملي، وأنا من أهل النار، وكان ثابت رفيع الصوت. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هو من أهل الجنة. وقال أصحابنا: إن المعنى في قوله (أن تحبط أعمالكم) (1) [ معناه ]. (*)
[ 218 ]
أنه ينحبط ثواب ذلك العمل، لانهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره، لا ستحقوا الثواب. فلما فعلوه على خلاف ذلك الوجه، استحقوا العقاب، وفاتهم ذلك الثواب، فانحبط عملهم، فلا تعلق لاهل الوعيد بهذه الاية، ولانه تعالى علق الاحباط في هذه الاية بنفس العمل، وهم يعلقونه بالمستحق على العمل، وذلك خلاف الظاهر. ثم مدح سبحانه من يعظم رسوله ويوقره، فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) أي يخفضون أصواتهم في مجلسه إجلالا (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) أي اختبرها فأخلصها للتقوى، عن قتادة ومجاهد. أخذ من امتحان الذهب بالنار إذا أذيب حتى يذهب غشه، ويبقى خالصه. وقيل: معناه أنه علم خلوص نياتهم، لان الانسان يمتحن الشئ ليعلم حقيقته. وقيل: معناه عاملهم معاملة المختبر بما تعبدهم به من هذه العبادة، فخلصوا على الاختبار، كما يخلص جيد الذهب بالنار. (لهم مغفرة) من الله لذنوبهم (وأجر عظيم) على طاعتهم. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) وهم الجفاة من بني تميم، لم يعلموا في أي حجرة هو، فكانوا يطوفون على الحجرات، وينادونه. (أكثرهم لا يعقلون) وصفهم الله سبحانه بالجهل، وقلة الفهم والعقل، إذ لم يعرفوا مقدار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ما استحقه من التوقير، فهم بمنزلة البهائم. (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم) من أن ينادونك من وراء الحجرات في دينهم، بما يحرزونه من الثواب، وفي دنياهم باستعمالهم حسن الادب في مخاطبة الانبياء، ليعدوا بذلك في زمرة العقلاء. وقيل: معناه لاطلقت أسراهم بغير فداء، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان سبى قوما من بني العنبر، فجاؤوا في فدائهم، فأعتق نصفهم، وفادى النصف، فيقول ولو أنهم صبروا لكنت تعتق كلهم. (والله غفور رحيم) لمن تاب منهم. (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) وأعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر
[ 219 ]
والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10). القراءة: قرأ يعقوب: (فأصلحوا بين إخوتكم) بالتاء على الجمع، وهو قراءة ابن سيرين. والباقون: (بين أخويكم) على التثنية لقوله (طائفتان). وفي الشواذ قراءة زيد بن ثابت والحسن: (إخوانكم) بالالف والنون على الجمع. وقد ذكرنا في سورة النساء اختلافهم في قوله (فتبينوا) والوجه في القراءتين. والمروي عن الباقر عليه السلام: (فتثبتوا) بالثاء والتاء. اللغة: العنت: المشقة، يقال: عنت الدابة تعنت عنتا إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الانباري: أصل العنت التشديد، يقال: فلان يعنت فلانا أي يشدد عليه، ويلزمه ما يصعب عليه، ثم نقل إلى معنى الهلاك. والقسط: العدل ونحوه الاقساط والقسوط. والقسط بالفتح: الجور، والعدول عن الحق. فأصل الباب: العدول. فمن عدل إلى الحق فقد أقسط، ومن عدل عن الحق، فقد قسط. الاعراب: (أن فيكم رسول الله): خبر (أن) في الظرف الذي هو (فيكم) عند النحويين، وفيه نظر، لان من حق الخبر أن يكون الخبر مفيدا، فلا يقال النار حارة، لعدم الفائدة. والوجه عندي أن يكون لومع ما في حيزه خبر أن، والمعنى: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم. ويجوز على الوجه الاول أن يكون المراد التنبيه لهم على مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقول القائل للرجل، يريد أن ينبهه على شئ: فلان حاضر. والمخاطب يعلم حضوره، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم، احتمل أن يكون غير رسول الله فيهم، ممن هو بمنزلته. فإذا قال: إن فيكم رسول الله، لا يحتمل ذلك على هذا فقوله (لو يطيعكم) لومع ما في حيزه، في محل رفع بأنه خبر أن، خبر بعد خبر. (فضلا من
[ 220 ]
الله): مفعول له، والتقدير: فعل الله ذلك لكم فضلا منه ونعمة. ويجوز أن يكون العامل فيه الراشدون، وما فيه من الفعل أي رشدا وفضلا من الله. وقوله بجهالة وبالعدل: كلاهما في موضع نصب على الحال، والعامل في الاول (فتصيبوا)، وفي الثاني (فأصلحوا). النزول: قوله (إن جاءكم فاسق) نزل في الوليد بن عقبة بن معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقونه فرحا به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم، وكان الامر بخلافه. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أن يغزوهم، فنزلت الاية، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: إنها نزلت فيمن قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن مارية أم إبراهيم يأتيها ابن عم لها قبطي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وقال: يا أخي ! خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاقتله. فقال: يا رسول الله ! أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى مالا يرى الغائب ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل الشاهد يرى مالا يرى الغائب. قال علي عليه السلام: فأقبلت متوشحا بالسيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف. فلما عرف أني أريده أتى نخلة فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه. فإذا أنه أجب أمسح، ما له مما للرجال قليل، ولا كثير. فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت. وقوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) نزل في الاوس والخزرج، وقع بينهما قتال بالسعف والنعال، عن سعيد بن جبير. وقيل: نزل في رهط عبد الله بن أبي سلول من الخزرج، ورهط عبد الله بن رواحة من الاوس، وسببه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على عبد الله بن أبي، فراث حمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك عبد الله أنفه وقال: إليك عني ! فقال عبد الله بن رواحة: لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب ريحا منك، ومن أبيك ! فغضب قومه وأعان ابن رواحة قومه، وكان بينهما ضرب بالحديد والايدي والنعال. المعنى: ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) أي: بخبر عظيم الشأن. والفاسق: الخارج عن طاعة الله إلى معصيته
[ 221 ]
(فتبينوا) صدقه من كذبه، ولا تبادروا إلى العمل بخبره. ومن قال (فتثبتوا) فمعناه: توقفوا فيه وتأنوا حتى يثبت عندكم حقيقته (أن تصيبوا قوما بجهالة) أي حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم وأموالهم بغير علم بحالهم، وما هم عليه من الطاعة والاسلام (فتصبحوا على ما فعلتم) من إصابتهم بالخطأ (نادمين) لا يمكنكم تداركه. وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم، ولا العمل، لان المعنى إن جاءكم من لا تأمنون أن يكون خبره كذبا، فتوقفوا فيه. وهذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره. وقد استدل بعضهم بالاية على وجوب العمل بخبر الواحد، إذا كان عدلا، من حيث إن الله سبحانه أوجب التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا لا يصح لان دليل الخطاب لا يعول عليه عندنا، وعند أكثر المحققين. (واعلموا أن فيكم رسول الله) أي فاتقوا الله أن تكذبوه، أو تقولوا باطلا عنده، فإن الله تعالى يخبره بذلك فتفضحوا. وقيل: معناه واعلموا بما أخبره الله تعالى من كذب الوليد أن فيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه إحدى معجزاته (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) أي لو فعل ما تريدونه في كثير من الامر لوقعتم في عنت، وهو الاثم والهلاك. فسمى موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا. ألا ترى أن الطاعة تراعى فيها الرتبة، فلا يكون الانسان مطيعا لمن دونه، وإنما يكون مطيعا لمن فوقه، إذا فعل ما أمره به. ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون فقال: (ولكن الله حبب إليكم الايمان) أي جعله أحب الاديان إليكم بأن أقام الادلة على صحته، وبما وعد من الثواب عليه (وزينه في قلوبكم) بالالطاف الداعية إليه. (وكره إليكم الكفر) بما وصف من العقاب عليه بوجوه الالطاف الصارفة عنه (والفسوق) أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي (والعصيان) أي جميع المعاصي. وقيل: الفسوق الكذب، عن ابن عباس وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. ثم عاد سبحانه إلى الخبر عنهم فقال: (أولئك هم الراشدون) يعني الذين وصفهم بالايمان، وزينه في قلوبهم، هم المهتدون إلى محاسن الامور. وقيل: هم الذين أصابوا الرشد، واهتدوا إلى الجنة. (فضلا من الله ونعمة) أي تفضلا مني عليهم، ورحمة مني لهم، عن ابن عباس. (والله عليم) بالاشياء كلها (حكيم)
[ 222 ]
في جميع أفعاله. وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر من وجوه منها: إنه إذا حبب في قلوبهم الإيمان، وكره الكفر، فمن المعلوم أنه لا يحبب ما لا يحبه، ولا يكره ما لا يكرهه ومنها: إنه إذ ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه، دل ذلك على ما نقوله في اللطف. ثم قال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) أي: فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما صاحبه (فأصلحوا بينهما) حتى يصطلحا، ولا دلالة في هذا على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان، ويطلق عليهما هذا الإسم، ولا يمتنع أن يفسق إحدى الطائفتين، أو وتفسقا جميعا. (فإن بغت إحداهما على الأخرى) بأن تطلب ما لا يجوز لها، وتقاتل الأخرى ظالمة لها، متعدية عليها (فقاتلوا التي تبغي) لأنها هي الظالمة المتعدية دون الأخرى (حتى تفئ إلى أمر الله) أي حتى ترجع إلى طاعة الله، وتترك قتال الطائفة المؤمنة. (فإن فاءت) أي رجعت، وتابت، وأقلعت، وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) أي بينها وبين الطائفة التي هي على الإيمان (بالعدل) أي بالقسط، حتى يكونوا سواء لا يكون من احداهما على الأخرى جور ولا شطط، فيما يتعلق بالضمانات من الأروش (وأقسطوا) أي اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) العادلين الذين يعدلون فيما يكون قولا وفعلا (إنما المؤمنون إخوة) في الدين، يلزم نصرة بعضهم بعضا (فأصلحوا بين أخويكم) أي بين كل رجلين تقاتلا وتخاصما. ومعنى الإثنين يأتي على الجمع، لأن تأويله بين كل أخوين، يعني: فأنتم إخوة للمتقاتلين، فأصلحوا بين الفريقين أي: كفوا الظالم عن المظلوم، وأعينوا المظلوم. (واتقوا الله) في ترك العدل والإصلاح، أو في منع الحقوق (لعلكم ترحمون) لاتفاقهم في الدين، ورجوعهم إلى أصل النسب، لأنهم لأم واحدة، وهي حواء. وروى الزهري عن سالم عن أبيه، أن رسول الله (ص) قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه. من كان في حاجة أخيه، كان اللة في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله بها عنه كربة من كروب يوم القيامة، ومن ستر مسلما يستره اللة يوم القيامة) أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما وفي وصية النبي (ص) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) (سر ميلا عد مريضا، سر
[ 223 ]
ميلين شيع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في الله، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستة أميال أنصر المظلوم، وعليك با لا ستغفار). النظم: وجه اتصال قوله: (إن جاءكم فاسق بنبأ) بما قبله أنه لما أمر بطاعة الله ورسوله، بين عقيبه أن الرسول لا يجوز أن يتبع أهواءهم، بل ينبغي أن يعمل بما عنده. ووجه اتصال قوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان لئلا تقعوا في العنت) (1) وإنما قلنا ذلك لأن (لكن) لا بد أن يتقدمه نفي، إذا كان ما بعده إثباتا. وقوله: (لويطيعكم لعنتم) معناه: إنه لم يطعكم فماعنتم. (يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولانساء من نساء عسى أن يكون خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمن ومن لم يتب فأولئك هم الظلمون (11) يأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13) قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) القراءة: قرأ أهل البصرة: (لا يألتكم) بالألف. والباقون: (لا يلتكم) بغير الألف. الحجة: قال أبو زيد: ألته حقه يالته ألتا إذا نقصه. وقوم يقولون: لات يليت (1) (بما قبله: إن قرله (لعنتم) بمنرلة أن يقول ما عنتم أي: ما عنتم بطاعة كثير من الأمر، ولكن الله حبب إليكم الإيمان) (*).
[ 224 ]
ليتا. ويقال: لت الرجل أليته ليتا إذا عميت عليه الخبر، فأخبرته بغير ما يسألك عنه. قال رؤبة: وليلة ذات ندى سريت، ولم يلتني عن سراها ليت وقوم يقولون: ألاتني عن حقي، وألاتني عن حاجتي أي صرفني عنها. وحجة من قرأ (لا يألتكم) قوله تعالى: (وما ألتناهم). ومن قرأ (يلتكم) جعله من لات يليت اللغة: الهمز واللمز: العيب والغض من الناس. فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز أن يؤذى بذكره، وهو المنهي عنه. فأما ذكر عيب الفاسق، فليس بلمز. وقد ورد في الحديث: (قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس). والنبز: القذف باللقب. يقال: نبزته أنبزه. والغيبة: أن تذكر الإنسان من ورائه بسوء هو فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه، فهو البهت، والبهتان. والشعوب: الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلا على غيرهم، سموا بذلك لأنهم تأولوا (وجعلناكم شعوبا) على أن الشعوب من العجم، كالقبائل من العرب. وقال أبو عبيدة: الشعوب العكم، وأصله من التشعب، وهو كثرة تفرقهم في النسب، ويقال: شعبته جمعته، وشعبته فرقته، وهو من الأضداد. النزول: نزل قوله: (لا يسخر قوم من قوم) في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي، فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما، والناس قد فرغوا من الصلاة، وأخذوا مكانهم، فجعل يتخطى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل، فقال له: اصبت مجلسا فاجلس. فجلس خلفه مغضبا. فلما انجلت الظلمة قال: من هذا ؟ قال الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: ابن فلانة، ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسة. حياء، فنزلت الآية، عن ابن عباس. وقوله: (ولا نساء من نساء) نزل في نساء النبي (ص) سخرن من أم سلمة، عن أنس، وذلك أنها ربطت حقويها بسبية وهي ثوب أبيض، وسدلت طرفيها خلفها، فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: أنظري ماذا تجر خلفها، كأنه لسان الكلب، فلهذا كانت سخريتهما. وقيل: أنها عيرتها بالقصر، وأشارت بيدها أنها قصيرة، عن الحسن.
[ 225 ]
وقوله: (ولا يغتب بعضكم بعضا) نزل في رجلين من أصحاب رسول الله (ص) اغتابا رفيقهما، وهو سلمان، بعثاه إلى رسول الله (ص) ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى أسامة بن زيد، وكان خازن رسول الله (ص) على رحله، فقال: ما عندي شئ. فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة، وقالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله. فقال لهما رسول الله (ص): ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما. قالا: يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال: ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة. فنزلت الآية. وعن أبي قلابة قال: إن عمر بن الخطاب حدث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته، هو وأصحابه. فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين ! إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس. فقال عمر: ما يقول هذا ؟ قال زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين. قال: فخرج عمر، وتركه، وخرج عمر بن الخطاب أيضا، ومعه عبد الرحمن بن عوف، يعسان. فتبينت لهما نار، فأتيا واستأذنا. ففتح الباب فدخلا، فإذا رجل وامرأة تغني، وعلى يد الرجل قدح. فقال عمر: من هذه منك ؟ قال: امرأتي. قال: وما في هذا القدح ؟ قال: ماء. فقال للمرأة: ما الذي تغنين ؟ قالت: أقول: تطاول هذا الليل، واسود جانبه، وأرقني ألا حبيب ألاعبه فوالله لولا خشية الله، والتقى، لزعزع من هذا السرير جوانبه ولكن عقلي، والحياء، يكفني، وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين. قال الله تعالى: (ولا تجسسوا (فقال عمر: صدقت وانصرف. قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) قيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقوله للرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة. فقال (ص): من الذاكر فلانة ؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: أنظر في وجوه القوم. فنظر إليهم فقال: ما رأيت يا ثابت ؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين. فنزلت هذه الآية: (يا أيها الذين امنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس) الاية عن ابن عباس. وقيل: لما كان يوم فتح مكة، أمر رسول الله (ص) بلالا حتى علا ظهر الكعبة وأذن، فقال
[ 226 ]
عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم ! وقال الحرث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره لغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السماوات. فأتى جبرائيل (ع) رسول الله (ص) فأخبره بما قالوا. فدعاهم رسول الله (ص) وسألهم عما قالوا، فأقروا به، ونزلت الأية، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب، والإزدراء بالفقر، والتكاثر بالأموال، عن مقاتل. المعنى: لما أمر سبحانه بإصلاح ذات البين، ونهى عن التفرق، عقب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة من السخرية والإزدراء باهل الفقر والمسكنة، ونحو ذلك فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) قال الخليل: القوم يقع على الرجال دون النساء، لقيام بعضهم مع بعض في الأمور. قال زهير: وما أدري، ولست أخال أدري، أقوم آل حصن، أم نساء فالمعنى لا يسخر رجال من رجال. والسخرية: الإستهزاء. قال مجاهد: معناه لا يسخر غني من فقير لفقره، وربما يكون الفقير المهين في ظاهر الحال، خيرا وأجل منزلة عند الله من الغني الحسن الحال. ولو سخر مؤمن من كافر احتقارا له، لم يكن ماثوما. وقال ابن زيد: هذا نهي عن استهزاء المسلمين بمن أعلن بفسقه، عسى أن يكون المسخور عند الله خيرا من الساخر معتقدا، أو أسلم باطنا. (ولا نساء من نساء) على المعنى الذي تقدم (عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم) أي لا يطعن بعضكم على بعض، كما قال تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه إذا قتل أخاه قتل نفسه، عن ابن عباس وقتادة. واللمز: العيب في المشهد. والهمز: العيب في المغيب. وقيل: إن اللمز يكون باللسان وبالعين وبالإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وقيل: معناه ولا يلعن بعضكم بعضا، عن الضحاك. (ولا تنابزوا بالألقاب) جمع اللقب، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان. وقيل: هو كل إسم لم يوضع له، وأذا دعي به يكرهه. فأما إذا كان لا يسوؤه، ولا يكرهه، فلا بأس فيه مثل الفقيه والقاضي. وقيل: هو قول الرجل للرجل: يا كافر،
[ 227 ]
يا فاسق، يا منافق، عن قتادة وعكرمة. وقيل: كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد ذلك: يا يهودي، أو يا نصراني. فنهوا عن ذلك، عن الحسن. وقيل: هو أن يعمل إنسان شيئا من القبيح، ثم يتوب منه، فيعير بما سلف منه، عن ابن عباس. وروي أن صفية بنت حيي بن أخطب، جاءت إلى النبي (ص) تبكي، فقال لها: ما وراءك ؟ فقالت: إن عائشة تعيرني وتقول يهودية بنت يهوديين ! فقال لها: هلا قلت أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد (ص). فنزلت الاية، عن ابن عباس. (بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان) أي بئس الإسم أن يقول له يا يهودي، يا نصراني، وقد آمن، عن الحسن، وغيره. والمعنى: بئس الشئ تسميته باسم الفسوق يعني الكفر بعد الإيمان. وقيل: معناه بئس الشئ اكتساب اسم الفسوق باغتياب المسلمين ولمزهم. وهذا لا يدل على أن اسم (1) الإيمان والفسق لا يجتمعان لأن هذا كما يقال: بئس الحال الفسوق بعد الشيب. والمعنى: إن بئس الحال الفسوق مع الشيب، وبئس الإسم الفسوق مع الإيمان. على أن الظاهر أن المعنى: إن الفسوق الذي يتعقب الإيمان بئس الإسم، وذلك هو الكفر. " (ومن لم يتب) من التنابز والمعاصي، ويرجع إلى طاعة الله تعالى (فأولئك هم الظالمون) نفوسهم بفعل ما يستحقون به العقاب (يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) قال الزجاج: هو أن يظن بأهل الخير سؤا. فأما أهل السؤ والفسق، فلنا أن نظن بهم مثل ما ظهر منهم. وقيل: هو أن يظن باخيه المسلم سوءا، ولا باس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن، وأبداه أثم. وهو قوله (إن بعض الظن إثم) يعني ما أعلنه مما ظن بأخيه، عن المقاتلين (2). وقيل: إنما قال كثيرا من الظن، لأن من جملته ما يجب العمل به، ولا يجوز مخالفته. وإنما يكون إثما إذا فعله صاحبه، وله الطريق إلى العلم بدلا منه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله. فأما ما لا سبيل إلى دفعه بالعلم بدلأ منه، فليس بإثم، ولذلك قال (بعض الظن إثم) دون جميعه. (1) وفي نسخة ليس لفظة (اسم). (2) وفي نسخة: يعني مقاتل بن حسان، ومقاتل بن سليمان. (*)
[ 228 ]
والظن المحمود قد بينه الله تعالى ودل عليه بقوله: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) وقيل: معناه يجب على المؤمن أن يحسن الظن، ولا يسيئه في شئ يجد له تأويلا جميلا، وإن كان ظاهرا قبيحا (ولا تجسسوا) أي: ولا تتبعوا عثرات المؤمنين، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد. وقال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد. وروي في الشواذ عن ابن عباس: (ولا تحسسوا) بالحاء. قال الأخفش: وليس يبعد أحدهما عن الآخر، إلا أن التجسس عما يكتم، ومنه الجاسوس. والتحسس بالحاء: البحث عما تعرفه. وقيل: إن التجسس بالجيم في الشر، والجاسوس صاحب سر الشر. والناموس: صاحب سر الخير (1). وقيل: معناه لا تتبعوا عيوب المسلمين، لتهتكوا العيوب التي سترها أهلها. وقيل: معناه ولا تبحثوا عما خفي حتى يظهر، عن الأوزاعي. وفي الحديث: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تنابزوا (2)، وكونوا عباد الله إخوانا). وقوله: (ولا يغتب بعضكم بعضا) الغيبة: ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. وفي الحديث: (إذا ذكرت الرجل بما فيه مما يكرهه الله فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته). وعن جابر قال: قال رسول الله (ص): (إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا). ثم قال: (إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه). ثم ضرب سبحانه للغيبة مثلا فقال: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) وتأويله: إن ذكرك بالسوء من لم يحضرك، بمنزلة أن تأكل لحمه، وهو ميت، لا يحس بذلك، عن الزجاج. ولما قيل لهم (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) قالوا: لا. فقيل: (فكرهتموه) أي: فكما كرهتم ذلك، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، عن مجاهد. وقيل: فكما كرهتم لحمه ميتا، فاكرهوا غيبته حيا، عن الحسن، فهذا هو تقدير الكلام. وقوله: (واتقوا الله) معطوف على هذا الفعل المقدر، ومثله: (ألم نشرح (1) وفي نسخة: إن التجسس بالجيم في النشر، والجاسوس صاحب الشر. والتحسس في الخير، والحاسوس. صاحب سر الخير. (2) وفي النسخ: (ولا تدابروا) بدل (ولا تنابزوا). (*)
[ 229 ]
لك صدرك ووضعنا) أي وقد شرحنا ووضعنا. ويقال للمغتاب: فلان ياكل لحوم الناس، قال: وليس الذئب ياكل لحم ذئب، وياكل بعضنا بعضا عيانا وقال آخر: فإن يأكلوا لحمي، وفرت لحومهم، وإن يهدموا مجدي، بنيت لهم مجدا وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا، لكراهية الطبع، كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته لكراهية العقل والشرع، لأن دواعي العقل والشرع أحق بالإتباع من دواعي الطبع، فإن داعي الطبع أعمى، وداعي العقل بصير. وعن ميمون بن شاة (1)، وكان يفضل على الحسن، لأنه قد لقي من لم يلقه الحسن، قال: بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي، وقائل يقول لي: كل يا عبد الله ! قلت: ولم آكل ؟ قال: بما اغتيب عندك فلان. قلت: والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا. قال: لكنك استمعت فرضيت. وكان ميمون بعد ذلك لا يدع أن يغتاب عنده واحد. وقال رجل لابن سيرين: إني قد اغتبتك فاجعلني في حل. قال: إني أكره أن أحل ما حرم الله. (إن الله تواب) قابل التوبة (رحيم) بالمؤمنين (يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى) أي من آدم وحواء، والمعنى أنكم متساوون في النسب، لأن كلكم يرجع في النسب إلى آدم وحواء. زجر الله سبحانه عن التفاخر بالأنساب. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: (إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام الصاع، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى). ثم ذكر سبحانه أنه إنما فرق أنساب الناس ليتعارفوا لا ليتفاخروا، فقال: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) وهي جمع شعب، وهو الحي العظيم، مثل مضر وربيعة، وقبائل: هي دون الشعوب، كبكر من ربيعة، وتميم من مضر. هذا قول أكثر المفسرين. وقيل: الشعوب دون القبائل، وإنما سميت بذلك لتشعبها وتفرقها، عن الحسن. وقيل: أراد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب في رواية عطا، عن ابن عباس. وإلى هذا ذهب قرم فقالوا الشعوب (1) وفي نسخة: شاه. (*)
[ 230 ]
من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل. وروي ذلك عن الصادق (ع) (لتعارفوا) أي جعلناكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضا بنسبه وأبيه وقومه. ولولا ذلك لفسدت المعاملات، وخربت الدنيا، ولما أمكن نقل حديث (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي: إن أكثركم ثوابا، وأرفعكم منزلة عند الله، أتقاكم لمعاصيه، وأعملكم بطاعته. وروي عن النبي (ص) أنه قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: أمرتكم فضيعتم ما عهدت إليكم فيه، ورفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم. أين المتقون) (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وروي أن رجلا سأل عيسى بن مريم: أي الناس أفضل ؟ فاخذ قبضتين من تراب فقال: أي هاتين أفضل ؟ الناس خلقوا من تراب، فاكرمهم أتقاهم. أبو بكر البيهقي بالإسناد عن عباية بن ربعي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): (إن الله عزوجل جعل الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما، وذلك قوله: (وأصحاب اليمين... وأصحاب الشمال) فانا من أصحاب اليمين. وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا، وذلك قوله: (وأصحاب الميمنة... وأصحاب المشئمة... والسابقون السابقون) فانا من السابقين، وأنا خير السابقين. ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله (وجعلناكم شعوبا وقبائل) الاية. فإني أتقى ولد آدم ولا فخر، وأكرمهم على الله ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا، وذلك قوله عز وجل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب). (إن الله عليم) بأعمالكم (خبير) بأحوالكم، لا يخفى عليه شئ من ذلك (قالت الأعراب آمنا) وهم من بني أسد، أتوا النبي (ص) في سنة جدبة، وأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، إنما كانوا يطلبون الصدقة. والمعنى: إنهم قالوا صدقنا بما جئت به، فأمره الله سبحانه أن يخبرهم بذلك ليكون آية معجزة له، فقال: (قل لم تؤمنوا) أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن (ولكن قولوا أسلمنا) أي انقدنا واستسلمنا مخافة السبي والقتل، عن سعيد بن جبير وابن زيد.
[ 231 ]
ثم بين سبحانه أن الإيمان محله القلب دون اللسان، فقال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإيمان، وصاحبه المؤمن المسلم حقا. فأما من أظهر قبول الشريعة، وأستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدق. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) أي لم تصدقوا بعد بما أسلمتم تعوذا من القتل. فالمؤمن مبطن من التصديق، مثل ما يظهر، والمسلم التام الإسلام، مظهر للطاعة، وهو مع ذلك مؤمن بها، والذي أظهر الإسلام تعوذا من القتل، غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر، حكم المسلمين. وروى أنس عن النبي (ص) ! قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب). وأشار إلى صدره (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) أي: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا، عن ابن عباس، ومقاتل (إن الله غفور رحيم). (إنما الؤمنون الذين ءامنو بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا باموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض واللة بكل شئ عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لاتمنو على اسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان أن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون (18) *. القراءة: قرأ ابن كثير: (يعملون) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: وجه التاء أن قبله خطابا، وهو قوله: (لا تمنوا) ووجه الياء أن قبله غيبة، وهو قوله (إنما المؤمنون) الذين آمنوا. الاعراب: خبر المبتدأ الذي هو المؤمنون قوله: (أولئك هم الصادقون) وقوله: (الذين آمنوا) صفة لهم. المعنى: ثم نعت سبحانه الصادقين في إيمانهم، فقال: (إنما المؤمنون الذين
[ 232 ]
الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) في أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قالوا: فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله (ص) يحلفون أنهم مؤمنون صادقون في دعواهم لإيمان، فأنزل الله سبحانه: (قل أتعلمون الله بدينكم) أي أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه. والمعنى: إنه سبحانه عالم بذلك، فلا يحتاج إلى إخباركم به. وهذا استفهام إنكار وتوبيخ، أي كيف تعلمون الله بدينكم (والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شئ عليم) لأن العالم لنفسه، يعلم المعلومات كلها بنفسه، فلا يحتاج إلى علم يعلم به، ولا إلى من يعلمه، كما أنه إذا كان قديما موجودا في الأزل لنفسه، استغنى عن موجد أوجده، وكانوا (1) يقولون آمنا بك من غير قتال، وقاتلك بنو فلان. فقال سبحانه: (يمنون عليك أن أسلموا) أي بأن أسلموا. والمعنى: أنهم يمنون عليك بالإسلام. (قل لا تمنوا علي إسلامكم) أي بإسلامكم (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) أي بان هداكم للإيمان، وأرشدكم إليه بأن نصب لكم من الأدلة عليه، وأزاح عللكم، ووفقكم له (إن كنتم صادقين) في ادعائكم الإيمان (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون) من طاعة ومعصية، وإيمان وكفر. (1) وفي بعض النسخ: كان هؤلاء. (*)
[ 233 ]
مكية واياتها خمس وأربعون قال الحسن: غير قوله: (ولقد خلقنا السماوات والأرض) إلى قوله: (وقبل الغروب) والمعدل عن ابن عباس: (ولقد خلقنا السماوات والأرض) " الأية وهي خمس وأربعون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة (ق) هون الله عليه تارات الموت وسكراته. أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع) قال: ومن أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق) وسع الله في رزقه، وأعطاه كتابه بيمينه، وحاسبه حسابا يسيرا. تفسيرها: لما ختم الله تلك السورة بذكر الإيمان وشرائطه للعبيد، افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به من القرآن وأدلة التوحيد، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (ق والقران المجيد (1) بل عجبوا أن جائهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب (2) أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جائهم فهم في أمر مريج (5)). ولم يعد ق آية، ولا نضير له من نون وصاد، لأنة مفرد. وكل مفرد فإنه لا يعد لبعده من شبه الجملة. فأما المركب مما أشبه الجملة، ووافق رؤوس الآي، فإنه
[ 234 ]
يعد مثل طه، وحم، آلم، وما أشبه ذلك. اللغة: المجيد: الكريم المعظم. والعظيم: المكرم. والمجد في كلامهم: الشرف الواسع. يقال: مجد الرجال، ومجد مجدا إذا عظم وكرم. وأصله من قولهم: مجدت الإبل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع وأمجد فلان القوم قرى، قال: أتيناه زوارا، فأمجدنا قرى من البث، والداء الدخيل المخامر (1) والعجيب والعجب هو كال ما لا يعرف علته ولا سببه. والمريج: المختلط المتلبس، وأصله: إرسال الشئ مع غيره من المرج. قال الشاعر: فجالت، فالتمست به حشاها فخر كأنه غصن مريج أي قد التبس بكثرة شعبه. ومرجت عهودهم، وأمرجوها أي خلطوها، ولم يفوا بها. الاعراب: جواب القسم في (ق والقرآن المجيد) محذوف، يدل عليه (إذا متنا وكنا ترابا) وتقديره: إنكم مبعوثون، فقال: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا. ويجوز أن يكون الجواب (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم)، وحذفت اللام لأن ما قبلها عوض منها كما قال: (والشمس وضحاها) إلى قوله: (قد أفلح من زكاها). والمعنى لقد أفلح. والعامل في (أإذا متنا) مضمر والتقدير: أإذا متنا بعثنا. المعنى: (ق) قد مر تفسيره. وقيل: إنه أسم من أسماء الله تعالى عن ابن عباس. وقيل: هو اسم الجبل المحيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منها، عن الضحاك وعكرمة. وقيل: معناه قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن، كما قيل في حم: حم الأمر (2) (والقران المجيد) أي الكريم على الله العظيم في نفسه، الكثير الخير والنفع، لتبعثن يوم القيامة. وقيل: تقديره والقرآن المجيد إن محمدا رسول الله (ص) بدلالة قوله: (1) أمجدنا قرى أي: آتانا ما كفى وفضل. وخامر الداء فلانا: خالط جوفه أي: وفدنا عليه فآتانا من بث الشكوى، وما به من الداء الدفين، ما كفانا وفضل. (2) حم الأمر بالبناء للمجهول أي: قضي. (*)
[ 235 ]
(بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) أي ما كذبك قومك، لأنك كاذب، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، وحسبوا أنه لا يوحى إلا إلى ملك. (فقال الكافرون هذا شئ عجيب) أي معجب. عجبوا من كون محمد (ص) رسولا إليهم، فأنكروا رسالته، وأنكروا البعث بعد الموت، وهو قوله: (أإذا متنا وكنا ترابا) أنبعث ونرد أحياء (ذلك) أي ذلك الرد الذي يقولون (رجع بعيد) أي رد بعيد عن الأوهام، وإعادة بعيدة عن الكون. والمعنى: إنه لا يكون ذلك، لأنه غير ممكن. ثم قال سبحانه: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم، وتبليه من عظامهم، فلا يتعذر علينا ردهم. (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لعدتهم وأسمائهم، وهو اللوح المحفوظ، لا يشذ عنه شئ. وقيل: حفيظ أي محفوظ عن البلى والدروس، وهو كتاب الحفضة الذين يكتبون أعمالهم. ثم أخبر سبحانه بتكذيبهم فقال: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) والحق: القرآن. وقيل: هو الرسول. (فهم في أمر مريج) أي مختلط. فمرة قالوا مجنون، وتارة قالوا ساحر، وتارة قالوا شاعر. فتحيروا في أمرهم (1) لجهلهم بحاله، ولم يثبتوا على شئ واحد. وقالوا للقرآن: إنه سحر مرة، وزجر (2) مرة، ومفترى مرة. فكان أمرهم ملتبسا عليهم. قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج (6) والأرض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مبركا فأنبتنا به جنت وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11) ) اللغة: الفروج: الشقوق والصدوع. وفي الحائط فرجة بضم الفاء، فإذا قيل: فرجة بفتح الفاء: فهو التفصي من الهم. قال: ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال (3) (1) وفي بعضها: أمره. (2) وفي المخطوطة: رجز. (3) مر البيت في ج 6. (*)
[ 236 ]
أي: رب شئ تكرهه النفوس. وما ههنا نكرة موصوفة. والفرج: موضع المخافة. وفي عهد الحجاج: (إني وليتك الفرجين) يعني: خراسان وسجستان. والحصيد: ما حصد من أنواع النبات. والباسقات: الطوال. وبسق النخل بسوقا. والطلع: طلع النخلة سمي بذلك لطلوعه. والنضيد: ما نضد بعضه على بعض. الاعراب: (كيف) يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون مصدرا (وما لها من فروج): في موضع نصب على الحال تقديره: غير مفروجة. و (الأرض): منصوبة بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر، وتقديره: ومددنا الأرض مددناها. (تبصرة): مفعول له، وكذلك (ذكرى)، (وحب الحصيد): تقديره وحب النبات الحصيد. و (الحصيد): صفة لموصوف محذوف. و (باسقات): نصب على الحال، وكذلك الجملة التي هي الها طلع نضيد (حال بعد حال. و (رزقا للعباد) مفعول له أي أنبتنا هذه الأشياء لرزق العباد. ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا. أعني المصدر، وتقديره: رزقناهم رزقا. المعنى: ثم أقام سبحانه الدلالة على كونه قادرا على البعث، فقال: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم) أي ألم يتفكروا في بناء السماء، مع عظمها، وحسن ترتيبها، وانتظامها (كيف بنيناها) بغير علاقة ولا عماد (وزيناها) بالكواكب السيارة، والنجوم الثوابت (وما لها من فروج) أي شقوق وفتوق. وقيل: معناه ليس فيها تفاوت واختلاف، عن الكسائي. وإنما قال: فوقهم بنيناها، على أنهم يرونها ويشاهدونها، ثم لا يتفكرون فيها. (والأرض مددناها) أي بسطناها (وألقينا فيها رواسي) أي جبالا رواسخ تمسكها عن الميدان (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن المنظر، عن ابن زيد. والبهجة: الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة، والأشجار النضرة، والرياض الخضرة. وقال الأخفش: البهيج الذي من رآه بهج به أي: سر به، فهو بمعنى المبهوج به. (تبصرة وذكرى) أي فعلنا ذلك تبصيرا، ليبصر به أمر الدين، وتذكيرا وتذكرا. (لكل عبد منيب " راجع إلى الله تعالى. (ونزلنا من السماء ماء مباركا " أي مطرا وغيثا يعظم النفع به (فأنبتنا به " أي بالماء (جنات) أي بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الفواكه المستلذة (وحب
[ 237 ]
الحصيد) أي حب البر والشعير، وكل ما يحصد، عن قتادة. لأن من شأنه أن يحصد إذا تكامل واستحصد، والحب هو الحصيد، فهو مثل: حق اليقين، ومسجد الجامع، ونحوهما. (والنخل باسقات) أي وأنبتنا به النخل طويلات عاليات (لها طلع نضيد) أي لهذه النخل الموصوفة بالعلو، طلع نضد بعضه على بعض، عن مجاهد وقتادة. والطلع: الكفرى وهو أول ما يظهر من ثمر النخل، قبل أن ينشق، وهو نضيد في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه، فليس بنضيد. (رزقا للعباد) أي أنبتنا هذه الأشياء للرزق، وكل رزق فهو من الله تعالى، بأن يكون قد فعله، أو فعل سببه، لأنه مما يريده. وقد يرزق الواحد منا غيره، كما يقال: رزق السلطان جنده. (وأحيينا به) أي بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء. (بلدة ميتا) أي جدبا وقحطا، لا تنبت شيئا، فنبتت وعاشت. ثم قال: (كذلك الخروج) من القبور أي: مثل ما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء، نحي الموتى يوم القيامة، فيخرجون من قبورهم، فإن من قدر على أحدهما قدر على الآخر، وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء من حيث إنهم رأوا العادة مستمرة في إحياء الموات من الأرض بنزول المطر، ولم تجر العادة بإحياء الموتى من البشر، ولو أنعموا الفكر، وأمعنوا النظر، لعلموا أن من قدر على أحد الأمرين، قدر على الآخر. (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد (15) ولقد خلقنا الأنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذيتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد (18) وجإت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20)). القراءة: في الشواذ قراءة أبي بكر عند خروج نفسه: (وجاءت سكرة الحق بالموت) وهي قراءة سعيد بن جبير، وطلحة، ورواها أصحابنا عن أئمة الهدى عليهم السلام.
[ 238 ]
الحجة: قال ابن جني: لك في الباء ضربان من التقدير: إن شئت علقتها بنفس جاءت كقولك جئت بزيد أي: أحضرته. وإن شئت علقتها بمحذوف، وجعلتها حالا أي: وجاءت سكرة الحق ومعها الموت، كقولك خرج بثيابه أي وثيابه عليه. ومثله قوله: (فخرج على قومه في زينته) أي وزينته عليه، وكقول أبي ذؤيب يعثرن في حد الظباة، كأنما كسيت برود بني يزيد الأذرع (1) أي: يعثرن وهن في حد الظباة. وكقول الآخر: ومستنة كاستنان الخروف، وقد قطع الحبل بالمرود (2) أي قطعه وفيه مروده. وكذلك قراءة العامة (وجاءت سكرة الموت بالحق): إن شئت علقت الباء بنفس جاءت. وإن شئت علقتها بمحذوف (3): وجاءت سكرة الموت ومعها الحق. اللغة: يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه، وتعذر ذلك عليك. وأعييت إذا تعبت. وكل ذلك من التعب، إلا أن أحدهما في الطلب، والآخر فيما وقع الفراغ عنه. والوريد: عرق في الحلق، وهما وريدان في العنق، عن يمين وشمال، وكأنه العرق الذي يرد إليه ما ينصب من الرأس. وحبل الوريد: حبل العاتق، وهو منفصل من الحلق إلى العاتق. والرقيب: الحافظ. والعتيد: المعد للزوم الأمر. المعنى: ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة تسلية للنبي صلى الله عليه واله وتهديدا للكفار، فقال: (كذبت قبلهم) من الأمم الماضية (قوم نوح) فأغرقهم الله (وأصحاب الرس) وهم أصحاب البئر التي رسوا نبيهم فيها، بعد أن قتلوه، عن عكرمة. وقيل: الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين، عن الضحاك. وقيل: هم قوم كانوا (1) الظبة: حد السيف، أو السنان، ونحوه. والمراد بحد الظبات: المضارب بأسرها، يقول: إن بقر الوحش أيضا لا تنجو من الموت، فيعثرن وهن في حد الظبات من السيف، بجرح الصياد إياهن، فتحمر أذرعهن من الدم، كبرود بني يزيد (وهي برود فيها خطوط حمر) وقد مر البيت أيضا. (2) المرود: حديدة توتد في الأرض يشد فيها حبل الدابة وقد مر البيت في ج 3. (بمعنى). (*)
[ 239 ]
باليمامة على آبار لهم، عن قتادة. وقيل: هم أصحاب الاخدود. وقيل: كان سحق النساء في أصحاب الرس. وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع) (وثمود) وهم قوم صالح (وعاد) وهم قوم هود (وفرعون وإخوان لوط) أي وكذب فرعون موسى، وقوم لوط لوطا، وسماهم إخوانه لكونهم من نسبه. (وأصحاب الأيكة) وهم قوم شعيب (وقوم تبع) وهم تبع الحميري الذي ذكرناه عند قوله (أهم خير أم قوم تبع). (كل) من هؤلاء المذكورين (كذب الرسل) المبعوثة إليهم، وجحدوا نبوتهم (فحق وعيد) أي وجب عليهم عذابي الذي أوعدتهم به. فإذا كان مآل الأمم الخالية، إذ كذبوا الرسل، الهلاك والدمار، وإنكم معاشر العرب قد سلكتم مسالكهم في التكذيب والإنكار، فحالكم كحالهم في التباب والخسار. ثم قال سبحانه جوابا لقولهم: (ذلك رجع بعيد): (أفعيينا بالخلق الأول) أي أفعجزنا حين خلقناهم أولا، ولم يكونوا شيئا، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم. وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بان الله هو الخالق، ثم أنكروا البعث. ويقال لكل من عجز عن شئ: عيي به. ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت، فقال: (بل هم في لبس من خلق جديد) أي بل هم في ضلال وشك من إعادة الخلق جديدا. واللبس: منع من ادراك المعنى بما هو كالستر له. والجديد: القريب الإنشاء. (ولقد خلقنا الإنسان) أراد به الجنس يعني ابن آدم (ونعلم ما توسوس به نفسه) أي ما يحدث به قلبه، وما يخفي ويكن في نفسه، ولا يظهره لأحد من المخلوقين. (ونحن أقرب إليه) بالعلم (من حبل الوريد) وهو عرق يتفرق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه. وقيل: هو عرق الحلق، عن أبن عباس ومجاهد. وقيل: هو عرق متعلق بالقلب يعني نحن أقرب إليه من قلبه، عن الحسن. وقيل: معناه نحن أعلم به ممن كان منه بمنزلة حبل الوريد في القرب. وقيل معناه: نحن أملك له من حبل وريده مع استيلائه عليه، وقربه منه. وقيل: معناه نحن أقرب إليه بالإدراك من حبل الوريد، لو كان مدركا. ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يحفظان عليه عمله، إلزاما لنحجة فقال: (إذ يتلقى المتلقيان) فإذ متعلقة بقوله (ونحن أقرب إليه) أي ونحن أعلم به، وأملك له، حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان يأخذان منه عمله،
[ 240 ]
فيكتبانه كما يكتب المملى عليه (عن اليمين وعن الشمال قعيد) أراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر. والمراد بالقعيد هنا: الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم. وقيل: عن اليمين كاتب الحسنات، وعن الشمال كاتب السيئات، عن الحسن ومجاهد. وقيل: الحفظة أربعة ملكان بالنهار، وملكان بالليل، عن الحسن. (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) أي ما يتكلم بكلام فيلفظه أي: يرميه من فيه إلا لديه حافظ حاضر معه، يعني الملك الموكل به. إما صاحب اليمين، وإما صاحب الشمال، يحفظ عمله، لا يغيب عنه. والهاء في (لديه): تعود إلى القول، أو إلى القائل. وعن أبي إمامة عن النبي (ص) قال: إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، أو المسئ، فإن ندم واستغفر الله منها، ألقاها، ولا كتب واحدة). وفي رواية اخرى قال: " صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شئ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيئة واحدة ". وعن انس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): " إن الله تعالى وكل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا: يا رب قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين ؟ قال: سمائي مملؤة بملائكتي يعبدونني، وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني، إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني، وكبراني، وهللاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ". (وجاءت سكرة الموت بالحق) أي جاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان، وتغلب على عقله بالحق أي أمر الاخرة حتى عرفه صاحبه، واضطر إليه. وقيل: معناه جاءت سكرة الموت بالحق الذي هو الموت، قال مقاتل: يعني إنه حق كائن. والمراد: إن هذه السكرة قد قربت منكم فاستعدوا لها، فهي لقربها كالحاصلة، مثل قوله تعالى: (أتى أمر الله). وروي أن عائشة قالت عند وفاة أبي بكر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت (1) يوما، وضاق بها الصدر (1) حشرج حشرجة: غرغر عند الموت، وتردد نفسه. (*)
[ 241 ]
فقال أبو بكر: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله تعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق). ويقال لمن جاءته سكرة الموت (ذلك) أي ذلك الموت (ما كنت منه تحيد) أي تهرب وتميل (ونفخ في الصور) قد مر تفسيره (ذلك يوم الوعيد) أي ذلك اليوم يوم وقوع الوعيد الذي خوف الله به عباده، ليستعدوا ويقدموا العمل الصالح له. (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فصبرك اليوم حديد (22) وقال قرينه هذا ما لدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذي جعل مع الله الها أخر فالقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا ما اطغيته، ولكن كان في ظلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت اليكم با لوعيد (28) ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد (29) يوم نقول لجهنم هل أمتلائتي وتقول هل من مزيد (30)) القراءة: قرأ نافع وأبو بكر: (يوم يقول) بالياء. والباقون بالنون. الحجة: الياء على معنى: يقول الله تعالى. والنون أشبه بقوله (قد قدمت إليكم بالوعيد)، وقوله: (وما أنا بظلام للعبيد). اللغة: السوق: الحث على السير. والحديد الحاد مثل الحفيظ والحافظ. والعنيد: الجائر عن القصد، وهو العنود والعاند. وناقة عنود: لا تستقيم في سيرها. والعنيد: المتحير (1) منه. الاعراب: (هذا ما لدي عتيد): ما ههنا نكرة موصوفة، وتقديره هذا شئ ثابت لدي عتيد. فالظرف صفة لما، وكذلك عتيد. (جهنم): لا ينصرف للتعريف والتانيث، وأصله من قولهم: بئر جهنام: إذا كانت بعيدة إلقعر. وقيل: هو أعجمي فلا ينصرف للتعريف والعجمة. وقوله: (القيا في جهنم) قيل فيه أقوال أحدها: إن العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الإثنان، يقول للرجل الواحد: قوما واخرجا. (1) وفي نسخة: المتجبر. (*)
[ 242 ]
ويحكى عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسي إضربا عنقه. يريد اضرب. قال الفراء: سمعت من العرب من يقول: ويلك ارحلاها، وأنشدني بعضهم: فقلت لصاحبي: لا تحبسانا بنزع أصوله، واجتز شيحا (2) وأنشدني أبو ثروان: فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر، وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا (2) قال: وترى أن ذلك منهم لأجل أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شئ قيلا: يا صاحبي ويا خليلي. قال امرؤ القيس: خليلي ! مرابي على أم جندب، لنقضي حاجات الفؤاد المعذب فإنكما إن تنظراني ليلة، من الدهر تنفعني، لدي أم جندب ثم قال: ألم تراني كلما جئت طارقا، وجدت بها طيبا، وإن لم تطيب فرجع إلى الواحد، لأن أول الكلام واحد في لفظ الإثنين، وأنشد أيضا: خليل ! قوما في عطالة فانظرا، انارا ترى من نحو ما بين ولم يقل (3) تريا. والثاني: إنه إنما ثنى ليدل على التكثير، كانه قال: ألق ألق فثنى الضمير ليدل على تكرير الفعل. وهذا لشدة ارتباط الفاعل بالفعل، حتى إذا كرر أحدهما، فكان الثاني كرر، وهذا قول المازني، ومثله عنده قال: (رب ارجعون) إنما جمع ليدل على التكرير، كأنه قال: أرجعني، أرجعني، أرجعني، وحمل عليه قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) ونحو ذلك أي: كأنه قال: قف، قف. والثالث: إن الأمر تناول السائق والشهيد، فكأنه قال: يا (1) الشيح: نبات كثير الأنواع، طيب الرائحة، يقوي طبخ اللحم سريعا، ولاتحبسنا بقلع أصول الاشجار للشئ حتى يطول المكث بل اجتز الشيح واشو به. (2) الممنع: الممنوع شدد للمبالغة. (3) عطالة: جبل منيف بالسودة من ديارات بني سعد. وفي اللسان " أنارا ترى من ذي أبانين أم برقا ". وبين: أسم موضع. (*)
[ 243 ]
أيها السائق، ويا أيها الشهيد ألقيا والرابع: إنه يريد النون الخفيفة، فكان ألقين. فاجرى الوصل مجرى الوقف، فأبدل من النون ألفا، كما قال الأعشى: وذا النسك المنصوب لا تنسكنه، ولا تعبد الشيطان، والله فاعبدا (1) ويؤيد هذا القول ما روي عن الحسن أنه قرأ: (ألقيا) بالتنوين. (الذي جعل مع الله إتها آخر): إن كان مبتدا فخبره قوله (فألقياه) ويجوز أن يكون نصبا بمضمر يفسره (فألقياه). ويجوز أن يكون نصبا بدلا من قوله (كل كفار). ولا يجوز أن يكون جرا صفة لكفار، لأن النكرة لا توصف بالموصول، إنما الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث، فقال: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) أي وتجئ كل نفس من المكلفين في يوم الوعيد، ومعها سائق من الملائكة يسوقها أي يحثها على السير إلى الحساب، وشهيد من الملائكة يشهد عليها بما يعلم من حالها، وشاهده منها وكتبه عليها، فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلا. وقيل: السائق من الملائكة، والشهيد الجوارح تشهد عليها، عن الضحاك. (لقد كنت في غفلة) أي يقال له: لقد كنت في سهو ونسيان (من هذا) اليوم في الدنيا. والنفلة: ذهاب المعنى عن النفس (فكشفنا عنك غطاءك) الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك، حتى ظهر لك الأمر. وإنما تظهر الأمور في الأخرة بما يخلق الله تعالى من العلوم الضرورية فيهم، فيصير بمنزلة كشف الغطاء لما يرى. وإنما يراد به جميع المكلفين برهم وفاجرهم، لأن معارف الجميع ضرورية (فبصرك اليوم حديد) أي فعينك اليوم حادة النظر، لا يدخل عليها شك ولا شبهة. وقيل: معناه فعلمك بما كنت فيه من أحوال الدنيا نافذ، ولا يراد به بصر العين، كما يقال: فلان بصير بالنحو والفقه. وقيل: هو خاص في الكافر أي: فأنت اليوم عالم بما كنت تنكره في الدنيا، عن ابن عباس. (وقال قرينه) يعني الملك الشهيد عليه، عن الحسن، وهو المروي عن أبي (هامش) * (1) قد مر البيت في ج 1. (*)
[ 244 ]
جعفر، وأبي عبد الله (ع). وقيل: قرينه الذي قيض له من الشياطين، عن مجاهد. وقيل: قرينه من الإنس (هذا ما لدي عتيد) إن كان المراد به الملك الشهيد، فمعناه: هذا حسابه حاضر لدي في هذا الكتاب أي: يقول لربه: كنت وكلتني به، فما كتبت من عمله حاضر عندي. وإن كان المراد به الشيطان، أو القرين، من الإنس، فالمعنى: هذا العذاب حاضر عندي، معد لي بسبب سيئاتي. (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) هذا خطاب لخازن النار. وقيل: خطاب للملكين الموكلين به، وهما السائق والشهيد، عن الزجاج، وقد ذكرنا ما قيل فيه. وروى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش أنه قال: حدثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): " إذا كان يوم القيامة، يقول الله تعالى لي ولعلي: ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا الجنة من أحبكما، وذلك قوله (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) ". والعنيد الذاهب عن الحق وسبيل الرشد. (مناع للخير) الذي أمر الله به من بذل المال في وجوهه (معتد) ظالم متجاوز، يتعدى حدود الله (مريب) أي شاك في الله، وفيما جاء من عند الله. وقيل: متهم يفعل ما يرتاب بفعله، ويظن به غير الجميل، مثل المليم الذي يفعل ما يلام عليه. وقيل: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة، حين استشاره بنو أخيه في الإسلام فمنعهم. فيكون المراد بالخير الإسلام (الذي جعل مع الله إلها آخر " من الأصنام والأوثان (فألقياه في العذاب الشديد) هذا تأكيد للأول، فكأنه قال: افعلا ما أمرتكما به، فإنه مستحق لذلك (قال قرينه) أي شيطانه الذي أغواه، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وإنما سمى قرينه، لأنه يقرن به في العذاب. وقيل: قرينه من الإنس، وهم علماء السوء والمتبوعون. (ربنا ما أطغيته) أي ما أضللته، وما أوقعته في الطغيان باستكراه أي: لم أجعله طاغيا (ولكن كان في ضلال) من الإيمان (بعيد) أي ولكنه طغى باختياره السوء. ومثل هذا قوله: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) (قال) الله تعالى لهم (لا تختصموا لدي) أي لا يخاصم بعضكم بعضا عندي (وقد قدمت إليكم بالوعيد) في دار التكليف، ولم تنزجروا، وخالفتم أمري (ما يبدل القول لدي) المعنى: إن الذي قدمته لكم في دار الدنيا من أني أعاقب من
[ 245 ]
جحدني، وكذب رسلي، وخالفني في أمري، لا يبل بغيره، ولا يكون خلافه. (وما أنا بظلام للعبيد) أي لست بظالم أحدا في عقابي لمن استحقه، بل هو الظالم لنفسه بارتكابه المعاصي التي استحق بها ذلك. وإنما قال بظلام على وجه المبالغة ردا على من أضاف الظلم إليه تعالى، وتقدس عن ذلك (يوم نقول لجهنم هل امتلأت) يتعلق يوم بقوله (ما يبدل القول لدي) الآية. وقيل يتعلق بتقدير: اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يقول الله فيه لجهنم: هل امتلأت من كثرة ما ألقي فيك من العصاة. (وتقول) جهنم (هل من مزيد) قال أنس: طلبت الزيادة. وقال مجاهد: المعنى معنى الكفاية أي: لم يبق مزيد لامتلائها، ويدل على هذا القول قوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقيل في الوجه الأول: إن هذا القول كان منها قبل دخول جميع أهل النار فيها. ويجوز أن تكون تطلب الزيادة على أن يزاد في سعتها، كما عن النبي (ص) أنه قيل له يوم فتح مكة: ألا تنزل دارك ؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار ! لأنه كان قد باع دور بني هاشم، لما خرجوا إلى المدينة. فعلى هذا يكون المعنى: وهل بقي زيادة ؟ فأما الوجه في كلام جهنم فقيل فيه وجوه أحدها: إنه خرج مخرج المثل أي: إن جهنم من سعتها وعظمتها بمنزلة الناطقة التي إذا قيل لها هل امتلأت تقول لم أمتلئ، وبقي في سعة كثيرة، ومثله قوله عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه، وشكا إلي بعبرة، وتحمحم (1) وقال آخر: امتلأ الحوض، وقال: قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني (2) وثانيها: إنه سبحانه يخلق لجهنم آلة الكلام، فتتكلم. وهذا غير منكر، لأن من أنطق الأيدي والجوارح والجلود، قادر على أن ينطق جهنم وثالثها: إنه خطاب لخزنة جهنم على وجه التقرير لهم، هل امتلأت جهنم فيقولون: بلى لم يبق موضع ؟ لمزيد، ليعلم الخلق صدق وعده، عن الحسن، قال: ومعناه ما من مزيد أي: لا مزيد، كقوله: (هل من خالق غير الله " وهو قول واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد. (1) مرالبيت في ج 6. (2) مر البيت أيضا في ج 1. (*)
[ 246 ]
(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلم ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلد هل من محيص (36) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فأصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن اليل فسبحه وأدبر السجود (40) القراءة: قرأ أهل الحجاز وحمزة وخلف: (وإدبار) بكسر الهمزة. والباقون: (وأدبار السجود) بالفتح. وفي الشواذ قراءة ابن عباس، وأبي العالية، ويحيى بن يعمر: (فنقبوا في البلاد) بكسر القاف. وقراءة السدي: (وألقى السمع) وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي وطلحة: (وما مسنا من لغوب) بفتح اللام. الحجة: قال أبو علي: إدبار مصدر، والمصادر تجعل ظروفا على إرادة إضافة أسماء الزمان إليها، وحذفها كقولك: جئتك مقدم الحاج، وخفوق النجم وخلافة فلان، تريد في ذلك كله وقت كذا. فكذلك يقدر هنا وقت إدبار السجود. إلا أن المضاف المحذوف في هذأ الباب لا يكاد يظهر، ولا يستعمل. فهذا أدخل في باب الظروف من قول من فتح، فكأنه أمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة. ومن فتح جعله جمع دبر أو دبر. مثل قفل وأقفال، وطنب وأطناب. وقد استعمل ذلك ظرفا نحو: جئتك في دبر الصلاة، وفي أدبار الصلاة. قال أوس بن حجر: على دبر الشهر الحرام بأرضنا، وما حولها جدب، سنون تلمع (1) وأما من قرأ (فنقبوا) فقد قال ابن جني: إنه فعلوا من النقب أي: أدخلوا وغوروا في الأرض، فإنكم لا تجدون لكم محيصا. وقوله: (أو ألقى السمع) معناه: أو ألقى السمع منه. وقرله: (وما مسنا من لغوب): فيمكن أن يكون من (1) تلمعت السنة كما قيل: عام أبقع أي: فيه خصب وجدب. (*)
[ 247 ]
المصادر التي جاءت على فعول بفتح الفاء، كالوضوء والولوغ والوزوع والقبول، وهي صفات مصادر محذوفة أي: توضأت وضوءا أي: وضؤا (1) حسنا، وكذلك هذا أي: وما مسنا من لغوب لغوب أي: تعب متعب. اللغة: الإزلاف: التقريب إلى الخير، ومنه الزلفة والزلفى. وازدلف إليه أي: اقترب. والمزدلفة: منزلة قريبة من الموقف، وهو المشعر وجمع، ومنه قول الراجز: ناج طواه الأين مما أوجفا، طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا (2) والتنقيب: التفتيح بما يصلح للسلوك، وهو من النقب الذي هو الفتح. قال امرؤ القيس: لقد نقبت في الأفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب أي: طوفت في طرقها، وسرت في نقوبها. واللغوب: الإعياء. الاعراب: (غير بعيد): صفة مصدر محذوف، تقديره إزلافا غير بعيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من الجنة. ولم يقل غير بعيدة، لأنه في تقدير النسب أي: غير ذات بعد. وقوله (لكل أواب ": يجوز أن يكون في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو لكل أواب. ولا يجوز أن يكون خبرأ بعد خبر، تقديره: هذا الموعود هذا لكل أواب حفيظ. ولا يجوز أن تتعلق اللام بتوعدون، لأن الأوابين هم الموعودون، لا الموعود لهم. (من خشي الرحمن): يجوز أن يكون في محل جر على البدل من أواب. فيتم الكلام عند قوله: (وجاء بقلب منيب ". ويجوز أن يكون مبتدا، وخبره محذوف على تقدير: يقال لهم ادخلوها. فعلى هذا يكون تمام الكلام عند قوله: الكل أواب حفيظ). ويقتضي أن يكون ادخلوها خطابا للمتقين، وتقديره: وتزلف الجنة للمتقين، ويقال لهم ادخلوها بسلام. (1) في بعض النسخ: وضوء وضوءا حسنا. (2) ناج: البعير السريع ينجو بمن ركبها. والأين: الإعياء وما في مما أوجفا مصدرية أي: من إيجافه، وهو اعدائه. وسماوة الهلاك أي: شخصه. واحقوقف الهلال: اعوج وكل ما طال واعوج فقد أحقوقف، كظهر البعير، وشخص القمر. وقد مر البيت في ج 5. (*)
[ 248 ]
المعنى: لما أخبر سبحانه عما أعده للكافرين والعصاة، عقبه بذكر ما أعده للمتقين فقال: (وأزلفت الجنة للمتقين) أي: قربت الجنة، وأدنيت للذين اتقوا الشرك والمعاصي حتى يروا ما فيها من النعيم. والجنة هي البستان الذي يجمع كل لذة من الأنهار والأشجار وطيب الثمار ومن الأزواج الكرام، والحور الحسان، والخدم من الولدان، ومن الأبنية الفاخرة المزينة بالياقوت والزمرد والعقيان، نسأل الله التوفيق لما يقرب من رضاه (غير بعيد) أي هي قريبة منهم، لا يلحقهم ضرر، ولا مشقة في الوصول إليها. وقيل: معناه ليس ببعيد مجئ ذلك، لأن كل آت قريب، ومثله قول الحسن: كأنك بالدنيا كان لم تكن، وبالاخرة كأن لم تزل. (هذا ما توعدون) أي هذا الذي ذكرناه، هو ما وعدتم به من الثواب على ألسنة الرسل (لكل أواب) أي تواب رجاع إلى الطاعة، عن الضحاك وابن زيد. وقيل: لكل مسبح عن ابن عباس وعطاء. (حفيظ) لما أمر الله به متحفظ من الخروج إلى ما لا يجوز من سيئة تدنسه، أو خطيئة تحط منه وتشينه. (من خشي الرحمن بالغيب) أي هو من خاف الله وأطاعه، وآمن بثوابه وعقابه، ولم يره. وقيل بالغيب أي: في الخلوة بحيث لا يراه أحد، عن الضحاك والسدي. (وجاء بقلب منيب) أي: ودام على ذلك حتى وافى الاخرة بقلب مقبل على طاعة الله، راجع إلى الله بضمائره. (ادخلوها بسلام) أي يقال لهم ادخلوا الجنة بأمان من كل مكروه، وسلامة من كل آفة. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم (ذلك يوم الخلود) الوقت الذي يبقون فيه في النعيم مؤبدين، لا إلى غاية إلهم ما يشاؤون فيها) أي لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم، ويريدونه من أنواع النعم (ولدينا مزيد) أي: وعندنا زيادة على ما يشاؤونه مما لم يخطر ببالهم، ولم تبلغهم أمانيهم. وقيل: هو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم. ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء من القرون الذين كذبوا رسلهم (هم أشد منهم بطشا) أي الذين أهلكناهم كانوا أشد قوة من هؤلاء، وأكثر عدة وعدة (1)، ولم يتعذر علينا ذلك، فما (1) في المخطوطة: مدة بدل عدة. (*)
[ 249 ]
الذي يؤمن هؤلاء من مثله (فنقبوا في البلاد) أي فتحوا المسالك في البلاد بشدة بطشهم. أصله من النقب وهو الطريق. وقيل: معناه ساروا في البلاد، وطوفوا فيها بقوتهم، وسلكوا كل طريق، وسافروا في أعمال طويلة. (هل من محيص) أي هل من محيد عن الموت، ومنجى من الهلاك. يعني: لم يجدوا في جميع ذلك من الموت والهلاك منجى ومهربا (إن في ذلك) أي فيما أخبرته وقصصته (لذكرى) أي ما يعتبر به ويتفكر فيه (لمن كان له قلب) معنى القلب هنا العقل، عن ابن عباس، من قولهم: أين ذهب قلبك ؟ وفلان قلبه معه. وإنما قال ذلك، لأن من لا يعي الذكر، لا يعتد بما له من القلب. وقيل: لمن كان له قلب حي، عن قتادة. (أو ألقى السمع وهو شهيد) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، وهو شهيد لما يسمع، فيفقهه غير غافل عنه ولا ساه، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك. يقال: ألق إلي سمعك أي إسمع. قال ابن عباس: كان المنافقون يجلسون عند رسول الله (ص)، ثم يخرجون فيقولون: ماذا قال آنفا (1) ؟ ليس قلوبهم معهم. وقيل: هو شهيد على صفة النبي في الكتب السالفة، يريد أهل الكتاب، عن قتادة. في ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) أي نصب وتعب. أكذب الله تعالى بهذا اليهود، فإنهم قالوا: استراح الله يوم السبت، فلذلك لاتعمل (2) فيه شيئا. (فاصبر على ما يقولون) يا محمد من بهتهم وكذبهم، وقولهم إنك ساحر أو مجنون، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج. وهذا قبل أن أمر الله بالقتال (وسبح بحمد ربك) أي وصل واحمد الله تعالى. سمى الصلاة تسبيحا، لأن الصلاة تشتمل على التسبيح والتحميد، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقيل: أراد به التسبيح بالقول تنزيها لله تعالى عما لا يليق به. (قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) يعني صلاة الفجر، وصلاة الظهر والعصر، عن قتادة وابن زيد (ومن الليل فسبحه) يعني المغرب والعشاء الأخرة. وقيل: ومن الليل يعني صلاة الليل، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء، عن مجاهد. وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن قوله: (1) فيها أيضا (أي). (2) وفي بعض النسخ: لا نعمل. (*)
[ 250 ]
(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) فقال: تقول حين تصبح، وحين تمسي عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شئ قدير. (وأدبار السجود) فيه أقوال أحدها: إن المراد به الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر، عن علي بن أبي طالب (ع)، والحسن بن علي (ع)، والحسن والشعبي، وعن ابن عباس مرفوعا إلى النبي (ص). وثانيها: إنه التسبيح بعد كل صلاة، عن ابن عباس ومجاهد وثالثها: إنه النوافل بعد المفروضات، عن ابن زيد والجبائي ورابعها: إنه الوتر من آخر الليل، روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. (واستمع يوم ينادي المناد من مكن قريب (41) يوم يسمعون الصحيفة بالحق ذلك يوم الخروج (42) إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير (43) يوم تشقق الآرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد (45). الاعراب: (واستمع يوم ينادي المنادي) تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي. فحذف المضاف وهو مفعول به، وليس بالظرف. و (يوم يسمعون): بدل من يوم ينادي المنادي وكذلك (يوم تشقق الأرض). ويجوز أن ينتصب (يوم تشقق) بقوله (وإلينا المصير) أي يصيرون إلينا في ذلك اليوم. المعنى: ثم قال سبحانه لنبيه (ص)، والمراد به جميع المكلفين: (واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب) أي إصغ إلى النداء وتوقعه، يعني: صيحة القيامة والبعث والنشور، ينادي بها المنادي، وهي النفخة الثانية. ويجوز أن يكون المراد: واستمع ذكر حالهم، يوم ينادي المنادي. وقيل: إنه ينادي مناد من صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة ! قومي لفصل القضاء، وما أعد الله لكم من الجزاء، عن قتادة. وقيل: إن المنادي هو إسرافيل، يقول: يا معشر الخلائق ! قوموا للحساب، عن مقاتل. وإنما قال (من
[ 251 ]
مكان قريب) لأنه يسمعه الخلائق كلهم على حد واحد، فلا يخفى على أحد قريب ولا بعيد، فكأنهم نودوا من مكان يقرب منهم. (يوم يسمعون الصيحة بالحق) والصيحة: المرة الواحدة من الصوت الشديد. وهذه الصيحة (1) هي النفخة الثانية. وقوله (بالحق) أي بالبعث، عن الكلبي. وقيل: يعني أنها كائنة حقا، عن مقاتل. (ذلك يوم الخروج) من القبور إلى أرض الموقف. وقيل: هو اسم من أسماء القيامة، عن أبي عبيدة، واستشهد بقول ا لشاعر: أليس يوم سمي الخروجا أعظم يوم رجة رجوجا (إنا نحن نحي ونميت) أخبر سبحانه عن نفسه أنه هو الذي يحعي الخلق بعد أن كانوا جمادأ أمواتا، ثم يميتهم بعد أن كانوا أحياء، ثم يحييهم يوم القيامة، وهو قوله: (وإلينا المصير يوم تشقق) أي تتشقق (الأرض عنهم) تتصدع، فيخرجون منها (سراعا) يسرعون إلى الداعي بلا تأخير (ذلك حشر) والحشر الجمع بالسوق من كل جهة (علينا يسير) أي سهل علينا غير شاق، هين غير متعذر، مع تباعد ديارهم وقبورهم. ثم عزى سبحانه نبيه (ص) فقال: (نحن أعلم بما يقولون) أي بما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك، وجحود نبوتك، وإنكار البعث لا يخفى علينا من أمرهم شئ (وما أنت عليهم بجبار) أي بمسلط قادر على قلوبهم، فتجبرهم على الإيمان، وإنما بعثت منذرا داعيا مرغبا، وهذا معنى قول ابن عباس. تغلب: جاءت أحرف على فعال بمعنى مفعل، مثل دراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وسيف سقاط بمعنى مسقط، وبكاء بمعنى مبكي. قال علي بن عيسى: لم يسمع من ذلك إلا دراك من أدركت. وقيل: جبار من جبرته على الأمر بمعنى أجبرته، وهي لغة كنانة. وقيل: معناه ما أنت عليهم بفظ غليظ، لا تحلم عنهم فاحتمل أذاهم (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " إنما خص بالذكر من يخاف وعيد الله، لأنه الذي ينتفع به. (1) وفي نسخة: من النفخة الثانية. (*)
[ 252 ]
عدد آيها: ستون آية بالاجماع. فضلها: أبي بن كعب، عن النبي (ص) (من قرأ سورة الذاريات (1) أعطي من ألاجر عشر حسنات، بعدد كل ريح هبت، وجرت في الدنيا) وروى داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ سورة الذاريات في يومه أو ليلته، أصلح الله له معيشته، وأتاه برزق واسع، ونور له في قبره (2) بسراج يزهر إلى يوم القيامة. تفسيرها: لما ختم الله تعالى سورة ق بالوعيد، افتتح هذه السورة بتحقيق الوعيد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والذاريت ذروا (1) فالحملت وقرا (2) فالجريت يسرا (3) فالمقسمت أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6) والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفى قول مختلف (8). يؤفك عنه من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيآن يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا هذا الذى كنتم به تستعجلون (14)). اللغة: ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا طيرته، وأذرته تذريه بمعناه. والحبك: الطرائق التي تجري على الشئ، كالطرائق التي ترى في السماء، وفي (1) وفي بعض النسخ: في يومه وليلته. (2) وفي المخطوطة: ونور له قبره. (*)
[ 253 ]
الصافي من الماء، إذا مرت عليه الريح، وهو تكسر جار فيه. ويفال للشعر الجعد: حبك، والواحد حباك وحبيكة. والحبك: حسن أثر الصنعة في الشئ واستواؤه، يقال: حبكه يحبكه ويحبكه. قال زهير في الحبك: مكلل بأصول النجم، تنسجه ريح خريق، لضاحي مائه حبك (1) والخراص: الكذاب. والخرص: الظن والحدس، وسمي الحزر (2) حرصا منه، ويقال: كم خرص أرضك بكسر الخاء. وأصل الخرص: القطع، من قولهم: خرص فلان كلاما واخترصه: إذا اقتطعه من غير أصل. والغمرة: من غمره الماء يغمره، وغمره الدين: إذا غطاه بكثرته. والغمر: السيد الكثير العطاء، لأنه يغمر بعطائه. الاعراب: قال الزجاج: (يوم) نصب على وجهين أحدهما: أن يكون على معنى يقع الجزاء يومهم على النار يفتنون. والأخر: أن يكون لفظه لفظ نصب، ومعناه معنى رفع، لأنه مضاف إلى جملة كلام. تقول: يعجبني يوم أنت قائم، ويوم أنت تقوم. إن شئت فتحته، وإن شئت رفعته، كما قال الشاعر: لم يمنع الشراب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال (3) وروي (غير أن نطقت) بالرفع لما أضاف غير إلى أن وليست بمتمكنة فتح، وكذلك لما أضاف يوم إلى الجملة فتح. كما قرئ (من خزي يومئذ) ففتح يوم، وهو في موضع خفض، لأنك أضفته إلى غير متمكن. وقيل: إنه لما جرى في كلامهم ظرفا، بقي في موضع الرفع على ذلك الإستعمال وجاء مفتوحا كما جاء في. قوله: (ومنا دون ذلك) وقوله (لقد تقطع بينكم). المعنى: (والذاريات ذروا) روي أن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين عليا (ع) وهو يخطب على المنبر، فقال: ما الذاريات ذروا ؟ قال: الرياح. قال: (1) كلل فلانا: ألبسه الإكليل. والنجم: النبات. والخريق: الريح الباردة الشديدة الهبابة. والضاحي ؟ البارز الظاهر، يصف روضة. (2) حزره أي: قدره بظن. (3) الوقل: أصول السعف التي لم تستقص، فبقيت بارزة في الجذع، فأمكن المرتقي أن يرتقي فيها. (*)
[ 254 ]
(فالحاملات وقرا) ؟ قال: السحاب. قال: (فالجاريات يسرا) قال: السفن. قال: (فالمقسمات أمرا) قال: الملائكة. وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. فالذاريات: الرياح تذرو التراب، وهشيم النبت أي تفرقه. (فالحاملات وقرا) السحاب: تحمل ثقلا من الماء من بلد إلى بلد، فتصير موقرة به. والوقر بالكسر: ثقل الحمل على ظهر، أو في (1) بطن. والوقر: ثقل الأذن (فالجاريات يسرا) السفن تجري ميسرة على الماء جريا سهلا إلى حيث سيرت. وقيل: هي السحاب تجري يسرا إلى حيث سيرها الله من البقاع. وقيل: هي النجوم السبعة السيارة: الشمس، والقمر، وزحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد. (فالمقسمات أمرا) الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به. أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لكثرة ما فيها من المنافع للعباد، ولما تتضمنه من الدلالة على وحدانية الله تعالى، وبدائع صنعه. وقيل: إن التقدير فيها القسم برب هذه الأشياء، لأنه لا يجوز القسم إلا بالله، عز اسمه. وقال أبو جعفر، وأبو عبد الله (ع): إنه لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى. والله سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه. ثم ذكر المقسم عليه فقال: (إنما توعدون) أي من الثواب والعقاب، والجنة والنار (لصادق) أي صدق لا بد من كونه، فهو اسم وضع موضع المصدر. وقيل: معناه ذو صدق كقوله (عيشة راضية). (وإن الدين لواقع) أي إن الجزاء وقيل: إن الحساب لكائن يوم القيامة. ثم أنشأ قسما آخر فقال: (والسماء ذات الحبك) أي ذات الطرائق الحسنة، لكنا لا نرى تلك الحبك لبعدها عنا، عن الحسن والضحاك. وقيل: ذات الخلق الحسن المستوي، عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والربيع. وقيل: ذات الحسن والزينة، عن علي (ع). وروى علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله تعالى (والسماء ذات الحبك). فقال: محبوكة إلى الأرض، وشبك بين أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض، والله تعالى يقول (رفع السماء بغير عمد) فقال: سبحان الله ! (1) وفي المخطوطة: أو بطن. (*)
[ 255 ]
أليس يقول (بغير عمد ترونها) قلت: بلى. قال: فثم عمد، ولكن لا ترى ! فقلت: فكيف ذلك جعلني الله فداك ؟ قال: فبسط كفه اليسرى، ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا، والسماء الدنيا فوقها قبة، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا، والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبة، ثم هكذا إلى الأرض السابعة فوق السماء السادسة، والسماء السابعة فوقها قبة، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله: (خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن) وصاحب الأمر، وهو النبي (ص) والوصي (1) علي بعده، وهو على وجه الأرض، وإنما يتنزل الأمر إليه من فوق من بين السماوات والأرضين. قلت: فما تحتنا إلا أرض واحدة. قال: وما تحتنا إلا أرض واحدة، وإن الست لفوقنا. (إنكم لفي قول مختلف) هذا جواب القسم أي: إنكم يا أهل مكة في قول مختلف في قول محمد (ص)، فبعضكم يقول شاعر، وبعضكم يقول مجنون، وفي القرآن يقولون إنه سحر وكهانة ورجز، وما سطره الأولون. وقيل: معناه منكم مكذب بمحمد (ص)، ومنكم مصدق به، ومنكم شاك فيه. وفائدته أن دليل الحق ظاهر فاطلبوا الحق بدليله، وإلا هلكتم. (يؤفك عنه من أنك) أي يصرف عن الإيمان به من صرف عن الخير أي المصروف عن الخيرات كلها من صرف عن هذا الدين. وقيل: معناه يؤفك عن الحق والصواب من أفك، فدل ذلك القول المختلف على ذكر الحق، فجازت الكناية عنه. وقيل: معناه يصرف عن هذا القول أي: بسببه ومن أجله، عن الإيمان، من صرف. فالهاء في (عنه) تعود إلى القول المختلف، عن مجاهد. فيكون الصارف لهم أنفسهم، كما يقال: فلان معجب بنفسه، وأعجب بنفسه، وكما يقال: أين يذهب بك ؟ لمن يذهب في شغله. وقيل: إن الصارف لهم رؤساء البدع، وأئمة الضلال، لأن العامة تبع لهم. (قتل الخراصون) أي لعن الكذابون، يعني: الذين يكذبون على الله وعلى رسوله. وقيل: معناه لعن المرتابون، عن ابن عباس. قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعنة هنا، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. ثم وصف (1) وفي نسخة: والولي من بعده وفي نسخة: والوصي من بعده. (*)
[ 256 ]
سبحانه هؤلاء الكفار فقال: (الذين هم في غمرة) أي في شبهة وغفلة غمرهم الجهل (ساهون) أي لاهون عما يجب عليهم. وقيل: هم في ضلالتهم متمادون، عن ابن عباس. وقيل: في عمى مترددون، عن قتادة. وقيل: إن أول مراتب الجهل السهو، ثم الغفلة، ثم الغمرة، فتكون الغمرة عبارة عن المبالغة في الجهل أي: هم في غاية الجهل، ساهون عن الحق، وعما يراد بهم. (يسئلون أيان يوم الدين) أي متى وقت الجزاء، إنكارا واستهزاء، لا على وجه الإستفادة لمعرفته، فأجيبوا بما يسوؤهم من الحق الذي لا محالة أنه نازل بهم، فقيل: (يوم هم على النار يفتنون) أي يكون هذا الجزاء في يوم يعذبون فيها، ويحرقون بالنار. وقال عكرمة: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن أي: فهؤلاء يفتنون بالإحراق، كما يفتن الذهب بإحراق الغش الذي فيه. ويقول لهم خزنة النار: (ذوقوا فتنتكم) أي عذابكم وحريقكم (هذا الذي كنتم به تستعجلون) في الدنيا تكذيبا به، واستبعادا له، فقد حصلتم الان فيه، وعرفتم صحته. (إن المتقين في جنات وعيون (15) ءاخذين ماء اتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من اليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسإل والمحروم (19) وفي الأرض ايات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفى السماء رزقكم وما توعدون (22) فورب السماء والأرض إنه ولحق مثل ما أنكم تنطقون (23)). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير حفص: (مثل ما) بالرفع. والباقون بالنصب. الحجة: قال أبو علي: من رفع مثلا جعله وصفا لحق. وجاز أن يكون مثل، وإن كان مضافا إلى معرفة صفة للنكرة، لأن مثلا لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين. فلما لم تخصه الإضافة، ولم يزل عنه الإبهام، والشياع الذي كان فيه، قبل الإضافة، بقي علن تنكره. فقالوا: مررت برجل مثلك، فلذلك في الأية لم يتعرف بالإضافة إلى (أنكم تنطقون) وإن كان قوله
[ 257 ]
(أنكم تنطقون) بمنزلة نطقكم. و (ما) في قوله (مثل ما أنكم تنطقون) زائدة. وأما من نصب فقال: (مثل ما انكم) فيحتمل ثلاثة أضرب: أحدها: إنه لما أضاف مثل إلى مبني، وهو قوله (أنكم) بناه كما بنى (يومئذ) في نحو قوله: (من عذاب يومئذ) و " على حين عاتبت المشيب على الصبى " وقوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال فغير في موضع رفع بانه فاعل يمنع. وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو: مثل ويوم وحين وغير، إذا أضيفت إلى المبني، لأنها تكتسي منه البناء، لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من التعريف والتنكير والجزاء والإستفهام. تقول: هذا غلام زيد، وصاحب القاضي. فيتعرف الإسم بالإضافة إلى المعرفة. وتقول: غلام من يضرب، فيكون استفهاما. وتقول: صاحب من يضرب أضرب، فيكون جزاء. فمن بنى هذه المبهمة إذا أضافها إلى مبني، جعل البناء أحد ما يكتسيه من المضاف إليه. ولا يجوز على هذا: جاءني صاحب الخمسة عشر، ولا غلام هذا، لأن هذين من الأسماء غير المبهمة، والمبهمة في إبهامها وبعدها من الإختصاص، كالحروف التي تدل على أمور مبهمة. فلما اضيفت إلى المبنية، جاز ذلك فيها. والبناء على الفتح في مثل قول سيبويه. والقول الثاني: أن تجعل (ما) مع (مثل) بمنزلة شئ واحد، وبنيته على الفتح. وإن كانت ما زائدة. وهذا قول أبي عثمان. وأنشد في ذلك قول الشاعر: وتداعى منخراه بدم مثل ما أثمر حماض الجبل (1) فذهب إلى أن مثل مع ما بمنزلة شئ واحد. وينبغي أن يكون أثمر صفة لمثل ما، لأنه لا يخلو من أن يكون صفة له، أو يكون مثلا مضافا إلى الفعل، فلا تجوز الإضافة لأنا لم نعلم مثلا أضيف إلى الفعل في موضع، فكذلك لا نضيفه في هذا الموضع إلى الفعل. فإذا لم تجز الإضافة كان وصفا، وإذا كان وصفا، وجب أن (1) الحماض: بقلة برية تنبت أيام الربيع في مسائل الماء، ولها ثمرة حمراء، وهي من ذكر البقول. (*)
[ 258 ]
يعود منه إلى الموصوف ذكر، فيحذف كما يحذف الذكر العائد من الصفة إلى الموصوف. وقد يجوز أن لا يقدر مثل مع ما كشئ واحد، ولكن تجعله مضافا إلى ما، فيكون التقدير مثل شئ أثمره حماض الجبل، فبني مثل على الفتح، لإضافتها إلى ما، وهو غير متمكن. ولا يكون لأبي عثمان حينئذ في البيت حجة، على كون مثل مع ما بمنزلة شئ واحد. ويجوز أن يكون ما والفعل بمنزلة المصدر، فيكون مثل إثمار الحماض، فيكون كقوله: (وما كانوا بآياتنا يجحدون) وقوله: (بما كانوا يكذبون). والقول الثالث: هو أن ينصب على الحال من النكرة في النطق، وهو قول أبي عمرو الجرمي. وذو الحال الذكر المرفوع في قوله (لحق) والعامل في الحال هو الحق. لأنه من المصادر التي وصف بها. ويجوز أن يكون الحال من النكرة الذي هو حق في قوله (إنه لحق) وإلى هذا ذهب أبو عمرو. ولم يعلم أنه جعله حالا من الذكر الذي في حق. وهذا لا خلاف في جوازه. وقد حمل أبو الحسن قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا) على الحال، وذو الحال (كل أمر حكيم) وهو نكرة، فهذه وجوه النصب في (مثل ما). الاعراب: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون): يجوز أن يكون (قليلا) خبر كان، وفاعله (ما يهجعون) والتقدير: كانوا قليلا هجوعهم. ويجوز أن يكون قليلا صفة مصدر محذوف على تقدير كانوا يهجعون هجوعا قليلا. فتكون (ما) زائدة. و (يهجعون) خبر كان. و (من) في قوله (من الليل) يجوز أن يكون بمعنى الباء، كما يكون الباء بمعنى من في قوله (عينا يشرب بها عباد الله) أي: منها فيكون التقدير: كانوا يهجعون بالليل قليلا. وقيل: إن قوله (ما يهجعون) بمنزلة هجوعهم، وهو بدل من الواو في كانوا. وقوله (من الليل): في موضع الصفة لقليل، والتقدير: كان هجوعهم قليلا من الليل. وقوله (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم): إن رفعت آيات بالإبتداء، وجعلت في الأرض خبرا، كان الضمير في قوله (وفي أنفسكم) كالضمير في الفعل، كقولهم: قام زيد وقعد. والتقدير: وفي أنفسكم آيات. وكذا قوله فيما بعد (وفي موسى) أي: وفي موسى آيات، وفي هود آيات، وفي ثمود آيات، وفي قوم نوح آيات، وفي عاد آيات. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما أعده لأهل الجنة فقال: (إن المتقين في جنات
[ 259 ]
وعيون) مر تفسيره (أخذين ما أتاهم ربهم) أي ما أعطاهم من الخير والكرامة (إنهم كانوا قبل ذلك) يعني في دار التكليف (محسنين) يفعلون الطاعات، ويحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان. ثم ذكر إحسانهم في أعمالهم فقال: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) أي كانوا يهجعون قليلا من الليل، يصلون أكثر الليل، عن الزهري وإبراهيم. والهجوع: النوم بالليل دون النهار. وقيل: معناه كانوا قل ليلة تمر بهم، إلا صلوا فيها، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). والمعنى: كان الذي ينامون فيه كله قليلا. ويكون الليل إسما للجنس. وقال مجاهد: لا ينامون كل الليل. وقيل: إن الوقف على قوله (قليلا) على معنى: كانوا من الناس قليلا. ثم ابتدأ فقال: (من الليل ما يهجعون، فيكون (ما) بمعنى النفي، عن الضحاك ومقاتل. وهذا على نفي النوم عنهم البتة أي: كانوا يحيون الليل بالقيام في الصلاة، وقراءة القرآن. وأقول: إن (ما) إذا كان نفيا، لا يتقدم عليه ما كان في حيزه، إلا أن يتعلق قوله (من الليل) بفعل محذوف يدل عليه قوله: (يهجعون)، كما تقوله في قوله: (إني لكما لمن الناصحين)، و (كانوا فيه من الزاهدين). ؟ (وبالأسحار هم يستغفرون) قال الحسن: مدوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار في الإستغفار. وقال أبو عبد الله (ع): كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر. وقيل: إن معناه وبالأسحار هم يصلون، وذلك أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم للمغفرة، عن مجاهد ومقاتل والكلبي. ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال: (وفي أموالهم حق للسائل والمحررم) والسائل هو الذي يسال الناس. والمحروم: هو المحارف (1)، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: المحروم المتعفف الذي لا يسأل، عن قتادة، والزهري. وقيل: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، عن إبراهيم النخعي. والأصل: إن المحروم هو الممنوع الرزق بترك السؤال، أو ذهاب المال، أو خراب الضيعة، أو سقوط السهم من الغنيمة، لأن الإنسان يصير فقيرا بهذه الوجوه. ويريد سبحانه بقوله (حق) ما يلزمهم لزوم الديون من الزكوات، وغير ذلك، أو ما ألزموه أنفسهم من مكارم (1) المحارف: المحروم المحدود إذا طلب فلا يرزق، خلاف مبارك. (*)
[ 260 ]
الأخلاق. قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم ! وفرق قوم بين الفقير والمحروم، بأنه قد يحرمه الناس بترك الإعطاء، وقد يحرم نفسه بترك السؤال، فإذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال، وإنما حرمه الغير. وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه، ولم يحرمه الناس. (وفي الأرض آيات) أي دلالات بينات، وحجج نيرات (للموقنين) الذين يتحققون توحيد الله. وإنما خص الموقنين لأنهم ينظرون فيها، فيحصل لهم العلم بموجبها، وآيات الأرض: ما فيها من أنواع المخلوقات، من الجبال والبحار والنبات والأشجار، كل ذلك دال على كمال قدرته وحكمته: وفي كل شئ له آية، تدل على أنه واحد (وفي أنفسكم) أي: وفي أنفسكم أيضا آيات دالات على وحدانيته (أفلا تبصرون) أي: أفلا ترون أنها مصرفة من حال إلى حال، ومنتقلة من صفة إلى أخرى، إذ كنتم نطفا فصرتم أحياء، ثم كنتم أطفالا، فصرتم شبابا، ثم كهولا، فهلا دلكم ذلك على أن لها صانعا صنعها، ومدبرا دبرها، ومصرفا صرفها على مقتضى الحكمة. وقيل: إن المراد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، عن ابن عباس في رواية عطاء. وقيل: يريد سبيل الخلاء والبول والأكل والشرب، من مدخل واحد، والمخرج من سبيلين، وتم الكلام عند قوله: (وفي أنفسكم). ثم عنفهم فقان: (أفلا تبصرون) وقيل: يعني أنه خلقك سميعا بصيرا تغضب وترضى وتجوع وتشبع، وذلك كله من آيات الله تعالى، عن الصادق (ع). وقيل: إن المعنى أفلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه. (وفي السماء رزقكم) ينزله الله إليكم بأن يرسل الغيث والمطر عليكم، فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه، وتلبسونه، وتنتفعون به. (وما توعدون) من الثواب والعقاب، عن عطاء. وقيل: من الجنة ؟ النار، عن مجاهد والضحاك. وقيل: معناه وفي السماء تقدير رزقكم أي: ما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب، وجميع ما توعدون في السماء أيضا، لأن الملائكة تنزل من السماء لقبض الأرواح، ولاستنساخ الأعمال، ولإنزال العذاب. ويوم القيامة للجزاء والحساب، كما قال (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملإئكة تنزيلا). ثم قال سبحانه: (فورب السماء والأرض إنه لحق) أقسم سبحانه بنفسه أن ما ذكر من أمر الرزق والأيات، حق لا شك فيه، عن الزجاج. وقيل: يعني أن ما قضى
[ 261 ]
في الكتاب كائن، عن الكلبي. (مثل ما أنكم تنطقون) أي مثل نطقكم الذي تنطقون به، فكما لا تشكون فيما تنطقون، فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتم به. شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه، بتحقق نطق الآدمي ووجوده، فأراد أنه لحق كما أن الآدمي ناطق. وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك فهنا. وإنه لحق كما أنك تتكلم. والمعنى: إنه في صدقه وتحقق وجوده، كالذي تعرفه ضرورة. (هل أتاك حديث ضيف أبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30) قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من فيها من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها ءاية للذين يخافون العذاب الأليم (37)). اللغة: الروغ: الذهاب إلى الشئ في خفية، يقال، راغ يروغ روغا وروغانا، وهو أروغ من ثعلب. والصرة: شدة الصياح، وهو من صرير الباب. ويقال للجماعة: صرة أيضا. قال امرؤ القيس: فألحقنا بالهاديات، ودونه جواحرها في صرة لم تزيل (1) والصك: الضرب باعتماد شديد، وهو أن تصتك ركبتا الرجل. والعقيم: العاقر. وأصل العقم: الشد. وجاء في الحديث: (تعقم أصلاب المشركين فلا يستطيعون السجود) أي تشد. وداء عقام إذا اشتد حتى يئس منه أن يبرأ. ومعاقم الفرس: مفاصله يشد بعضها ببعض. والعقيم والعقمة: ثياب معلمة أي شدت بها (1) الهاديات: المتقدمات. والجواحر: المتخلفات. ولم تزيل: لم تتفرق. (*)
[ 262 ]
الأعلام. وعقمت المرأة فهي معقومة. وعقيم: من نساء عقم وعقمت أيضا. ورجل عقيم من قوم عقمى. قال الشاعر: عقم النساء فما يلدن شبيهه، إن النساء بمثله عقم والريح العقيم: التي لا تنشئ السحاب للمطر. والملك عقيم: بقطع الولادة، لأن الأب يقتل الإبن على الملك. والخطب: الأمر الجليل. ومنه الخطبة، لأنها كلام بليغ لعقد أمر جليل يستفتح با لتحميد. والخطاب أجل من الإبلاغ. المعنى: لما قدم سبحانه الوعد والوعيد، عقب ذلك بذكر بشارة إبراهيم، ومهلك قوم لوط، تخويفا للكفار أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك فقال: (هل أتاك) يا محمد. وهذا اللفظ يستعمل إذا أخبر الإنسان بخبر ماض، فيقال: هل أتاك خبر كذا. وإن علم أنه لم يأته (حديث ضيف إبراهيم المكرمين) عند الله، وذلك أنهم كانوا ملائكة كراما، ونظيره قوله: (بل عباد مكرمون) وقيل: أكرمهم إبراهيم فرفع مجالسهم، وخدمهم بنفسه، عن مجاهد (1). لأن أضياف الكرام مكرمون. وكان إبراهيم أكرم الناس، وأظهرهم فتوة، وسماهم ضيفا من غير أن أكلوا من طعامه، لأنهم دخلوا مدخل الأضياف. واختلف في عددهم فقيل: كانوا اثني عشر ملكا، عن ابن عباس ومقاتل. وقيل: كان جبرائيل ومعه سبعة أملاك، عن محمد بن كعب. وقيل: كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وملك آخر. (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) أي حين دخلوا على إبراهيم فقالوا له على وجه التحية: سلاما أي: اسلم سلاما. ف (قال) لهم جوابا عن ذلك (سلام). وقرئ سلم. وهذا مفسر في سورة هود. (قوم منكرون) أي قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم، وذلك أنه ظنهم من الإنس، ولم يعرفهم، عن ابن عباس. والإنكار: نفي صحة الأمر، ونقيضه الإقرار والإعتراف. (فراغ إلى أهله) أي ذهب إليهم خفيا. وإنما راغ مخافة أن يمنعوه من تكلف مأكول كعادة الظرفاء. (فجاء بعجل سمين) وكان مشويا لقوله في آية أخرى: (حنيذ) قال قتادة: وكان عامة مال إبراهيم (ع) البقر. (فقربه إليهم) ليألكوا، فلم يأكلوا. فلما رآهم لا يأكلون عرض عليهم (قال (1) (وقيل). (*)
[ 263 ]
ألا تأكلون) وفي الكلام حذف كما ترى. (فأوجس منهم خيفة) أي: فلما امتنعوا من الأكل أوجس منهم خيفة. والمعنى: خاف منهم، وظن أنهم يريدون به سوءا (قالوا) أي قالت الملائكة (لا تخف) يا إبراهيم (وبشروه بغلام عليم) أي: يكون عالما إذا كبر وبلغ، والغلام المبشر به هو إسماعيل، عن مجاهد. وقيل: هو إسحاق لأنه من سارة، وهذه القصة لها عن أكثر المفسرين. وهذا كله مفسر فيما مضى. (فأقبلت امرأته في صرة) أي: فلما سمعت البشارة امرأته سارة، أقبلت في ضجة، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: في جماعة، عن الصادق (ع). وقيل: في رفقة (1)، عن سفيان. والمعنى: أخذت تصيح وتولول، كما قالت: يا ويلتي. (فصكت وجهها) أي جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا، عن مقاتل والكلبي. وقيل: لطمت وجهها، عن ابن عباس. والصك: ضرب الشئ بالشئ العريض. (وقالت عجوز عقيم) أي أنا عجوز عاقر، فكيف ألد. (قالوا كذلك قال ربك) أي: كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما، فلا تشكي فيه. (إنه هو الحكيم العليم) بخفايا الأمور (قال) إبراهيم (ع) لهم (فما خطبكم) أي فما شأنكم، ولأي أمر جئتم (أيها المرسلون) وكأنه قال: قد جئتم لأمر عظيم، فما هو. (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) أي عاصين لله، كافرين لنعمه، استحقوا العذاب والهلاك. وأصل الجرم القطع. فالمجرم: القاطع للواجب بالباطل، فهؤلاء أجرموا بأن قطعوا الإيمان بالكفر. (لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك) هذا مفسر في سورة هود (للمسرفين) أي للمكثرين من المعاصي المتجاوزين الحد فيها. وقيل: أرسلت الحجارة على الغائبين، وقلبت القرية بالحاضرين. (فاخرجنا من كان فيها) أي في قرى قوم لوط (من المؤمنين) وذلك قوله (فأسر بأهلك) الاية. وذلك أن الله تعالى أمر لوطا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين، لئلا يصيبهم العذاب. (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) أي غير أهل بيت من المسلمين، يعني لوطا وبنتيه. وصفهم الله بالإيمان والإسلام جميعا، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. والإيمان: (1) وفي نسختين: في رنة. (*)
[ 264 ]
هو التصديق بجميع ما أوجب الله التصديق به. والإسلام هو الإستسلام لوجوب عمل الفرض الذي أوجبه الله وألزمه. ووجدان الضالة هو إدراكها بعد طلبها. (وتركنا فيها) أي وأبقينا في مدينة قوم لوط (آية) أي علامة (للذين يخافون العذاب الأليم) أي تدلهم على أن الله أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم. والترك في الأصل ضد الفعل، ينافي الأخذ في محل القدرة عليه، والقدرة عليه قدرة على الأخذ. وعلى هذا فالترك غير داخل في أفعال الله تعالى. فالمعنى هنا: إنا أبقينا فيها عبرة. ومثله قوله: (وتركهم في ظلمات) وقيل: إنه الإنقلاب لأن اقتلاع البلدان لا يقدر عليه إلا الله تعالى. (وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40) وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصعقة وهم ينظرون (44) فما أستطعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46) القراءة: قرأ الكسائي: (الصعقة). والباقون: (الصاعقة) بالألف. وقرأ أبو عمرو، وأهل الكوفة، غير عاصم. (وقوم نوح) بالجر. والباقون: (قوم نوح) بالنصب. الحجة: قال أبو علي: قال أبو زيد الصاعقة التي تقع من السماء. والصاقعة ألتي تصقع الرؤوس. وقال الأصمعي: الصاعقة والصاقعة سواء. وأنشد الأصمعي: يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق من الصواقع وأما الصعقة، فقيل إنها مثل الزجرة، وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة. قال بعض الرجاز: لاح سحاب فرأينا برقه، ثم تدانى فسمعنا صعقه
[ 265 ]
ومن جر (قوم نوح) حمله على قوله (وفي موسى) أي: وفي قوم نوح، وقوله (وفي موسى إذ أرسلناه) عطف على أحد شيئين إما ان يكون على (وتركنا فيها آية) و (في موسى) أو على قوله (وفي الأرض آيات للموقنين) و (في موسى) أي: وفي إرسال موسى آيات واضحة، وفي قوم نوح آية. ومن نصب فقال (وقوم نوح) جاز في نصبه أيضا أمران كلاهما حمل على المعنى أحدهما: أن قوله (اخذتهم الصاعقة) يدل على (أهلكناهم)، فكأنه قال: وأهلكنا قوم نوح والأخر: أن قوله: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) يدل على (أغرقناهم) فكأنه قال: أغرقناهم، وأغرقنا قوم نوح. اللغة: الركن: الجانب الذي يعتمد عليه، يقال: ركن يركن، وركن يركن أيضا، مثل نصر ينصر. والمليم: الذي أتى بما يلام عليه. والملوم: الذي وقع به اللوم. وفي المثل: (رب لائم مليم، ورب ملوم لا ذنب له). والعتو والتجبر والتكبر واحد. وجمع الريح: أرواح ورياح، ومنه: راح الرجل إلى منزله أي: رجع كالريح. والرميم: الذي انتفى رمه بانتفاء ملاءمة بعضه لبعض. وأما رمه يرمه رما، والشئ مرموم أي: مصلح بملاءمة بعضه لبعض. وأصل الرميم: السحيق البالي من العظم. المعنى: ثم بين سبحانه ما نزل بالأمم فقال: (وفي موسى) أي وفي موسى أيضا آية (إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) أي بحجة ظاهرة وهي العصا (فتولى بركنه) أي فأعرض فرعون عن قبول الحق، بما كان يتقوى به من جنده وقومه، كالركن الذي يقوى به البنيان. والباء في قوله (بركنه) للتعدية أي جعلهم يتولون (وقال) لموسى (ساحر أو مجنون) أي هو ساحر أو مجنون. وفي ذلك دلالة على جهل فرعون، لأن الساحر هو اللطيف الحيلة، وذلك ينافي صفة المجنون المختلط العقل، فكيف يوصف شخص واحد بهاتين الصفتين. (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم أي فطرحناهم في البحر، كما يلقى الشئ في البر. (وهو مليم) أتى بما يلام عليه من الكفر والجحود والعتو. (وفي عاد) عطف على ما تقدم أي: وفي عاد أيضا اية أي دلالة فيها عظة وعبرة. (إذ أرسلنا عليهم) أي: حين أطلقنا عليهم (الريح العقيم) وهي التي عقمت عن أن تاتي بخير من تنشئة سحاب، أو تلقيح شجر، أو تذرية طعام، أو نفع
[ 266 ]
حيوان، فهي كالمرأة الممنوعة عن الولادة، إذ هي ريح الإهلاك. ثم وصفها فقال: (ما تذر من شئ أتت عليه) أي لم تترك هذه الريح شيئا تمر عليه (إلا جعلته كالرميم) أي كالشئ الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. وقيل: الرميم العظم البالي السحيق (وفي ثمود) أيضا آية (إذ قيل لهم) تمتعوا وذلك أنهم لما عقروا الناقة، قال لهم صالح: (تمتعوا ثلاثة أيام) وهو قوله (تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم) أي فخرجوا عن أمر ربهم ترفعا عنه واستكبارا (فأخذتهم الصاعقة) بعد مضي الأيام الثلاثة، وهو الموت، عن ابن عباس. وقيل: هو العذاب. والصاعقة: كل عذاب مهلك، عن مقاتل. (وهم ينظرون) إليها جهارا لا يقدرون على دفعها (فما استطاعوا من قيام) أي من نهوض. والمعنى: إنهم لم ينهضوا من تلك الصرعة (وما كانوا منتصرين) أي ممتنعين من العذاب. وقيل: معناه ما كانوا طالبين ناصرا يمنعهم من عذاب الله (وقوم نوح) أي وأهلكنا قوم نوح (من قبل) أي من قبل عاد وثمود (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله إلى معاصيه، وعن الإيمان إلى الكفر، فاستحقوا لذلك الإهلاك. (والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون (47) والأرض فرشنها فنعم الماهدون (48) ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49) ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله إلها ءاخر إنى لكم منه نذير مبين (51) كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالو ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) قول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحبهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون (60)).
[ 267 ]
القراءة: في الشواذ قراءة يحيى والأعمش: (ذو القوة المتين) بالخفض. الحجة: قال ابن جني: هذا يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون وصفا للقوة وذكره على معنى الحبل يريد قوى الحبل، كقوله (فقد استمسك بالعروة الوثقى). والأخر: أن يكون المراد الرفع وصفا للرزاق، إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه، على قولهم: (هذا جحر ضب خرب) فهذا ضعيف. اللغة: الأيد: القوة. يقال: آد الرجل يئيد ايدا إذا اشتد وقوي. والمؤيد: الأمر العظيم. والإيساع: الإكثار من إذهاب الشئ في الجهات. والماهد هو الموطئ للشئ، وهو المهيئ لما يصلح الإستقرار عليه. يقال: مهد يمهد مهدا، ومهد تمهيدا، مثل وطئ توطئة. والتواصي أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض. والوصية: التقدمة في الأمر بالأشياء المهمة مع النهي عن المخالفة. وأصل الذنوب: الدلو الممتلئ ماء، يؤنث ويذكر، قال: لنا ذنوب، ولكم ذنوب، فإن أبيتم فلنا القليب (1) وقال علقمة: وفي كل حي قد خبطت بنعمة، فحق لشاس من نداك ذنوب (2) المعنى: (والسماء بنيناها بأيد) تقديره وبنينا السماء بنيناها بقوة، عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة أي: خلقناها ورفعناها، على حسن نظامها (وإنا لموسعون) أي قادرون على خلق ما هو أعظم منها، عن ابن عباس. وقيل: معناه وإنا لموسعون الرزق على الخلق بالمطر، عن الحسن. وقيل: معناه وإنا لذو سعة لخلقنا أي قادرون على رزقهم، لا نعجز عنه فالموسع: ذو الوسع. والسعة أي الغنى والجدة. (والأرض فرشناها) أي: وفرشنا الأرض فرشناها أي: بسطناها (فنعم الماهدون) نحن إذ فعلنا ذلك للمنافع ومصالح العباد، لا لجر نفع، ولا لدفع ضرر. (ومن كل شئ خلقنا زوجين) أي وخلقنا من كل شئ صنفين مثل الليل والنهار، والأرض والسماء، والشمس والقمر، والجن والإنس، والبر والبحر، والنور (1) يقسم الماء ويقول: لنا دلو منه، ولكم دلو، فإن لم ترضوا بالقسمة، فنقهركم نملك الماء نحن فقط. (2) خبط زيد عمرا بخير: أعطاه من غير معرفة بينهما. وشاس: أخو الشاعر. (*)
[ 268 ]
والظلمة، عن الحسن ومجاهد. وقيل: الزوجين الذكر والأنثى، عن ابن زيد. (لعلكم تذكرون) أي لكي تعلموا أن خالق الأزواج واحد فرد لا يشبهه شئ. (ففروا إلى الله) أي فاهربوا من عقاب الله إلى رحمته وثوابه، بإخلاص العبادة له. وقيل: ففروا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته، ويقطعكم عما أمركم به. وقيل: معناه حجوا عن الصادق، (ع). (إني لكم منه) أي من الله (نذير) مخوف من عقابه. (مبين) لكم ما أرسلت به (ولا تجعلوا مع الله إلها آخر) أي لا تعبدوا معه معبودا آخر من الأصنام والأوثان. (إني لكم منه نذير مبين) والوجه في تكريره أن الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول، إذ تقديره إني لكم منه نذير في الإمتناع من جعل إله آخر معه وتقدير الأول: إني لكم منه نذير في ترك القرار إليه بطاعته، فهو كقولك: أنذرك أن تكفر بالله، أنذرك أن تتعرض لسخط الله. والنذير: المخبر بما يحذر منه، وهو يقتضي المبالغة. والمنذر: صفة جارية على الفعل. والمبين: الذي ياتي ببيان الحق من الباطل. ثم قال: (كذلك) أي: الأمر كذلك، وهو أنه (ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) أي لم يأت الذين من قبلهم، يعني كفار مكة، من الأمم، رسول إلا قالوا ساحر محتال بالحيل اللطيفة، أو مجنون به جنون، فهو مغطى على عقله، بما لا يتوجه للإدراك به. ثم قال سبحانه: (أتواصوا به) أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، والإستفهام للتوبيخ (بل هم قوم طاغون) معناه: لم يتواصوا بذلك، لكنهم طاغون طغوا في معصية الله، وحملهم الطغيان فيما أعطيتهم، ووسعت عليهم، على تكذيب أنبيائي. ثم قال للنبي (ص): (فتول عنهم) أي فأعرض عنهم يا محمد، فقد بلغت وأنذرت، وهو قوله: (فما أنت بملوم) أي: في كفرهم وجحودهم بل اللائمة والذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه. قال المفسرون: لما نزلت هذه الأية حزن رسول الله (ص) والمؤمنون، وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حل حتى نزلت الأية الثانية. وروي بالإسناد عن مجاهد قال: خرج علي بن أبي طالب (ع) مغتما مشتملا في قميصه فقال: لما نزلت (فتول عنهم فما أنت بملوم) لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي (ص) (فتول عنهم). فلما نزل: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) طابت نفوسنا، ومعناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى
[ 269 ]
تنفعهم، عن الكلبي. (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني) أي لم أخلق الجن والإنس إلا لعبادتي. والمعنى لعبادتهم إياي، عن الربيع. فإذا عبدوني استحقوا الثواب. وقيل: إلا لأمرهم وأنهاهم، وأطلب منهم العبادة، عن مجاهد. واللام لام الغرض، والمراد: إن الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادة، فصار كأنه سبحانه خلقهم للعبادة. ثم إنه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض، ويكون كمن هيأ طعاما لقوم ودعاهم ليأكلوه، فحضروا ولم ياكله بعضهم، فإنه لا ينسب إلى السفه، ويصح غرضه، فإن الأكل موقوف على اختيار الغير، وكذلك المسألة، فإن الله إذا أزاح علل المكلفين من القدرة والالة والألطاف، وأمرهم بعبادته، فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه، لا من قبله سبحانه. وقيل: معناه إلا ليقروا بالعبودية، طوعا وكرها، عن ابن عباس. (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) هذا نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لعائدة نفع يعود عليه تعالى، فبين أنه لعائدة النفع على الخلق دونه تعالى، لاستحالة النفع عليه، لأنه غني لنفسه، فلا يحتاج إلى غيره، وكل الخلق يحتاج إليه. وقيل: معناه ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق كلهم عيال الله، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه. (إن الله هو الرزاق) لعباده، وللخلائق كلهم، فلا يحتاج إلى معين (ذو القوة) أي ذو القدرة (المتين) أي القوي الذي يستحيل عليه العجز والضعف، إذ هو القادر لنفسه، يقال: متن متانة فهو متين إذا قوي. (فإن للذين ظلموا) أنفسهم بالكفر والمعاصي (ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم) أي: نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح وعاد وثمود. (فلا يستعجلون) بإنزال العذاب عليهم، فإنهم لا يفوتون (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) هذا يدل على أنهم أخروا إلى يوم القيامة، والويل: كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة. النظم: وجه اتصال قوله: (والسماء بنيناها بأيد) بما قبله هو أنه في قوم نوح آية، وفي السماء أيضا آية، فهو متصل به في المعنى.
[ 270 ]
52 - سورة الطور مكية واياتها تسع وأربعون عدد آيها: تسع وأربعون آية كوفي شامي، وثمان بصري، وسبع حجازي. اختلافها: آيتان والطور عراقي شامي، دعا كرفي شامي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) أنه قال: (ومن قرأ سورة والطور (1)، كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه، وأن ينعمه في جنته). وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله (ص) يقرأ بالطور في المغرب. وروى محمد بن هشام عن أبي جعفر (ع) قال: من قرأ سورة الطور، جمع الله له خير الدنيا والأخرة. تفسيرها: لما ختم الله سورة الذاريات بالوعيد، افتتح هذه السورة بوقوع الوعيد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل يؤمئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) أصلوها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16). (1) في بعض النسخ: سورة الطور. (*)
[ 271 ]
اللغة: قال المبرد: يقال لكل جبل طور، فإذا دخلت الألف واللام للمعرفة، فهو لشئ بعينه. والرق: جلد يكتب فيه، وأصله من اللمعان، يقال: ترقرق الشئ إذا لمع. والرقراق ترقرق السراب. والمسجور: المملوء، يقال: سجرت التنور أي ملأتها نارا. وعين سجراء: ممتلئة فيها حمرة كئانها احمرت مما هو حولها كالسجار للتنور. قال لبيد: فتوسطا عرض السري فصدعا مسجورة متجاورا قلامها (1) والمور: تردد الشئ بالذهاب والمجئ، كما يتردد الدخان، ثم يضمحل. مار يمور مررا فهو مائر. وروى بيت الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة، لاريث، ولاعجل وقيل: مر السحابة. والخوض: الدخول في الماء بالقدم، وشبه به الدخول في القول. والدع: الدفع يقال: دعه يدعه دعا، وصكه يصكه صكا مثله. الاعراب: (والطور): الواو للقسم، وما بعده عطف عليه، والعامل في قوله: (يوم تمور السماء مورا). قوله (واقع، أي يقع في ذلك اليوم. وتجوز أن يكون (يوم) ههنا على تقدير إذا. ويكون العامل فيه جوابه، وهو الفاء وما بعده من قوله (فويل يومئذ للمكذبين) كما جاء: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) وقوله: (ويوم يدعون) بدل من قوله (يوم تمور السماء) وإن شئت كان التقدير فيه يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون، فيعمل فيه يقال. (أفسحر هذا) مبتدأ وخبر (أم أنتم) أي بل أنتم لا تبصرون. المعنى: (والطور) أقسم الله سبحانه بالجبل الذي كلم عليه موسى (ع) بالأرض المقدسة، عن الجبائي، وجماعة من المفسرين. وقيل: هو الجبل أقسم به لما أودع فيه من أنواع نعمه، عن مجاهد والكلبي. (وكتاب مسطور) أي مكتوب وهو الكتاب الذي كتبه الله لملائكته في السماء، يقرأون فيه ما كان وما يكون. وقيل: هو القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، وهو الرق المنشور. وقيل: هو صحائف الأعمال التي تخرج إلى بني آدم يوم القيامة، فمنهم آخذ كتابه بيمينه، (1) مر البيت في ج 6. (*)
[ 272 ]
وآحذ بشماله. وهذا كقوله (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا)، عن الفراء. وقيل: هو التوراة كتبها الله لموسى، فخص الطور بالذكر لبركتها وكثرة منافعها في الدنيا، وذكر الكتاب لعظم موقعها من الدين، عن الكلبي. وقيل: إنه القرآن يكتبه المؤمنون (في رق منشور) أي: وينشرونه لقراءته. والرق: ما يكتب فيه. وقيل: الرق هو الورق، عن أبي عبيدة. وقيل: إنما ذكر الرق، لأنه من أحسن ما يكتب فيه، وإذا كتبت الحكمة فيما هو على هذه الصفة، كان أبهى. والمنشور: المبسوط. (والبيت المعمور) وهو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة، تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة، عن ابن عباس ومجاهد. وروي أيضا عن أمير المؤمنين (ع) قال: ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبدا. وروي عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن إلنبي (ص) قال: (البيت المعمور في السماء الدنيا، وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان، يدخل فيه جبريل كل يوم طلعت فيه الشمس، وإذا خرج انتفض انتفاضة جرت منه (1) سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا، يؤمرون أن ياتوا البيت المعمور، فيصلون فيه، فيفعلون، ثم لا يعودون إليه أبدا). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): (البيت الذي في السماء الدنيا يقال له الضراح، وهو بفناء البيت الحرام، لو سقط سقط عليه، يدخله كل يوم ألف (2) ملك لا يعودون إليه (3) أبدا). وقيل: البيت المعمور هو الكعبة البيت الحرام، معمور بالحج والعمرة، عن الحسن. وهو أول مسجد وضع للعبادة في الأرض. (والسقف المرفوع) هو السماء، عن علي (ع) ومجاهد وقتادة وأبن زيد قالوا: هي كالسقف للأرض رفعها الله (والبحر المسجور) أي المملوء، عن قتادة. وقيل: هو الموقد المحمى بمنزلة التنور، عن مجاهد والضحاك والأخفش وابن زيد. ثم قيل: إنه تحمى البحار يوم القيامة، فتجعل نيرانا، ثم تفجر بعضها في بعض، ثم تفجر إلى النار ورد به الحديث (إن عذاب ربك لواقع) هذا جواب القسم. أقسم (1) في المخطوطة: عنه. (2) في نسخة: سبعون ألف ملك. (3) في بعض النسخ: فيه. (*)
[ 273 ]
الله بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم القدرة، على أن تعذيب المشركين حق واقع لا محالة. (ما له من دافع) يدفع عنهم ذلك العذاب. ثم بين سبحانه أنه متى يقع فقال: (يوم تمور السماء مورا) أي تدور دورانا، وتضطرب وتموج، وتتحرك وتستدير، كل هذه من عبارات المفسرين (وتسير الجبال سيرا) أي تسير الجبال، وتزول من أماكنها حتى تستوي الأرض (فويل يومئذ للمكذبين) دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة والتقدير: إذا كان هذا، فويل لمن يكذب الله ورسوله (الذين هم في خوض) أي في حديث باطل يخوضون، وهو الحديث الذي كان يخوض فيه الكفار من إنكار البعث، وتكذيب النبي (ص) (يلعبون) " أي يلهون بذكره (يوم يدعون) أي يدفعون. (إلى نار جهنم دعا) أي دفعا بعنف وجفوة. قال مقاتل: هو أن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى جهنم دفعا على وجوههم، حتى إذا دنوا قال لهم خزنتها: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا. ثم وبخوهم (1) لما عاينوا بما كانوا يكذبون به، وهو قوله: (أفسحر هذا) الذي ترون أنتم (أم أنتم لا تبصرون) وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا (ص) إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر. فلما شاهدوا ما وعدوا به من العذاب، وبخوا بهذا. ثم يقال لهم: (اصلوها) أي قاسوا شدتها (فاصبروا) على العذاب (أولا تصبروا) عليه (سواء عليكم) الصبر وإلجزع (إنما تجزون ما كنتم تعملون) في الدنيا من ألمعاصي بكفركم وتكذيبكم الرسول. (إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما ءاتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفه وزوجناهم بحور عين (20) والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرى بما كسب رهين (21) وإمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (1) وفي بعض النسخ: وبخهم. (*)
[ 274 ]
(23) (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض يتسألون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28). القراءة: قرأ أبو عمرو: (وأتبعناهم) بالنون والألف، وقطع الهمزة (ذرياتهم) بالألف وكسر التاء (ألحقنا بهم ذرياتهم) كذلك. وقرأ أهل المدينة: (واتبعتهم) بالتاء ووصل الهمزة (ذريتهم) بالرفع (ألحقنا بهم ذرياتهم) على الجمع. وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة: (واتبعتهم ذريتهم) (ألحقنا بهم ذريتهم) كذلك. وقرأ ابن عامر ويعقوب وسهل (اتبعتهم ذرياتهم) جمع (1)، (ألحقنا بهم ذرياتهم) أيضا. وقرأ ابن كثير: (وما ألتناهم) بكسر اللام. والباقون: (ألتناهم) بفتح اللام. وقرأ أهل المدينة والكسائي: (أنه هو البر الرحيم) بالفتح، والباقون: (إنه) بالكسر. وفي الشواذ قراءة عبد الله وإبراهيم: (وزوجناهم بعيس عين) وقراءة الأعرج: (وما آلتناهم) على أفعلناهم. الحجة: قال أبو علي: الذرية تقع على الصغير والكبير، فالأول نحو قوله: (ذرية طيبة) والثاني نحو قوله: (ومن ذريته داود وسليمان) فإن حملت الذرية في الاية على الصغار، كان قوله (بإيمان) في موضع نصب على الحال من المفعولين أي: اتبعتهم بإيمان من الأباء ذريتهم ألحقنا الذربة بهم في أحكام الإسلام، فجعلناهم في حكمهم في أنهم يرثون ويورثون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وحكمهم حكم الأباء في أحكامهم، إلا فيما كان موضوعا عن الصغير لصغره. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله (بايمان) حالا من الفاعلين الذين هم ذريتهم أي: ألحقنا بهم ذريتهم في أحكام الدنيا، والثواب في الاخرة. (وما ألتناهم من عملهم) أي: من جزاء عملهم من شئ، كما قال (فلا تظلم نفس شيئا) وكما قال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما). ومن قرأ (ذريتهم " فأفرد، فلأن الذرية تقع على الكثرة، فاستغنى بذلك عن جمعه، وكذا القول في (بهم ذريتهم) في أنه أفرد (ذريتهم) وألحق التاء في اتبعتهم، لتأنيث الإسم. ومن جمعه فلأن المجموع قد يجمع نحو أقوام وطرقات. (1) ليس في بعضها لفظة جمع. (*)
[ 275 ]
وفي الحديث: (إنكن صواحبات يوسف). ومن قرأ (ألتناهم) بكسر اللام فيشبه أن يكون فعلنا لغة، كما قالوا: نقم ينقم، ونقم ينقم. ومن قرأ (ندعوه أنه) بالفتح فالمعنى لأنه هو البر الرحيم. ومن كسر قطع الكلام عما قبله، واستأنف. قال ابن جني: المرأة العيساء البيضاء، ومثله جمل أعيس، وناقة عيساء. قال: كأنها البكرة العيساء. ويقال: ألته يالته ألتا، وآلته يؤلته إيلاتا، ولاته يليته ليتا وولته يلته ولتا أي نقصه. قال الحطيئة: أبلغ لديك بني سعد مغلغلة جهد الرسالة، لا ألتا، ولاكذبا المعنى: لما تقدم وعيد الكفار، عقبه سبحانه بالوعد للمؤمنين فقال: (إن المتقين) الذين يجتنبون معاصي الله خوفا من عقابه (في جنات) أي في بساتين تجنها الأشجار (ونعيم) أي وفي نعيم (فكهين بما أتاهم ربهم) أي متنعمين بما أعطاهم ربهم من أنواع النعيم. وقيل: فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم، عن الزجاج والفراء. (ووقاهم) أي وصرف عنهم (ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا) أي يقال لهم: كلوا واشربوا (هنيئا بما كنتم تعملون) مملا وشربا هنيئا: مامون العاقبة من التخمة والسقم. ثم ذكر حالهم في الأكل والشرب فقال: (متكئين على سرر مصفوفة) والسرر: جمع سرير. والمصفوفة: المصطفة الموصول بعضها ببعض. وقيل: إن في الكلام حذفا تقديره متكئين على نمارق موضوعة على سرر، لكنه حذف، لأن اللفظ يدل عليه من حيث إن الاتكاء جلسة راحة ودعة، ولا يكون ذلك إلا على الوسائد والنمارق. (وزوجناهم بحور عين) فالحور البيض النقيات في حسن وكمال. والعين: الواسعات الأعين في صفاء وبهاء. ومعناه: قرنا هؤلاء المتقين بحور عين على وجه التمتيع لهم والتنعيم. وعن زيد بن أرقم قال: (جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله (ص) فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ فقال: والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل على الأكل والشرب والجماع. قال: فإن الذي ياكل ويشرب يكون له الحاجة ؟ فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر بطنه). (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) يعني بالذرية أولادهم الصغار والكبار، لأن الكبار يتبعون الأباء بإيمان منهم، والصغار يتبعون الآباء
[ 276 ]
بإيمان من الآباء. فالولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده، واتبع: بمعنى تبع. ومن قرأ (وأتبعناهم) فهو منقول من تبع، ويتعدى إلى المفعولين. وقيل: الإتباع إلحاق الثاني بالأول في معنى يكون الأول عليه، لأنه لو ألحق به من غير أن يكون في معنى هو عليه، لم يكن إتباعا، وكان إلحاقا. والمعنى: إنا نلحق الأولاد بالأباء في الجنة والدرجة، من أجل إلمان الأباء، لتقر أعين الأباء باجتماعهم معهم في الجنة، كما كانت تقر بهم في الدنيا، عن ابن عباس والضحاك وابن زيد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إنهم البالغون ألحقوا بدرجات آبائهم، وإن قصرت أعمالهم، تكرمة لابائهم. فإن قيل: كيف يلحقون بهم في الثواب ولم يستحقوه ؟ فالجواب: إنهم يلحقون بهم في الجمع، لا في الثواب والمرتبة. وروى زاذان عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة). ثم قرأ هذه لآية. وروي عن الصادق (ع) قال: أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة. (وما ألتناهم من عملهم من شئ) أي لم ننقص الأباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذرياتهم، عن ابن عباس ومجاهد، وتم الكلام. ثم ذكر سبحانه أهل النار فقال: (كل امرئ بما كسب رهين) أي كل امرئ كافر مرتهن في النار بما كسب، أي عمل من الشرك، عن مقاتل. والمؤمن من لا يكون (1) مرتهنا لقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة ألا أصحاب اليمين)، فاستثنى المؤمنين. وقيل: معناه كل إنسان يعامل بما يستحقه، ويجازى بحسب ما عمله، إن عمل طاعة أثيب، وإن عمل معصية عوقب. ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره. ثم ذكر سبحانه ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال: (وأمددناهم بفاكهة) أي أعطيناهم حالا بعد حال، فإن الإمداد هو الإتيان بالشئ بعد الشئ. والفاكهة: جنس الثمار. (ولحم مما يشتهون) أي وأعطيناهم وأمددناهم بلحم من الجنس الذي يشتهونه (يتنازعون فيها كأسا) أي: يتعاطون كأس الخمر. ثم وصف الكأس فقال: (لا لغو فيها ولا تأثيم) أي لا يجري بينهم باطل، لأن اللغو ما يلغى، ولا ما فيه إثم، كما يجري في الدنيا بين شرب الخمر. (1) وبعض النسخ: والمؤمن لا يكون. (*)
[ 277 ]
والتأثيم: تفعيل من الإثم، يقال: أثمه إذا جعله ذا إثم، يعني: إن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. وقيل: معناه لا يتسابون عليها، ولا يؤثم بعضهم بعضا، عن مجاهد. (ويطوف عليهم) للخدمة (غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) في الحسن والصباحة، والصفاء والبياض، والمكنون المصون المخزون. وقيل: إنه ليس على الغلمان مشقة في خدمة أهل الجنة، بل لهم في ذلك اللذة والسرور، إذ ليست تلك الدار دار محنة. وذكر عن الحسن أنه قال: قيل يا رسول الله ! الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم ؟ فقال: (والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا، عن ابن عباس. وهو قوله: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي خائفين في دار الدنيا من العذاب. (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) أي عذاب جهنم. والسموم من أسماء جهنم، عن الحسن. وقيل إن المعنى: يسال بعضهم بعضا عما فعلوه في الدنيا، فاستحقوا به المصير إلى الثواب، والكون في الجنان، فيقولون: إنا كنا في دار التكليف مشفقين، أي خائفين رقيقي القلب. فإن الاشفاق رقة القلب عما يكون من الخوف على الشئ. والشفقة: نقيض الغلظة، وأصله الضعف من قولهم ثوب شفق أي: ضعيف النسج. ومنه الشفق للحمرة عند غروب الشمس، لأنها حمرة ضعيفة. وقوله (في أهلنا مشفقين) يريد: فيمن يختص به ممن هو أولى بنا. والأهل هو المختص بغيره من جهة ما هو أولى به. والسموم: الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به. وأصله من السم الذي هو مخرج النفس، فكل خرق سم، أو من السم الذي يقتل. قال الزجاج: يريد عذاب سموم جهنم، وهوما يوجد من لفحها وحرها. (إنا كنا من قبل) أي في الدنيا (ندعوه) أي ندعو الله تعالى، ونوحده، ونعبده. (إنه هو البر) أي اللطيف، وأصله اللطف مع عظم الشان، ومنه البرة للطفها مع عظم النفع بها. وقيل البر: الصادق فيما وعده (الرحيم) بعباده. (فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم خوم طاعون (32) أم يقولون تقوله، بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث
[ 278 ]
مثله إن كانوا صدقين (34) أم خلقوا من غير شئ أم هم الخلقون (35) أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40). القراءة: قرأ ابن كثير: (المسيطرون) بالسين. وفي الغاشية: (بمصيطر) بالصاد. وقرأ ابن عامر كليهما بالسين. وقرأ بإشمام الراء (1) فيهما حمزة إلا العجلي، فإنه قرأ بالصاد فيهما. وقرأ الباقون: بالصاد فيهما. الحجة: قال أبو عبيدة: المسيطرون الأرباب، يقال تسيطرت علي: اتخذتني خولا. والأصل السين. وكل سين بعده طاء، يجوز أن تقلب صادا، تقول: صطر وسطر. وقد مر بيانه في سورة الفاتحة. اللغة: الكاهن: الذي يذكر أنه يخبر عن الحق على طريق العزائم. والكهانة: صنعة الكاهن. والمنون: المنية. وريبها: الحوادث التي تريب عند مجيئها. قال: تربص بهار يب المنون لعلها سيهلك عنها بعلها، أوسيجنح (2) والتربص: الإنتظار بالشئ من انقلاب حال له إلى خلافها. والأحلام: جمع الحلم، وهو الإمهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة. والمسيطر: الملزم غيره أمرا من الامور قهرا، مأخوذ من السطر. والمثقل: المحمول عليه ما يشق حمله. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال: (فذكر) يا محمد أي ! فعظ هؤلاء المكتفين، ولا تترك دعوتهم، وإن أساؤوا قولهم فيك (فما أنت بنعمة ربك) أي بإنعام ربك عليك بالنبوة. وهذا قسم (بكاهن) وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب بطريق خدمة الجن. (ولا مجنون) وهو المؤوف بما يغطي على عقله. وقد علم الكفار أنه (ص) ليس بكاهن، ولا مجنون، لكن قالوا ذلك على جهة التكذيب عليه، ليستريحوا إلى ذلك، كما يستريح السفهاء إلى التكذيب على أعدائهم. (أم (1) وفي نسخة: الزاء. (2) أي: انتظر بها حوادث الدهر، فإما يهلك بعلها، أو ينصرف عنها، ويتركها فتتزوجها. (*)
[ 279 ]
يقولون) أي بل يقولون هو (شاعر نتربص به ريب المنون) أي ننتظر به حدثان الموت، وحوادث الدهر، فيهلك كما هلك من تقدم من الشعراء. والمنون: يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى المنية. وأم هذه (1) المنقطعة بمعنى الترك والتحول، كقول علقمة (2): هل ما علمت، وما استودعت، مكتوم أم حبلها، إذ نأتك اليوم، مصروم فكأنه قال (3): حبلها مصروم لأن بعده قوله: أم هل كبير بكى، لم يقض عبرته إثر الأحبة، يوم البين مشكوم (4) ثم قال سبحانه: (قل) لهم يا محمد (تربصوا فإني معكم من المتربصين) أي: إنكم إن تربصتم في حوادث الدهر، فإني منتظر مثل ذلك بكم. وتربص الكفار بالنبي (ص) والمؤمنين قبيح، وتربص النبي (ص) والمؤمنين بالكفار، وتوقعهم لهلاكهم حسن. وقوله: (فتربصوا) وإن كان بصيغة الأمر، فالمراد به التهديد. (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) أي بل تأمرهم عقولهم بما يقولونه لك، ويتربصونه بك. قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول، فأزرى الله سبحانه بعقولهم، حيث لم تثمرلهم معرفة الحق من الباطل. ثم أخبر سبحانه عن طغيانهم فقال: (أم هم قوم طاغون) وقرأ مجاهد: (بل هم قوم طاغون). وبل في المعنى قريبة من أم هنا، إلا أن ما بعد بل متيقن، وما بعد أم مشكوك فيه. والمعنى: إن عقولهم لم تأمرهم بهذا، ولم تدعهم إليه، بل حملهم الطغيان على تكذيبك. (أم يقولون تقوله) أي افتعل القران وتكذبه من تلقاء نفسه. والتقول: تكلف القول، ولا يقال ذلك إلا في الكذب. (بل لا يؤمنون) أي ليس الأمر كما زعموا، بل ثبت أنه من عند الله، ولكنهم لا يصدقون بذلك عنادا وحسدا واستكبارا. (1) وفي المخطوطة: هذه هي المنقطعة. (2) وفي نسختين: علقمة بن عبدة. (3) وفيهما: بل أحملها. (4) قوله: (لم يقض عبرته) حال من الضمير في (بكى) الراجع إلى الكبير. وبكى: وصف لكبير. (وإثر الأحبة) متعلق ببكى. والبين: الفراق. ومشكوم: ماخوذ من الشكيمة وهي حديدة معترضة في فم الفرس أي: مسدود فوه. (*)
[ 280 ]
ثم ألزمهم سبحانه الحجة وتحداهم فقال: (فليأتوا بحديث مثله) أي مثل القرآن، وما يقاربه في نظمه وفصاحته وحسن بيانه وبراعته. (إن كانوا صادقين) في أنه تقوله محمد (ص)، فإذا لم يقدروا على الإتيان بمثله، فليعلموا أن محمدا (ص) لم يتقوله من تلقاء نفسه، بل هومن عند الله تعالى. ثم احتج عليهم بابتداء الخلق فقال: (أم خلقوا من غير شئ) أي أم خلقوا لغير شئ أي: أخلقوا باطلا لا يحاسبون، ولا يؤمرون، ولا ينهون، ونحو هذا، عن الزجاج. وقيل: معناه أم خلقوا عبثا، وتركوا سدى، عن ابن كيسان. وهذا في المعنى مثل الأول. وقيل: معناه أخلقوا من غير خالق ومدبر دبرهم. (أم هم الخالقون) أنفسهم، فلا يجب عليهم لله أمر، عن ابن عباس. (أم خلقوا السماوات والأرض) واخترعو هما، فلذلك لا يقرون بالله، وبأنه خالقهم (بل لا يوقنون) بأن لهم إلها يستحق العبادة وحده، وانك نبي من جهة الله. (أم عندهم خزائن ربك) أي بأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاؤوا، عن مقاتل، وعكرمة. وقيل: أراد خزائن المطر والرزق، عن الكلبي وابن عباس. وقيل. خزائنه مقدوراته فلا يأتيهم إلا ما يحبون، عن الجبائي (1) (أم هم المسيطرون) أي الأرباب المسلطون على الناس، فليس عليهم مسيطر، ولا لهم ملزم ومقوم. وقيل: معناه أم هم المالكون الناس، القاهرون لهم، عن الجبائي. (أم لهم سلم) أي مرقى ومصعد إلى السماء (يستمعون فيه) الوحي من السماء، فقد وثقوا بما هم عليه، وردوا ما سواه (فليأت مستمعهم بسلطان مبين) أي بحجة ظاهرة واضحة إن أدعى ذلك. والتقدير: يستمعون عليه، فهو كقوله: (ولأصلبنكم في جذوع النخل). وإنما قيل لهم ذلك، لأن كل من يدعي ما لا يعلم ببداية (2) العقول، فعليه إقامة البينة والحجة. (أم له البنات ولكم البنون) وهذا تسفيه لأحلامهم، إذ أضافوا إلى الله سبحانه ما أنفوا منه، وهذا غاية في جهلهم، إذ جوزوا عليه سبحانه الولد، ثم ادعوا أنه اختار الأدون على الأعلى. (أم تسألهم أجرا) أي ثوابا على إ داء الرسالة، وعلى ما جئتهم به من الدين والشريعة. (فهم من مغرم مثقلون) أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم، فمنعهم ذلك عن الإيمان بك. (1) وفي نسخة: بدل (الجبائي): (ابن عباس). (2) وفي نسخة: (ببداهة العقول). (*)
[ 281 ]
(أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحن الله عما يشركون (43) وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن اليل فسبحه وإدبر النجوم (49)). القراءة: قرأ ابن عامر وعاصم: (يصعقون) بضم ألياء. والباقون بفتحها. وقرأ زيد عن يعقوب: (وأدبار النجوم) بفتح الألف. والباقون بكسرها. الحجة: يقال: صعق الرجل يصعق. ومن قرأ (يصعقون) بضم الياء فإنه على نقل الفعل بالهمزة، صعقهم (1) وأصعقهم غيرهم. وحكى أبو الحسن. صعق، فعلى هذا يجوز أن يكون يصقون منه. ومن قرأ (وأدبار النجوم) فإنه يكون كقولهم: أعقاب النجوم. قال: فأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب (2) اللغة: الكيد هو المكر. وقيل: هو فعل ما يوجب الغيظ في خفية. والكسف: جمع كسفة فهو مثل سدرة وسدر. والكسفة: القطعة من الغيم بقدر ما يكسف ضوء الشمس. والمركوم هو الموضوع بعضه على بعض. المعني: ثم قال سبحانه (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) أي: أعندهم الغيب حتى علموا ان محمدا (ص) يموت قبلهم ؟ وهذا جواب لقولهم: (نتربص به ريب المنون) عن قتادة. وقيل: أ عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه، ويخبرون به الناس، عن ابن عباس. وقيل: هو جواب لقولهم: إن كان أمر الآخرة حقا، كما (1) في سائر النسخ: صعقوهم. (2) يشبه حاله في وصال ليلى وهجرانها، ويأسه من الوصال، بمن ينظر في أعقاب النجم عند الصباح، وهو آيس منه، لأنه في حال الغروب. (*)
[ 282 ]
تدعون، فلنا الجنة. ومثله: (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى)، عن الحسن. والغيب الذي لا يعلمه إلا الله، هو ما لا يعلمه العاقل ضرورة، ولا عليه دلالة، فالله عالم به، لأنه يعلمه لنفسه، والعالم لنفسه يعلم جميع المعلومات، فلا يخفى عليه شئ منها. (أم يريدون كيدا) أي مكرا بك، وتدبير سوء في بابك سرا، على ما دبروه في دار الندوة. (فالذين كفروا هم المكيدون) أي هم المجزيون بكيدهم. فإن ضرر ذلك يعود عليهم، ويحيق بهم مكرهم، كما جزى الله سبحانه أهل دار الندوة بكيدهم أن قتلهم ببدر. (أم لهم إله غير الله) يرزقهم ويحفظهم وينصرهم. يعني: إن الذين اتخذوهم الهة، لا تنفعهم ولا تدفع عنهم. ثم نزه سبحانه نفسه فقال: (سبحان الله عما يشركون) به من الالهة. ثم ذكر سبحانه عنادهم، وقسوة قلوبهم فقال: (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا) يعني: إن عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم، لن ينتهوا عن كفرهم. وقالوا: هو قطعة من السحاب. وهو قوله: (يقولوا سحاب مركوم) بعضه على بعض. وكل هذه الأمور المذكورة بعد أم في هذه السورة، إلزامات لعبدة الأوثان على مخالفة القرآن. ثم قال سبحانه يخاطب النبي (ص): (فذرهم) يا محمد أي اتركهم (حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) أي يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم. وقيل: الصعقة النفخة الأولى التي يهلك عندها جميع الخلائق. ثم وصف سبحانه ذلك اليوم فقال: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا) أي لا تنفعهم حيلتهم، ولا تدفع عنهم شيئا (ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا) يعني كفار مكة (عذابا دون ذلك) أي دون عذاب الآخرة، يعني القتل يوم بدر، عن ابن عباس. وقيل: يريد عذاب القبر، عن ابن عباس أيضا، والبراء بن عازب. وقيل: هو الجوع في الدنيا، والقحط سبع سنين، عن مجاهد. وقيل: هو مصائب الدنيا، عن ابن زيد. وقيل: هو عام جميع ذلك. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما هو نازل بهم (واصبر) يا محمد (لحكم ربك) الذي حكم به، وألزمك التسليم له، إلى أن يقع عليهم العذاب الذي حكمنا عليهم. وقيل: واصبر على أذاهم حتى يرد أمر الله عليك بتخليصك (فإنك بأعيننا) أي بمرأى منا، ندركك، ولا يخفى علينا شئ من أمرك، ونحفظك لئلا يصلوا إلى شئ من مكروهك.
[ 283 ]
(وسبح بحمد ربك حين تقوم) من نومك، عن أبي الأحوص. وقيل: حين تقوم إلى الصلاة المفروضة، فقل: (سبحانك اللهم وبحمدك)، عن الضحاك. وقيل: معناه وصل بامر ربك حين تقوم من مقامك، عن ابن زيد. وقيل: الركعتان قبل صلاة الفجر، عن ابن عباس والحسن. وقيل: حين تقوم من نوم القائلة، وهي صلاة الظهر، عن زيد بن اسلم. وقيل: حين تقوم من المجلس فقل: (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت اغفر لي وتب علي)، عن عطا، وسعيد بن جبير. وقد روي مرفوعا: (إنه كفارة المجلس). وقيل: معناه أذكر الله بلسانك حين تقوم إلى الصلاة إلى أن تدخل في الصلاة، عن الكلبي. فهذه سبعة أقوال. (ومن الليل فسبحه) يعني صلاة الليل. وروى زرارة، وحمران، ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع)، في هذه الآية قالا: إن رسول الته (ص) كان يقوم من الليل ثلاث مرات، فينظر في آفاق السماء، ويقرأ الخمس من ال عمران التي آخرها (إنك لا تخلف الميعاد)، ثم يفتتح صلاة الليل، الخبر بتمامه. وقيل: معناه صل المغرب، والعشاء الآخرة، عن مقاتل (وإدبار النجوم) يعني الركعتين قبل صلاة الفجر، عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع). وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح. وقيل: يعني صلاة الفجر المفروضة، عن الضحاك. وقيل: إن المعنى لا تغفل عن ذكر ربك صباحا ومساء، ونزهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا، فإنه لا ينفل عنك، وعن حفظك. وفي هذه الآية دلالة على إنه سبحانه قد ضمن حفظه وكلاءته، حتى يبلغ رسالته.
[ 284 ]
مكية واياتها اثنتان وستون المعدل عن ابن عباس وقتادة، غير آية منها نزلت بالمدينة (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) الآية. وعن الحسن قال: هي مدنية. عدد آيها ؟: اثنتان وستون آية كوفي، وآية في الباقين. إختلافها: ثلاث آيات من الحق شيئا كوفي، ممن تولى شامي، الحياة الدنيا غير شامي. المعني: أبي بن كعب قال: قال رسول الله (ص): (من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدق بمحمد (ص)، ومن جحد به). يزيد بن خليفة، عن أبي عبد الله (ع) قال: من كان يدمن قراءة والنجم في كل يوم، أو في كل ليلة، عاش محمودا بين الناس، وكان مفقودا، وكان محببا بين الناس. تفسيرها: افتتح الله سبحانه هذه السورة بذكر النبي (ص)، كما ختم بذكر سورة الطور، حتى اتصلت بها اتصال النظير بالنظير، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وماغوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى (4) علمه وشديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده مآ أوحى (10)). القراءة: أمال حمزة والكسائي واخلف، أواخر آيات هذه السورة كلها، وجميع
[ 285 ]
أشباهها. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو، بين الفتح والكسر، وألى الفتح أقرب، وكذلك كل سورة آياتها على الياء، مثل سورة طه، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، والضحى، وأشباهها. وكل ما كان على وزن فعلى، أو فعلى، أو فعلى، في جميع القرآن، فإن أبا عمرو يقرؤها بين الفتح والكسر أيضا في رواية شجاع. وأكثر الروايات عن اليزيدي. والباقون يفتحون. وابن كثير وعاصم أشد تفخيما في ذلك كله. الحجة: أما ترك الإمالة والتفخيم للألف فهو قول كثير من الناس، والإمالة أيضا قول كثير منهم. فمن ترك كان مصيبا. ومن أخذ بها كان مصيبا. اللغة: الهوي والنزول والسقوط نظائر. هوى يهوي هويا، أو هويا. قال الهذلي: وإذا رميت به الفجاج، رأيته يهوي مخارمها، هوي الأجدل (1) ومنه سميت الهاوية، لأنها تهوي بأهلها من أعلاها إلى أسفلها. والغي: الخيبة، ومنه الغواية. والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفية، إلا أنه صار كالعلم فيما يلقيه الملك إلى النبي من البشر (2) عن الله تعالى. ومنه قوله: (وأوحى ربك إلى النحل) أي ألهمها مراشدها. والقوة: القدرة وأصله الشدة. وأصل المرة: شدة الفتل، ثم تجري المرة على القدرة. فالمرة والقوة والشدة نظائر. والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق. وقد سمي نواحي الأرض آفاقا على التشبيه. قال الشاعر في المعنى الأول: أخذنا بآفاق السماء عليكم، لنا قمراها، والنجوم الطوالع وقال امرؤ القيس في المعنى الثاني: لقد طوفت في الآفاق، حتى رضيت من الغنيمة بالإياب (1) المخارم: أفواه الفجاج. والفجاج: جمع الفج، وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين. والأجدل: الصقر. يشبه فرسا بالصقر أي: إذا سرت به في فجاج الأرض، رأيته يهوي من أفواه الفجاج، هوي الصقر. (2) وفي نسخة: السر. (*)
[ 286 ]
والتدلي: الإمتداد إلى جهة السفل، يقال: دلاه صاحبه فتدلى. والقاب والقيب، والقاد والقيد: عبارة عن مقدار الشئ. الاعراب: (وهو بالأفق الأعلى): مبتدأ وخبر في موضع الحال. وقال الفراء: هو معطوف على الضمير في (استوى) أي: استوى جبرائيل والنبي (ص) بالأفق الأعلى. والتقدير: استوى هو وهو. قال: وحسن ذلك لئلا يتكرر هو، وأنشد: ألم تر أن النبع يصلب عوده، ولا يستوي والخروع المتقصف (1) قال الزجاج: وهذا لا يجوز إلا في الشعر، لأنهم يستقبحون استويت وزيد. وإنما المعنى فاستوى جبرائيل، وهو بالافق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان يتمثل للنبي (ص) إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل، فاحب رسول الله (ص) أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في افق المشرق فملأ الأفق. المعنى: (والنجم إذا هوى) قيل في معناه أقوال أحدها: إن الله أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوما متفرقة على رسول الله (ص) في ثلاث وعشرين سنة، عن الضحاك ومجاهد والكلبي. فسمي القرآن نجما، لتفرقه في النزول. والعرب تسمي التفريق: تنجيما، والمفرق: منجما وثانيها: إنه أراد بالنجم الثريا. أقسم بها إذا سقطت وغابت مع الفجر، عن ابن عباس ومجاهد. والعرب تطلق إسم النجم على الثريا خاصة. قال أبو ذؤيب: فوردن والعيوق مقعد رابئ الضرباء فوق النجم، لأيتتلع (2) قال ابن دريد: والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي، يمتحن الناس به أبصارهم وثالثها: إن المراد به جماعة النجوم إذا هوت أي سقطت وغابت وخفيت، عن الحسن، وأراد به الجنس، كما قال الراعي: (1) النبع: شجر ينبت في قلة الجبل، تتخذ منه القسي، ومن أغصانه السهام. والخروع: نبت يعظم قرب المياه، ومن ثمره المسهل المعروف بزيت الخروع. والمتقصف: المزدحم بعضه على بعض، مقصوده عدم تساويهما في الشدة واللين. (2) ربأهم وربألهم أي: صار ربيئة لهم أي: راقبهم. والضرباء: جمع الضريبة بمعنى الضارب، ولا يتتلع أي: لا يشخص للأمر، ولا يرفع رأسه للنهوض. وعن ابن بري صوابه: خلف النجم، وكذا في رواية سيبويه. (*)
[ 287 ]
وبات يعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها (1) ثم (2) قيل: أشار بأفول النجم إلى طلوعه، لأن ما يأفل يطلع، فاستدل بأفوله وطلوعه على وحدانية الله تعالى، وحركات النجم توصف بالهوي، عن الجبائي. وقيل: إن هويه سقوطه يوم القيامة، فيكون كقوله (وإذا الكواكب انتثرت)، عن الحسن. ورابعها: إنه يعني به الرجوم من النجوم، وهو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع، عن ابن عباس. وروت العامة عن جعفر الصادق (ع) أنه قال: محمد رسول الله (ص) (3) نزل من السماء السابعة، ليلة المعراج، ولما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب، فجاء إلى النبي (ص) وطلق ابنته، وتفل في وجهه، وقال: كفرت بالنجم، وبرب النجم. فدعا (ص) عليه وقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ! فخرج عتبة إلى الشام، فنزل في بعض الطريق، وألقى الله عليه الرعب، فقال لأصحابه: أنيموني بينكم ليلا (4) ففعلوا. فجاء أسد فافترسه من بين الناس، وفي ذلك يقول حسان: سائل بني الأصفر إن جئتهم ماكان أنباء بني واسع لا وسع الله له قبره، بل ضيق الله على القاطع رمى رسول الله من بينهم دون قريش، رمية القاذع (5) واستوجب الدعوة منه بما بين للناظر، والسامع فسلط الله به كلبه، يمشي الهوينا، مشية الخادع (6) والتقم الرأس بيافوخه، والنحر منه قفرة الجائع من يرجع العام إلى أهله، فما أكيل السبع بالراجع قد كان هذا لكم عبرة للسيد المتبوع، والتابع (ما ضل صاحبكم وما غوى) يعني النبي أي: ما عدل عن الحق، وما فارق (1) المستحيرة: الجفنة الدسمة الكبيرة. (2) وفي نسخة: وقيل. (3) وفي المخطوطة ليس لفظة " رسول الله ". (4) وليس فيها أيضا. (5) قذعه: رماه بالفحش، وسؤ القول. (6) وفي المخطوطة بعد هذا: حتى أتاه وسط أصحابه، وقد علاهم سنة الهاجع. (*)
[ 288 ]
الهدى إلى الضلال. وما غوى فيما يؤديه إليكم. ومعنى غوى: ضل. وإنما أعاده تأكيدا. وقيل: معناه ما خاب عن إصابة الرشد. وقيل: ما خاب سعيه، بل ينال ثواب الله، وكرامته. (وما ينطق عن الهوى) أي وليس ينطق بالهوى. وهكذا كما يقال: رميت بالقوس، وعن القوس. وقيل: معناه ولا يتكلم بالقرآن، وما يؤديه إليكم، عن الهوى الذي هو ميل الطبع. (إن هو إلا وحي يوحى) أي ما القرآن، وما ينطق به من الأحكام، إلا وحي من الله يوحى إليه أي: ياتيه به جبرائيل، وهو قوله: (علمه شديد القوى) يعني جبرائيل (ع) أي: القوي في نفسه وخلقته، عن ابن عباس والربيع وقتادة، والقوى جمع القوة (ذو مرة) أي: ذو قوة وشدة في خلقه، عن الكلبي قال: ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، ومن شدته صيحته لقوم ثمود حتى هلكوا. وقيل: معناه ذو صحة وخلق حسن، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: شديد القوى في ذات الله. ذو مرة أي صحة في الجسم، سليم من الآفات والعيوب. وقيل: ذو مرة أي: ذو مرور في الهواء، ذاهبا وجائيا، ونازلا وصاعدا، عن الجبائي. (فاستوى) جبرائيل على صورته التي خلق عليها بعد انحداره إلى محمد (ص). (وهو) كناية عن جبرائيل (ع) أيضا (بالأفق الأعلى) يعني أفق المشرق. والمراد بالأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض، لا في الهواء. قالوا: إن جبرائيل كان يأتي النبي (ص) في صورة الآدميين، فسأله النبي (ص) أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها. فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء. أما في الأرض، ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدا (ص) كان بحراء، فطلع له جبرائيل (ع) من المشرق، فسد الأفق إلى المغرب، فخر النبي (ص) مغشيا عليه. فنزل جبرائيل مثنه في صورة الآدميين، فضمه إلى نفسه، وهو قوله: (ثم دنا فتدلى) وتقديره: ثم تدلى أي قرب بعد بعده، وعلوه في الأفق الأعلى فدنا من محمد (ص). قال الحسن وقتادة: ثم دنا جبرائيل (ع) بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى محمد (ص). وقال الزجاج: معنى دنا وتدلى واحد، لأن معنى دنا قرب، وتدلى زاد في القرب، كما تقول: قد دنا مني فلان
[ 289 ]
وقرب. ولو قلت: قرب مني ودنا، جاز. وقيل: إن المعنى استوى جبرائيل (ع) أي ارتفع وعلا إلى السماء بعد أن علم محمدا (ص)، عن سعيد بن المسيب. وقيل: استوى أي اعتدل واقفا في الهواء، بعد أن كان ينزل بسرعة ليراه النبي (ص)، عن الجبائي. وقيل: معناه استوى جبرائيل (ع)، ومحمد (ص) بالأفق الأعلى يعني: السماء الدنيا ليلة المعراج، عن الفراء. (فكان قاب قوسين) أي كان ما بين جبرائيل ورسول الله، قاب قوسين. والقوس: ما يرمى به، عن مجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس. وخصت بالذكر على عادتهم. يقال: قاب قوس، وقيب قوس، وقيد قوس، وقاد قوس، وهو اختيار الزجاج. وقيل: معناه وكان قدر ذراعين، عن عبد الله بن مسعود، وسعيد بن جبير، وشقيق بن سلمة. وروي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) في قوله (فكان قاب قوسين أو أدنى) قال: قدر ذراعين، أو أدنى من ذراعين. فعلى هذا يكون معنى القوس: ما يقاس به الشئ، والذراع يقاس به. قال ابن السكيت: قاس الشئ يقوسه قوسا لغة في قاسه يقيسه: إذا قدره. وقوله: (أو أدنى) قال الزجاج: إن العباد قد خوطبوا على لغتهم، ومقدار فهمهم. وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدد. فالمعنى: فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك، وهو كقوله (أو يزيدون)، وقد مر القول فيه. وقال عبد الله بن مسعود: إن رسول الله (ص) أي جبرائيل (ع) وله ستمائة جناح. أورده البخاري ومسلم في الصحيح. (فأوحى إلى عبده ما أوحى) أي فأوحى الله على لسان جبرائيل إلى محمد (ص) ما أوحى. و (ما) يحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي. وقيل: معناه فأوحى جبرائيل (ع) إلى عبد الله محمد (ص) ما أوحى الله تعالى إليه، عن الحسن والربيع وابن زيد، وهو رواية عطا، عن ابن عباس. وقان سعيد بن جبير: أوحى إليه (ألم يجدك يتيما فآوى) إلى قوله: (ورفعنا لك ذكرك) وقيل: أوحى إليه: إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. وقيل: أوحى الله إليه سرا بسر، وفي ذلك يقول القائل: بين المحبين سرليس يفشيه قول، ولاقلم للخلق يحكيه سر يمازجه، أنس يقابله، نور تحير في بحر من التيه
[ 290 ]
(ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رأه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذيغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من ءايات ربه الكبرى (18) أفرءيتم اللت والعزى (19) ومنوة الثالثة الاخرى (20)). القراءة: قرأ أبو جعفر وهشام: (ما كذب) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم ويعقوب: (افتمرونه) بغير ألف. والباقون: (أفتمارونه). وقرأ ابن كثير والشموني، عن الأعمش وأبي بكر: (ومنآئة) بالمد والهمزة. والباقون: (ومناة) بغير همزة، ولا مد. وروي عن علي (ع)، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وزر بن حبيش: (جنه الماوى) بالهاء. وعن ابن عباس، ومجاهد: (واللات) بتشديد التاء. الحجة: من قرأ (كذب) بتشديد الذال، فمعناه: ما كذب قلب محمد (ص) ما رآه بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه. ومن قرأ بالتخفيف فمعناه: ما كذب فؤاده فيما رأى. وقال أبو علي: كذب فعل يتعدى إلى مفعول بدلالة قوله: كذبتك عينك، أم رأيت بواسط، غلس الظلام من الرباب، خيالا ومعنى كذبتك عينك: أرتك ما لا حقيقة له. فعلى هذا يكون المعنى: لم يكذب فؤاده ما أدركه بصره أي: كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة، وإدراكا على الحقيقة. ويشبه أن يكون الذي شدد أراد هذا المعنى وأكده. (أفتمارونه على ما يرى) أي أترومون إزالته عن حقيقة ما أدركه وعلمه بمجادلتكم، أو أتجحدونه ما قد علمه، ولم يعترض عليه فيه شك، فإن معنى قوله (أفتمارونه): أتجادلونه جدالا تريدون به دفعه عما علمه وشاهده من الأيات الكبرى. ومن قرأ (أفتمرونه) فمعناه: أفتجحدونه. ومناة: صنم من حجارة. واللات والعزى: كانتا من حجارة أيضا. ولعل (منائة) بالمد لغة. ومن قرأ (جنه المأوى): يعني فعله. يريد جن عليه فأجنه الله والمأوى وهو الفاعل، والمعنى: ستره. وقال الأخفش: أدركه. وعن ابن عباس قال: كان رجل بسوق عكاظ يلت
[ 291 ]
السويق والسمن عند صخرة، فإذا باع السويق والسمن صب على الصخرة، ثم يلت. فلما مات ذلك الرجل، عبدت ثقيف تلك الصخرة، إعظاما لذلك الرجل. المعنى: ثم بين سبحانه ما رآه النبي (ص) ليلة الإسراء، وحقق رؤيته فقال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي لم يكذب فؤاد محمد، ما رآه بعينه. فقوله (ما رأى): مصدر في موضع نصب، لأنه مفعول كذب. والمعنى: إنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، بل صدقه الفؤاد رؤيته. قال المبرد: معنى الاية أنه رأى شيئا فصدق فيه. قال ابن عباس: رأى محمد (ص) ربه بفؤاده. وروي ذلك عن محمد بن الحنفية، عن أبيه علي (ع). وهذا يكون بمعنى العلم أي: علمه علما يقينا بما رآه من الايات الباهرات، كقول إبراهيم (ع): (ولكن ليطمئن قلبي) وإن كان عالما قبل ذلك. وقيل: إن الذي رآه هو جبرائيل على صورته التي خلقه الله عليها، عن ابن عباس وابن مسعود، وعائشة، وقتادة، وقيل: إن الذي رآه هو ما رآه من ملكوت الله تعالى، وأجناس مقدوراته، عن الحسن قال: وعرج بروح محمد (ص) إلى السماء، وجسده في الأرض. وقال الأكثرون وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، والمشهور في أخبارهم: إن الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء، حيا سليما، حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه، ولم يكن ذلك في المنام. وهذا المعنى ذكرناه في سورة بني إسرائيل. والفرق بين الرؤية في اليقظة، وبين الرؤية في المنام أن رؤية الشئ في اليقظة هو إدراكه بالبصر على الحقيقة. ورؤيته في المنام: تصوره بالقلب على توهم الإدراك بحاسة البصر من غير أن يكون كذلك. وعن أبي العالية قال: سئل رسول اللة (ص) هل رأيت ربك ليلة المعراج ؟ قال: " رأيت نهرا، ورأيت وراء النهر حجابا، ورأيت وراء الحجاب نورا، لم أر غير ذلك ". وروي عن أبي ذر، وأبي سعيد الخدري أن النبي (ص) سئل عن قوله (أما كذب الفؤاد ما رأى) قال: " رأيت نورا ". وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة. وذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، أنه قال: إن محمدا (ص) رأى ربه ! قال الشعبي: وأخبرني مسروق قال: سالت عائشة عن ذلك، فقالت: إنك لتقول قولا إنه ليقف شعري منه ! قال مسروق: قلت رويدا يا أم المؤمنين وقرأت عليها: (والنجم إذا هوى) حتى انتهيت إلى قوله: (قاب قوسين أو أدنى) فقالت:
[ 292 ]
رويدا أنى يذهب بك ! إنما رأى جبرائيل في صورة، من حدثك أن محمدا (ص) رأى ربه فقد كذب، والله تعالى يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). ومن حدثك أن محمدا (ص) يعلم الحس من الغيب، فقد كذب والله تعالى يقول: (إن الله عنده. علم الساعة) إلى آخره. ومن حدثك أن محمدا (ص) كتم شيئا من، الوحي، فقد كذب، والله تعالى يقول: (بلغ ما انزل إليك من ربك) ولقد بين الله سبحانه ما رآه النبي (ص) بيانا شافيا، فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى). (أفتمارونه) أي أفتجادلونه (على ما يرى) وذلك أنهم جادلوه حين أسري به فقالوا له: صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام، وغير ذلك مما جادلوه به. ومن قرأ (أفتمرونه) فالمعنى: أفتجحدونه. يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته. وقيل: معناه أفتدفعونه عما يرى، وعلى في موضع في، عن المبرد. والمعنيان متقاربان، لأن كل مجادل جاحد. (ولقد رآه نزلة اخرى) أي رأى جبرائيل في صورته التي خلق عليها، نازلا من السماء نزلة أخرى، وذلك أنه رآه مرتين في صورته على ما مر ذكره. (عند سدرة المشهى) أي رآه محمد (ص) وهو عند سدرة المنتهى وهي شجرة عن يمين العرش، فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كل ملك، عن الكلبي ومقاتل. وقيل: إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء، وما يهبط من فوقها من أمر الله، عن ابن مسعود والضحاك. وقيل: إليها تنتهي أرواح الشهداء. وقيل: إليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، ويقبض منها، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح، ويقبض منها. والمنتهى: موضع الإنتهاء. وهذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة، فاضيفت إليه. وقيل: هي شجرة طوبى، عن مقاتل. والسدرة هي شجرة النبوة. (عندها جنة المأوى) أي عند سدرة المنتهى جنة المقام، وهي جنة الخلد، وهي في السماء السابعة. وقيل: في السماء السادسة. وقيل: هي الجنة التي كان أوى إليها آدم، وتصير إليها أرواح الشهداء، عن الجبائي وقتادة. وقيل: هي التي يصير إليها أهل الجنة، عن الحسن. وقيل: هي التي يأوي إليها جبرائيل والملائكة، عن عطا، عن ابن عباس. (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قيل: يغشاها الملائكة أمثال الغربان، حين يقعن على الشجر، عن الحسن ومقاتل. وروي أن النبي (ص) قال: (رأيت على كل ورقة من أوراقها ملكا قائما، يسبح الله تعالى).
[ 293 ]
وقيل: يغشاها من النور والبهاء، والحسن والصفاء الذي يروق الأبصار، ما ليس لوصفه منتهى، عن الحسن. وقيل: يغشاها فراش من ذهب، عن ابن عباس ومجاهد. وكأنها ملائكة على صورة الفراش يعبدون الله تعالى. والمعنى: إنه رأى جبرائيل (ع) على ما صورته في الحال التي يغشى فيها السدرة من أمر الله، ومن العجائب المنبهة على كمال قدرة الله: تعالى، ما يغشاها. وإنما أبهم الأمر فيما يغشى، لتعظيم ذلك وتفخيمه، كما قال: (فأوحى إلى عبده ما أوحى). وقوله (ما يغشى) أبلغ لفظ في هذا المعنى. (ما زاغ البصر وما طغى) أي: ما زاغ بصر محمد (ص)، ولم يمل يمينا ولا شمالا، وما طغى أي: ما جاوز القصد، ولا الحد الذي حدد له. وهذا وصف أدبه، صلوات الله عليه وآله، في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمل بصره، ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي. (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) وهي الآيات العظام التي رآها تلك الليلة مثل: سدرة المنتهى، وصورة جبرائيل (ع)، ورؤيته وله ستمائة جناح، قد سد الأفق بأجنحته، عن مقاتل، وابن زيد، والجبائي. ومن للتبعيض أي: رأى بعض آيات ربه. وقيل: إنه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنة قد سد الأفق، عن ابن مسعود. وقيل: إنه قد رأى ربه بقلبه، عن ابن عباس. فعلى هذا فيمكن أن يكون المراد: إنه رأى من الأيات ما ازداد به يقينا إلى يقينه. والكبرى: تأنيث الأكبر، وهو الذي يصغر مقدار غيره عنده في معنى صفته. ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص، عقبها سبحانه بأن خاطب المشركين فقال: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) أي أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، وتعبدون معها الملائكة، وتزعمون أن الملائكة بنات الله. وقيل: معناه أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة، بنات الله، لأنه كان منهم من يقول إنما نعبد هؤلاء لأنهم بنات الله، عن الجبائي. وقيل: إنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، وصوروا أصنامهم على صورهم، وعبدوها من دون الله، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله، فقالوا: اللات من الله، والعزى من العزيز. وكان الكسائي يختار الوقف على اللات بالتاء، لإتباع المصحف، لأنها كتبت بالتاء. والعزى: تأنيث الأعز، وهي بمعنى العزيزة. وقيل: إن اللات صنم كانت ثقيف تعبده، والعزى: صنم أيضا، عن الحسن وقتادة. وقيل: إنها كانت شجرة سمرة
[ 294 ]
عظيمة لغطفان يعبدونها، فبعث إليها رسول الله (ص) خالد بن الوليد فقطعها، وقال يا عز كفرانك، لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك عن مجاهد. وقال قتادة: كانت مناة صنما بقديد، بين مكة والمدينة. وقال الضحاك والكلبي كانت لهذيل وخزاعة، يعبدها أهل مكة. وقيل: إن اللات والعزى ومناة، أصنام من حجارة، كانت في الكعبة، يعبدونها. والثالثة نعت لمناة. والأخرى نعت لها أيضا. ومعنى الاية: أخبروني عن هذه الأصنام، هل ضرت، أو نفعت، أو فعلت ما يوجب أن تعدل بالله ؟ فحذف لدلالة الكلام عليه. (ألكم الذكر وله ألأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم واباؤكم ما أنزل الله بهامن سلطن إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جإهم من ربهم الهدى (23) أم للإنسان ما تمنى (24) فلله الأخرة والأولى (25) وكم من تلك في السموات لا تغني شفعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26) إن الذين لا يؤمنون بالأخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى (27) ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)). القراءة: قرأ ابن كثر، غير ابن فليح (1): (ضئزى) بالهمز. والباقون بغير همز. الحجة: قال أبو علي: قوله (تلك إذا قسمة ضيزى) أي: ما نسبتموه إلى الله سبحانه من اتخاذ البنات، قسمة جائرة. وقولهم قسمة ضيزى، ومشية حيكى، حمله النحويون على أنه في الأصل فعلى بالضم، وإن كان اللفظ على فعلى، كما أن (1) وفي المخطوطة: الحسن. (*)
[ 295 ]
البيوت والعصي في الأصل فعول، وإن كانت الفاء مكسورة. وإنما حملوها على أنها فعلى، لأنهم لم يجدوا شيئا من الصفات على فعلى، كما وجدوا الفعلى والفعلى. وقال أبو عبيدة: ضزته حقه، وضزته أضوزه أي: نقصته ومنعته. فمن جعل العين منه واوا، فالقياس أن يقول ضوزى، وقد حكي ذلك. فأما من جعله ياء من قولك ضزته، فكان القياس أيضا أن يقول ضوزى، ولا يحتفل بانقلاب الياء إلى الواو، لأن ذلك إنما ذكره في بيض وعين، جمع بيضاء وعيناء، لقربه من الطرف. وقد بعد من الطرف فهنا بحرف التأنيث، وليست هذه العلامة في تقدير الإنفصال كالتاء، فكان القياس أن لا يحفل بانقلابها إلى الواو. المعنى: ثم قال سبحانه منكرا على كفار قريش قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام كذلك. (ألكم الذكر وله الأنثى) أي: كيف يكون ذلك كذلك، وأنتم لو خيرتم لاخترتم الذكر على الأنثى، فكيف أضفتم إليه تعالى ما لا ترضونه لأنفسكم. (تلك إذا قسمة ضيزى) أي جائرة غير معتدلة، بمعنى أن القسمة التي قسمتم من نسبة الإناث إلى الله تعالى، وإشاركم بالبنين، قسمة غير عادلة. (إن ير إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم) أي: ليس تسميتكم لهذه الأصنام بأنها آلهة، وأنها بنات الله، إلا أسامي لا معاني تحتها، لأنه لا ضر عندها، ولا نفع، فهي تسميات ألقيت على جمادات. (ما أنزل الله بها من سلطان) أي لم ينزل الله كتابا لكم فيه حجة بما تقولونه، عن مقاتل. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة فقال: (إن يتبعون إلا الظن) الذي ليس بعلم (وما تهوى الأنفس) أي وما تميل إليه نفوسهم (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) أي البيان والرشاد بالكتاب والرسول. عجب سبحانه من حالهم، حيث لم يتركوا عبادتها مع وضوح البيان. ثم أنكر عليهم تمنيهم شفاعة الأوثان، فقال لهم: (أم للإنسان) أي للكافر (ما تمنى) من شفاعة الأصنام. (فلله الأخرة والأولى) فلا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه. وقيل: معناه بل للإنسان ما تمنى من غير جزاء، لا ليس الأمر كذلك، لأن للة الأخرة والأولى، يعطي منهما من يشاء، ويمنع من يشاء. وقيل: معناه ليس للإنسان ما تمنى من نعيم الدنيا والاخرة، بل يفعله الله تعالى بحسب المصلحة، ويعطي الأخرة للمؤمنين دون الكافرين، عن الجبائي. وهذا هو الوجه الأوجه، لأنه أعم فيدخل تحته الجميع.
[ 296 ]
ثم أكد ذلك بقوله: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا) جمع الكناية لأن المراد بقوله (وكم من ملك) الكثرة (إلا من بعد أن يأذن الله) لهم في الشفاعة (لمن يشاء ويرضى) لهم أن يشفعوا فيه أي: من أهل الإيمان والتوحيد. قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه، كما قال: (لا يشفعون إلا لمن ارتضى). ثم ذم سبحانه مقالتهم فقال: (إن الذين لا يؤمنون بالأخرة) أي لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب. (ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) حين زعموا أنهم بنات الله (وما لهم به) أي بتلك التسمية (من علم) أي ما يستيقنون أنهم إناث، وليسوا عالمين (1). (إن يتبعون إلا الظن) الذي يجوز أن يخطئ ويصيب في قولهم ذلك (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) الحق هنا معناه العلم أي: الظن لا يغني عن العلم شيئا، ولا يقوم مقام العلم. ثم خاطب نبيه (ص) فقال: (فأعرض) يا محمد (عن من تولى عن ذكرنا) ولم يقر بتوحيدنا (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) فمال إلى الدنيا ومنافعها أي: لا تقابلهم على أفعالهم واحتملهم، ولا تدع مع هذا وعظهم ودعاءهم إلى الحق (ذلك مبلغهم من العلم) أي: الإعراض عن التدبر في أمور الاخرة، وصرف الهمة إلى التمتع باللذات العاجلة، منتهى علمهم، وهو مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل لأنه من طباع البهائم أن يأكل في الحال، ولا ينتظر العواقب. وفي الدعاء: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا). (إن ربك) يا محمد (هو أعلم) منك، ومن جميع الخلق (بمن ضل عن سبيله) أي بمن جار وعدل عن سبيل الحق الذي هو سبيله (وهو أعلم بمن اهتدى) إليها، فيجازي كلا منهم على حسب أعمالهم. (ولله مافى السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أسؤا بماعملوا ويجزى الذين أحسنوا با لحسني (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك وسع المغمرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32) أفرءيت الذى تولى (33) وأعطى (1) وفي نسخة: عالمين بذلك. (*)
[ 297 ]
قيلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأبما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذى وفي (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للأنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزيه الجزاء الأوفى (41)). اللغة: قال الفراء: اللمم أن يفعل الإنسان الشئ في الحين، ولا يكون له عادة. ومنه إلمام الخيال. والإلمام: الزيارة التي لا تمتد، وكذلك اللمام. قال أمية: إن تغفر اللهم، تغفرجما، وأي عبد لك لا ألما وقد روي أن إلنبي (ص) كان ينشدهما ويقولهما أي: لم يلم بمعصية. وقال أعشى باهلة: تكفيه حزة فلذان ألم بها من الشواء، ويروي شربه الغمر (1) أجنة: جمع جنين. قال رؤبة: " أجنة في مستكنات الحلق " (2). وقال عمرو بن كلثوم: ولأشمطاء لم يترك شقاها، لها، من تسعة، إلآ جنينا (3) أي: دفينا في قبره. وأكدى أي: قطع العطاء كما تقطع البئر الماء. واشتقاقه من كدية الركية وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر إليها يئس من الماء، فيقال أكدى إذا بلغ الكدية. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت فلم تعمل شيئا. وكديت أظفاره: إذا غلظت. وكدى النبت: إذا قل ريعه. والأصل واحد فيها. الاعراب: (إلا اللمم): منصوب على الإستثناء من (الإثم والفواحش) لأن اللمم دونهما إلا أنه منهما. (إذ أنشأكم): العامل في (إذ) قوله (أعلم بكم في بطون أمهاتكم) يجوز أن يتعلق بنفس أجنة. وتقديره: إذ أنتم مستترون في بطون (1) الحزة: القطعة من اللحم. والفلذان جمع الفلذة: وهي قطعة الكبد. والغمر: القدح الصغير. (2) مستكنات الحلق أي: بواطن الرحم. (3) الشمطاء: التي خالط بياض رأسها سواد. (*)
[ 298 ]
أمهاتكم. ويجوز أن يتعلق بمحذوف فيكون صفة لأجنة. وقوله (ألآ تزر وازرة وزر أخرى): تقديره إنه لا تزر، وهو في موضع جر بدلا من قوله (ما في صحف موسى) وما: إسم موصول.. النزول: نزلت الأيات السبع (أفرأيت الذي تولى) في عثمان بن عفان، كان يتصدق وينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع يوشك أن لا يبقى لك شئ ؟ فقال عثمان: إن لي ذنوبا، وإني أطلب بما أصنع رضى الله، وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني ناقتك، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه، وأشهد عليه، وأمسك عن الصدقة. فنزلت: (أفرأيت الذي تولى) أي يوم أحد حين ترك المركز، وأعطى قليلا، ثم قطع نفقته، إلى قوله (وأن سعيه سوف يرى) فعاد عثمان إلى ما كان عليه، عن ابن عباس والسدي والكلبي، وجماعة من المفسرين. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله (ص) على دينه، فعيره بعض المشركين، وقالوا: تركت دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار ؟ قال: إني خشيت عذاب الله. فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمل عنه عذاب الله، ففعل. فاعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل، ومنعه تمام ما ضمن له، فنزلت (أفرأيت الذي تولى (عن الإيمان، (وأعطى) صاحبه الضامن (قليلا وأكدى) أي بخل بالباقي، عن مجاهد وابن زيد. وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه ربما كان يوافق رسول الله (ص) في بعض الأمور، عن السدي. وقيل: نزلت في رجل قال لأهله: جهزوني حتى أنطلق إلى هذا الرجل، يريد النبي (ص). فتجهز وخرج، فلقيه رجل من الكفار فقال له: أين تريد ؟ فقال: محمدا، لعلي أصيب من خيره. قال له الرجل: أعطني جهازك، وأحمل عنك إثمك، عن عطاء بن يسار. وقيل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال: والله ما يامرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله (أعطى قليلأ وأكدى) أي لم يزمن به، عن محمد بن كعب القرظي. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته، وسعة ملكه فقال: (ولله ما في
[ 299 ]
السماوات وما في الأرض) وهذا اعتراض بين الآية الأولى، وبين قوله (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا) واللام في (ليجزي) تتعلق بمعنى الآية الأولى، لأنه إذا كان أعلم بهم، جازى كلا منهم بما يستحقه، وذلك لام العاقبة، وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسئ، إذا كان كثير الملك، ولذلك أخبر به في قوله (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي) في الأخرة (الذين أساؤوا) أي أشركوا بما عملوا من الشرك. (ويجزي الذين أحسنوا) أي وحدوا ربهم (بالحسنى) أي الجنة. وقيل: إن اللام في (ليجزي) يتعلق بما في قوله (ولله ما في السموات وما في الأرض) لأن المعنى في ذلك: إنه خلقهم ليتعبدهم (1)، فمنهم المحسن، ومنهم المسئ. وإنما كلفهم ليجزي كلا منهم بعلمه (2) عمله. فتكون اللام للغرض. ثم وصف سبحانه الذين أحسنوا فقال: (الذين يجتنبون كبائر الإثم) أي عظائم الذنوب (والفواحش) جمع فاحشة، وهي أقبح الذنوب وأفحشها. وقد بينا اختلاف الناس في الكبائر في سورة النساء. وقد قيل: إن الكبيرة كل ذنب ختم بالنار، والفاحشة كل ذنب فيه الحد. ومن قرأ (كبير الإثم): فلأنه يضاف إلى واحد في اللفظ وإن كان يراد به الكثرة (إلا اللمم) اختلف في معناه فقيل: هو صغار الذنوب كالنظر، والقبلة، وما كان دون الزنا، عن ابن مسعود، وأبي هريرة، والشعبي. وقيل: هو ما ألموا به في الجاهلية من الإثم، فهو معفو عنه في الإسلام، عن زيد بن ثابت. وعلى هذا فيكون الإ ستثناء منقطعا. وقيل: هو أن يلم بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود، عن الحسن والسدي، وهو اختيار الزجاج. لأنه قال: اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية، ولم يقم على ذلك. ويدل على ذلك قوله (إن ربك واسع المغفرة) قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب، ومعناه: إن رحمته تسع (3) جميع اذنوب لا تضيق عنه، الكلام هنا.، ثم قال: (هو أعلم بكم) يعني قبل أن خلقكم (إذ أنشأكم من الأرض) أي أنشأ أباكم آدم من أديم الأرض. وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد به جميع الخلق أي: خلقكم من الأرض عند تناول الأغذية المخصوصة التي خلقها من (1) وفي نسخة: ليستعبدهم. (3) وفي المخطوطة: واسعة تسع. (2) ليس في النسخ لفظة (بعلمه).
[ 300 ]
الأرض، وأجرى العادة بخلق الأشياء عند ضرب من تركيبها، فكأنه سبحانه أنشأهم منها. (وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) أي في وقت كونكم أجنة في الأرحام، أي علم من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة، عن الحسن. وقيل: معناه أنه سبحانه علم ضعفكم، وميل طباعكم إلى اللمم، وعلم حين كنتم في الأرحام ما تفعلون إذا خرجتم، وإذا علم ذلك منكم قبل وجوده، فكيف لا يعلم ما حصل منكم. (فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تعظموها، ولا تمدحوها بما ليس لها، فإني أعلم بها. وقيل: معناه لا تزكوها بما فيها من الخير، ليكون أقرب إلى النسك والخشوع، وأبعد من الرياء (هو أعلم بمن اتقى) أي اتقى الشرك والكبائر. وقيل: هو أعلم بمن بر وأطاع وأخلص العمل (أفرأيت الذي تولى) أي أدبر عن الحق (وأعطى قليلا وأكدى) أي أمسك عن إلعطية وقطع، عن الفراء. وقيل: منع منعا شديدا، عن المبرد (أعنده علم الغيب) أي ما غاب عنه من أمر العذاب. (فهو يرى) أي يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه (أم لم ينبأ بما في صحف موسى) أي بل ألم يخبر ولم يحدث بما في أسفار التوراة. (وإبراهيم) أي وفي صحف إبراهيم (الذي وفى) أي تمم وأكمل ما أمر به. وقيل: بلغ قومه وأدى ما أمر به إليهم. وقيل: أكمل ما أوجب الله عليه من كل ما أمر وامتحن به. ثم بين ما في صحفهما فقال: (ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى. والمعنى: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) عطف على قوله (ألا تزر) وهذا أيضا ما في صحف إبراهيم وموسى أي: ليس له من الجزاء ألا جزاء ما عمله دون ما عمله غيره. ومتى دعا غيره إلى الإيمان فأجابه إليه فهو محمود على ذلك، على طريق التبع، وكأنه من أجل عمله صار له الحمد على هذا، ولو لم يعمل شيئا لما استحق جزأء، لا ثوابا ولا عقابا (1)، عن ابن عباس في رواية الوالبي قال: إن هذا منسوخ الحكم في شريعتنا، لأنه سبحانه يقول: (ألحقنا بهم ذرياتهم) رفع درجة الذرية، وإن لم يستحقوها بأعمالهم، ونحو هذا قال عكرمة: إن ذلك لقوم إبراهيم وموسى. فأما هذه الأمة فلهم ما سعى (1) وفي نسخة. وعن ابن عباس. (*)
[ 301 ]
(غيرهم نيابة عنهم. ومن قال: إنه غير منسوخ الحكم قال: الآية تدل على منع النيابة في الطاعات، إلا ما قام عليه الدليل، كالحج، وهو أن امرأة قالت: يا رسول الله ! إن أبي لم يحج ؟ قال. فحجي عنه. (وأن سعيه سوف يرى) يعني: إن ما يفعله الإنسان، ويسعى فيه، لا بد أن يرى فيما بعد بمعنى أنه يجازى عليه. وبين ذلك بقوله: (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) أي يجازى على الطاعات بأوفى ما يستحقه من الثواب الدائم. والهاء في يجزاه عائدة إلى السعي، والمعنى: إنه يرى العبد سعيه يوم القيامة، ثم يجزى سعيه أوفى الجزاء. (وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه، هو أمات وأحيا (44) وأنة خلق الزوجين الذكر والأنثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الأخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه وهو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الأولى (50) وثمود افما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانواهم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53) فغشهاما غشى (54) فبائ ءالاء ربك تتمارى (55) هذا نذير من النذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62). القراءة: قرأ أهل المدينة والبصرة غير سهل. (عادلولى) مدغمة غير منونة ولا مهموزة إلا في رواية قالون عن نافع، فإنه روي عنه: (عاد لؤلى) مهموزة ساكنة، وقرأ الباقون. (عادا الأولى) منونة مهموزة غير مدغمة. وقرأ عاصم وحمزة ويعقوب: (وثمود فما أبقى) بغير تنوين. والباقون: (وثمودا) بالتنوين. الحجة. قال أبو علي: قال أبو عثمان. أساء عندي أبو عمرو في قراءته، لأنه أدغم النون في لام المعرفة. واللام إنما تحركت بحركة الهمزة. وليست بحركة لازمة. والدليل على ذلك أنك تقول الحمر. فإذا طرحت حركة الهمزة على اللام،
[ 302 ]
لم يحذف ألف الوصل، لأنها ليست بحركة لازمة. قال أبو عثمان: ولكن كان أبو الحسن روى عن بغض العرب، أنه كان يقول: هذا لحمر قد جاء. فيحذف ألف الوصل لحركة اللام. وقال أبو علي القول في (عادا الأولى) إن من حقق الهمزة في الأولى، سكن لام المعرفة. وإذا سكنت لام المعرفة والتنوين من قولك (عادا) المنصوب ساكن التقى ساكنان النون في (عادا) ولام المعرفة، فحركت التنوين بالكسر لالتقاء الساكنين، وهذا وجه قول من لم يدغم وقياس قول من قال: أحد الله، فحذف الهتنوين لالتقاء الساكنين أ ن يحذفه هنا أيضا، كما حذفه في أحد الله، وكما حذفه في قوله: (ولا ذاكر الله " إلا أن ذا لا يدخل في القراءة، وإن كان قياسا. وجاء في المشعر كثيرا. وجاء في بعض القراءة.. ويجوز في قول من خفف الهمزة من الأولى على قول من قال الحمر، فلم يحذف الهمزة التي للوصل أن يحرك التنوين فيقول (عادن الولى) (1)، كما يقول ذلك إذا حقق الهمزة، لأن اللام على هذا في تقدير السكون. فكما تكسر التنوين لالتقاء الساكنين، كذا تكسره في هذا القول، لأن التنوين في تقدير الإلتقاء مع الساكن. ومن حرك لام المعرفة، وحذف همزة الوصل، فقياسه أن يسكن النون من (عادن) فيقول (عادن لولى) لأن اللام (2) ليس في تقدير السكون، كما كان في الوجه الأول كذلك. ألا ترى أنه حذف همزة الوصل. فإذا كان كذلك ترك النون على سكونها، كما تتركه في نحو: عاد ذاهب. فأما قول أبي عمرو (عاد لولى) فإنه لما خفف الهمزة التي هي منقلبة عن الفاء، لاجتماع الواوين أولا، ألقى حركتها على اللام الساكنة، وقبل اللام نون ساكنة، فأدغمها في اللام، كما يدغمها في الراء في نحو: من راشد. وذلك بعد أن يقلبها لاما أو راءا. فإذا أدغمها فيها صار عاد لولى، وخرج عن الإساءة التي نسبها إليه أبو عثمان من وجهين أحدهما: أن يكون تخفيف الهمزة من قوله (الأولى) على قول من قال لحمر، كأنه يقول في التخفيف للهمزة قبل الإدغام لولى، فخرجت اللام من حكم السكون بدلالة حذف همزة الوصل معه، فحسن الإدغام فيه. (1) وفي نسختين: " عادن لولى ". (2) وفيهما:، (لأن اللام الآن). (*)
[ 303 ]
والوجه الأخر: أن يكون أدغم على قول من قال " الولى الحمر " فلم يحذف الهمزة التي للوصل، مع إلقاء الحركة على لام المعرفة، لأنه في تقدير السكون فلا يمتنع أن يدغم فيه، كما لا يمتنع أن يدغم في نحو رد، وفر، وعض. وإن كانت لاماتهن سواكن، وتحركها للإدغام كما تحركت السواكن التي ذكرنا للإدغام. وأما ما روي عن نافع من أنه همز فقال (عاد لؤلى) فإنه كما روى عن ابن كثير من قوله: (على سؤقه) فوجهه أن الضمة لقربها من الواو، وأنه لم يحجز بينهما شئ، صارت كأنها عليها، فهمزها كما تهمز الواوات، إذا كانت مضمومة نحو: أدؤر، والغوؤر. وهذه لغة قد رويت وحكيت، وإن لم تكن بتلك الفاشية. اللغة: المنى: التقدير. يقال. منى يمني، فهو مان. قال الشاعر. (حتى تبين ما يمني لك الماني) ومنه المنية لأنها المقدرة. والنشأة: الصنعة المخترعة، خلاف المشيئة. وأقنى: من المنية وهي أصل المال وما يقتنى، والإقتناء. جعل الشئ للنفس على الدوام، ومنه القناة. لأنها مما تقتنى. والشعرى: النجم الذي خلف الجوزاء، وهو أحد كوكبي ذراع الأسد وقسم (1) المرزم، وكانوا يعبدونها في الجاهلية. والمؤتفكة: المنقلبة، وهي التي صار أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها. ائتفكت بهم تأتفك ائتفاكا، ومنه الإفك. الكذب، لأنه قلب المعنى عن جهته. وأهوى أي: أنزل بها في الهواء، ومنه أهوى بيده ليأخذ كذا. وهوى يهوي: نزل في الهوى (2). فأما إذا نزل في سلم، أو درج، فلا يقال أهوى، ولا هوى. وأزفت الأزفة أي دنت الدانية. قال النابغة: أزف الترجل غير أن ركابنا لماتزل برجالنا، وكأن قد وقال كعب بن زهير: بان الشباب وأمسى الشيب قد أزفا، ولا أرى لشباب ذاهب خلفا والسمود. اللهو. والسامد: اللاهي. يقال سمد يسمد قال: رمى الحدثان نسوة آل حرب بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا، ورد وجوههن البيض سودا (1) في سائر النسخ: (فم المرزم). (2) وفي نسختين (الهواء). (*)
[ 304 ]
المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال: (وأن إلى ربك المنتهى) يعني وإن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الأمر. والمنتهى والآخر واحد، وهو المصير إلى حيث ينقطع العمل عنده (وأنه هو أضحك وأبكى) أي فعل سبب الضحك والبكاء من السرور والحزن، كما يقال. أضحكني فلان وأبكاني، عن عطاء والجبائي. وقيل: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، عن مجاهد. والضحك والبكاء من فعل الإنسان. قال الله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا). وقال: (تعجبون وتضحكون) فنسب الضحك إليهم. وقال الحسن: إن الله سبحانه هو الخالق للضحك والبكاء. والضحك: تفتح أسرار الوجه عن سرور وعجب في القلب، فإذا هجم على الإنسان منه ما لا يمكنه دفعه، فهو من فعل الله. والبكاء: جريان الدمع على الخد، عن غم في القلب، وربما كان عن فرح يمازجه تذكر حزن، فكأنه عن رقة في القلب. وقيل: معنى الآية أضحك الأشجار بالأنوار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقيل: أضحك المطيع بالرحمة، وأبكى العاصي بالسخطة. (وأنه هو أمات وأحيا) أي خلق الموت فأمات به الأحياء، لا يقدر على ذلك غيره، لأنه لو قدر على الموت، لقدر على الحياة، فإن القادر على الشئ قادر على ضده، ولا يقدر أحد على الحياة إلا الله تعالى. وخلق الحياة التي يحيا بها الحيوان، فأمات الخلق في الدنيا، وأحياهم في العقبى للجزاء. (وأنه خلق الزوجين) أي الصنفين (الذكر والأنثى) من كل حيوان (من نطفة إذا تمنى) أي إذا خرجت منهما وتنصب في الرحم. والنطفة ماء الرجل والمرأة التي يخلق منها الولد، عن عطاء والضحاك والجبائي. وقيل: تمنى أي تقدر وهو أصله، فالمعنى تلقى على تقدير في رحم الأنثى (وأن عليه النشأة الأخرى) أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة، يعني عليه أن يبعث الناس أحياء للجزاء. فإن قيل: إن لفظة (على) كلمة إيجاب، فكيف يجب على الله سبحانه ذلك ؟ فالجواب: إنه سبحانه إذا كلف الخلق، فقد ضمن الثواب. فإذا فعل فيهم الآلام، فقد ضمي العوض. فإذا لم يعوض في. الدنيا، وخلى بين المظلوم والظالم، فلا بد من دار اخرى يقع فيها الجزاء والإنصاف والإنتصاف. وقد وعد سبحانه بذلك فيجب الوفاء به. (وأنه هو أغنى وأقنى) أي أغنى الناس بالأموال، وإعطاء القنية، وأصول
[ 305 ]
المال، وما يدخرونه بعد الكفاية، عن أبي صالح. وقيل: أقنى أي أخدم، عن الحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: أغنى مول، وأقنى أرضى بما أعطى، عن ابن عباس. وقيل: أغنى بالقناعة، وأقنى بالرضا، عن سفيان. وقيل: أغنى بالكفاية، وأقنى بالزيادة. وقيل: أغنى من شاء، وأقنى أي. أفقر، وحرم من شاء، عن ابن زيد. (وأنه هو رب الشعرى) أي خالق الشعرى ومخترعها ومالكها، أي فلا تتخذوا المربوب المملوك إلها. وقيل: إن خزاعة كانت تعبدها، وأول من عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي (ص) من قبل أمهاته. وكان المشركون يسمونه (ص) ابن أبي كبشة لمخالفته إياهم في الدين، كما خالف أبو كبشة غيره في عبادة الشعرى. (وأنه أهلك عادا الأولى) وهو عاد بن إرم، وهم قوم هود أهلكهم الله بريح صرصر عاتية، وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى. لمال ابن إسحاق. أهلكوا ببغي بعضهم على بعض، فتفانوا بالقتل. (وثمود) أي وأهلك ثمود (فما أبقى) ولا يجوز أن يكون منصوبا بأبقى، لأن (ما) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، لا يقال: زيدا ما ضربت، لأنها تجري مجرى الإستفهام في أن لها صدر الكلام. وانما فتحت أن في هذه المواضع كلها، لأن جميعها في صحف إبراهيم وموسى، فكأنه قال: أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى بأنه إلا تزر وازرة وزر أخرى)، وبأنه كذا وكذا. (وقوم نوح من قبل) أي: وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود. (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى) من غيرهم، لطول دعوة نوح، وعتوهم على الله في الكفر والتكذيب. (والمؤتفكة) يعني قرى قوم لوط المخسوفة (أهوى) أي أسقط. أهواها جبرائيل بعد أن رفعها، وأتبعهم الله بالحجارة وذلك قوله) (فغشاها ما غشى) أي ألبسها من العذاب ما ألبس يعني الحجارة المسومة التي رموا بها من السماء، عن قتادة وابن زيد. وقيل: إنه تفخيم لشأن العذاب الذي نالها من جهة إبهامه في قوله (ما غشى) فكأنه قال: قد حل بهم من العذاب والتنكيل ما يجل عن البيان والتفصيل. (فبأي الاء ربك تتمارى) أي بأي نعم ربك ترتاب وتشك أيها الإنسان، فيما أولاك، أو فيما كفاك، عن قتادة. وقيل: لما عد الله سبحانه ما فعله مما يدل على وحدانيته قال: فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته، تتشكك. وأنما ذكره بالنعم بعد تعديد النقم، لأن النقم التي عددت هي نعم علينا، لما لنا فيها من اللطف في
[ 306 ]
الانزجار عن القبيح، إذ نالهم تلك النقم لكفرانهم النعم. (هذا نذير من النذر الاولى) أشار إلى رسول الله (ص) عن قتادة. والنذر الاولى. الرسل قبله. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. والنذر الاولى: صحف إبراهيم، وموسى، عن أبي مالك. وقيل: معناه هذه الأخبار التي أخبر بها عن إهلاك الامم الأولى نذير لكم، عن الجبائي. (أزفت الازفة) أي دنت القيامة، واقتربت الساعة. وإنما سميت القيامة آزفة أي دانية، لأن كل ما هو آت قريب (ليس لها من دون الله كاشفة) أي إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها، لم يكشف عنهم أحد، ولم يردها، عن عطاء والضحاك وقتادة. وتأنيث كاشفة على تقدير نفس كاشفة، أو جماعة كاشفة، ويجوز أن يكون مصدرا كالعافية، والعاقبة، والواقية، والخائنة. فيكون المعنى. ليس لها من دون الله كاشف، أي لا يكشف عنها غيره، ولا يظهرها سواه، كقوله: إلا يجليها لوقتها إلا هو). (أفمن هذا الحديث) يعني بالحديث ما قدم من الإخبار عن الصادق (ع). وقيل: معناه أفمن هذا القرآن ونزوله من عند الله على محمد (ص) وكونه معجزا (تعجبون) أيها المشركون (وتضحكون) استهزاء (ولا تبكون) انزجارا لما فيه من الوعيد (وأنتم سامدون) أي غافلون لاهون معرضون، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: هو الغناء، كانو إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء، ليشغلوا الناس عن استماعه، عن عكرمة (فاسجدوا لله واعبدوا) أمرهم سبحانه بالسجود له، والعبادة خالصا مخلصا. وفي الاية دلالة على أن السجود فهنا واجب، على ما ذهب إليه أصحابنا، لأن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
[ 307 ]
عدد آيها: وهي خمس وخمسون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غب، بعث يوم القيامة، ووجهه على صورة القمر، ليلة البدر، ومن قرأها كل ليلة، كان أفضل، وجاء يوم القيامة، ووجهه مسفر على وجوه الخلائق). وروى يزيد بن خليفة، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ سورة اقتربت الساعة، أخرجه الله من قبره على ناقة من نوق الجنة. تفسيرها. ختم الله سبحانه تلك السورة، بذكر أزوف الآزفة، وافتتح هذه السورة بمثلها فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (أقتربت الساعة وأنشق القمر (1) وإن يرواء ايه يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا وأتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بلغة فما تغن النذر (5) فتول عنهم يوم يدع الداع الى شئ نكر (6) خشعا أبصرهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين الى الداع يقول الكفرون هذا يوم عسر (8) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فأنتصر (10).
[ 308 ]
القراءة: قرأ أبو جعفر: (وكل أمر مستقر) بالجر والباقون بالرفع. وقرأ ابن كثير ونافع: (يوم يدع الداع) بغير ياء، و (مهطعين إلى الداعي، بياء في الوصل. وروي عن ورش. (يوم يدع الداعي) بياء في الوصل. وقرأهما أبو جعفر وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل. والباقون بغير ياء في وصل، ولا وقف. وقد تقدم القول في هذا النحو. وقرأ ابن كثير: (إلى شئ نكر) بالتخفيف. والباقون: (نكر) بضمتين. وقرأ أهل العراق، غير عاصم: (خاشعا أبصارهم). والباقون. (خشعا). وفي الشواذ قراءة حذيفة: (وقد انشق القمر)، وقراءة مجاهد والجحدري وأبي قلابة (إلى شئ نكر). الحجة: من قرأ (مستقر) بالجر جعله صفة لأمر. ومن قرأه بالرفع، جعله خبرا لكل أمر. وأما قراءة نكر، فإنه على فعل، وهو أحد الحروف التي جاءت صفة على هذه الزنة، ومثله ناقة أجد، ومشية سجح صفة، قال حسان: دعوا التحاجز، وامشوا مشية سجحا، إن الرجال ذوو عضب، وتذكير (1) ومن قرأ (نكر) خففه مثل رسل وكتب. والضمة في تقدير الثبات. ومن قرأ (خاشعا أبصارهم) فإنه كما لم يلحق علامة التأنيث، لم يجمع. وحسن أن لا يؤنث، لأن التأنيث ليس بحقيقي. ومن قال (خشعا) فقد أثبت ما يدل على الجمع، وهو على لفظ الإفراد. ودل لفظ الجمع على لفظ ما يدل عليه التأنيث الذي ثبت في نحو قوله في الآية الأخرى. (خاشعة أبصارهم) و (خشعت الأصوات للرحمن). قال الزجاج. ولك في الإفراد، ودل لفظ الجمع ما يدل عليه التأنيث الذي ثبت في نحو قوله في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو قوله. (خاشعا أبصارهم). ولك التوحيد والتأنيث نحو (خاشعة أبصارهم)، ولك الجمع نحو (خشعا أبصارهم)، تقول: مررت بشباب حسن أوجههم، وحسان وجوههم، وحسنة أوجههم. قال: وشباب حسن أوجههم، من إياد بن نزار بن معد قال ابن جني: قراءة حذيفة. (وقد انشق القمر) يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر ورفع التشكك أي: قد كان انشقاق القمر متوقعا، دلالة على قرب (1) التحاجز: التمانع. والسجح: اللين السهل. والعضب. السيف القاطع. وذكر الفأس، وغيره: جعل على رأسه القطعة من الفولاذ. (*)
[ 309 ]
الساعة. فإذا كان قد انشق وانشقاقه من أشراطها، وقد يوكد الأمر في قرب وقوعها، وذلك أن قد إنما هو جواب وقوع أمر كان متوقعا. اللغة: في (اقتربت) زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر، لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة، نحو: اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده. والأهواء. جمع الهوى، وهو رقة القلب بميل الطباع، كرقة هواء الجو. يقال. هوي يهوى هوى، فهو هو إذا مال طبعه إلى الشئ. والمزدجر: المتعظ، مفتعل من الزجر، إلا أن التاء أبدلت دالا، لتوافق الزاي بالجهر. ويقال: أنكرت الشئ فهو منكر، ونكرته فهو منكور. وقد جمع الأعشى بين اللغتين فقال: وأنكرتني، وما كان الذي نكرت، من الحوادث، إلآ الشيب، والصلعا (1) والنكر والمنكر: الشئ الذي تأباه ا النفس، ولا تقبله من جهة نفور الطبع عنه، وأصله من الإنكار الذي هو نقيض الإقرار. والأجداث: القبور جمع جدث. والجدف بالفاء لغة فيه. والإهطاع: الإسراع في المشي. الاعراب: (فما تغني النذر). يجوز أن يكون ما للجحد، فيكون حرفا. ويجوز أن يكون استفهاما، فيكون إسما. والتقدير في الأول: فلا تغني النذر. وفي الثاني: فأي شئ تغني النذر. قال الزجاج: قوله (فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر) وقف التمام: فتول عنهم. ويوم: منصوب بقوله: (يخرجون من الأجداث). وأما حذف الواو من (يدعو) في الكتاب، فلأنها تحذف في اللفظ، لالتقاء الساكنين، فاجريت في الكتاب على ما يلفظ بها. وأما (الداعي) فإثبات الياء فيه أجود. ويجوز حذفها لأن الكسرة تدل عليها. وقوله: (خشعا أبصارهم) منصوب على الحال من الواو في (يخرجون) وفيه تقديم وتأخير تقديره: يخرجون خشعا أبصارهم من الأجداث. وإن شئت كان حالا من الضمير المجرور في قوله (فتول عنهم). و (مهطعين) أيضا منصوب على الحال. و (أني مغلوب): تقديره دعا ربه بأني مغلوب. وقرأ عيسى بن عمر (إني) بالكسر على إرادة القول أي: فدعا ربه قالى إني مغلوب. ومثله (والذين أتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا) التقدير. قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا. (1) الصلع: انحسار شعر مقدم الرأس. (*)
[ 310 ]
المعنى. (اقتربت الساعة) أي قربت الساعة التي تموت فيها الخلائق، وتكون القيامة والمراد: فاستعدوا لها قبل هجومها (وانشق القمر) قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله (ص) فقالوا. إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول الله (ص). إن فعلت تؤمنون ؟ قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر. فسال رسول الله (ص) ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله ينادي: يا فلان ! يا فلان ! اشهدوا. وقال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله (ص) شقتين، فقال لنا رسول الله (ص): اشهدوا، اشهدوا. وروي أيضا عن ابن مسعود أنه قال. والذي نفسي بيده، لقد رأيت حراء بين فلقي القمر. وعن جبير بن مطعم قال: إنشق القمر على عهد رسول الله (ص) حتى صار فرقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقال ناس. سحرنا محمد. فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم. وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعليه جماعة المفسرين، إلا ما روي عن عثمان بن عطاء، عن أبيه أنه قال: معناه وسينشق القمر. وروي ذلك عن الحسن، وأنكره أيضا البلخي. وهذا لا يصح لأن المسلمين أجمعوا على ذلك، فلا يعتد بخلاف من خالف فيه، ولأن اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه. ومن طعن في ذلك بانه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله (ص)، لما كان يخفى على أحد من أهل ألأقطار، فقوله باطل، لأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد حجبه عن ممثرهم، بغيم وما يجري مجراه، ولأنه قد وقع ذلك ليلا، فيجوز أن يكون الناس كانوا نياما، فلم يعلموا بذلك. على أن الناس ليس كلهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو، من آية وعلامة، فيكون مثل انقضاض الكواكب، وغيره مما يغفل الناس عنه. وإنما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامة نبوة نبينا (ص) ونبوته وزمانه، من أشراط اقتراب الساعة. (وإن يروا آية يعرضوا) هذا إخبار من الله تعالى عن عناد كفار قريش، وأنهم إذا رأوا معجزة، أعرضوا عن تأملها، والإنقياد لصحتها، عنادا وحسدا (ويقولوا سحر مستمر) أي قوي شديد، يعلو كل سحر، عن الضحاك، وأبي العالية،
[ 311 ]
وقتادة، وهو من إمرار الحبل، وهو شدة فتله. واستمر الشئ إذا قوي واستحكم. وقيل: معناه سحر ذاهب مضمحل لا يبقى، عن مجاهد، وهو من المرور. وقال المفسرون: لما انشق القمر، قال مشركو قريش: سحرنا محمد. فقال الله سبحانه: (وإن يروا آية يعرضوا) عن التصديق والإيمان بها قال الزجاج. وفي هذا دلالة على أن ذلك قد كان ووقع. وأقول: ولأنه تعالى قد بين أن يكون آية على وجه الإعجاز وإنما يحتاج إلى الاية المعجزة في الدنيا، ليستدل الناس بها على صحة النبوة، ويعرف صدق الصادق، لا في حال انقطاع التكليف، والوقت الذي يكون الناس فيه ملجئين إلى المعرفة، ولأنه سبحانه قال: (ويقولوا سحر مستمر) وفي وقت الإلجاء لا يقولون للمعجز إنه سحر. (وكذبوا) أي بالأية التي شاهدوها (واتبعوا أهواءهم) في التكذيب، وما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم عليه. (وكل أمر مستقر) فالخير يستقر باهل الخير، والشر يستقر باهل الشر، عن قتادة. والمعنى: إن كل أمر من خير وشر، مستقر ثابت، حتى يجازى به صاحبه. إما في الجنة، أو في النار. وقيل. معناه لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا، فسيظهر. وما كان منه في الأخرة، فسيعرف، عن الكلبي. (ولقد جاءهم) أي ولقد جاء هؤلاء الكفار أمن الأنباء) يعني الأخبار العظيمة في القرآن بكفر من تقدم من الأمم، وإهلاكنا إياهم (ما فيه مزدجر) أي متعظ، وهو بمعنى المصدر أي وازدجار عن الكفر، وتكذيب الرسل (حكمة بالغة) يعني القرآن حكمة (1) تامة قد بلغت الغاية والنهاية. (فما تغني النذر) أي: أي شئ تنفع النذر مع تكذيب هؤلاء وإعراضهم، وهو جمع النذير. وقيل: معناه فلا تغني النذر شيئا أي: إن الأنبياء الذين بعثوا إليهم، لا يغنون عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بكفرهم، لأنهم خالفوهم، ولم يقبلوا منهم، - عن الجبائي. وقيل: النذر هي الزواجر المخوفة، وآيات الوعيد. ثم أمره سبحانه بالإعراض عنهم فقال: (فتول عنهم) أي أعرض عنهم، ولا تقابلهم على سفههم. وههنا وقف تام. (يوم يدع الداع إلى شئ نكر) أي منكر غير معتاد، ولا معروف، بل أمر فظيع لم يروا مثله، فينكرونه استعظاما. واختلف في (1) (بالغة).
[ 312 ]
الداعي فقيل. هو إسرافيل يدعو الناس إلى الحشر قائما على صخرة بيت المقدس، عن مقاتل. وقيل: بل الداعي يدعوهم إلى النار، ويوم ظرف ليخرجون أي. في هذا اليوم يخرجون من الأجداث. ويجوز أن يكون التقدير في هذا اليوم يقول الكافرون. وقوله: (خشعا أبصارهم) يعني خاشعة أبصارهم أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. وإنما وصف الأبصار بالخشوع، لأن ذلة الذليل، أو عزة العزيز، تتبين في نظره، وتظهر في عينه. (يخرجون من الأجداث) أي من القبور (كأنهم جراد منتشر) والمعنى أنهم يخرجون فزعين، يدخل بعضهم في بعض، ويختلط بعضهم ببعض، لا جهة لأحد منهم، فيقصدها، كما أن الجراد لا جهة لها فتكون أبدا متفرقة في كل جهة. قال الحسن: الجراد يتلبد حتى إذا طلعت عليها الشمس، انتشرت. فالمعنى: إنهم يكونون ساكنين في قبورهم، فإذا دعوا خرجوا وانتشروا. وقيل: إنما شبههم بالجراد لكثرتهم. وفي هذه الآية دلالة على أن البعث إنما يكون لهذه البنية، لأنها الكائنة في الأجداث، خلافا لمن زعم أن البعث يكون للأرواح. (مهطعين إلى الداعي) أي مقبلين إلى صوت الداعي، عن قتادة. وقيل: مسرعين إلى إجابة الداعي، عن أبي عبيدة. وقيل: ناظرين قبل الداعي، قائلين: هذا يوم عسمر، عن الفراء وأبي علي الجبائي. وهو قوله (يقول الكافرون هذا يوم عسر) أي صعب شديد. وقد قيل أيضا في قوله (فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر) أقوال أخر أحدها: إن المعنى فأعرض عنهم إذا تعرضوا لشفاعتك يوم يدع الداعي، وهو يوم القيامة، فلا تشفع لهم ذلك اليوم، كما لم يقبلوا منك اليوم وثانيها: إن معناه فتول عنهم، فإنهم يرون ما ينزل بهم من العذاب، يوم يدع الداعي، وهو يوم القيامة. فحذف الفاء من جواب الأمر وثالثها: إن معناه فتول عنهم، فإنهم يوم يدعو الداعي صفتهم كذا وكذا، وهي ما بينه إلى قوله أيوم عسر). ورابعها. فتول عنهم، واذكر يوم يدع الداعي إلى اخره، عن الحسن. (كذبت قبلهم) أي قبل كفار مكة (قوم نوح فكذبوا عبدنا) نوحا كما كذبك يا محمد هؤلاء الكفار، وجحدوا نبوتك. (وقالوا مجنون) أي هو مجنون قد غطي على عقله (وازدجر) أي: زجر بالشتم، والرمي بالقبيح، عن ابن زيد. وقيل: معناه زجر بالوعيد وتوعد بالقتل، فهو مثل قوله: (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من
[ 313 ]
المرجومين) (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) أي فقال. يا رب قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر، لا بالحجة، فانتصر أي. فانتقم لي منهم بالإهلاك والدمار، نصرة لدينك ونبيك. وفي هذا دلالة على وجوب الإنقطاع إلى الله تعالى، عند سماع الكلام القبيح من أهل الباطل. (ففتحنا أبواب السماء بماء منه مر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملنة على ذات ألوح ودسر (13) تجرى باعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركنها ءاية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21)) القراءة: قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (ففتحنا) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. الحجة: وجه التخفيف أن فعلنا بالتخفيف، يدل على القليل والكثير. ووجه التثقيل أنه يخص الكثير (1)، ويقويه قوله. (مفتحة لهم الأبواب). اللغة: الهمر: صب الدمع والماء بشدة. والإنهمار. الإنصباب. قال امرؤ القيس. راح تمريه الصبا، ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر (2) والتفجير. تشقيق الأرض عن الماء. والعيون: جمع عين الماء، وهو ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان. فالعين مشتركة بين عين الحيوان، وعين (1) في نسختين: (الكثير بالكثير). وفي نسخة: (الكثير بالتكثير). (2) مرت الريح السحاب: اسدرته واستخرج ما فيها من الماء. وانتحى البعير: اعتمد في سيره على أيسره. والشؤبوب: الدفعة من المطر وشدة دفع الشئ. والجنوب: يحتمل ريح الجنوب، أو نقطة الجنوب.
[ 314 ]
الماء، وعين الذهب (1)، وعين السحاب، وعين الركبه. والدسر: المسامير التي تشد بها السفينة، واحدها دسار ودسير. ودسرت السفينة أدسرها دسرا إذا شددتها. وقيل: إن أصل الباب الدفع، يقال. دسره بالرمح إذا دفعه بشدة. والدسر: صدر السفينة، لأنه يدسر به الماء أي يدفع، ومنه الحديث في العنبر: (هو شئ دسره البحر). ومدكر: أصله مذتكر، فقلبت التاء دالا، لتواخي الذال بالجهر، ثم أدغمت الذال فيها. والنذر: إسم من الإنذار، يقوم مقام المصدر، يقال: أنذره نذرا بمعنى إنذارا، ومثله: أنزله نزلا، بمعنى إنزالا. ويجوز أن يكون جمع نذير. والصرصر: الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها، وهو مضاعف صر، يقال: صر وصرصر، وكمت وكبكب، ونة ونهنه. والمستمر: الجاري على طريقة واحدة. وأعجاز النخل: أسافله. والنخل يذكر ويؤنث. والمنقعر: المنقكع عن أصله، لأن قعر الشئ قراره. وتقعر في كلامه تقعرا إذا تعمق. الاعراب: (عيونا): نصب على التمييز، أو الحال. والأصل وفجرنا عيون الأرض، والمعنى: وفجرنا جميع الأرض عيونا. ويجوز أن يكون تقديره: بعيون، فحذف الجار. ويجوز أن يكون التقدير: وفجرنا من الأرض عيونا. وقوله (على أمر) (2): في موضع نصب على الحال. وقوله: (باعيننا) في موضع نصب بانه ظرف مكان. (جزاء): منصوب بانه مفعول له. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال، والمعنى: فعلنا ذلك مجازين جزاء. و (آية). منصوية على الحال من الهاء قي (تركناها). المعنى: ثم بين سبحانه إجابته لدعاء نوح (ع) فقال. (ففتحنا أبواب السماء) فهنا حذف معناه: فاستجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء أي: أجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه باب كان مانعا له، وذلك من صنع اللة الذي لا يقدر عليه سواه. وجاز ذلك على طريق البلاغة (بماء منهمر) أي منصب انصبابا شديدا لا ينقطع (وفجرنا الأرض عيونا) أي شققنا الأرض بالماء عيونا، حتى جرى الماء على وجه الأرض (فالتقى الماء) يعني فالتقى الماء ان. ماء السماء وماء الأرض. وأنما لم يثن لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير. (1) في نسخة: " عين الذهب، وعين الميزان " وفي نسخة. (الميزاب). (2) في المخطوطة: " على أمر قد قدر ". (*)
[ 315 ]
(على أمر قد قدر) فيه هلاك القوم أي: على أمر قد قدره الله تعالى، وهو هلاكهم. وقيل: على أمر قد قدره الله تعالى، وعرف مقداره. فلا زيادة فيه، ولا نقصان. وقيل: معناه أنه كان قدر ماء السماء، مثل (1) ما قدر ماء الأرض، عن مقاتل. وقيل: معناه على أمر قدر عليهم في اللوح المحفوظ (وحملناه على ذات ألواح) أي: وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح مركبة (2) بعضها إلى بعض، وألواحها خشباتها التي منها جمعت. (ودسر) أي مسامير شدت بها السفينة، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقيل: هو صدر السفينة يدسر بها الماء، عن الحسن وجماعة. وقيل: هي أ ضلاع السفينة، عن مجاهد. وقيل: الدسر طرفاها، وأصلها. والألواح جانباها، عن الضحاك. (تجري) السفينة في الماء (باعيننا) أي بحفظنا وحراستنا، وبمرأى منا. ومنه قولهم: عين الله عليك. وقيل: معناه باعين أوليائنا ومن وكلناهم بها من الملائكة. وقيل: معناه تجري باعين الماء التي أتبعناها (جزاء لمن كان كفر) أي فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه لاغراقهم، ثوابا لمن كان قد كفر به، وجحد أمره، وهو نوح (ع). والتقدير. لمن جحد نبوته، وأنكر حقه، وكفر بالله فيه. (ولقد تركناها) أي تركنا هذه الفعلة التي فعلناها (أية) أي علامة يعتبر بها. وقيل: معناه تركنا السفينة، ونجاة من فيها، لاهلاك الباقين دلالة باهرة على وحدانية الله تعالى، وعبرة لمن اتعظ بها، وكانت السفينة باقية حتى رآها أوائل هذه الأمة، عن قتادة. وقيل في كونها آية أنها كانت تجري بين ماء السماء، وماء الأرض. وقد كان غطاها على ما أمر الله تعالى. (فهل من مذكر) أي متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر به، ويخاف. وقيل: معناه فهل من طالب علم، فيعان عليه، عن قتادة. (فكيف كان عذابسي ونذر) هذا استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب أي: كيف رأيتم انتقامي منهم، لانذاري إياهم. وقال الحسن: النذر جمع نذير، وإنما كرر سبحانه هذا القول في هذه السورة، لأنه سبحانه لما ذكر أنواع الإنذار والعذاب، عقد التذكير بشئ منه على التفضيل. (1) ليس في سائر النسخ لفظة " ما ". (2) في سائر النسخ: (جمع بعضها). (*)
[ 316 ]
(ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلناه للحفظ والقراءة حتى يقرأ كله ظاهرا، وليس من كتب الله المنزلة كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن، عن سعيد بن جبير. والتيسير للشئ هو تسهيله بما ليس فيه كثيرمشقة على النفس، فمن سهل له طريق العلم، فهو حقيق باخذ الحظ الجزيل منه، لأن التسهيل أكبر داع إليه، وتسهيل القرآن للذكر هو خفة ذلك على النفس، بحسن البيان، وظهور البرهان في الحكم السنية، والمعاني الصحيحة الموثوق بها، لمجيئها من قبل الله تعالى. وإنما صار الذكر من أجل ما يدعى إليه، ويحث عليه، لأنه طريق العلم، لأن الساهي عن الشئ، أو عن دليله، لا يجوز أن يعلمه في حال سهوه، فإذا تذكر الدلائل عليه، والطرق المؤدية إليه، تعرض لعلمه من الوجه الذي ينبغي له. (فهل من مذكر) أي متعظ معتبر به ناظر فيه. ثم قال سبحانه: (كذبت عاد) أي بالرسول الذي بعثه الله إليهم، وهو هود (ع) فاستحقوا الهلاك فاهلكهم. (فكيف كان عذابي) لهم (ونذر) أي وإنذاري إياهم. ثم بين كيفية إهلاكهم فقال: (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) أي شديدة الهبوب، عن ابن زيد. وقيل: باردة، عن ابن عباس وقتادة. من الصر وهو البرد. (في يوم نحس) أي: في يوم شؤم (مستمر) أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسته سبع ليال وثمانية أيام، حتى أتت عليهم. ومستمر من صفة اليوم أي: يوم مستمر ضرره، عاتم هلاكه. وقيل: هو نعت للنحس أي: استمر بهم العذاب، والنحس في الدنيا، حتى اتصل بالعقبى. قال (1) الزجاج. وقيل إنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور. رواه العياشي بالإسناد عن أبي جعفر (ع). (تنزع الناس) أي تقتلع هذه الريح الناس، ثم ترمي بهم على رؤوسهم، فتدق رقابهم، فيصيرون (كأنهم أعجاز نخل منقعر) أي أسافل نخل منقلع، لأن رؤوسهم سقطت عن أبدانهم، عن مجاهد. وقيل: معناه تنزع الناس من حفر حفررها، ليمتنعوا بها عن الريح. وقيل. معناه تنزع أرواح الناس، عن الحسن. (فكيف كان عذاى ونذر) وهو تعظيم العذاب النازل بهم، وتخويف لكفار مكة. (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22) كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا (1) في نسخة: " قاله ". (*)
[ 317 ]
منا واحدا نتبعة إنا إذا لفى ضلل وسعير (24) أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلون الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن اماء قسمة كل شرب محتصر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) القراءة: قرأ ابن عامر وحمزة: (ستعلمون) بالتاء. والباقون بالياء. وفى الشواذ قراءة أبي السماك: (أبشر منا) بالرفع، (واحدا نتبعه) بالنصب وقراءة أبي قلابة: (الكذاب الأشر) بالتشديد. وقراءة مجاهد: (الأشر) بضم الشين خفيفة. وقراءة الحسن: (كهشيم المحتظر) بفتح الظاء. الحجة: قال أبو علي: وجه الياء أن قبله غيبة، وهو قوله: (فقالوا أبشرا منا (1) سيعلمون) ووجه التاء على أنه قيل لهم: ستعلمون. وقال ابن جني. قوله (أبشر) عندي مرفوع بفعل يدل عليه قوله: (القي الذكر عليه) فكأنه قال: أيبعث بشر منا. فأما انتصاب (واحدا) فإن شئت جعلته حالا من الضمير في قوله (منا) أي: ينبا بشر كائن منا. والناصب لهذه الحال الظرف، كقولك: زيد في الدار جالسا. وإن شئت جعلته حالا من الضمير في قوله: (نتبعه) أي نتبعه واحدا أي. منفردا لا ناصر له. وقوله (الأشر) بتشديد الراء هو الأصل المرفوض، لأن أصل قولهم: هذا خير منه (2) وشرمنه، هذا أخير منه، وهذا أشر منه. فكثر استعمال هاتين الكلمتين، فحذفت الهمزة منهما. وأما (الأشر) فإنه مما جاء على فعل، وفعل من الصفات كحذر وحذر، ويقظ ويقظ، ووطف ووطف، وعجز وعجز. وأما (المحتظر) فإنه مصدر أي. كهشيم الإحتظار، كقولك: كآجر البناء، وخشب النجارة. ويجوز أن يكون (المحتظر) الشجر أي: كهشيم الشجر المتخذة منه الحظيرة أي: كما تتهافت من الشجر المجعول حظيرة. والهشيم ما تهشم منه وانتثر. اللغة: السعر: جمع سعير، وهو النار المسعرة. والسعر. الجنون، يقال. (1) في نسخة: (فقيل). (2) (هذا). (*)
[ 318 ]
ناقة مسعورة إذا كانت كأن بها جنونا. وسعر (1) فلان جنونا. وأصله إلتهاب الشئ. والتعاطي. التناول. والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة على بستانه أو غنمه (2): وهو المنع من الفعل. الاعراب: (أبشرا): منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، وتقديره: أنتبع بشرا منا. وقوله (منا) صفة أي: أبشرا كائنا منا. و (واحدا): صفة بعد صفة. والبشر يقع على الواحد والجمع وقوله: (من بيننا) في محل النصب على الظرف. و (فتنة): منصوب بانه مفعول له. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال أي: فاتنين لهم. المضى: ثم أقسم سبحانه فقال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر) قد فسرناه. وقيل: إنه سبحانه إنما أعاد ذكر التيسير، لينبئ أنه يسره على كل حال، وكل وجه من وجوه التيسير، فس الوجوه التي يسر الله تعالى بها القرآن، هو أن أبان عن الحكم الذي يعمل عليه، والمواعظ التي يرتدع بها، والمعاني التي تحتاج إلى التنبيه عليها، والحجج التي يميز بها بين الحق والباطل، عن علي بن عيسى. (كذبت ثمود بالنذر) أي بالإنذار الذي جاءهم به صالح. ومن قال: إن النذر جمع نذير قال: معناه أنهم كذبوا الرسل بتكذيبهم صالحا، لأن تكذيب واحد من الرسل، كتكذيب الجميع، لأنهم متفقرن في الدعاء إلى التوحيد، وإن اختلفوا في الشرائع. (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه) أي أنتبع آدميا مثلنا، وهو واحد (إنا إذا لفي ضلال) أي: نحن إن فعلنا ذلك، في خطأ وذهاب عن الحق (وسعر) أي: وفي عناء وشدة عذاب، فيما يلزمنا من طاعته، عن قتادة. وقيل: في جنون، عن ابن عباس في رواية عطاء. والفائدة في الأية بيان شبهتهم الركيكة التي حملوا أنفسهم على تكذيب الأنبياء من أجلها، وير أن الأنبياء ينبغي أن يكونوا جماعة. وذهب عليهم أن الواحد من الخلق يصلح لتحمل أعباء الرسالة، لان لم يصلح له غيره من جهة معرفته بربه، وسلامة ظاهره وباطنه، وقيامه بما كلف من الرسالة. (أالقي الذكر (1) وفي نسختين: (واستعر). (2) (وهو من الحظر). (*)
[ 319 ]
عليه من بيننا) هذا استفهام إنكار وجحود أي. كيف ألقي الوحي عليه، وخص بالنبوة من بيننا، وهو واحد منا. (بل هو كذاب) فيما يقول (أشر) أي بطر متكبر، يريد أن يتعظم علينا بالنبوة. ثم قال سبحانه: (سيعلمون غدا من الكذاب الأشر) وهذا وعيد لهم أي سيعلمون يوم القيامة إذا نزل بهم العذاب، أهو الكذاب أم هم في تكذيبه، وهو الأشر البطر أم هم. فذكر مثل لفظهم مبالغة في توبيخهم وتهديدهم. لانما قال (غدا) على وجه التقرير على عادة الناس في ذكرهم الغد، والمراد به العاقبة. قالوا: إن مع اليوم غدا. (إنا مرسلو الناقة فتنة لهم) أي نحن باعثو الناقة بإنشائها على ما طلبوها معجزة لصالح، وقطعا لعذرهم، وامتحانا واختبارا لهم. وههنا حذف، وهو أنهم تعنتوا على صالح، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء، تضع. ثم ترد ماءهم فتشربه. ثم تعود عليهم بمثله لبنا. فقال سبحانه إنا باعثوها كما سألوها (فتنة لهم) عن ابن عباس. (فارتقبهم) أي: انتظر أمر الله فيهم. وقيل: فارتقبهم أي انتظر ما يصنعون. (واصطبر) على ما يصيبك من الأذى حتى يأتي أمر الله فيهم. (ونبئهم) أي أخبرهم (أن الماء قسمة بينهم) يوم للناقة، ويوم لهم (كل شرب محتضر) أي كل نصيب من الماء يحضره أهله، لا يحضر آخر معه، ففي يوم الناقة تحضره الناقة، وفي يومهم يحضرونه هم. وحضر واحتضر بمعنى واحد. وإنما قال (قسمة بينهم) تغليبا لمن يعقل. والمعنى: يوم لهم ويوم لها. وقيل: إنهم كانوا يحضرون الماء إذا غابت الناقة، ويشربونه.. أذا حضرت حضروا اللبن، وتركوا الماء لها، عن مجاهد. (فنادوا صاحبهم) أي دبروا في أمر الناقة بالقتل، فدعوا واحدا من أشرارهم، وهو قدار بن سالف، عاقر النافة (فتعاطى فعقر " أي تناول الناقة بالعقر فعقرها. وقيل. إنه كمن لها في أصل صخرة، فرماها بسهم، فانتظم (1) به عضلة ساقها. ثم شد عليها بالسيف، فكشف عرقوبها. وكان يقال له أحمر ثمود، وأحيمر ثمود. قال الزجاج: والعرب تغلط فتجعله أحمر عاد، فتضرب به المثل في الشؤم. قال زهير: (1) انتظم الصيد: طعنه، أو رماه حتى ينفذه. (*)
[ 320 ]
وتنتج لكم غلمان أشأم، كلهم، كأحمر عاد، ثم ترضع فتفطم (فكيف كان عذابي ونذر) أي: فانظر كيف أهلكتهم، وكيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم. (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) يريد صيحة جبرائيل (ع) عن عطاء. وقيل: الصيحة العذاب (فكانوا كهشيم المحتظر) أي فصاروا كهشيم، وهو حطام الشجر المنقطع بالكسر والرض الذي يجمعه صاحب الحظيرة الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها من برد الريح. والمعنى. إنهم بادوا وهلكوا، فصاروا كيبيس الشجر المفتت (1) إذا تحطم، عن ابن عباس. وقيل. معناه صاروا كالتراب الذي يتناثر من الحائط، فتصيبه الرياح، فيتحظر مستديرا، عن سعيد بن جبير. (ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (32) كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنآ أرسلنا عليهم حاصبا إلا ءال لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزى من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (37) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (40) ولقد جاء ءال فرعون النذر (41) كذبوا بأيتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (52) الاعراب: (سحر) إذا كان نكرة، يراد به سحر من الأسحار، يقال: رأيت زيدا سحرا من الأسحار، فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر، وأتيته سحر. وقوله: (نعمة) مفعول له. وقوله: (بكرة) ظرف زمان، فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك، تقول: أتيته بكرة وغدوة، لم تصرفهما. فبكرة هنا نكرة. المعنى: ثم أقسم سبحانه فقال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) قال قتادة: أي فهل من طالب علم يتعلم (كذبت قوم لوط بالنذر) أي بالإنذار. وقيل: بالرسل على ما فسرناه (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) أي ريحا حصبتهم أي: رمتهم بالحجارة والحصباء. قال ابن عباس: يريد ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح. قال الفرزدق. (1) وفي نسخة. " المتفتت ". (*)
[ 321 ]
مستقبلين شمال الشام، تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور (1) ثم استثنى آل لوط فقال: (إلا آل لوط نجيناهم، أي خلصناهم (بسحر) من ذلك العذاب الذي أصاب قومه (نعمة من عندنا) أي إنعاما. فيكون مفعولا له. ويجوز أن يكون مصدرا، وتقديره: أنعمنا عليهم بذلك نعمة. (كذلك) أي كما أنعمنا عليهم (نجزي من شكر) قال مقاتل. يريد من وحد الله تعالى لم يعذب مع المشركين (ولقد أنذرهم) لوط. (بطشتنا) أي أخذنا إياهم بالعذاب (فتماروا بالنذر) أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل. وقيل: معناه فشكوا ولم يصدقوه، وقالوا. كيف يهلكنا وهو واحد منا، وهو تفاعلوا من المرية. (ولقد راودوه عن ضيفه) أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه (فطمسنا أعينهم) أي محوناها. والمعنى: عميت أبصارهم، عن الحسن وقتادة. وقيل: معناه أزلنا تخطيط وجوههم حتى صارت ممسوحة، لا يرى أثر عين، وذلك أن جبرائيل (ع) صفق أعينهم بجناحه صفقة، فاذهبها. والقصة مذكورة فيما مضى، وتم الكلام. ثم قال: (فذوقوا عذابي ونذر) أي: فقلنا لقوم لوط، لما أرسلنا عليهم العذاب. ذوقوا عذابي ونذري (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) أي أتاهم صباحا عذاب نازل بهم، حتى هلكوا جميعا. (فذوقوا عذابي ونذر) ووجه التكرار أن الأول عند الطمس، والثاني عند الائتفاك (2). فكلما تجدد العذاب، تجدد التقريع (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) مر معناه (ولقد جاء آل فرعون) النذر أي متابعي فرعون بالقرابة والدين (النذر) أي الإنذار. وقيل: هو جمع نذير يعني الأيات التي أنذرهم بها موسى (كذبوا باياتنا كلها) وهي الأيات التسع التي جاءهم بها موسى. وقيل: بجميع الأيات، لأن التكذيب بالبعض، تكذيب بالكل (فاخذناهم) بالعذاب (أخذ عزيز) أي قادر لا يمتنع عليه شئ فيما يريد (مقتدر) على ما يشاء. (1) الضمير في (تضربنا) راجع إلى الشمال، والمراد. ريح الشمال أي: كانت ريح الشمال تضربنا بالحصباء منثورة فيها كالقطن المندوف. ومر البيت في ج 6. (2) ائتفكت البلدة باهلها: انقلبت. (*)
[ 322 ]
(أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (53) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46) إن المجرمين في ضلل وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شئ خلقنه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شئ فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنت ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55) القراءة: قرأ يعقوب عن (1) رويس: (سنهزم الجمع). والباقون. (سيهزم الجمع). وفي الشواذ قراءة أبي السماك. (إنا كل شئ) بالرفع. وقراءة زهير (2) والقرقني والأعمش: (ونهر) بضمتين. الحجة. قال ابن جني: الرفع في قوله (إنا كل شئ خلقناه) أقوى من النصب. وإن كانت الجماعة على النصب، وذلك أنه من مواضع الإبتداء، فهو كقولك: زيد ضربته، وهو مذهب صاحب الكتاب، لأنها جملة وقعت في الأصل خبرا عن المبتدأ في قولك: نحن كل شئ خلقناه بقدر، فهو كقولك. زيد هند ضربها. ثم دخلت أن فنصبت الإسم وبقي الخبر على تركيبه الذي كان عليه. واختيار محمد بن يزيد النصب، لأن تقديره: إنا فعلنا كذا، قال. والفعل منتظر بعد إنا. فلما دل عليه ما قبله حسن إضماره. قال ابن جني: وهذا ليس بشئ، لأن الأصل في خبر المبتدأ، أن يكون إسما، لا فعلا جزاء (3) منفردا، فما معنى تبرقير الفعل هنا. وخبر إن وأخواتها كاخبار المبتدأ. وقوله (نهر) جمع نهر، فيكون كاسد وأسد، ووثن ووئن. وبجوز أن يكون جمع (نهر) كسقف وسقف، ورهن ورهن. (1) وفي نسختين: (غير رويس)، بدل " عن رويس ". (2) وفي نسختين: (زهير الفرقني) وفي نسخة. " والقرقبي ". (3) وفي نسخة. (خبرا منفردا). وفي اخرى: " لا خبرا منفردا ". (*)
[ 323 ]
المعنى. ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال. (أكفاركم خير) وأشد وأقوى (من أولئكم) الذين ذكرناهم، وقد أهلكناهم. وهذا استفهام إنكار أي: لستم أفضل من فوم نوح وعاد وثمود، لا في القوة، ولا في الثروة، ولا في كثرة العدد والعدة. والمراد بالخير: ما يتعلق باسباب الدنيا، لا أسباب الدين. والمعنى: إنه إذا هلك أولئك الكفار، فما الذي يؤمنكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. (أم لكم براءة في الزبر) أي: ألكم براءة من العذاب في الكتب السالفة أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية. (أم يقولون نحن جميع منتصر) أي: أم يقول هؤلاء الكفار نحن جميع أمرنا، ننتصر من أعدائنا، عن الكلبي، والمعنى. إنهم يقولون نحن يد واحدة على من خالفنا، ننتصر ممن عادانا، فيدلون بقوتهم واجتماعهم. ووحد منتصر للفظ الجميع، فإنه واحد في اللفظ، وإن كان إسما للجماعة، كالرهط والجيش أي. كما أنهم ليسوا بخير من أولئك، ولا لهم براءة، فكذلك لاجمع لهم يمنع عنهم عذاب الله، وينصرهم، وإن قالوا نحن مجتمعون متناصرون، فلا نرام، ولا نفصد، ولا يطمع أحد في غلبتنا. ثم قال سبحانه: (سيهزم الجمع) أي جمع كفار مكة (ويولون الدبر) أي ينهزمون فيولونكم أدبارهم في الهزيمة. ثم أخبر سبحانه نبيه (ص) أنه سيظهره عليهم، ويهزمهم، فكانت هذه الهزيمة يوم بدر، فكان موافقة الخبر للمخبر من معجزاته. ثم قال سبحانه: (بل الساعة موعدهم) أي: إن موعد الجميع للعذاب يوم القيامة (والساعة أدهى وأمر) فالأدهى الأعظم في الدهاء. والدهاء: عظم سبب الضرر مع شدة انزعاج النفس. وهو من الداهية أي البلية التي ليس في إزالتها حيلة. والمعنى: إن ما يجري عليهم من القتل والأسر يوم بدر وغيره، لا يخلصهم من عقاب الأخرة، بل عذاب الأخرة أعظم في الضرر، وأقطع، وأمر أي. أشد مرارة من القتل والأسر في الدنيا. وقيل: الأمر الأشد في استمرار البلاء، لأن أصل المر النفوذ. ثم بين سبحانه حال القيامة فقال. (إن المجرمين في ضلال وسعر) أي في ذهاب عن وجه النجاة، وطريق الجنة في نار مسعرة، عن الجبائي. وقيل: في ضلال أي في هلاك وذهاب عن الحق، وسعر أي عناء وعذاب (يوم يسحبون) أي يجرون (في النار على وجوههم) يعني. إن هذا العذاب يكون لهم في يوم يجرهم
[ 324 ]
الملائكة فيه على وجوههم في النار، ويقال لهم: (ذوقوا مس سقر) يعني إصابتها إياهم بعذابها وحرها، وهو كقولهم: " وجدت مس الحمى " وسقر: جهنم. وقيل: هي باب من أبوابها. وأصل السقر التلويح، يقال: سقرته الشمس وصقرته إذا لوحته. وإنما لم ينصرف للتعريف والتانيث. (إنا كل شئ خلقناه بقدر) أي خلقنا كل شئ خلقناه مقدرا بمقدار توجبه الحكمة، لم نخلقه جزافا، ولا تخبيتا (1)، فخلقنا العذاب أيضا على قدر الإستحقاق، وكذلك كل شئ في الدنيا والأخرة، خلقناه مقدرا بمقدار معلوم، عن الجبائي. وقيل: معناه خلقنا كل شئ على قدر معلوم، فخلقنا اللسان للكلام، واليد للبطش، والرجل للمشي، والعين للنظر، والأذن للسمامع، والمعدة للطعام. ولو زاد أو نقص عما قدرناه، لما تم الغرض، عن الحسن. وقيل: معناه جعلنا لكل شئ شكلا يوافقه، ويصلح له كالمرأة للرجل، والأتان للحمار، وثياب الرجال للرجال، وثياب النساء للنساء، عن ابن عباس. وقيل: خلقنا كل شئ بقدرمقدر، وقضاء محتوم في اللوح المحفوظ. (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) أي: وما أمرنا بمجئ الساعة في السرعة، إلا كطرف البصر، عن ابن عباس والكلبي. ومعنى اللمح: النظر بالعجلة، وهو خطف البصر. والمعنى: إذا أردنا قيام الساعة أعدنا الخلق، وجميع المخلوقات (2) في قدر لمح البصر، في السرعة. وقيل: معناه وما أمرنا إذا أردنا أن نكون شيئا إلا مرة واحدة، لم نحتج فيه إلى ثانية. وإنما نقول له: كن فيكون، كلمح البصر في سرعته، من غير إبطاء ولا تأخير، عن الجبائي. (ولقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم ونظائركم في إلكفر من الأمم الماضية، عن الحسن. وسماهم أشياعهم لما وافقوهم في الكفر، وتكذيب الأنبياء. (فهل من مدكر) أي فهل من متذكر لما يوجبه هذا الوعظ من الإنزجار عن مثل ما سلف من أعمال الكفار، لئلا يقع به ما وقع بهم من الإهلاك (وكل شئ فعلوه في الزبر) أي في الكتب التي كتبها الحفظة. وهذه إشارة إلى أنهم غير مغفول عنهم، عن (1) وفي نسخة. تنحيتا، ولا معنى مناسب لهما. وفي نسخة: تعبثا ولعله يناسب المورد. (2) وفي المخطوطة. الحيوانات. (*)
[ 325 ]
الجبائي. وقيل. معناه إن جميع ذلك مكتوب عليهم في الكتاب المحفوظ، لأنه من أعظم العبرة في علم ما يكون قبل أن يكون، على التفصيل. (وكل صغير وكبير مستطر) أي: وما قدموه من أعمالهم من صغير وكبير، مكتوب عليهم، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: معناه كل صغير وكبير من الأرزاق، والأجال، والموت والحياة، ونحوها مكتوب في اللوح المحفوظ (إن المتقين في جنات ونهر) أي أنهار يعني أنهار الجنة من الماء والخمر والعسل (1). وضع نهر في موضع أنهار، لأنه إسم جنس يقع على الكثير والقليل. والأولى أن يكون إنما وحد لوفاق الفواصل. والنهر هو المجرى الواسع من مجاري الماء (في مقعد صدق) أي في مجلس حق، لا لغو فيه ولا تاثيم. وقيل: وصفه بالصدق لكونه رفيعا مرضيا. وقيل: لدوام النعيم به. وقيل: لأن الله صدق وعد أوليائه فيه (عند مليك مقتدر) أي عند) لسبحانه، فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شئ، وليس المراد قرب المكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل المراد أنهم في كنفه وجواره وكفايته، حيث تنالهم غواشي رحمته وفضله. (1) في المخطوطة: الخمر، واللبن، والعسل. (*)
[ 326 ]
ألايه مدنية واياتها ثمان وسبعون وقيل: مكية غير آية نزلت بالمدينة (يسأله من في السماوات والأرض) عن عطاء وقتادة وعكرمة، واحدى الروايتين عن ابن عباس. وقيل: مدنية عن الحسن وهمام عن قتادة وأبي حاتم. عد د آيها: ثمان وسبعون آية كوفي شامي، سبع حجازي، ست بصري. اختلافهما: خمس آيات الرحمن كوفي شامي، خلق الإنسان الأول غير المدني، وضعها للأنام غير المكي، المجرمون غير البصري، شواظ من نار حجازي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول (ص): (من قرأ سورة الرحمن، رحم الله ضعفه وأدى شكر ما أنعم الله عليه). وروي عن موسى بن جعفر عن آبائه (ع)، عن النبي (ص) قال: (لكل شئ عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره) أبو بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: لا تدعوا قراءة الرحمن، والقيام بها، فإنها لا تقر في قلوب المنافقين، وتاتي ربها يوم القيامة في صورة آدمي في أحسن صورة، وأطيب ريح، حتى تقف من الله موقفا، لا يكون أحد أقرب إلى الله سبحانه منها، فيقول لها. من الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا، ويدمن قراءتك ؟ فتقول. يا رب فلان، وفلان، رفلان، فتبيض وجوههم، فيقول لهم: إشفعوا فيمن أحببتم. فيشفعون حتى لا يبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له، فيقول لهم. أدخلوا الجنة، واسكنوا فيها حيث شئتم. حماد بن عثمان قال: قال الصادق (ع): يجب أن يقرأ الرجل سورة الرحمن يوم الجمعة، فكلما قرأ (فباي آلاء ربكما تكذبان " قال: لا بشئ من آلائك يا رب (1) أكذب. وعنه (ع) قال: (1) وفي نسختين: ربنا نكذب. (*)
[ 327 ]
من قرأ سورة الرحمن ليلا، يقول عند كل (فبأي آلاء ربكما تكذبان) لا بشئ من آلائك يا رب أكذب، وكل الله به ملكا، إن قرأها في أول الليل يحفظه حتى يصبح، وإن قرأها حين يصبح، وكل الله به ملكا يحفظه حتى يمسي. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة القمر باسمه، وافتتح هذه السورة أيضا باسمه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (الرحمن (1) علم القرءان (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والارض وضعها للأنام (10) فيها فكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12) فبأئ الاء ربكما تكذبان (13)) القراءة: قرأ ابن عامر: (والحب ذا العصف والريحان، بالنصب فيهما جميعا. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (والحب ذو العصف) بالرفع (والريحان) بالجر. والباقون بالرفع في الجميع. وفي الشواذ قراءة أبي السماك. (والسماء رفعها) بالرفع. وقرأ بلال بن أبي بردة: (ولا تخسروا) بفتح التاء والسين، وبكسر السين أيضا. الحجة: قال أبو علي: قال أبو عبيدة العصف الذي يعصف فيؤكل من الزرع، وهي العصيفة. قال علقمة بن عبدة: تسقي مذانب قد مالت عصيفتها، حدودها من أتي الماء مطموم (1) (1) المذنب: مسيل الماء إلى الأرض. ومسيل في الحضيض إذا لم يكن واسعا. وطم الماء: غمر. وطم فلان الإناء. ملأه والأتي: السيل الغريب وبضم الألف مصدر (أتى) يصف عبرته، وكثرة بكائه. (*)
[ 328 ]
والريحان: الحب الذي يؤكل، يقال. سبحانك وريحانك أي ورزقك. قال النمر بن تغلب (1): سلأم الإله، وريحانه ورحمته، وسماء درر وقيل: العصف والعصيفة: ورق الزرع. وعن قتادة: العصف التبن. ومن قرأ (والحب ذا العصف): حمله على وخلق الحب وخلق الريحان، وهو الرزق. ويقوي ذلك قوله. (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى). ومن رفع (الريحان) فالتقدير: فيها فاكهة والريحان الحب ذو العصف. ومن جر فالتقدير: فالحب ذو العصف، وذو الريحان أي: من الحب الرزق. فإن قلت: فإن العصف والعصيفة رزق أيضا، فكأنه قال: ذو الرزق، وذو الرزق ؟ قيل: هذا لا يمتنع، لأن العصيفة رزق غير الرزق الذي أوقع الريحان عليه، ؟ كان الريحان أريد به الحب إذا خلص من لفائفه، فاوقع عليه الرزق لعموم المنفعة به، وأنه رزق للناس وغيرهم. ويبعد أن يكون الريحان المشموم في هذا الموضع إنما هو قوت الناس والأنعام، كما قال: (فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم). وقوله: (والسماء رفعها) قال ابن جني: الرفع هنا أظهر من قراءة الجماعة، وذلك أنه صرفه إلى الإبتداء، لأنه عطفه على الجملة المركبة من المبتدأ والخبر، وهي قوله: (والنجم والشجر يسجدان). فاما قراءة العامة بالنصب، فإنها معطوفة على (يسجدان) وحدها، وهي جملة من فعل وفاعل. والعطف يقتضي التماثل في تركيب الجمل. فيصير تقديره: يسجدان ورفع السماء. فلما أضمر رفع فسره بقوله (رفعها) كقولك. قام زيد وعمرا ضربته أي وضربت عمرا، لتعطف جملة من فعل وفاعل، على أخرى مثلها. وأما قوله (تخسروا) بفتح التاء، فإنه على حذف حرف الجر أي: لا تخسروا في الميزان. فلما حذف حرف الجر، أفضى إليه الفعل، فنصبه كقوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) أي في كل مرصد، أو على كل مرصد. وأما (تخسروا) بفتح التاء، وكسر السين فعلى خسرت الميزان. وإنما المشهور أخسرته، تقول: خسر الميزان وأخسرته. ويشبه أن يكون خسرته لغة في أخسرته، نحو: أجبرت الرجل (1) وفي نسخة: التولب. (*)
[ 329 ]
وجبرته، وأهلكته وهلكته. اللغة: الرحمن هو الذي وسعت رحمته كل شئ، فلذلك لا يوصف به إلا الله تعالى. وأما راحم ورحيم فيجوز أن يوصف بهما العباد. والبيان هو الأدلة الموصلة إلى العلم. وقيل البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به من غيره، كتميز معنى رجل من معنى فرس، ومعنى قادر من معنى عاجز، ومعنى عام من معنى خاص. والحسبان. مصدر حسبته أحسبه حسابا وحسبانا، نحو السكران والكفران. وقيل: هو جمع حساب كشهاب وشهبان. والنجم: من النبات ما لم يقم عنى ساق، نحو العشب والبقل والشجر. ما قام على ساق، وأصله الطلوع، يقال: نجم القرن والنبات إذا طلعا، وبه سمي نجم السماء لطلوعه. والأكمام: جمع كم، وهو وعاء ثمرة النخل، تكمم في وعائه إذا اشتمل عليه. والآلاء: النعم واحدها إلى، على وزن معى، وألى على وزن قفا، عن أبي عبيدة. الاعراب: (الرحمن): آية مع أنه ليس بجملة، لأنه في تقدير الله الرحمن، حتى تصح الفاصلة، فهو خبر مبتدأ محذوف نحو قوله. (سورة أنزلناها) أي: هذه سورة. (الا تطغوا): تقديره لأن لا تطغوا، فهو في محل نصب بانه مفعول له، ولفظه نفي، ومعناه نهي، ولذلك عطف عليه بقوله: (واقيموا الوزن). وقوله: (فيها فاكهة) مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال. المعنى: (الرحمن) افتتح سبحانه هذه السورة بهذا الإسم، ليعلم العباد أن جميع ما وصفه يعد من أفعاله الحسنى، إنما صدرت من الرحمة التي تشمل جميع خلقه، وكأنه جواب لقولهم: وما الرحمن في قوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن) قالوا: وما الرحمن ؟ وقد روي أنه لما نزل قوله (قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن) قالوا: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة. فقيل لهم الرحمن (علم القرآن) أي: علم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وعلمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمته، عن الكلبي. وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر. فبين سبحانه أن الذي علمه القرآن هو الرحمن. والتعليم هو تبيين ما به يصير من لم يعلم عالما. والإعلام: إيجاد ما به يصير عالما. ذكر سبحانه النعمة فيما علم من الحكمة بالقرآن الذي احتاج إليه الناس في دينهم، ليؤدوا ما يجب عليهم، ويستوجبوا الثواب بطاعة ربهم. قال الزجاج: معنى علم القرآن يسره لأن يذكر.
[ 330 ]
(خلق الإنسان) أي أخرجه من العدم إلى الوجود، والمراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام، عن ابن عباس وقتادة. (علمه البيان) أي أسماء كل شئ، واللغات كلها. قال الصادق عليه السلام: البيان الإسم الأعظم الذي به علم كل شئ. وقيل: الإنسان اسم الجنس. وقيل (1) معناه: الناس جميعا. (علمه البيان) أي النطق والكتابة والخط والفهم والإفهام، حتى يعرف ما يقول، وما يقال له، عن الحسن وأبي العالية وابن زيد والسدي. وهذا هو الأظهر الأعم. وقيل: البيان هو الكلام الذي يبين به عن مراده، وبه يتميز من سائر الحيوانات، عن الجبائي. وقيل: (خلق الإنسان): يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، (علمه البيان): يعني ما كان، وما يكون، عن ابن كيسان. (الشمس والقمر بحسبان) أي. يجريان بحسبان ومنازل لا يعدوانها، وهما يدلان على عدد الشهور والسنين، والأوقات، عن ابن عباس وقتادة. فاضمر يجريان، وحذفه لدلالة الكلام عليه. وتحقيق معناه. إنهما يجريان على وتيرة واحدة وحساب متفق على الدوام، لا يقع فيه تفاوت. فالشمس تقطع بروج الفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وشئ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. فيجريان أبدا على هذا الوجه. وإنما خصهما بالذكر لما فيهما من المنافع الكثيرة للناس من النور والضياء، ومعرفة الليل والنهار، ونضج الثمار، إلى غير ذلك. فذكرهما لبيان النعمة بهما على الخلق. (والنجم والشجر يسجدان) يعني بالنجم: نبت الأرض الذي ليس له ساق، وبالشجر. ما كان له ساق يبقى في الشتاء، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري. وقيل: أراد بالنجم نجم السماء، وهو موحد، والمراد به جميع النجوم، والشجر، يسجدان لله بكرة وعشيا، كما قال في موضع آخر: والشجر والدواب، عن مجاهد، وقتادة. وقال أهل التحقيق: إن المعنى في سجودهما هو ما فيهما من الآية الدالة على حدوثهما، وعلى أن لهما صانعا أنشاهما، وما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود. وقيل: سجودهما سجود ظلالهما كقوله: (يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) عن الضحاك، وسعيد بن (1) ليس في المخطوطة لفظة (قيل). (*)
[ 331 ]
جبير. والمعنى فيه: إن كل جسم له ظل، فهو يقتضي الخضوع بما فيه من دليل الحدوث، وإثبات المحدث المدبر. وقيل: معنى سجودهما أنه سبحانه يصرفهما على ما يريده من غير امتناع، فجعل ذلك خضوعا. ومعنى السجود: الخضوع كما في قوله. (ترى الأكم فيها سجدا للحوافر)، عن الجبائي. (والسماء رفعها) أي: ورفع السماء رفعها فوق الأرض. دل سبحانه بذلك على كمال قدرته. (ووضع الميزان) يعني آلة الوزن للتوصل إلى الإنصاف والإنتصاف، عن الحسن وقتادة. قال قتادة: هو الميزان المعهود ذو اللسانين. وقيل: المراد بالميزان العدل، والمعنى: إنه أمرنا بالعدل، عن الزجاج. ويدل عليه قوله: (ألا تطغوا في الميزان) أي: لا تتجاوزوا فيه العدل والحق، إلى البخس والباطل. تقديره: فعلت ذلك لئلا تطغوا. ويحتمل أيضا أن يكون: لا تطغوا نهيا منفردا، وتكون (أن) مفسرة بمعنى أي. وقيل: إن المراد بالميزان القران الذي هو أصل الدين، فكأنه تعالى بين أدلة العقل، وأدلة السمع. وإنما أعاد سبحانه ذكر الميزان من غير إضمار، ليكون الثاني قائما بنفسه في النهي عنه، إذا قيل لهم لا تطغوا في الميزان. (وأقيموا الوزن بالقسط) أي أقيموا لسان الميزان بالعدل، إذا أردتم الأخذ والإعطاء (ولا تخسروا الميزان) أي لا تنقصوه بالبخس والجور، بل سووه بالإنصاف والعدل. قال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب. (والأرض وضعها للأنام) لما ذكر السماء ذكر الأرض في مقابلتها أي: وبسط الأرض، ووطأها للناس. وقيل: الأنام كل شئ فيه روح، عن ابن عباس. وقيل: الأنام الجن والإنس، عن الحسن. وقيل: جميع الخلق من كل ذي روح، عن مجاهد. وعبر عن الأرض بالوضع، لما عبر عن السماء بالرفع. وفي ذلك بيان النعمة على الخلق، وبيان وحدانية الله تعالى كما في رفع السماء. (فيها فاكهة) أي في الأرض ما يتفكه به من ألوان الثمار المأخوذة من الأشجار (والنخل ذات اكمام) أي الأوعية والغلف، وثمر النخل يكون في غلف ما لم ينشق. وقيل: الأكمام ليف النخل الذي تكم فيه، عن الحسن. وقيل: معناه ذات الطلع، لأنه الذي يتغطى بالأكمام، عن ابن زيد. (والحب) يريد جميع الحبوب مما يحرث في الأرض من الحنطة والشعير غيرهما. (ذو العصف) أي ذو الورق
[ 332 ]
فإذا يبس وديس صار تبنا، عن مجاهد والجبائي. وقيل: العصف التبن لأن الريح تعصفه أي تطيره، عن ابن عباس وقتادة والضحاك. وقيل: هو بقل الزرع، وهو أول ما ينبت منه، عن السدي والفراء. (والريحان) يعني الرزق في قول الأكثرين. وقال الحسن، وابن زيد: هو ريحانكم الذي يشم. وقال الضحاك: الريحان الحب المأكول. والعصف: الورق الذي لا يؤكل، فهو رزق الدواب. والريحان رزق الناس. فذكر سبحانه قوت الناس والأنعام. ثم خاطب الإنس والجن بقوله: (فباي ألاء ربكما تكذبان) أي: فبأي نعم ربكما من هذه الأشياء المذكورة تكذبان، لأنها كلها منعم عليكم بها. والمعنى: أنه لا يمكن جحد شئ من هذه النعم. فأما الوجه لتكرار هذه الآية في هذه السورة فإنما هو التقرير بالنعم المعدودة، والتأكيد في التذكير بها. فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها قرر عليها ووبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره. أما أحسنت إليك حين أطلقت لك مالا ؟ أما أحسنت إليك حين ملكتك عقارا ؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك دارا ؟ فيحسن فيه التكرار لاختلاف ما يقرره به، ومثله كثير من كلام العرب وأشعارهم. قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا: على أن ليس عدلا من كليب * إذا طرد اليتيم عن الجزور علن أن ليس عدلا من كليب * إذا ماضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب * إذا رجف العضاة من الدبور على أن ليس عدلا من كليب * إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب * إذاما أعلنت نجوى الصدور وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير: لنعم الفتى ياتوب، كنت، ولم تكن، * لتسبق يوما كنت فيه تجاول ونعم الفتى ياتوب، كنت إذا التقت * صدور العوالي، واستشال (1) الأسافل ونعم الفتى يا توب، كنت لخائف * أتاك لكي تحمي، ونعم المجامل ونعم الفتى يا توب، جارا، وصاحبا، * ونعم الفتى يا توب، حين تناضل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده، * ولو لام فيه ناقص الرأي، جاهل (1) استشال: ارتفع. (*)
[ 333 ]
لعمري لأنت المرء أبكي لفقده * إذا كثرت بالملجمين التلاتل (1) أبى لك ذم الناس ياتوب، كلما * ذكرت أمور محكمات كوامل أبى لك ذم الناس ياتوب، كلما * ذكرت سماح حين تأوي الارامل فلا يبعدنك الله ياتوب، إنما * كذاك المنايا عاجلات، وآجل ولا يبعدنك الله يا توب، إنما * لقيت حمام الموت، والموت عاجل فخرجت في هذه الأبيات من تكرار إلى تكرار، لاختلاف المعاني التي عددتها. وقال الحارث بن عباد: قربا مربط النعامة مني * لقحت حرب وائل عن حيال (2) وكرر هذه اللفظة قربا مربط النعامة مني، في أبيات كثيرة. وفي أمثال هذا كثرة. وهذا هو الجواب بعينه عن التكرار لقوله. (ويل يومئذ للمكذبين) في المرسلات. (خلق الانسان من صلصل كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأئ الاء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأئ الاء ربكما تكذبان (18) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأئ الآء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأئ الآء ربكما تكذبان (23) وله الجوار المنشئات في البحر كالاعلام (24) فبأئ الاء ربكما تكذبان (25) كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلل والاكرام (27) فبأي ءالاء ربكما تكذبان (28) يسئله من في السموت والارض كل يوم هو في شأن (29) فبأي ءالآء ربكما تكذبان (30)). القراءة: قرأ أهل المدينة والبصرة: (يخرج منهما) بضم الياء، وفتح الراء. والباقون. (يخرج) بفتح الياء، وضم الراء. وقرأ حمزة ويحيى عن أبي بكر: (1) التلاتل: الشدائد. (2) النعامة: اسم فرسه. ولقحت الناقة عن حيال أي: بعد أن لم تكن تلقح.
[ 334 ]
(المنشئات) بكسر الشين. والباقون بفتح الشين. الحجة: قال أبو علي. من قرأ (يخرج) كان قوله بينا، لأن ذلك إنما يخرج، ولا يخرج بنفسه. ومن قرأ (يخرج) جعل الفعل للؤلؤ والمرجان، وهو اتساع، لأنه إذا أخرج ذلك فقد خرج وقال: (يخرج منهما اللؤلؤ) ولم يقل من أحدهما، على حذف المضاف، كما قال: (على رجل من القريتين عظيم) على ذلك. وقال أبو الحسن. زعم قوم أنه يخرج من العذاب (1) أيضا. والمرجان: صغار اللؤلؤ واحدها مرجانة. قال ذو الرمة: كأن عرى المرجان منها، تعلقت * على أم خشف من ظباء المشاقر (2) والمنشآت: المجردات المرفوعات. فمن فتح الشين، فلأنها أنشئت وأجريت، ولم تفعل ذلك أنفسها. ومن قرأ (المنشئات) نسب الفعل إليها على الإتساع، كما يقال: مات زيد، ومرض عمرو، ونحو ذلك مما يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه، وهو في الحقيقة لغيره. وكان المعنى المنشئات السير، فحذف المفعول للعلم به، وإضافة السير إليها، اتساع أيضا، لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة بهبوب الريح، أو دفع الصراري (3). اللغة: الصلصال: الطين اليابس الذي يسمع منه صلصلة. والفخار: الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا. والمارج: المضطرب المتحرك. وقيل: المختلط يقال: مرج الأمر أي اختلط ومرجت عهود القوم وأماناتهم، قال الشاعر: مرج الدين، فأعددت له * مشرف الخارك، محبوك الكتد (4) ومرج الدابة في المرعى إذا خلاها لترعى. والبرزخ. الحاجز بين الشيئين. والجواري: السفن لأنها تجري في الماء، واحدتها جارية. ومنه الجارية: للمرأة (1) وفي نسخة: (العذب). (2) يصف امرأة. وعرى المرجان أي: أطواقها. والخشف: ولد الظباء. المشاقر من الرمل: المنصوب في الأرض. واسم موضع. (3) الصراري: الملاح. (4) الحارك: أعلى الكاهل. والمحبوك: المحكم الخلق والصنعة. والكتد والكتد مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس. (*)
[ 335 ]
الشابة، لأنها يجري فيها ماء الشباب. والأعلام: الجبال واحدها علم. قالت الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به، * كأنه علم في رأسه نار وقال جرير. " إذا قطعن علما بدا (1) علما " والفناء: انتفاء الأجسام. والصحيح أنه معنى يضاد الجواهر (2) باق لا ينتفي إلا بضد، أو ما يجري مجرى الضد، وضده الفناء. المعنى: ثم قال سبحانه عاطفا على ما تقدم من الأدلة على وحدانيته، والإبانة عن نعمه على خلقه فقال: (خلق الإنسان) يعني به آدم. وقيل: جميع البشر، لأن أصلهم ادم عليه السلام. (من صلصال) أي. طين يابس. وقيل: حمأ منتن ويحتمل الوجهين جميعا، لأنه كان حما مسنونا، ثم صار يابسا. (كالفخار) أي كالاجر الخزف (وخلق الجان) أي أبا الجن. قال الحسن. هو إبليس أبو الجن، وهو مخلوق من لهب النار، كما أن آدم عليه السلام مخلوق من طين (من مارج من نار) أي من نار مختلط، أحمر وأسود وأبيض، عن مجاهد. وقيل: المارج الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه. (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فبأي نعمه تكذبان أيها الثقلان أي: أبأن خلقكما من نفس واحدة، ونقلكما من التراب والنار إلى الصورة التي أنتم عليها تكذبان. (رب المشرقين ورب المغربين) يعني مشرق الصيف، ومشرق الشتاء، ومغرب الصيف، ومغرب الشتاء. وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر، وبالمغربين مغرب الشمس والقمر. بين سبحانه قدرته على تصريف الشمس والقمر، ومن قدر على ذلك قدر على كل شئ (فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبنيان) ذكر سبحانه عظيم قدرته حيث خلق البحرين العذب والمالح، يلتقيان، ثم لا يختلط أحدهما بالأخر، وهو قوله (بينهما برزخ) أي حاجز من قدرة الله فلا يبغي الملح على العذب فيفسده، ولا العذب على الملح فيفسده، ويختلط به. ومعنى مرج أرسل، عن ابن عباس. وقيل: المراد بالبحرين بحر السماء، (1) وفي المخطوطة: أبدا علم. وفي أخرى: علم بدا علم. (2) [ لان الجوهر ]. (*)
[ 336 ]
وبحر الأرض، فإن في السماء بحرا يمسكه الله بقدرته، ينزل منه المطر فيلتقيان في كل سنة، وبينهما حاجز يمنع بحر السماء من النزول، وبحر الأرض من الصعود، عن ابن عباس والضحاك ومجاهد. وقيل: إنهما بحر فارس، وبحر الروم، عن الحسن وقتادة. فإن آخر طرف هذا يتصل بآخر طرف ذلك. والبرزخ بينهما الجزائر. وقيل: مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتهما، لا يبغيان أي لا يطلبان أن لا يختلطا (1). (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) اللؤلؤ. كبار الدر. والمرجان: صغاره، عن ابن عباس والحسن، وقتادة والضحاك. وقيل: المرجان خرز أحمر كالقضبان، يخرج من البحر، وهو البسذ، عن عطاء الخراساني، وأبي مالك، وبه قال ابن مسعود، لأنه قال حجر. وإنما قال منهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، لأن الله ذكرهما وجمعهما، وهما بحر واحد. فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما، عن الزجاج. قال الكلبي: وهو مثل قوله (وجعل القمر فيهن نورا) وإنما هو واحدة منهن. وقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم ياتكم رسل منكم) والرسل من الإنس دون الجن. وقيل: يخرج منهما أي من ماء السماء، ومن ماء البحر، فإن القطر إذا جاء من السماء تفتحت الأصداف، فكان من ذلك القطر اللؤلؤ، عن ابن عباس، ولذلك حمل البحرين على بحر السماء، وبحر الأرض. وقيل: إن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للملح، ولا يخرج اللؤلؤ إلا من الموضع الذي يلتقي فيه الملح والعذب، وذلك معروف عند الغواصين. وقد روي عن سلمان الفارسي، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري: إن البحرين علي وفاطمة عليهما السلام، بينهما برزخ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين عليهما السلام. ولا غرو أن يكونا بحرين، لسعة فضلهما، وكثرة خيرهما. فإن البحر إنما يسمى بحرا لسعته. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفرس ركبه وأجراه فأحمده. " وجدته بحرا " أي: كثير المعاني الحميدة. (وله الجوار) أي السفن الجارية في الماء، تجري بأمر الله (المنشئات في البحر) أي المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض، وركب، حتى ارتفعت وطالت. وقيل: هي المبتدآت للسير، مرفعة القلاع. قال مجاهد. ما رفع (1) وفي نسختين: (أن يختلطا). (*)
[ 337 ]
له القلاع فهو منشأ، وما لم ترفع قلاعه، فليس بمنشأ. والقلاع: جمع قلع، وهو شراع السفينة (كالأعلام) أي كالجبال. قال مقاتل: شبه السفن في البحر بالجبال في البر. وقيل: المنشئات بكسر الشين، وهي أن ينشئ الموج بصدرها حيث تجري، فيكون الأمواج كالأعلام من الله سبحانه على عباده، بان علمهم اتخاذ السفن ليركبوها، وأن جعل الماء على صفة تجري السفن عليه لأجلها. (كل من عليها فان) أي كل من على الأرض من حيوان، فهو هالك يفنون ويخرجون من الوجود إلى العدم. كنى عن الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقول أهل المدينة: (ما بين لابتيها) أي لابتي المدينة. وإنما جاز ذلك لكونه معلوما (ويبقى وجه ربك) أي ويبقى ربك الظاهر بادلته، ظهور الإنسان بوجهه. (ذو الجلال) أي العظمة والكبرياء، واستحقاق الحمد والمدح، بإحسانه الذي هو في أعلى مراتب الإحسان، وإنعامه الذي هو أصل كل إنعام. (واكرام) يكرم أنبياءه وأولياءه بالطافه وأفضاله، مع عظمته وجلاله. وقيل: معناه أنه أهل أن يعظم وينزه، عما لا يليق بصفاته، كما يقول الإنسان لغيره: أنا أكرمك عن كذا، وأجلك عنه، كقوله. (أهل التقوى) أي: أهل أن يتقى. وتقول العرب: هذا وجه الرأي، وهذا وجه التدبير، بمعنى: إنه الرأي والتدبير. قال الأعشى: وأول الحكم على وجهه * ليس قضائي بالهوى الجائر أي: قرر الحكم كما هو. وقيل: إن المراد بالوجه ما يتقرب به إلى الله تعالى، وأنشد: أستغفر ألله ذنبا لست محصيه، * رب العباد إليه الوجه، والعمل ومتى قيل: وأي نعمة في الفناء ؟ فالجواب: إن النعمة فيه التسوية بين الخلق فيه. وأيضا فإنه وصلة إلى الثواب، وتنبيه على أن الدنيا لا تدوم. وأيضا فإنه لطف للمكلف، لأنه لو عجل الثواب لصار ملجا إلى العمل، ولم يستحق الثواب، ففصل بين الثواب والعمل، ليفعل الطاعة لحسنها فيستحق الثواب. (يسأله من في السماوات والأرض) أي لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض، فيسألونه حوائجهم، عن قتادة. وقيل: يساله أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأل الملائكة لهم أيضا الرزق وإلمغفرة، عن مقاتل.
[ 338 ]
(كل يوم هو في شأن) اختلف في معناه فقيل: إن شانه سبحانه إحياء قوم، وإماتة آخرين، وعافية قوم، ومرض اخرين، وغير ذلك من الإهلاك والإنجاء، والحرمان والإعطاء، والأمور الأخر التي لا تحصى. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (كل يوم هو في شأن) قال: (من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين). وعن ابن عباس أنه قال. إن مما خلق الله تعالى لوحا من درة بيضاء، دواته ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء. فذلك قوله (كل يوم هو في شان). وقال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله يقضي يوم السبت شيئا. وقيل: إن الدهر كله عند الله يومان: أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. فالشأن الذي هو فيه، في اليوم الذي هو مدة الدنيا، الإختبار بالأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع. وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب، عن سفيان بن عيينة. وقيل: شانه جل ذكره، أن يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا، وعسكرا من الدنيا إلى القبر. ثم يرتحلون جميعا إلى الله تعالى. وقيل: شانه إيصال المنافع إليك، ودفع المضار عنك، فلا تغفل عن طاعة من لا يغفل عن برك، عن أبي سليمان الداراني. (سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأئ الاء ربكما تكذبان (32) يمعشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموت والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطن (33) فبأئ الاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأئ الاء ربكما تكذبان (36) فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأئ الاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان (39) فبأئ الاء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون بسيمهم فيؤخذ بالنوصى والاقدام (41) فبأئ الاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون (43) يطوف بينها وبين حميم ءان (44) فبأئ الاء ربكما تكذبان (45).
[ 339 ]
القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (سيفرغ) بالياء. والباقون بالنون. وقرأ ابن كثير: (شواظ) بكسر الشين. والباقون بضمها. وقرأ ابن كثير، وأهل البصرة، غير يعقوب: (ونحاس) بالجر. والباقون بالرفع وفي الشواذ قراء قتادة والأعمش: (سنفرغ) بفتح النون، والراء. وقراءة الأعرج: (سيفرغ) بفتح الياء والراء. ورواية أبي حاتم، عن الأعمش: (سيفرغ) وقراءة عيسى الثقفي: (سنفرغ) بكسر النون، وفتح الراء. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: (هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان إصلياها فلا تموتان فيها ولا تحييان). الحجة: قال أبو علي: وجه الياء في (سيفرغ) أن الغيبة قد تقدم في قوله: (وله الجوار)، وقوله: (هو في شان). ويقال فرغ يفرغ، وفرغ يفرغ، وليس الفراغ هنا فراغا عن شغل، ولكن تأويله القصد، كما قال جرير: الآن فقد فرغت إلى نمير، * فهذا حين صرت لهم عذابا وقرأ ابن عامر: (أيه الثقلان) بضم الهاء. وقد مضى الوجه فيه. والشواظ والشواظ فيه لغتان. أبو عبيدة: هو اللهب لا دخان فيه. قال رؤبة: إن لهم من حربنا أيقاظا (1)، * ونار حرب تسعر الشواظا والنحاس: الدخان. قال الجعدي: تضئ كضوء سراج السليط (2) * لم يجعل الله فيه نحاسا قال أبو علي: إذا كان الشواظ اللهب لا دخان فيه، ضعفت قراءة من قرأ (ونحاس) بالجر، ولا يكون على تفسير أبي عبيدة، إلا الرفع في (نحاس) على تقدير: يرسل عليكما شواظ، ويرسل نحاس أي: يرسل هذا مرة، وهذا اخرى. وقد يجوز من وجه آخر على أن تقديره: يرسل عليكما شواظ من نار، وشئ من نحاس. فتحذف الموصوف، وتقيم الصفة مقامه، كقوله: (ومن آياته يريكم البرق)، (ومن الذين هادوا يحرفون الكلم)، (وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به)، (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، فحذف الموصوف في ذلك كله، فكذلك في الاية. فإن قلت: هذا فاعل والفاعل لا يحذف فقد جاء. (1) وفي بعض النسخ. اقياظا. (2) السليط: الزيت وكل دهن عصر من حب جيد. (*)
[ 340 ]
فما راعنا إلا يسير بشرطة * وعهدي به قينا يفش بكير (1) على أن هذا الحذف قد جاء في المبتدأ في الآية التي تلونا (2)، أو بعضها. وقد قالوا. (تسمع بالمعيدي لا أن تراه) فإذا حذف الموصوف بقي بعده، من نحاس، الذي هو صفة لشئ محذوف، وحذف من لأن ذكره قد تقدم في قوله (من نار)، فحسن لذلك حذفها، كما حسن حذف الجار من قولهم: على من تنزل أنزل، وكما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: وأصبح من أسماء قيس كقابض * على الماء لا يدري بما هو قابض أي: بما هو قابض عليه. فحذف لدلالة الكلام المتقدم عليه، وكما حذف الجار عند الخليل في قوله. (إن لم يجد يوما على من يتكل) يريد: عنده من يتكل عليه. فحذف الجار لأنه جرى ذكره قبل، فيكون انجرار نحاس على هذا بمن المضمرة، لا بالإشراك في من التي جرت في قوله (من نار) فإذا انجر بمن لم يكن للشواظ الذي هو اللهب قسط من الدخان. اللغة: الثقلان: أصله من الثقل، وكل شئ له وزن وقدر، فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعامة: ثقل. قال: فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما * ألقت ذكاء يمينها في كافر (3) وإنما سميت الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما، وجلالة شانهما، بالإضافة إلى ما في الأرض من الحيوانات، ولثقل وزنهما بالعقل والتمييز، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) سماهما ثقلين لعظم خطرهما، وجلالة قدرهما. وقيل: إن الجن والإنس سميا ثقلين لثقلهما على الأرض، أحياء وأمواتا. ومنه قوله: (وأخرجت الأرض أثقالها) أي: أخرجت ما فيها من الموتى. والعرب تجعل السيد الشجاع ثقلا على الأرض، قالت الخنساء: أبعد ابن عمرو من آل الشريد * حلت به الأرض أثقالها (1) فش الوطب: أخرج ما فيه من الريح، وذلك بان يحل وكائه، وبفتح فاه، فتخرج منه الريح التي كان قد نفخها فيه. (2) في نسخة: تلوتها. (3) فتذكرا أي الظليم والنعامة والرثيد ما رثد أي نضد ووضع بعضه فوق بعض. (*)
[ 341 ]
والمعنى. إنه لما مات حل عنها ثقل بموته لسؤدده ومجده. وقيل: إن المعنى زينت موتاها به من التحلية. والأقطار: جمع القطر، وهو الناحية، يقال: طعنه فقطره إذا ألقاه على أحد قطريه، وهما جانباه. والسيما: مشتق من السوم، وهو رفع الثمن عن مقداره. والعلامة ترفع بإظهارها لتقع المعرفة بها. والناصية: شعر مقدم الرأس، وأصله الإتصال من قول الشاعر: (قي تناصيها بلادقي) (1) أي: تتصل بها. فالناصية متصلة بالرأس. والأقدام: جمع قدم، وهو العضو الذي يقدم صاحبه للوطء به على الأرض. والآني: الذي بلغ نهاية حره: أنى يأني أنيا. المعنى: لما ذكر سبحانه الفناء والإعادة، عقب ذلك بذكر الوعيد والتهديد، فقال: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) أي سنقصد لحسابكم أيها الجن والإنس، عن الزجاج، قال: والفراغ في اللغة على ضربين أحدهما: القصد للشئ يقال سأفرغ لفلان أي: ساجعله قصدي والآخر: الفراغ من شغل، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شان. وقيل: معناه سنعمل عمل من يفرغ للعمل فيجوده من غيرتضجيع فيه. وقيل: سنفرغ لكم من الوعيد بتقضي أيامكم المتوعد فيها، فشبه ذلك بمن فرغ من شئ، وأخذ في آخر. والشغل والفراغ من صفات الأجسام التي تحلها الأعراض، وتشغلها عن الأضداد في تلك الحال، ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى، مجازا. ويدل على أن الثقلين المراد بهما الجن والإنس قوله (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا) أي تخرجوا هاربين من الموت، يقال: نفذ الشئ من الشئ إذا خلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية. (من أقطار السماوات والأرض) أي جوانبهما ونواحيهما، والمعنى: حيث ما كنتم أدرككم الموت. (فانفذوا) أي فاخرجوا فلن تستطيعوا أن تهربوا منه (لا تنفذون إلا بسلطان) أي حيث توجهتم، فثم ملكي، ولا تخرجون من سلطاني فانا آخذكم بالموت، عن عطاء. ومعنى السلطان: القوة التي سلط (2) بها على الأمر، ثم الملك والقدرة والحجة، كلها سلطان. وقيل: لا تنفذون إلا بسلطان أي: لا تخرجون إلا بقدرة من الله وقوة، يعطيكموها بأن يخلق لكم مكانا اخر، سوى السماوات والأرض، ويجعل لكم قوة تخرجون بها إليه. فبين سبحانه بذلك أنهم في (1) القي بالكسر: قفر الأرض. (2) في المخطوطة: يتسلط. (*)
[ 342 ]
حبسه، وأنه مقتدر عليهم لا يفوتونه، وجعل ذلك دلالة على توحيده وقدرته، وزجرا لهم عن معصيته ومخالفته. وقيل: إن المعنى في الأية إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض، فاعلموا فإنه لا يمكنكم ذلك، لا تنفذون إلا بسلطان أي: لا تعلمونه إلا بحجة وبيان، عن ابن عباس. وقيل: لا تنفذون إلا بسلطان معناه: حيث ما شاهدتم حجة الله وسلطانه الذي يدل على توحيده، عن الزجاج. (فباي ألاء ربكما تكذبان) أي باي نعمه تكذبان ؟ أبإخباره عن تحيركم لتحتالوا له بعمل الطاعة، واجتناب المعصية، أو بإخباره عنكم أنكم لا تنفذون إلا بحجة، لتستعدوا لذلك اليوم. (يرسل عليكما شواظ من نار) وهو اللهب الأخضر المنقطع من النار (ونحاس) وهو الصفر المذاب للعذاب، عن مجاهد وابن عباس وسفيان وقتادة. وقيل: النحاس الدخان، عن ابن عباس في رواية أخرى، وسعيد بن جبير. وقيل: النحاس المهل، عن ابن مسعود والضحاك. والمعنى: لا تنفذون ولو جاز أن تنفذوا، وقدرتم عليه، لأرسل عليكم العذاب من النار المحرقة. وقيل: معناه أنه يقال لهم ذلك يوم القيامة (يرسل عليكما) أي يرسل على من أشرك منكما. وقد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة (1) بلسان من نار، ينادون (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من) إلى قوله. (يرسل عليكما شواظ من نار). وروى مسعدة بن صدقة عن كليب قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام، فانشأ يحدثنا فقال: إذا كان يوم القيامة، جمع الله العباد في صعيد واحد، وذلك أنه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن (2) فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الارض من الجن والإنس، والملائكة. ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين، فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات، فيصير الجن والإنس في سبع سرادقات من الملائكة. ثم ينادي مناد: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم) الاية. فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة. وقوله (فلا تنتصران) أي فلا تقدران على دفع ذلك عنكما وعن غيركما. وعلى هذا فيكون فائدة الاية. إن عجز الثقلين عن الهرب من الجزاء، كعجزهم عن النفوذ من الاقطار. وفي ذلك اليأس من رفع الجزاء بوجه من الوجوه. (فبأي آلاء (1) في نسخة: وبلسان. (2) في نسخة. (بما). (*)
[ 343 ]
ربكما تكذبان) أي بإخباره إياكم عن هذه الحالة، لتتحرزوا عنها، أم بغيره من النعم، فإن وجه النعمة في إرسال الشواظ من النار والنحاس على الثقلين، هو ما في ذلك لهم من الزجر في دار التكليف، عن مواقعة القبيح، وذلك نعمة جزيلة. (فإذا انشقت السماء) يعني يوم القيامة إذا تصدعت السماء، وانفك بعضها من بعض (فكانت وردة) أي: فصارت حمراء كلون الفرس الورد، وهو الابيض الذي يضرب إلى الحمرة، أو الصفرة، فيكون في الشتاء أحمر، وفي الربيع أصفر، وفي اشتداد البرد أغبر، سبحان خالقها، والمصرف لها كيف يشاء. والوردة: واحدة الورد. فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بذلك. وقيل: أراد به وردة النبات، وهي حمراء وقد تختلف ألوانها، ولكن الاغلب في ألوانها الحمرة، فتصير السماء كالوردة في الإحمرار. ثم تجري (كالدهان) وهو جمع الدهن عند انقضاء الامر، وتناهي المدة. قال الحسن: هي كالدهان التي يصب بعضها على بعض، بالوان مختلفة. قال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن، واختلاف ألوانه، وهو قول مجاهد، والضحاك، وقتادة. وقيل: الدهان الاديم الاحمر، وجمعه أدهنة، عن الكلبي. وقيل: هو عكر الزيت، يتلون ألوانا، عن عطاء بن أبي رياح. (فباي آلاء ربكما تكذبان) وجه النعمة في انشقاق السماء حتى وقع التقرير بها، هو ما في الإخبار به من الزجر والتخويف في دار الدنيا (فيومئذ) يعني يوم القيامة (لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) أي لا يسأل المجرم عن جرمه في ذلك الموطن لما يلحقه من الذهول الذي تحار له العقول، وإن وقعت المسالة في غير ذلك الوقت، بدلالة قوله (وقفوهم أنهم مسؤولون) وتقدير الآية. فيومئذ لا يسال إنس عن ذنبه، ولا جان عن ذنبه. وقيل: معناه فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال استفهام، ليعرف ذلك بالمسالة من جهته، لان الله تعالى قد أحصى الاعمال، وحفظها على العباد. وإنما يسالون سؤال تقريع وتوبيخ للمحاسبة. وقيل: إن أهل الجنة حسان الوجوه، وأهل النار سود الوجوه، فلا يسالون من أي الحزبين هم، ولكن يسالون عن أعمالهم سؤال تقريع. وروي عن الرضا عليه السلام أنه قال: (فيومئذ لا يسال) منكم (عن ذنبه إنس ولا جان) والمعنى: إن من اعتقد الحق، ثم أذنب،
[ 344 ]
ولم يتب في الدنيا عذب عليه في البرزخ، ويخرج يوم القيامة، وليس له ذنب يسال عنه. (يعرف المجرمون بسيماهم) أي بعلامتهم، وهي سواد الوجوه، وزرقة العيون، عن الحسن، وقتادة. وقيل: بإمارات الخزي. (فيؤخذ بالنواصي والاقدام) فتأخذهم الزبانية فتجمع بين نواصيهم وأقدامهم بالغل، ثم يسحبون في النار، ويقذفون فيها، عن الحسن، وقتادة. وقيل: تأخذهم الزبانية بنواصيهم وبأقدامهم، فتسوقهم إلى النار، والله أعلم. (هذه جهنم) أي: ويقال لهم هذه جهنم (التي يكذب بها المجرمون) الكافرون في الدنيا قد أظهرها الله تعالى حتى زالت الشكوك، فادخلوها. ويمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي والاقدام، قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك، فسير دونها، فليهن عليك أمرهم. (يطوفون بينها وبين حميم آن) أي يطوفون مرة بين الجحيم، ومرة بين الحميم. فالجحيم النار، والحميم الشراب، عن قتادة. وقيل: معناه أنهم يعذبون بالنار مرة، ويتجرعون من الحميم، يصب عليهم ليس لهم من العذاب أبدا فرج، عن ابن عباس. والاني الذي انتهت حرارته. وقيل: الاني الحاضر (فباي آلاء ربكما تكذبان) الوجه في ذلك أن التذكير بفعل العقاب والإنذار به، من أكبر النعم، لان في ذلك زجرا عما يستحق به العذاب، وحثا وبعثا على فعل ما يستحق به الثواب. (ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأئ الآء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأئ الآء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأئ الآء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فكهة زوجان (52) فبأئ الآء ربكما تكذبان (53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأئ الآء ربكما تكذبان (55) فيهن قصرت الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان (56) فبأئ الآء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأئ الآء ربكما تكذبان (59) هل جزاء
[ 345 ]
الاحسن إلا الاحسن (60) فبأئ الآء ربكما تكذبان (61) القراءة: قرأ الكسائي وحده: (لم يطمثهن) بكسر الميم في إحداهما، وضمها في الاخرى. والباقون بكسر الميم في الحرفين معا. الحجة: قال أبو علي: يطمث ويطمث لغتان. وقال أبو عبيدة: (لم يطمثهن) أي لم يمسهن، يقال: ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه. قال رؤبة: (كالبيض لم يطمث بهن طامث). اللغة: الافنان: جمع فنن، وهو الغصن الغض الورق، ومنه قولهم: (هذا فن آخر) أي: نوع آخر. ويجوز أن يكون جمع فن. والإتكاء: الإستناد للتكرمة والإمتاع. والتكأة تطرح للإنسان في مجالس الملوك للإكرام والإجلال، وهو من وكأت السقاء: إذا شددته. والفرش: جمع فراش، وهر الموطا الممهد للنوم عليه. والبطائن: جمع بطانة، وهو باطن الظهارة. والجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة، وهو صلح أن يجنى. ومنه قول عمرو بن عدي: هذا جناي، وخياره فيه، * إذ كل جان يده إلى فيه وتمثل به علي عليه السلام. وأصل الطمث: الدم، يقال: طمثت المرأة إذا حاضت. وطمثت إذا دميت بالإفتضاض. وبعير لم يطمث إذا لم يمسه حبل، ولا رحل. قال الفرزدق. دفعن إلي لم يطمثن قبلي، * وهن أصح من بيض النعام الاعراب: (متكئين) حال من المجرورة باللام أي: لهم جنتان في هذه الحالة. وما بين قوله (جنتان) إلى قوله (متكئين): صفات لجنتين. (بطائنها من استبرق): إبتداء وخبر في موضع الجر وصف لفرش. وقوله: (وجنى الجنتين دان) إعتراض. وقوله: (فيهن قاصرات الطرف) صفة أخرى لفرش. وقوله: (كأنهن الياقوت والمرجان): حال لقاصرات الطرف أي مشابهات للياقوت والمرجان. وقوله: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) إعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: ولهم من دونهما جنتان. المعنى: ثم عقب سبحانه الوعيد بالوعد فقال: (ولمن خاف مقام ربه) أي
[ 346 ]
مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية والشهوة. قال مجاهد: وهو الذي يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى فيدعها. وقيل: هذا لمن راقب اللة تعالى في السر والعلانية، جملة، فما عرض له من محرم تركه من خشية الله، وما عرض له من خير عمله وأفضى به إلى الله تعالى، لا يطلع عليه أحد. وقال الصادق عليه السلام: من علم أن الله يراه، ويسمع ما يقول، من خير وشر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال. فله (جنتان) أي جنة عدن، وجنة النعيم، عن مقاتل. وقيل: بستانان من بساتين الجنة: إحداهما داخل القصر، والاخرى خارج الفصر، كما يشتهي الإنسان في الدنيا. وقيل: إحدى الجنتين منزله، والاخرى منزل أزواجه وخدمه، عن الجبائي. وقيل: جنة من ذهب، وجنة من فضة. ثم وصف الجنتين فقال: (ذواتا أفنان) أي ذواتا ألوان من النعيم، عن ابن عباس. وقيل: ذواتا ألوان من الفواكه، عن الضحاك. وقيل: ذواتا أغصان، عن الاخفش والجبائي ومجاهد أي: ذواتا أشجار، لان الاغصان لا تكون إلا من الشجر. فدل بكثرة أغصانها على كثرة أشجارها، وبكثرة أشجارها على تمام حالها، وكثرة ثمارها، لان البستان إنما يكمل بكثرة الاشجار. والاشجار لا تحسن إلا بكثرة الاغصان. (فيهما عينان تجريان) أي: في الجنتين عينان من الماء تجريان بين أشجارهما. وقيل: عينان إحداهما السلسبيل، والاخرى التسنيم، عن الحسن. وقيل: إحداهما من ماء غير آسن، والاخرى من خمر لذة للشاربين، عن عطية العوفي. (فيهما من كل فكهة زوجان) أي: في كلتا الجنتين من كل ثمرة نوعان، وضربان متشاكلان، كتشاكل الذكر والانثى. فلذلك سماهما زوجين، وذلك كالرطب واليابس من العنب والزبيب، والرطب واليابس من التين، وكذلك سائر الانواع لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. وقيل: معناه فيهما من كل نوع من الفاكهة ضربان، ضرب معروف، وضرب من شكله غريب، لم يعرفوه في الدنيا. (متكئين) حال ممن ذكروا في قوله: (ولمن خاف مقام ربه) أي قاعدين كالملوك (على فرش بطائنها من استبرق) أي من ديباج غليظ. ذكر البطانة، ولم يذكر الظهارة، لان البطانة تدل على أن لها ظهارة، والبطانة دون الظهارة. فدل على أن الظهارة فوق الإستبرق. وقيل: إن الظهائر من سندس، وهو الديباج الرقيق،
[ 347 ]
والبطانة من استبرق. وقيل: الإستبرق الحرير الصيني وهو بين الغليظ والرقيق. وروي عن ابن مسعود أنه قال: هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر ؟ وقيل لسعيد بن جبير. البطائن من استبرق فما الظهائر ؟ قال: هذا مما قال لله تعالى (فلا تعلم ئفس ما أخفي لهم من قرة أعين). (وجنى الجتعين دان) الجنى الثمر المجتنى أي: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما، لان شاء قاعدا، عن ابن عباس. وقيل: ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها، فيتناولونها متكئين، فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم، فيتناولونها مضطجعين، لا يرد أيديهم عنها بعد، ولا شوك، عن مجاهد. (فيهن) أي: في الفرش التي ذكرها. ويجوز أن يريد في الجنان، لانها معلومة، وإن لم تذكر (قاصرات الطرف) قصرن طرفهن على أزواجهن، لم يردن غيرهم، عن قتادة. وقال أبو (1) ذر: إنها تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجتك، وجعلك زوجي ! والطرف: جفن العين، لانه طرف لها ينطبق عليها تارة، وينفتح تارة. (لم يطمثهن) أي لم يفتضهن. والإفتضاض: النكاح بالتدمية، والمعنى: لم يطاهن، ولم يغشهن (إنس قبلهم ولا جان) فهن أبكار، لانهن خلقن في الجنة. فعلي هذا القول هؤلاء من حور الجنة. وقيل: هن من نساء الدنيا، لم يمسسهن منذ انشئن خلق، عن الشعبي، والكلبي. أي لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه، إنس ولا جان. قال الزجاج: وفي هذه الاية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي. وقال ضمرة بن حبيب: وفيها دليل على أن للجن ثوابا وأزواجا من الحور، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. قال البلخي المعنى: إن ما يهب الله لمؤمني الإنس من الحور، لم يطمثهن إنس، وما يهب الله لمؤمني الجن من الحور، لم يطمثهن جان. (كانهن الياقوت والمرجان) أي: هن على صفاء الياقوت في بياض المرجان، عن الحسن، وقتادة. وقال الحسن: المرجان أشد اللؤلؤ بياضا، وهو صغاره. وفي الحديث: (إن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها (2) من وراء سبعين (1) وفي نسخة: ابن زيد بدل أبو ذر. (2) وفي نسخة: ساقيها. (*)
[ 348 ]
حلة من حرير)، عن ابن مسعود، كما يرى السلك من وراء الياقوت. (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) أي ليس جزاء من أحسن في الدنيا، إلا أن يحسن إليه في الاخرة. وقيل: هل جزاء من قال (لا إك إلا الله) وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الجنة، عن ابن عباس. وجاءت الرواية عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول. (هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة). وقيل: معناه هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم، إلا أن تحسنوا في شكره وعبادته. وروى العياشي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: آية في (1) كتاب الله مسجلة. قلت: ما هي. قال. قول الله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) جرت في الكافر والمؤمن، والبر والفاجر، ومن صنع إليه معروف، فعليه أن يكافئ به، وليس المكافاة أن تصنع كما صنع، حتى يربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالإبتداء. (ومن دونهما جنتان (62) فبأئ الآء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأئ الآء ربكما تكذبان (65) فيها عينان نضاختان (66) فبأئ الآء ربكما تكذبان (67) فيهما فكهة ونخل ورمان (68) فبأئ الآء ربكما تكذبان (69) فيهن خيرت حسان (70) فبأئ الآء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأئ الآء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأى ءالآء ربكما تكذبان (75) متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان (76) فبأى ءالآء ربكما تكذبان (77) تبرك اسم ذى الجلل والاكرام (78) القراءة: قرأ ابن عامر: (ذو الجلال) بالرفع. والباقون بالجر. وفي الشواذ قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجحدري، ومالك بن دينار، وابن محيصن، والحسن، وزهير (1) وفي نسخة: من.
[ 349 ]
القرقبي: (على رفارف خضر وعباقري حسان). وقراءة الاعرج: (خضر) بضمتين. قال أبو علي: من قرأ (ذي الجلال) فجر، جعله صفة لربك. وزعموا أن ابن مسعود قرأ (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام) بالياء في كلتيهما. وقال الاصمعي. لا يقال (الجلال) إلا في الله تعالى، فهذا يقوي الجر إلا أن (الجلال) قد جاء في غير اللة، قال: فلا ذا جلال هبنه لجلاله، * ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر ومن رفع أجراه على الإسم. قال ابن جني. روى قطرب (عباقري) بكسر القاف غير مصروف. ورويناه عن أبي حاتم (عباقري) بفتح القاف غير مصروف أيضا. قال أبو حاتم: ولا يشبه إلا أن يكون عباقر بفتح (1) القاف على ما تتكلم به العرب. قال: ولو قالوا (عباقري) بكسر القاف وصرفوا، لكان أشبه بكلام العرب، كالنسب إلى مداين مدايني. والرفارف: رياض الجنة، عن سعيد بن جبير. وعبقر موضع. قال امرؤ القيس: كأن صليل المروحين تشده * صليل زيوف ينتقدن بعبقرا (2) وقال زهير: بخيل عليها جنة عبقرية (3) * جديرون يوما أن ينالوا، أو يستعلوا وأما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس، ولا يستنكر شذوذه في القياس مع استمراره في الإستعمال، كما جاء عن الجماعة: إستحوذ عليهم الشيطان، فهو شاذ في القياس، مطرد في الاستعمال. وليس لنا أن نتلقى قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بقبولها. وأما (خضر) بضم الضاد فقليل وهو من مواضع الشعر، كما قال طرفة: (وراد أو شقر). (1) وفي نسختين: بكسر القاف. (2) الصليل: صوت وقع الحديد بعضه على بعض. والمرو: الحجارة الصلبة. والزيف: الدرهم الردي. وانتقد الدرهم: أخرج منه الزيف. يصف فرسه بان وقع الحجارة بعضها على بعض حين شدة عدوه، بمنزلة وقع الدراهم الزائفة بعضها على بعض، حين ينتقدها النقاد في قرية بعبقر. (3) المراد من عبقر في هذا البيت: هو الموضع الذي كانت العرب تزعم أنه كثير الجن. (*)
[ 350 ]
اللغة: الدهمة: السواد. وادهام الزرع إذا علاه السواد ريا. ومنه الدهماء، وتصغيره الدهيماء للداهية، سميت بذلك لظلامها. والدهماء: القدر. والنضخ بالخاء المعجمة، أكثر من النضح بالحاء غير المعجمة، لان النضح الرش، وبالخاء كالبزل. والنضاخة: الفوارة التي ترمي بالماء صعدا. والرمان: مشتق من رم يرم رما، لان من شانه أن يرم الفؤاد بجلائه له. والخيرات: جمع خيرة. والرجل خير، والرجال خيار وأخيار. قال: ولقد طعنت مجامع الربلات، * ربلات هند، خيرة الملكات (1) وقال الزجاج: أصل خيرات خيرات، فخفف. والخيام: جمع خيمة، وهي بيت من الثياب على الاعمدة والاوتاد، مما يتخذ للاصحار. والرفوف: رياض الجنة من قولهم. رف النبات يرف أي: صار غضا نضرا. وقيل: الرفوف المجالس. وقيل: الوسائد. وقيل: إن كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف. قال ابن مقبل: وإنا لنزالون تغشى نعالنا * سواقط من أصناف ريط، ورفرف (2) والعبقري: عتاق الزرابي، والطنافس المخملة الموشمة، وهو اسم الجنس واحدته عبقرية، قال أبو عبيدة: كل شئ من البسط عبقري، وكل ما بولغ في وصفه بالجودة نسب إلى عبقر، وهو بلد كان يوشى فيه البسط وغيرها. المعنى: ثم قال سبحانه (ومن دونهما جنتان) أي: ومن دون الجنتين اللتين ذكرناهما لمن خاف مقام ربه جنتان أخريان، دون الجنتين الأوليين، فإنهما أقرب إلى قصره، ومجالسه في قصره، ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة، على ما هو معروف من طبع البشر، من شهوة مثل ذلك. ومعنى (دون) هنا: مكان قريب من الشئ بالإضافة إلى غيره، مما ليس له مثل قربه. وهو ظرف مكان. وإنما كان التنقل من جنة إلى جنة أخرى، أنفع لأنه أبعد من الملل الذي طبع عليه البشر. وقيل: إن المعنى أنهما دون الجنتين الأوليين في الفضل. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما). (1) الربلة والربلة: كل لحمة غليظة. وقيل: أصول الأفخاذ. والمراد من مجامع الربلات: الفرج. ومن الطعن: الجماع. (2) الريط: جمع الريطة، وهي كل ملاءة ليست ذات قطعتين متشامتين، بل كلها نسج واحد، وقطعة واحدة. (*)
[ 351 ]
وروى العياشي بالإسناد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن الرجل المؤمن، تكون له امرأة مؤمنة، يدخلان الجنة، يتزوج أحدهما الأخر ؟ فقال: يا أبا محمد ! ان الله حكم عدل، إذا كان هو أفضل منها خيره، فإن اختارها كانت من أزواجه، وإن كانت هي خيرا منه خيرها، فإن اختارته كان زوجا لها. قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تقولن الجنة واحدة، إن الله يقول (ومن دونهما جنتان)، ولا تقولن درجة واحدة، إن الله يقول: (درجات بعضها فوق بعض) إنما تفاضل القوم بالأعمال. قال: وقلت له: إن المؤمنين يدخلان الجنة، فيكون أحدهما أرفع مكانا من الاخر، فيشتهي أن يلقى صاحبه ؟ قال: من كان فوقه فله أن يهبط، ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد، لأنه لا يبلغ ذلك المكان، ولكنهم إذا أحبوا ذلك، واشتهوه، التقوا على الأسرة. وعن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ان الناس يتعجبون منا إذا قلنا يخرج قوم من جهنم (1)، فيدخلون الجنة، فيقولون لنا: فيكونون مع أولياء الله في الجنة ؟ فقال: يا علاء ! إن اللة يقول (ومن دونهما جنتان) لا والله لا يكونون مع أولياء الله ! قلت: كانوا كافرين ؟ قال عليه السلام: لا والله لو كانوا ما دخلوا الجنة ! قلت: كانوا مؤمنين ؟ قال: لا والله لو كانوا مؤمنين ما دخلوا النار ! ولكن بين ذلك، وتاويل هذا لو صح الخبر أنهم لم يكونوا من أفاضل المؤمنين وأخيارهم. ثم وصف الجنتين فقال: (مدهامتان) أي: من خضرتهما قد اسودتا من الري. وكل نبت اخضر فتمام خضرته أن يضرب إلى السواد، وهو على أتم ما يكون من الحسن. وهذا على قول من قال: إن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه، وهو قول ابن عباس. وقيل: الأوليان للسابقين، والأخريات للتابعين، عن الحسن. (فيهما عينان نضاختان) أي فوارتان بالماء ينبع من أصلهما، ثم يجريان، عن الحسن. قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور. وقيل: تنضخان بانواع الخيرات. (فيهما فكهة) يعني ألوان الفاكهة (ونخل ورمان) وحكى الزجاج عن يونس النحوي، وهو من قدماء النحويين أن النخل والرمان من أفضل الفواكه، وإنما فصلا (1) وفي نسخة: من النار. (*)
[ 352 ]
بالواو لفضلهما. قال الأزهري: ما علمت أن أحدا من العرب قال في النخل والكرم وثمارها، أنها ليست من الفاكهة، وإنما قال ذلك من قال لقلة علمه بكلام العرب، وتاويل القرآن العربي المبين. والعرب تذكر الأشياء جملة، ثم تختص شيئا منها بالتسمية، تنبيها على فضل فيه، كما قال سبحانه: (من كان عدوا لله وملائكته وكتبه ورسله وجبرائيل وميكائيل). (فيهن) يعني في الجنات الأربع (خيرات حسان) أي: نساء خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، روته أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: خيرات فاضلات في الصلاة والجمال، عن الحسن. حسان في المناظر والألوان. وقيل: إنهن نساء الدنيا، ترد عليهم في الجنة، وهن أجمل من الحور العين. وقيل: خيرات مختارات، عن جرير بن عبد الله. وقيل. لسن بذربات، ولا زفرات، ولا بخرات، ولا متطلعات، ولا متسوفات (1)، ولا متسلطات، ولا طماخات، ولا طوافات في الطرق، ولا يغرن، ولا يؤذين. وقال عقبة بن عبد الغفار: ونساء أهل الجنة ياخذ بعضهم بايدي بعض، ويتغنين باصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، ونحن خيرات حسان، حبيبات الأزواج كرام. وقالت عائشة: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة، أجابتهن المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصليات، وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضاتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فغلبتهن والله. (حور) أي بيض حسان البياض، عن ابن عباس، ومجاهد، ومنه الدقيق الحواري لشدة بياضه. والعين الحوراء إذا كانت شديدة بياض البياض، شديدة سواد السواد، وبذلك يتم حسن العين. (مقصورات في الخيام) أي محبوسات في الحجال، مستورات في القباب، عن ابن عباس، وأبي العالية، والحسن. والمعنى: إنهن مصونات مخدرات، لا يبتذلن (2). وقيل: مقصورات أي قصرن على أزواجهن، فلا يردن بدلا منهم، عن مجاهد والربيع. وقيل: إن لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا، عن ابن مسعود. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الخيمة (1) وفي المخطوطة: المتشوقات. والمتشوق: من يظهر الشوق تكلفا. (2) وفي المخطوطة: (لا يتبدلن). (*)
[ 353 ]
درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل للمؤمن، لا يراه الأخرون. وعن ابن عباس قال: الخيمة درة مجوفة، فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراع، عن وهب (1). وعن انس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مررت ليلة أسري بي بنهر، حافتاه قباب المرجان، فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله ! فقلت. يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء جوار (2) من الحور العين، استاذن ربهن عز وجل أن يسلمن عليك، فاذن لهن. فقلن: نحن الخالدات، فلا نموت، ونحن الناعمات، فلا نياسن (3)، أزواج رجال كرام. ثم قرأ صلى الله عليه وآله وسلم: (حور مقصورات في الخيام). (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) مر معناه. والوجه في التكرير الإبانة عن أن صفة الحور المقصورات في الخيام، كصفة القاصرات الطرف (متكئين على رفرف خضر) أي على فرش مرتفعة، عن الجبائي. وقيل: الرفرف رياض الجنة، والواحدة رفرفة، عن سعيد بن جبير. وقيل: هي المجالس، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وقيل: هي المرافق يعني الوسائد، عن الحسن (وعبقري حسان) أي وزرابي حسان، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وهي الطنافس. وقيل: العبقري الديباج، عن مجاهد. وقيل: هي البسط، عن الحسن قال القتيبي: كل ثوب موشى فهو عبقري، وهو جمع، ولذلك قال: (حسان). ثم ختم السورة بما ينبغي أن يبجل به ويعظم فقال: (تبارك اسم ربك) أي تعاظم وتعالى اسم ربك، لأنه استحق أن يوصف بما لا يوصف به غيره، من كونه قديما، وإلها، وقادرا لنفسه، وعالما لنفسه، وحيا لنفسه، وغير ذلك. (ذي الجلال) أي ذي العظمة والكبرياء (والاكرام) يكرم أهل دينه وولايته، عن الحسن. وقيل: معناه عظمة البركة في اسم ربك، فاطلبوا البركة في كل شئ بذكر اسمه. وقيل: إن إسم صلة لمعنى (تبارك ربك) قال لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما، * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وقيل: إن المعنى أن اسمه منزه عن كل سوء له الأسماء الحسنى. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (انطقوا بياذا الجلال والاكرام) أي: داوموا عليه. (1) وفي سائر النسخ: (عن ذهب). (2) في نسخة: (حور). (3) وفي نسخة: (لانبئس) وفي أخرى: (لا نيبس). (*)
[ 354 ]
56 - سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون وقال ابن عباس وقتادة، إلا آية منها نزلت بالمدينة، وهي: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) وقيل: إلا قوله. (ثلة من الأولين)، وقوله: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) نزلت في سفره إلى المدينة. عدد آيها: تسع وتسعون آية حجازي شامي، سبع بصري، ست كوفي. اختلاف: أربع عشرة آية: فأصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة، وأصحاب الشمال ثلاثهن غير الكوفي. والمدني الأخير أنشاناهن غير البصري، في سموم وحميم غير المكي، وكانوا يقولون مكي، وأباريق مكي، والمدني الأخير. موضونة حجازي كوفي، وحور عين كوفي. والمدني الأول، تأثيما عراقي شامي. والمدني الأخير، والآخرين غير شامي والمدني الأخير، لمجموعون شامي. والمدني الأخير فروح وريحان شامي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ سورة الواقعة، كتب ليس من الغافلين) لما وعن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبا الأولين (1)، ونبا أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا، ونبأ الاخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وروي أن عثمان بن عفان، دخل على عبد الله بن مسعود، يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له. ما تشتكي ؟ قال: ذنوبي. فال: ما تشتهي ؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب ؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك ؟ قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه ؟ قال: يكون لبناتك. قال: لا حاجة لهن فيه، فقد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا) وروى العياشي بالإسناد، عن زيد (1) [ والاخرين ].
[ 355 ]
الشحام، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر. وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ في كل ليلة جمعة، الواقعة، أحبه الله، وحببه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا، ولا فقرا، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين. تمام الخبر. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة الرحمن بصفة الجنة، وافتتح هذه السورة أيضا بصفة القيامة والجنة، فاتصلت إحداهما بالأخرى اتصال النظير للنظير، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الارض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلثة (7) فأصحب الميمنة ما أصحب الميمنة (8) وأصحب المشئمة ما أصحب المشئمة (9) والسبقون السبقون (10) أولئك المقربون (11) في جنت النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الاخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقبلين (16) القراءة: في الشواذ قراءة الحسن والثقفي وأبي حيوة: (خافضة رافعة) بالنصب. الحجة: (هذا) منصوب على الحال. قال ابن جني: وقوله (ليس لوقعتها كاذبة) حال أخرى قبلها أي: (ذا وقعت الواقعة، صادقة الوقعة، خافضة رافعة، فهذه ثلاثة أحوال. ومثله مررت بزيد جالسا متكئا ضاحكا. وإن شئت أن تأتي باضعاف ذلك، جاز وحسن، كما أن لك أن تاتي للمبتدأ من الأخبار بما شئت، فتقول: زيد عالم جميل فارس كوفي بزاز، ونحو ذلك. ألا ترى أن الحال زيادة في الخبر، وضرب منه. اللغة: الكاذبة: مصدر مثل العافية والعاقبة. والرج: التحريك باضطراب واهتزاز، ومنه قولهم ارتج السهم عند خروجه من القوس. والبس: الفت، كما يبس
[ 356 ]
السويق أي يلت. قال الشاعر: (لا تخبزا خبزا وبسا بسا). والبسيس: السويق أو الدقيق يتخذ زادا. وبست أيضا: سيقت، عن الزجاج. قال الشاعر: (وانبس حبات الكثيب الأهيل). والهباء: غبار كالشعاع في الرقة، وكثيرا ما يخرج مع شعاع الشمس، من الكوة النافذة. والانبثاث: افتراق الأجزاء الكثيرة في الجهات المختلفة. والأزواج: الأصناف التي بعضها مع بعض، كما يقال للخفين زوجان، والثلاثة: الجماعة وأصله القطعة من قولهم: ثل عرشه إذا قطع ملكه، بهدم سريره. والثلة. القطعة من الناس. والموضونة: المنسوجة المتداخلة كصفة الدرع المضاعفة. قال الأعشى: ومن نسج داود موضونة * تساق إلى الحي عيرا فعيرا ومنه: وضين الناقة، وهو البطان من السيور (1): إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا. الاعراب. (إذا وقعت الواقعة): ظرف من معنى ليس، لأن التقدير لا يكون لوقعتها كاذبة. وليس: نفي الحال، فلا يكون إذا ظرفا منه. ويجوز أن يكون العامل في (إذا) محذوفا لدلالة الموضع عليه، كانه قال: إذا وقعت الواقعة، كذلك فاز المؤمنون، وخسر الكافرون. وقال أبو علي: تقديره فهي خافضة رافعة، فأضمر المبتدأ مع الفاء، وجعلها جواب إذا أي: خفضت قوما ورفعت قوما إذ ذاك، فخافضة رافعة: خبر المبتدأ المحذوف. وقوله: (إذا رجت الأرض رجا): بدل من قوله (إذا وقعت الواقعة)، ويجوز أن يكون ظرفا من يقع أي: يقع في ذلك الوقت. ويجوز أن يكون خبرا عن إذا الأولى، ونظيره إذا تزورني إذا أزور زيدا أي: وقت زيارتك إياي، وقت زيارتي زيدا. قال ابن جني: ويجوز أن يفارق إذا الظرفية، كقول لبيد: حتى إذا ألقت يدا في كافر، * وأجن عورات الثغور ظلامها وقوله سبحانه (حتى إذا كنتم في الفلك) فإذا مجرورة عند أبي الحسن بحتى، وذلك يخرجها من الظرفية. وأقول: فعلى هذا لا يكون قوله إذا ظرفا في الموضعين، بل كل واحد منهما في موضع الرفع، لكونهما مبتدأ وخبرا بخلاف ما ظنه بعض (1) السيور: جمع السير، وهو قطعة مستطيلة من جلد غير مدبوغ، يخصف به النعل. (*)
[ 357 ]
المجودين من محققي زماننا في النحو. فإنه قال: قال عثمان - يعني ابن جني - العامل في (إذا وقعت) قوله (إذا رجت). وهذا خطأ فاحش. فأصحاب الميمنة: رفع بالابتداء والتقدير فأصحاب الميمنة ما هم أي: أي شئ هم. وأصحاب المشئمة أي: أي شئ هم. وهذه اللفظة مجراة مجرى التعجب. ومتكئين ومتقابلين: نصب على الحال. المعى: (إذا وقعت الواقعة) أي إذا قامت القيامة عن ابن عباس. والواقعة: إسم القيامة كالازفة وغيرها. والمعنى: إذا حدثت الحادثة، وهي الصيحة عند النفخة الأخيرة، لقيام الساعة. وقيل: سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة، أو لشدة وقعها، وتقديره: اذكروا إذا وقعت الواقعة. وهذا حث على الإستعداد لها (ليس لوقعتها كاذبة) أي ليس لمجيئها وظهورها كذب، ومعناه: إنها تقع صدقا وحقا، فليس فيها ولا في الإخبار عنها ووقوعها كذب. وقيل: معناه ليس لوقوعها قضية كاذبة أي: ثبت وقوعها بالسمع والعقل. (خافضة رافعة) أي تخفض ناسا، وترفع آخرين، عن ابن عباس. وقيل: تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة، عن الحسن والجبائي. والمعنى الجامع للقولين أنها تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، وتجعلهم أذلة بإدخالهم النار، وترفع رجالا كانوا في الدنيا أذلة، وتجعلهم أعزة بإدخالهم الجنة. (إذا رجت الأرض رجا) أي حركت حركة شديدة. وقيل: زلزلت زلزالا شديدا، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد. أي: رجفت بإماتة من على ظهرها من الأحياء. وقيل: معناه رجت بما فيها كما يرج الغربال بما فيه، فيكون المراد ترج بإخراج من في بطنها من الموتى. (وبست الجبال بسا) أي فتت (1) فتا، عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل. وقيل: معناه كسرت كسرا، عن السدي (2)، عن سعيد بن المسيب. وقيل: قلعت من أصلها، عن الحسن. وقيل: سيرت عن وجه الأرض تسييرا، عن الكلبي. وقيل: بسطت بسطا كالرمل والتراب، عن ابن عطية. وقيل: جعلت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة طويلة، عن ابن كيسان. (فكانت هباء منبثا) أي غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من (1) فت الشئ: دقه وكسره. (2) في المخطوطة: وسعيد بن المسيب. (*)
[ 358 ]
الكوة. ثم وصف سبحانه أحوال الناس بأن قال. (وكنتم أزواجا ثلاثة) أي أصنافا ثلاثة. ثم فسرها فقال: (فأصحاب الميمنة) يعني اليمين، وهم الذين يعطون كتبهم بايمانهم، عن الضحاك والجبائي. وقيل: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. وقيل: هم أصحاب اليمن والبركة على أنفسهم، والثواب من الله سبحانه بما سعوا من الطاعة، وهم التابعون بإحسان، عن الحسن والربيع. ثم عجب سبحانه رسوله من حالهم، تفخيما لشانهم فقال: (ما أصحاب الميمنة) أي: أئ شئ هم، كما يقال: هم ما هم. (وأصحاب المشئمة) وهم الذين يعطون كتبهم بشمالهم. وقيل: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. وقيل: هم المشائيم على أنفسهم بما عملوا من المعصية. ثم عجب سبحانه رسوله من حالهم، تفخيما لشانهم في العذاب فقال: (ما أصحاب المشئمة). ثم بين سبحانه الصنف الثالث فقال: (والسابقون السابقون) أي والسابقون إلى اتباع الأنبياء الذين صاروا أئمة الهدى، فهم السابقون إلى جزيل الثواب عند الله، عن الجبائي. وقيل. معناه السابقون إلى طاعة الله، وهم السابقون إلى رحمته، والسابق إلى الخير، إنما كان أفضل لأنه يقتدى به في الخير، وسبق إلى أعلى المراتب قبل من يجئ بعده. فلهذا يميز (1) بين التابعين. فعلى هذا يكون السابقون الثاني، خبرا عن الأول. ويجوز أن يكون الثاني تأكيدا للأول، والخبر: (أولئك المقربون) أي: والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلى المراتب، وإلى جزيل ثواب الله في أعظم الكرامة. ثم أخبر تعالى أين محلهم فقال: (في جنات النعيم) لئلا يتوهم متوهم أن التقريب يخرجهم إلى دار أخرى. فاعلم سبحانه أنهم مقربون من كرامة الله في الجنة، لأن الجنة درجات ومنازل بعضها أرفع من بعض. وقد قيل في السابقين: إنهم السابقون إلى الإيمان، عن مقاتل وعكرمة. وقيل: السابقون إلى الهجرة، عن ابن عباس. وقيل: إلى الصلوات الخمس، عن علي عليه السلام. وقيل: إلى الجهاد، عن الضحاك. وقيل: إلى التوبة وأعمال البر، عن سعيد بن جبير. وقيل: إلى كل ما دعا الله إليه، عن ابن كيسان. وهذا أولى، لأنه يعم الجميع. وكان عروة بن الزبير يقول: تقدموا تقدموا. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: السابقون أربعة: ابن آدم (1) في المخطوطة: (من التابعين). (*)
[ 359 ]
المقتول، وسابق في (1) أمة موسى عليه السلام وهو مؤمن آل فرعون، وسابق في أمة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار، والسابق في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام. (ثلة من الأولين) أي هم ثلة يعني جماعة كثيرة العدد من الأولين، من الأمم الماضية. (وقليل من الأخرين) من أمة محمد، لأن من سبق إلى إجابة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قليل، بالإضافة إلى من سبق إلى إجابة النبيين قبله، عن جماعة من المفسرين. وقيل: معناه جماعة من أوائل هذه الأمة، وقليل من أواخرهم ممن قرب حالهم من حال أولئك. قال مقاتل: يعني سابقي الأمم، وقليل من الآخرين من هذه الامة (على سرر موضونة) أي: منسوجة كما يوضن حلق الدرع، فيدخل بعضها في بعض. قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب، مشبكة بالدر والجواهر. (متكئين عليها) أي مستندين جالسين جلوس الملوك. (متقابلين) أي متحاذين كل واحد منهم بإزاء الأخر، وذلك أعظم في باب السرور، والمعنى: إن بعضهم ينظر إلى وجه بعض، لا ينظر في قفاه، لحسن معاشرتهم، وتهذب أخلاقهم. (يطوف عليهم ولدن مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثل اللؤلو المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلما سلما (26) القراءة: قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي: (وحور عين) بالجر. والباقون بالرفع. وفي الشواذ قراءة ابن أبي إسحاق: (ولا ينزفون) بفتح الياء، وكسر الزاي. وقراءة أبي بن كعب وابن مسعود: (وحورا عينا). الحجة: قال أبو علي. وجه الرفع في (وحور عين) أنه لما قال (يطوف عليهم ولدان مخلدون) دل هذا الكلام، وما ذكر بعد، على أن لهم فيها كذا وكذا، ولهم فيها حور عين، وكذلك من نصب حمل على المعنى، لأن الكلام دل على (1) فيها أيضا سابق أمة.... بدون لفظة (في). (*)
[ 360 ]
يمنحون ويملكون، وهذا مذهب سيبويه. ويجوز أن يحمل الرفع على قوله (على سرر موضونة) والتقدير: وعلى سرر موضونة حور عين، أو وحور عين على سرر موضونة، لأن الوصف قد جرى عليهن فاختصصن، فجاز أن يرفع بالإبتداء ولم يكن كالنكرة إذا لم يوصف نحو: (فيها عين)، وقوله (على سرر موضونة) خبر لقوله تعالى (ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين). فكذلك يجوز أن يكون خبرا عنهن، ويجوز في ارتفاع (وحور عين) أن يكون عطفا على الضمير في (متكئين)، ولم يؤكد لكون طول الكلام بدل من التأكيد. وبجوز أيضا أن يعطفه على الضمير في (متقابلين)، ولم يؤكد لطول أئلام أيضا. وقد جاء: (ما أشركنا ولا آباؤنا) فهذا أجدر. وقال الزجاج: الرفع أحسن الوجهين، لأن معنى (يطوف عليهم ولدان مخلدون) بهذه الأشياء أنه قد ثبت لهم ذلك، فكأنه قال: ولهم حور عين، ومثله مما حمل على هذا (1) المعنى، قول الشاعر. بادت وغير آيهن مع البلى، * إلا رواكد جمرهن هباء ثم قال بعده: ومشجج أما سواء قذاله * فبذا، وغير ساره المعزاء (2) لأنه لما قال (إلا رواكد) كان المعنى بها رواكد، فحمل (ومشجج) على المعنى. وقال غيره: تقديره وهناك حور عين. قال أبو علي: وجه الجر أن يكون يحمله على قوله (أولئك المقربون في جنات النعيم) التقدير: أولئك المقربون في جنات النعيم، وفي حور عين أي: وفي مقاربة حور عين، أو معاشرة حور عين، فحذف المضاف. فإن قلت: فلم لا تحمله على الجار في قوله تعالى (يطوف عليهم ولدان مخلدون) بكذا، وبحور عين، فهذا يمكن أن يقال إلا أن أبا الحسن قال: في ذا بعض الوحشة. قال ابن جني (3): نزف البئر ينزفها نزفا إذا استقى ماءها، وأنزفت الشئ إذا أفنيته. قال الشاعر: لعمري لئن أنزفتم، أو صحوتم، * لبئس الندامى كنتم آل أبحرا (4) (1) ليس في المخطوطة هذا. (2) مر البيت ومعناه في هذا الجزء. (3) في المخطوطة: قال ابن جني يقال.. (4) الندامى: جمع ندمان، وهو المنادم على الشرب أي: بئس المصاحبون أنتم في حال السكر، والصحو. (*)
[ 361 ]
المعنى: ثم أخبر سبحانه أنه (يطوف عليهم ولدان) أي وصفاء وغلمان للخدمة (مخلدون) أي باقون لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون، عن مجاهد. وقيل: مقرطون. والخلد: القرط. يقال: خلد جاريته إذا حلاها بالقرطة، عن سعيد بن جبير والفراء. واختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا (1)، فأنزلوا هذه المنزلة، عن علي عليه السلام والحسن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: (هم خدم أهل الجنة). وقيل: بل هم من خدم الجنة على صورة الولدان، خلقوا لخدمة أهل الجنة. (بأكواب) وهي القداح الواسعة الرؤوس، لا خراطيم لها، عن قتادة (وأباريق) وهي التي لها خراطيم وعرى، وهو الذي يبرق من صفاء لونه. (وكاس من معين) أي ويطوفون أيضا عليهم بكاس خمر معين أي: ظاهر للعيون جار. (لا يصدعون عنها) أي لا ياخذهم من شربها صداع. وقيل: لا يتفرقون عنها. (ولا ينزفون) أي لا تنزف عقولهم بمعنى: لا تذهب بالسكر، عن مجاهد وقتادة والضحاك. ومن قرأ (ينزفون) حمله على أنه لا تفنى خمرهم. (وفاكهة مما يتخيرون) أي: ويطوفون عليهم بفاكهة مما يختارونه ويشتهونه. يقال: تخيرت الشئ أخذت خيره. (ولحم طير مما يشتهون) أي: وبلحم طير مما يتمنون، فإن أهل الجنة إذا اشتهوا لحم الطير، خلق الله سبحانه لهم الطير نضيجا، حتى لا يحتاج إلى ذبح الطير وإيلامه. قال ابن عباس يخطر على قلبه الطير، فيصير (2) ممثلا بين يديه على ما اشتهى. (وحور عين) قد مر بيانه (كامثال اللؤلؤ المكنون) أي الدر المصون المخزون في الصدف، لم تمسه الأيدي. قال عمر بن أبي ربيعة: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا * ص، ميزت من جوهر مكنوث (جزاء بما كانوا يعملون) أي: نفعل ذلك لجزاء أعمالهم وطاعاتهم التي عملوها في دار التكليف الدنيا. (لا يسمعون فيها) أي في الجنة (لغوا) أي ما لا فائدة فيه من الكلام، لأن كل ما يتكلمون به فيه فائدة (ولا تاثيما) أي لا يقول بعضهم لبعض: أثمت، لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم، عن ابن عباس. وقيل: (1) في نسخة: فيعاقبوا عليها. (2) وفي نسختين: فيطير.
[ 362 ]
معناه لا يتخالفون على شرب الخمر، كما يتخالفون في الدنيا، ولا يأثمون بشربها، كما يأثمون في الدنيا. (إلآ قيلا سلاما سلاما) أي لا يسمعون إلا قول بعضهم لبعض على وجه التحية: سلاما سلاما. والمعنى: إنهم يتداعون بالسلام على حسن الآداب، وكريم الأخلاق، اللذين يوجبان التواد. ونصب (سلاما) على تقدير سلمك الله سلاما، بدوام النعمة، وكمال الغبطة (1). ويجوز أن يعمل سلام في (سلاما) لأنه يدل على عامله، كما يدل قوله تعالى (والله أنبتكم من الأرض نباتا) على العامل في نبات، فإن المعنى: أنبتكم فنبتم نباتا. ولجوز أن يكون (سلاما) نعتا لقوله (قيلا). ويجوز أن يكون مفعول قيل. فالوجوه الثلاثة تحتملها الاية. (وأصحب اليمين ما أصحب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31) وفكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنا أنشأنهن إنشاء (35) فجعلنهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لاصحب اليمين (38) ثلة من الاولين (39) وثلة من الاخرين (40) القراءة: قرأ إسماعيل وحمزة وحماد ويحيى، عن أبي بكر وخلف: (عربا) ساكنة الراء. والباقون: (عربا) بضمتين. الحجة: العروب: الحسنة التبعل. قال لبيد: وفي الحدوج عروب، غير فاحشة، * ريا الروادف، يعشى دونها البصر (2) والفعول يجمع على فعل، وفعل، فمن التثقيل قوله: (فاصبري إنك من قوم صبر) والتخفيف في ذلك شائع مطرد. اللغة: السدر: شجر النبق. وأصل الخضد: عطف العود اللين. فمن ههنا المخضود الذي لا شوك له. لأن الغالب أن الرطب اللين لا شوك له. والطلح قال أبو (1) في نسخة: العطية. (2) الحدج: مركب من مراكب النساء، نحو الهودج والمحفة. والريا: مؤنث الريان، وهر الأخضر الناعم من الأغصان وغيرها. ووجه ريان: كثير اللحم. والروادف: الأعجاز، جمع ردف أو الرادفة. (*)
[ 363 ]
عبيدة: هو كل شجر عظيم، كثير الشوك. قال بعض الحداة: بشرها دليلها وقالا: * غدا ترين الطلح، والجبالا وقال الزجاج: الطلح شجر أم غيلان. فقد يكون على أحسن حال. والمنضود: من نضدت المتاع إذا جعلت بعضه على بعض. والبكر: التي لم يفترعها الرجل، فهي على خلقتها الأولى من حال الإنشاء. ومنه البكرة: لاول النهار. والباكورة لأول الفاكهة. والبكر: الفتي من الإبل، وجمعه بكار وبكارة. وجاء القوم على بكرتهم وبكرة أبيهم، عن الأزهري. والأتراب: جمع ترب، وهو اللدة الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا، وهو مأخوذ من لعب الصبي بالتراب أي: هم كالصبيان الذين هم على سن واحد. قال ابن (1) أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة، تهادي * بين عشر، كواعب، أتراب (2) المعنى: ثم ذكر سبحانه أصحاب اليمين، وعجب من شأنهم فقال: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) هو مثل قوله: (ما أصحاب الميمنة) وقد مر معناه. (في سدر مخضود) أي (3) في نبق مخضود، أي منزوع الشوكة قد خضد شوكه أي قطع، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقيل: هو الذي خضد بكثرة حمله، وذهاب شوكه. وقيل: هو الموقر حملا، عن الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان. وقال الضحاك: نظر المسلمون إلى وج، وهو واد مخصب بالطائف، فاعجبهم سدره وقالوا: يا ليت لنا مثل هذا. فنزلت هذه الآية. (وطلح منضود) قال ابن عباس وغيره: هو شجر الموز وقيل: ليس بالموز، ولكنه شجر له ظل بارد رطب، عن الحسن. وقيل: هو شجر يكون باليمن وبالحجاز، من أحسن الشجر منظرا. وإنما ذكر هاتين الشجرتين، لأن العرب كانوا (1) في المخطوطة: عمر بن أبي ربيعة. (2) المهاة: الشمس... والبقرة الوحشية. وقيل: نوع من البقر الوحشي، وهي أشبه بالمعز الأهلية. وقرونها صلاب جدا تشبه بها المرأة في سمنها وجمالها، وحسن عينيها. وفلان يهادي بين اثنين أي: يتمايل، أو بالبناء للمفعول أي: يمشي بينهما معتمدا عليهما، لضعفه. والمراد: مشية المتبختر. (3) وقي المخطوطة: (في سدر) أي: في نبق (مخضود) أي: منزوع.. (*)
[ 364 ]
يعرفون ذلك، فإن عامة أشجارهم أم غيلان ذات أنوار ورائحة طيبة. وروت العامة عن علي عليه السلام أنه قرأ عنده رجل (وطلح منضود) فقال: ما شان الطلح ؟ إنما هو وطلع كقوله.: (ونخل طلعها هضيم) فقيل له: ألا تغيره ؟ فقال: إن القرآن لا يهاج اليوم، ولا يحرك. رواه عنه ابنه الحسن، وقيس بن سعد (1)، ورواه أصحابنا عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام (وطلح منضود) قال: لا (وطلع منضود)، والمنضود: الذي نضد بعضه على بعض، نضد بالحمل من أوله إلى آخره، فليست له سوق بارزة، فمن عروقه إلى أفنانه ثمر كله. (وظل ممدود) أي دائم لا تنسخه الشمس، فهو باق لا يزول. والعرب تقول لكل شئ طويل لا ينقطع: ممدود. قال لبيد: غلب البقاء، وكان غير مغلب، * دهر طويل ذائم، ممدود وقد ورد في الخبر أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرؤا إن شئتم (وظل ممدود). وروي أيضا أن أوقات الجنة كغدوات الصيف، لا يكون فيه حر، ولا برد. (وماء مسكوب) أي مصبوب يجري الليل والنهار، ولا ينقطع عنهم، فهو مسكوب بسكب الله إياه في مجاريه. وقيل: مسكوب مصبوب على الخمر، ليشرب بالمزاج. وقيل: مسكوب يجري دائما في غير أخدود، عن سفيان وجماعة. وقيل: مسكوب ليشرب على ما يرى من حسنه وصفائه، لا يحتاجون إلى تعب في استقائه. (وفكهة كثيرة) أي وثمار مختلفة كثيرة، غير قليلة. والوجه في تكرير ذكر الفاكهة: البيان عن اختلاف صفاتها، فذكرت أولا بأنها متخيرة، وذكرت هنا بأنها كثيرة. ثم وصفت بقوله: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) أي لا تنقطع كما تنقطع فواكه الدنيا في الشتاء، وفي أوقات مخصوصة، ولا تمتنع ببعد متناول، أو شوك يؤذي اليد، كما يكون ذلك في الدنيا. وقيل: إنها غير مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان، لا يتوصل إليها إلا بالثمن. (وفرش مرفوعة) أي بسط عالية كما يقال: بناء مرفوع. وقيل: مرفوع بعضها فوق بعض، عن الحسن، والفراء. وقيل: معناه ونساء مرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن وكمالهن، عن الجبائي، قال: ولذلك (1) قيل أيضا: قيس بن سعيد. (*)
[ 365 ]
عقبه بقوله (إنا أنشأناهن إنشاء) ويقال لامرأة الرجل: هي فراشه، ومنه قول النبي: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر). (إنا أنشأناهن إنشاء) أي خلقناهن خلقا جديدا. قال ابن عباس: يعني النساء الآدميات. والعجز: الشمط. يقول. خلقتهن بعد الكبر والهرم في الدنيا، خلقا اخر. وقيل: معناه أنشأنا الحور العين، كما هن عليه على هيئاتهن، لم ينتقلن من حال إلى حال، كما يكون في الدنيا. (فجعلناهن أبكارا) أي عذارى، عن الضحاك. وقيل: لا يأتيهن أزواجهن إلا وجدوهن أبكارا. (عربا) أي: متحننات على أزواجهن، متحببات إليهبم. وقيل: عاشقات لأزواجهن، عن ابن عباس. وقيل: العروب اللعوب مع زوجها انسا به، كأنس العرب بكلام العربي. (أترابا) أي متشابهات مستويات في السن، عن ابن عباس وقتادة، ومجاهد. وقيل: أمثال أزواجهن في السن. (لأصحاب اليمين) أي هذا الذي ذكرناه لأصحاب اليمين جزاء وثوابا على طاعاتهم. (ثلة من الأولين وثلة من الأخرين) أي: جماعة من الأمم الماضية التي كانت قبل هذه الأمة، وجماعة من مؤمني هذه الأمة. قال الحسن: سابقو الأمم الماضية أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعو الأمم الماضية مثل تابعي هذه الأمة. إن أصحاب اليمين منهم مثل أصحاب اليمين منا، وإنما نكر سبحانه الثلة، ليدل على أنه ليس لجميع الأولين والاخرين، وإنما هو لجماعة منهم، كما يقال: رجل من جملة الرجال. وهذا الذي ذكرناه قول مقاتل وعطاء وجماعة من المفسرين. وذهب جماعة منهم أن الثلتين جميعا من هذه الأمة، وهو قول مجاهد والضحاك، واختيار الزجاج. وروي ذلك مرفوعا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (جميع الثلتين من أمتي). ومما يؤيد القول الأول، ويعضده من طريق الرواية، ما رواه نقلة الأخبار بالإسناد عن ابن مسعود قال: تحدثنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة حتى أكثرنا الحديث، ثم رجعنا إلى أهلنا. فلما أصبحنا غدونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبي تجئ معه الثلة من أمته، والنبي معه العصابة من أمته، والنبي معه النفر من أمته، والنبي معه الرجل (1) من أمته، والنبي ما (1) وفي المخطوطة: رجل. (*)
[ 366 ]
معه من أمته أحد، حتى إذا أتى أخي موسى في كبكبة من بني إسرائيل. فلما رأيتهم أعجبوني، فقلت: أي رب ! من هؤلاء ؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران، ومن معه من بني إسرائيل. فقلت: رب فأين أمتي ؟ قال: أنظر عن يمينك، فإذا ظراب (1) مكة قد سدت بوجوه الرجال، فقلت (2): من هؤلاء ؟ فقيل: هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت: رب رضيت. وقال (3): أنطر عن يسارك. فإذا الأفق قد انسد (4) بوجوه الرجال. فقلت: رب من هؤلاء ؟ قيل: هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت: رب رضيت. فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفا من أمتك، يدخلون الجنة لا حساب عليهم،. قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد (5) من خزيمة، فقال: يا نبي الله ! ادع ربك أن يجعلني منهم. فقال: اللهم اجعله منهم. ثم أنشأ رجل آخر، فقال: يا نبي الله ! أدع ربك أن يجعلني منهم. فقال. سبقك بها عكاشة. فقال نبي الله: فداكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين، فكونوا. وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب. فإن عجزتم (6) وقصرتم فكونوا من أهل الأفق. وإني قد رأيت ثم ناسا كثيرا يتهاوشون كثيرا. فقلت: هؤلاء السبعون ألفا. فاتفق رأينا على أنهم ناس ولدوا في الإسلام، فلم يزالوا يعملون به، حتى ماتوا عليه. فانتهى (7) حديثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ليس كذلك، ولكنهم الذين لا يسرقون. ولا يتكبرون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. ثم قال: إني لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنة. قال: فكبرنا. ثم قال: إني لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنة. فكبرنا. ثم قال: إني لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين). (وأصحب الشمال ما أصحب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون (47) أو (1) الظراب. (2) في المخطوطة: رب من..... (3) فيها قيل. (4) فيها أيضا: سد. (5) فيها أيضا: ابن خزيمة. (6) فيها: فقصرتم. (7) في نسختين: فانهى. (*)
[ 367 ]
ءاباؤنا الاولون (48) قل إن الاولين والاخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50) ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لاكلون من شجر من زقوم (52) فما لئون منها البطون (53) فشربون عليه من الحميم (54) فشربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56) القراءة: قرأ ابن عامر: (ءإذا متنا) بهمزتين: (أئنا لمبعوثون) بهمزتين أيضا، ولم يجمع بين استفهامين إلا في هذا الموضع من القرآن. وقد ذكرنا مذهب غيره من القراء فيما تقدم. ومذهبه أيضا في أمثاله. وقرأ أهل المدينة وعاصم وحمزة: (شرب الهيم) بضم إلشين. والباقون بفتحها. الحجة: قالى أبو علي: إن ألحق ألف الإستفهام في قوله: (أئنا) أو لم تلحق، كان إذا متعلقا بشئ دل عليه قوله: (أإنا لمبعوثون). ألا ترى أن (إذا) ظرف من الزمان، فلا بد له من فعل، أو معنى فعل يتعلق به، ولا يجوز أن يتعلق بقوله (متنا) لأنه مضاف إليه. والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وإذا لم يجز حمله على هذا الفعل، ولا على ما بعد إن، من حيث لم يعمل ما بعد إن فيما قبلها، كما لا يعماى ما بعد لا فيما قبلها. فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الإستفهام فيما قبله، علمت أنه يتعلق بشئ دل عليه قوله (أئنا لمبعوثون)، وذلك نحشر، أو نبعث، ونحوهما مما يدل عليه هذا الكلام. وأما الشرب فهو نحو الأكل والضرب والشرب كالشغل والنكر. وأما الشرب فالمشروب كالطحن، ونحوه. وقد يكون الشرب: جمع شارب مثل راكب وركب، وتاجر وتجر، وراجل ورجل. اللغة: السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. ومسام البدن خروقه. ومنه أخذ السم الذي يدخل في المسام. واليحموم: الاسود الشديد السواد باحتراق النار، وهو يفعول من الحم، وهو الشحم المسود باحتراق النار. يقال: حممت الرجل إذا سخمت وجهه بالفحم. والمترف: الممتنع من أداء الواجبات طلبا لترفة، وهي الرفاهية، والنعمة. والحنث: نقض العهد المؤكد بالحلف. والهيم: الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها. والواحد أهيم، والأنثى هيماء. المعنى: ثم ذكر سبحانه أصحاب الشمال فقال: (وأصحاب الشمال ما
[ 368 ]
أصحاب الشمال) وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى جهنم، أو الذين يأخذون كتبهم بشمالهم، أو الذين يلزمهم حال ألشؤم والنكد (في سموم وحميم) أي في ريح حارة تدخل مسامهم وخروقهم، وفي ماء مغلي حار انتهت حرارته. (وظل من يحموم) أي دخان أسود شديد السواد، عن ابن عباس وأبي مالك ومجاهد وقتادة. وقيل: اليحموم جبل في جهنم، يستغيث أهل النار إلى ظله. ثم نعت ذلك الظل فقال: (لا بارد ولا كريم) أي لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر، عن قتادة. وقيل: لا بارد يستراح إليه، لأنه دخان جهنم، ولا كريم فيشتهى مثله. وقيل: ولا كريم أي ولا منفعة فيه بوجه من الوجوه. والعرب إذا أرادت نفي صفة الحمد عن شئ، نفت عنه الكرم. وقال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعا لكل شئ نفت عنه وصفا تنوي به الذم، تقول: ما هو بسمين ولا كريم. وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة. ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي أوجبت لهم هذا فقال: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين) أي كانوا في الدنيا متنعمين، عن ابن عباس. وذلك أن عذاب المترف أشد ألما. وبين سبحانه أن الترف ألهاهم عن الإنزجار، وشغلهم عن الإعتبار وكانوا (1) بتركون الواجبات طلبا لراحة أبدانهم: (وكانوا يصرون على الحنث العظيم) أي الذنب العظيم، عن مجاهد وقتادة. والإصرار: أن يقيم عليه، فلا يقلع عنه، ولا يتوب منه. وقيل: الحنث العظيم الشرك أي: لا يتوبون عنه، عن الحسن والضحاك. وابن زيد. وقيل: كانوا يحلفون لا يبعث الله من يموت، وإن الأصنام أنداد الله، عن الشعبي والأصم. (وكانوا يقولون ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) أي ينكرون البعث والنشور، والثواب والعقاب، فيقولون مستبعدين لذلك، منكرين له: ءإذا خرجنا من كوننا أحياء، وصرنا ترابا أنبعث. (أو آباؤنا الأولون) أي: أو يبعث آباؤنا الذين ماتوا قبلنا، ويحشرون. إن هذا لبعيد. ومن قرأ (أو آباؤنا) بفتح الواو، فإنها واو العطف، دخل عليها ألف الإستفهام. (قل) يا محمد لهم (إن الأولين والآخرين) أي الذين تقدموكم من آبائكم، وغير آبائكم، والذين يتأخرون عن زمانكم. (لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) يجمعهم الله، ويبعثهم، ويحشرهم إلى وقت يوم معلوم عنده، وهو يوم القيامة. (1) في بعض النسخ: فكانوا. (*)
[ 369 ]
(ثم إنكم أيها الضالون) الذين ضللتم عن طريق الحق، وجزتم عن الهدى. (المكذبون) بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، ونبوة نبيه. (لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون) مفسر في سورة الصافات. (فشاربون عليه من الحميم) الشجر يؤنث ويذكر، فلذلك قال (منها) ثم قال (عليه). وكذلك الثمر يؤنث ويذكر. (فشاربون شرب الهيم) أي كشرب الهيم، وهي الإبل التي أصابها الهيام، وهو شدة العطش. فلا تزال تشرب الماء حتى تموت، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقيل: هي الأرض الرملية التي لا تروط بالماء، عن الضحاك وابن عيينة. (هذا نزلهم يوم الدين) النزل: الأمر الذي ينزل عليه صاحبه. والمعنى: هذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء في جهنم. (نحن خلقنكم فلو لا تصدقون (57) أفرءيتم ما تمنون (58) ءأنتم تخلقونه أم نحن الخلقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثلكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكرون (62) أفرءيتم ما تحرثون (63) ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلنه حطما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرءيتم الماء الذى تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلنه أجاجا فلو لا تشكرون (70) أفرءيتم النار التى تورون (71) ءأنتم أنشاتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلنها تذكرة ومتعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74)) القراءة: قرأ أبن كثير: (نحن قدرنا) بالتخفيف. والباقون: (قدرنا) بالتشديد. وقرأ أبو بكر: (ءإنا لمغرمون) بهمزتين. والباقون بهمزة واحدة. الحجة: قال أبو علي: قدرنا في معنى قدرنا، ويدل عليه قوله: ومفرهة، عنس، قدرت لساقها، * فخرت كما تتايع الريح بالقفل (1) (1) أفرهت الناقة: إذا كانت تنتج الفره أي. النوق الخفيفات في السير. والعنس، الناقة الصلبة = (*)
[ 370 ]
والمعنى: قدرت ضربي لساقها، فضربتها، فخرت. ومثله في المعنى: فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها * على الضيف، نجرح في عراقيبها نصلي (1) اللغة: يقال: أمنى يمني، ومنى يمني، بمعنى. ومنه قراءة أبي السماك: (تمنون) بفتح التاء. والأصل من المنى، وهو التقدير. قال الشاعر: لا تأمنن، وإن أمسيت في حرم، * حتى تلاقي ما يمني لك الماني ومنه المنية لأنها مقدرة تأتي على مقدار. والحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء. وأصل الحطم: الكسر. والحطم: السواق بعنف، يحطم بعضها على بعض. قال: (قد لفها الليل بسواق حطم). والتفكه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل. والفكاهة: المزاح. ومنه حديث زيد: كان من أفكه الناس، مع أهله. ورجل فكه: طيب النفس. والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض. وأصل الباب: اللزوم. والغرام: العذاب اللازم. قال الأعشى: إن يعاقب يكن غراما، وإذن يع * ط جزيلا، فإنه لا يبالي والنار. مأخوذة من النور. قال الحارث: فتنورت نارها من بعيد، * بخزازى، هيهات منك الصلاء (2) والإيراء: إظهار النار بالقدح. يقال: أورى يوري، ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري. ويقال: قدح فأورى إذا أظهر النار. فإذا لم يور قيل: قدح فأكبي. والمقوي: النازل بالقواء من الأرض، ليس بها أحد. وأقوت الدار: خلت من أهلها. قال النابغة: القوية. واتايع الريح بورق الشجر، فاذهبت به. والقفل: ما يبس من الشجر. (1) المحل: الجدب. الكيد. السعاية. العرقوب: عصب غليظ موتر فوق عقب الإنسان. ومن الدابة في رجلها. ومنزلة الركبة في يدها. والنصل: حديدة السهم، والسيف، والرمح، والسكين. يقول: إن تعتذر للضيف بان ليس في ضروعها لبن نشق عراقيبها بالنصل، ونجرحها. (2) تنور النار من بعيد: تبصرها. وخزازى: جبل كانوا يوقدون عليه غداة الغارة. والصلاء: الشواء، والوقود، والعظيم من النار. (*)
[ 371 ]
أقوى، وأقفر من نعم، وغيرها * هوج الرياح بهابي الترب موار (1) وقال عنترة: حييت من طلل، تقادم عهده، * أقوى، وأقفر، بعد أم الهيثم (2) المعنى: ثم احتج سبحانه عليهم في البعث بقوله: (نحن خلقناكم) أي نحن خلقناكم، ولم تكونوا شيئا، وأنتم تعلمون ذلك، عن مقاتل. (فلولا تصدقون) أي فهلا تصدقون، ولم لا تصدقون بالبعث، لأن من قدر على الإنشاء والإبتداء، قدر على الإعادة. ثم نبههم سبحانه على وجه الإستدلال على صحة ما ذكره، فقال: (أفرأيتم ما تمنون) أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، فيصير ولدا (ءأنتم تخلقونه) أئ أنتم تخلقون ما تمنون بشرا (أم نحن الخالقون) فإذا لم تقدروا أنتم وأمثالكم على ذلك، فاعلموا أن الله سبحانه الخالق لذلك. وإذا ثبت أنه قادر على خلق الولد من النطفة، وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته، لأنه ليس بأبعد منه. ثم بين سبحانه أنه كما بدأ الخلق، فإنه يميتهم فقال: (نحن قدرنا بينكم الموت) التقدير: ترتيب الأمر على مقدار أي: نحن أجرينا الموت بين العباد على مقدار، كما تقتضيه الحكمة. فمنهم من يموت صبيا، ومنهم من يموت شابا، ومنهم من يموت كهلا وشيخا وهرما، عن مقاتل. وقيل: معناه قدرناه بأن سوينا فيه بين المطيع والعاصي، وبين أهل السماء والأرض، عن الضحاك. (وما نحن بمسبوقين) قيل: إنه من تمام ما قبله أي: لا يسبقنا أحد منكم على ما قدرناه من الموت، حتى يزيد في مقدار حياته. وقيل: إنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده، والمعنى: وما نحن بمغلوبين. (على أن نبدل أمثالكم) أي نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم، وتقديره: نبدلكم بأمثالكم. فحذف المفعول الأول، والجار من المفعول الثاني. قال الزجاج: معناه إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم، لم يسبقنا سابق، ولا يفوتنا. (1) الهوج: جمع الهوجاء، وهي الريح التي لا تستوي في هبوبها، وتقلع البيوت. والهابي: من هبا الغبار أي: سطع. وموضع هابي التراب أي: كان ترابه هباء في الرقة. وتراب هاب أي: منتشر في الجو. وموار: مبالغة من مار الشئ أي: تحرك بسرعة، وجاء، وذهب. (2) مر البيت في ج 3. (*)
[ 372 ]
(وننشئكم فيما لا تعلمون) من الصور، أي إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير، لم نسبق، ولا فاتنا ذلك، وتقديره: كما لم نعجز عن تغيير أحوالكم بعد خلقكم، لا نعجز عن أحوالكم بعد موتكم. وقيل: أراد النشأة الثانية أي: ننشئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة. فإن المؤمن يخلق على أحسن هيئة، وأجمل صورة. والكافر على أقبح صورة. وقيل: إنما قال ذلك، لأنهم علموا حال النشأة الأولى، كيف كانت في بطون الأمهات، وليست الثانية كذلك لأنها تكون في وقت لا يعلمه العباد. (ولقد علمتم الشعأة الأولى) أي المرة الأولى من الإنشاء، وهو ابتداء الخلق حين خلقتم (1) من نطفة، وعلقة، ومضغة. (فلولا تذكرون) أي فهلا تعتبرون وتستدلون بالقدرة عليها، على الثانية. (أفرأيتم ما تحرثون) أي ما تعملون في الأرض، وتلقون فيها من البذر. (ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) أئ أنتم تنبتونه، وتجعلونه زرعا، أم نحن المنبتون. فإن من قدر على إنبات الزرع من الحبة الصغيرة، وأن يجعلها حبوبا كثيرة، قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يقولن أحدكم زرعت، وليقل حرثت). (لو نشاء لجعلناه) أي جعلنا ذلك الزرع (حطاما) أي هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء. وقيل: تبنا لا قمح فيه، عن عطاء. (فظلتم تفكهون) أي: تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم، عن عطاء والكلبي ومقاتل. وقيل: معناه تندموت وتتأسفون على ما أنفقتم فيه، عن عكرمة وقتادة والحسن. وأصله من التفكه بالحديث وهو التلهي به، فكأنه قال: فظلتم تتروحون إلى التندم، كما يتروح الفكه إلى الحديث، بعا يزيل الهم. وقيل: معناه يتلاومون، عن عكرمة أي: يلوم بعضكم بعضا على التفريط في طاعة الله. (إنا لمغرمون) أي تقولون: إنا لمغرمون. والمعنى: إنا قد ذهب مالنا كله، ونفقتنا، وضاع وقتنا، ولم نحصل على شئ. وقيل: معناه إنا لمعذبون مجدودون (2) عن الحظ، عن مجاهد. وفي رواية أخرى (1) في بعض النسخ: خلقهم. (2) وفي سائر النسخ محدودون بالمهملة. وجد النخل بالجيم أي: صرمه وقطعه. وحد الله عنا الشر أي: كفه وصرفه. (*)
[ 373 ]
عنه: إنا لمولع بنا. وفي رواية أخرى عنه: إنا لملقون في الشر. وقيل محارفون، عن قتادة. ومن قرأ (ءإنا) على الإستفهام حمله على أنهم يقومون فيقولون منكرين لذلك. ومن قرأ (إنا) على الخبر حمله على أنهم مخبرون بذلك عن أنفسهم. ثم يستدركون فيقولون: (بل نحن محرومون) أي مبخوسو (1) الحظ، محارفون ممنوعون من الرزق والخير. ثم قال سبحانه، منبها على دلالة أخرى: (أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن) أي من السحاب (أم نحن المنزلون) نعمة منا عليكم، ورحمة بكم. ثم قال: (لو نشاء جعلناه أجاجا) أي مرا شديد المرارة. وقيل: هو الذي اشتدت ملوحته. (فلولا تشكرون) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة السنية التي لا يقدر عليها أحد غير الله. ثم نبه سبحانه على دلالة أخرى فقال: (أفرأيتم النار التي تورون) أي: تستخرجونها وتقدحونها بزنادكم من الشجر. (ءأنتم أنشأتم شجرتها) التي تنقدح النار منها أئ أنتم أنبتموها وابتدأتموها (أم نحن المنشئون) لها، فلا يمكن لأحد أن يقول: إنه أنشأ تلك الشجرة غير الله تعالى. والعرب تقدح بالزند، والزند، وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار. وفي المثل: (في كل شجر نار واستمجد (2) المرخ والعفار). (نحن جعلناها تذكرة) أي نحن جعلنا هذه النار تذكرة للنار الأخرى الكبرى، فإذا رآها الرائي ذكر جهنم واستعاذ بالله منها، عن عكرمة ومجاهد وقتادة. وقيل: معناه تذكرة يتذكر بها، ويتفكر فيها، فيعلم أن من قدر عليها، وعلى إخراجها من الشجر الرطب، قدر على النشأة الثانية. (ومتاعا للمقوين) أي وجعلناها بلغة ومنفعة للمسافرين، عن ابن عباس والضحاك وقتادة. يعني الذين نزلوا الأرض القي وهو القفر. وقيل: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين، عن عكرمة ومجاهد. والمعنى أن جميعهم يستضيئون بها من الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز. وعلى هذا فيكون المقوي من الأضداد، فيكون المقوي الذي صار ذا قوة من المال والنعمة. والمقوي أيضا الذاهب ماله، النازل بالقواء من الأرض. (1) وفي نسخة: محبوسو الحظ. (2) أي: استكثرا من النار، ومعنى المثل: كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. يقال: شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد، يضرب في تفضيل بعض الشئ على بعض. (*)
[ 374 ]
فالمعنى: ومتاعا للأغنياء والفقراء. ولما ذكر سبحانه، ما يدل على توحيده، وإنعامه على عبيده قال: (فسبح باسم ربك العظيم) أي، فبرئ الله تعالى مما يقولونه في وصفه، ونزهه عما لا يليق بصفاته. وقيل: معناه قل سبحان ربي العظيم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الاية قال: (اجعلوها في ركوعكم). (فلا أقسم بموقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقران كريم (77) في كتب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79) تنزيل من رب العلمين (80) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) فلو لا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلو لا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صدقين (87)). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (بموقع النجوم) بغير ألف. والباقون: (بمواقع النجوم) على الجمع. وروى بعضهم، عن عاصم: (أنكم تكذبون) بالتخفيف. والقراءة المشهورة بالتشديد. وفي الشواذ قراءة الحسن والثقفي: (فلا قسم) بغير ألف. وقراءة علي عليه السلام وابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وتجعلون شكركم). الحجة: قال أبو عبيدة: (فلا أقسم بمواقع النجوم) أي فأقسم. ومواقعها: مساقطها حيث تغيب. وقال غيره: إنه مواقع القرآن حين نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجوما. فأما الجمع في ذلك وإن كان مصدرا، فلاختلاف ذلك، فإن المصادر وسائر أسماء الأجناس، إذا اختلفت، جاز جمعها. ومن قرأ (بموقع) فأفرد، فلأنه إسم جنس. ومن قرأ (تكذبون) فالمعنى تجعلون رزقكم الذي رزقكموه الله فيما قال: (وأنزلنا من السماء ماء مباركا) إلى قوله: (رزقا للعباد). وقال: (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) إنكم تكذبون في أن تنسبوا هذا الرزق إلى غير الله تعالى، فتقولون. مطرنا بنوء كذا. فهذا وجه التخفيف. ومن قرأ
[ 375 ]
(تكذبون) فالمعنى: إنكم تكذبون بالقرآن، لأن الله تعالى هو الذي رزقكم ذلك على ما جاء في قوله تعالى: (رزقا للعباد) فتنسبونه أنتم إلى غيره. فهذا تكذيبكم بما جاء به التنزيل. وأما ما روي من قوله (وتجعلون شكركم) فالمعنى. تجعلون مكان الشكر الذي يجب عليكم التكذيب. وقد يكون المعنى وتجعلون شكر رزقكم التكذيب. فحذف المضاف. وقال ابن جني: هو على وتجعلون بدل شكركم ومثله قول العجاج: ربيته حتى إذا تمعددا (1) كان جزائي بالعصا أن أجلدا أي: كان بدل جزائي الجلد بالعصا. وأما قوله (فلا أقسم) فالتقدير: لأنا أقسم، وهو فعل الحال يدل على ذلك أن جميع ما في القرآن من الأقسام، إنما هو حاضر الحال، لا وعد الإقسام كقوله: (والتين والزيتون). (والشمس وضحاها) ولذلك حملت لا على الزيادة في قوله: (فلا اقسم بمواقع النجوم) ونحوه. نعم. ولو أريد به الفعل المستقبل للزمت منه النون، فقيل: لأقسمن. اللغة: القسم: جملة من الكلام، يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب دون الخطأ. والعظيم هو الذي يقصر مقدار ما يكون من غيره، عما يكون منه، وهو ضربان: عظيم الشخص، وعظيم الشأن. والكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير. فلما كان القران من شأنه أن يعطي الخير الكثير بأدلته المؤدية إلى الحق، كان كريما على حقيقة معنى الكريم، لا على التشبيه بطريق المجاز. والكريم في صفات الله تعالى، من الصفات النفسية التي يجوز أن يقال فيها لم يزل كريما، لأن حقيقته تقتضي ذلك من جهة أن الكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير، صح أن يقال إنه لم يزل كريما. والمدهن: الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر، كالدهن في سهولة ذلك عليه، والإسراع فيه. يقال: أدهن يدهن، وداهن يداهن، مثل نافق. والدين هو الجزاء، ومنه قولهم. (كما تدين تدان) أي كما تجزي تجزى. والدين: العمل الذي يستحق به الجزاء. الاعراب: (فلولا إذا بلغت الحلقوم): العامل في إذا محذوف يدل عليه الفعل الواقع بعد لولا، وهو (ترجعونها) في (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها). (1) تمعدد الغلام: شب وغلظ وذهبت عنه رطوبة الصبا. (*)
[ 376 ]
وجواب الشرط أيضا هو مدلول قوله (فلولا ترجعونها) ولولا هذه للتحضيض بمعنى هلا، ولا يقع بعدها إلا الفعل، ويكون التقدير فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم، فلولا إن كنتم. فكرر لولا ثانيا لطول الكلام. المعنى: ثم أكد سبحانه ما تقدم ذكره بقوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم) ولا زائدة. والمعنى: فاقسم، عن سعيد بن جبير. ويجوز أن يكون لا ردا لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة. ثم استأنف القسم فقال: أقسم. وقيل. إن (لا) تزاد في القسم، فيقال: لا والله لا أفعل. وقال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامري، لا يدعي القوم أني أفر والمعنى: وأبيك. وقيل: إن المعنى لا أقسم على هذه الأشياء، فإن أمرها أظهر وآكد من أن يحتاج فيه إلى اليمين، عن أبي مسلم. واختلف في معنى مواقع النجوم فقيل: هي مطالع النجوم ومساقطها، عن مجاهد وقتادة وقيل: انكدارها وهو انتشارها يوم القيامة، عن الحسن. وقيل: هي الانواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، فيكون المعنى. فلا أقسم بها. وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أن مواقع النجوم رجومها للشياطين. وكان المشركون يقسمون بها. فقال سبحانه: (فلا اقسم بها). وقيل: معناه أقسم بنزول القرآن فإنه نزل متفرقا قطعا نجوما، عن ابن عباس. (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) قال الزجاج والفراء: وهذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن. والضمير في (إنه) يعود إلى القسم، ودل عليه قوله أقسم. والمعنى: إن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم، لو تعلمون. ففصل بين الصفة والموصوف بالجملة. ثم ذكر المقسم به فقال: (إنه لقرآن كريم) معناه إن الذي تلوناه عليك لقرآن كريم أي عام المنافع، كثير الخير، ينال الأجر العظيم بتلاوته، والعمل بما فيه. وقيل: كريم عند الله تعالى أكرمه الله تعالى وأعزه، لأنه كلامه، عن مقاتل. وقيل: كريم لأنه كلام رب العزة، ولأنه محفوظ عن التغيير والتبديل، ولأنه معجز، ولأنه يشتمل على الأحكام والمواعظ، وكل جليل خطير وعزيز فهو كريم. (في كتاب مكنون) أي مستور من خلقه عند الله، وهو اللوح المحفوظ، أثبت
[ 377 ]
الله فيه القران، عن ابن عباس. وقيل. هو المصحف الذي في أيدينا، عن مجاهد. (لا يمسه إلا المطهرون) معناه في القول الأول. لا يمسه إلا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة من الذنوب، وفي القول الثاني إلا المطهرون من الشرك، عن ابن عباس. وقيل: المطهرون من الأحداث والجنابات. وقالوا (1): لا يجوز للجنب، والحائض، والمحدث مس المصحف، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام، وطاووس وعطاء وسالم، وهو مذهب مالك، والشافعي. فيكون خبرا بمعنى النهي. وعندنا أن الضمير يعود إلى القرآن، فلا يجوز لغير الطاهر مس كتابة القرآن. (تنزيل من رب العالمين) أي هذا القرآن منزل من عند الله تعالى الذي خلق العباد، ودبرهم على ما أراد على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ثم خاطب سبحانه أهل مكة فقال: (أفبهذا الحديث) الذي حدثناكم به، وأخبرناكم فيه، عن حوادث الأمور، وهو القرآن (أنتم مدهنون) أي مكذبون، عن ابن عباس. وقيل: مدهنون ممالئون للكفار على الكفر به، عن مجاهد. وقيل: منافقون على التصديق به أي: تقولون آمنا به، وتدهنون فيما بينكم وبين المشركين إذا خلوتم، فقلتم: إنا معكم. قال مؤرج: هو الذي يلين جانبه ليخفي كفره، وأصله من الدهن. (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أي: وتجعلون حظكم من الخير الذي هو كالرزق لكم أنكم تكذبون به. وقيل: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، عن ابن عباس قال: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره، فدعا صلى الله عليه وآله وسلم فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا. فنزلت الآية. وقيل معناه: وتجعلون حظكم من القرآن الذي رزقكم الله التكذيب به، عن الحسن. (فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي فهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت (وأنتم) يا أهل الميت (حينئذ تنظرون) أي ترون تلك الحال، وقد صار إلى أن تخرج نفسه، وقيل: معناه تنظرون لا يمكنكم الدفع، ولا تملكون شيئا. (ونحن أقرب إليه منكم) بالعلم والقدرة (ولكن لا تبصرون) ذلك، ولا تعلمونه. وقيل: معناه ورسلنا الذين يقبضون روحه، أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرون رسلنا القابضين روحه. (فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين) يعني فهلا (1) وفي نسخة: وقيل بدل قالوا. (*)
[ 378 ]
ترجعونها أي: فهلا ترجعون نفس من يعز عليكم، إذا بلغت الحلقوم، وتردونها إلى موضعها إن كنتم غير مجزيين بثواب وعقاب، وغير محاسبين. وقيل: غير مدينين معناه غير مملوكين. وقيل: غير مبعوثين، عن الحسن. والمراد: إن الأمر إن كان كما تقولونه من أنه لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء، ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا رددتم الأرواح والنفوس من حلوقكم إلى أبدانكم، إن كنتم صادقين في قولكم، فإذا لم تقدروا على ذلك، فاعلموا أنه من تقدير مقدر حكيم، وتدبير مدبر عليم. (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلم لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96)). القراءة: قرأ يعقوب. (فروح) بضم الراء، وهو قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وابن عباس، وأبي جعفر الباقر عليه السلام، وقتادة والحسن والضحاك وجماعة. والباقون: (فروح) بفتح الراء. الحجة: قال ابن جني: هو راجع إلى معنى الروح، فكأنه قال: فتمسك روح، وممسكها هو الروح. وكما تقول: هذا الهواء هو الحياة، وهذا السماع هو العيش، وهو الروح. الاعراب: (وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين) قال علي بن عيسى: دخلت كاف الخطاب، كما تدخل في ناهيك به شرفا، وحسبك به كرما، أي: لا تطلب زيادة على جلالة حاله، فكذلك سلام لك منهم أي: لا تطلب زيادة على سلامهم، جلالة وعظم منزلة. قال ابن جني: في الكلام تقديم وتاخير، والتقدير: مهما يكن من شئ، فسلام لك من أصحاب اليمين إن كان من أصحاب اليمين، ولا ينبغي أن يكون موضع (إن كان) إلا هذا الموضع، لأنه لو كان موضعه بعد الفاء يليها، لكان قوله (فسلام لك) جوابا له في اللفظ، لا في المعنى. ولو كان جوابا في اللفظ لوجب إدخال الفاء عليه، لأنه لا يجوز في سعة
[ 379 ]
الكلام إن كان من أصحاب اليمين، سلام له. فلما وجد (1) الفاء فيه. ثبت أنه ليس بجواب، لقوله: إن كان في اللفظ. وإذا ثبت أنه ليس بجواب له في اللفظ، ثبت أن موقع (إن كان) بعده، لا قبله. قال: فإن قيل إنما بدل الفاء التي تكون جوابا لقوله (إن كان) لأجل الفاء التي تدخل جوابا لأما، لأنه لا يدخل حرف معنى على مثله. قيل: إنما تدخل الفاء التي لأما عليه، لأنه ليس بجواب لقوله (إن كان) فلو كان جوابا له، لما دخلت عليه هذه الفاء في قوله (فأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك) على أن فاء أما قد يكون موقعه بعد الفاء لا يليها، وأما لها موضعان من الكلام أحدهما: أن يكون لتفصيل الجمل، نحو قولك: جاءني القوم، فأما زيد فأكرمته، وأما عمرو فأهنته. ومنه ما في الآية والثاني: أن تكون مركبة من أن وما، ويكون ما عوضا من كان، وذلك قولك: أما أنت منطلقا انطلقت معك. والمعنى إن كنت منطلقا، إنطلقت معك. فموضع أن نصب، لأنه مفعول له. وأنشد سيبويه: أبا خراشة أما أنت ذا نفر، فإن قومي لم تأكلهم الضبع أي: من أجل أن كنت. والضبع: السنة الشديدة. المعنى: ثم ذكر سبحانه صفات الخلق عند الموت فقال: (فاما إن كان من المقربين) أي فإن كان ذلك المحتضر الذي بلغت روحه الحلقوم من المقربين عند الله، وهم السابقون الذين ذكروا في أول السورة. (فروح) أي فله روح، وهو الراحة والإستراحة، عن ابن عباس ومجاهد، يعني من تكاليف الدنيا ومشاقها. وقيل: الروح الهواء الذي تستلذه النفس، ويزيل عنها الهم. (وريحان) يعني الرزق في الجنة. وقيل: هو الريحان المشموم، من ريحان الجنة، يؤتى به عند الموت فيشمه، عن الحسن وأبي العالية وقتادة. وقيل: الروح الرحمة، والريحان كل نباهة وشرف. وقيل: الروح النجاة من النار، والريحان الدخول في دار القرار. وقيل: روح في القبر، وريحان في الجنة. وقيل: روح في القبر، وريحان في القيامة. (وجنة نعيم) يدخلونها (وأما إن كان من أصحاب اليمين) أي إن كان (1) في نسخة هكذا: علما وجد (لم يوجد خ). (*)
[ 380 ]
المتوفى من أصحاب اليمين (فسلام لك من أصحاب اليمين) أي فترى فيهم ما تحب لهم من السلامة من المكاره والخوف. وقيل: معناه فسلام لك أيها الإنسان الذي هو من أصحاب اليمين، من عذاب الله. وسلمت عليك ملائكة الله، عن قتادة. قال الفراء: فسلام لك إنك من أصحاب اليمين. فحذف إنك. وقيل: معناه فسلام لك منهم في الجنة، لأنهم يكونون معك، ويكون لك بمعنى عليك. سؤال: يقال: لم يتبرك باليمين. والجواب: إن العمل ميسر بها، لأن الشمال معسر العمل بها من نحو الكتابة، والأعمال الدقيقة. (وأما إن كان من المكذبين) بالبعث والرسل وآيات الله (الضالين) عن الهدى، الذاهبين عن الصواب والحق. (فنزل من حميم) أي فنزلهم الذي أعد لهم من الطعام والشراب، من حميم جهنم. (وتصلية جحيم) أي إدخال نار عظيمة كما قال: (ويصلى سعيرا) في قراءة من شدد. (إن هذا لهو حق اليقين) أضاف الحق إلى اليقين، وهما واحد للتأكيد أي: هذا الذي أخبرتك به من منازل هؤلاء الأصناف الثلاثة، هو الحق الذي لا شك فيه، واليقين الذي لا شبهة معه. وقيل: تقديره حق الأمر اليقين. (فسبح باسم ربك العظيم) أي نزه الله سبحانه عن السوء والشرك، وعظمه بحسن الثناء عليه. وقيل. معناه نزه اسمه عما لا يليق به، فلا تضف إليه صفة نقص أو عملا قبيحا. وقيل: معناه قولوا: سبحان ربي العظيم. والعظيم في صفة الله تعالى معناه: إن كل شئ سواه يقصر عنه، فإنه القادر العالم الغني، الذي لا يساويه شئ، ولا يخفى عليه شئ، جلت آلاؤه، وتقدست أسماؤه.
[ 381 ]
57 - سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون: عدد آيها: تسع وعشرون آية عراقي، وثمان في الباقين. اختلافها: آيتان من قبله العذاب كوفي، والإنجيل بصري. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (من قرأ سورة الحديد، كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله). العرباض بن سارية قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات، قبل أن يرقد، ويقول: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية). وروى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ المسبحات كلها، قبل أن ينام، لم يمت حتى يدرك القائم عليه السلام. وإن مات كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة الحديد والمجادلة، في صلاة فريضة أدمنها، لم يعذبه الله حتى يموت أبدا، ولا يرى في نفسه، ولا في أهله، سوءا أبدا، ولا خصاصة في بدنه. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الواقعة بالتسبيح، افتتح هذه السورة بالتسبيح، وعقبه بالدلائل الموجبة للتسبيح فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السموات والارض يحى ويميت وهو على كل شئ قدير (2) هو الاول والاخر والظهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3) هو الذى خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء
[ 382 ]
وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور (5) يولج اليل في النهار ويولج النهار في اليل وهو عليم بذات الصدور (6)). المعنى: (سبح لله) أي نزهه، وأثنى عليه بما هو أهله، وبرأه من كل سوء (ما في السماوات والأرض) قال مقاتل: يعني كل شئ من ذي الروح وغيره، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وتحقيقه أن العقلاء يسبحونه قولا، واعتقادا، ولفظا، ومعنى. وما ليس بعاقل من سائر الحيوانات، والجمادات، فتسبيحه ما فيه من الأدلة الدالة على وحدانيته، وعلي الصفات التي باين بها جميع خلقه، وما فيه من الحجج على أنه لا يشبه خلقه، وان خلقه لا يشبهه، فعبر سبحانه عن ذلك بالتسبيح. ويجوز أن تكون (ما) ههنا بمعنى من كما حكى أبو زيد عن أهل الحجاز، أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: (سبحان ما سبحت له) فيكون واقعا على العقلاء من الملائكة، والجن، والإنس. (وهو العزيز الحكيم) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شئ المحكم لأفعاله، العليم بوجوه الصواب في التدبير (له ملك السماوات والأرض) أي له التصرف في جميع ما في السماوات والأرض من الموجودات، بما يشاء من التصرف، وليس لأحد منعه منه، وذلك هو الملك الأعظم، فإن كل ما يملكه من عداه، فإنه سبحانه هو الذي ملكه إياه، وله منعه منه. (يحي ويميت) أي يحمي الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا. وقيل: يحيي الأموات بان يجعل النطفة، وهي جماد حيوانا، ويميت الأحياء إذا بلغوا آجالهم التي قدرها لهم. (وهو على كل شئ قدير) يقدر على المعدومات، بايجادها وإنشائها، وعلى الموجودات بتغييرها وإفنائها، وعلى أفعال العباد ومقدوراتهم بالإقدار عليها، وسلبهم القدرة عليها. (هو الأول) أي أول الموجودات، وتحقيقه أنه سابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من تقدير الأوقات، لأنه قديم، وما عداه محدث. والقديم يسبق المحدث بما لا يتناهى من تقدير الأوقات. (والاخر) بعد فناء كل شئ، لأنه يفني الأجسام كلها، وما فيها من الأعراض، ويبقى وحده. ففي هذا دلالة على فناء الأجسام. وقيل: الأول قبل كل شئ بلا ابتداء، والآخر بعد كل شئ بلا انتهاء، فهو الكائن
[ 383 ]
لم يزل، والباقي لا يزال. (والظاهر) وهو الغالب العالي على كل شئ، فكل شئ دونه. (والباطن) العالم بكل شئ، فلا أحد أعلم منه، عن ابن عباس. وقيل: الظاهر بالأدلة والشواهد، والباطن الخبير العالم بكل شئ. وقيل: معنى الظاهر والباطن أنه العالم بما ظهر، والعالم بما بطن. وقيل: الظاهر بأدلته، والباطن من إحساس خلقه. وقيل: الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب. وقيل: الأول ببره إذ هداك، والاخر بعفوه إذ قبل توبتك، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته، عن السدي. وقيل: الأول بالخلق، والاخر بالرزق، والظاهر بالإحياء، والباطن بالإماتة، عن ابن عمر. وقيل: هو الذي أول الأول، وأخر الاخر، وأظهر الظاهر، وأبطن الباطن، عن الضحاك. وقيل: الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية، والظاهر بالأحدية، والباطن بالصمدية، عن أبي بكر الوراق. وقيل: إن الواوات مقحمة، والمعنى هو الأول، الاخر، الظاهر، والباطن، لأن كل من كان منا أولا، لا يكون آخرا، ومن كان منا ظاهرا، لا يكون باطنا، عن عبد العزيز بن يحيى. وقيل: هو الأول القديم، والآخر الرحيم، والظاهر الحكيم، والباطن العليم، عن يمان. وقال البلخي: هو كقول القائل فلان أول هذا الأمر وآخره، وظاهره وباطنه أي: عليه يدور الأمر، وبه يتم. (وهو بكل شئ) يصح أن يكون معلوما (عليم) لأنه عالم لذاته (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شئ بعد شئ، من جهته، ولما في الإخبار به من المصلحة للمكلفين. ولولا ذلك لكان يخلقهما في لحظة واحدة، لأنه القادر لذاته (ثم استوى على العرش) المعروف في السماء. وقيل: استوى على الملك، فمن قال بالأول قال: استواؤه عليه كونه قادرا على خلقه وإفنائه وتصريفه، قال البعيث: ثم استوى بشر على العراق، من غير سيف، ودم مهراق وبشر هذا هو بشر بن مروان، ولأه أخوه عبد الملك العراق. وقيل: معناه ثم عمد وقصد إلى خلق العرش. وقد مر بيانه (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) أي يعلم ما يدخل في الأرض، ويستتر فيها، ويعلم ما يخرج من الأرض من سائر أنواع النبات والحيوان والجماد، لا يخفى عليه شئ منها (وما ينزل من السماء وما
[ 384 ]
يعرج فيها) أي ويعلم ما ينزل من السماء من مطر، وغير ذلك من أنواع ما ينزل منها، ويعلم ما يعرج في السماء من الملائكة، وما يرفع إليها من أعمال الخلق (وهو معكم أينما كنتم) بالعلم الذي لا يخفى عليه شئ من أعمالكم وأحوالكم (والله بما تعملون) من خير وشر (بصير) أي عليم (له ملك السماوات والأرض) يتصرف فيهما كيف يشاء (وإلى الله ترجع الأمور) يوم القيامة. يعني: إن جميع من ملكه شيئا في الدنيا، يزول ملكه عنه، وينفرد سبحانه بالملك، كما كان كذلك قبل أن خلق الخلق. (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي يدخل ما نقص من الليل في النهار، وما نقص من النهار في الليل أي: حسب ما دبره فيه من مصالح عباده، عن عكرمة وإبراهيم. (وهو عليم بذات الصدور) أي هو عالم بأسرار خلقه، وما يخفونه من الضمائر، والإعتقادات، والإرادات، والكراهات، والعزائم في قلوبهم، لا يخفى عليه شئ منها، وفي هذا تحذير من المعاصي. (ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذى ينزل على عبده ءايت بينت ليخرجكم من الظلمت إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم (9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)). القراءة: قرأ أبو عمرو وحده: (وقد أخذ) بضم الهمزة (ميثاقكم) بالرفع. والباقون (أخذ) بفتح الهمزة (ميثاقكم) بالنصب. وقرأ ابن عامر: (وكل وعد الله الحسنى) بالرفع. والباقون: كلا) بالنصب. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (وقد أخذ) أنه قد تقدم: (وما لكم لا تؤمنون بالله) والضمير يعود إلى اسم الله تعالى. وحجة من قرأ (وقد أخذ) أنه على
[ 385 ]
هذا المعنى. وأنه قد عرف آخذ الميثاق، وأن الله قد أخذه. وحجة النصب في (كلا وعد الله الحسنى) بين، لأنه بمنزلة زيدا وعدت خيرا. وحجة ابن عامر أن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله، لم يقو عمله في قوته إذا تأخر. ألا ترى أنهم قالوا في الشعر (1): زيد ضربت. ولو تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل، لم يجز ذلك فيه. ومما جاء من ذلك في الشعر، قوله: قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع فرووه بالرفع لتقدمه على الفعل، وإن لم يكن شئ يمنع من تسلط الفعل عليه، فكذلك قوله (وكل وعد الله الحسنى) يكون على إرادة الهاء وحذفها، كما يحذف من الصفات والصلات. المعنى: ثم خاطب سبحانه المكلفين فقال: (آمنوا بالله) معاشر العقلاء أي صدقوا الله، وأقروا بوحدانيته، وإخلاص العبادة له (ورسوله) أي وصدقوا رسوله، واعترفوا بنبوته. (وأنفقوا) في طاعة اللة، والوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها. (مما جعلكم مستخلفين فيه) أي من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم، عن الحسن. ونبه سبحانه بهذا على أن ما في أيدينا يصير لغيرنا، كما صار إلينا ممن قبلنا، وحثنا على استيفاء الحظ منه قبل أن يصير (2) لغيرنا. ثم بين سبحانه ما يكافيهم على ذلك إذا فعلوه فقال: (فالذين آمنوا منكم) بالله ورسوله (وأنفقوا) في سبيله (لهم أجر كبير) أي جزاء، وثواب عظيم دائم لا يشوبه كدر ولا تنغيص، ثم وبخهم سبحانه فقال: (وما لكم لا تؤمنون بالله) أي: وأي شئ يمنعكم من الإيمان بالله، مع وضوح الدلائل على وحدانيته. (والرسول يدعوكم) إلى ما ركب الله في عقولكم، من معرفة الصانع وصفاته (لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم) بما أودع الله في قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى الإيمان به، فإن الميثاق هو الأمر المؤكد الذي يجب العمل به. (إن كنتم مؤمنين) أي: إن كنتم مصدقين بحق، فالآن فقد ظهرت أعلامه، ووضحت براهينه. والمعنى: أي عذر لكم في ترك الإيمان، وقد أزاحت (3) العلل، (1) ليس في بعض النسخ لفظة: (في الشعر). (2) في نسخة: (يصير الأمر لغيرنا). (3) في نسختين: (وقد انزاحت). (*)
[ 386 ]
وارتفعت الشبه، ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية، فالعقلية: ما في فطرة العقول، والسمعية: دعوة الرسول المؤيدة بالأدلة المؤدية إلى المدلول. والذي يبين هذا قوله: (هو الذي ينزل على عبده) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم (آيات بينات) أي حججا منيرة، وبراهين واضحة (ليخرجكم) الله بالقرآن والأدلة. وقيل: ليخرجكم الرسول بالدعوة. وقيل: ليخرجكم المنزل. والأول أوجه (من الظلمات إلى النور) أي من الكفر إلى الإيمان بالتوفيق والهداية والألطاف والأدلة. (وإن الله بكم لرؤوف رحيم) حين بعث الرسول ونصب الأدلة. والرأفة والرحمة واحد، وإنما جمع بينهما للتأكيد. وقيل: الرأفة النعمة على المضرور، والرحمة النعمة على المحتاج. وفي هذا دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، فإنه بين أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به. ثم حثهم سبحانه على الانفاق فقال: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله) أي: أي شئ لكم في ترك الإنفاق، فيما يقرب إلى الله تعالى. (ولله ميراث السماوات والأرض) يعني يفني الخلق، ويبقى هو، والمعنى فيه أن الدنيا وأموالها ترجع إلى الله، فلا يبقى لأحد فيها ملك، ولا أمر، كما يرجع الميراث إلى مستحقيه. فاستوفوا حظكم من أموالكم، قبل أن تخرج من أيديكم. ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) بين سبحانه أن الإنفاق قبل فتح مكة، إذا انضم إليه الجهاد أكثر ثوابا عند الله، من النفقة والجهاد بعد ذلك. وذلك أن القتال قبل الفتح، كان أشد، والحاجة إلى النفقة وإلى الجهاد كان أكثر وأمس. وفي الكلام حذف تقديره: لا يستوي هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح. فحذف لدلالة الكلام عليه. وقال الشعبي: أراد فتح الحديبية. ثم سوى سبحانه بين الجميع، في الوعد بالخير والثواب في الجنة فقال: (وكلا وعد الله الحسنى) أي الجنة والثواب فيها، وإن تفاضلوا في مقادير ذلك (والله بما تعملون خبير) أي لا يخفى عليه شئ من إنفاقكم، وجهادكم، فيجازيكم بحسب نياتكم، وبصائركم، وإخلاصكم في سرائركم. (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له وله أجر كريم (11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمنهم بشراكم اليوم جنت تجرى
[ 387 ]
من تحتها الانهر خلدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنفقون والمنفقت للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأوئكم النار هي مولكم وبئس المصير (15)). القراءة: القراءة (1) في (فيضاعفه)، والإختلاف فيه، قد مضى ذكره في سورة البقرة. وقرأ حمزة (أنظرونا) بقطع الهمزة وفتحها، وكسر الظاء. والباقون: (انظرونا) بهمزة الوصل، وضم الظاء. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب: (لا تؤخذ منكم) بالتاء. والباقون بالياء. وفي الشواذ قراءة سهل بن شعيب: (وبإيمانهم) بكسر الهمزة. وقراءة سماك بن حرب: (وغركم بالله الغرور) بضم الغين. الحجة: قال أبو علي: النظر هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي. والمراد رؤيته (2). ومما يدل على ذلك قوله. فيافي هل يجزي بكائي بمثله مرارا، وأنفاسي إليك الزوافر وإني متى أشرف على الجانب الذي به أنت من بين الجوانب ناظر فلو كان النظر الرؤية، لم يطلب عليه الجزاء، لأن المحب لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا، بل يريد ذلك ويتمناه، ويدل على ذلك قول الآخر: ونظرة ذي شجن وامق، إذا ما الركائب جاوزن ميلا وأما قوله تعالى (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته. وقد تقول: نظر إلي فلان إذا كان ينيلك شيئا. ويقول القائل: أنظر إلي نظر (1) ليس في نسخة: القراءة في. (2) أي: مقصود الناظر رؤيته في تلك الجهة من بين الجوانب أي: يقلب الحدقة. (*)
[ 388 ]
الله إليك، يريد: أنلني خيرا أنالك الله. ونظرت فعل يستعمل، وما تصرف منه على ضروب أحدها: أن تريد به نظرت إلى الشئ، فتحذف الجار، وتوصل الفعل، ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن: ظاهرات الجفال، والحسن، ينظرن كما ينظر الأراك الظباء والمعنى ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار والاخر: أن تريد به تأملت وتدبرت، وهو فعل غير متعد. فمن ذلك قولهم: إذهب فانظر زيدا أبو من هو ؟ فهذا يراد به التأمل. ومن ذلك قوله: (أنظر كيف ضربوا لك الأمثال)، و (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض). وقد يتعدى هذا بالجار كقوله: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) فهذا حض على التأمل. وقد يتعدى هذا بفي نحو قوله: (أفلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض). فأما قول امرئ القيس: فلما بدا حوران، والآل دونه (1)، نظرت فلم تنظر بعينك منظرا فيجوز أن يكون نظرت (2) فلم تر بعينك منظرا إلى الال (3). وقد جوز أن يعني بالنظر الرؤية على الإتساع، لأن تقليب البصر نحو المبصر، تتبعه الرؤية. وقد يجري على الشئ لفظ ما يتبعه، ويقترن به، كقولهم للمزادة راوية، وللفناء: عذرة (4). وقد يكون نظرت فلم تنظر مثل تكلمت ولم تتكلم أي: لم تأت بكلام على حسب ما يراد. فكذلك نظرت. فلم تنظر بعينك منظرا، كما تريد. أو لم تر منظرا يروق. وضرب آخر من نظرت هو أن تريد به انتظرته، من ذلك قوله: (غير ناظرين إناه) ومثله قول الفرزدق: نظرت كما انتظرت الله حتى كفاك الماحلين لك المحالا (5) (1) حوران: موضع بالشام. والآل: هو الذي ترأه في أول النهار وآخره، كأنه يرفع الشخوص. وقيل. هو والسراب واحد. (2) في نسخة. بمعى نظرت. (3) في نسخة منظرا تعرف به الآل، وفي أخرى تعرفه في الآل. (4) العذرة: فناء الدار سميت بذلك، لأن العذرة كانت تلقى في الأفنية. وفي أصل النسخة، (ط صيدا) للقناء غدرة والقناء: الجانب يفئ عليه الفئ. والغدرة: الليلة المظلمة، ولا يبعد صحته أيضا. (5) محل به إلى السلطان: كاده بسعاية إليه. (*)
[ 389 ]
يريد انتظرت كما انتظرت. وقد يكون أنظرت في معنى انتظرت، تطلب بقولك: أنظرني التنفيس الذي يطلب بالإنتظار، فمن ذلك قوله: أبا هند فلا تعجل علينا، وأنظرنا نخبرك اليقينا ومن ذلك قوله: (فأنظرني إلى يوم يبعثون) إنما هو طلب الإمهال والتسويف. فالمطلوب بقوله (وأنظرنا نخبرك أليقينا) تنفيس. وفي قوله (فأنظرني إلى يوم يبعثون) تسويف وتأخير، وكذلك ما جاء في الحديث من إنظار المعسر. وكذلك قوله: (أنظرونا نقتبس من نوركم) أي نفسونا نقتبس وانتظروا علينا. وليس تسرع من تسرع إلى تخطئة من قال انظرونا بشئ، ولا ينبغي أن يقال فيما لطف إنه خطا. وقوله (فاليوم لا تؤخذ منكم فدية) حسن التاء لتأنيث الفاعل، ويحسن الياء للفصل الواقع بين الفعل والفاعل. ولأن التأنيث غير حقيقي. وأما قوله (بأيمانهم) فقد قال ابن جني: هو معطوف على قوله (بين أيديهم)، ويكون الظرف الذي هو (بين أيديهم) معناه الحال. فيتعلق بمحذوف أي: يسعى كائنا بين أيديهم. وإذا كان كذلك جاز أن يعطف عليه الباء وما جرته أي: كائنا بأيمانهم، كقوله (ذلك بما قدمت يداك)، وقوله (الغرور) معناه الإغترار، وهو مقدر على حذف المضاف أي: وغركم بالله سلامة الإغترار أي: سلامتكم مع اغتراركم. وقال الزجاج: الغرور كل ما غر من متاع الدنيا. اللغة: القرض. ما تعطيه غيرك ليقضيكه. وأصله القطع، فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله. والعرب تقول: لي عندك قرض صدق، وقرضر سوء إذا فعل به خيرا، أو شرا. قال الشاعر: ويقضي (1) سلامان بن مفرج قرضها، بما قدمت أيديهم، وأزلت والمضاعفة: الزيادة على المقدار مثله، أو أمثاله. والإقتباس: أخذ النار. ويقال: قبسته نارا واقتبسته علما. والتربص: الترقب والإنتظار. الاعراب: (من ذا): قال الفراء (ذا) صلة لمن قال. ورأيتها في مصحف عبد الله (منذ الذي) والنون موصولة بالذال والذي (2). قيل: إن المعنى من هذا (1) وفي ثلاث نسخ: ويجزي. (2) ليس في نسختين لفظة: الذي. (*)
[ 390 ]
الذي، ومن في موضع رفع بالإبتداء. والذي خبره على القول الأول. وعلى القول الثاني يكون (ذا) مبتدأ. و (الذي) خبره. والجملة خبر من، كذا ذكره ابن فضال. وأقول. إن الصحيح أن يكون (ذا) مبتدأ. و (الذي يقرض الله) صفته. ومن: خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الإستفهام. (يوم ترى المؤمنين) يتعلق بقوله (ولهم أجر كريم) و (يوم يقول المنافقون) يتعلق بقوله (ذلك هو الفوز العظيم). ويجوز أن يكون التقدير: واذكر يوم يقول. ويجوز أن يكون بدلا من يوم ترى. له باب: في موضع جر صفة لسور (باطنه فيه الرحمة): صفة لباب. المعنى: ثم حث سبحانه على الإنفاق فقال: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) أي طيبة به نفسه، عن مقاتل. وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة (فيضاعفه له) أي يضاعف له الجزاء من بين سبع، إلى سبعين، إلى سبعمائة. وقال أهل التحقيق: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف، أن يكون من الحلال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب). وأن يكون من أكرم ما يملكه، دون أن يقصد الردئ بالإنفاق لقوله: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون). وأن يتصدق وهو يحب المال، ويرجو الحياة، لقوله لما سئل عن (1) الصدقة: (أفضل الصدقة أن تعطيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس التراقي، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا) وأن يضعه في الأخل ألأحوج الأولى بأخذه، ولذلك خص الله م قواما بأخذ الصدقات، وهم أهل السهمان. وأن يكتمه ما أمكن لقوله: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، وأن لا يتبعه المن والأذى لقوله: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى). وأن يقصد به وجه الله، ولا يرائي بذلك، لأن الرياء مذموم. وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، لأن متاع الدنيا قليل. وأن يكون من أحب ماله إليه لقوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا. (وله أجر كريم) أي جزاء خالص، لا يشوبه صفة نقص. فالكريم: الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير، فلما كان ذلك الأجر يعطي النفع العظيم، وصف بالكريم. والأجر الكريم هو الجنة. (يوم ترى) يا محمد (المؤمنين والمؤمنات (1) في نسختين. عن أفضل.. (*)
[ 391 ]
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة، ويريد بالنور الضياء الذي يرونه ويمرون فيه، عن قتادة. وليل: نورهم هديهم، عن الضحاك. وقال قتادة: إن المؤمن يضئ له نور كما بين عدن إلى صنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضئ له نوره، إلا موضع قدميه. وقال عبد الله بن مسعود: ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه، يطفأ مرة ويقد أخرى. وقال الضحاك: وبايمانهم يعني كتبهم التي أعطوها، ونورهم بين أيديهم. وتقول لهم الملائكة: (بشراكم اليوم جنات) أي الذي تبشرون به اليوم جنات (تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي مؤبدين دائمين، لا تفنون. (ذلك هو الفوز العظيم) أي الظفر بالمطلوب. ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم فقال: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا) ظاهرا وباطنا. (انظرونا نقتبس من نوركم) قال الكلبي: يستضئ المنافقون بنور المؤمنين، ولا يعطون النور. فإذا سبقهم المؤمنون قالوا: انظرونا نقتبس من نوركم أي: نستضئ بنوركم، ونبصر الطريق، فنتخلص من هذه الظلمات. وقيل: إنهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا، فيسعى المنافقون في نور المؤمنين، فإذا ميزوا (1) بقوا في الظلمة، فيستغيثون، ويقولون هذا القول. (قيل) أي فيقال للمنافقين (ارجعوا وراءكم) أي إرجعوا إلى المحشر، حيث أعطينا النور (فالتمسوا نورا) فيرجعون فلا يجدون نورا، عن ابن عباس. وذلك أنه قال تغشى الجميع ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، ويعطى المؤمن نورا، ويترك الكافر والمنافق. وقيل: معنى قوله (ارجعوا وراءكم) ارجعوا إلى الدنيا إن أمكنكم، فاطلبوا النور منها، فإنا حملنا النور منها بالإيمان والطاعات، وعند ذلك يقول المؤمنون: (ربنا أتمم لنا نورنا). (فضرب بينهم بسور) أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين سور. والباء مزيدة، لأن الصنى حيل بينهم وبينهم بسور، وهو حائط بين الجنة والنار، عن قتادة. وقيل: هو سور على الحقيقة (له باب) أي لذلك السور باب (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله) أي من قبل ذلك الظاهر (العذاب) وهو النار. وقيل: باطنه أي: باطن ذلك (1) في نسخة: تميزوا. (*)
[ 392 ]
السور فيه الرحمة أي الجنة التي فيها المؤمنون، وظاهره أي: وخارج السور من قبله، يأتيهم العذاب. يعني: إن المؤمنين يسبقونهم ويدخلون الجنة. والمنافقون يجعلون في النار والعذاب، وبينهم السور الذي ذكره الله. (ينادونهم) أي ينادي المنافقون المؤمنين (ألم نكن معكم) في الدنيا، نصوم ونصلي كما تصومون وتصلون، ونعمل كما تعملون. (قالوا بلى) أي يقول المؤمنون لهم: بلى كنتم معنا. (ولكنكم فتنتم أنفسكم) أي استعملتموها في الكفر والنفاق، وكلها فتنة. وقيل: معناه تعرضتم للفتنة بالكفر والرجوع عن الإسلام. وقيل: معناه أهلكتم أنفسكم بالنفاق. (وتربصتم) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الموت. وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه، عن مقاتل. وقيل: تربصتم بالمؤمنين الدوائر (وارتبتم) أي شككتم في الدين (وغرتكم الأماني) التى تمنيتموها بأن تعود الدائرة على المؤمنين. (حتى جاء أمر الله) أي الموت. وقيل: إلقاؤهم في النار، عن قتادة. وقيل: جاء أمر الله في نصرة دينه ونبيه، وغلبته إياكم (وغركم بالله الغرور) يعني الشيطان، غركم بحلم اللة وإمهاله. وقيل: الغرور الدنيا (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) أيها المنافقون أي بدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب (ولا من الذين كفروا) أي ولا من سائر الكفار الذين أظهروا الكفر (مأواكم النار) أي مقركم وموضعكم الذي تاوون إليه النار. (هي مولاكم) أي هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب، والمعنى: إنما هي التي تلي عليكم، لأنها قد ملكت أمركم، فهي أولى بكم من كل شئ (وبئس المصير) أي بئس المأوى والمرجع الذي تصيرون إليه. (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فسقون (16) اعلموا أن الله يحى الارض بعد موتها قد بينا لكم الايت لعلكم تعقلون (17) إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضعف لهم ولهم أجر كريم (18) والذين ءامنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا
[ 393 ]
بايتنا أولئك أصحب الجحيم (19) اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولد كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فترئه مصفرا ثم يكون حطما وفى الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيوة الدنيا إلا متع الغرور (20)). القراءة: قرأ نافع وحفص. (وما نزل من الحق) خفيفة الزآي. والباقون: (نزل) بالتشديد. وقرأ رويس: (ولا تكونوا) بالتاء. والباقون بالياء. وقرأ ابن كثير، وأبو بكر: (إن المصدقين والمصدقات) بتخفيف الصاد. والباقون بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: من خفف (ما نزل) ففي نزل ذكر مرفوع، بأنه الفاعل يعود إلى الموصول. ويقوي التخفيف قوله (وبالحق أنزناه وبالحق نزل)، ومن شدد ففاعل الفعل الضمير العائد إلى اسم الله تعالى، والعائد إلى الموصول الضمير المحذوف من الصلة. ومن قرأ (ولا تكونوا) فإنه على الخطاب والنهي. ومن قرأ (ولا يكونوا) بالياء فإنه عطف على (تخشع) وهو منصوب. ويجوز أن يكون مجزوما على النهي للغائب. ومن خفف (المصدقين والمصدقات) فإن معناه إن المؤمنين والمؤمنات. وأما قوله. (وأقرضوا الله قرضا حسنا) فهو في المعنى كقوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة. وحجة من خفف أنه أعم من (المصدقين) ألا ترى أن (المصدقين) مقصور على الصدقة. و (المصدقين) يعم التصديق والصدقة، فهو أذهب في باب المدح. ومن حجة من ثقل أنهم زعموا أن في قراءة أبي: (إن المتصدقين والمتصدقات) ومن حجتهم أن قوله: (وأقرضوا الله قرضا حسنا) اعتراض بين الخبر والمخبر عنه. والإعتراض بمنزلة الصفة، فهو للصدقة أشد ملاءمة منه للتصديق. وليس التخفيف كذلك. ومن حجة من خفف أن يقول لا نحمل قوله: (واقرضوا الله) على الإعتراض. ولكنا نعطفه على المعنى. ألا ترى أن قوله: (إن المصدقين والمصدقات) معناه: إن الذين صدقوا. فكأنه في المعنى: إن المصدقين وأقرضوا. فحمل وأقرضوا الله على المعنى، لما كان من معنى المصدقين الذين صدقوا. فكأنه قال. إن الذين صدقوا وأقرضوا.
[ 394 ]
اللغة: يقال: أنى ياتي أنى إذا حان. والخشوع: لين القلب للحق، والإنقياد له. ومثله الخضوع. والحق: ما دعا إليه العقل، وهو الذي من عمل به نجا، ومن عمل بخلافه هلك. والحق: مطلوب كل عاقل في نظره، وإن أخطا طريقه. والقسوة: غلظ القلب بالجفاء عن قبول الحق. والأمد: الوقت الممتد، وهو والمدة واحد. والهيج: جفاف النبت. النزول: قيل إن قوله: (ألم يان للذين آمنوا) الاية. نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإن فيها العجائب. فنزلت (الر تلك آيات الكتاب المبين) إلى قوله (لمن الغافلين). فخبرهم أن هذا القرآن أحسن القصص، وأنفع لهم من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله. ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك، فنزلت آية (الله نزل أحسن الحديث كتابا). فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله. ثم عادوا فسألوا سلمان، فنزلت هذه الآية، عن الكلبي ومقاتل. وقيل: نزلت بالمؤمنين. قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية، إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا. وقيل: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، بهذه الآية، عن ابن عباس. وقيل: كانت الصحابة بمكة، مجدبين. فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، فتغيروا عما كانوا عليه، فقست قلوبهم، والواجب أن يزدادو في الإيمان واليقين والإخلاص، في طول صحبة الكتاب، عن محمد بن كعب. المعنى: ثم دعاهم سبحانه إلى الطاعة بقوله: (ألم يأن للذين أمنوا) أي أما حان للمؤمنين (أن تخشع قلوبهم) أي ترق، وتلين قلوبهم (لذكر الله) أي لما يذكرهم الله به من مواعظه (وما نزل من الحق) يعني القران. ومن شدد فالمراد: وما نزله الله من الحق (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (من قبل فطال عليهم الأمد) أي طال الزمان بينهم وبين أنبيائهم. وقيل: طال عليهم الأمد للجزاء أي لم يعاجلوا بالجزاء فاغتروا بذلك. (فقست قلوبهم) أي فغلظت قلوبهم، وزال خشوعها، ومرنوا على المعاصي
[ 395 ]
واعتادوها. وقيل: طالت أعمارهم، وساءت أعمالهم، فقست قلوبهم. وينبغي أن يكون هذا متوجها إلى جماعة مخصوصة، لم يوجد منهم الخشوع التام، فحثوا على الرقة والخشوع. فاما من وصفهم الله تعالى بالخشوع، والرقة والرحمة، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء، عن الزجاج. ومن كلام عيسى عليه السلام: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولا تنظروا في ذنوب العباد، كانكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم، كانكم عبيد. والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). (وكثير منهم فاسقون) أي خارجون عن طاعة الله تعالى إلى معصيته أي فلا تكونوا مثلهم، فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم. ثم قال: (اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها) أي يحييها بالنبات بعد اليبس والجدوبة أي: فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالضلال والكفر، بأن يلطف له ما يؤمن عنده. وقيل معناه (1): إن الله يلين القلوب بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات (قد بينا لكم الايات) أي الحجج الواضحات، والدلائل الباهرات (لعلكم تعقلون) فترجعون إلى طاعتنا، وتعملون بما أمرناكم به. (إن المصدقين والمصدقات) قد مضى الوجه في اختلاف القراءتين، ومعناهما. (وأقرضوا الله قرضا حسنا) أي وأنفقوا في وجوه الخير (يضاعف لهم) ذلك القرض الحسن أي: يجازون أمثال ذلك (ولهم أجر كريم) مر معناه (والذين آمنوا بالله ورسله) أي: صدقوا بتوحيد الله، وأقروا بنبوة رسله (أولئك هم الصديقون) قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله، فهو صديق وشهيد. وقرأ هذه الآية. والصديق: الكثير الصدق المبالغ فيه، وهو إسم مدح وتعظيم. (والشهداء عند ربهم) أي وأولئك الشهداء عند ربهم والتقدير: أولئك الصديقون عند ربهم، والشهداء عند ربهم. ثم قال: (لهم أجرهم ونورهم) أي لهم ثواب طاعاتهم، ونور إيمانهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنة. وهذا قول عبد الله بن مسعود، ورواه البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى العياشي بالإسناد عن منهال القصاب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ادع الله أن يرزقني الشهادة. (1) في نسختين: اعلموا أن. (*)
[ 396 ]
فقال: العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد (1) والله مع قائم آل محمد عليه السلام بسيفه. ثم قال: بل والله كمن جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله سيفه. ثم قال الثالثة: بل والله كمن استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله في فسطاطه. وفيكم آية من كتاب الله. وقلت: وأى آية جعلت فداك ؟ قال قول الله عز وجل: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) ثم قال: صرتم والله صادقين شهداء عند ربكم. وقيل: إن الشهداء منفصل مما قبله مستأنف، والمراد بالشهداء الأنبياء عليه السلام الذين يشهدون للأمم وعليهم، وهو قول ابن عباس، ومسروق، ومقاتل بن حيان، واختاره الفراء والزجاج. وقيل: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، عن مقاتل بن سليمان، وابن جرير (والذين كفروا كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) يبقون فيها دائمين. ثم زهد سبحانه المؤمنين في الدنيا، والركون إلى لذاتها فقال: (اعلموا أنما الحياة الدنيا) يعني إن الحياة في هذه الدار الدنيا (لعب ولهو) أي بمنزلة اللهو واللعب، إذ لا بقاء لذلك، ولا دوام، ويزول عن وشيك، كما يزول اللهو واللعب. قال مجاهد: كل لعب لهو. وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الاخرة. (وزينة) تتزينون بها في الدنيا. وقيل: أراد بذلك أنها تتحلى في أعين أهلها، ثم تتلاشى (وتفاخر بينكم) أي يفاخر الرجل بها قرينه وجاره، عن ابن عباس. (وتكاثر في الأموال والأولاد) قال: يجمع ما لا يحل له تكاثرا به، ويتطاول على أولياء الله بماله وولده وخدمه، والمعنى: أنه يفني عمره في هذه الأشياء. ثم بين سبحانه لهذه الحياة شبها فقال: (كمثل غيث) أي مطر (أعجب الكفار نباته) أي أعجب الزراع ما ينبت من ذاك الغيث. قال الزجاج: ويجوز أن يكون المراد الكفار بالله، لأن الكافر أشد إعجابا بالدنيا من غيره. (ثم يهيج) أي ييبس (فتراه مصفرا) وهو إذا قارب اليبس (ثم يكون حطاما) يتحطم ويتكسر بهد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدم في سورة يونس. (وفي الاخرة عذاب شديد) لأعداء الله، عن مقاتل (ومغفرة من الله ورضوان) لأوليائه وأهل طاعته (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) لمن اغتر بها، ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير: متاع (1) في المخطوطة: كمن جالد. (*)
[ 397 ]
الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وقيل: معناه والعمل للحياة الدنيا متاع الغرور، وأنه كهذه الأشياء التي مثل بها في الزوال والفناء. (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأها إن ذلك عى الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفر حوابما ءاتكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد (24) لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنفع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز (25). القراءة: قرأ أبو عمرو: (بما أتاكم) مقصورا. والباقون بالمد. وقرأ أهل المدينة والشام: (فإن الله الغني الحميد) لأنهم وجدوا في مصاحفهم كذلك. والباقون: (فإن الله هو الغني) بإثبات هو وكذلك هو في مصاحفهم. الحجة: قال أبو علي: حجة من قصر (أتاكم) أنه معادل به فاتكم، فكما أن الفعل للفائت في قوله (فاتكم) فكذلك (1) للآتي في قوله (بما أتاكم) قال الشاعر: ولا فرخ بخير إن أتاه، ولاجزع من الحدثان لاع (2) وحجة من مد أن الخير الذي ياتيهم، هو من عند الله، وهو المعطي لذلك، (1) في نسخة: فكذلك يكون الفعل. (2) اللاعي: من يفزع من أدنى شئ.
[ 398 ]
وفاعل (آتاكم) هو الضمير العائد إلى اسم الله، والهاء محذوفة من الصلة، تقديرة: بما آتاكموه. وقوله: (إن الله هو الغني الحميد) ينبغي أن يكون هو فصلأ، ولا يكون مبتدا، لأن الفصل حذفه أسهل. ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، وقد يحذف فلا يخل بالمعنى. اللغة: أعدت: مشتقة من العدد. والإعداد: وضع الشئ لما يكون في المستقبل على ما يقتضيه من عدد الأمر الذي له. الفضل والإفضال واحد، وهو النفع الذي كان للقادر أن يفعله بغيره، وله أن لا يفعله. والأسى: الحزن. ووالتآسي: تخفيف الحزن بالمشاركة في حاله. الاعراب: (في كتاب): يتعلق بمحذف تقديره إلا هي كائنة في كتاب، فهو في محل الرفع بأنه خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يتعلق بفعل محذوف تقديره إلا قد كتبت في كتاب فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي إلأ مكتوبة (لكيلا تأسوا): تأسوا منصوب بنفس كي، واللام هي اللام الجارة. (الذين يبخلون): في موضع جر على البدل من (مختال فخور) فعلى هذا لا يجوز الوقف على فخور. ويجوز أن يكون محله رفعا على الإبتداء، ويكون خبره محذوفا كما حذف جواب لو من قوله (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال)، ويكون التقدير: الذين يبخلون، فإنهم يستحقون العذاب. ويجوز أن يكون محله رفعا، أو نصب على الذم. المعنى: ثم رغب سبحانه في المسابقة لطلب الجنة فقال: (سابقوا) أي بادروا العوارض القاطعة عن الأعمال الصالحة، وسارعوا إلى ما يوجب الفوز في الآخرة (إلى مغفرة من ربكم) قال الكلبي: إلى التوبة. وقيل: إلى الصف الأول. وقيل: إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وجنة عرضعها كعرض السماء والأرض) أي وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنة هذه صفتها. وذكر في ذكر العرض دون الطول وجوه أحدها: إن عظم العرض يدل على عظم الطول والآخر: إن الطول قد يكون بلا عرض، ولا يكون عرض بلا طول وثالثها: إن المراد به أن العرض مثل السماوات والأرض، وطولها لا يعلمه إلا الله تعالى. قال الحسن: إن الله يفني الجنة، ثم يعيدها على ما وصفه، فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض. وقال غيره: إن الله
[ 399 ]
قال: (عرضها كعرض السماء والأرض) والجنة المخلوقة في السماء السابعة، فلا تنافي. (أعدت للذين أمنوا) أي ادخرت وهيئت للمؤمنين (بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) معناه: إنه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني، ولو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحق بالأعمال، كان عدلا منه، لكنه تفضل بالزيادة. وقيل: معناه أن أحدأ لا ينال خيرأ في الدنيا والآخرة، إلا بفضل الله، فإنه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة، ولم يبين لنا الطريق، ولم يوفقنا للعمل الصالح، لما اهتدينا إليه، وذلك كله من فضل الله. وأيضا فإنه سبحانه تفضل بالأسباب التي يفعل بها الطاعة، من التمكين، والالطاف، وكمال العقل، وعرض المكلف للثواب. فالتكليف أيضا تفضل، وهو السبب الموصل إلى الثواب. وقال أبو القاسم البلخي، والبغداديون من أهل العدل: إن الله سبحانه وتعالى، لو اقتصر لعباده في طاعاتهم على مجرد إحساناته السالفة إليهم، لكان عدلأ، فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلا. وفي هذه الأية أعظم رجاء لأهل الإيمان، لأنه ذكر أن الجنة معدة للمؤمنين، ولم يذكر مع الإيمان شيئأ آخر. (والله ذو الفضل العظيم) أي ذو الإفضال العميم، والإحسان الجسيم إلى عباده. ثم قال: (ما أصاب من مصيبة في الأرض) مثل قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمرات (ولا في أنفسكم) من الأمراض والثكل بالأولاد (إلا في كتاب) يعني إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ (من قبل أن نبرأها) أي من قبل أن نخلق الأنفس. المعنى: إنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها. (إن ذلك على الله يسير) أي إثبات ذلك على كثرته، هتين على الله، يسير سهل، غير عسير. ثم بين سبحانه لم فعل ذلك، فقال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أي فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا (ولا تفرحوا بما آتكم) أي بما أعطاكم الله منها، والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذأ أن الإنسأن إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى عليه العوض (1) في الاخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك، (1) في المخطوطة بدل عليه العوض في الاخرة: العوض في غيره.
[ 400 ]
وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه، والحقوق الواجبة فيه، فلا ينبغي أن يفرح به. وأيضا فإذا علم أن شيئأ منها لا يبقى، فلا ينبغي أن يهتم له، بل يجب أن يهتم لأمر الأخرة التي تدوم ولا تبيد. وفي هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء الأول: حسن الخلق لأن من استوى عنده وجود الدنيا وعدمها، لا يحسد، ولا يعادي، ولا يشاح، فإن هذه من أسباب سوء الخلق، وهي من نتائج حب الدنيا وثانيها: استحقار الدنيا وأهلها، إذا لم يفرح بوجودها، ولم يحزن لعدمها وثالثها: تعظيم الآخرة لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب ورابعها: الإفتخار بالله دون أسباب الدنيا. ويروى أن علي بن الحسين عليه السلام جاءه رجل فقال له: ما الزهد ؟ فقال. الزهد عشرة أجزاء: فاعلي درجة الزهد أدنى درجة الورع. وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين. وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. وإن الزهد كله في آية من كتاب الله (لكيلا تأسواعلى ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات، ولا تفرح بما هو آت ؟ فقال: إن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والاتي لا يستدام بالخبرة. وعن عبد اللة بن مسعود قال: لئن (1) جمرة الحسرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحب إلي من أن أقول لشئ كان: ليته لم يكن، أو لشئ لم يكن: ليته كان. (والله لا يحب كل مختال فخور) أي متكبر بما أوتي، فخور على الناس بالدنيا. (الذين يبخلون) بمنع الواجبات (ويامرون الناس بالبخل) وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل عن سيد بني عوف فقالوا: جد بن قيس على أنه يزن (2) بالبخل. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وأي داء أدوى من البخل سيدكم البراء بن معرور. ومعنى يزن: يتهم ويقرف. (ومن يتول) أي يعرض عما دعاه الله إليه (فإن الله هو الغني) عنه وعن طاعته وصدقته (الحميد) في جميع أفعاله. ثم أقسم سبحانه فقال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالدلائل المعجزات (1) في نسخة لأن الحس جمرة.. وفي أخرى: لأن الحسن جمرات حرقت. وفي أخرى أيضا: لأن الحسن جمرة أحرقت. (2) زن فلانا بخير أو شرأي: ظنه به. (*)
[ 401 ]
(وانزلنا معهم الكتاب) المكتوب الذي يتضمن الأحكام، وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام، كالتوراة والإنجيل والقرآن. (والميزان) أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين، الذي يوزن به، عن ابن زيد، والجبائي، ومقاتل بن سليمان. وقيل: معناه أنزلنا صفة الميزان. (ليقوم الناس) في معاملاتهم (بالقسط) أي بالعدل، والمراد: وأمرنا بالعدل كقوله (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، عن قتادة، ومقاتل بن حيان. (وأنزلنا الحديد) روي عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد والنار والماء والملح). وقال أهل المعاني: معنى أنزلنا الحديد: أنشأناه وأحدثناه، كقوله (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وإلى هذا ذهب مقاتل فقال معناه: بأمرنا كان الحديد. وقال قطرب: معنى أنزلنا هنا هيأنا وخلقنا، من النزل، وهو ما يهيأ للضيف أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم. وقيل: أنزل مع آدم من الحديد العلاة، وهي السندان، والكلبتان، والمطرقة، عن ابن عباس. (فيه بأس شديد) أي يمتنع به، ويحارب به، عن الزجاج. والمعنى أنه يتخذ منه آلتان: آلة للدفع، وآلة للضرب، كما قال مجاهد فيه جنة وسلاح. (ومنافع للناس) يعني ما ينتفعون به في معاشهم، مثل: السكين، والفأس، والإبرة، وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات. وقوله: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) معطوف على قوله (ليقوم الناس بالقسط) أي ليعاملوا بالعدل، وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة، وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا. وقوله: (بالغيب) أي بالعلم الواقع بالإستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر (إن إلله قوي) على الإنتقام من أعدائه (عزيز) أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه. النظم: وجه اتصال قوله (وما أصاب من مصيبة) الآية بما قبلها أنه سبحانه لما بين الثواب على الطاعات، عقبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب والملمات، فقال: لا يذهب علينا عوض من أصابته مصيبة ما، فإن كانت من فعلنا نعوضه بالأضعاف من جزائنا، وإن كان من فعل عبادنا فباستيفائنا ذلك منهم. ثم أكد ذلك بقوله (لكيلا تأسوا) الاية. لأن المصيبة لو كانت بغير عوض في العاقبة، لازداد الأسى والحزن، فإن الحزن كل الحزن في الخسران الذي ليس له جبران. ثم عقب
[ 402 ]
ذلك بقوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) الاية، فبين أنه سبحانه لطف لعباده بما يدعو إلى الخشوع والخضوع، وترك الخيلاء. (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب فمنهم مهتد وكثير منهم فسقون (26) ثم قفينا علئ اثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتينه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضون الله فما رعوها حق رعايتها فاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فسقون (27) يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29)). اللغة: التقفية: جعل الشئ في أثر شئ على الإستمرار فيه. ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف، إذ كانت تتبع البيت على أثره، مستمرة في غيره، على منهاجه. والرهبانية: أصلها من الرهبة، وهي الخوف، إلا أنها عبادة مختصة بالنصارى، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رهبانية في الإسلام). والإبتداع ابتداء أمر لم يحتذ فيه على مثال، ومنه البدعة: إذ هي إحداث أمر على خلاف السنة. والكفل: الحظ، ومنه الكفل الذي يتكفل به الراكب، وهو كساء، أو نحوه، يحويها على الإبل إذا أراد أن يرقد فيه، فيحفظه من السقوط، ففيه حظ من التحرز من الوقوع. الاعراب: (وهبانية): منصوب بفعل مضمر فسره قوله: (ابتدعوها) التقدير: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وقوله: (ما كتبناها عليهم) في محل النصب، لأنه صفة لرهبانية. (ابتغاء رضوان الله): نصب لأنه بدل من ها في (كتبناها)، والتقدير كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله أي اتباع أوامره، ولم نكتب عليهم الرهبانية،
[ 403 ]
ولا في (لئلا يعلم) زائدة، وأن في (أن لا يقدرون) مخففة من الثقيلة، واسمه محذوف وتقديره: إنهم لا يقدرون. ولا هنا يدل على الإضمار في أن مع تخفيف أن. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الأنبياء بقصة إبراهيم عليه السلام ونوح عليه السلام فقال سبحانه: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم) وإنما خصهما بالذكر لفضلهما، ولأنهما أبوا الأنبياء (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) يعني أن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما، وعليهم أنزل الكتاب. ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال: (فمنهم مهتد) إلى طريق الحق. (وكثير منهم فاسقون) أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته. (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) أي: ثم أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء، برسل آخرين إلى قوم آخرين، وأنفذناهم رسولا بعد رسول. (وقفينا بعيسى بن مريم) بعدهم. فأرسلناه رسولا. (وأتيناه الإنجيل) أي وأعطينا عيسى بن مريم الإنجيل (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه) في دينه، يعني الحواريين، وأتباعهم، اتبعوا عيسى (رأفة) وهي أشد الرقة (1) (ورحمة) وإنما أضاف الرأفة والرحمة إلى نفسه، لأنه سبحانه جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة بالأمر به، والترغيب فيه، ووعد الثواب عليه. وقيل: لأنه خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة، وإنما مدحهم على ذلك، وإن كان من فعله، لأنهم تعرضوا لهما. (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) وهي الخصلة من العبادة، يظهر فيها معنى الرهبة، إما في كنيسة، أو انفراد عن الجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه، والمعنى: ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم. وقيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء، واتخاذ الصوامع، عن قتادة قال (2): وتقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم (إلا) أنهم اتبعوها (ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) وقيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري رالجبال في خبر مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها، وذلك لتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس. وقيل: إن الرهبانية هي الإنقطاع عن الناس للإنفراد بالعبادة. ما كتبناها أي: ما فرضناها عليهم. وقال الزجاج: إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله: اتباع ما أمر به. فهذا (1) في نسخة: أشد الرقة والرحمة. (2) ليس في أكثر النسخ لفظة قال.
[ 404 ]
وجه، قال: وفيها وجه آخر، جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه، فاتخذوا أسرابا وصوامع، وابتدعوا ذلك. فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع، ودخلوا عليه، لزمهم تمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما، لم يفرض عليه، لزمه أن يتمه. قال: وقوله (فما رعوها حق رعايتها) على ضربين أحدهما: أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم. والاخر: وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يؤمنوا به، كانوا تاركين لطاعة الله، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها. ودليل ذلك قوله: (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) يعني الذين امنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وكثير منهم فاسقون) أي كافرون. انتهى كلام الزجاج. ويعضد هذا ما جاءت به الرواية، عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمار، فقال: يا بن أم عبد ! هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام، يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر. ثم تلا هذه الآية: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) إلى آخرها. ثم قال: يا بن أم عبد ! أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة، والجهاد، والصلاة، والصوم، والحج، والعمرة. وعن ابن مسعود قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بن مسعود ! اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها اثنتان، وهلك سائرهن. فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى عليه السلام، فقتلوهم. وفرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك، ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم، يدعونهم إلى دين الله تعالى، ودين عيسى عليه السلام، فساحوا في البلاد، وترهبوا، وهم الذين قال الله لهم (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من آمن بي، وصدقني، واتبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي، فاولئك هم الهالكون). ثم قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا) أي اعترفوا بتوحيد الله، وصدقوا بموسى وعيسى عليهما السلام. (اتقوا الله وآمنوا برسوله) محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس.
[ 405 ]
وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا ظاهرا، آمنوا باطنا (يؤتكم كفلين) أي يؤتكم نصيبين (من رحمته) نصيبا لإيمانكم بمن تقدم من الأنبياء، ونصيبا لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس. (ويجعل لكم نورا تمشون به) أي هدى تهتدون به، عن مجاهد. وقيل. النور القرآن، وفيه الأدلة على كل حق، والبيان لكل خير، وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة، عن ابن عباس. (ويغفر لكم) أي ويستر عليكم ذنوبكم (والله غفور رحيم) قال سعيد بن جبير: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي، يدعوه. فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به. فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن امن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلا: إئذن لنا فناتي هذا النبي، فنسلم (1) به. فقدموا مع جعفر. فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: يا نبي الله ! إن لنا أموالا، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا. فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين. فأنزل الله فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) إلى قوله (ومما رزقناهم ينفقون) فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) فخروا على المسلمين، فقالوا: يا معشر المسلمين ! أما من آمن بكتابكم وكتابنا، فله أجران، ومن آمن منا بكتابنا، فله أجر كأجوركم، فما فضلكم علينا ؟ فنزل قوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) الآية، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة. ثم قال: (لئلا يعلم أهل الكتاب) وقال الكلبي: كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا، قدموا من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بمكة، لم يكونوا يهودا ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء، فاسلموا فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم، والوفد لقومكم ! فردوا عليه. (وما لنا لا نؤمن بالله) الاية. فجعل الله لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام، وأصحابه، أجرين اثنين، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون: نحن أفضل منكم، لنا أجران، ولكم أجر واحد. فنزل (لئلا يعلم أهل الكتاب) إلى آخر السورة. وروي عن رسول (1) وفي نسخة. فنلم به بدل فنسلم به. (*)
[ 406 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من كانت له أمة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فاحسن تأديبها، وأعتقها وتزوجها، فله أجران. وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه عليه السلام، وآمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فله أجران. وأيما مملوك أدى حق الله وحق مواليه، فله أجران. أورده البخاري ومسلم في الصحيح. (لئلا يعلم) أي لأن يعلم، ولا مزيدة، (أهل الكتاب) يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحسدوا المؤمنين منهم (ألا يقدرون على شئ من فضل الله) وأن هذه هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنهم لا يقدرون، ومعناه: جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم، ولا نصيب لهم في فضل الله (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) فأتي المؤمنين منهم أجرين (والله ذو الفضل العظيم) يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين. وقيل: إن المراد بفضل الله هنا النبوة، أي لا يقدرون على نبوة الأنبياء، ولا على صرفها عمن شاء الله أن يخصه بها، فيصرفونها عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى من يحبونه، بل هي بيد الله، يعطيها من يشاء ممن هو أهلها، ويعلم أنه يصلح لها. وقيل: إنما تدخل لا صلة في كل كلام دخل في أواخره، أو أوائله جحد، وإن لم يكن مصرحا به نحو قوله: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) و (ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون). و (حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) عن الفراء. وقيل: إن لا هنا في حكم الثبات، والمعنى لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا، لأن من لا يعلم أنه لا يقدر، يعلم أنه يقدر. فعلى هذا يكون المراد لكي يعلموا أنهم يقدرون على أن يؤمنوا، فيحوزوا الفضل والثواب. وقيل: إن معناه لئلا يعلم اليهود والنصارى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لا يقدرون على ذلك، فقد علموا أنهم لا يقدرون عليه أي: إن آمنتم كما أمركم الله آتاكم الله من فضله. فعلم أهل الكتاب خلافه. وعلى هذا فالضمير في (يقدرون) ليس لأهل. وقال أبو سعيد السيرافي: معناه إن الله يفعل بكم هذه الأشياء، لئلا يعلم أي: ليتبين جهل أهل الكتاب، وأنهم لا يعلمون أن ما يؤتيكم الله من فضله، لا يقدرون على تغييره، وإزالله عنكم. ففي هذه الوجوه لا يحتاج إلى زيادة لا. (1) في نسختين: يعلمها بدل فعلمها. (3) [ ذلك ولم يعلموا ]. (2) وفي نسختين: بقدرون. (4) [ الكتاب ]. (*)
[ 407 ]
58 - سورة المجادلة مدنية واياتها اثنتان وعشرون عدد آيها: إحدى وعشرون آية مكي والمدني الأخير، وآيتان في الباقين. اختلافها: آية في الأذلين غير المكي، والمدني الأخير. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ومن قرأ سورة المجادلة، كتب من حزب الله يوم القيامة). تفسيرها: لما ختم الله سورة الحديد بذكر فضله على من يشاء من عباده، افتتح هذه السورة بذكر بيان فضله في إجابة الدعوة، كما أجاب دعاء تلك المرأة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (قد سمع الله قول التى تجدلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) الذين يظهرون منكم من نسائهم ما هن أمهتهم إلا الئى ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكفرين عذاب أليم (4) إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد
[ 408 ]
أنزلنا ءايت بينت وللكفرين عذاب مهين (5)). القراءة: قرأ عاصم: (يظاهرون) بضم الياء، وتخفيف الظاء. وقرأ أهل البصرة، وابن كثير: (يظهرون) بتشديد الظاء والهاء، وفتح الياء. وقرأ الباقون: (يظاهرون) بفتح الياء، وتشديد الظاء. وروي عن بعضهم: (ما هن أمهاتهم) برفع التاء. الحجة: قال أبو علي: ظاهر من امرأته وظهر: مثل ضاعف وضعف. وتدخل التاء على كل واحد منهما، فيصير تظاهر وتظهر، ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر. ثم تدغم الطاء في الظاء لمقاربتها لها، فتصير يظاهر ويظهر، بفتح الياء التي هي حرف المضارعة، لأنها للمطاوعة، كما تفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع دحرجته. فتدحرج. ووجه الرفع في قوله (ما هن امهاتهم) أنه لغة بني تميم. قال سيبوية: وهو أقيس الوجهين، وذلك أن النفي كالإستفهام، فكما لا يغير الإستفهام الكلام، عما كان عليه في الواجب، ينبغي أن لا يغيره النفي عما كان عليه في الواجب. ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز، والأخذ بلغتهم في القرآن أولى، وعليها جاء: (ما هذا بشرا). اللغة: الإشتكاء: إظهار ما بالإنسان من مكروه. والشكاية: إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. والتحاور: التراجع، وهي المحاورة، يقال: حاوره محاورة أي: راجعه الكلام، وتحاورا قال عنترة: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى، ولكان، لو علم الكلام، مكلمي والمحادة. المخالفة. وأصله من الحد وهو المنع، ومنه الحد: الحاجز بين الشيئين، قال النابغة: إلا سليمان إذ قال المليك له: قم في البرية فاحددها عن الفند الكبت: مصدر كبت الله العدو أي أذله وأخزاه. النزول: نزلت الآيات في امرأة من الأنصار، ثم من الخزرج، واسمها خولة بنت خويلد، عن ابن عباس. وقيل: خولة بنت ثعلبة، عن قتادة ومقاتل. وزوجها أوس بن الصامت وذلك أنها كانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة في صلاتها،
[ 409 ]
فلما انصرفت أرادها فابت عليه، فغضب عليها، وكان امرأ فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنت علي كظهر أمي ! ثم ندم على ما قال. وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلا وقد حرمت علي. فقالت: لا تقل ذلك، وائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاسأله. فقال: إني أجد أني أستحيي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. فقال: سليه. فاتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة تغسل شق رأسه، فقالت: يا رسول الله ! إن زوجي أوس بن الصامت، تزوجني وأنا شابة، غانية، ذات مال وأهل، حتى إذا كل مالي، وأفنى شبابي، وتفرق أهلي، وكبرت سني، ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شئ يجمعني وإياه، فتنعشني به ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أراك إلا حرمت عليه. فقالت: يا رسول الله ! والذي أنزل عليك الكتاب، ما ذكر طلاقا، وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إلي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أؤمر في شأنك بشئ. فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي، وحاجتي، وشدة حالي. اللهم فأنزل على لسان نبيك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شق رأسه الأخر، فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبي الله. فقالت عائشة: أقصري حديثك ومجادلتك. أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي، أخذه مثل السبات. فلما قضى الوحى قال: ادعى زوحك. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) إلى تمام الآيات. قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها، ويخفى علي بعضه، إذ أنزل الله (قد سمع). فلما تلا عليه هذه الآيات قال له: هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال: إذا يذهب مالي كله، والرقبة غالية، وإني قليل المال. فقال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ فقال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تغشى عيني قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال: لا والله إلا أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال: إني معينك بخمسة عشر صاعا، وأنا داع لك بالبركة، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة عشر صاعا، فدعا له البركة، فاجتمع لهما أمرهما.
[ 410 ]
المعنى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) أي تراجعك في أمر زوجها عن أبي العالية (وتشتكي إلى الله) وتظهر شكواها، وما بها من المكروه. فتقول: اللهم إنك تعلم حالي، فارحمني، فإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. (والله يسمع تحاوركما) أي تخاطبكما، ومراجعتكما الكلام (إن الله سميع بصير) أي يسمع المسموعات، ويرى المرئيات، والسميع البصير من هو على حالة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات، ويبصر المبصرات إذا وجدتا، وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به. ثم قال سبحانه يذم الظهار: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) أي يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا (ما هن امهاتهم) أي ما اللواتي تجعلونهن من الزوجات كالأمهات بأمهات. أي لسن بأمهاتهم (إن امهاتهم إلا اللآئي ولدنهم) أي ما امهاتهم إلا الوالدات (وإنهم) يعني المظاهرين (ليقولون منكرا من القول) لا يعرف في الشرع (وزورا) أي كذبا لأن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه، وليست كذلك، كان كاذبا (وإن الله لعفو غفور) عفا عنهم، وغفر لهم، وأمرهم بالكفارة. ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال: (والذين يظاهرون من نسائهم) يعني الذين يقولون القول الذي حكيناه. (ثم يعودون لما قالوا) اختلف المفسرون والفقهاء في معنى العود هنا، فقيل: إنه العزم على وطئها، عن قتادة، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة. وقيل: العود هو أن يمسكها بالعقد، ولا يتبع الظهار بطلاق، وذلك أنه إذا ظاهر منها، فقد قصد التحريم. فإن وصل ذلك بالطلاق، فقد جرى على ما ابتدأه، ولا كفارة، وإذا سكت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه، فذلك الندم منه على ما ابتدأه، وهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة، وهو مذهب الشافعي. واستدل على ذلك بما روي عن ابن عباس أنه فسر العود في الآية بالندم. فقال: يندمون ويرجعون إلى الإلفة. وقال الفراء: يعودون لما قالوا، وإلى ما قالوا، وفيما قالوا: معناه: يرجعون عما قالوا، يقال: عاد لما فعل أي: نقض ما فعل. ويجوز أن يقال: عاد لما فعل يريد فعله مرة أخرى. وقيل: إن العود هو أن يكرر لفظ الظهار، عن أبي العالية، وهو مذهب أهل الظاهر، واحتجوا بأن ظاهر لفظ العود يدل على تكرير القول. قال أبو علي الفارسي: ليس في هذا ظاهر، كما ادعوا، لأن العود قد يكون
[ 411 ]
إلى شئ عليه قبل، وقد سميت الاخرة معادا، ولم يكن فيها أحد. ثم صار إليها. وقال الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة، لما قالوا. ثم يعودون إلى نسائهم أي: فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به، من ذكر التحريم. والتقديم والتاخير كثير في التنزيل. وأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو أن المراد بالعود إرادة الوطء، ونقض القول الذي قاله، فإن الوطء لا يجوز له إلا بعد الكفارة، ولا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة (فتحرير رقبة) أي فعليهم تحرير رقبة (من قبل أن يتماسا) أي من قبل أن يجامعها فيتماسا. والتحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق، بأن يقول المالك لمن يملكه: أنت حر. (ذلكم توعظون به) أي ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي: إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، قاله الزجاج. (والله بما تعملون خبير) أي عليم باعمالكم، فلا تدعوا ما وعظكم به من الكفارة قبل الوطء، فيعاقبكم عليه. (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) أي: فمن لم يجد الرقبة، فعليه صيام شهرين متتابعين قبل الجماع، والتتابع عند أكثر الفقهاء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين، أو يصوم ستين يوما. وقال أصحابنا: إنه إذا صام شهرا، ومن الثاني شيئا، ولو يوما واحدا، ثم أفطر لغير عذر، فقد أخطأ، إلا أنه يبني عليه، ولا يلزمه الإستئناف. وإن أفطر قبل ذلك، استانف. ومتى بدأ بالصوم وصام بعض ذلك، ثم وجد الرقبة، لا يلزمه الرجوع إليها، وإن رجع كان أفضل. وقال قوم: إنه يلزمه الرجوع إلى العتق. وقوله (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) أي فمن لم يطق الصوم لعلة أر كبر، فإطعام ستين مسكينا، فعليه إطعام ستين فقيرا، لكل مسكين نصف صاع، عند أصحابنا. فإن لم يقدر فمد. (ذلك) أي افترض ذلك الذي وصفناه (لتؤمنوا بالله ورسوله) أي لتصدقوا بما أتى به الرسول، وتصدقوا بأن الله أمر به. (وتلك حدود الله) يعني ما وصفه من الكفارات في الظهار أي هي شرائع الله وأحكامه (وللكافرين عذاب أليم) أي وللجاحدين المتعدين حدود الله، عذاب مؤلم في الاخرة. (إن الذين يحادون الله ورسوله) أي يخالفون أمر الله، ويعادون رسوله
[ 412 ]
(كبتوا) أي أذلوا وأخزوا (كما كبت الذين من قبلهم) أي كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك (وقد أنزلنا آيات بينات) أي حججا واضحات من القرآن، وما فيه من الأدلة والبيان (وللكافرين) الجاحدين لما أنزلناه (عذاب مهين) يهينهم ويخزيهم. فأما الكلام في مسائل الظهار وفروعها فموضعه كتب الفقه. (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد (6) ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيمة إن الله بكل شئ عليم (7) ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتنجون بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) يأيها الذين ءامنوا إذا تنجيتم فلا تتنجوا بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وتنجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذى إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطن ليحزن الذين ءامنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10)). القراءة: قرأ أبو جعفر وحده: (ما تكون) بالتاء. والباقون بالياء. وقرأ يعقوب وسهل: (ولا أكثر) بالرفع. والباقون بالنصب. وقرأ حمزة ورويس عن يعقوب: (ينتجون) والباقون. (يتناجون) وقرأ رويس أيضا (فلا تنتجوا). الحجة: قال ابن جني: التذكير في قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة) هو الوجه لما هناك من الشياع، وعموم الجنسية، كقولك: ما جاءني من امرأة، وما حضرني من جارية. وأما تكون بالتاء فلاعتزام لفظ التأنيث، حتى كأنه قال: ما تكون نجوى ثلاثة. وقوله (ولا أكثر) بالرفع: معطوف على محل الكلام قبل دخول من. فإن قوله (من نجوى) في محل رفع بأنه فاعل يكون. ومن زائدة. والقراءة الظاهرة أكثر
[ 413 ]
بالفتح في موضع الجر. وقوله: (ينتجون) يفتعلون من (النجوى) والنجوى: مصدر كالدعوى والعدوى، ومثل ذلك في أنه على فعلى التقوى، إلا أن الواو فيها مبدلة، وليست بلام. ولما كان مصدرا، وقع الجمع على لفظ الواحد في قوله تعالى: (إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) أي هم ذوو نجوى. وقوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة) قال أبو علي. ثلاثة يحتمل جره أمرين أحدهما: أن يكون مجرورا بإضافة نجوى إليه، كأنه ما يكون من أسرار ثلاثة، إلا هو رابعهم أي لا يخفى عليه ذلك، كما قال: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) ويجوز أن يكون ثلاثة جرا على الصفة، على قياس قوله تعالى: (وإذ هم نجوى) فيكون المعنى: ما يكون من متناجين ثلاثة. وأما النجي، فصفة تقع على الكثرة كالصديق والرفيق والحميم، ومثله الغري. وفي التنزيل: (خلصوا نجيا) وأما قول حمزة (ينتجون) وقول سائرهم (متناجون) فإن يفتعلون ويتفاعلون، قد يجريان مجرى واحد. ومن ثم قالوا: ازدوجوا، واعتوروا، فصححوا الواو، وإن كانت على صورة، يجب فيها الإعتلال، لما كان بمعنى تعاوروا وتزاوجوا، كما صح عور وحول، لما كان بمعنى افعال. ويشهد لقراءة حمزة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي، صلوات الرحمن عليه، لما قال له بعض أصحابه: أتناجيه دوننا ؟ قال: (ما أنا انتجيته، بل الله إنتجاه). اللغة: النجوى هي أسرار ما يرفع كل واحد إلى اخر، وأصله من النجوة. الإرتفاع من الأرض. والنجاء: الإرتفاع في السير. والنجاة: الإرتفاع من البلاء. الاعراب: (هو رابعهم): مبتدا وخبر في محل جر بأنه صفة (ثلاثة)، وتقول فلان رابع أربعة إذا كان واحد أربعة، ورابع ثلاثة إذا جعل ثلاثة أربعة، بكونه معهم. ويجوز على هذا أن يقال رابع ثلاثة، ولا يجوز رابع أربعة، لأنه ليس فيه معنى الفعل. (حسبهم جهنم): مبتدأ وخبر و (يصلونها): في موضع نصب على الحال. النزول: قال ابن عباس نزل قوله: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) الاية، في اليهود والمنافقين، إنهم كانوا يتناجون فيما بينهم، دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون باعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل، أو مصيبة، أو هزيمة. فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول
[ 414 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فنزلت الاية. المعنى: ثم بين سبحانه وقت ذلك العذاب فقال: (يوم يبعثهم الله جميعا) أي يحشرهم إلى أرض المحشر، ويعيدهم أحياء (فينبئهم بما عملوا) أي يخبرهم، ويعلمهم بما عملوه من المعاصي في دار الدنيا (أحصاه الله) عليهم، وأثبته في كتاب أعمالهم (ونسوه والله على كل شئ شهيد) معناه: إنه يعلم الأشياء كلها من جميع وجوهها، لا يخفى عليه شئ منها. ومنه قوله: (شهد الله أنه لا إلا إلا هو) أي علم الله. ثم بين سبحانه أنه يعلم ما يكون في العالم فقال: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض) يعني جميع المعلومات، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد جميع المكلفين، وهو استفهام معناه التقرير أي: ألم تعلم. وقيل: ألم تر إلى الدلالات المرئية من صنعته الدالة على أنه عالم بجميع المعلومات. (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) بالعلم. يعني أن نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم. وقيل: السرار ما كان بين اثنين. والنجوى: ما كان بين ثلاثة. وقال بعضهم: النجوى كل حديث كان سرا، أو علانية، وهو اسم للشئ الذي يتناجى به. (ولا خمسة إلا هو سادسهم) أي ولا يتناجى خمسة إلا وهو عالم بسرهم، كسادس معهم. (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) المعنى: إنه عالم باحوالهم، وجميع متصرفاتهم، فرادى وعند الإجتماع، لا يخفى عليه شئ منها. فكأنما هو معهم، ومشاهد لهم. وعلى هذا يقال: إن الله مع الإنسان حيثما كان، لأنه إذا كان عالما به، لا يخفى عليه شئ من أمره، حسن هذا الإطلاق لما فيه من البيان. فاما أن يكون معهم على طريق المجاورة، فذلك محال، لأنه من صفات الأجسام. وقد دلت الأدلة على أنه ليس بصفات الأجسام. (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة) أي يخبرهم باعمالهم (إن الله بكل شئ عليم) لا يخفى عليه خافية (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) أي: ألم تعلم حال الذين نهوا عن المناجاة، وأسرار الكلام بينهم دون المسلمين، بما يغم المسلمين ويحزنهم، وهم اليهود والمنافقون (ثم يعودون لما نهوا عنه) يعني إلى ما نهوا عنه أي: يرجعون إلى المناجاة بعد النهي (ويتناجون بالإثم والعدوان) في
[ 415 ]
مخالفة الرسول، وهو قوله: (ومعصية الرسول) وذلك أنه نهاهم عن النجوى، فعصوه. ويجوز أن يكون الإثم والعدوان، ذلك السر الذي يجري بينهم، لأنه شئ يسؤ المسلمين، ويوصي بعضهم بعضا بترك أمر الرسول، والمعصية له. (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) وذلك أن اليهود كانوا ياتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: السام عليك. والسام: الموت. وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد على من قال ذلك، فيقول: وعليك. وقال الحسن: كان اليهودي يقول السام عليك أي: إنكم ستسامون دينكم هذا، وتملونه فتدعونه. ومن قال السام: الموت، فهو سام الحياة بذهابها (ويقولون في أنفسهم) أي: يقول بعضهم لبعض. وقيل: معناه أنهم لو تكلموا لقالوا هذا الكلام، وإن لم يكن منهم قول. (لولا يعذبنا الله بما نقول) أي: يقولون لو كان هذا نبيا، كما يزعم، فهلا يعذبنا الله، ولا يستجيب له فينا قوله: وعليكم يعني السام، وهو الموت. فقال سبحانه: (حسبهم) أي كافيهم (جهنم يصلونها) يوم القيامة، ويحترقون فيها (فبئس المصير) أي فبئس المرجع والمال جهنم، لما فيها من أنواع العذاب والنكال. ثم نهى المؤمنين عن مثل ذلك، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول) أي لا تفعلوا كفعل المنافقين واليهود (وتناجوا بالبر والتقوى) أي بافعال الخير والطاعة، والخوف من عذاب الله، واتقاء معاصي الله. (واتقوا الله الذي إليه) أي إلى جزائه (تحشرون) يوم القيامة. (إنما النجوى من الشيطان) يعني نجوى المنافقين والكفار، بما يسؤ المؤمنين ويغمهم، من وساوس الشيطان، وبدعائه وإغوائه يفعل ذلك النجوى. (ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا) أي نجواهم لا يضرهم شيئا. وقيل: إن الشيطان لا يضرهم شيئا (إلا بإذن الله) يعني بعلم الله. وقيل: بأمر الله، لأن سببه بامره، وهو الجهاد، وخروجهم إليه. وقيل: بأمر الله، لأنه يلحقهم الآلام والأمراض عقيب ذلك (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) في جميع أمورهم، دون غيره. وقيل: إن الآية المراد بها أحلام المنام التي يراها الإنسان في نومه، فيحزنه. وورد في الخبر عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما، فإن
[ 416 ]
ذلك يحزنه). وعن ابن عمر عنه قال: (لا يتناج اثنان دون الثالث). (يأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجت والله بما تعملون خبير (11) يأيها الذين ءامنوا إذا نجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجوئكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فان الله غفور رحيم (12) ءأشفقتم أن تقدموا بين يدى نجوئكم صدقت فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعلمون (13) ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (14) أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون (15)). القراءة: قرأ عاصم وحده: (في المجالس) على الجمع. والباقون: (في المجلس) على التوحيد. وقرأ أهل المدينة وابن عامر، وعاصم، غير يحيى مختلف عنه: (قيل انشزوا فانشزوا) بالضم. والباقون بالكسر. الحجة: قال أبو علي: في المجلس زعموا أنه مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك فالوجه الإفراد. ويجوز أن يجمع على هذا على أن يجعل لكل جالس مجلس أي موضع جلوس. ويكون المجلس على إرادة العموم، مثل قولهم كثر الدينار والدرهم، فيشتمل على هذا جميع المجالس. ومثله قوله: (إن الإنسان لفي خسر). وقوله (انشزوا) أي قوموا. والنشز: المرتفع من الأرض. قال: ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل (1) ومنه نشوز المرأة على زوجها. وينشز وينشز مثل: يعكف ويعكف، ويعرش ويعرش. (1) الثعلب الحولي أي: في السنة الأولى من العمر. والحصان: من فحل الخيل. والمجلل: الملبس جلا. (*)
[ 417 ]
اللغة: التفسح: الإتساع في المكان. والتفسح والتوسع واحد. وفسح له في المجلس يفسح فسحا. ومكان فسيح. وفي صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فسيح ما بين المنكبين) أي: بعيد ما بينهما لسعة صلبه. والإشفاق: الخوف ورقة القلب. والنشوز: الإرتفاع عن الشئ بالذهاب عنه. النزول: قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا رأوا من جاءهم مقبلا، ضنوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. وقال المقاتلان: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصفة، وفي المكان ضيق، وذلك يوم الجمعة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكرم أهل لدر من المهاجرين والأنصار. فجاء أناس من أهل بدر، وفيهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس. فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا (1) عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف الكراهية في وجوههم. وقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس، فوالله ما عدل على هؤلاء أن قوما أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب من نبيهم، فأقامهم وجلس من أبطا عنهم مقامهم ! فنزلت الاية. وأما قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا) الآية. فإنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكثرون مناجاته. فأمر الله سبحانه بالصدقة عند المناجاة. فلما رأوا ذلك، انتهوا عن مناجاته. فنزلت آية الرخصة، عن مقاتل بن حيان. وقال أمير المؤمنين، صلوات الرحمن عليه: إن في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) الاية. كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمت درهما. فنسختها الآية الأخرى (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) الآية. فقال، صلوات الله عليه: بي خفف الله عن هذه الأمة، ولم ينزل في أحد قبلي، ولم ينزل في أحد بعدي. وقال ابن عمر: وكان لعلي بن أبي طالب عليه السلام ثلاث لو كانت لي (1) في نسختين: وما ردوا. (*)
[ 418 ]
واحدة منهن، لكانت أحب إلى من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. وقال مجاهد وقتادة: لما نهوا عن مناجاته، صلوات الرحمن عليه، حتى يتصدقوا، لم يناجه إلا علي بن أبي طالب، عليه أفضل الصلوات، قدم دينارا فتصدق به. ثم نزلت الرخصة. المعنى: لما قدم سبحانه النهي عن النجوى، لما فيه من إيذاء المؤمنين، عقبه بالأمر بالتفسح، لما في تركه من إيذائهم أيضا فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس) أي اتسعوا فيه، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن قتادة ومجاهد. وقيل: المراد به مجالس الذكر كلها (فافسحوا يفسح الله لكم) أي فتوسعوا يوسع الله لكم مجالسكم في الجنة. (وإذا قيل انشزوا) أي ارتفعوا، وقوموا، ووسعوا على إخوانكم (فانشزوا) أي فافعلوا ذلك. وقيل: معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير، فانشزوا ولا تقصروا، عن مجاهد. وقيل: معناه وإذا قيل لكم ارتفعوا في المجلس، وتوسعوا للداخل، فافعلوا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقرب، ولا يرفع، إلا بإذن الله وأمره. وقيل: معناه وإذا نودي للصلاة، فانهضوا فإن رجالا كانوا يتثاقلون عن الصلاة، عن عكرمة والضحاك. وقيل: وردت في قوم كانوا يطيلون المكث عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون كل واحد منهم يحب أن يكون آخر خارج، فامرهم الله أن ينشزوا أي: يقوموا إذا قيل لهم انشزوا. (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) قال ابن عباس: يرفع الله الذين اوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات. وقيل: معناه لكي يرفع الله الذين آمنوا منكم بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درجة، والذين اوتوا العلم بفضل علمهم وسابقتهم درجات في الجنة. وقيل: درجات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فامر الله سبحانه أن يقرب العلماء من نفسه، فوق المؤمنين الذين لا يعلمون العلم، ليبين فضل العلماء على غيرهم. وفي هذه الآية دلالة على فضل العلماء، وجلالة قدرهم. وقد ورد أيضا في الحديث أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبي على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه، وفضل العالم على سائر الناس، كفضلي على أدناهم) رواه جابر بن عبد الله. وقال علي عليه السلام: من
[ 419 ]
جاءته منيته وهو يطلب العلم، فبينه وبين الأنبياء درجة. (والله بما تعملون خبير) أي عليم. ثم خاطب سبحانه المؤمنين مرة أخرى وقال: (يا أيها الذين أمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) أي: (إذا ساررتم الرسول، فقدموا قبل أن تساروه صدقة. وأراد بذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون ذلك سببا لأن يتصدقوا فيؤجروا عنه، وتخفيفا عنه صلى الله عليه وآله وسلم. قال المفسرون: فلما نهوا عن المناجاة، حتى يتصدقوا، ضن كثير من الناس، فكفوا عن المسالة، فلم يناجه أحد إلا علي بن أبي طالب، على ما مضى ذكره. قال مجاهد: وما كان إلا ساعة. وقال مقاتل بن حيان: كان ذلك ليالي عشرا. ثم نسخت بما بعدها. وكانت الصدقة مفوضة إليهم غير مقدرة (ذلك) أي: ذلك التصدق بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خير لكم) لأن فيه أداء واجب، وتحصيل ثواب. (وأطهر) أي: وأدعى لكم إلى مجانبة المعاصي وتركها، وأزكى لكم، تتطهرون بذلك بمناجاته، كما تقدم الطهارة على الصلاة. (فإن لم تجدوا) ما تتصدقون به (فإن الله غفور) يستر عليكم ترك ذلك (رحيم) يرحمكم، وينعم عليكم. ثم قال سبحانه ناسخا لهذا الحكم: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) يعني أخفتم الفاقة يا أهل الميسرة، وبخلتم بالصدقة بين يدي نجواكم. وهذا توبيخ لهم على ترك الصدقة، إشفاقا من العيلة. (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) لتقصيركم فيه (فاقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله) فيما أمركم به، ونهاكم عنه (ورسوله) أي وأطيعوا رسوله أيضا (والله خبير بما تعملون) أي عالم بأعمالكم من طاعة ومعصية، وحسن وقبيح، فيجازيكم بها. ثم قال سبحانه. (ألم تر) يا محمد (إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) والمراد به قوم من المنافقين، كانوا يوالون اليهود، ويفشون إليهم أسرار المؤمنين، ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، عن قتادة وابن زيد (ما هم منكم ولا منهم) يعني: إنهم ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود (ويحلفون على الكذب) أي ويحلفون أنهم لم ينافقوا (وهم يعلمون) أنهم منافقون (أعد الله لهم عذابا شديدا) أي في الآخرة (إنهم ساء ما كانوا يعملون) أي بئس العمل عملهم، وهر النفاق وموالاة أعداء الله.
[ 420 ]
(اتخذوا أيمنهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين (16) لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولدهم من الله شيئا أولئك أصحب النارهم فيها خلدون (17) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكذبون (18) استحوذ عليهم الشيطن فأنسهم ذكر الله أولئك حزب الشيطن ألا إن حزب الشيطن هم الخسرون (19) إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين (20) كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز (21) لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمن وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنت تجرى من تحتها الانهار خلدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (22)). القراءة: قرأ محمد بن حبيب الشموني، عن الأعشى، عن أبي بكر: (أو عشيراتهم) على الجمع. والباقون: (أو عشيرتهم) على التوحيد. وفي الشواذ قراءة الحسن: (اتخذوا إيمانهم) بكسر الهمزة. ورواية بعضهم، عن عاصم (كتب) بضم الكاف (في قلوبهم الإيمان) بالرفع. الحجة. من قرأ (إيمانهم): حذف المضاف أي اتخذوا إظهار إيمانهم جنة. ومن قرأ (كتب في قلوبهم الإيمان) فهو على حذف المضاف أيضا أي كتب في قلوبهم علامة الإيمان. ومن أسند الفعل إلى الفاعل، فلتقدم ذكر الإسم على ذلك، ويدل عليه قوله (وأيدهم بروح منه). اللغة: الجنة: السترة التي تقي البلية، وأصله الستر، ومنه المجن: الترس. والإستحواذ: الإستيلاء على الشئ بالإقتطاع له، وأصله من حاذه يحوذه حوذا مثل: حازه يحوزه حوزا.
[ 421 ]
المعنى: ثم ذكر سبحانه تمام الخبر، عن المنافقين فقال: (اتخذوا أيمانهم) التي يحلفون بها (جنة) أي سترة وترسا، يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة، إذا ظهرت منهم الريبة. (فصدوا) نفوسهم وغيرهم (عن سبيل الله) الذي هو الحق والهدى (فلهم عذاب مهين) يهينهم ويذلهم ويخزيهم (لن تغني عنهم أموالهم) التي جمعوها (ولا أولادهم) الذين خلفوهم (من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ظاهر المعنى. (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له) أي يقسمون لله (كما يحلفون لكم) في دار الدنيا بأنهم كانوا مؤمنين في الدنيا في اعتقادهم وظنهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن ما هم عليه هو الحق (ويحسبون أنهم على شئ) أي ويحسب المنافقون في الدنيا أنهم مهتدون لأن في الاخرة تزول الشكوك. وقال الحسن: في القيامة مواطن: فموطن يعرفون فيه قبح الكذب ضرورة فيتركونه، وموطن يكونون فيه كالمدهوش، فيتكلمون بكلام الصبيان الكذب وغير الكذب، ويحسبون أنهم على شئ في ذلك الموضع الذي يحلفون فيه بالكذب. (ألا إنهم هم الكاذبون) في أيمانهم وأقوالهم في الدنيا. وقيل: معناه أولئك هم الخائبون، كما يقال: كذب ظنه أي خاب أمله (استحوذ عليهم الشيطان) أي استولى عليهم، وغلب عليهم لشدة اتباعهم إياه (فأنساهم ذكر الله) حتى لا يخافون الله، ولا يذكرونه (أولئك حزب الشيطان) أي جنوده (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) يخسرون الجنة، ويحصل لهم بدلها النار (إن الذين يحادون الله ورسوله) أي يخالفونه في حدوده، ويشاقونه وهم المنافقون (اولئك في الأذلين) فلا أحد أذلى منهم في الدنيا، ولا في الآخرة. قال عطاء: يريد الذل في الدنيا، والخزي في الاخرة. (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) أي: كتب الله في اللوح المحفوظ. وما كتبه فلا بد من أن يكون. أجرى قوله (كتب الله) مجرى القسم، فأجابه بجواب القسم. قال الحسن: ما أمر الله نبيا قط بحرب إلا غلب، إما في الحال، أو فيما بعد. وقال قتادة كتب الله كتابا فأمضاه: (لأغلبن أنا ورسلي). ويجوز أن يكون المعنى: قضى الله ووعد (لأغلبن أنا ورسلي) بالحجج والبراهين، وإن جاز أن يغلب بعضهم في الحرب (إن الله قوي عزيز) أي غالب قاهر لمن نازع أولياءه. ويروى أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحن الله علينا الروم وفارس، فقال
[ 422 ]
المنافقون: أتظنون أن فارسا الروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ فأنزل الله هذه الآية. ثم قال سبحانه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) أي يوالون من خالف الله ورسوله، والمعنى: لا تجتمع موالاة الكفار مع الإيمان، والمراد به الموالاة في الدين (ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو (إخوانهم أو عشيرتهم) أي وإن قربت قرابتهم منهم، فإنهم لا يوالونهم إذا خالفوه في الدين. وقيل: إن الاية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، حين كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمجئ رسول الله إليهم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أخفى ذلك. فلما عوتب على ذلك قال: أهلي بمكة أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم. وقيل: (إنها نزلت في عبد الله بن أبي، وابنه عبيد الله بن عبد الله، وكان هذا الإبن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ابق فضلة من شرابك أسقها أبي، لعل الله يطهر قلبه، فاعطاه. فاتى بها أباه، فقال: ما هذا ؟ فقال: بقية شراب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جئتك بها لتشربها، لعل الله يطهر قلبك. فقال: هلا جئتني ببول أمك ؟ فرجع إلى لنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إئذن لي في قتله. فقال: بل ترفق به، عن السدي. ثم قال سبحانه: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) أي ثبت في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف، فصار كالمكتوب، عن الحسن. وقيل: كتب في قلوبهم علامة الإيمان، ومعنى ذلك أنها سمة لمن يشاهدهم من الملائكة، على أنهم مؤمنون، كما أن قوله في الكفار: (وطبع الله على قلوبهم) علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنه مطبوع على قلبه، عن أبي علي الفارسي. (وأيدهم بروح منه) أي فواهم بنور الإيمان. ويدل عليه قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) عن الزجاج. وقيل: معناه وقؤاهم بنور الحجج والبراهين، حتى اهتدوا للحق، وعملوا به. وقيل: قؤاهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل، عن الربيع. وقيل: أيدهم بجبرائيل في كثير من المواطن، ينصرهم ويدفع عنهم (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم) بإخلاص الطاعة والعبادة منهم (ورضوا عنه) بثواب الجنة. وقيل: رضوا عنه بقضائه عليهم في الدنيا، فلم يكرهوه (أولئك حزب الله) أي جند الله، وأنصار دينه، ودعاة خلقه (ألا إن حزب الله هم المفلحون): (ألا) كلمة تنبيه إن جنود الله وأولياءه، هم المفلحون، الناجون، الظافرون بالبغية.
[ 423 ]
59 - سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون مدنية وآياتها أربع وعشرون عدد آيها: وهي أربع وعشرون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن قرأ سورة الحشر، لم يبق جنة، ولا نار، ولا عرش، ولا كرسي، ولا حجاب، ولا السماوات السبع، ولا الأرضون) السبع، والهوام، والرياح، والطير، والشجر، والدواب، والشمس، والقمر، والملائكة، إلا صلوا عليه، واستغفروا له، وإن مات من يومه أو ليلته، مات شهيدا). وعن أبي سعيد المكاري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ إذا أمسى الرحمن والحشر وكل الله بداره ملكا شاهرا سيفه حتى يصبح. تفسيرها: لما ختم الله سورة المجادلة بذكر حزب الشيطان، وحزب الله، افتتح هذه السوره بقهره حزب الشيطان، وما نالهم بالجلاء من الخزي والهوان، ونصرة حزبه من أهل الإيمان، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم (1) هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديرهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتئهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخرجون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولى الأبصر (2) ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار (3) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب
[ 424 ]
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفسقين (5)). القراءة: قرأ أبو عمرو: (يخربون) بالتشديد. والباقون: (يخربون) ساكنة الخاء، وخفيفة الراء. وفي الشواذ قراءة طلحة بن مصرف: (يشاقق الله) بقافين على الإظهار كالتي في الأنفال. الحجة: يقال: خرب الموضع وأخربته وخربته. قال الأعشى: (وأخربت من أرض قوم ديارا). وحكي عن أبي عمرو، أن الإخراب: أن يترك الموضع خربا. والتخريب: الهدم. اللغة: الحشر: جمع الناس من كل ناحية. ومنه الحاشر: الذي يجمع الناش إلى ديوان الخراج. والجلاء: الإنتقال عن الديار والأوطان للبلاء، يقال: جلا القوم عن منازلهم جلاء. وأجليتهم إجلاء. واللينة: النخلة، وأصله من اللون قلبت الواو، ياء لكسرة ما قبلها، وجمعها ليان، قال امرؤ القيس: وسالفة كسحوق الليان أضرم فيها الغوي السعر (1) وقال ذو الرمة: طراق الخوافي واقع فوق لينة بذي ليلة في ريشه يترقرق (2) فكأن اللينة نوع من النخل أي ضرب منه. وقيل: هو من اللين للين ثمرها. الاعراب: (ما نعتهم حصونهم): ارتفع (حصونهم) بقوله (مانعتهم) لأن اسم الفاعل جرى خبرا لأن، فيرفع ما بعده. النزول: قيل: نزلت السورة في إجلاء بني النضير من اليهود، فمنهم من خرج (1) السالفة: ناحية مقدم العنق، والمراد هنا: العنق. والسحوق من النخل: الجرداء الطويلة. وأضرم النار: أوقدها وأشعلها. الغرض: تشبيه عنق فرسه بالنخلة الجرداء التي أشعل النار فيها بشدة. (2) ريش طراق: إذا كان بعضها فوق بعض. والخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. ويترقرق أي: يتحرك. (*)
[ 425 ]
إلى خيبر، ومنهم من خرج إلى الشام، عن مجاهد وقتادة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه. فقبل ذلك منهم. فلها غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدرا، وظهر على المشركين، قالوا: والله إنه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة، لا ترد له راية. فلما غزا غزاة أحد، وهزم المسلمون، ارتابوا ونقضوا العهد. فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة، فاتوا قريشا وحالفوهم، وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد. ثم دخل أبو سفيان في أربعين، وكعب في أربعين من اليهود، المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة. ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه، إلى المدينة، ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن الأشرف. فقتله محمد بن مسلم (1) الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة. قال محمد بن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير، يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وكان بين بني النضير وبني عامر، عقد وحلف. فلما أتاهم النبي يستعينهم في الدية قالوا: نعم يا أبا القاسم ! نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقال: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه، ورسول الله إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد. فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت، يلقي عليه صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه. فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا، فخرج راجعا إلى المدينة. ولما استبطاوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهوا إليه، فاخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الأشرف. فخرج ومعه سلكان بن سلامة، وثلاثة من بني الحرث. وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أثرهم، وجلس في موضع ينتظر وجوههم (2). فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره، وأجلس قومه عند جدار وناداه: يا كعب ! فانتبه وقال: من أنت ؟ قال: أنا (1) في نسخة: مسلمة. (2) في المخطوطة: رجوعهم. (*)
[ 426 ]
محمد بن مسلمة أخوك، جئتك أستقرض منك دراهم، فإن محمدا يسالنا الصدقة، وليس معنا الدراهم. فقال (1): لا أقرضك إلا بالرهن. قال: معي رهن إنزل فخذه. وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا، فقالت: لا أدعك تنزل، لأنى أرى حمرة الدم في ذلك الصوت، فلم يلتفت إليها. فخرج فعانقه محمد بن مسلمة، وهما يتحادثان، حتى تباعدا من القصر إلى الصحراء، ثم أخذ رأسه، ودعا بقومه، وصاح كعب، فسمعت امرأته، فصاحت، وسمع نجر النضير صوتها، فخرجوا نحوه، فوجدوه قتيلا، ورجع القوم سالمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما أسفر الصبح، أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بقتل كعب، ففرحوا. وأمر رسول الله بحربهم، والسير إليهم. فسار بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصن. فامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النخل، والتحريق فيها. فنادوا (2) يا محمد ! قد كنت تنهى عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل وتحرقها ؟ فانزل الله: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها) الاية، وهي البويرة في قول حسان: وهان على سراة بني لوى، حريق بالبويرة مستطير والبويرة: تصغير بؤرة، وهي إرة النار أي حفرتها. وقال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فاعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام. وجعل لكل ثلاثة منهم بعير، أو سقاء. فخرجوا إلى أذرعات بالشام وأريحا، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، وكان ابن عباس يسمي هذه السورة سورة بني النضير. وعن محمد بن مسلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال. وعن محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد، وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان. (1) فيها أيضا: قال كعب. (2) في نسختين: فنادوه. (*)
[ 427 ]
وكان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير، كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. المعنى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) مضى تفسيره (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) يعني يهود بني النضير (من ديارهم) بأن سلط الله المؤمنين عليهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإخراجهم من منازلهم، وحصونهم، وأوطانهم (لأول الحشر) اختلف في معناه فقيل: كان جلاؤهم ذلك أول حشر اليهود إلى الشام، ثم يحشر الناس يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا، وذلك الحشر الثاني، عن ابن عباس، والزهري، والجبائي. قال ابن عباس: قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اخرجوا. قالوا: إلى أين ؟ قال: إلى أرض المحشر وقيل: معناه لأول الجلاء، عن البلخي، لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب. ثم أجلي إخوانهم من اليهود، لئلا يجتمع في بلاد العرب دينان. وقيل: إنما قال لأول الحشر لأن الله فتح على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في أول ما قاتلهم، عن يمان بن رباب. (ما ظننتم أن يخرجوا) أي لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم لشدتهم، وشوكتهم (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) أي وظن بنو النضير أن حصونهم لوثاقتها، تمنعهم من سلطان الله، وإنزال العذاب بهم، على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث حصنوها، وهيأوا آلات الحرب فيها. (فأتاهم الله) أي فأتاهم أمر الله وعذابه (من حيث لم يحتسبوا) أي لم يتوهموا أن ياتيهم، لما قدروا في أنفسهم من المنعة. جعل الله سبحانه امتناعهم من رسوله، امتناعا منه. (وقذف في قلوبهم الرعب) وألقى سبحانه في قلوبهم الرعب بقتل سيدهم كعب بن الأشرف (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) أي يهدمون بيوتهم بايديهم من داخل، ليهربوا، لا أنهم خربوا ما استحسنوا منها، حتى لا يكون للمسلمين، ويخربها المؤمنون من خارج، ليصلوا إليهم، عن الحسن. وقيل: إن معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك، عن الزجاج. وقيل: إنهم كانوا يخربون بيوتهم بايديهم بنقض الموادعة، وبأيدي المؤمنين بالمقاتلة. (فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي فاتعظوا يا أولي العقول والبصائر، وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم. ومعنى الإعتبار. النظر في الأمور ليعرف بها شئ آخر من
[ 428 ]
جنسها. والمراد: استدلوا بذلك على صدق الرسول، إذ كان وعد المؤمنين أن الله سبحانه سيورثهم ديارهم، وأموالهم بغير قتال. فجاء المخبر على ما أخبر، فكان آية دالة على نبوته، ولا دليل في الاية على صحة القياس في الشريعة، لأن الإعتبار ليس من القياس في شئ لما ذكرناه، ولأنه لا سبيل لأهل القياس إلى العلم بالترجيح، ولا يعلم كل من الفريقين علة الأصل للآخر، فإن علة الربا عند أحدهما الكيل والوزن والجنس، وعند الآخر الطعم والجنس، وفي الدراهم، والدنانير، لأنهما جنس الأثمان. وقال آخرون أشياء أخر، وليس هذا باعتبار، إذ لا سبيل إلى المعرفة (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) أي حكم عليهم أنهم يجلون عن ديارهم (1)، وينقلون عن أوطانهم (لعذبهم في الدنيا) بعذاب الإستئصال (2)، أو القتل والسبي، كما فعل ببني قريظة، لأنه تعالى علم أن كلا الأمرين في المصلحة سواء، وقد سبق حكمه بالجلاء (ولهم في الآخرة) مع الجلاء عن الأوطان (عذاب النار) لأن أحدا منهم لم يؤمن. وقيل: إن ذلك مشمروط بالإصرار، وترك التوبة. (ذلك) الذي فعلنا بهم (بأنهم شاقوا الله) أي خالفوا الله (ورسوله). ثم توعد من حذا حذوهم، وسلك سبيلهم، في مشاقة الله ورسوله فقال: (ومن يشاق الله) أي يخالفه (فإن الله شديد العقاب) يعاقبهم على مشاقتهم، أشد العقاب. (ما قطعتم من لينة) أي نخلة كريمة من أنواع النخيل، عن مجاهد وابن زيد. وقيل: كل نخلة سوى العجوة، عن ابن عباس وقتادة. (أو تركتموها قائمة على أصولها) فلم تقطعوها، ولم تقلعوها (فبإذن الله) أي بامره كل ذلك سائغ لكم، علم الله سبحانه ذلك، وأذن فيه، ليذل به أعداءه (وليخزي الفاسقين) من اليهود، ويهينهم به، لأنهم إذا رأوا عدوهم يتحكم في أموالهم، كان ذلك خزيا لهم. (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير (6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتمى والمسكين وابن (1) جملة (وينقلون عن أوطانهم) زائدة. (2) في المخطوطة ليست لفظة (أو). (*)
[ 429 ]
السبيل لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما ءاتئكم الرسول فخذوه وما نهئكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديرهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصدقون (8) والذين تبوءو الدار والايمن من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)). القراءة: قرأ أبو جعفر: (كيلا تكون) بالتاء (دولة) بالرفع. والباقون: (يكون) بالياء (دولة) بالنصب. الحجة: قال ابن جني: منهم من لا يفصل بين الدولة والدولة، ومنهم من يفصل بينهما فقال: الدولة بالفتح للملك. والدوله بالضم في الملك. وتكون هنا هي التامة أي: كيلا يقع دولة أو تحدث دولة. و (بين الأغنياء): إن شئت كانت صفة لدولة، وإن شئت كانت متعلقة بنفس دولة أي: تداولا بين الأغنياء. وإن شئت علقتها بنفس تكون أي: لا يحدث بين الأغنياء منكم. وإن شئت جعلتها كان الناقصة، وجعلت (بين) خبرا عنها. والأول أوجه، ومعناه كيلا تقع دولة فيه، أو عليه، يعني على المفاء من عند الله. اللغة: الفئ: رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم ذلك، على ما شرط فيه. يقال: فاء يفئ فيئا إذا رجع. وأفأته أنا عليه أي: رددته عليه. والإيجاف: الإيضاع، وهو تسيير الخيل، أو الركاب، من وجف يجف وجيفا: وهو تحرك باضطراب. فالإيجاف: الإزعاج للسير، والركاب: الإبل. والخصاصة: الإملاق والحاجة، وأصله الإختصاص، وهو الإنفراد بالأمر. فكأنه انفراد الإنسان
[ 430 ]
عما يحتاج إليه. وقيل: أصله الفرجة، يقال للقمر: بدا من خصاص الغيم أي فرجته. ومنه الخص: البيت من القصب، لما فيه من الفرج. والشح والبخل واحد. وقيل: إن الشح بخل مع حرص. النزول: قال ابن عباس: نزل قوله (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية. في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبنو النضير، وهما بالمدينة. وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال. وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله لرسوله، يحكم فيها ما أراد. وأخبر أنها كلها له. فقال أناس: فهلا قسمها، فنزلت الآية. وقيل: إن الاية الأولى بيان أموال بني النضير خاصة لقوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم) الاية. والثانية بيان الأموال التي أصيبت بغير قتال. وقيل: (إنهما واحد، والآية الثانية بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية الأولى. وقال أنس بن مالك: أهدي لبعض الصحابة رأس مشوي، وكان مجهودا، فوجه به إلى جار له، فتداولته تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) الآية. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بني النضير للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شئ من الغنيمة) فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فنزلت (ويؤثرون على أنفسهم) الآية. وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد فجئ بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلانا حتى طيف على سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم. فأثنى الله سبحانه عليهم. وقيل: نزلت في رجل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أطعمني فإني جائع. فبعث إلى أهله، فلم يكن عندهم شئ فقال: من يضيفه هذه الليلة ؟ فاضافه رجل من الأنصار، وأتى به منزله، ولم يكن عنده إلا قوت صبية له، فاتوا بذلك إليه، وأطفاوا السراج، وقامت المرأة إلى الصبية، فعللتهم حتى ناموا، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسون الله صلى الله عليه وآله وسلم. فظن الضيف أنهما ياكلان معه، حتى شبع الضيف، وباتا طاويين. فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إليهما وتبسم، وتلا عليهما هذه الاية. وأما الذي رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة
[ 431 ]
أن الذي أضافه، ونوم الصبية، وأطفا السراج علي عليه السلام وفاطمة عليهما السلام. المعنى: ثم بين سبحانه حال أموال بني النضير فقال: (وما أفاء الله على رسوله منهم) أي من اليهود الذين أجلاهم، وإن كان الحكم ساريا في جميع الكفار الذين حكمهم حكمهم (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) والإيجاف: دون التقريب. وقيل: الإيجاف في الخيل، والإيضاع في الإبل. وقيل: هما مستعملان فيهما جميعا أي: فما أوجفتم عليه خيلا، ولا إبلا. والمعنى: لم تسيروا إليها على خيل، ولا إبل. وإنما كانت ناحية من (1) المدينة، مشيتم إليها مشيا. وقوله (عليه) أي: على ما أفاء الله. والركاب: الإبل التي تحمل القوم، واحدتها راحلة. (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) أي يمكنهم من عدوهم من غير قتال، بأن يقذف الرعب في قلوبهم. جعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة، يفعل بها ما يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. (والله على كل شئ قدير). ثم ذكر سبحانه حكم الفئ فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) أي من أموال كفار أهل القرى (فلله) يامركم فيه بما أحب (وللرسول) بتمليك الله إياه (ولذي القرى) يعني أهل بيت رسول الله، وقرابته، وهم بنو هاشم (واليتامى والمساكين وابن السبيل) منهم، لأن التقدير ولذي قرباه، ويتامى أهل بيته، ومساكينهم، وابن السبيل منهم. وروى المنهال بن عمرو، عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت قوله (ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) قال: هم قربانا، ومساكيننا، وأبناء سبيلنا. وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة، وكذلك المساكين، وأبناء السبيل. وقد روي أيضا ذلك عنهم عليهم السلام. وروى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كان أبي يقول لنا: سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسهم ذي القربى، ونحن شركاء الناس فيما بقي. والظاهر يقتضى أن ذلك لهم سواء كانوا أغنياء، أو فقراء، وهو مذهب الشافعي. وقيل: إن مال الفئ للفقراء من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وروي عن (1) في نسخة: من نواحي المدينة. (*)
[ 432 ]
الصادق عليه السلام أنه قال: نحن قوم فرض الله طاعتنا، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال، يعني ما كان يصطفى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فره الدواب، وحسان الجواري والدرة الثمينة، والشئ الذي لا نظير له. ثم بيق سبحانه أنه لم فعل ذلك فقال: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) والدولة إسم للشئ الذي يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، أي: لئلا يكون الفئ متداولا بين الرؤساء منكم، يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. وهذا خطاب للمؤمنين، دون الرسول، وأهل بيته عليه السلام. قال الكلبي: نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول الله ! خذ صفيك والربع، ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية. وأنشدوا: لك المرباع منها، والصفايا، وحكمك، والنشيطة، والفضول (1) فنزلت الآية. فقالت الصحابة: سمعا وطاعة لأمر الله، وأمر رسوله. ثم قال سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) أي ما أعطاكم الرسول من الفئ فخذوه وارضوا به، وما أمركم به فافعلوه، وما نهاكم عنه فانتهوا عنه، فإنه لا يامر، ولا ينهى، إلا عن أمر الله وهذا عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه، وإن نزل في آية الفئ. وروى زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما أعطى الله نبيا من الأنبياء شيئا، إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. قال لسليمان. (فامنن أو امسك بغير حساب)، وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). (واتقوا الله) في ترك المعاصي، وفعل الواجبات (إن الله شديد العقاب) لمن عصاه، وترك أوامره. وفي هذه الآية إشارة إلى أن تدبير الأمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى الأئمة القائمين مقامه. ولهذا قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أموال خيبر، ومن عليهم في رقابهم، وأجلى بني النضير، وبني قينقاع، وأعطاهم شيئا من المال، وقتل رجال بني قريظة، وسبى ذراريهم ونساءهم، وقسم أموالهم على المهاجرين، ومن على أهل مكة. ثم قال سبحانه. (للفقراء المهاجرين) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام (الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) (1) النشيطة ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول إلى الموضع الذي قصدوه. (*)
[ 433 ]
التي كانت لهم (يبتغون) أي يطلبون (فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله) أي وينصرون دين الله (ورسوله أولئك هم الصادقون) في الحقيقة عند الله العظيمو المنزلة عنده. قال الزجاج: بين سبحانه من المساكين الذين لهم الحق فقال: (للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم). ثم ثنى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم، حتى طابت أنفسهم عن الفئ فقال: (والذين تبوأوا الدار) يعني المدينة، وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين. وتقدير الاية: والذين تبوأوا الدار من قبلهم (والإيمان) لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وعطف الإيمان على الدار في الظاهر، لا في المعنى، لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ والتقدير: وآثروا الإيمان. وقيل: (من قبلهم) أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم. وقيل: معناه قبل إيمان المهاجرين، والمراد به أصحاب ليلة العقبة، وهم سبعون رجلا، بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حرب الأبيض والأحمر، (يحبون من هاجر إليهم)، لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأسكنوهم دورهم، وأشركوهم في أموالهم (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) أي لا يجدون في قلوبهم حسدا وحزازة وغيظا مما أعطي المهاجرون دونهم، من مال بني النضير. (ويؤثرون على أنفسهم) أي ويؤثرون المهاجرين، ويقدمونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم (ولو كان بهم خصاصة) أي فقر وحاجة. بين سبحانه أن إيثارهم لم يكن عن غنى عن المال، ولكن كان عن حاجة، فيكون ذلك أعظم لأجرهم وثوابهم عند الله. ويروى أن أنس بن مالك، كان يحلف بالله تعالى ما في الأنصار بخيل. ويقرأ هذه الآية: (ومن يوق شح نفسه) أي ومن يدفع عنه، ويمنع عنه بخل نفسه. (فأولئك هم المفلحون) أي المنجحون الفائزون بثواب الله، ونعيم جنته. وقيل: من لم ياخذ شيئا، نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئا أمره الله بادائه، فقد وقي شح نفسه، عن ابن زيد. وقيل: شح النفس هو أخذ الحرام، ومنه الزكاة، عن سعيد بن جبير. وفي الحديث. (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم، في جوف رجل مسلم). وقيل في موضع قوله (والذين تبوأوا الدار) قولان أحدهما: إنه رفع على الإبتداء، وخبره (يحبون من هاجر إليهم) إلى آخره، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقسم لهم شيئا من
[ 434 ]
الفئ، إلا لرجلين، أو لثلاثة، على اختلاف الرواية فيه والآخر: إنه في موضع جر عطفا على الفقراء المهاجرين، وعلى هذا فيكون قوله (يحبون من هاجر إليهم) وما بعده، في موضع نصب على الحال. ثم ثلث سبحانه بوصف التابعين فقال: (والذين جاءوا من بعدهم) يعني من بعد المهاجرين والأنصار، وهم جميع التابعين لهم إلى يوم القيامة، عن الحسن. وقيل: هم كل من أسلم (1) بعد انقطاع الهجرة، وبعد إيمان الأنصار، عن الأصم وأبي مسلم. والظاهر أن المراد: والذين خلفوهم. ويجوز أن يكون المراد: من بعدهم في الفضل. وقد يعبر بالقبل والبعد عن الفضل، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن الآخرون السابقون) أي الآخرون في الزمان، السابقون في الفضل. (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم، ولمن سبقهم بالإيمان. (ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) أي حقدا وغشا وعداوة. سالوا الله سبحانه أن يزيل ذلك بلطفه. وههنا احتراز لطيف، وهو أنهم أحسنوا الدعاء للمؤمنين، ولم يرسلوا القول إرسالا، والمعنى: اعصمنا ربنا من إرادة السؤ بالمؤمنين، ولا شك أن من أبغض مؤمنا، وأراد به السوء، لأجل إيمانه، فهو كافر. وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق. (ربنا إنك رؤوف رحيم) أي متعطف على العباد، منعم عليهم. (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكذبون (11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبر ثم لا ينصرون (12) لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون (13) (1) في المخطوطة. من أسلم قبل.. (*)
[ 435 ]
لا يقتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (14) كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم (15)). القراءة: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (من وراء جدار) على التوحيد. والباقون: (من وواء جدر) على الجمع. وفي الشواذ قراءة أبي رجاء، وأبي حية: و (جدر) بسكون الدال. الحجة: قال أبو علي: المعنى في الجمع أنهم لا يصحرون معكم للقتال، ولا يبرزون لكم، ولا يقاتلونكم حتى يكون بينكنم وبينهم حاجز من حصن أو سور. فإذا كان كذلك فالمعنى على الجمع، إذ ليس المعنى أنهم يقاتلونهم من وراء جدار واحد، ولكن من وراء جدر، كما لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة. فكما أن القرى جماعة، كذلك الجدر ينبغي أن تكون جمعا، فكان المراد في الإفراد الجمع، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلونهم من وراء جدار واحد. قال ابن جني: ويجوز أن يكون جدار تكسير جدار، فتكون ألف جدار في الواحد كالف كتاب. وفى الجمع كالف ضرام وكرام، ومثله ناقة هجان ونوق هجان، ودرع دلاص وأدرع دلاص. قال: ومثله قوله سبحانه: (واجعلنا للمتقيق إماما) يكون إمام على ما شرحناه. الاعراب: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله) أي من رهبتهم من الله، فحذف. (كمثل الذين مق قبلهم) أي مثلهم كمثل الذين من قبلهم فحذف المبتدأ. وكذلك قوله: (كمثله الشيطان). المعنى: لما وصف سبحانه المهاجرين الذين هاجروا الديار والأوطان، ثم مدح الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان، ثم ذكر التابعين بإحسان، وما يسشحقونه من النعيم في الجنان، عقب ذلك بذكر المنافقين، وما أسروه مق الكفر والعصيان فقال: (ألم تر) يا محمد (إلى الذين نافقو) فابطنوا الكفر، وأظهروا الإيمان (يقولون لاخوانكم) في الكفر (الذين كفروا من أهل الكتاب) يعني يهود بني النضير (لئن أخرجتم) من دياركم وبلادكم (لنخرجن معكم) مساعدين لكم (ولا نطيع فيكم) أي في قتالكم ومخاصمتكم (أحدا أبدا) يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. ووعدوهم
[ 436 ]
النصر بقولهم. (وإن قوتلتم لننصرنكم) أي لندفعن عنكم. ثم كذبهم الله في ذلك بقوله (والله يشهد إنهم لكاذبون) فيما يقولونه من الخروج معهم، والدفاع عنهم. ثم أخبر سبحانه أنهم يخلفونهم ما وعدوه من النصر والخروج بقوله: (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم) أي ولئن قدر وجود نصرهم، لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده (ليولن الأدبار) أي ينهزمون ويسلمونهم. وقيل معناه: لئن نصرهم من يفي منهم لولوا الأدبار. فعلى هذا لا تنافي بين قوله (لا ينصرونهم) وقوله (لئن نصروهم) فقد أخبر الله تعالى في هذه الاية، عما لا يكون منهم أن لو كان، كيف كان يكون. (ثم لا ينصرون) أي ولو كان لهم هذه القوة، وفعلوا، لم ينتفع أولئك بنصرتهم. نزلت الآية قبل إخراج بني النضير، وأخرجوا بعد ذلك، وقوتلوا، فلم يخرج معهم منافق، ولم ينصروهم كما أخبر الله تعالى بذلك. وقيل: أراد بقوله (لإخوانهم) بني النضير، وبني قريظة، فأخرج بنو النضير، ولم يخرجوا معهم، وقوتل بنو قريظة فلم ينصروهم. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (لأنتم أشد رهبة) أي خوفا (في صدورهم) أي في قلوب هؤلاء المنافقين (من الله) المعنى أن خوفهم منكم، أشد من خوفهم من الله، لأنهم يشاهدونكم، ويعرفونكم، ولا يعرفون الله، وهو قوله: (ذلك بانهم قوم لا يفقهون) الحق، ولا يعلمون عظمة الله، وشدة عقابه (لا يقاتلونكم) معاشر المؤمنين (جميعا إلا في قرى محصنة) أي ممتنعة حصينة. المعنى أنهم لا يبرزون لحربكم، وإنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى (أو من وراء جدر) أي: يرمونكم من وراء الجدران، بالنبل والحجر. (باسهم بينهم شديد) أي عداوة بعضهم لبعض شديدة، يعني أنهم ليسوا بمتفقي القلوب. وقيل: معناه قوتهم فيما بينهم شديدة، فإذا لاقوكم جبنوا، ويفزعون (1) منكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. (تحسبهم جميعا) أي مجتمعين في الظاهر (وقلوبهم شتى) أي مختلفة متفرقة. خذلهم الله باختلاف كلمتهم. وقيل: إنه عنى بذلك قلوب المنافقين، وأهل الكتاب، عن مجاهد. (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) ما فيه الرشد مما فيه الغي، وإنما كان قلوب من يعمل (1) في نسخة. تفرقوا، وفي أخرى: يفرقون بدل (يفزعون). (*)
[ 437 ]
بخلاف العقل شتى، لاختلاف دواعيهم وأهوائهم، وداعي الحق واحد وهو العقل الذي يدعو إلى طاعة الله، والإحسان في الفعل. (كمثل الذين من قبلهم قريبا) أي مثلهم في اغترارهم بعددهم وبقوتهم وبقول المنافقين، كمثل الذين من قبلهم، يعني المشركين الذين قتلوا ببدر، وذلك قبل غزاة بني النضير لستة أشهر، عن الزهري وغيره. وقيل: إن (الذين من قبلهم قريبا) هم بنو قينقاع، عن ابن عباس. وذلك أنهم نقضوا العهد مرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بدر، فامرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجوا. وقال عبد الله بن ابن: لا تخرجوا فإني آتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكلمه فيكم، أو أدخل معكم الحصن. فكان هؤلاء أيضا في إرسال عبد الله بن أبي إليهم، ثم ترك (1) نصرتهم كأولئك. (ذاقوا وبال أمرهم) أي عقوبة كفرهم (ولهم عذاب أليم) في الأخرة. (كمثل الشيطن إذ قال للانسن اكفر فلما كفر قال إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العلمين (16) فكان عقبتهما أنهما في النار خلدين فيها وذلك جزاؤا الظلمين (17) يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسهم أنفسهم أولئك هم الفسقون (19) لا يستوى أصحب النار وأصحب الجنة أصحب الجنة هم الفائزون (20)). اللغة: أصل غد: غدو، إلا أنه لم يات في القرآن إلا محذوف الواو وجاء في الشعر بحذف الواو، وإثباتها (2): وما الناس إلا كالديار، وأهلها، * بها يوم حلوها، وغدوا بلاقع وقال آخر: لا تقلواها، وادلواها دلوا، * إن مع اليوم أخاها غدوا (3) (1) في المخطوطة: ثم تركه. (2) [ قال الشاعر في اثباتها ]. (3) قلا الإبل: طردها، وساقها. ودلا الناقة: سيرها رويدا.
[ 438 ]
المعنى: ثم ضرب سبحانه لليهود والمنافقين مثلا فقال: (كمثل الشيطان) أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير، وخذلانهم إياهم، كمثل الشيطان (إذ قال للإنسان اكفر) وهو عابد بني إسرائيل، عن ابن عباس قال: إنه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا، عبد الله زمانا من الدهر، حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم، ويعوذهم فيبرأون على يده، وإنه أتي بامرأة في شرف قد جنت، وكان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده. فلم يزل به الشيطان يزين له، حتى وقع عليها، فحملت. فلما استبان حملها قتلها ودفنها. فلما فعل ذلك، ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فاخبره بالذي فعل الراهب، وأنه دفنها في مكان كذا. ثم أتى بقية إخوتها رجلا رجلا، فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر علي ذكره ! فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس، فاستنزلوه (1)، فاقر لهم بالذي فعل، فامر به فصلب. فلما رفع على خشبته، تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، اخلصك مما أنت فيه ؟ قال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة. فقال: كيف أسجد لك، وأنا على هذه الحالة ؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء. فاومى له بالسجود فكفر بالله، وقتل الرجل. فهو قوله (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر). (فلما كفر قال إني برئ منك) ضرب الله هذه القصة لبني النضير، حين اغتروا بالمنافقين، ثم تبرأوا منهم عند الشدة وأسلموهم. وقيل: أراد كمثل الشيطان يوم بدر، إذ دعا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأى الملائكة، رجع القهقرى، وقال: إني أخاف الله. وقيل: أراد بالشيطان والإنسان إسم الجنس لا المعهود، فإن الشيطان أبدا يدعو الإنسان إلى الكفر، ثم يتبرأ منه، وقت الحاجة، عن مجاهد. وإنما يقول الشيطان: (إني أخاف الله رب العالمين) يوم القيامة. ثم ذكر سبحانه أنهما صارا إلى النار بقوله: (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) يعني عاقبة الفريقين الداعي والمدعو، من الشيطان، ومن أغواه من المنافقين واليهود، أنهما معذبان في النار (وذلك جزاء الظالمين) أي وذلك (1) في نسخة: فاستزلوه. (*)
[ 439 ]
جزاؤهم. ثم رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) يعني ليوم القيامة. والمعنى: لينظر كل امرئ ما الذي قدمه لنفسه، أعملا صالحا ينجيه، أم سيئا يوبقه ويرديه، فإنه وارد عليه. قال قتادة. إن ربكم قرب الساعة، حتى جعلها كغد، وأمركم بالتدبر والتفكر فيما قدمتم (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) إنما كرر الأمر بالتقوى، لأن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب، والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل. وقيل: إن الثانية تأكيد للأولى (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي تركوا أداء حق الله (فأنساهم أنفسهم) بان حرمهم حظوظهم من الخير والثواب. وقيل: نسوا الله بترك ذكره بالشكر والتعظيم، فانساهم أنفسهم بالعذاب الذي نسي به بعضهم بعضا، كما قال: (فسلموا على أنفسكم) أي ليسلم بعضكم على بعض، عن الجبائي. ويريد به بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، عن ابن عباس. (أولئك هم الفاسقون) الذين خرجوا من طاعة الله إلى معصيته. (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) أي لا يتساوبان، لأن هؤلاء يستحقون النار، واولئك يستحقون الجنة (أصحاب الجنة هم الفائزون) بثواب الله، الظافرون بطلبتهم. (لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خشعا متصدقا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21) هو الله الذى لا إله إلا هو علم الغيب والشهدة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلم المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحن الله عما يشركون (23) هو الله الخلق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (24)). فضلها: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ آخر سورة الحشر، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقرأ ثلاث آيات من
[ 440 ]
آخر الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك، يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قاله حين يمسي كان بتلك المنزلة). وعن أبي هريرة قال: سالت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: (عليك بآخر سورة الحشر، وأكثر قراءتها). فأعدت عليه فأعاد علي. وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (من قرأ خواتيم الحشر، من ليل أو نهار، فقبض في ذلك اليوم أو الليلة، فقد أوجبت له الجنة) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ لو أنزلنا هذا القرآن إلى آخرها، فمات من ليلته، مات شهيدا). اللغة: التصدع: التفرق بعد التلاؤم، ومثله التفطر. يقال: صدعه يصدعه صدعا، ومنه الصداع في الرأس. والقدوس: المعظم بتطهير صفاته من أن تدخلها صفة نقص. قال ابن جني: ذكر سيبويه في الصفة السبوح والقدوس، بالضم والفتح. وإنما باب الفعول الإسم كشبوط، وسمور، وتنور، وسفود. والمهيمن: أصله مئيمن على مفيعل من الأمانة، فقلبت الهمزة هاء، فخم اللفظ بها، لتفخيم المعنى. المعنى: ثم عظم سبحانه حال القرآن فقال: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) تقديره لو كان الجبل مما ينزل عليه القرآن، ويشعر به مع غلظه وجفاء طبعه، وكبر جسمه، لخشع لمنزله، وتصدع من خشية الله، تعظيما لشأنه، فالإنسان أحق بهذا لو عقل الأحكام التي فيه. وقيل: معناه لو كان الكلام ببلاغته، يصدع الجبل لكان هذا القرآن يصدعه. وقيل: إن المراد به ما يقتضيه الظاهر بدلالة قوله: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) وهذا وصف للكافر بالقسوة، حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن الذي لو نزل على جبل لتخشع. ويدل على أن هذا تمثيل قوله: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) أي ليتفكروا ويعتبروا. ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال: (هو الله الذي لا إله إلا هو) أي هو المستحق للعبادة الذي لا تحق العبادة إلا له (عالم الغيب والشهادة) أي عالم بما يشاهده العباد، وعالم بما يغيب عنهم علمه. وقيل: عالم الغيب معناه: عالم بما لا يقع عليه الحس، من المعدوم والموجود الذي لا يدرك مما هو غائب عن الحواس، كأفعال القلوب وغيرها، والشهادة أي: عالم بما يصح عليه الإدراك بالحواس. وقيل: معناه عالم السر والعلانية، عن الحسن، وفي هذا وصفه سبحانه
[ 441 ]
بأنه عالم بجميع المعلومات، لأنها لا تعدو هذين القسمين. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: الغيب ما لم يكن، والشهادة ما كان. (هو الرحمن) أي المنعم على جميع خلقه (الرحيم) بالمؤمنين. ثم أعاد سبحانه قوله (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك) يعني السيد المالك لجميع الأشياء، الذي له التصرف فيها على وجه ليس لأحد منعه منه. وقيل: هو الواسع القدرة (القدوس) أي الطاهر من كل عيب ونقص، وآفة، المنزه عن القبائح. وقيل: هو المطهر عن الشريك والولد، لا يوصف بصفات الأجسام، ولا بالتجزئة والإنقسام. وقيل: هو المبارك الذي تنزل البركات من عنده، عن الحسن. (السلام) أي الذي سلم عباده من ظلمه. وقيل: هو المسلم من كل عيب ونقص وآفة. وقيل: هو الذي من عنده ترجى السلامة، عن الجبائي، وهو اسم من السلامة، وأصله مصدر، فهو مثل الجلال والجلالة. (المؤمن) الذي أمن خلقه من ظلمه لهم، إذ قال. (لا يظلم مثقال ذرة) عن ابن عباس (1). وقيل: الذي امن بنفسه قبل إيمان خلقه به، عن الحسن، وأشار إلى قوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) الآية. والمعنى أنه بين لخلقه توحيده وإلهيته بما أقام لهم من الدلائل وقيل معناه المصدق لما وعد المحقق له كالمؤمن الذي يصدق قوله فعله. وقيل: هو الذي أمن أولياؤه عذابه. وقيل: هو الداعي إلى الإيمان، الآمر به، الموجب لأهله اسمه، عن أبي مسلم. (المهيمن) أي الأمين حتى لا يضيع لأحد عنده حق، عن ابن عباس والضحاك والجبائي. وقيل: هو الشاهد، عن مجاهد وقتادة. كانه شهيد على إيمان من آمن به. وقيل: هو المؤمن في المعنى، لأن أصله المؤيمن، إلا أنه أشد مبالغة في الصفة. وقيل: هو الرقيب على الشئ، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبا على الشئ. (العزيز) أي القادر الذي لا يصح عليه القهر. وقيل: هو المنيع الذي لا يرام، ولا يمتنع عليه مرام (الجبار) وهو العظيم الشان في الملك والسلطان، ولا يستحق أن يوصف به على هذا الإطلاق إلا الله تعالى، فإن وصف به العباد، فإنما يوضع اللفظ في غير موضعه، ويكون ذما. وقيل: هو الذي يذل له من دونه، ولا تناله يد. وقيل: هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراد، عن (1) في نسخة: والجبائي. (*)
[ 442 ]
السدي ومقاتل، وهو اختيار الزجاج. فيكون من جبره على كذا إذا أكرهه. وقيل: هو الذي يجبر الفقير من قولهم: جبر الكسير إذا أصلحه، عن واصل بن عطا. (المتكبر) أي المستحق لصفات التعظيم. وقيل: هو الذي يكبر عن كل سؤ، عن قتادة. وقيل: هو المتعالي عن صفات المحدثين، المتعظم عما لا يليق به. (سبحان الله يشركون) أي تنزيها له عما يشرك به المشركون من الأصنام وغيرها. (هو الله الخالق) للأجسام والأعراض المخصوصة. وقيل: المقدر للأشياء بحكمته، المحدث للأشياء على إرادته (البارئ) المنشئ للخلق، الفاعل للأجسام والأعراض (المصور) الذي صور الأجسام على اختلافها مثل الحيوان والجماد (له الأسماء الحسنى) نحو الله الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحي، وقد مر بيانه في سورة الأعراف. (يسبح له ما في السماوات والأرض) أي ينزهه جميع الأشياء. فالحي يصفه بالتنزيه، والجماد يدل على تنزيهه. (وهو العزيز الحكيم) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اسم الله الأعظم في ست آيات في آخر سورة الحشر).
[ 443 ]
60 - سورة الممتحنة مدينة وآياتها ثلاث عشرة وقيل: سورة الإمتحان. وقيل: سورة المودة. مدنية وهي ثلاث عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة) أبو حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليه السلام قال: من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله، امتحن الله قلبه للإيمان، ونور له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في ولده، ولا في بدنه. تفسيرها: وجه اتصالها بما قبلها أنه لما ذكر سبحانه في سورة الحشر الكفار والمنافقين، افتتح هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم، وإيجاب معاداتهم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول واياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهدا في سبيلى وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولدكم يوم القيمة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير (3) قد كانت
[ 444 ]
لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم (5)). القراءة: قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو: (يفصل بينكم) بضم الياء، وفتح الصاد، على التخفيف. وقرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (يفصل) بضم الياء، وكسر الصاد، مشددآ. وقرأ عاصم، ويعقوب، وسهل: (يفصل) بفتح الياء، وكسر الصاد، مخففا. وقرأ ابن عامر: (يفصل) بضم الياء، وفتح الصاد، مشددا. وفي الشواذ قراءة عيسى بن عمرو: (إنا براء منكم) على مثال فعال. الحجة: قال أبو علي: ذهب أبو الحسن في هذا النحو [ إلى ] أن الظرف أقيم مقام الفاعل وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام، لجريه في أكثر الكلام منصوبا، وكذلك تقول في قوله: (وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) وكذلك يجئ قياس قوله: (لقد تقطع بينكم) فاللفظ على قوله مفتوح، والموضع رفع، كما كان اللفظ في قوله (وكفى بالله)، وما جاءني من رجل مجرورا، والموضع رفع. والقول في قراءة ابن عامر (يفصل) مثل القول في (يفصل). وقول عاصم (يفصل) حسن، والضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ودل عليه قوله: (وانا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم)، وكذلك قول من قرأ (يفصل) وبرئ في تكسيره أربعة أوجه: برآء كالشريف والشرفاء، وهو قراءة الجماعة. وبراء نحو ظريف وظراف، وأبرياء كصديق وأصدقاء، وبراء كتؤام ورباب وعليه بيت الحارث بن حلزة: (فإنا من قتلهم لبراء) قال الفراء: أراد به براء، فحذف الهمزة التي هي لام تخفيفا، وأخذ هذا الموضع من أبي الحسن في قوله: إن أشياء أصله أشيئاء، وهذا المذهب يوجب ترك صرف براء، لأنها همزة التأنيث. الاعراب: ذهب الزجاج إلى أن التقدير. إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله (أولياء) ثم
[ 445 ]
قال: (تلقون إليهم) على تقدير: أتلقون. فحذف الهمزة كقوله (وتلك نعمة تمنها علي) وتقديره: أو تلك نعمة. وقيل: إن قوله (تلقون إليهم بالمودة) في موضع النصب على الحال من الضمير في (لا تتخذوا)، والباء مزيدة، والتقدير: تلقون إليهم المودة، كما قال الشاعر: فلما رجت بالشرب هزلها العصا شحيح له عند الإزاء نهيم (1) أي: رجت الشرب. ويجوز أن يكون مفعول (تلقون) محذوفا، والباء تتعلق به أي: تلقون إليهم ما تريدون بالمودة التي بينكم وبينهم. (وقد كفروا): جملة في موضع نصب على الحال من العدو، أو من الهاء. والميم في قوله (تلقون إليهم) و (إياكم) منصوب بالعطف على الرسول. (إن كنتم خرجتم): جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدمه من الكلام عليه أي: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي، فلا نتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. و (جهادا): مفعول له أي للجهاد. ويجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال. (وابتغاء مرضاتي): معطوف عليه على الوجهين، والتقدير للحال: خرجتم مجاهدين في سبيلي، مبتغين مرضاتي. (وحده): يجوز أن يكون مصدرا محذوف الزوائد والتقدير: توحدونه توحيدا، أو توحدونه إيحادا، فيكون مصدرا وضع موضع الحال. ويجوز أن يكون مصدر فعل ثلاثي، تقديره: يحد وحده. والتقدير حتى تؤمنوا بالله واحدا. (إلا قول إبراهيم): منصوب على الإستثناء، والمستثنى منه الضمير المستكن فيما يتعلق به اللام في قوله: (قد كانت لكم اسوة حسنة)، والتقدير: ثبتت لكم في إبراهيم إلا في قوله لأستغفرن لك. النزول: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمسلمة جئت ؟ قالت: لا. قال: أمهاجرة جئت ؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك ؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهب موالي، واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني، وتكسوني، وتحملوني ! قال: فاين أنت من شبان مكة، وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب مني بعد وقعة (1) الإزاء: مصب الماء في الحوض. ونهم الاكل في الطعام: شره وحرص وإفراط الشهوة فيه. وكان لا تمتلئ عينه، ولا تشبع. (*)
[ 446 ]
بدر. فحث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها بني عبد المطلب، فكسوها، وحملوها، وأعطوها نفقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتجهز لفتح مكة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، عن ابن عباس، وعشرة دراهم، عن مقاتل بن حيان، وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم) ! فخرجت سارة، ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرسانا، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا لها: أين الكفار ؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فنحوها وفتشوا متاعها، فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع، فقال علي عليه السلام: والله ما كذبنا، ولا كذبنا، وسل سيفه وقال لها: أخرجي الكتاب، والا والله لأضربن عنقك ! فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، قد أخباته في شعرها. فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فارسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: هل تعرف الكتاب ؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت ؟ قال: يا رسول الله ! والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت عريرا (فيهم أي غريبا). وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم باسه، وان كتالي لا يغني عنهم شيئا، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعذره. فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فغفر لهم، فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والمقداد والزبير وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخرجنا. وذكر نحوه.
[ 447 ]
المعنى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) خاطب سبحانه المؤمنين، ونهاهم أن يتخذوا الكافرين أولياء يوالونهم، ويستنصرون بهم، وينصرونهم (تلقون إليهم بالمودة) أي تلقون إليهم المودة، وتبذلون لهم النصيحة. يقال: ألقيت إليك بسزي. وقيل: معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمودة التي بينكم وبينهم، عن الزجاج. (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) وهو القرآن والإسلام (يخرجون الرسول وإياكم) من مكة (أن تؤمنوا بالله ربكم) أي لأن تؤمنوا، أو كراهة أن تؤمنوا. فكأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم الذي خلقكم (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي) والمعنى: إن كان غرضكم في خروجكم وهجرتكم، الجهاد وطلب رضاي، فأوفوا خروجكم حقه من معاداتهم، ولا تلقوا إليهم بالمودة، ولا تتخذوهم أولياء (تسرون إليهم بالمودة) أي تعلمونهم في السر أن بينكم وبينهم مودة وقيل: الباء للتعليل أي تعلمونهم بأحوال الرسول في السر بالمودة التي بينكم وبينهم، فعل من يظن أنه يخفى علي ما يفعله (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) لا يخفى علي شئ من ذلك، فأطلع رسولي عليه (ومن يفعله منكم) أي ومن أسر إليهم بالمودة، وألقى إليهم أخبار رسولي منكم يا جماعة المؤمنين، بعد هذا البيان (فقد ضل سواء السبيل) أي عدل عن طريق الحق، وجار عن سبيل الرشد. وفي هذه الاية دلالة على أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان، لأن أحدا من المسلمين لا يقول إن حاطبا قد خرج من الإيمان بما فعله من الكبيرة الموبقة. (إن يثقفوكم) يعني أن هؤلاء الكفار إن يصادفوكم مقهورين، ويظفروا بكم (يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل، ويبسطوا إليكم ألسنتهم بالشتم، والمعنى: إنهم يعادونكم، ولا ينفعكم ما تلقون إليهم، ولا يتركون غاية في إلحاق السوء بكم باليد واللسان (وودوا) مع ذلك (لو تكفرون) بالله كما كفروا، وترجعون عن دينكم (لن تنفعكم أرحامكم) أي ذوو أرحامكم والمعنى: قراباتكم (ولا أولادكم) أي لا يحملنكم قراباتكم، ولا أولادكم التي بمكة، على خيانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. فلن ينفعكم أولئك الذين عصيتم الله لأجلهم. (يوم القيامة يفصل) الله (بينكم) فيدخل أهل الإيمان والطاعة الجنة، وأهل الكفر والمعصية النار، ويميز بعضكم من بعض، ذلك
[ 448 ]
اليوم، فلا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار. وقيل: معناه يقضي بينكم من فصل القضاء (والله بما تعملون بصير) أي عليم بأعمالكم. علم الله سبحانه بما عمله حاطب من مكاتبة أهاط مكة حتى أخبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. ثم ضرب سبحانه لهم إبراهيم مثلا في ترك موالاة الكفار، فقال: (قد كانت لكم أسوة حسنة) أي اقتداء حسن (في إبراهيم) خليل الله (والذين معه) ممن آمن به واتبعه. وقيل: الذين معه من الأنبياء، عن ابن زيد (إذ قالوا لقومهم) الكفار (إنا برآء منكم) فلا نواليكم (ومما تعبدون من دون الله) أي وبراء من الأصنام التي تعبدونها. ويجوز أن يكون (ما) مصدرية، فيكون المعنى: ومن عبادتكم الأصنام (كفرنا بكم) أي يقولون لهم: جحدنا دينكم، وأنكرنا معبودكم (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) فلا يكون بيننا ب الاة في الدين (حتى تؤمنوا بالله وحده) أي تصدقوا بوحدانية الله، وإخلاص التوحيد والعبادة له. قال الفراء: يقول الله تعالى أفلا تأتسي يا حاطب بإبراهيم وقومه، فتبرأ من أهلك كما تبرأوا منهم أي: من قومهم الكفار (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) أي اقتدوا بإبراهيم في كل أموره إلا في هذا القول، فلا تقتدوا به فيه، فإنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه بالإيمان. فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه. قال الحسن: وإنما تبين له ذلك عند موت أبيه، ولو لم يستثن ذلك، لظن أنه يجوز الإستغفار للكفار مطلقا من غير موعدة بالإيمان منهم، فنهوا أن يقتدوا به في هذا خاصة، عن مجاهد، وقتادة. وابن زيد. وقيل: كان آزر ينافق إبراهيم، ويريه أنه مسلم، ويعده إظهار الإسلام، فيستغفر له، عن الحسن والجبائي. ثم قال: (وما أملك لك من الله من شئ) إذا أراد عقابك، ولا يمكنني دفع ذلك، عنك (ربنا عليك توكلنا) أي وكانوا يقولون ذلك (وإليك أنبنا) أي (إلى طاعتك رجعنا (وإليك المصير) أي إلى حكمك المرجع وهذه حكاية لقول إبراهيم وقومه. ويحتمل أن يكون تعليما لعباده أن يقولوا ذلك، فيفوضوا أمورهم إليه، ويرجعون إليه بالتوبة (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا ببلاء من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق لما أصابهم هذا البلاء، عن مجاهد. وقيل: معناه ولا تسلطهم علينا، فيفتنونا عن دينك. وقيل: معناه ألطف بنا حتى نصبر على أذاهم، ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم. وقيل: معناه إعصمنا من موالاة
[ 449 ]
الكفار، فإنا إذا واليناهم، ظنوا أنا صوبناهم. وقيل: معناه لا تخذلنا إذا حاربناهم، فلو خذلتنا لقالوا: لو كان هؤلاء على الحق لما خذلوا. (واغفر لنا ربنا) ذنوبنا (إنك أنت العزيز) الذي لا يغالب و (الحكيم) الذي لا يفعل إلا الحكمة والصواب. وفي هذا تعليم للمسلمين أن يدعوا بهذا الدعاء. (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان رجوا الله واليوم الاخر ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد (6) عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم (7) لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهئكم الله عن الذين قتلوكم في الدين وأخرجوكم من ديركم وظهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون (9)). النزول: نزل قوله: (لا ينهاكم الله) الآية. في خزاعة وبني مدلج، وكانوا صالحوا رسول الله على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، عن ابن عباس. المعنى: ثم أعاد سبحانه في ذكر الأسوة فقال: (لقد كان لكم فيهم) أي في إبراهيم ومن آمن معه (أسوة حسنة) أي قدوة حسنة. وإنما أعاد ذكر الأسوة، لأن الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول، فإن الثاني فيه بيان أن الأسوة فيهم كان لرجاء ثواب الله، وحسن المنقلب والأول فيه بيان أن الأسوة في المعاداة للكفار. وقوله: (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) بدل من قوله (لكم)، وهو بدل البعض من الكل، مثل قوله: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عقاب الآخرة، وهو قوله: (واليوم الاخر) وقيل: يرجو ثواب الله، وما يعطيه من ذلك في اليوم الآخر. (ومن يتول) أي ومن يعرض عن هذا الإقتداء بإبراهيم، والأنبياء، والمؤمنين والذين معه، فقد أخطأ حظ نفسه، وذهب عما يعود نفعه إليه، فحذفه لدلالة الكلام عليه وهو قوله: (فإن الله هو الغني الحميد) أي الغني عن ذلك، المحمود في جميع أفعاله، فلا يضره توليه، ولكنه ضر نفسه.
[ 450 ]
(عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم) أي من كفار مكة أمودة) بالإسلام. قال مقاتل: لما أمر الله سبحانه المؤمنين بعداوة الكفار، عادوا أقرباءهم، فنزلت هذه الآية. والمعنى: إن موالاة الكفار لا تنفع، والله سبحانه قادر على أن يوفقهم للإيمان، وتحصل المودة بينكم وبينهم، فكونوا على رجاء وطمع من الله أن يفعل ذلك، وقد فعل ذلك حين أسلموا عام الفتح، فحصلت المودة بينهم وبين المسلمين. (والله قدير) على نقل القلوب من العداوة إلى المودة، وعلى كل شئ يصح أن يكون مقدورا له. (والله غفور) لذنوب عباده (رحيم) بهم إذا تابوا وأسلموا (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) أي ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد الذين عاهدوكم على ترك القتال، وبرهم ومعاملتهم بالعدل وهو قوله: (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد، عن الزجاج. وقيل: إن المسلمين استامروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يبروا أقرباءهم من المشركين، وذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين، فنزلت هذه الآية، وهي منسوخة بقوله: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: إنه عنى بالذين لم يقاتلوكم من آمن من أهل مكة، ولم يهاجر، عن قتادة. وقيل: هي عامة في كل من كان بهذه الصفة، عن ابن الزبير. والذي عليه الإجماع أن بر الرجل من يشاء من أهل الحرب، قرابة كان أو غير قرابة، ليس بمحرم، وإنما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات. فلم يجوزه أصحابنا، وفيه خلاف بين الفقهاء. وقوله: (أن تبروهم) في موضع جر بدلى من الذين، وهو بدل الإشتمال، وتقديره: لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم (إن الله يحب المقسطين) أي العادلين. وقيل: يحب الذين يجعلون لقراباتهم قسطا مما في بيوتهم من المطعومات. ثم قال. (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) من أهل مكة وغيرهم (وأخرجوكم من دياركم) أي منازلكم وأملاككم (وظاهروا على إخراجكم) أي عاونوا على ذلك وعاضدوهم، وهم العوام والأتباع، عاونوا رؤساءهم على الباطل (أن تولوهم) أي ينهاكم الله عن أن تولوهم، وتوادوهم، وتحبوهم. والمعنى: إن
[ 451 ]
مكاتبتكم بينهم (1) بإظهار سر المؤمنين، موالاة لهم (ومن يتولهم) منكم أي يوالهم وينصرهم، (فأولئك هم الظالمون) يستحقون بذلك العذاب الأليم. (يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنت مهجرت فامتحنوهن الله أعلم بإيمنهن فإن علمتموهن مؤمنت فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم (10) وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فئاتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون (11)). القراءة: قرأ أهل البصرة: (ولا تمسكوا) بالتشديد. والباقون: (ولا تمسكوا) بالتخفيف. وفي الشواذ قراءة الأعرج: (فعقبتم) بالتشديد، وقراءة النخعي، والزهري، ويحيى بن يعمر بخلاف: (فعقبتم) خفيفة القاف من غير ألف. وقراءة مسروق (فعقبتم) بكسر القاف من غير ألف. والقراءة المشهورة: (فعاقبتم) وقرأ مجاهد: (فاعقبتم). الحجة: حجة من قرأ (لا تمسكوا) قوله: (فإمساك بمعروف)، (ولا تمسكوهن ضرارا)، (وأمسك عليك زوجك). وحجة من قال (ولا تمسكوا) قوله: (والذين يمسكون بالكتاب) يقال: أمسكت بالشئ، ومسكت به، وتمسكت به. قال ابن جني: روينا عن قطرب قال: (فعاقبتم): أصبتم عقبى منهن، يقال: عاقب الرجل شيئا إذا أخذ شيئا. وأنشد لطرفة: (فعقبتم بذنوب غير مر) جمع مره فسروه على (2) أعطيتم وعدتم. وقال في قوله (ولم يعقب): لم يرجع. وحكي عن الأعمش أنه قال: عقبتم: غنمتم. وقد يجوز أن يكون عقبتم بوزن غنمتم، وبمعناه جميعا. وروي أيضا بيت طرفة فعقبتم بكسر القاف. وحكى أبو عوانة، عن المغيرة (1) في نسختين: مكاتبتهم بدل مكاتبتكم بينهم. (2) في نسخة: ما أعطيتم بدل أعطيتم. (*)
[ 452 ]
قال: قرأت على إبراهيم (فعاقبتم) فاخذها على (فعقبتم) خفيفة. ومعنى (أعقبتم): صنعتم بهم مثل ما صنعوا بكم. النزول: قال ابن عباس: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية مشركي مكة، على أن من أتاه من أهل مكة، رده عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو لهم، ولم يردوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا، وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية. فاقبل زوجها مسافر من بني مخزوم، وقال مقاتل: هو صيفي (1) ابن الراهب، في طلبها، وكان كافرا. فقال: يا محمد ! اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد. فنزلت الآية (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) من دار الكفر إلى دإر الإسلام (فامتحنوهن). قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا لله ولرسوله. فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خرجت بغضا لزوجها، ولا عشقا لرجل منا، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجها مهرها، وما أنفق عليها، ولم يردها عليه، فتزوجها عمر بن الخطاب. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد من جاءه من الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن، ويعطي أزواجهن مهورهن. قال الزهري: ولما نزلت هذه الاية، وفيها قوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قرنية (2) بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة (3)، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، رجل من قومه، وهما على شركهما، وكانت عند طلحة بن عبد الله أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد (1) في نسختين. صيف بدل صيفي. (2) في المخطوطة: قرببة بدل قرنية. (3) ليس في بعضها لفظة: (بمكة). (*)
[ 453 ]
المطلب، ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر. وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة عند قومها كافرة، ثم تزوجها في الإسلام بعد طلحة، خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكانت ممن فرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نساء الكفار، فحبسها وزوجها خالدا، وأميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرت منه، وهو يومئذ كافر، الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فزوجها رسول الله سهل بن حنيف، فولدت عبد الله بن سهل. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسوك الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة أبى العاص بن الربيع، فأسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وأقام أبو العاص مشركا بمكة. ثم أتى المدينة، فأمنته زينب، ثم أسلم فردها عليه رسول الله. وقال الجبائي: لم يدخل في شرط صلح الحديبية، إلا رد الرجال دون النساء، ولم يجر للنساء ذكر، وإن ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، جاءت مسلمة مهاجرة من مكة، فجاء أخواها إلى المدينة، فسألا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردها عليهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشرط بيننا في الرجال، لا في النساء). فلم يردها عليهما. قال الجبائي: وإنما لم يجر هذا الشرط في النساء، لأن المرأة إذا أسلمت لم تحل لزوجها الكافر، فكيف ترد عليه، وقد وقعت الفرقة بينهما ؟ ! المعنى: لما قطع سبحانه الموالاة بين المسلمين والكافرين، بين حكم النساء المهاجرات وأزواجهن، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) بالإيمان أي استوصفوهن الإيمان، وسماهن مؤمنات قبل أن يؤمن، لأنهن اعتقدن الإيمان (الله أعلم بإيمانهن) أي كنتم تعلمون بالإمتحان ظاهر إيمانهن، والله يعلم حقيقة إيمانهن في الباطن. ثم اختلفوا في الإمتحان على وجوه أحدها: إن الإمتحان أن يشهدن أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، عن ابن عباس وثانيها: ما روي عن ابن عباس أيضا في رواية أخرى أن امتحانهن أن يحلفن ما خرجن إلا للدين والرغبة في الإسلام، ولحب الله ورسوله، ولم يخرجن لبغض زوج، ولا لالتماس دنيا، وروي ذلك عن قتادة وثالثها: إن امتحانهن بما في الآية التي بعد وهو: (أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين) الآية. عن عائشة. ثم قال سبحانه: (فإن علمتموهن مؤمنات) يعني في الظاهر (فلا ترجعوهن إلى الكفار) أي لا تردوهن إليهم (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وهذا يدل
[ 454 ]
على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة، وإن لم يطلق المشرك (وآتوهم ما أنفقوا) أي وآتوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال الزهري: لولا الهدنة لم يرد إلى المشركين الصداق كما كان يفعل قبل. (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) أي ولا جناح عليكم معاشر المسلمين أن تنكحوا المهاجرات، إذا أعطيتموهن مهورهن التي يستحل بها فروجهن، لأنهن بالإسلام قد بن من أزواجهن. (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات وأصل العصمة: المنع، وسمي النكاح عصمة، لأن المنكوحة تكون في حبال الزوج وعصمته. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز العقد على الكافرة، سواء كانت حربية، أو ذمية، وعلى كل حال، لأنه عام في الكوافر، وليس لأحد أن يخص الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن، لأن المعتبر بعموم اللفظ، لا بالسبب (واسألوا ما أنفقتم) أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر، إذا منعوها، ولم يدفعوها إليكم، كما يسالونكم مهور نسائهم، إذا هاجرن إليكم، وهو قوله (وليسألوا ما أنفقوا ذلكم) يعني ما ذكر الله في هذه الآية. (حكم الله يحكم بينكم والله عليم) بجميع الأشياء (حكيم) فيما يفعل ويأمر به. قال الحسن: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر، والكافرة تحت المسلم، فنسخته هذه الآية. قال الزهري: ولما نزلت هذه الآية آمن المؤمنون بحكم الله وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمرهم به من أداء نفقات المسلمس فنزل: (وإن فاتكم شئ من أزواجكم) أي أحد من أزواجكم (إلى الكفار) فلحقن بهم مرتدات. (فعاقبتم) معناه فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى، وهي الغنيمة، فظفرتم، وكانت العاقبة لكم. وقيل: معناه فخلفتم (1) من بعدهم، وصار الأمر إليكم، عن مؤرج. وقيل: إن عقب وعاقب مثل صغر وصاغر بمعنى، عن الفراء. وقيل: عاقبتم بمصير أزواج الكفار إليكم، إما من جهة سبي، أو مجيئهن مؤمنات، عن علي بن عيسى. (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم) أي نساؤهم من المؤمنين (مثل ما (1) في نسخة فلحقتم بدل فخلفتم. (*)
[ 455 ]
أنفقوا) من المهور عليهن من رأس الغنيمة، وكذلك من ذهبت زوجته إلى من بينكم وبينه عهد، فنكث في إعطاء المهر، فالذي ذهبت زوجته يعطى المهر من الغنيمة، ولا ينقص شيئا من حقه، بل يعطى كملا، عن ابن عباس، والجبائي. وقيل: معناه إن فاتكم أحد من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد، فغنمتم فأعطوا زوجها صداقها الذي كان ساق إليها من الغنيمة. ثم نسخ هذا الحكم (1) في براءة، فنبذ إلى كل ذي عهد عهده، عن قتادة. وقال علي بن عيسى: معناه فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من المهور، كما عليهم أن يردوا عليكم مثل ما أنفقتم لمن ذهب من أزواجكم. (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي اجتنبوا معاصي الله الذي أنتم تصدقون به، ولا تجاوزوا أمره. وقال الزهري: فكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين، راجعات عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شداد الفهري. وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب. فلما أراد عمر أن يهاجر، أبت وارتدت. وبروع (2) بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعمدة شت ععد العزى بن فضلة، وزوجها عمرو بن عبدود. وهند بنت أبي جهل بن هشام، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل. وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر. فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. (يأيها النبي إذا جاءك المؤمنت يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولدهن ولا يأتين ببهتن يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم (12) يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار من أصحب القبور (13)). الاعراب: (من أصحاب القبور) أي من بعث أصحاب القبور، فحذف (1) في المخطوطة سورة براءة. (2) في نسخة: (برزع). (*)
[ 456 ]
المضاف. ويجوز أن يكون (من) تبيينا للكفار، والتقدير: كما يئس الكفار الذين هم من أصحاب القبور من الاخرة. المعنى: ثم ذكر سبحانه بيعة النساء، وكان ذلك يوم فتح مكة، لما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيعة الرجال، وهو على الصفا، جاءته النساء يبايعنه، فنزلت هذه الآية. فشرط الله تعالى في مبايعتهم أن يأخذ عليهن هذه الشروط، وهو قوله: (يا أيها النيي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على) هذه الشرائط وهي (أن لا يشركن بالله شيئا) من الأصنام والأوثان (ولا يسرقن) لا من أزواجهن، ولا من غيرهم (ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن) على وجه من الوجوه، لا بالوأد، ولا بالإسقاط (ولا يأتين ببهتان يفترينه) أي بكذب يكذبنه في مولود يوجد (بين أيديهن وأرجلهن) أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم، عن ابن عباس. وقال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها. وليس المعنى على نهيهن من أن يأتين بولد من الزنا، فينسبنه إلى الأزواج، لأن الشرط بنهي الزنا قد تقدم. وقيل: البهتان الذي نهين عنه قذف المحصنات، والكذب على الناس، وإضافة الأولاد إلى الأزواج على البطلان في الحاضر والمستقبل من الزمان. (ولا يعصينك في معروف) وهو جميع ما يأمرهن به، لأنه لا يأمر إلا بالمعروف. والمعروف: نقيض المنكر، وهو كل ما دل العقل والسمع على وجوبه، أو ندبه. وسمي معروفا، لأن العقل يعترف به من جهة عظم حسنه، ووجوبه. وقيل: عنى بالمعروف النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجه، والدعاء بالويل، عن المقاتلين والكلبي. والأصل أن المعروف كل بر، وتقوى، وأمر وافق طاعة الله تعالى. (فبايعهن) على ذلك. (واستغفر لهن الله) أي اطلب من الله أن يغفر لهن ذنوبهن، ويسترها عليهن (إن الله غفور) أي صفوح عنهن (رحيم) منعم عليهن. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بايعهن، وكان على الصفا، وكان عمر أسفل منه، وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء، خوفا أن يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال. أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا. فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، وذلك أنه بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولا تسرقن. فقالت
[ 457 ]
هند: إن أبا سفيان رجل ممسك، وإني أصبت من ماله هنات، فلا أدري أيحل لي أم لا. فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى، وفيما غبر، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة ؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولا تزنين. فقالت هند: أو تزني الحرة ؟ فتبسم عمر بن الخطاب لما جرى بينه وبينها في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولا تقتلن أولادكن. فقالت هند: ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر. فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولما قال: ولا تأتين ببهتان، فقالت هند: والله إن البهتان قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. ولما قال: ولا يعصينك في معروف، فقالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شئ. وروى الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية (أن لا يشركن بالله شيئا)، وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد امرأة قط إلا يد امرأة يملكها. رواه البخاري في الصحيح. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بايع النساء، دعا بقدح ماء، فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن فيه. وقيل: إنه كان يبايعهن من وراء الثوب، عن الشعبي. والوجه في بيعة النساء مع أنهن لسن من أهل النصرة بالمحاربة، هو أخذ العهد عليهن بما يصلح من شأنهن في الدين، والأنفس، والأزواج. وكان ذلك في صدر الإسلام، ولئلا ينفتق بهن فتق، لما وضع من الأحكام، فبايعهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسما لذلك. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) أي لا تتولوا اليهود. وذلك أن جماعة من فقراء المسلمين، كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين، يتواصلون إليهم بذلك، فيصيبون من ثمارهم، فنهى الله عن ذلك، عن المقاتلين. وقيل: أراد جميع الكفاز أي لا تتخذوا كافرا من الكفار أولياء. ثم وصف الكفار فقال: (قد يئسوا من الآخرة، أي من ثواب الآخرة (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) يعني أن اليهود بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يعرفون صدقه، وأنه رسول، قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة حظ وخير، كما يئس الكفاس الذين ماتوا وصاروا في القبور، من أن يكون لهم في الاخرة حظ، لأنهم
[ 458 ]
قد أيقنوا بعذاب الله عن مجاهد، وسعيد بن جبير. وقيل: كما يئس كفار العرب من أن يحيا أهل القبور أبدا، عن الحسن. وقيل: كما يئس الكفار من أن ينالهم خير من أصحاب القبور. وقيل: يريد بالكفار ههنا الذين يدفنون الموتى أي: يئس هؤلاء الذين غضب الله عليهم من الآخرة، كما يئس الذين دفنوا الموتى منهم. النظم: ختم الله سبحانه السورة بالأمر بقطع الموالاة من الكفار، كما افتتحها
[ 459 ]
61 - سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة وتسمى سورة الحواريين، وسورة عيسى عليه السلام، مدنية وهي أربع عشرة آية، بلا خلاف. فضلها: أبي بن كب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ سورة عيسى عليه السلام كان عيسى مصليا عليه، مستغفرا له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه). أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ سورة الصف، وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله، صفه الله مع ملائكته، وأنبيائه المرسلين. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه السورة بقطع موالاة الكفار، افتتح هذه السورة بإيجاب ذلك، ظاهرا وباطنا، ثم بالأمر بالجهاد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم (1) يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص (4) وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفسقين (5)). اللغة: المقت: البغض. والرص: إحكام البناء، يقال: رصصت البناء أي أي
[ 460 ]
أحكمته. وأصله من الرصاص أي جعلته كانه بني بالرصاص. لتلاؤمه وشدة اتصاله. الاعراب: (لم): حذفت الألف من ما لشدة الإتصال مع ضعف حرف الإعتلال آخر الكلام، لأنه حرف تعيير في موضع تعيير. (مقتا): نصب على التمييز. و (أن تقولوا): في موضع رفع بأنه فاعل (كبر) والتقدير: كبر هذا القول مقتا عند الله. وقيل: إن الفاعل مضمر فيه، والتقدير: كبر المقت مقتا عند الله، نحو: نعم رجلا زيد. والمخصوص بالذم (أن تقولوا). (صفا): مصدر في موضع الحال أي مصطفين. النزول: نزل قوله: (لم تقولون ما لا تفعلون) في المنافقين، عن الحسن. وقيل: نزل في قوم كانوا يقولون: إذا لقينا العدو لم نفر، ولم نرجع عنهم. ثم لم يفوا بما قالوا، وانفلوا يوم أحد حتى شج وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته، عن مقاتل والكلبي. وقيل: نزلت في قوم قالوا: جاهدنا، وأبلينا، وفعلنا، ولم يفعلوا، وهم كذبة، عن قتادة (1). وقيل: لما أخبر الله سبحانه رسوله بثواب شهداء بدر، قالت الصحابة. لئن لقينا بعد قتالا، لنفرغن فيه وسعنا، ثم فروا يوم أحد، فعيرهم الله تعالى بذلك، عن محمد بن كعب. وقيل: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون: وددنا لو أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فاخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه، والجهاد. فكره ذلك ناس، وشق عليهم، وتباطأوا عنه، فنزلت الاية، عن ابن عباس. وقيل: كان رجل يوم بدر، قد آذى المسلمين، فقتله صهيب في القتال، فقال رجل: يا رسول الله ! قتلت فلانا. ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمرو عبد الرحمن لصهيب. أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنك قتلته، وإن فلانا ينتحله ! فقال صهيب: إنما قتلته لله ولرسوله. فقال عمرو (2) عبد الرحمن: يا رسول الله ! إنما قتله صهيب. فقال: كذلك يا أبا يحيى ؟ قال: نعم يا رسول الله. فنزلت الاية، والاية الأخرى، عن سعيد بن المسيب. المعني: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) مر تفسيره وإنما اعيد ههنا، لأنه استفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبح له بالاية (1) في نسخة: مقاتل بدل قتادة. (2) في نسخة عمرو بن عبد الرحمن في الموضعين. (*)
[ 461 ]
التي فيه، كما يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم. وإذا دخل المعنى في تعظيم الله، حسن الإستفتاح به (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) قيل: إن الخطاب للمنافقين، وهو تقريع لهم بأنهم يظهرون الإيمان، ولا يبطنونه. وقيل: إن الخطاب للمؤمنين، وتعيير لهم أن يقولوا شيئا، ولا يفعلونه، فال الجبائي: هذا على ضربين أحدهما: أن يقول سأفعل، ومن عزمه أن لا يفعله، فهذا قبيح مذموم والاخر: أن يقول سأفعل ومن عزمه أن يفعله، والمعلوم أنه لا يفعله، فهذا قبيح، لأنه لا يدري أيفعله أم لا، ولا ينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظة: إن شاء الله. (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) أي كبر هذا القول، وعظم مقتا عند الله، وهو أن تقولوا ما لا تفعلونه. وقيل: معناه كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه، وتعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتا عند الله (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا. وقيل: يقاتلون في سبيله مصطفين (كأنهم بنيان مرصوص) كأنه بني بالرصاص لتلاؤمه، وشدة اتصاله. وقيل: كأنه حائط ممدود، رص على البناء في إحكامه واتصاله واستقامته. أعلم الله سبحانه أنه يحب من ثبت في القتال، ويلزم مكانه كثبوت ألبناء المرصوص، ومعنى محبة الله إياهم أنه يريد ثوابهم ومنافعهم. ثم ذكر سبحانه حديث موسى عليه السلام في صدق نيته، وثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيبهم إياه فقال: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) هذا إنكار عليهم إيذاءه بعد ما علموا أنه رسول الله، والرسول يعظم، ويبجل، ولا يؤذى. وكان قومه آذوه بأنواع من الأذى، وهو قولهم: (اجعل لنا إلها)، و (اذهب أنت وربك فقاتلا). وما روي في قصة قارون أنه دس إليه امرأة، وزعم أنه زنى بها، ورموه بقتل هارون. وقيل: إن ذلك حين رموه بالأدرة، وقد ذكرنا ذلك عند قوله: (ولا تكونوا كالذين اذوا موسى) الاية. (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) أي فلما مالوا عن الحق والإستقامة، خلاهم وسوء اختيارهم، ومنعهم الألطاف التي يهدي بها قلوب المؤمنين، كقوله (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) عن أبي مسلم. وقيل: أزاغ الله قلوبهم عما يحبون (الى ما يكرهون. ولا يجوز أن يكون المراد: أزاغ الله قلوبهم عن الإيمان، لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الإيمان. وأيضا فإنه يخرج الكلام عن الفائدة، لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان، فقد حصلوا كفارا، فلا معنى لقوله أزاغهم
[ 462 ]
الله عن الإيمان. (والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي لا يهديهم الله إلى الثواب، والكرامة، والجنة التي وعدها المؤمنين. وقيل: لا يفعل بهم الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين، بل يخليهم واختيارهم، عن أبي مسلم. (وإذ قال عيسى ابن مريم يبنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينت قالوا هذا سحر مبين (6) ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدى القوم الظلمين (7) يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكفرون (8) هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)). القراءة: فتح أهل البصرة والحجاز وأبو بكر الياء من قوله: (من بعدي اسمه أحمد). ولم يفتحه الباقون. وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة، غير أبي بكر: (متم نوره) مضافا. والباقون: (متم نوره) بالنصب والتنوين. الحجة: الإضافة ينوي بها الإنفصال، كما في قوله: (إنا مرسلو الناقة)، و (ذائقة الموت). والنصب في (متم نوره) على أنه في حال الفعل، وفيما ياتي. الاعراب: قوله (اسمه أحمد). في موضع جر لكرنه وصفا للرسول، كما أن قوله (يأتي) في موضع جر أيضا، وتقديره اسمه قول أحمد، فحذف المضاف، واقيم المضاف إليه مقامه، وكذلك قوله (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة) أي يجدون ذكره مكتوبا. ألا ترى أن الشخص لا يكتب كما أن أحمد عبارة عن الشخص، والإسم قول، والقول لا يكون الشخص. وخبر المبتدأ يكون المبتدأ في المعنى. ومفعول قوله (يريدون) محذوف، وتقديره يريدون ذم الإسلام، أو يريدون هذا القول (ليطفئوا نور الله) أي: لإطفاء نور الله. (والله متم نوره): في موضع نصب على الحال. المعنى: ثم عطف سبحانه بقصة عيسى عليه السلام على قصة موسى، فقال: (وإذ قال عيمس ابن مريم) أي واذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة) المنزلة على موسى
[ 463 ]
(ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد) يعني نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الشاعر: صلى الاله، ومن يحف بعرشه، والطيبون، على المبارك أحمد ولهذا الإسم معنيان أحدهما: أن يجعل أحمد مبالغة من الفاعل أي: هو أكثر حمدا لله من غيره والاخر: أن يجعل مبالغة من المفعول أي: يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن، أكثر مما يحمد غيره. وصحت الرواية عن الزهري، عن محمد بن جبيربن المطعم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لي أسماء أنا أحمد، وأنا محمد، أنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي) أورده البخاري في الصحيح. وقد تضمنت الاية أن عيسى بشر قومه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبنبوته، وأخبرهم برسالته. وفي هذه البشرى معجزة لعيسى عليه السلام عند ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر لأمته أن يؤمنوا به عند مجيئه. (فلما جاءهم) أحمد (بالبينات) أي بالدلالات الظاهرة، والمعجزات الباهرة (قالوا هذا سحر مبين) أي ظاهر (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب) أي من أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله، وقال لمعجزاته: سحر، وللرسول: إنه ساحر كذاب. (وهو يدعى إلى الإسلام) الذي فيه نجاته. وقيل: يدعى إلى الإستسلام لأمره، والإنقياد لطاعته (والله لا يهدي القوم الظالمين) الذين ظلموا أنفسهم بفعل الكفر والمعاصي. قال ابن جريج: هم الكفار والمنافقون، ويدل عليه قوله بعد: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) أي يريدون إذهاب نور الإيمان والإسلام بفاسد الكلام الجاري مجرى تراكم الظلام، فمثلهم فيه كمثل من حاول إطفاء نور الشمس بفيه. (والله متم نوره) أي مظهر كلمته، ومؤيد نبيه، ومعلن دينه وشريعته، ومبلغ ذلك غايته. (ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله) محمدا صلى الله عليه وآله وسلم (بالهدى) من التوحيد، وإخلاص العبادة له (ودين الحق) وهو دين الإسلام، وما تعبد به الخلق (ليظهره على الدين كله) بالحجة، والتاييد، والنصرة (ولو كره المشركون) وفي هذه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سبحانه قد أظهر دينه على جميع
[ 464 ]
الأديان بالإستعلاء والقهر وإعلاء الشأن، كما وعده ذلك في حال الضعف، وقلة الأعوان. وأراد بالدين جنس الأديان، فلذلك أدخل الألف واللام. وروى العياشي بالإسناد عن عمران بن ميثم، عن عباية، أنه سمع أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)، أظهر بعد ذلك ؟ قالوا: نعم. قال: كلا فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية، إلا وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا الله، بكرة وعشيا. (يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجرة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون في سبيل الله بأمولكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر ومسكن طيبة في جنت عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله فامنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين (14)). القراءة: قرأ ابن عامر: (تنجيكم) بالتشديد. والباقون: (تنجيكم) بالتخفيف. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو: (أنصارا) بالتنوين (لله) بغير ألف. والباقون: (أنصار الله) بالإضافة إلى الله. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (تنجيكم) بالتشديد قوله: (ونجينا الذين امنوا). وحجة التخفيف: (فأنجاه الله من النار). اللغة: التجارة: طلب الربح في شراء المتاع، واستعير هنا لطلب الربح في أعمال الطاعة. والجهاد: مقاتلة العدو. الاعراب: إنما جاز (تؤمنون بالله) مع أنه محمول على تجارة، وخبر عنها، ولا يصح أن يقال للتجارة تؤمنون، وإنما يقال (1): وإن تؤمنوا بالله، لأنه جاء على (1) كذا في النسخ والظاهر زيادة الواو. (*)
[ 465 ]
طريق ما يدل على خبر التجارة، لا على نفس الخبر. إذ الفعل يدل على مصدره، وإنما انعقاده بالتجارة في المعنى لا في اللفظ. وفي ذلك توطئة لما يبنى على المعنى في الإيجاز (1). والعرب تقول: هل لك في خير تقوم إلى فلان فتعوده، وأن تقوم إليه. وقوله: (يغفر لكم ذنوبكم) في كونه مجزوما وجهان أحدهما: إنه جواب (هل أدلكم)، وهو قول الفراء. وأنكره أصحابنا البصريون وقالوا: إن الدلالة على التجارة، لا توجب المغفرة والاخر: إنه محمول على المعنى، لأن قوله (تؤمنون بالله) معناه امنوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيله، وهو أمر جاء على لفظ الخبر، ويدل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود (آمنوا بالله وجاهدوا)، ولا يمتنع أن يأتي الأمر بلفظ الخبر، كما أتى الخبر بلفظ الأمر في قوله: (فليمدد له الرحمن مدا) المعنى: فمد له الرحمن مدا، لأن القديم تعالى لا يأمر نفسه. ومثل ذلك (أسمع بهم وأبصر) لفظه أمر، ومعناه خبر. ويجوز أن يكون قوله (تؤمنون) مرفوعا بسقوط أن، والموصول والصلة في موضمع جر على البدل من (تجارة) وتقديره: هل أدلكم على تجارة إيمان بالله. وقوله وأخرى: في موضع جر بأنها صفة لموصوف محذوف مجرور بالعطف علي تجارة، تقديره وعلى تجارة أخرى محبوبة. وقال الزجاج: تقديره ولكم تجارة اخرى. فعلى هذا يكون (أخرى) صفة موصوف محذوف، مرفوع بالإبتداء. و (تحبونها): صفة بعد صفة. و (نصر): خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي نصر من الله. (من أنصاري إلى الله) إلى ههنا بمعنى مع أي: مع الله. المعنى: لما تقدم ذكر الرسول، عقبه سبحانه بذكر الدعاء إلى قبول قوله، ونصرته، والعمل بشريعته فقال: (يا أيها الذين آمنوا) وهو خطاب للمؤمنين على العموم. وقيل: هو خطاب لمن تقدم ذكرهم في أول السورة (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) صورته صورة العرض، والمراد به الأمر، على سبيل التلطف في الإستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة، والمعنى: هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب الأليم، وهو الإيمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وذلك قوله (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) وإنما أنزل هذا لما قالوا: لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله، (1) في المخطوطة: (الإتجار) بدل (الإيجاز). (*)
[ 466 ]
لعملناه. فجعل الله سبحانه ذلك العمل بمنزلة التجارة، لأنهم يربحون فيها رضى الله، والفوز بالثواب، والنجاة من العقاب. (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أي ما وصفته وذكرته لكم، أنفع لكم، وخير عاقبة، لو علمتم ذلك، واعترفتم بصحته. وقيل: إن معناه أن التجارة التي دللتكم عليها، خير لكم من التجارة التي أنتم مشتغلون بها، لأنها تؤدي إلى ربح لا يزول، ولا يبيد، وهذه تؤدي إلى ربح يزول ويبيد، إن كنتم تعلمون مضار الأشياء ومنافعها، يغفر لكم ذنوبكم، فإنكم إن علمتم بذلك (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة) أي مواضع تسكنونها مستلذة مستطابة (في جنات عدن) أي إقامة لا تبغون عنها حولا. (ذلك الفوز العظيم) لا ما يعده الناس فوزا من طول البقاء، وولاية الدنيا. وسال الحسن عمران بن الحصين، وأبا هريرة، عن تفسير قوله (ومساكن طيبة في جنات عدن) فقالا: على الخبير سقطت، سالنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: قصر من لؤلؤ في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة. قال: ويعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة، ما يأتي على ذلك كله. ثم قال سبحانه: (وأخرى تحبونها) أي وتجارة أخرى، أو خصلة أخرى، تحبونها عاجلا مع ثواب الآجل. وهذا من الله تعالى زيادة ترغيب، إذ علم سبحانه أن فيهم من يحاول عاجل النصر، إما رغبة في الدنيا، وإما تأييدا للدين، فوعدهم ذلك بأن قال: (نصر من الله وفتح قريب) أي تلك الخصلة، أو تلك التجارة، نصر من الله لكم على أعدائكم، وفتح قريب لبلادهم، يعني: النصر على قريش، وفتح مكة، عن الكلبي. وقيل: يريد فتح فارس والروم، وسائر فتوح الإسلام، على العموم، عن عظاء. وقريب معناه قريب كونه. وقيل: قريب منكم، يقرب الرجوع منه إلى أوطانكم (وبشر المؤمنين) أي بشرهم بهذين الثوابين، عاجلا وآجلا، على الجهاد، وهو النصر في الدنيا، والجنة في العقبى. ثم حض سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا
[ 467 ]
أنصار الله) أي أنصار دينه، وأعوان نبيه. وإنما أضاف إلى نفسه، كما يقال للكعبة: بيت الله. وقيل لحمزة بن عبد المطلب: أسد الله. والمعنى: دوموا على ما أنتم عليه من النصرة. (كما قال عيسى بن مريم) أي مثل قول عيسى بن مريم (للحواريين)، وهم خاصة الأنبياء، وسموا بذلك لأنهم أخلصوا من كل عيب، عن الزجاج. وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وقيل: لأنهم كانرا قصارين (من أنصاري إلى الله) والمعنى: قل يا محمد إني أدعوكم إلى هذا الأمر، كما دعا عيسى قومه فقال: من أنصاري مع الله ينصرني مع نصرة الله إياي. وقيل: إلى الله أي: فيما يقرب إلى الله، كما يقال: اللهم منك وإليك. (قال الحواريون نحن أنصار الله) أي أنصار دين الله، وأولياء الله. وقيل: إنهم إنما سموا نصارى لقولهم: نحن أنصار الله. (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) أي صدقت بعيسى (وكفرت طائفة) أخرى به قال ابن عباس، يعني: في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع، تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت كان الله فارتفع. وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون. واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. وذلك قوله: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) أي: عالين غالبين. وقيل: معناه أصبحت حجة من آمن بعيسى، ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان عيسى كلمة الله وروحه، عن إبراهيم. وقيل: بل أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى، عن مجاهد. وقيل: معناه فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرت طائفة به، فاصبحوا قاهرين لعدوهم بالحجة والقهر والغلبة، وبالله التوفيق. (تم الجزء التاسع من التفسير) ويليه الجزء العاشر والأخير ما أنتم عليه من النصرة. (كما قال عيسى بن مريم) أي مثل قول عيسى بن مريم (للحواريين)، وهم خاصة الأنبياء، وسموا بذلك لأنهم أخلصوا من كل عيب، عن الزجاج. وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وقيل: لأنهم كانرا قصارين (من أنصاري إلى الله) والمعنى: قل يا محمد إني أدعوكم إلى هذا الأمر، كما دعا عيسى قومه فقال: من أنصاري مع الله ينصرني مع نصرة الله إياي. وقيل: إلى الله أي: فيما يقرب إلى الله، كما يقال: اللهم منك وإليك. (قال الحواريون نحن أنصار الله) أي أنصار دين الله، وأولياء الله. وقيل: إنهم إنما سموا نصارى لقولهم: نحن أنصار الله. (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) أي صدقت بعيسى (وكفرت طائفة) أخرى به قال ابن عباس، يعني: في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع، تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت كان الله فارتفع. وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون. واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. وذلك قوله: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) أي: عالين غالبين. وقيل: معناه أصبحت حجة من آمن بعيسى، ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان عيسى كلمة الله وروحه، عن إبراهيم. وقيل: بل أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى، عن مجاهد. وقيل: معناه فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرت طائفة به، فاصبحوا قاهرين لعدوهم بالحجة والقهر والغلبة، وبالله التوفيق. (تم الجزء التاسع من التفسير) ويليه الجزء العاشر والأخير وأوله سورة الجمعة