تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 10
ما أنتم عليه من النصرة. (كما قال عيسى بن مريم) أي مثل قول عيسى بن مريم (للحواريين)، وهم خاصة الأنبياء، وسموا بذلك لأنهم أخلصوا من كل عيب، عن الزجاج. وقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وقيل: لأنهم كانرا قصارين (من أنصاري إلى الله) والمعنى: قل يا محمد إني أدعوكم إلى هذا الأمر، كما دعا عيسى قومه فقال: من أنصاري مع الله ينصرني مع نصرة الله إياي. وقيل: إلى الله أي: فيما يقرب إلى الله، كما يقال: اللهم منك وإليك. (قال الحواريون نحن أنصار الله) أي أنصار دين الله، وأولياء الله. وقيل: إنهم إنما سموا نصارى لقولهم: نحن أنصار الله. (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) أي صدقت بعيسى (وكفرت طائفة) أخرى به قال ابن عباس، يعني: في زمن عيسى عليه السلام، وذلك أنه لما رفع، تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت كان الله فارتفع. وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون. واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتى بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. وذلك قوله: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) أي: عالين غالبين. وقيل: معناه أصبحت حجة من آمن بعيسى، ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان عيسى كلمة الله وروحه، عن إبراهيم. وقيل: بل أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى، عن مجاهد. وقيل: معناه فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرت طائفة به، فاصبحوا قاهرين لعدوهم بالحجة والقهر والغلبة، وبالله التوفيق. (تم الجزء التاسع من التفسير) ويليه الجزء العاشر والأخير وأوله سورة الجمعة
[ 1 ]
مجمع البيان 10
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القرآن تأليف أمين السلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من اعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الاخصائيين قدم له الامام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي الجزء العاشر منشورات مؤسسة الأععلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب 7120
[ 4 ]
الطبعة الأولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة وإخراج فني عصري جيد وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه - 1995 م
[ 5 ]
62 - سورة الجمعة مدنية وآياتها احدى عشرة وهي إحدى عشرة آية بالإجماع فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ومن قرأ من سورة الجمعة أعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين ". منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة، أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك، وفي صلاة الظهر بالجمعة، والمنافقين. فإذا فعل ذلك فكأنما يعمل عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنة تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة الصف، بالترغيب في عبادته، والدعاء إليها، وذكر تأييد المؤمنين بالنصر والظهور على الأعداء، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك، وعلى جميع الأشياء فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم 1 هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 2 وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم 3 ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم 4 مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين 5).
[ 6 ]
اللغة: الأسفار: الكتب، واحدها سفر، وإنما سمي بذلك لأنه يكشف عن المعنى بإظهاره، يقال: سفر الرجل عمامته إذا كشفها. وسفرت المرأة عن وجهها فهي سافرة، ومنه: (والصبح إذا أسفر). الإعراب: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين): إن هذه مخففة من إن ولهذا لزمها اللام الفارقة في خبر كان، لئلا يلتبس بإن النافية (وآخرين): مجرورة لأنه صفة محذوف معطوف على (الأميين) أي: وفي قوم آخرين. ويحتمل أن يكون منصوبا بالعطف على (هم) في (يعلمهم). (يحمل أسفارا): في موضع النصب على الحال. (بئس مثل القوم): المخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله مثلهم. فيكون (الذين) في موضع جر. ويجوز أن يكون التقدير: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعلى هذا يكون (الذين) في موضع رفع، وهو المخصوص بالذم. المعنى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الارض) أي ينزهه سبحانه كل شئ، ويشهد له بالوحدانية والربوبية، بما ركب فيها من بدائع الحكمة، وعجائب الصنعة الدالة على أنه قادر، عالم، حي، قديم، سميع، بصير، حكيم، لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شئ. وإنما قال مرة سبح، ومرة يسبح، إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي والمستقبل (الملك) أي القادر على تصريف الاشياء (القدوس) أي المستحق للتعظيم، الطاهر عن كل نقص (العزيز) القادر الذي لا يمتنع عليه شئ (الحكيم) العالم الذي يضع الاشياء موضعها (هو الذي بعث في الاميين) يعني العرب. وكانت أمة أمية، لا تكتب ولا تقرأ، ولم يبعث إليهم نبي، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: يعني أهل مكة، لان مكة تسمى أم القرى. (رسولا منهم) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نسبه نسبهم، وهو من جنسهم كما قال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) ووجه النعمة في أنه جعل النبوة في أمي، موافقته لما تقدمت البشارة به في كتب الانبياء السالفة، ولانه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم التي تلاها، والكتب التي قرأها، وأقرب إلى العلم بأن ما يخبرهم به من أخبار الامم الماضية، والقرون الخالية، على وفق ما في كتبهم، ليس ذلك إلا بالوحي (يتلوا عليهم آياته) أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام، والحجج والاحكام. (ويزكيهم) أي ويطهرهم من الكفر
[ 7 ]
والذنوب، ويدعوهم إلى ما يصيبون به أزكياء. (ويعلمهم الكتاب والحكمة) الكتاب القرآن، والحكمة الشرائع. وقيل: إن الحكمة تعم الكتاب والسنة، وكل ما أراده الله تعالى، فإن الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يجتبى، أو يجتنب من أمور الدين والدنيا. (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) معناه: وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلا في عدول عن الحق وذهاب عن الدين بين ظاهر (وآخرين منهم) أي ويعلم آخرين من المؤمنين (لما يلحقوا بهم) وهم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم، وشريعته تلزمهم، وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة، عن مجاهد وابن زيد. وقيل: هم الاعاجم، ومن لا يتكلم بلغة العرب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى من شاهده، وإلى كل من بعدهم من العرب والعجم، عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الاية، فقيل له: من هؤلاء ! فوضع يده على كتف سلمان وقال: " لو كان الايمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء ". وعلى هذا فإنما قال (منهم) لانهم إذا أسلموا صاروا منهم، فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم، وأمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، كما قال سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم ليسوا ممن عناهم الله تعالى بقوله (وآخرين منهم) وإن كان مبعوثا إليهم بالدعوة لقوله سبحانه: (ويزكيهم ويعلمهم) ومن لم يؤمن فليس ممن زكاه وعلمه القرآن والسنة. وقيل: إن قوله (لما يلحقوا بهم) يعني في الفضل والسابقة، فإن التابعين لا يدركون شأن السابقين من الصحابة، وخيار المؤمنين. (وهو العزيز) الذي لا يغالب (الحكيم) في جميع أفعاله. (ذلك فضل الله) يعني النبوة التي خص الله بها رسوله، عن مقاتل (يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة، وتحمل أعباء الرسالة. (والله ذو الفضل العظيم) ذو المن العظيم على خلقه ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وروى محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم يرفعه قال: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله ! إن للاغنياء ما يتصدقون، وليس لنا ما نتصدق، ولهم ما يحجون، وليس لنا ما نحج، ولهم ما يعتقون، وليس لنا ما نعتق ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " من كبر الله مائة مرة كان أفضل من عتق رقبة، ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في
[ 8 ]
سبيل الله يسرجها ويلجمها، ومن هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد. فبلغ ذلك الاغنياء فقالوه، فرجع الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله ! قد بلغ الاغنياء ما قلت فصنعوه ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ". ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال: (مثل الذين حملوا التوراة) أي كلفوا القيام بها، والعمل بما فيها (ثم لم يحملوها) حق حملها من أداء حقها، والعمل بموجبها، لانهم حفظوها ودونوها في كتبهم، ثم لم يعملوا بما فيها (كمثل الحمار يحمل أسفارا) لان الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره، لا يحس بما فيها. فمثل من يحفظ الكتاب، ولا يعمل بموجبه، كمثل من لا يعلم ما فيما يحمله. قال ابن عباس: فسواء حمله على ظهره، أو جحده، إذا لم يعمل به. وعلى هذا فمن تلا القرآن، ولم يفهم معناه، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، كان هذا المثل لاحقا به، وإن حفظه، وهو طالب لمعناه، فليس من أهل هذا المثل. وأنشد أبو سعيد الضرير في ذلك: زوامل للاسفار لا علم عندهم * بجيدها إلا كعلم الاباعر لعمرك ما يدري المطي إذا غدا * بأسفاره إذ راح ما في الغرائر (1) (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) معناه بئس القوم قوم هذا مثلهم، لانه سبحانه ذم مثلهم، والمراد به من ذمهم، واليهود كانوا بالقرآن والتوراة، حين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (والله لا يهدي القوم الظالمين) أي لا يفعل بهم من الالطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون. وقيل: لا يثيبهم ولا يهديهم إلى الجنة. وعن محمد بن مهران قال: يا أهل القرآن ! اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، وتلا هذه. (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (6) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله (1) قائله مروان بن سليمان. وزوامل جمع الزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع. وفي اللسان: " للاشعار " بدل " للاسفار ". " وبأرساقه " مكان " بأسفاره ". وقال: إنه هجا قوما من رواة الشعر. (*)
[ 9 ]
عليم بالظلمين (7) قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم تعملون (8) يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10) وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجرة والله خير الرزقين (11)). اللغة: الزعم: قول عن ظن أو علم، ولذلك صار من باب الظن والعلم، وعمل ذلك العمل قال: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم، * فإني شريت الحلم بعدك بالجهل والاولياء: جمع ولي، وهو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة، والله ولي المؤمنين لانه يوليهم النصرة عند حاجتهم، والمؤمن ولي الله لهذه العلة. ويجوز أن يكون لانه يولي المطيع له نصرة عند حاجته. والتمني هو قول القائل لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل، وهو من جنس الكلام، عن الجبائي والقاضي. وقال أبو هاشم: هو معنى في النفس يوافق هذا القول. والجمعة والجمعة لغتان، وجمعها جمع جمعات. قال الفراء: وفيها لغة ثالثة جمعة بفتح الميم كضحكة (1)، وهمزة. وإنما سمي جمعة، لانه تعالى فرغ فيه من خلق الاشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات. وقيل: لانه تجتمع فيه الجماعات. وقيل: إن أول من سماها جمعة كعب بن لؤي، وهو أول من قال: " أما بعد ". وكان يقال للجمعة العروبة، عن أبي سلمة. وقيل: إن أول من سماها جمعة الانصار. قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة. وقيل: قبل أن تنزل الجمعة، قالت الانصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل (1) رجل ضحكة أي كثير الضحك. (*)
[ 10 ]
سبعة أيام وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك، فلنجعل يوما نجتمع فيه، فنذكر الله، عز وجل، ونشكره. وكما قالوا يوم السبت لليهود، ويوم الاحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة، وذلك لقلتهم. فأنزل الله تعالى في ذلك: (إذا نودي للصلاة) الاية. فهذه أول جمعة جمعت في الاسلام. فأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه فقيل: إنه قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرا حتى نزل قبا على عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة، خلت من شهر ربيع الاول، حين الضحى، فأقام بقبا يوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة قاصدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجده. وكانت هذه الجمعة أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الاسلام. فخطب في هذه الجمعة، وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، فيما قيل فقال: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الاجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الاخرة، وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل، ومخافة من ربه، عن صدق على ما تبغون من أمر الاخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، وحين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد. والذي صدق قوله، ونجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد).
[ 11 ]
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرا. ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، هو اجتباكم، وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة. النزول: قال جابر بن عبد الله: أقبلت عير، ونحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، فانفض الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر جلا، أنا فيهم. فنزلت الاية: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا). وقال الحسن، وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة. فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشية أن يسبقوا إليه، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا رهط، فنزلت الاية فقال: " والذي نفسي بيده ! لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا ". وقال المقاتلان: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، ثم أحد بني الخزوج، ثم حد بني زيد بن مناة، من الشام بتجارة. وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق، إلا أتته، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق، أو بر، أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه. فقدم ذات جمعة، وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر يخطب. فخرج الناس، فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لولا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء " وأنزل الله هذه الاية. وقيل: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط، عن الكلبي، عن ابن عباس. وقيل:
[ 12 ]
إلا أحد عشر رجلا، عن ابن كيسان. وقيل. إنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، في كل يوم مرة، لعير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة، عن قتادة ومقاتل. المعنى: لما تقدم ذكر اليهود في إنكارهم ما في التوراة، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطبهم بما يفحمهم، فقال: قل " يا محمد يا (أيها الذين هادوا) أي سموا يهودا (إن زعمتم أنكم أولياء لله) أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار لله، وأن الله ينصركم (من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)، أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم، واضطرابهم في دعواهم، وأنهم غير واثقين بذلك، فقال. (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) من الكفر والمعاصي (والله عليم بالظالمين) أي عالم بأفعالهم وأحوالهم. وقد تقدم تفسير الآيتين في سورة البقرة، وفيه معجزة للرسول، لأنه أخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعرفون من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذبهم، فكان الأمر كما قال. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال. " لو تمنوا لماتوا عن آخرهم ". قل " يا محمد إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " أي: إنكم وإن فررتم من الموت وكرهتموه، فإنه لا بد ينزل بكم ويلقاكم ويدرككم، ولا ينفعكم الهرب منه. وإنما قال: فإنه ملاقيكم " بالفاء سواء فروا منه، أو لم يفروا منه، فإنه ملاقيهم، مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، لأنه إذا كان الفرار بمنزلة السبب في ملاقاته، فلا معنى للتعرض للفرار، لأنه لا يباعد منه، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه في قوله: كل امرئ لاق ما يفر منه، والأجل مساق النفس، والهرب منه موافاته. وقال زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه، * ولو نال أسباب السماء بسلم ولا شك أنها تناله، هابها أو لم يهبها، ولكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية، فالهيبة لا معنى لها. وقيل: إن التقدير قل إن الموت هو الذي تفرون منه، فجعل (الذي) في موضع الخبر لا صفة للموت، ويكون فإنه، مستأنفا. ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة " أي ترجعون إلى الله الذي يعلم سركم وعلانيتكم يوم القيامة فينبئكم بما كنتم تعملون " في دار الدنيا ويجازيكم بحسبها. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) أي
[ 13 ]
إذا أذن لصلاة الجمعة، وذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة، وذلك لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نداء سواه. قال السايب بن زيد: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذن واحد بلال، فكان إذا جلس على المنبر، أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة. ثم كان أبو بكر وعمر كذلك، حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل، زاد أذانا، فأمر بالتاذين الأول على سطح دار له بالسوق، ويقال له الزوراء، وكان يؤذن له عليها. فإذا جلس عثمان على المنبر، أذن مؤذنه فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه. فاسعوا إلى ذكر الله " أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين، عن قتادة، وابن زيد، والضحاك. وقال الزجاج: معناه فامضوا إلى السعي الذي هو الإسراع. وقرأ عبد الله بن مسعود فامضوا إلى ذكر الله). وروي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وعمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وابن عباس، وهو المروي عن ابي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام وقال ابن مسعود: لو علمت الإسراع لأسرعت حتى يقع ردائي عن كتفي. وقال الحسن: ما هو السعي على الأقدام، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقيل: المراد بذكر الله الخطبة التي تتضمن ذكر الله والمواعط وذروا البيع، أي دعوا المبايعة قال الحسن كل بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة، فإنه بيع حرام لا يجوز. وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه. (ذلكم) يعني ما أمرتكم به من حضور الجمعة، واستماع الذكر، وأداء الفريضة، وترك البيع (خير لكم) وأنفع لكم عاقبة (إن كنتم تعلمون) منافع الأمور ومضارها، ومصالح أنفسكم ومفاسدها. وقيل. معناه إعلموا ذلك، عن الجبائي. وفي هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة، وفي تحريم جميع التصرفات عند سماع أذان الجمعة، لأن البيع إنما خص بالنهي عنه لكونه من أعم التصرفات في أسباب المعاش. وفيها دلالة على أن الخطاب للأحرار لأن العبد لا يملك البيع، وعلى اختصاص الجمعة بمكان، ولذلك أوجب السعي إليه، وفرض الجمعة لازم جميع المكلفين إلا أصحاب الأعذار من السفر، أو المرض، أو العمى، أو العرج، أو أن يكون امرأة أو شيخا هما لا حراك به، أو عبدا، أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع. وعند حصول هذه الشرائط لا يجب إلا عند حضور السلطان العادل، أو
[ 14 ]
من نصبه السلطان للصلاة. والعدد يتكامل عند أهل البيت عليهم السلام بسبعة. وقيل: ينعقد بثلاثة سوى الإمام، عن أبي حنيفة والثوري. وقيل: إنما ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين، عن الشافعي. وقيل. ينعقد باثنين سوى الإمام، عن أبي يوسف. وقيل: ينعقد بواحد كسائر الجماعات، عن الحسن وداود. والاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير موضعه كتب الفقه. (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) " يعني: إذا صليتم الجمعة، وفرغتم منها، فتفرقوا في الأرض (وابتغوا من فضل الله) أي واطلبوا الرزق في البيع والشراء. وهذا إباحة وليس بأمر وإيجاب. وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قوله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) " الاية: " ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله ". وقيل: المراد بقوله (وابتغوا من فضل الله) " طلب العلم، عن الحسن، وسعيد بن جبير، ومكحول. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الصلاة يوم الجمعة، والإنتشار يوم السبت. وروى عمرو بن زيد، عن أبي عبد الله قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال. أما تسمع قول الله عز اسمه. (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا، وطين عليه بابه، ثم قال: رزقي ينزل علي، كان يكون هذا ؟ أما إنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال، قلت: من هؤلاء الثلاثة ؟ قال: رجل تكون عنده المرأة فيدعو عليها، فلا يستجاب له، لأن عصمتها في يده، لو شاء أن يخلي سبيلها لخلى سبيلها. والرجل يكون له الحق على الرجل، فلا يشهد عليه، فيجحده حقه، فيدعو عليه فلا يستجاب له، لأنه ترك ما أمر به. والرجل يكون عنده الشئ فيجلس في بيته، فلا ينتشر، ولا يطلب، ولا يلتمس حتى يأكله، ثم يدعو فلا يستجاب له. (واذكروا الله كثيرا) " أي أذكروه على إحسانه، واشكروه على نعمه، وعلى ما وفقكم من طاعته، وأداء فرضه. وقيل: إن المراد بالذكر هنا الفكر، كما قال: (" تفكر ساعة خير من عبادة سنة) ". وقيل: معناه اذكروا الله في تجارتكم وأسواقكم، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه، كتب له ألف حسنة، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر
[ 15 ]
على قلب بشر ". لعلكم تفلحون " أي لتفلحوا وتفوزوا بثواب النعيم. علق سبحانه الفلاح بالقيام بما تقدم ذكره من أعمال الجمعة وغيرها. وصح الحديث عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من اغتسل يوم الجمعة، فأحسن غسسله، ولبس صالح ثيابه، ومس من طيب بيته أو دهنه، ثم لم يفرق بين اثنين، غفر الله له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام بعدها ". أورده البخاري في الصحيح. وروى سلمان التميمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن لله عزوجل، في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار، كلهم قد استوجب النار) ". ثم أخبر سبحانه عن جماعة قابلوا أكرم الكرم بألأم اللؤم، فقال: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) أي عاينوا ذلك. وقيل: معناه إذا علموا بيعا وشراء، أو لهوا، وهو الطبل، عن مجاهد. وقيل. المزامير، عن جابر (انفضوا إليها) أي تفرقرا عنك خارجين إليها، وقيل: مالوا إليها. والضمير للتجارة. وإنما خصت برد الضمير إليها، لأنها كانت أهم إليهم، وهم بها أسر من الطبل، لأن الطبل إنما دل على التجارة، عن الفراء. وقيل. عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به، وكأنه على حذف، والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه، فحذف إليه، لأن إليها يدل عليه. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: انصرفوا إليها. (وتركوك قائما) تخطب على المنبر. قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب إلا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس، فكذبه. وسئل عبد الله بن مسعود: أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما ؟ فقال: أما تقرأ (وتركوك قائما). وقيل: أراد قائما في الصلاة. ثم قال تعالى: (قل) يا محمد لهم (ما عند الله) من الثواب على سماع الخطبة، وحضور الموعظة، والصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خير) وأحمد عاقبة وأنفع (من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) " يرزقكم، وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة.
[ 16 ]
63 - سورة المنافقون مدنية وآياتها احدى عشرة مدنية بالإجماع، وهي إحدى عشرة آية. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ومن قرأ سورة المنافقين، برأ من النفاق ". تفسيرها: لما ختم الله سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق من ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما في الصلاة، أو في الخطبة، والإشتغال باللهو، وطلب الارتفاق افتتح هذه السورة بذكر المنافقين أيضا، فقال. بسم الله الرحممن الرحيم إذ جاءك المنافقون قالو نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقون لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعلمون (2) ذلك بانهم آمنوأ ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولو تسمع لقولهم، كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قتلهم الله أنى يوفكون (4) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) القراءة: قرأ أبو عمرو، غير عباس والكسائي: (خشب) ساكنة الشين.
[ 17 ]
والباقون: (خشب) بضمها. وقرأ نافع، وروح، عن يعقوب، وسهل: لووا بتخفيف الواو. والباقون. لووا " بتشديدها وهو اختيار أبي عبيدة. وفي الشواذ قراءة الحسن: اتخذوا إيمانهم " بالكسر. الحجة قال أبو علي: من قرأ خشب " جعله مثل بدنة وبدن، ومثله أسد وأسد، ووثن ووثن في قوله: إن يدعون من دونه إلا أثنا " قال سيبويه: هي قراءة. والتثقيل أن فعل قد جاء في نظيره. قالوا: أسد، كما قالوا في جمع ثمر: ثمر. قال الشاعر: يقدم إقداما عليكم كالأسد ". قال أبو الحسن: التحريك في خشب لغة أهل الحجاز. وحجة من قرأ (لووا) بالتخفيف قوله: ليا بألسنتهيم " فاللي مصدر لوى، مثل طوى طيا. والتثقيل لأن الفعل للجماعة فهو كقوله: (مفتحة لهم الأبواب) وقد جاء: " تلوية الخاتن زب المعذر " (1) أنشده أبو زيد. وقوله: (إيمانهم) بالكسر: هو على حذف المضاف أي. اتخذوا إظهار إيمانهم جنة. وقد مر أمثال ذلك. الغة: الجنة: السترة المتخذة لدفع الأذية كالسلاح المتخذ لدفع الجراح. والجنة: البستان الذي يجنه الشجر. والجنة: الجنون الذي يستر العقل. والفقه: العلم بالشئ. فقهت الحديث أفقهه. وكل علم فقه إلا لما اختص به علم الشريعة. وكل من علمها يقال إنه فقيه. وأفقهتك الشئ: بينت لك. وفقه الرجل بالضم. صار فقيها قال ابن دريد: الجسم: كل شخص مدرك، وكل عظيم الجسم جسيم وجسام. والأجسم: العظيم الجسم، قال الشاعر: وأجسم من عاد، جسوم رجالهم، * وأكثر إن عدوا عديد ا من الرمل واختلف المتكلمون في حد الجسم، فقال المحققون منهم: هو الطويل العريض العميق، ولذلك متى ازداد ذهابه في هذه الجهات الثلاث قيل: أجسم وجسيم. وقيل: هو المؤلف. وقيل: هو القائم بالنفس، ومعناه: أنه لا يحتاج إلى محل، والصحيح القول الأول. والأجسام: ما تأتلف من الجواهر، وهي أجزاء لا تتجزأ ائتلفت بمعان، يقال لها المؤتلفات، فإذا رفعت عنها بقيت أجزاء لا تتجزأ واختلف في أقل أجزاء الأجسام، والصحيح أنه ما تألف من ثمانية أجزاء. وقيل. من (1) الزب: الذكر. والمعذر: مفعول من أعذر الغلام والجارية: ختنهما. (*).
[ 18 ]
ستة أجزاء، عن أبي الهذيل. وقيل: من أربعة أجزاء، عن البلخي. الاعراب: (ساء ما كانوا يعملون): تقديره ساء العمل عملهم. فقوله: ما كانوا يعملون " موصول وصلة في موضع رفع بانه مبتدأ، أو خبر مبتدأ محذوف هو المخصوص بالذم. (أنى يؤفكون): أنى في موضع نصب على الحال، بمعنى كيف. والتقدير: أجاحدين يؤفكون. ويجوز أن يكون في محل النصب على المصدر، والتقدير: أئ إفك يؤفكون. وقيل: معناه من أين يؤفكون أي: يصرفون عن الحق بالباطل، عن الزجاج. فعلى هذا يكون منصوبا على الظرف. و (يصدون): في موضع نصب على الحال. المعنى: خاطب الله سبحانه نبيه فقال: (إذا جاءك) يا محمد (المنافقون) وهم الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، واشتقاقه من النفق والنافقاء، كما قال الشاعر: للمؤمنين أمور غير مخزية، * وللمنافق سر دونه نفق (قالوا نشهد إنك لرسول الله) " أي أخبروا بأنهم يعتقدون أنك رسول الله (والله يعلم) يا محمد (إنك لرسوله) على الحقيقة، وكفى بالله شهيدا (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) في قولهم إنهم يعتقدون أنك رسول الله، فكان إكذابهم في اعتقادهم، وأنهم يشهدون ذلك بقلوبهم، ولم يكذبوا فيما يرجع إلى ألسنتهم، لأنهم شهدوا بذلك، وهم صادقون فيه. وفي هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان، إنما هو بالقلب، ومن قال شيئا واعتقد خلافه، فهو كاذب. (اتخذوا أيمانهم جنة) " أي سترة يستترون بها من الكفر، لئلا يقتلوا، ولا يسبوا، ولا تؤخذ أموالهم (فصدوا عن سبيل الله) أي فاعرضوا بذلك عن دين الإسلام. وقيل: معناه منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق بان دعوهم إلى الكفر في الباطن. وهذا من خواص المنافقين، يصدون العوام عن الدين كما تفعل المبتدعة. (إنهم ساء ما كانوا يعملون) أي. بئس الذي يعملونه من إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والصد عن السبيل. (ذلك بانهم آمنوا) بالسنتهم عند الإقرار بلا إله إلا الله، محمد رسول الله. (ثم كفروا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا، عن قتادة. وقيل: معناه آمنوا ظاهرا عند النبي والمسلمين، ثم كفروا إذا خلوا بالمشركين. وإنما
[ 19 ]
قال (ثم كفروا) لأنهم جددوا الكفر بعد إظهار الإيمان. (فطبع على قلوبهم) أي ختم عليها بسمة تميز بها الملائكة بينهم وبين المؤمنين على الحقيقة. وقيل. لما ألفوا الكفر والعناد، ولم يصغوا إلى الحق، ولا فكروا في المعاد، خلاهم الله واختيارهم، وخذلهم، فصار ذلك طبعا على قلوبهم، وهو إلفهم إلى ما اعتادوه من الكفر، عن أبي مسلم. (فهم لا يفقهون) أي لا يعلمون الحق من حيث إنهم لا يتفكرون حتى يميزوا بين الحق والباطل. (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) بحسن منظرهم، وتمام خلقتهم، وجمال بزتهم (وإن يقولوا تسمع لقولهم) أي وإذا قالوا شيئا أصغيت إلى كلامهم، لحسن منطقهم، وفصاحة لسانهم، وبلاغة بيانهم. (كأنهم خشب مسندة) " أي كأنهم أشباح بلا أرواح. شبههم الله في خلوهم من العقول والأفهام بالخشب المسندة إلى شئ لا أرواح فيها. وقيل: إنه شبههم بخشب نخرة متأكلة، لا خير فيها، ويحسب من رآها أنها صحيحة سليمة من حيث إن ظاهرها يروق، وباطنها لا يفيد، فكذلك المنافق: ظاهره معجب رائع، وباطنه عن الخير زائغ. (يحسبون كل صيحة عليهم) وصفهم الله تعالى بالخور والهلع أي: يظنون كل صيحة يسمعونها كائنة عليهم، والمعنى: يحسبون أنها مهلكتهم، وأنهم هم المقصودون بها جبنا ووجلا، وذلك مثل أن ينادي مناد في العسكر، أو يصيح أحد بصاحبه، أو انفلتت دابة، أو أنشدت ضالة. وقيل: معناه إذا سمعوا صيحة ظنوا أنها آية منزلة في شأنهم، وفي الكشف عن حالتهم، لما عرفوا من الغش والخيانة في صدورهم، ولذلك قيل: المريب خائف. ثم أخبر سبحانه بعداوتهم فقال: (هم العدو) لك وللمؤمنين في الحقيقة (فاحذرهم) " أن تأمنهم على سرك، وتوقهم (قاتلهم الله) أي أخزاهم ولعنهم. وقيل. إنه دعاء عليهم بالهلاك، لأن من قاتله الله فهو مقتول، ومن غالبه فهو مغلوب. (أنى يؤفكون) أي أنى يصرفون عن الحق مع كثرة الدلالات. وهذا توبيخ وتقريع وليس باستفهام، عن أبي مسلم. وقيل: معناه كيف يكذبون من الإفك (وإذا قيل لهم تعالوا) أي هلموا (يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم) " أي أكثروا تحريكها بالهزء لها استهزاء بدعائهم إلى ذلك. وقيل: أمالوها إعراضا عن الحق، وكراهة لذكر النبي، وذلك لكفرهم واستكبارهم (ورأيتهم) " يا محمد
[ 20 ]
(يصدون) " عن سبيل (الله) (1) الحق (وهم مستكبرون) " أي متكبرون مظهرون أنه لا حاجة لهم إلى الإستغفار. (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأزض ولكن المنافقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون (8) يايها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخسرون (9) وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذاجآء أجلها والله خبير بما تعملون (11)) القراءة: قرأ أبو عمرو. (وأكون) " بالنصب. والباقون: (وأكن) " بالجزم. وقرأ حماد ويحيى: (بما يعملون) " بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: من قرأ (وأكن) عطفه على موضع قوله (فأصدق)، لأنه في موضع فعل مجزوم. ألا ترى أنك إذا قلت: أخرني أصدق، كان جزما بأنه جواب الجزاء، وقد أغنى السؤال عن ذكر الشرط، والتقدير: أخرني فإنك إن تؤخرني أصدق. فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم، بانه جواب الشرط، حمل قوله (وأكن) عليه، ومثل ذلك قوله: (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) لما كان (فلا هادي له) " في موضع فعل مجزوم، حمل (ويذرهم) عليه. ومثل ذلك قول الشاعر: (ا) ما بين المعقفتين غير موجود في المخطوطتين. (*)
[ 21 ]
فأبلوني بليتكم لعلي * أصالحكم وأستدرج نويا (1) حمل واستدرج على موضع الفاء المحذوفة وما بعدها من (لعلي) "، وكذلك قوله: أيا سلكت فإنني لك كاشح، * وعلى انتقاصك في الحياة وازدد (2) حمل وازدد على موضع الفاء وما بعدها. وأما قول أبي عمرو (وأكون) " فإنما حمله على اللفظ دون الموضع، وكان الحمل على اللفظ أولى لظهوره في اللفظ وقربه. وزعموا أن في حرف أبي (فأتصدق وأكون) ". ومن قرأ (بما يعملون) بالياء، فعلى قوله (ولن يؤخر الله نفسا) لأن النفس وإن كان واحدا في اللفظ، فالمراد به الكثرة. ومن قرأ بالتاء كان خطابا شائعا. اللغة: الإنفضاض: التفرق. وفض الكتاب إذا فرقه ونشره. وسميت الفضة فضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة، وكل شئ يشغلك عن شئ فقد ألهاك عنه، قال: ألهى بني جشم عن كل مكرمة * قصيدة قالها عمرو بن كلثوم وقال امرؤ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت، ومرضع، * فألهيتها عن ذي تمائم محول (3) النزول: نزلت الايات في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحرث بن أبي ضرار، أبو جويرية زوج النبي. فلما سمع بهم رسول الله، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم، يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل. فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل منهم من قتل، ونفل رسول الله أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم. فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن سعيد، (1) الشعر في (جامع الشواهد). (2) الكاشح: العدو المبغض. (3) الشعر من (المعلقات)، وقد مر بمعناه في ما سبق فراجع. (*).
[ 22 ]
يقود له فرسه، فازدحم جهجاه، وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج، على الماء، فاقتتلا. فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار ! وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين ! فاعان الغفاري رجل من المهاجرين، يقال له جعال، وكان فقيرا، فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك. فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك. واشتد لسان جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والذي يحلف به لأزرنك ويهمك غير هذا. وغضب ابن أبي، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، حديث السن، فقال ابن أبي: قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: " (سمن كلبك ياكلك) " أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل ! يعني بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام، لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم، ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم. أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين. والله لا أحبك بعد كلامك هذا. فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو، فاخبره الخبر. فامر رسول الله بالرحيل، وأرسل إلى عبد الله فاتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك ؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب ! ما قلت شيئا من ذلك قط، وإن زيدا لكاذب. وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله ! شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار، عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه. فعذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفشت الملامة من الأنصار لزيد. ولما استقل رسول الله فسار، لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة، ثم قال: يا رسول الله ! لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح فيها ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم ؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ! فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ! أرفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن ابي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ! إنه
[ 23 ]
قد بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال: بل ترفق به، وتحسن صحبته، ما بقي معنا. قالوا: وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالناس يومهم ذلك، حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس. فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض، وقعوا نياما. إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز، فويق البقيع (1)، يقال له بقعاء، فهاجت ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك ليلا فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة. قيل: من هو ؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين. كيف يزعم أنه يعلم الغيب، ولا يعلم مكان ناقته، ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي ؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق، وبمكان الناقة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أصحابه وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب، وما أعلمه، ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق، وبمكان ناقتي. هي في الشعب، فإذا هي كما قال. فجاؤوا بها، وآمن ذلك المنافق. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت وهو أحد بني قينقاع، وكان من عظماء اليهود، وقد مات ذلك اليوم. قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، جلست في البيت لما بي من الهم والحياء، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله بن ابي. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأذن زيد فرفعه عن الرحل، ثم قال: يا غلام ! صدق فوك، ووعت أذناك، ووعى قلبك، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا. وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها، جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي، حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فقال مالك ويلك قال: والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل. فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل إليه أن خل عنه يدخل. فقال: أما إذا (ا) كذا في النسخ لكن في السيرة لابن هشام (النقيع) بالنون (*).
[ 24 ]
جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنعم. فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات. فلما نزلت هذه الايات، وبان كذب عبد الله، قيل له: نزل فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لك. فلوى رأسه، ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فنزل: (وإذا قيل لهم تعالوا) إلى قوله (ولكن المنافقين لا يعلمون) ". المعنى: ثم ذكر سبحانه أن استغفاره لا ينفعهم فقال: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) أي يتساوى الإستغفار لهم، وعدم الإستغفار (لن يغفر الله لهم) لأنهم يبطنون الكفر، وإن أظهروا الإيمان (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين والإيمان إلى طريق الجنة. قال الحسن: أخبره سبحانه أنهم يموتون على الكفر، فلم يستغفر لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة، وأن يكون الباطن مثل الظاهر، فبين الله تعالى أن ذلك لا ينفعهم مع إبطانهم الكفر والنفاق. ثم قال سبحانه: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله) " من المؤمنين المحتاجين (حتى ينفضوا) " أي يتفرقوا عنه. وإنما قالوا هم من عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله سبحانه سماه رسول الله تشريفا له، وتعظيما لقدره (ولله خزائن السماوات والأض) وما بينهما من الأرزاق، والأموال، والأغلاق، فلو شاء لأغناهم، ولكنه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم، ويمتحنهم بالفقر، ويتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا، وينالوا الثواب، وكريم المآب. (ولكن المنافقين لا يفقهون) " ذلك على الحقيقة، لجهلهم بوجوه الحكمة. وقيل: لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة) " من غزوة بني المصطلق (ليخرجن الأعز) " يعنون نفوسهم (منها الأذل) يعنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. فرد الله سبحانه عليهم بأن قال: (ولله العزة ولرسوله) " بإعلاء الله كلمته، وإظهاره دينه على الأديان (وللمؤمنين) " بنصرته إياهم في الدنيا، وإدخالهم الجنة في العقبى. وقيل: ولله العزة بالربوبية، ولرسوله بالنبوة، وللمؤمنين بالعبودية. أخبر سبحانه بذلك، ثم حققه بأن أعز رسوله والمؤمنين، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. وقيل: عز الله خمسة: عز الملك والبقاء، وعز العظمة والكبرياء، وعز البذل والعطاء، وعز الرفعة والعلاء، وعز
[ 25 ]
الجلال والبهاء. وعز الرسول خمسة: عز السبق والإبتداء، وعز الأذان والنداء وعز قدم الصدق على الأنبياء، وعز الإختيار والإصطفاء، وعز الظهور على الأعداء وعز المؤمنين خمسة: عز التأخير بيانه (نحن الآخرون السابقون) "، وعز التيسير بيانه (ولقد يسرنا القرآن للذكر)، (يريد الله بكم اليسر) "، وعز التبشير بيانه (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) "، وعز التوقير بيانه (وأنتم الأعلون) "، وعز التكثير بيانه أنهم أكثر الأمم. (ولكن المنافقين لا يعلمون) " فيظنون أن العزة لهم، وذلك لجهلهم بصفات الله تعالى وما يستحقه أولياؤه. ووجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله (ولله العزة جميعا) أن عز الرسول والمؤمنين من جهته عز اسمه، وإنما يحصل به وبطاعته، فلله العز بأجمعه. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم) أي لا تشغلكم (أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) " أي عن الصلوات الخمس المفروضة. وقيل. ذكر الله جميع طاعاته، عن أبي مسلم. وقيل. ذكره شكره على نعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة، فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع (ومن يفعل ذلك) أي من يشغله ماله وولده عن ذكر الله (فأولئك هم الخاسرون) خسروا ثواب الله ورحمته (وأنفقوا مما رزقناكم) في سبيل البر فيدخل فيه الزكوات، وسائر الحقوق الواجبة (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) " أي أسباب الموت (فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) " أي هلا أخرتني، وذلك إذا عاين علامات الآخرة، فيسأل الرجعة إلى الدنيا ليتدارك الفائت. قالوا: وليس في الزجر عن التفريط في حقوق الله آية أعظم من هذه. وقوله (إلى أجل قريب) أي مثل ما أجلت لي في دار الدنيا. (فأصدق) " أي فأتصدق وأزكي مالي، وأنفقه في سبيل الله (وأكن من الصالحين) أي من الذين يعملون الأعمال الصالحة. وقيل: (من الصالحين) " أي من المؤمنين. والاية في المنافقين، عن مقاتل. وقيل: من المطيعين لله والآية في المؤمنين، عن ابن عباس قال. ما من أحد يموت وكان له مال، فلم يؤد زكاته، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الرجعة عند الموت. قالوا: يا بن عباس ! اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة. فقال: أنا أقرأ عليكم قرآنا. ثم قرأ هذه الاية
[ 26 ]
إلى قوله (من الصالحين) قال: الصلاح هنا الحج. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) " يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده، والأجل المقيد هو الأجل المحكوم بأن العبد يموت عنده، إن لم يقتطع دونه، أولم يزد عليه، أولم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة. (والله خبير بما تعملون) " أي عليم بأعمالكم، يجازيكم بها. النظم: وجه اتصال هذه الاية الأخيرة بما قبلها: إن معناه أنه سبحانه لو علم أنكم تتوبون لجعل في أجلكم تأخيرا إلى وقت آخر، ولكنه علم أنكم لا تتوبون.
[ 27 ]
64 - سورة التغابن مدينة وآياتها ثمانى عشرة وقال ابن عباس مكية غير ثلاث آيات من اخرها نزلن بالمدينة (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم) " إلى آخر السورة. عدد آيها: ثماني عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. " (ومن قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة) ". ابن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة. تفسيرها: لما ختم الله تعالى تلك السورة بذكر الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع والعاصي، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يسبح لله مافى السموت وما في الأزض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السماوات والارض بالحق وصوركم فاحسن صوركم واليه المصير (3) يعلم ما في السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور (4) ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) (5).
[ 28 ]
المعنى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) " تسبيح المكلفين بالقول، وتسبيح الجمادات بالدلالة (له الملك) منفردا دون غيره. والألف واللام لاستغراق الجنس والمعنى: إنه المالك لجميع ذلك، والمتصرف فيه كيف يشاء (وله الحمد) على جميع ذلك لأنه خلق ذلك أجمع، الغرض فيه الإحسان إلى خلقه، والنفع لهم به، فاستحق بذلك الحمد والشكر (وهو على كل شئ قدير) يوجد المعدوم، ويفني الموجود، وبغير الأحوال كما يشاء. (هو الذي خلقكم) أي أنشاكم وأوجدكم من عدم، كما أراد. والخطاب للمكلفين، عن الجبائي. وقيل: بل هو عام، وقد تم الكلام هنا. ثم ابتدأ فقال: (فمنكم كافر) لم يقر بأن الله خلقه كالدهرية (ومنكم مؤمن) مقر بأن الله خلقه، عن الزجاج. وقيل: معناه فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافقين، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه، عن الضحاك. وقيل: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يريد في شأن الأنواء، عن عطاء بن أبي رباح. والمراد بالاية ظاهر، فلا معنى للاسترواح إلى مثل هذه التأويلات، والمعنى: إن المكلفين جنسان: منهم كافر فيدخل فيه أنواع الكفر، ومنهم مؤمن ولا يجوز حمله على أنه سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين، لأنه لم يقل كذلك، بل أضاف الكفر والإيمان إليهم، وإلى فعلهم، ولدلالة العقول على أن ذلك يقع على حسب قصودهم وأفعالهم. ولذلك يصح الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وبعثة الأنبياء، على أنه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر والقبائح، لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر والضلال، ويؤيده بالمعجزات، تعالى عن ذلك وتقدس. هذا وقد قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) تمام الخبر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: حكاية عن الله سبحانه: " خلقت عبادي كلهم حنفاء) ونحو ذلك من الأخبار كثير. (والله بما تعملون بصير) أي خلق الكافر وهو عالم بما يكون منه من الكفر، وخلق المؤمن وهو عالم بما يكون منه من الإيمان، فيجازيهما على حسب أعمالهما. (خلق السماوات والأرض بالحق) أي بالعدل، وبإحكام الصنعة، وصحة التقدير. وقيل. معناه للحق وهو أن خلق العقلاء تعريضا إياهم للثواب العظيم، وخلق ما عداهم تبعا لهم لما في خلقه لهم من اللطف (وصوركم) يعني البشر كلهم
[ 29 ]
(فأحسن صوركم) من حيث الحكمة، وقبول العقل، لا قبول الطبع، لأن في جملتهم من ليس على هذه الصفة. وقيل: فأحسن صوركم من حيث قبول الطبع، لأن ذلك هو المفهوم من حسن الصور، فهو كقوله (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وإن كان في جملتهم من هو مشوه الخلق، لأن ذلك عارض لا يعتد به في هذا الوصف، فالله سبحانه خلق الإنسان على أحسن صور الحيوان كله، والصورة عبارة عن بنية مخصوصة. (وإليه المصير) أي إليه المرجع والمال يوم القيامة (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون) أي ما يسره بعضكم إلى بعض، وما يخفيه في صدره عن غيره. والفرق بين الإسرار والإخفاء أن الإخفاء أعم لأنه قد يخفي شخصه ويخفي المعنى في نفسه. والإسرار يكون في المعنى دون الشخص. (والله عليم بذات الصدور) " أي باسرار الصدور وبواطنها. ثم أخبر سبحانه أن القرون الماضية جوزوا باعمالهم، فقال: (ألم ياتكم نبأ الذين كفروا من قبل) " أي من قبل هؤلاء الكفار (فذاقوا وبال أمرهم) " أي وخيم عاقبة كفرهم، وثقل أمرهم، بما نالهم من العذاب بالإهلاك والإستئصال. (ولهم عذاب أليم) " أي مؤلم يوم القيامة. (ذلك بانه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفرو وتولوا واستغنى الله والله غني حميد (6) زعم الذين كفرو أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذى انزلنا والله بما تعملون خبير (8) يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خلدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خلدين فيها وبئس المصير (10) القراءة: قرأ رويس، عن يعقوب (يوم نجمعكم) بالنون. والباقون بالياء. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر: (انكفر عنه) و (ندخله) بالنون فيهما. والباقون بالياء.
[ 30 ]
الحجة: حجة الياء أن الإسم الظاهر قد تقدم، ووجه النون أنه كقوله (سبحان الذي أسرى بعبده) ثم جاء. (وآتينا موسى الكتاب). الاعراب: (ذلك بأنه): الهاء ضمير الأمر والشأن. (أبشر) ": مبتدأ، وإنما جاز أن يكون مبتدأ مع كونه نكرة، لأن الإستفهام سوغ ذلك، كما أن النفي أيضا كذلك، لكونهما غير موجبين. يقال: أرجل في الدار أم امرأة، ولا رجل في الدار، ولا امرأة. وقيل: إنه فاعل فعل مضمر يفسره قوله (يهدوننا) كأنه قال: أيهدينا بشر يهدوننا. وإنما أضمر لأن الإستفهام بالفعل أولى. وقوله (أن لن يبعثوا) " تقديره: إنهم لن يبعثوا، فسدت الجملة عن المفعولين بما جرى فيها من ذكر الحديث والمحدث عنه. ولما كان لن في (لن يبعثوا) دليل الإستقبال، تعينت أن قبلها لأن تكون مخففة من الثقيلة، لأن لن يمنعها من أن تكون ناصبة للفعل. (يوم نجمعكم): ظرف لتبعثن. المعنى: لما قرر سبحانه خلقه بأنهم أتاهم أخبار من مضى من الكفار وإهلاكهم، عقبه ببيان سبب إهلاكهم فقال: (ذلك) أي ذلك العذاب الذي نالهم في الدنيا، والذي ينالهم في الأخرة (بأنه كانث تأتيهم) أي بسبب أنه كانت تجيئهم (رسلهم) من عند الله (بالبينات) أي بالدلالات الواضحات، والمعجزات الباهرات (فقالوا) لهم (أبشر يهدوننا) لفظه واحد والمراد به الجمع على طريق الجنس بدلالة قوله: (يهدوننا). والمعنى: أخلق مثلنا يهدوننا إلى الحق، ويدعوننا إلى غير دين آبائنا، استصغارا منهم للبشر أن يكونوا رسلا من الله إلى أمثالهم، واستكبارا وأنفة من اتباعهم. (فكفروا) بالله وجحدوا رسله (وتولوا) أي أعرضوا عن القبول منهم، والتفكر في آياتهم (واستغنى الله) بسلطانه عن طاعة عباده. وإنما كلفهم لنفعهم لا لحاجة منه إلى عبادتهم. وقيل: معناه واستغنى الله بما أظهره لهم من البرهان، وأوضحه من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد، وتهدي إلى الإيمان. (والله غني حميد) أي غني عن أعمالكم، مستحمد إليكم بما ينعم به عليكم. وقيل: حميد أي محمود في جميع أفعاله، لأنها كلها إحسان. ثم حكى سبحانه ما يقوله الكفار فقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) " قال ابن عمر. زعم زاملة الكذب. وقال شريح: زعم كنية الكذب بين الله سبحانه بعض ما لأجله اختاروا الكفر على الإيمان، وهو أنهم كانوا لا يقرون بالبعث والنشور، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن
[ 31 ]
يكذبهم فقال: (قل) يا محمد (بلى ورربي) أي وحق ربي على وجه القسم (لتبعثن) أي لتحشرن. أكد تكذيبهم بقوله (بلى) وباليمين. ثم أكد اليمين باللام والنون (ثم لتنبؤن بما عملتم) أي لتخبرن وتحاسبن بأعمالكم، وتجازون عليها. (وذلك) البعث والحساب مع الجمع والجزاء (على الله يسير)، أي. سهل هين لا يلحقه مشقة، ولا معاناة فيه. (فآمنوا) " معاشر العقلاء (بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) " وهو القرآن. سماه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة إلى الحق، فشبه بالنور الذي يهتدى به إلى الطريق (والله بما تعملون خبير) أي عليم (يوم يجمعكم ليوم الجمع) وهو يوم القيامة أي: ذلك البعث والجزاء يكون في يوم يجمع فيه خلق الأولين والآخرين (ذلك يوم التغابن) وهو تفاعل من الغبن، وهو أخذ شر وترك خير، أو أخذ خير وترك شر. فالمؤمن ترك حظه من الدنيا، وأخذ حظه من الآخرة، فترك ما هو شر له، وأخذ ما هو خير له، فكان غابنا والكافر ترك حظه من الآخرة، وأخذ حظه من الدنيا، فترك الخير وأخذ الشر، فكان مغبونا. فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون. وقيل: يوم التغابن غبن أهل الجنة أهل النار، عن قتادة، ومجاهد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذا قوله: (ما من عبد مؤمن يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة). (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته) أي معاصيه (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) " أي مؤبدين فيها، ولا يفنى ما هم فيه من النعيم أبدا (ذلك الفوز العظيم) أي النجاح الذي ليس وراءه شئ من العظمة (والذين كفروا) بالله (وكذبوا بآياتنا) أي بحججنا ودلائلنا (أولئك اصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) أي المآل والمرجع. (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم (11) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلغ المبين (12) الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل
[ 32 ]
المؤمنون (13) يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولدكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15) فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17) عالم الغيب والشهده العزيز الحكيم (18) القراءة: في الشواذ قراءة طلحة بن مصرف (نهد قلبه) بالنون وقراءة السلمي: (يهد قلبه) بضم الياء والباء على ما لم يسم فاعله. وقراءة عكرمة، وعمرو بن دينار: (يهدأ قلبه) مهموزا. وقراءة مالك بن دينار: (يهدا) بالألف. الحجة: من قرأ (يهدأ) مهموزا فمعناه: يطمئن قلبه، كما قال سبحانه: (وقلبه مطمئن بالإيمان). ومن قرأ بالألف فإنه لين الهمز تخفيفا. انزول: نزل قوله: (من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم)، في قوم أرادوا الهجرة، فثبطهم نساؤهم وأولادهم عنها، عن ابن عباس ومجاهد. المعنى: ثم قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة) أي ليس تصيبكم مصيبة (إلا بإذن الله) والمصيبة المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبها. وانما عم ذلك سبحانه وإن كان في المصائب ما هو ظلم، وهو سبحانه لا يأذن بالظلم، لأنه ليس منها إلا ما أذن الله في وقوعه، أو التمكن منه، وذلك إذن للملك الموكل به، كانه قيل. لا يمنع من وقوع هذه المصيبة. وقد يكون ذلك بفعل التمكين من الله، فكأنه ياذن له بأن يكون. وقيل: معناه إلا بتخلية الله بينكم وبين من يريد فعلها، عن البلخي. وقيل: إنه خاص فيما يفعله الله تعالى، أو يأمر به. وقيل: معناه بعلم الله أي: لا يصيبكم مصيبة إلا والله عالم بها. (ومن يؤمن بالله) أي يصدق به ويرضى بقضائه (يهد قلبه) أي يهد الله قلبه
[ 33 ]
حتى يعلم أن ما أصابه فبعلم الله، فيصبر عليه، ولا يجزع، لينال الثواب والأجر. وقيل: معناه ومن يؤمن بتوحيد الله، ويصبر لأمر الله، يعني عند نزول المصيبة، يهد قلبه للإسترجاع، حتى يقول إنا لله وإنا إليه راجعون، عن ابن عباس. وقيل: إن المعنى يهد قلبه فإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظلم غفر، عن مجاهد. وقال بعضهم في معناه: من يؤمن بالله عند النعمة، فيعلم أنها فضل من الله، يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن بالله عند البلاء، فيعلم أنه عدل من الله، يهد قلبه للصبر، ومن يؤمن بالله عند نزول القضاء، يهد قلبه للإستسلام والرضا. (والله بكل شي عليم) فيجازي كل امرئ بما عمله (وأطيعوا الله) في جميع ما أمركم به وأطيعوا الرسول) ! في جميع ما أتاكم به، ودعاكم إليه، وفيما أمركم به، ونهاكم عنه (فإن توليتم) أي فإن أعرضتم عن القبول منه (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) أي ليس عليه إلا تبليغ الرسالة وقد فعل. والمراد ليس عليه قهركم على الرد إلى الحق، وإنما عليه البلاغ الظاهر البين. فحذف للإيجاز والاختصار. (الله لا إله إلا هو) ولا تحق العبادة إلا له (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) والتوكل: تفويض الأمور إليه، والرضا بتقديره، والثقة بتدبيره. وقد أمر لله عباده بذلك. فينبغي لهم أن يستشعروا ذلك في سائر أحوالهم (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) يعني إن بعضهم بهذه الصفة ولذلك أتى بلفظة (من) وهي للتبعيض. يقول: إن من هؤلاء من هو عدو لكم في الدين، فاحذروهم أن تطيعوهم. وقيل. إنه سبحانه إنما قال ذلك لأن من الأزواج من يتمنى موت الزوج، ومن الأولاد من يتمنى موت الوالد ليرث ماله. وما من عدو أعدى ممن يتمنى موت غيره لياخذ ماله، وكذلك يكون من يحملك على معصية الله لمنفعة نفسه، ولا عدو أشد عداوة ممن يختار ضررك لمنفعته. قال عطاء: يعني قوما أرادوا الغزو، فمنعهم هؤلاء. وقال مجاهد: يريد قوما أرادوا طاعة الله فمنعوهم. (وإن تعفوا) أي تتركوا عقابهم (وتصفحوا وتغفروا) أي تتجاوزوا عنهم، وتستروا ما سبق منهم إن عادوا إلى الحالة الجميلة، وذلك أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوه بالهجرة، وفقهوا في الدين، هم أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه عن الهجرة، وإن يلحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، فأمر سبحانه بالعفو والصفح (فإن الله غفور رحيم) يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم. وقيل هو عام
[ 34 ]
أي: إن تعفوا وتصفحوا عمن ظلمكم، فإن الله يغفر بذلك كثيرا من ذنوبكم، عن الجبائي (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي محنة وابتلاء، وشدة للتكليف عليكم، وشغل عن أمر الاخرة. فإن الإنسان بسبب المال والولد يقع في الجرائم، عن ابن مسعود قال: لا يقولن أحدكم. اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام، وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهما، فاخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال: (صدق الله، عز وجل (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) ". ثم أخذ في خطبته. (والله عنده أجر عظيم) أي ثواب جزيل وهو الجنة، يعني فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر والذخر. (فاتقوا الله ما استطعتم) أي ما أطقتم. والإتقاء الإمتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى. ولا تنافي بين هذا وبين قوله: (اتقوا الله حق تقاته) " لأن كل واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي. فمن فعل ذلك فقد اتقى عقاب الله، لأن من لم يفعل قبيحا، ولا أخل بواجب، فلا عقاب عليه، إلا أن في أحد الكلامين تبيينا أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق، وكل أمر أمر الله به، فلا بد أن يكون مشروطا بالإستطاعة. وقال قتادة قوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) " ناسخ لقوله (اتقوا الله حق تقاته) وكأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية، وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة، وإن كانت القدرة حاصلة معه. وقال غيره: ليس هذا بناسخ، وإنما هو مبين لإمكان العمل بهما جميعا، وهو الصحيح (واسمعوا) من الرسول ما يتلو عليكم، وما يعظكم به، ويأمركم، وينهاكم. (وأطيعوا) الله والرسول (وأنفقوا) من أموالكم في حق الله (خيرا لأنفسكم) مثله فآمنوا خيرا لكم، وانتهوا خيرا لكم، وقد مضى ذكر ذلك. وقال الزجاج: معناه قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم (ومن يوق شح نفسه) حتى يعطي حق الله من ماله (فأولئك هم المفلحون) أي المنجحون الفائزون بثواب الله. وقال الصادق عليه السلام: من أدى الزكاة فقد وقي شح نفسه (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) " قد مضى معناه.
[ 35 ]
وإطلاق اسم القرض هنا تلطف في الإستدعاء إلى الإنفاق (يضاعفه لكم) " أي يعطي بدله أضعاف ذلك من واحد إلى سبعمائة، إلى ما لا يتناهى. فإن ثواب الصدقة يدوم (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله شكور) " أي مثيب مجاز على الشكر (حليم) لا يعاجل العباد بالعقوبة. وهذا غاية الكرم (عالم الغيب والشهادة) أي السر والعلانية. وقيل. المعدوم والموجود. وقيل: غير المحسوس والمحسوس. (العزيز) القادر (الحكيم) العالم. وقيل: المحكم لأفعاله.
[ 36 ]
65 - سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة وتسمى سورة النساء القصرى. قال ابن مسعود في حديث العدة: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا). وإنما أراد قوله (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فإذا كانت حاملة فعدتها وضع الحمل. وهي مدنية بالإجماع. عدد آيها: إحدى عشرة آية بصري، واثنتا عشرة آية في الباقين. اختلافها: ثلاث آيات (يجعل له مخرجا) " كوفي مكي والمدني الأخير (واليوم الأخر) شامي (يا أولي الألباب) المدني الأول. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (ومن قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله). أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضته، أعاذه الله تعالى من أن يكون يوم القيامة ممن يخاف أو يحزن، وعوفي من النار، وأدخله الله الجنة بتلاوته إياهما، ومحافظته عليهما، لأنهما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: لما ختم الله سورة التغابن بذكر النساء، والتحذير منهن، افتتح هذه السورة بذكرهن، وذكر أحكامهن، وأحكام فراقهن، فقال. بسم الله الرحمن الرحيم يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا
[ 37 ]
ألله يحدث بعد ذلك امرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان لله بالغ امره قد جعل الله كل شى قدرا (3) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة اشهر واللائي لم يحضن وأولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (4) ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا (5) القراءة: قرأ حفص عن عاصم: (بالغ) بغير تنوين (أمره) بالجر على الإضافة. والباقون: (بالغ) بالتنوين (أمره) " بالنصب. وفي الشواذ قراءة داود بن أبي هند. (إن الله بالغ) بالتنوين (أمره) بالرفع. وروي عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وجابربن عبد الله، وعلي بن الحسين عليه السلام، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد. (فطلقوهن في قبل لعدتهن). االحجة: قال أبو علي: قوله (بالغ أمره) على سيبلغ أمره فيما يريده فيكم فهذا هو الأصل وهو حكاية حال. ومن أضاف، حذف التنوين استخفافا، والمعنى معنى ثبات التنوين، مثل: (عارض ممطرنا). وأما قوله (في قبل عدتهن)، فإنه تفسير للقراءة المشهورة: (فطلقوهن لعدتهن) أي عند عدتهن. ومثله قوله: (لا يجليها لوقتها) أي عند وقتها. ومن قرأ (بالغ أمره) فالمعنى: أمره بالغ ما يريده الله به، وقد بلغ أمر الله ما أراده، فالمفعول على ما رأيت محذوف. الاعراب (واللائي لم يحضن): مبتدأ خبره محذوف لدلالة الكلام عليه، فإذا جاز حذف الجملة بأسرها، جاز حذف بعضها. وقد جاء أيضا في الصفة، وإن قل نحو قوله: (وأوتيت من كل شئ) تقديره. من كل شئ تؤتاه. المعنى: نادى سبحانه نبيه فقال. (يا أيها النبي) ثم خاطب أمته فقال: (إذا
[ 38 ]
طلقتم النساء) لأنه السيد المقدم، فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع، كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب، عن الحسن وغيره. وقيل: إن تقديره يا أيها النبي ! قل لأمتك إذا طلقتم النساء، عن الجبائي. فعلى هذا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خارجا عن الحكم. وعلى القول الأول حكمه حكم أمته في أمر الطلاق. وعلى هذا انعقد الإجماع، والمعنى: إذا أردتم طلاق النساء مثل قوله سبحانه: (إذا قمتم إلى الصلاة)، وقوله: (فإذا قرأت القرآن). (فطلقوهن لعدتهن)، أي لزمان عدتهن، وذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي. فهذا هو الطلاق للعدة، لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها، وتحصل في العدة عقيب الطلاق. فالمعنى: فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن. فعلى هذا يكون العدة الطهر على ما ذهب إليه أصحابنا، وهو مذهب الشافعي. وقيل: إن المعنى قبل عدتهن أي: في طهر لم يجامعها فيه والعدة الحيض، كما يقال: توضأت للصلاة، ولبست السلاح للحرب، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقيل: إن اللام للسبب، فكأنه قال: فطلقوهن ليعتددن، ولا شبهة أن هذا الحكم للمدخول بها لأن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها. وقد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب، وهو قوله (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها). وظاهر الأية يقتضي أنه إذا طلقها في الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فلا يقع الطلاق لأن الأمر يقتضي الإيجاب، وبه قال سعيد بن المسيب، وذهبت إليه الشيعة الإمامية. وقال باقي الفقهاء. يقع الطلاق، وإن كان بدعة، وخلاف المأمور به، وكذلك إن جمع بين التطليقات الثلاث، فإنها بدعة عند أبي حنيفة، وأصحابه، وإن كانت واقعة. وعند المحققين من أصحابنا يقع واحدة عند حصول شرائط صحة الطلاق. والطلاق في الشرع: عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح، وذلك أن يقول. (أنت طالق)، يخاطبها أو يقول: (هذه طالق) ويشير إليها، أو يقول: (فلانة بنت فلان طالق) ". ولا يقع الطلاق عندنا إلا بهذا اللفظ لا بشئ من كنايات الطلاق، سواء أراد بها الطلاق، أو لم يرد بها. وفي تفصيل ذلك اختلافات بين الفقهاء ليس ههنا موضعه وقد يحصل الفراق بغير الطلاق كالإرتداد، واللعان كالخلع
[ 39 ]
عند كثير من أصحابنا، وإن لم يسم ذلك طلاقا. ويحصل أيضا بالفسخ للنكاح بأشياء مخصوصة، وبالرد بالعيب، وإن لم يكن ذلك طلاقا. وروى البخاري ومسلم، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يراجعها. ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها. فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء. وروى البخاري، عن سليمان بن حرب، وروى مسلم، عن عبد الرحمن بن بشر، عن بهر، وكلاهما عن شعبة، عن انس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرللنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء. وجاءت الرواية عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش ". وعن ثوبان رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. وعن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات) (ا). وعن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). هذه الأحاديث الأربعة منقولة عن تفسير الثعلبي. ثم قال سبحانه: (وأحصوا العدة) أي عدوا الأقراء التي تعتد بها. وقيل: معناه عدوا أوقات الطلاق لتطلقوا للعدة. وإنما أمر الله سبحانه بإحصاء العدة، لأن لها فيها حقا، وهي النفقة والسكنى، وللزوج فيها حقا وهي المراجعة، ومنعها عن الأزواج لحقه، وثبوت نسب الولد، فأمره تعالى بإحصائها، ليعلم وقت المراجعة، ووقت فوت المراجعة، وتحريمها عليه، ورفع النفقة والسكنى، ولكيلا تطول العدة لاستحقاق زيادة النفقة، أو تقصيرها لطلب الزواج. والعدة هي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة، وهي على ضروب: فضرب يكون بالأقراء لمن تحيض. وضرب يكون بالأشهر للصغيرة التي لم تبلغ المحيض، ومثلها تحيض (1) قال الجزري: ومنه الحديث: إن الله لا يحب الذواقين والذواقات يعني السريعي الطلاق " (انتهى) قيل: وتفسيره أن لا يطمئن ولا تطمئن كلما تزوج أو تزوجت كرها ومدا أعينهما إلى غيرهما. (*).
[ 40 ]
وهي التي بلغت تسع سنين. وإذا كان سنها أقل من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا. وقال بعضهم: عدتها بالشهور، وبه قال الفقهاء، وكذلك الكبيرة الايسة من المحيض، ومثلها تحيض، عدتها بالشهور. وحده أصحابنا بأن يكون سنها أقل من خمسين سنة ومن ستين سنة للقرشيات، فإن كان سنها أكثر من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا. والمتوفى عنها زوجها عدتها بالشهور أيضا. والضرب الثالث من العدة يكون بوضع الحمل في الجميع إلا في المتوفى عنها زوجها، فإن عدتها عند أصحابنا أبعد الأجلين، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء. ثم إن عدة الطلاق للحرة ثلاثة قروء، أو ثلاثة أشهر، وللأمة قرءان أو شهر ونصف، ووضع الحمل لا يختلف. قال سبحانه: (واتقوا الله ربكم) " ولا تعصوه فيما أمركم به (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) " هن أيضا يعني في زمان العدة لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق، وعلى المرأة أيضا أن لا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت. (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) أي ظاهرة. ومن قرأ بفتح الياء فالمراد بفاحشة مظهرة أظهرتها. واختلف في الفاحشة فقيل: إنها الزنا فتخرج لإقامة الحد عليها، عن الحسن ومجاهد والشعبي وابن زيد. وقيل: هي البذاء على أهلها، فيحل لهم إخراجها، عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. وروى علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا قال: الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبهم. وقيل: هي النشوز فإن طلقها على نشوز فلها أن تتحول من بيت زوجها، عن قتادة. وقيل: هي خروجها قبل انقضاء العدة، عن ابن عمر. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: إن كل معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة. (وتلك حدود الله) يعني ما ذكره سبحانه من أحكام الطلاق وشروطه (ومن يتعد حدود الله) بان يطلق على غير ما أمر الله تعالى به (فقد ظلم نفسه) أي أثم فيما بينه وبين الله، عز وجل، وخرج عن الطاعة إلى المعصية، وفعل ما يستحق به العقاب (لا تدري لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا) أي يغير رأي الزوج في محبة الطلاق، ويوقع في قلبه المحبة لرجعتها فيما بين الطلقة الواحدة والثانية، وفيما بين الثانية والثالثة. قال الضحاك والسدي وابن زيد. لعل الله يحدث الرجعة في العدة.
[ 41 ]
وقال الزجاج: وإذا طلقها ثلاثا في وقت واحد، فلا معنى له لقوله (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا). وفي هذه الأية دلالة على أن الواجب في التطليق أن يوقع متفرقا، ولا يجوز الجمع بين الثلاث، لأن الله تعالى أكد قوله (فطلقوهن لعدتهن) " بقوله (وأحصوا العدة) ثم زاد في التأكيد بقوله (واتقوا الله ربكم) " فيما حده الله لكم فلا تعتدوه. ثم قرر سبحانه حق الزوج في المراجعة بقوله (لا تخرجوهن من بيوتهن) " فإن الزوجة إذا لم ترم بيتها تمكن الزوج من مراجعتها. ثم دل بقوله وتلك حدود الله على أن من تعدى حدود الله تعالى في الطلاق، بطل حكمه، وصار قوله: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) تأكيدا لحدود الله في الطلاق وإعلاما بأن حق الرجعة لا ينقطع بجمع الطلاق، فكأنه قال: كونوا على رجاء الفائدة بالرجعة، فقد يحدث الله الرغبة بعد الطلاق. فإن قالوا: قد أمر الله سبحانه في الآية بطلاق العدة، فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلاق العدة ؟ فالجواب: إن طلاق السنة أيضا طلاق العدة إلا ان أصحابنا، رضي الله عنهم، قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنة، والطلاق الذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدة. ومما يعضد ما ذكرته ما اشتهر من الأخبار في كتبهم ورواياتهم، ونقل عن متقدميهم مثل زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وغيرهم. فمن ذلك ما رواه يونس عن بكير بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال. الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع، ويشهد رجلين عدلين على تطليقه، ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن وأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، وكل طلاق لغير مدة فليس بطلاق. وعن جرير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طلاق السنة، فقال: على طهر من غير جماع بشاهدي عدل، ولا يجوز الطلاق إلا بشاهدين والعدة، وهو قوله (فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) الأية. وروى الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة، عن أبي جعفر أنه قال: كل طلاق لا يكون على السنة، أو طلاق على العدة، فليس بشئ. قال زرارة: قلت لأبي جعفر: فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة ؟ فقال: أما طلاق السنة فهو إن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته، فلينتظر بها حتى تطمث وتطهر.
[ 42 ]
فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين على ذلك، ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها، وقد بانت منه، وكان خاطبا من الخطاب، إن شاءت تزوجته، وإن شاءت لم تتزوجه، وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في العدة، وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة. وأما طلاق العدة. فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة، فلينتظر بها حتى تحيض، وتخرج من حيضها، ثم يطلقها تطليقة من غير جماع، ويشهد شاهدين عدلين، ويراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها ويواقعها، وتكون معه حتى تحيض. فإذا حاضت وخرجت من حيضها، طلقها تطليقة أخرى من غير جماع. ويشهد على ذلك أيضا متى شاء قبل أن تحيض، ويشهد على رجعتها ويواقعها، وتكون معه حتى تحيض الحيضة الثالثة، فإذا خرجت من حيضها، طلقها الثالثة بغير جماع، ويشهد على ذلك، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره والروايات في هذا كثيرة عن أئمة الهدى عليهم السلام. فعلى هذا فإنه يتركها في طلاق السنة حتى تعتد ثلاثة قروء، فإذا مضى ثلاثة قروء فإنها تبين منه بواحدة، وإذا تزوجها بعد ذلك بمهر جديد، كانت عنده على تطليقتين باقيتين، فإن طلقها أخرى، طلاق السنة، وتركها حتى تمضي أقراؤها، فلا يراجعها، فقد بانت منه باثنتين، فإن تزوجها بعد ذلك، وطلقها لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ولو شاء أن يراجعها بعد الطلقة الأولى والثانية، لكان ذلك إليه. فقد تبين أن هذا الطلاق هو طلاق للعدة أيضا. إلا أن الفرق بينهما ما ذكرناه. (فإذا بلغن أجلهن) معناه: فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من العدة (فأمسكوهن بمعروف) أي راجعوهن بما يجب لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة. (أو فارقوهن بمعروف) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة، فتبن منكم. ولا يجوز أن يكون المراد بقوله (فإذا بلغن أجلهن) إذا انقضى أجلهن، لأن الزوج لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة، بل هي تملك نفسها، وتبين منه بواحدة، ولها أن تتزوج من شاءت من الرجال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة، شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة، ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وهذا أليق بالظاهر، لأنا إذا
[ 43 ]
حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب، وهو من شرائط صحة الطلاق. ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب. (وأقيموا الشهادة لله) هذا خطاب للشهود أي: أقيموها لوجه الله واقصدوا بأدائها التقرب إلى الله، لا الطلب لرضا المشهود له، والإشفاق من المشهود عليه (ذلكم) الأمر بالحق يا معشر المكلفين (يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الأخر) أي يؤمر به المؤمنون، لينزجروا به عن الباطل. وخص المؤمنين لأنهم الذين إنتفعوا به. فالطاعة الواجبة فيها وعظ، بأن رغب فيها باستحقاق الثواب، وفي تركها العقاب. والمندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح والثواب على فعلها. والمعاصي فيها وعظ بالزجر عنها، والتخويف من فعلها باستحقاق العقاب، والترغيب في تركها بما يستحق على الإخلال بها من الثواب (ومن يتق الله) فيما أمره به، ونهاه عنه (يجعل له مخرجا) من كل كرب في الدنيا والاخرة، عن ابن عباس، وروي عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) قال: من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة). وعنه قال: (من أكثر الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا). وقيل: معناه ومن يطلق للسنة، يجعل الله له مخرجا في الرجعة. (ويرزقه من حيث لا يحتسب) عن عكرمة والشعبي والضحاك. وقيل. إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنا له، فاتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، وشكا إليه الفاقة، فقال له: اتق الله، واصبر، وأكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) ففعل الرجل ذلك. فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه، وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلا، وجاء بها إلى أبيه، فذلك قوله (ويرزقه من حيث لا يحتسب). وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي يبارك له فيما آتاه. وعن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم: (ومن يتق الله) الاية. فما زال يقولها ويعيدها. (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي ومن يفوض أمره إلى الله، ووثق بحسن تدبيره وتقديره، فهو كافيه، يكفيه أمر دنياه، ويعطيه ثواب الجنة، ويجعله بحيث لا يحتاج إلى غيره، وفي الحديث: (من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله) (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما أراد من قضاياه وتدابيره على ما أراده، ولا يقدر أحد
[ 44 ]
على منعه عما يريده. وقيل. معناه أنه منفذ أمره فيمن يتوكل عليه، وفيمن لم يتوكل عليه. (قد جعل الله لكل شئ قدرا) أي قدر الله لكل شئ مقدارا وأجلا، لا زيادة فيها ولا نقصان. وقيل: بين لكل شئ مقدارا بحسب المصلحة في الإباحة والإيجاب، والترغيب والترهيب، كما بين في الطلاق والعدة وغيرهما. وقيل: قد جعل الله لكل شئ من الشدة والرخاء، وقتا وغاية ومنتهى ينتهى إليه. ثم بين سبحانه اختلاف أحكام العدة باختلاف أحوال النساء، فقال: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) فلا يحضن (إن ارتبتم) فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهن، أم لعارض، ثلاثة أشهر، وهن اللواتي أمثالهن يحضن، لأنهن لو كن في سن من لا تحيض، لم يكن للإرتياب معنى، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وقيل. معناه إن شككتم فلم تدروا أدمهن دم حيض، أو استحاضة، (فعدتهن ثلاثة أشهر)، عن مجاهد والزهري وابن زيد. وقيل: معناه إن ارتبتم في حكمهن، فلم تدروا ما الحكم فيهن (واللائي لم يحضن) تقديره: واللائي لم يحضن إن ارتبتم، فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر. وحذف لدلالة الكلام الأول عليه، وهن اللواتي لم يبلغن المحيض، ومثلهن تحيض على ما مر بيانه. (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) قال ابن عباس. هي في المطلقات خاصة، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. فاما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا، فعدتها أبعد الأجلين، فإذا مضت بها أربعة أشهر وعشر، ولم تضع انتظرت وضع الحمل. وقال ابن مسعود، وأبي بن كعب، وقتادة، وأكثر الفقهاء. إنه عام في المطلقات والمتوفى عنها زوجها، فعدتهن وضع الحمل. فإن كانت المرأة حاملا باثنين، ووضعت واحدا لم تحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل، لقوله: (أن يضعن حملهن). وروى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج، ولا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره، حتى تضع الأخر، فأما إذا كانت قد توفي عنها زوجها، فوضعت قبل الأشهر الأربعة والعشر، وجب عليها أن تستوفي أربعة أشهر وعشرا. (ومن يتق الله) في جميع ما أمره بطاعته فيه (يجعل له من أمره يسرا) أي يسهل عليه امور الدنيا والأخرة إما بفرج عاجل، أو عوض آجل. وقيل: يسهل عليه فراق أهله، ويزيل الهموم عن قلبه (ذلك) يعني ما ذكره سبحانه من الأحكام في
[ 45 ]
الطلاق والرجعة والعدة. (أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله) بطاعته (يكفر عنه سيئاته) من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. قال الربيع: إن الله قد قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به أنجاه، ومن دعاه أجابه ولباه، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)، (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم)، (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب) الآية (ويعظم له أجرا) في الأخرة وهو ثواب الجنة. (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى (6) لينفق ذوسعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7) وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا (9) أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولى الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا (10). القراءة: قرأ روح عن يعقوب مختلفا عنه: (من وجدكم) بكسر الواو. والقراءة بضم الواو وقرأ ابن كثير: (وكائن) بالمد والهمز. والباقون: (وكاين) بالهمز والتشديد. الحجة: يقال: وجدت في المال جدة، ووجدا، ووجدا، ووجدا، بتعاقب الحركات الثلاث على الواو. ووجدت الضالة وجدانا. ووجدت من الحزن وجدا. ومن الغضب موجدة ووجدانا. وكأين: إصله أي دخلت عليها الكاف الجارة، كما دخلت على ذا في كذا، فموضع (كأين) رفع بالإبتداء، كما ان كذا كذلك،
[ 46 ]
ولا موضع للكاف كما أن الكاف في كذا كذلك. قال أبو علي: مثل هذا في أنه دخل على المبتدأ حرف الجر، فصار مع المجرور في موضع رفع قولهم بحسبك أن تفعل كذا، يريدون حسبك فعل كذا. فالجار مع المجرور في موضع رفع. وأنشد أبو زيد: بحسبك في القوم أن يعلموا * بأنك فيهم غني مضر وأكثر العرب تستعملها مع من، وكذلك ما جاء في التنزيل، ومما جاء منه في الشعر قوله: وكائن بالأباطح من صديق * يراني إن أصبت هو المصابا (1) وقول الآخر: وكائن إليكم قاد من رأس فتنة * جنودا، وأمثال الجبال كتائبه (2) المعنى: ثم بين سبحانه حال المطلقة في النفقة والسكنى فقال: (أسكنوهن) أي في بيوتكم (من حيث سكنتم) من المساكن (من وجدكم) أي من ملككم وما تقدرون عليه، عن السدي، وأبي مسلم. وقيل: هو من الوجدان أي: مما تجدونه من المساكن، عن الحسن والجبائي. وقيل: من سعتكم وطاقتكم من الوجد الذي هو المقدرة. قال الفراء: يعول على ما يجد، فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. ويجب السكنى والنفقة للمطلقة الرجعية بلا خلاف. فاما المبتوتة، ففيها خلاف: فذهب أهل العراق الى أن لها السكنى والنفقة معا، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود. وذهب الشافعي إلى أن لها السكنى بلا نفقة. وذهب الحسن وأبو ثور إلى أنه لا سكنى لها، ولا نفقة، وهو المروي عن أئمة الهدى عليه السلام، وذهب إليه أصحابنا. ويدل عليه ما رواه الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: طلقني زوجي البتة، فخاصمته إلى رسول الله في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم. (1) قائله جرير. والأباطح جمع الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. وأصبت أي: وقعت في المصيبة. المصاب أيضا من المصيبة أي: يرى مصيبتي مصيبته. (2) الكتائب جمع الكتيبة: القطعة من الجيش. (*).
[ 47 ]
وروى الزهري عن عبد الله أن فاطمة بنت قيس، كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، وأنه خرج مع علي بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة، كانت بقيت لها من طلاقها، فأمر عياش بن أبي ربيعة، والحرث بن هشام أن ينفقا عليها فقالا: والله ما لك من نفقة، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له قولهما، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملا. فاستأذنته في الإنتقال، فأذن لها فقالت. أنى أنتقل يا رسول الله ؟ قال: عند ابن أم مكتوم، وكان أعمى، تضع ثيابها عنده، ولا يراها، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها، فأنكحها النبي أسامة بن زيد. قال. فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب فسألها عن هذا الحديث، ثم قال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ! فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان. بيني وبينكم القرآن. قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) إلى قوله (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، وأي أمر يحدث بعد الثلاث. ثم قال سبحانه (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) أي لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة، طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن. وقيل: المعنى أعطوهن من المسكن ما يكفيهن لجلوسهن ومبيتهن وطهارتهن، ولا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى، عن أبي مسلم. (وإن كن أولات حمل) أي كن حوامل (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)، لأن عدتهن إنما تنقضي بوضع حملهن. أمر الله سبحانه بالإنفاق على المطلقة الحامل، سواء كانت رجعية أو مبتوتة. (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة، فاعطوهن أجر الرضاع يعني أجرة المثل (وائتمروا بينكم بمعروف) هذا خطاب للرجل والمرأة. والإئتمار: قبول الأمر وملاقاته بالتقبل. أمر الله تعالى المرضعة والمرضع له بالتلقي لأمره، عز وجل، ولأمر صاحبه إذا كان حسنا. وقيل. معناه وليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد أي: بتراضي الوالد والوالدة بعد وقوع الفرقة في الأجرة على الأب، وإرضاع الولد بحيث لا يضر بمال الوالد ولا بنفس الولد، ولا يزاد على الأجر المتعارف، ولا ينقص الولد عن الرضاع المعتاد. قال
[ 48 ]
الكسائي: أصله التشاور ومنه (يأتمرون بك) أي يتشاورون. والأقوى عندي أن يكون المعنى دبروا بالمعروف بينكم في أمر الولد، ومراعاة أمه، حتى لا يفوت الولد شفقتها، وغير ذلك. ويدل عليه قول امرئ القيس: أحاربن عمرو، كأني خمر، * ويعدو على المرء ما يأتمر (1) يعني ما يدبره في نفسه لأن الرجل بما دبر أمرا ليس برشد فيعدو عليه ويهلكه (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) والمعنى فإن اختلفتم في الرضاع وفي الأجر، فسترضع له امرأة أخرى أجنبية أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. ثم قال سبحانه: (لينفق ذو سعة من سعته) أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسعوا، 1 على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم (ومن قدر عليه) أي ضيق عليه (رزقه فلينفق مما آتاه الله) والمعنى ومن كان رزقه بمقدار القوت، فلينفق على قدر ذلك، وعلى حسب إمكانه وطاقته (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه، لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه، وما لا يطيقه. (سيجعل الله بعد عسر يسرا) أي بعد ضيق سعة، وبعد فقر غنى، وبعد صعوبة الأمر سهولة. وفي هذا تسلية للصحابة، فإن الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت الفقر. ثم فتح الله تعالى عليهم البلاد، فيما بعد. (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله) أي وكم من أهل قرية عتوا على الله وعلى أنبيائه، يعني جاوزوا الحد في العصيان والمخالفة. (فحاسبناها حسابا شديدا) بالمناقشة والإستقصاء باستيفاء الحق وإيفائه. قال مقاتل. حاسبها الله تعالى بعملها في الدنيا، فجازاها بالعذاب، وهو قوله (وعذبناها عذابا نكرا) فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة وهو عذاب الإستئصال. وقيل: هو عذاب النار. فإن اللفظ ماض بمعنى المستقبل. والنكر. المنكر الفظيع الذي لم ير مثله. وقيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره: فعذبناها في الدنيا بالجوع، والقحط، والسيف، وسائر المصائب والبلايا، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. وقيل: الحساب الشديد هو الذي ليس فيه عفو. (1) خمر: من خالطه داء أو حب. وفي قائل الشعر ومعناه خلاف ذكره في (اللسان) في مادة (أمر) فرا جع. (*).
[ 49 ]
(فذاقت وبال أمرها) أي ثقل عاقبة كفرها (وكان عاقبة أمرها خسرا) أي خسرانا في الدنيا والأخرة. وهو قوله. (أعد الله لهم عذابا شديدا) يعني عذاب النار. وهذا يدل على أن المراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا. ثم، قال (فاتقوا الله يا أولي الألباب) أي يا أصحاب العقول، ولا تفعلوا مثل ما فعل أولئك، فينزل بكم مثل ما نزل بهم. ثم وصف أولي الألباب بقوله: (الذين آمنوا) وخص المؤمنين بالذكر، لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار. ثم ابتدأ سبحانه فقال. (قد أنزل الله إليكم ذكرا) يعني القرآن. وقيل: يعني الرسول، عن الحسن. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. النظم: الوجه في اتصال قوله (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها) الآية بما قبله أنه سبحانه بين أن الخوف في مقابلة الرجاء، وسبيل العاقل أن يحترز من المخوف، ويقدم الإحتراز من الخوف على الرجاء، والذي يقوي جانب الخوف أنه أهلك الأمم الماضية بسبب عصيانها وتمردها عن أمر ربها. (رسولا يتلوا عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا (11) الله الذى خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (12). القراءة: قرأ أهل المدينة والشام: (ندخله) بالنون. والباقون بالياء لتقدم الإسم على لفظ الغيبة والنون معناها معنى الياء. الاعراب: (رسولا): ينتصب على ثلالة أوجه أحدها: أن يكون بدلا من (ذكرا) بدل الكل من الكل. فعلى هذا يجوز أن يكون الرسول جبرائيل عليه السلام، ويجوز أن يكون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والثاني: أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره أرسل رسولا، ويدل على إضماره قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكرا). فعلى هذا يكون الرسول معناه محمدا والثالث: أن يكون مفعول قوله (ذكرا) ويكون تقديره
[ 50 ]
أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا، ويكون الرسول يحتمل الوجهين. المعنى: (رسولا) إذا كان المراد به الوجه الأول، وهو أن يكون بدلا من ذكرا والمراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو جبرائيل عليه السلام، فيجوز أن يكون المراد بالذكر الشرف أي: ذا ذكر رسولا (يتلوا عليكم آيات الله مبينات) أي واضحات (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات) أي من ظلمات الكفر (إلى النور) أي: نور الإيمان. وقيل: من ظلمات الجهل إلى نور العلم. وإنما شبه الإيمان بالنور لأنه يؤدي إلى نور القبر والقيامة والجنة، وشبه الكفر بالظلمة لأنه يؤدي إلى ظلمة القبر، وظلمة جهنم. (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) أي: يعطيه أحسن ما يعطي أحدا، وذلك مبالغة في وصف نعيم الجنة (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) أي وخلق من الأرض مثلهن في العدد، لا في الكيفية، لأن كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض. وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع مثل السماوات إلا هذه الأية. ولا خلاف في السماوات أنها سماء فوق سماء. وأما الأرضون فقال قوم: إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات، لأنها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة. وفي كل أرض خلق خلقهم الله كما شاء. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض، يفرق بينهن البحار، ويظل جميعهن السماء، والله سبحانه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه، واشتبه على خلقه. وقد روى العياشي بإسناده، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: بسط كفه ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدنيا، والسماء الدنيا عليها قبة والأرض الثانية فوق السماء الدنيا، والسماء الثانية فوقها قبة. والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبة. حتى ذكر الرابعة، والخامسة، والسادسة، فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة، والسماء السابعة فوقها قبة. وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله (سبع سماوات ومن الأرض مثلهن). (يتنزل الأمر بينهن) وإنما صاحب الأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على وجه الأرض، وإنما يتنزل الأمر من فوق بين السماوات والأرضين. فعلى هذا يكون المعنى تتنزل الملائكة بأوامره إلى الأنبياء. وقيل. معناه يتنزل الأمر بين السماوات والأرضين من الله سبحانه، بحياة بعض، وموت بعض، وسلامة حي، وهلاك آخر، وغنى
[ 51 ]
إنسان، وفقر آخر، وتصريف الأمور على الحكمة (لتعلموا أن الله على كل شئ قدير) بالتدبير في خلق السماوات والأرض، والإستدلال بذلك على أن صانعهما قادر لذاته، عالم لذاته، وذلك قوله (وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) ومعناه: إن معلوماته متميزة له بمنزلة ما قد أحاط به، فلم يفته شئ منها. وكذلك قوله. (ولا يحيطون به علما) معناه أنه ليس بمنزلة ما يحضره العلم بمكانه، فيكون كأنه قد أحاط به
[ 52 ]
66 - سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة مدنية اثنتا عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) أعطاه الله توبة نصوحا). تفسيرها: لما تقدم في تلك السورة أحكام النساء في الطلاق وغيره، افتتح سبحانه هذه السورة بأحكامهن أيضا فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور الرحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2) وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (3) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5) القراءة: قرأ الكسائي وحده: (عرف) بالتخفيف. والباقون: (عرف) بالتشديد. واختار التخفيف أبو بكر بن عياش، وهو من الحروف العشر التي قال: إني أدخلتها في قراءة عاصم من قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام، حتى استخلصت
[ 53 ]
قراءته، يعني قراءة علي عليه السلام، وهي قراءة الحسن، وأبي عبد الرحمن السلمي. وكان أبو عبد الرحمن إذا قرأ انسان بالتشديد، حصبه. وقرأ أهل الكوفة (تظاهرا عليه) خفيفة الظاء. والباقون: (تظاهرا) بالتشديد. الحجة: قال أبو علي: التخفيف في (عرف) أنه جازى عليه لا يكون إلا كذلك ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أظهره الله على ما كان أسره إليه، علم ذلك ولم يجز أن يعلم من ذلك بعضه مع إظهار الله إياه عليه، ولكن يعلم جميعه. وهذا كما تقول لمن يسئ أو يحسن: أنا اعرف لأهل (1) الإساءة أي: لا يخفى علي ذلك، ولا مقابلته مما يكون وفقا له. فالمعنى جازى على بعض ذلك، وأعرض عن بعض. ومثله (وما تفعلوا من خير يعلمه الله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) أي يرى جزاءه. وقوله يرى من رؤية العين. وكان مما جازى عليه تطليقه حفصة تطليقة واحدة. وأما (عرف) بالتشديد فمعناها عرف بعضه، وأعرض عن بعض، فلم يعرفه إياه على وجه التكرم والإغضاء. وأما تظاهرا فالأصل فيه وإن تتظاهرا بتاءين فخفف في القراءة الأولى بالحذف، وفي القراءة الأخرة بالإدغام. اللغة: الحرام: القبيح الممنوع منه بالنهي، ونقيضه الحلال، وهو الحسن المطلق بالإذن فيه. والتحريم: تبيين أن الشئ حرام لا يجوز. والتحريم: إيجاب المنع. والإبتغاء: الطلب ومنه البغي طلب الإستعلاء بغير الحق. والتحلة والتحليل بمعنى، وهما مصدران لقولهم حللت له كذا. وتحلة اليمين. فعل ما يسقط التبعة فيه. واليمين: واحد الأيمان، وهو الحلف، وكأنه مأخوذ من القوة، لأنه يقوي كلامه بالحلف. وقيل. إنه مأخوذ من الجارحة، لأن عادتهم كانت عند الحلف ضرب الأيدي على الأيدي. والإسرار: إلقاء المعنى إلى نفس المحدث على وجه الإخفاء عن غيره. والتظاهر: التعاون. والظهير: المعين، وأصله من الظهر. والسائح: الجاري والعرب تصف بذلك الماء الجاري الدائم الجرية. ثم تصف به الرجل الذي يضرب في الأرض، ويقطع البلاد فتقول: سائح وسياح. والثيب: الراجعة من عند الزوج بعد الإفتضاض، من ثاب يثوب إذا رجع. والبكر هي التي على أول حالها قبل الإفتضاض. (1) (الاحسان وأعرف لأهل). (*).
[ 54 ]
الاعراب: قيل في جمع القلوب في قوله (صغت قلوبكما) وجوه أحدها: إن التثنية جمع في المعنى، فوضمع الجمع موضع التثنية، كما قال: (وكنا لحكمهم شاهدين). وإنما هو داود وسليمان والثاني: إن أكثر ما في الإنسان اثنان اثنان نحو: اليدين، والرجلين، والعينين. وإذا جمع اثنان إلى اثنين، صار جمعا. فيقال: أيديهما وأعينهما. ثم حمل ما كان في الإنسان واحدا على ذلك، لئلا يختلف حكم لفظ أعضاء الإنسان والثالث: إن المضاف إليه مثنى فكرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين، فصرفوا الأول منهما إلى لفظ الجمع، لأن لفظ الجمع أخف لأنه أشبه بالواحد، فإنه يعرب بإعراب الواحد، ويستأنف كما يستأنف الواحد. وليست التثنية كذلك لأنها لا تكون إلا على حد واحد، ولا يختلف. ومن العرب من يثني فيقول قلباهما قال الراجز فجمع بين اللغتين: (ظهراهما مثل ظهور الترسين) (ا) وقال الفرزدق: بما فهي فؤادينا من البث والهوى * فيبرأ منهاض الفؤاد المشغف (2) ومن العرب من يفرد، ويروى أن بعضهم قرأ (فبدت لهما سوأتهما) والوجه في الإفراد أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف. وفي جبريل أربع لغات: جبريل على وزن قنديل. وجبرئيل على وزن عندليب. وجبرئل على وزن حجمرش. وجبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وهو خارج عن أوزان العرب لأنه ليس في العربية مثل قنديل. وقد قرئ بذلك كله. وقد ذكرنا اختلاف القراءة فيه في سورة البقرة. ومن العرب من يقول جبرال بتشديد اللام. ومنهم من يبدل من اللام نونا. وقوله (هو مولاه) يجوز في (هو) وجهان أحدهما: أن يكون فصلا دخل ليفصل بين النعت والخبر، والكوفيون يسمونه عمادا والثاني: أن يكون مبتدأ و (مولاه) الخبر. والجملة خبر ان. ومن جعل (مولاه) بمعنى السيد والخالق، كان الوقف على قوله (مولاه). و (جبريل): مبتدأ. (وصالح المؤمنين): عطف عليه. (1) نسبه في اللسان، والكتاب، وشرح الأشموني إلى خطام المجاشعي. وقيل: هو لهميان بن قحافة. وهذا عجز بيت قبله (ومهمهين قذفين مرتين) ومهمه - كجعفر -. الصحراء المقفرة، سموها بذلك على تقدير أن سالكها لخوفه منها يقول لمن معه. مه، مه، يريد كف عن الكلام. والقذف: الأرض الواسعة جدا. والمرت: الأرض لا نبات فيها ولا ماء. شبه ظهر الأرض بظهر الترس في الإحديداب لتاكيد أنها لا تنبت شيئا. (2) قوله: (منهاض) من هاض العظم: كسره بعد الجبر. والمشغف: الذي وصل الحزن شغافه أي. سويداء قلبه.
[ 55 ]
(والملائكة): عطف أيضا. (وظهير): خبره. وجاز ذلك لأن فعيلا يقع على الواحد والجمع كفعول. قال سبحانه: (خلصوا نجيا)،. فظهير كنجي. وقال (فإنهم عدو لي). ومن جعل مولاه بمعنى ولي وناصر جاز أن يكون الوقف على قوله (وجبريل)، وعلى (صالح المؤمنين). ويبتدئ (والملائكة بعد ذلك). فيكون (ظهير) عائدا إلى (الملائكة). النزول: اختلف أقوال المفسرين في سبب نزول الايات، فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى الغداة، يدخل على ازواجه امرأة امرأة. وكان قد أهديت لحفصة بنت عمر بن الخطاب عكة من عسل (ا). فكانت إذا دخل عليها رسول) الله صلى الله عليه وآله وسلم حبسته وسقته منها. وإن عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية حبشية عندها: إذا دخل رسول الله على حفصة، فادخلي عليها فانظري ماذا تصنع. فأخبرتها الخبر، وشأن العسل، فغارت عائشة وأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن وقالت: إذا دخل عليكن رسول الله فقلن: إنا نجد منك ريح المغافير، وهو صمغ العرفط، كريه الرائحة. وكان رسول الله يكره ويشق عليه أن يوجد منه ريح غير طيبة، لأنه يأتيه الملك. قال: فدخل رسول الله على سودة، قالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله ثم إنى فرقت من عائشة، فقلت: يا رسول الله ! ما هذه الريح التي أجدها منك أكلت المغافير ؟ فقال. لا ولكن حفصة سقتني عسلا. ثم دخل على امرأة امرأة، وهن يقلن له ذلك فدخل على عائشة، فاخذت بأنفها، فقال لها: ما شأنك ؟ قالت: اجد ريح المغافير أكلتها يا رسول الله ؟ قال: لا بل سقتني حفصة عسلا. فقالت: جرست (2) إذا نحلها العرفط. فقال: والله لا اطعمه أبدا. فحرمه على نفسه. وقيل: إن التي كانت تسقي رسول الله العسل، أم سلمة، عن عطاء بن أبي مسلم. وقيل: بل كانت زينب بنت جحش. قالت عائشة: إن رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي فلتقل: إني أجد منك ريح المغافير، أكلت مغافير. فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب (1) العكة: وعاء أصغر من القربة. (2) جرس الشئ: لحسه بلسانه. (*).
[ 56 ]
بنت جحش، ولن أعود إليه، فنزلت الآيات. وقيل. إن رسول الله قسم الأيام بين نسائه، فلما كان يوم حفصة قالت: يا رسول الله ! إن لي إلى أبي حاجة فائذن لي أن أزوره. فأذن لها. فلما خرجت أرسل رسول الله ! إلى جاريته مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فأتت حفصة. فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب. فخرج رسول الله ووجهه يقطر عرقا. فقالت حفصة: إنما أذنت لي من أجل هذا ! أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي، وعلى فراشي. أما ما رأيت لي حرمة وحقا ؟ ! فقال: أليس هي جاريتي قد أحل الله ذلك لي أسكتي فهو حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، وهو عندك أمانة. فلما خرج رسول الله قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك إن رسول الله قد حرم عليه أمته مارية، وقد أراحنا الله منها. وأخبرت عائشة بما رأت، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه، فنزلت: (يا أيها النبي لم تحرم) فطلق حفصة، واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوما، وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير، عن قتادة، والشعبي، ومسروق. وقيل. إن النبي خلا في يوم لعائشة مع جاريته أم إبراهيم مارية القبطية، فوقفت حفصة على ذلك، فقال لها رسول الله: لا تعلمي عائشة ذلك، وحرم مارية على نفسه. فأعلمت حفصة عائشة الخبر، واستكتمتها إياه، فأطلع الله نبيه على ذلك، وهو قوله. (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) يعني حفصة، عن الزجاج، قال: ولما حرم مارية القبطية أخبر حفصة أنه يملك من بعده أبو بكر، ثم عمر، فعرفها بعض ما أفشت من الخبر، وأعرض عن بعض إن أبا بكر وعمر يملكان بعدي. وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي جعفر عليه السلام إلا أنه زاد في ذلك. إن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك، فعاتبهما رسول الله في أمر مارية، وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الأخر. المعنى: (يا أيها النبي)، ناداه سبحانه بهذا النداء تشريفا له، وتعليما لعباده، كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم، ويذكرونه في خلال كلامهم (لم تحرم ما أحل
[ 57 ]
الله لك) من الملاذ (تبتغي مرضات أزواجك) أي تطلب به رضاء نسائك، وهن أحق بطلب مرضاتك منك. وليس في هذا دلالة على وقوع ذنب منه، صغير أو كبير، لأن تحريم الرجل بعض نسائه، أو بعض الملاذ، لسبب أو لغير سبب، ليس بقبيح، ولا داخلا في جملة الذنوب، ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجع له، إذ بالغ في إرضاء أزواجه، وتحمل في ذلك المشقة، ولو أن إنسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهن، لجاز أن يقال له، لم فعلت ذلك، وتحملت فيه المشقة، وإن كان لم يفعل قبيحا. ولو قلنا: إنه عوتب على ذلك، لأن ترك التحريم كان أفضل من فعله، لم يمتنع، لأنه يحسن أن يقال لتارك النفل لم لم تفعله ؟ ولم عدلت عنه ؟ ولأن تطييب قلوب النساء مما لا تنكره العقول. وقد حكي أن عبد الله بن رواحة، وكان من النقباء، كانت له جارية، فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن. قال فأنشدت: شهدت فلم أكذب بأن محمدا * رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى، ويحيى، كلاهما * له عمل في دينه متقبل وأن التي بالجزع من بطن نخلة، * ومن دانها، فل عن الخير معزل (1) فقالت زدني فانشدت: وفينا رسول الله نتلو كتابه * كما لاح معروف مع الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فنفوسسنا * به موقنات ان ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذارقدت بالكافرين المضاجع فقالت زدني فانشدت: شهدت بأن وعد الله حق، * وأن النار مثوى الكافرينا وأن محمدا يدعو بحق، * وأن الله مولى المؤمنينا فقالت. أما إذا قرأت القرآن فقد صدقتك (2). فاخبرت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) يصف (العزى) وهي شجرة كانت تعبد. وقوله. (فل عن الخير) - بالفاء - أي حال عنه، ويروى. (ومن دونها) عوض (ومن دانها). والمراد الصنم المنصوب حول العزى. (2) كانت زوجته تعتقد بان الجنب لا يقرأ القرآن، وزعمت أن الأشعار من آيات القرآن، فلما رأت أنه يقرأ القرآن - بزعمها - تيقنت بانه لم يجامع جاريته، وتخلص عبد الله بن رواحة من يدها بهذه الحيلة. (*).
[ 58 ]
فقال بعد أن تبسم: (خيركم خيركم لنسائه). واختلف العلماء فيمن قال لامرأته: (أنت علي حرام) " فقال مالك: هو ثلاث تطليقات. وقال أبو حنيفة: إن نوى به الظهار فهو ظهار، وإن نوى الإيلاء فهو إيلاء، وإن نوى الطلاق فهو طلاق بائن، وإن نوى ثلاثا كان ثلاثا، وإن نوى اثنتين فواحدة بائنة، وإن لم يكن له نية فهو يمين. قال الشافعي: إن نوى الطلاق كان طلاقا، والظهار كان ظهارا، وإن لم يكن له نية فهو يمين. وروي عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء أنه يمين، وقال أصحابنا: إنه لا يلزم به شئ ووجوده كعدمه، وهو قول مسروق. وإنما أوجب الله فيه الكفارة، لأن النبي كان حلف أن لا يقرب جاريته، ولا يشرب الشراب المذكور. فأوجب الله عليه أن يكفر عن يمينه، ويعود إلى استباحة ما كان حرمه، وبين أن التحريم لا يحصل إلا بامر الله ونهيه، ولا يصير الشئ حراما بتحريم من يحرمه على نفسه، إلا إذا حلف على تركه. (والله غفور) لعباده (رحيم) بهم إذا رجعوا إلى ما هو الأولى والأليق بالتقوى يرجع لهم إلى التولي (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي قد قدر الله تعالى لكم ما تحللون به أيمانكم إذا فعلتموها، وشرع لكم الحنث فيها، لأن اليمين ينحل بالحنث، فسمي ذلك تحلة. وقيل: معناه قد بين الله لكم كفارة أيمانكم في سورة المائدة، عن مقاتل، قال: أمر الله نبيه أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة، وعاد إلى مارية. وقيل: معناه فرض الله عليكم كفارة أيمانكم، كما قال. (وإن أسأتم فلها) أي فعليها. فسمى الكفارة تحلة، لأنها تجب عند انحلال اليمين. وفي هذا دلالة على أنه قد حلف، ولم يقتصر على قوله: هي على حرام، لأن هذا القول ليس بيمين. (والله) هو (مولاكم) أي وليكم يحفظكم وينصركم، وهو أولى بكم، وأولى بان تبتغوا رضاه (وهو العليم) " بمصالحكم (الحكيم) في أوامره ونواهيه لكم. وقيل: هو العليم بما قالت حفصة لعائشة الحكيم في تدبيره. (وإذ أسر النبي إلى بعضى أزواجه) وهي حفصة (حديثا) أي كلاما أمرها بإخفائه فالإسرار نقيض الإعلان (فلما نبأت) أي أخبرت غيرها بما خبرها (به) فأفشت سره (وأظهره الله عليه) أي وأطلع الله نبئه صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرى من إفشاء سره (عرف بعضه وأعرض عن بعض) أي عرف النبي حفصة بعض ما ذكرت، وأخبرها ببعض ما ذكرت، وأعرض
[ 59 ]
عن بعض ما ذكرت، وعن بعض ما جرى من الأمر، فلم يخبرها. وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد علم جميع ذلك لأن الإعراض إنما يكون بعد المعرفة، لكنه أخذ بمكارم الأخلاق، والتغافل من خلق الكرام. قال الحسن. ما استقصى كريم قط. وأما عرف بالتخفيف فمعناه. غضب عليها وجازاها بان طلقها تطليقة، ثم راجعها بأمر الله. وقيل: جازاها بان هم بطلاقها. (فلما نبأها به) أي فلما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه (قالت) حفصة (من أنبأك هذا) أي من أخبرك بهذا (قال) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نبأني العليم) بجميع الأمور (الخبير) بسرائر الصدور. ثم خاطب سبحانه عائشة وحفصة فقال: (إن تتوبا إلى الله) من التعاون على النبي بالإيذاء والتظاهر عليه، فقد حق عليكما التوبة، ووجب عليكم الرجوع إلى الحق. (فقد صغت) أي مالت (قلوبكما) إلى الإثم، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: معناه ضاقت قلوبكما عن سبيل الإستقامة، وعدلت عن الثواب إلى ما يوجب الإثم. وقيل: تقديره إن تتوبا إلى الله يقبل توبتكما. وقيل: إنه شرط في معنى الأمر أي: توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما (وإن تظاهرا عليه) أي وان تتعاونا على النبي بالإيذاء، عن ابن عباس، قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه واله والسلم ؟ قال: عائشة وحفصة. أورده البخاري في الصحيح. (فإن الله هو مولاه)، الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وجبريل) أيضا معين له، وناصر يحفظه (وصالح المؤمنين) يعني خيار المؤمنين، عن الضحاك. وقيل: يعني الأنبياء، عن قتادة. وقال الزجاج: صالح هنا ينوب عن الجميع كما تقول: يفعل هذا الخير من الناس، تريد كل خير. قال أبو مسلم: هو صالحو المؤمنين على الجمع. وسقطت الواو في المصحف لسقوطها في اللفظ. ووردت الرواية من طريق الخاص والعام أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو قول مجاهد. وفي كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لقد عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام أصحابه مرتين أما مرة فحيث قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه). وأما الثانية فحيث نزلت هذه الاية (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) الأية. أخذ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بيد علي عليه السلام فقال: أيها الناس ! هذا صالح المؤمنين. وقالت أسماء بنت عميس سمعت أن النبي صلى الله عليه واله والسلم يقول
[ 60 ]
(وصالح المؤمنين)، علي بن أبي طالب عليه السلام. (والملائكة بعد ذلك) أي بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين، عن مقاتل (ظهير) أي أعوان للنبي. وهذا من الواحد الذي يؤدي معنى الجمع كقوله (وحسن أولئك رفيقا). (عسى ربه) أي واجب من الله ربه (إن طلقكن) يا معشر أزواج النبي (أن يبدله أزواجا خيرا منكن) أي أصلح له منكن. ثم نعت تلك الأزواج اللائي كان يبدله بهن لو طلق نساءه، فقال ل (مسلمات) أي مستسلمات لما أمر الله به (مؤمنات) أي مصدقات لله ورسوله، مستحقات للثواب والتعظيم. وقيل: مصدقات في أفعالهن وأقوالهن (قانتات) أي مطيعات لله تعالى ولأزواجهن. وقيل: خاضعات متذللات لأمر الله تعالى. وقيل: ساكتات عن الخنا والفضول، عن قتادة (تائبات) عن الذنوب. وقيل. راجعات إلى أمر الرسول، تاركات لمحاب أنفسهن. وقيل: نادمات على تقصير وقع منهن. (عابدات) لله تعالى بما تعبدهن به من الفرائض والسنن على الإخلاص. وقيل: متذللات للرسول بالطاعة (سائحات) أي ماضيات في طاعة الله تعالى. وقيل: صائمات عن ابن عباس وقتادة والضحاك. وقيل: مهاجرات عن ابن زيد، وأبيه زيد بن أسلم، والجبائي. وإنما قيل للصائم سائح، لأنه يستمر في الإمساك عن الطعام، كما يستمر السائح في الأرض (ثيبات) وهن الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن (وأبكارا) أي عذارى لم يكن لهن أزواج. (يأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون (7) يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير (8) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين
[ 61 ]
واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (9) ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صلحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (10) وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظلمين (11) ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12). القراءة: قرأ حماد ويحيى عن أبي بكر: (نصوحا) بضم النون. والباقون بفتح النون. وقرأ أهل البصرة وحفص: (وكتبه) بضم الكاف والتاء على الجمع. والباقون: (وكتابه) على الواحد. الحجة: قال أبو علي. يشبه أن يكون النصوح بالضم مصدرا، وذلك أن ذا الرمة قال. (أحبك حبا خالطته نصاحة) (ا) فالنصاحة على فعالة، وما كان على فعال من المصادر فقد يكون منه الفعول نحو الذهاب والذهوب. ويكون قد وصف بالمصدر نحو عدل ورضا. قال أبو الحسن. نصحته في معنى صدقته، وتوبة نصوح أي صادقة. والفتح كلام العرب، ولا أعرف الضم. وحجة من قال (وكتبه) أنه في موضع جمع. ألا ترى أنها قد صدقت بجميع كتب الله تعالى. ومن قال (وكتابه) أراد الكثرة والشياع، وقد يجئ ذلك في الأسماء المضافة كما يجئ في الأسماء المفردة كما قال (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). الاعراب: (والذين آمنوا معه) مبتدأ. (نورهم): مبتدأ ثاني. و (يسعى بين أيديهم). في موضع الخبر. والجملة خبر المبتدأ الأول. وقوله (امرأة فرعون): تقديره مثل امرأة فرعون فحذف المضاف، وهو بدل من قوله (مثلا). المعنى: لما أدب سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر عقيبه المؤمنين بتأديب (1) وبعده: (وإن كنت إحدى اللويات الفوارك) والنساء الفوارك: التي تبغض زوجها. (*).
[ 62 ]
نسائهم، فقال مخاطبا لهم: (يا أيها الذين آمنوا قوا) أي: احفظوا، واحرسوا، وامنعوا (أنفسكم وأهليكم نارا) والمعنى قوا أنفسكم وأهليكم النار بالصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعن اتباع الشهوات. وقوا أهليكم النار بدعائهم إلى الطاعة، وتعليمهم الفرائض، ونهيهم عن القبائح، وحثهم على أفعال الخير. وقال مقاتل بن حيان. وهو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله، ويعلمهم الخير، وينهاهم عن الشر، فذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه، وأهله، وعبيده، وإمائه، في تأديبهم وتعليمهم. ثم وصف سبحانه النار التي حذرهم منها فقال. (وقودها الناس والحجارة) أي حطب تلك النار الناس وحجارة الكبريت، وهي تزيد في قوة النار. وقد مر تفسيره (عليها ملائكة غلاظ شداد) أي غلاظ القلوب، لا يرحمون أهل النار، أقوياء يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) وفي هذا دلالة على أن الملائكة الموكلين بالنار، معصومون عن القبائح، لا يخالفون الله في أوامره ونواهيه. وقال الجبائي: إنما عنى أنهم لا يعصونه، ويفعلون ما يأمرهم به في دار الدنيا، لأن الاخرة ليست بدار تكليف، وإنما هي دار جزاء. وإنما أمرهم الله تعالى بتعذيب أهل النار، على وجه الثواب لهم، بأن جعل سرورهم ولذاتهم في تعذيب أهل النار، كما جعل سرور المؤمنين ولذاتهم في الجنة. ثم حكى سبحانه ما يقال للكفار يوم القيامة فقال. (يا ايها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) وذلك أنهم إذا عذبوا يأخذون في الإعتذار، فلا يلتفت إلى معاذيرهم، ويقال لهم: لا تعتذروا اليوم فهذا جزاء فعلكم، وذلك قوله (إنما تجزون ما كتم تعملون). ثم عاد سبحانه إلى خطاب المؤمنين في دار التكليف، فقال: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله) من معاصيه، وارجعوا إلى طاعته (توبة نصوحا) أي خالصة لوجه الله. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ! ما التوبة النصوح ؟ قال. (أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع). وقال ابن مسعود: التوبة النصوح هي التي تكفر كل سيئة، وهو في القرآن. ثم تلا هذه الاية. وقيل: إن التوبة النصوح هي التي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح. وقيل: هي أن يكون العبد نادما على ما مضى، مجمعا على أن لا يعود فيه، عن الحسن. وقيل:
[ 63 ]
هي الصادقة الناصحة، عن قتادة. وقيل. هي أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن، عن الكلبي. وقيل: هي التوبة المقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعة، عن سعيد بن جبير. وقيل: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنه ينظر إليه. وقيل: هي من النصح، وهو الخياطة لأن العصيان يخرق الدين، والتوبة ترقعه. وقيل: لأنها جمعت بينه وبين أولياء الله، كما جمع الخياط الثوب، وألصق بعضه ببعض. وقيل. لأنها أحكمت طاعته وأوثقتها كما أحكم الخياط الثوب وأوثقه. (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي يحطها عنكم، ويدخلكم الجنة. وعسى من الله واجب. ثم قال. (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) أي لا يعذبهم الله بدخول النار، ولا يذلهم بذلك، بل يعزهم بإدخالهم الجنة. وقيل: لا يخزي الله النبي أي لا يشوره فيما يريده من الشفاعة بل يشفعه في ذلك (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) مفسر في سورة الحديد. وقال أبو عبد الله عليه السلام: يسعى أئمة المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازلهم في الجنة. (يقولون ربنا) وهو في موضع نصب على الحال تقديره: قائلين ربنا (أتمم لنا نورنا) وقيل: إن قوله (والذين آمنوا معه) مبتدأ و (نورهم يسعى) خبره. و (يقولون أتمم لنا نورنا) خبر آخر من (الذين آمنوا) وحال منهم. وفيه وجه آخر ذكرناه في الإعراب. وقيل. (أتمم لنا نورنا) معناه: وفقنا للطاعة التي هي سبب النور (واغفر لنا) أي استر علينا معاصينا، ولا تهلكنا بها (إنك على كل شئ قدير) من اطفاء نور المنافقين وإثبات نور المؤمنين. ثم خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالقتال والحرب (والمنافقين) بالقول الرادع عن القبيح لا بالحرب الا أن فيه بذل المجهود، فلذلك سماه جهادا. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه قرأ (جاهد الكفار بالمنافقين) وقال: إن رسول الله لم يقاتل منافقا قط، إنما كان يتألفهم (واغلظ عليهم) أي اشدد عليهم من غير محاباة. وقيل. أشدد عليهم في إقامة الحد عليهم. قال الحسن: اكثر من يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون، فأمر لله تعالى أن يغلظ عليهم في إقامة الحد (وماواهم) أي مآل الكفار والمنافقين (جهنم وبئس المصير)
[ 64 ]
أي المآل والمستقر. ثم ضرب الله المثل لأزواج النبي حثا لهن على الطاعة، وبيانا لهن أن مصاحبة الرسول مع مخالفته لا تنفعهن فقال: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا) أي نبيين من أنبيائنا (صالحين فخانتاهما) قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس. إنه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما. وما بغت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما في الدين. وقال السدي: كانت خيانتهما أنهما كانتا كافرتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقال الضحاك: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين. (فلم يغنيا عنهما من الله شيئا) أي ولم يغن نوح ولوط مع نبوتهما عن امرأتيهما من عذاب الله شيئا. (وقيل) أي ويقال لهما يوم القيامة (ادخلا النار مع الداخلين) وقيل: إن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط واهلة. وقال مقاتل: والغة ووالهة. (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ) وهي آسية بنت مزاحم. قيل: إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى، وغلبته السحرة، أسلمت. فلما ظهر لفرعون إيمانها، نهاها فأبت، فاوتد يديها ورجليها باربعة أوتاد، وألقاها في الشمس. ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة. فلما قرب أجلها (قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) فرفعها الله تعالى إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب، عن الحسن، وابن كيسان. وقيل: إنها أبصرت بيتا في الجنة من درة، وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسدها، وليس فيه روح، فلم تجد ألما من عذاب فرعون. وقيل: إنها كانت تعذب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وجعلت ترى بيتها في الجنة، عن سلمان (ونجني من فرعون وعمله) أي دينه. وقيل: وجماعته عن ابن عباس. (ونجني من القوم الظالمين) من أهل مصر قالوا: قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية، رجاء أن يقطعه صلاح غيره، وأخبر أن معصية الغير لا تضر من كان مطيعا. قال مقاتل: يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح، وامرأة لوط في المعصية، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم، وهو قوله: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) أي منعت فرجها من دنس المعصية، وعفت عن
[ 65 ]
الحرام. وقيل: معناه منعت فرجها من الأزواج لم تبتغ زوجا ولا غيره. (فنفخنا فيه من روحنا) أي فنفخ جبرائيل بأمرنا في جيبها من روحنا، عن قتادة. وقال الفراء: كل شق فهو فرج، وأحصنت فرجها منعت جيب درعها من جبرائيل. وقيل: نفخ جبرائيل في فرجها، وخلق الله منه المسيح، وهو الظاهر، ولذلك ذكره وقال في سورة الأنبياء فيها. وعاد الضمير إلى التي أحصنت فرجها. وقيل. معناه خلقنا المسيح في بطنها، ونفخنا فيه الروح، حتى صار حيا. فالضمير في فيه يعود إلى المسيح. (وصدقت بكلمات ربها) اي بما تكلم الله تعالى وأوحاه إلى أنبيائه وملائكته. وقيل: صدقت بوعد الله ووعيده، وأمره ونهيه. (وكتبه) أي وصدقت بكتب الله المنزلة على أنبيائه مثل التوراة والإنجيل. ومن وحد فالمراد به الإنجيل. (وكانت من القانتين) أي المطيعين لله سبحانه والدائمين على طاعته. ويجوز أن يكون من القنوت في الصلاة. ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت مريم منهم، وكانوا أهل بيت صلاح وطاعة، ولم يقل من القانتات لتغليب المذكر على المؤنث. وجاءت الرواية عن معاذ بن جبل قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة، وهي تجود بنفسها، فقال: أكره ما نزل بك يا خديجة، وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا، فإذا قدمت على ضراتك فاقرأيهن مني السلام. قالت: يا رسول الله ! ومن هن ؟ قال: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وحليمة، أو كليمة أخت موسى. (شك الراوي). فقالت: بالرفاء والبنين (1). وعن أبي موسى عن النبي قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (1) أي بالسكون والطمأنينة من رفوت الرجل: إذا سكنته، أو بمعنى الإتفاق وحسن الإجتماع. يقال ذلك لمن تزوج امرأة.
[ 66 ]
67 - سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون وتسمى سورة المنجية، لأنها تنجي صاحبها من عذاب القبر، وقد ورد به الخبر. وتسمى الواقية لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها الواقية من عذاب القبر، وهي مكية. عدد آيها: إحدى وثلاثون آية مكي والمدني الأخير، وثلاثون آية في الباقين. اختلافها: آية واحدة قد جاءنا نذير مكي والمدني الأخير. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة تبارك، فكأنما أحيا ليلة القدر). وعن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار، وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك). وعن ابن مسعود قال: إذا وضعت الميت في قبره، يؤتى من قبل رجليه، فيقال له: ليس لكم عليه سبيل، لأنه قد كان يقوم بسورة الملك، ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه. ليس لكم عليه سبيل، لأنه كان يقرأ بي سورة الملك. ثم قال: هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروى الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن سدير الصيرفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر. وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب، ولم يكتب من الغافلين، وإني لأركع بها بعد العشاء الاخرة، وأنا جالس. وإن الذي كان يقرأها في حياته في يومه وليلته، إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قبل رجليه قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقوم علي فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة، فإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس
[ 67 ]
لكما إلى ما قبلي سبيل، كان هذا العبد وقد وعى سورة الملك، وإذا أتياه من قبل لسانه، قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقرأ في كل يوم وليلة سورة الملك. أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة (تبارك الذي بيده الملك) في المكتوبة، قبل أن ينام، لم يزل في أمان الله حتى يصبح، وفي أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة إن شاء الله. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بأن الوصلة لا تنفع إلا بالطاعة، وأصل الطاعة المعرفة والتصديق بالكلمات الإلهية، افتتح هذه السورة بدلائل المعرفة، وآيات الربوبية، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (تبرك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير (1) الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2) الذى خلق سبع سموت طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5). القراءة: قرأ حمزة والكسائي: (من تفوت) بتشديد الواو من غير ألف، وهي قراءة الأعمش. والباقون. (تفاوت) بالألف. الحجة: قال أبو الحسن: تفاوت أجود، لأنهم يقولون: تفاوت الأمر، ولا يكادون يقولون تفوت الأمر. قال: وهي أظن لغة. قال سيبويه: قد يكون فاعل وفعل بمعنى، نحو ضاعف وضعف، وتفاعل مطاوع فاعل، كما أن تفعل مطاوع فعل. فعلى هذا القياس يكون تفاعل وتفعل بمعنى. وتفاوت وتفوت بمعنى. اللغة: تبارك: أصله من البرك، وهو ثبوت الطائر على الماء. والبركة: ثبوت الخير بنمائه. وقوله طباقا. مصدر طوبقت طباقا، فهي مطبق بعضها على بعض، عن الزجاج. وقيل: هو جمع طبق مثل جمل وجمال. والتفاوت: الإختلاف
[ 68 ]
والإضطراب. والفطور. الشقوق والصدوع من الفطر، وهو الشق الخاسئ الذليل الصاغر. وقيل: هو البعيد مما يريده منه. وقيل للكلب: اخسأ والحسير من الإبل: المعيي الذي لا فضل فيه للسير. قال: بها جيف الحسرى، فأما عظامها * فبيض، وأما جلدها فصليب (1) والسعير: النار المسعرة. وأعتدنا أصله أعددنا أي: هيأنا. فأبدلت الدال تاء. اعراب: (الذي خلق): بدل من (الذي بيده الملك) ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف. فعلى هذا الوجه يجوز الوقف على ما قبله. وعلى الوجه الأول لا يجوز وقوله (أيكم أحسن عملا) تعليق، لأن التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا. وارتفع أي بالإبتداء. وإنما لم يعمل فيه ما قبله، لأنه على أصل الإستفهام و (طباقا): نصب على الحال إذا أردنا في سماوات معنى الألف واللام. وإن جعلناها نكرة كان طباقا صفتها. وقوله (كرتين): منصوب على المصدر أي: رجعتين. المعنى: أخبر سبحانه عن عظمته، وعلو شأنه، وكمال قدرته، فقال: (تبارك) أي تعالى وجل عما لا يجوز عليه في ذاته وأفعاله، عن أبي مسلم. وقيل: معناه تعالى بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: معناه تعاظم بالحق من ثبوت الأشياء به، إذ لولاه لبطل كل شئ، لأنه لا يصح سواه شئ إلا وهو مقدوره، أو مقدور مقدوره الذي هو القدرة. وقيل: معناه تعالى بان جميع البركات منه، إلا أن هذا المعنى مضمر في الصفة، غير مصرح به، وإنما المصرح به أنه تعالى باستحقاق التعظيم (الذى بيده الملك) والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسية والتدبير، ومعناه: الذي هو المالك، وله الملك يؤتيه من يشاء، ويتصرف فيه كما يشاء. وانما ذكر اليد تأكيدا، ولأن أكثر التصرفات والعطايا باليد. (وهو على كل شئ قدير) من إنعام وانتقام. وقيل: معناه أنه قادر على كل شئ، يصح أن، يكون مقدورا له، وهو أخص من قولنا (وهو بكل شئ عليم) لأنه لا شئ إلا ويجب أن يعلمه، إذ لا شئ إلا ويصح أن يكون معلوما في نفسه. ولا (1) يصف برية واسعة هلكث فيها المطايا، وبقي فيها جيفها. (*).
[ 69 ]
يوصف سبحانه بكونه قادرا على ما لا يصح أن يكون مقدورا في نفسه، مثل ما تقضى وقته مما لا يبقى. ثم وصف سبحانه نفسه فقال: (الذي خلق الموت والحياة) أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه، والحياة للتعبد بالشكر عليها. وقيل. خلق الموت للإعتبار، والحياة للتزود. وقيل: إنما قدم ذكر الموت على الحياة، لأنه إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين في قوله (يهب لمن يشاء إناثا) الآية. وقيل: إنما قدمه لأنه أقدم، فإن الأشياء في الإبتداء كانت في حكم الأموات، كالنطفة والتراب، ثم اعترضت الحياة. (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي، فيجازي كل عامل بقدر عمله. وقيل: ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا، وأحسن له استعدادا، وأحسن صبرا على موته، وموت غيره، وأيكم أكثر امتثالا للأوامر، واجتنابا عن النواهي في حال حياته. قال أبو قتادة: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى (أيكم أحسن عملا) ما عنى به ؟ فقال يقول: (أيكم أحسن عقلا. ثم قال: أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرا، وإن كان أقلكم تطوعا). وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تلا قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) إلى قوله (أيكم أحسن عملا) ثم قال: (أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله،. وعن الحسن أيكم أزهد في الدنيا، وأترك لها (وهو العزيز) في انتقامه ممن عصاه (الغفور) لمن تاب إليه أو لمن أراد التفضل عليه بإسقاط عقابه. والتكليف إنما يصح بالترغيب والترهيب، لأن معناه تحمل المشقة في الأمر والنهي. ثم عاد سبحانه إلى وصف نفسه فقال. (الذي خلق سبع سماوات) أي أنشأهن واخترعهن (طباقا) واحدة فوق الأخرى. وقيل: أراد بالمطابقة المشابهة أي: يشبه بعضها بعضا في الإتقان والإحكام، والإتساق والإنتظام. (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) أي اختلاف وتناقض من طريق الحكمة، بل ترى أفعاله كلها سواء في الحكمة، وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات، يعني في خلق الأشياء على العموم. وفي هذا دلالة على أن الكفر والمعاصي، لا يكون من خلق الله تعالى لكثرة التفاوت في ذلك. وقيل. معناه ما ترى يا ابن آدم في خلق السماوات من عيب واعوجاج، بل هي مستقيمة مستوية كلها مع عظمها.
[ 70 ]
(فارجع البصر) أي فرد البصر، وأدره في خلق الله، واستقص في النظر مرة بعد أخرى والتقدير: أنظر ثم ارجع النظر في السماء (هل ترى من فطور) أي شقوق وفتوق، عن سفيان. وقيل. من وهن وخلل، عن ابن عباس وقتادة. (ثم ارجع البصر كرتين) أي ثم كرر النظر مرتين، لأن من نظر في الشئ كرة بعد أخرى، بان له ما لم يكن بائنا. وقيل. معناه أدم النظر، والتقدير: أرجع البصر مرة بعد أخرى، ولا يريد حقيقة التثنية لقوله. (وهو حسير)، ولا يصير حسيرا بمرتين، ونظيره قولهم لبيك وسعديك أي: إلبابا بعد إلباب، وإسعادا بعد إسعاد، يعني كلما دعوتني فأنا ذو إجابة بعد إجابة، وذو ثبات بمكاني بعد ثبات، من قولهم لب بالمكان وألب إذا ثبت وأقام وهو نصب على المصدر أي: أجيبك إجابة بعد إجابة. (ينقلب إليك البصر خاسئا) أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد، ذليلا صاغرا، عن ابن عباس، كانه ذل كذلة من طلب شيئا فلم يجده، وأبعد عنه (وهو حسير) أي كال معي، عن قتادة. والتحقيق أن بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيدا عن طلبته، خائبا في بغيته. ثم أقسم سبحانه فقال: (ولقد زينا السماء الدنيا) لأن هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم أي: حسنا السماء الدنيا يعني التي هي أدنى إلى الأرض، وهي التي يراها الناس (بمصابيح) واحدها مصباح يعني الكواكب، سماها المصابيح لإضاءتها، وهي السرج (وجعلناها رجوما للشياطين) الذين يسترقون السمع. وقيل. ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين، فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها، عن الجبائي. (وأعتدنا لهم عذاب السعير) يعني إنا جعلنا مع الكواكب رجوما للشياطين، هيأنا لهم، وادخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة. وفي هذا دلالة على أن الشياطين مكلفة. (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير (6) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلل كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10) فاعترفوا بذنبهم
[ 71 ]
فسحقا لأصحاب السعير (11). القراءة: قرأ أبو جعفر والكسائي: (فسحقا) بضمتين. والباقون بالتخفيف. الحجة: سحق وسحق مثل عنق وعنق، وطنب وطنب، ونحو ذلك، وكلاهما حسن اللغة: الشهيق: صوت تقطيع النفس كالنزع، وإذا اشتد لهيب النار سمع منها ذلك الصوت كأنها تطلب الوقود. قال رؤبة: حشرج في الجوف سحيلا، أوشهق، * حتى يقال ناهق، ومانهق (1) وقيل: إن الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق. والفور: ارتفاع الشئ بالغليان. يقال: فارت القدر تفور، ومنه الفوارة لارتفاعها بالماء ارتفاع الغليان، ومنه فار الدم من الجرح، وفار الماء من الأرض. والسحق: البعد، يقال: أسحقهم الله إسحاقا وسحقا أي: ألزمهم الله سحقا عن الخير فجاء المصدر على غير لفظه، كما قال. (والله أنبتكم من الأرض نباتا)، وتقديره: فأسحقهم إسحاقا. وأما سحقته سحقا، فمعناه: باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه حتى صار كالغبار. المعنى: لما تقدم وعيد الشياطين الذين دعوا إلى الكفر والضلال، أتبعه سبحانه بذكر الكفار الضلال فقال: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير) أي بئس المآل والمرجع. وإنما وصف ببئس، وهو من صفات الذم والعقاب، حسن لما في ذلك من الضرر الذي يجب على كل عاقل أن يتقيه بغاية الجهد، ولا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به فاعل العقاب، لأنه لا يقال بئس الرجل إلا على وجه الذم، ووجه الحكمة في فعل العقاب ما فيه من الزجر المتقدم للمكلف، ولا يمكن أن يكون مزجورا إلا به، ولولاه لكان مغرى بالقبيح (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا) أي إذا طرح الكفار في النار، سمعوا للنار صوتا فظيعا مثل صوت القدر عند فورانها وغليانها، فيعظم بسماع ذلك عذابهم لما يرد على قلوبهم من هوله. (ا) هذا بيت من أرجوزة طويلة من أبيات منها وصف فيها حمار الوحش وأتنه التي شبه ناقته بها في الجلادة وسرعة العدو والحشرجة. صوت الحمار من صدره. والسحيل: الصوت الذي يدور في صدره. والنهيق: صوته أيضا. (*).
[ 72 ]
(وهى تفور) أي تغلي بهم كغلي المرجل (تكاد تميز) أي تتقطع وثتفرق (من الغيظ) أي شدة الغضب. سمى سبحانه شدة التهاب النار غيظا على الكفار، لأن المغتاظ هو المتقطع مما يجد من الألم الباعث على الإيقاع بغيره. فحال جهنم كحال المتغيظ (كلما ألقي فيها) أي كلما طرح في النار (فوج) من الكفار (سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) أي تقول لهم الملائكة الموكلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الإستفهام. ألم يجئكم مخوف من جهة الله سبحانه، يخوفكم عذاب هذه النار. (قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ) أي فيقولون في جوابهم: بلى قد جاءنا مخوف فلم نصدقه، وكذبناه، ولم نقبل منه بل قلنا له ما نزل الله شيئا مما تدعونا إليه، وتحذرنا منه. فتقول لهم الملائكة: (إن أنتم إلا في ضلال كبير) أي لستم اليوم إلا في عذاب عظيم. وقيل: معناه قلنا للرسل ما أنتم إلا في ضلال، أي ذهاب عن الصواب كبير في قولكم أنزل الله علينا كتابا. (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل) من النذر ما جاؤونا به، ودعونا إليه، وعملنا بذلك ما كنا في أصحاب السعير) وقال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر، ونعقل عقل من يميز وينظر، ما كنا من أهل النار. وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الرجل ليكون من أهل الجهاد، ومن أهل الصلاة والصيام، وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يجزى يوم القيامة إلا على قدر عقله). وعن أنس بن مالك قال: أثنى قوم على رجل عند رسول الله فقال رسول الله: كيف عقل الرجل ؟ قالوا. يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة، وأصناف الخير، وتسألنا عن عقله ؟ فقال (إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات، وينالون الزلفى من ربهم، على قدر عقولهم). ثم قال سبحانه: (فاعترفوا بذنبهم) في ذلك الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإقرار والإعتراف. والإقرار مشتق من قر الشئ يقر قرارا إذا ثبت. والإعتراف مأخوذ من المعرفة. والذنب مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومتى جمع فلاختلاف جنسه. (فسحقا لأصحاب السعير) هذا دعاء عليهم أي: أسحقهم الله وأبعدهم من النجاة سحقا. وإذا قيل: ما وجه اغترافهم بالذنب مع ما عليهم من الفضيحة به ؟ فالجواب: إنهم قد علموا حصولهم على الفضيحة، اعترفوا أم لم يعترفوا، فليس يدعوهم إلى أحد
[ 73 ]
الأمرين، إلا مثل ما يدعوهم إلى الأخر، في أنه لا فرج فيه. فاستوى الأمران عليهم الإعتراف وترك الإعتراف، والجزع وترك الجزع. (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير (12) وأسروا قولكم أواجهروا به إنه عليم بذات الصدور (13) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14) هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15) أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير (18) أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شي بصير (19) أمن هذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكفرون إلا في غرور (20) أمن هذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور (21). القراءة: قرأ ابن كثير: (النشور وأمنتم). وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ويعقوب بهمزة واحدة ممدودة، وهو تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بأن تجعل بين بين. وقرأ الباقون: (أأمنتم) بهمزتين. الحجة: أما الأول فهو تخفيف الهمزة الأولى، بان جعلت واوا، وهذا في المنفصل نظير قولهم في المتصل التؤدة وجون في جمع جؤنة. فأما الهمزة التي هي فاء من قولهم: (أأمنتم) بعد تخفيف الأولى بقلبها واوا، فإنه يجوز فيه التحقيق والتخفيف. فإن حقق كان لفظه (النشور وأمنتم). وإن خفف كان القياس أن تجعل بين بين، أعني بين الألف والهمزة، لتحركها بالفتحة. ومن قال: لا هناك المرتع (ا) وقلبها ألفا، كان القياس أن يقول: هنا (النشور وأمنتم) بقلبها ألفا محضة. وسيبويه يجيز هذا القلب في الشعر، وغير حال السعة. وكان قياس قول أبي (1) من عجز بيت انشده سيبويه، ولم ينسبه إلى قائل، وتمامه: (فأرعي فزارة لا هناك المرتع). (*).
[ 74 ]
عمرو على ما حكاه عنه سيبويه، من أنه إذا اجتمع همزتان خفف الأولى منهما دون الثانية، بأن يقلب الأولى منهما هنا واوا، كما فعله ابن كثير. فأما الثانية فإن شاء حققها، وإن شاء خففها. وتخفيفها أن تجعل بين الهمزة والألف. ولعل أبا عمرو ترك هذا القول في هذا الموضع، فأخذ فيه بالوجه الآخر، وهو تخفيف الثانية منهما إذا التقتا دون الأولى. اللغة: اللطف من الله: الرأفة والرحمة والرفق. واللطيف: الرفيق بعباده، يقال. لطف به يلطف لطفا إذا رفق به. والذلول من المراكب ما لا صعوبة فيه ومناكب الأرض: ظهورها. ومنكب كل شئ: أعلاه، وأصله الجانب، ومنه منكب الرجل، والريح النكباء. والنشور: الحياة بعد الموت، يقال: نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش. وأنشره الله: أحياه. قال الأعشى. حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر (1) وأصله من النشر ضد الطي. والحاصب: الحجارة التي ترمي بها كالحصباء. وحصبه بالحصاة يحصبه حصبا إذا رماه بها. ويقال للذي يرمي به حاصب أي: ذو حصب. الاعراب: (بالغيب): في موضع نصب على الحال. (ألا يعلم من خلق) فيه وجوه أحدها: أن يكون من خلق في موضع رفع بأنه فاعل يعلم، والتقدير ألا يعلم من خلق الخلق ضمائر صدورهم الثاني. أن يكون من خلق في موضع نصب بانه مفعول به، وتقديره ألا يعلم الله من خلقه والثالث: أن يكون من أستفهاما في موضع نصب بأنه مفعول خلق وفاعل خلق الضمير المستكن فيه العائد إلى الله تعالى، والأول أصح الوجوه. وقوله (أن يخسف بكم الأرض): في موضع نصب بانه بدل من في قوله. (من في السماء) وهو بدل الإشتمال. (فإذا هي تمور): إذا ظرف المفاجأة وهو معمول. قوله (وهي تمور). جملة في موضع نصب على الحال من (يخسف بكم الأرض)، وذو الحال الأرض. و (أن يرسل): بدل أيضا مثل قوله (1) يصف جارية، وقبل هذا البيت قوله: (لوأسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر) والناشر بمعنى المنشور كما في قوله تعالى: (ماء دافق) بمعنى المدفوق. (*).
[ 75 ]
(أن يخسف) وقوله (كيف نذير) مبتدأ وخبر. والخبر مقدم، والجملة متعلقة بقوله (فستعلمون) والتقدير فستعلمون محذور إنذاري أم لا. وقوله (فكيف كان نكير) كيف هنا خبر كان. وقوله (ويقبضن) معطوف على صافات، وإنما عطف الفعل على الإسم. ومن الأصل المقرر أن الفعل لا يعطف إلا على الفعل، كما أن الإسم لا يعطف إلا على الإسم، لأنه وإن كان فعلا فهو في موضع الحال، فتقديره اسم فاعل. و (صافات). حال فجاز أن يعطف عليه، فكأنه قال صافات وقابضات، وقد جاء مثل هذا في الشعر، قال: بات يعشيها بعضب باتر، * يعدل في أسوقها، وجائر (1) (أمن هذا الذي هو جند لكم): من هنا استفهام في موضع رفع بالإبتداء دخل عليه أم المنقطعة. و (هذا) مبتدأ ثان. و (الذي) خبره، وقد وصل بالمبتدأ والخبر، وهو قوله (هوجند لكم) و (ينصركم): صفة لجند. المعنى: لما تقدم الوعيد، عقبه سبحانه بالوعد فقال: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه، وفعل طاعاته على وجه الإستسرار بذلك لأن الخشية متى كانت بالغيب على ما ذكرنا، كانت بعيدة من الرياء خالصة لوجه الله، وخشية الله بالغيب تنفع بأن يستحق عليها الثواب، وخشيته في الظاهر بترك المعاصي، لا يستحق بها الثواب، فإذا الخشية بالغيب أفضل لا محالة. وقيل: بالغيب معناه أنه يخشونه، ولم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه. وقيل. يخافونه حيث لا يراهم مخلوق لأن أكثر ما ترتكب المعاصي إنما ترتكب في حال الخلوة فهم يتركون المعصية، لئلا يجعلوا الله سبحانه أهون الناظرين إليهم ولأن من تركها في هذه الحال تركها في حال العلانية أيضا. (لهم مغفرة) لذنوبهم (وأجر كبير) أي عظيم في الاخرة لا فناء له. ثم قال (ا) يصف رجلا كريما وفد عليه الأضياف فبادر إلى نحر الجزور لعشاء هؤلاء الضيفان. وقوله: (ويعشيها) بالعين المهملة، والضمير يرجع إلى الجزور. وروي بالغين المعجمة، فالضمبر يرجع إلى زوجة الرجل، وينقلب المعنى إلى معنى آخر كما قاله العيني. والعضب: السيف. والباتر: القاطع. وأسوق جمع الساق. وجائر: من الجور ضد العدل. والشاهد في عطف جائر على يعدل لكونه بمعنى الفعل أي يعدل ويجور. (*).
[ 76 ]
سبحانه مهددا للعصاة: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) يعني أنه عالم بإخلاص المخلص، ونفاق المنافق فإن شئتم فاظهروا القول، وإن شئتم فأبطنوه فإنه عليم بضمائر القلوب، ومن علم إضمار القلب علم إسرار القول. قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخبره به جبرئيل. فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لكيلا يسمع آل محمد فنزلت الأية. (ألا يعلم من خلق) قيل في معناه وجوه أحدها: ألا يعلم ما في الصدور من خلق الصدور وثانيها: ألا يعلم سر العبد من خلقه أي: من خلق العبد فعلى الوجهين يكون من خلق بمعنى الخالق وثالثها: أن يكون من خلق بمعنى المخلوق والمعنى ألا يعلم الله مخلوقه (وهو اللطيف) أي العالم بما لطف ودق. وقيل: اللطيف بعباده من حيث يدبرهم بألطف التدبير، واللطيف التدبير من يدبر تدبيرا نافذا لا يجفو عن شئ يدبره به. وقيل: اللطيف من كان فعله في اللطف بحيث لا يهتدي إليه غيره. وهو فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم. وقيل: هو بمعنى الملطف كالبديع بمعنى المبدع. وقيل: اللطيف الذي يكلف اليسير، ويعطي الكثير. (الخبير) العالم بالعباد وأعمالهم. ثم عدد سبحانه أنواع نعمه ممتنا على عباده بذلك، فقال: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) أي سهلة ساكنة مسخرة تعملون فيها ما تشتهون. وقيل ذلولا: لم يجعلها بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظ. وقيل ذلولا: موطأة للتصرف فيها والمسير عليها، ويمكنكم زراعتها (فامشوا في مناكبها) أي: في طرقها وفجاجها، عن مجاهد. وقيل: في جبالها لأن منكب كل شئ أعلاه، عن ابن عباس وقتادة. ثم إن كان هذا أمر ترغيب فالمراد فامشوا في طاعة الله، وإن كان للإباحة فقد أباح المشي فيها لطلب المنافع في التجارات. (وكلوا من رزقه) أي كلوا مما أنبت الله في الأرض والجبال، من الزروع والأشجار حلالا (وإليه النشور) أي وإلى حكمه المرجع في القيامة. وقيل: معناه وإليه الإحياء للمحاسبة، فهو مالك النشور، والقادر عليه، عن الجبائي. ثم هدد سبحانه الكفار زاجرا لهم، عن ارتكاب معصيته، والجحود لربوبيته فقال: (أأمنتم من في السماء) أي أمنتم عذاب من في السماء سلطانه وأمره ونهيه وتدبيره، لا بد أن يكون هذا معناه، لاستحالة أن يكون الله، جل جلاله، في مكان أو في جهة. وقيل: يعني بقوله (من في السماء) الملك الموكل بعذاب العصاة (أن
[ 77 ]
يخسف بكم الأرض) يعني أن يشق الأرض فيغيبكم فيها إذا عصيتموه (فإذا هي تمور) أي تضطرب وتتحرك، والمعنى إن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم، حتى تضطرب فوقهم، وهم يخسفون فيها حتى تلقيهم إلى أسفل. والمور: التردد في الذهاب والمجئ، مثل الموج. (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) أي ريحا ذات حجر، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء. وقيل: سحابا يحصب عليكم الحجارة (فستعلمون) حينئذ (كيف نذير) أي كيف إنذاري إذا عاينتم العذاب (ولقد كذب الذين من قبلهم) رسلي، وجحدوا وحدانيتي (فكيف كان نكير) أي عقوبتي وتغييري ما بهم من النعم. وقيل. كيف رأيتم إنكاري عليهم بإهلاكهم واستئصالهم. ثم نبه سبحانه على قدرته على الخسف، وإرسال الحجارة فقال. (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) تصف أجنحتها في الهواء فوق رؤوسهم (ويقبضن) أجنحتهن بعد البسط وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط أي: يضربن بأرجلهن، ويبسطن أجنحتهن تارة، ويقبضن أخرى. فالجو للطائر كالماء للسابح. وقيل: معناه إن من الطير ما يضرب بجناحه فيصف، ومنه ما يمسكه فيدف، ومنه الصفيف والدفيف. (ما يمسكهن إلا الرحمن) بتوطئة الهواء لهن، ولولا ذلك لسقطن. وفي ذلك أعظم دلالة، وأوضح برهان وحجة، بأن من سخر الهواء هذا التسخير على كل شئ قدير. والصف: وضع الأشياء المتوالية على خط مستقيم. والقبض: جمع الأشياء عن حال البسط. والإمساك: اللزوم المانع من السقوط، عن علي بن عيسى. (إنه بكل شئ بصير) أي بجميع الأشياء عليم (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) هذا استفهام إنكار أي: لا جند لكم ينصركم مني، ويمنعكم من عذابي، إن أردت عذابكم، عن ابن عباس. ولفظ الجند موحد، ولذلك قال: (هذا الذي) وكأنه سبحانه يقول للكفار: بأي قوة تعصونني ألكم جند يدفع عنكم عذابي. بين بذلك أن الأصنام لا يقدرون على نصرتهم. (إن الكافرون إلا في غرور) أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم. وقيل: معناه ما هم إلا في أمر لا حقيقة له من عبادة الأوثان، يتوهمون أن ذلك ينفعهم، والأمر بخلافه.
[ 78 ]
(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) أي الذي يرزقكم إن أمسك الله الذي هو رازقكم أسباب رزقه عنكم، وهو المطر هنا (بل لجوا في عتو ونفور) أي ليسوا يعتبرون فينظرون بل تمادوا واستمروا في اللجاج، وجاوزوا الحد في تماديهم ونفورهم عن الحق، وتباعدهم عن الإيمان، لما كان للمشركين صوارف كثيرة عن عبادة الأوثان، وهم كانوا يتقحمون بذلك على العصيان، فقد لجوا في عتوهم. قال الفراء: قوله (من هذا الذي يرزقكم) الاية تعريف حجة ألزمها الله العباد، فعرفوا فأقروا بها، ولم يردوا لها جوابا. فقال سبحانه (بل لجوا في عتو ونفور). (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صرط مستقيم (22) قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (23) قل هو الذى ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون (24) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (25) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين (26) فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذى كنتم به تدعون (27) قل أرءيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكفرين من عذاب أليم (28) قل هو الرحمن ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلل مبين (29) قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) القرءة: قرأ يعقوب. (تدعون) ساكنة الدال، خفيفة، وهو قراءة الحسن والضحاك وقتادة والباقون (تدعون) بالتشديد. وقرأ الكسائي: (فسيعلمون) بالياء. والبا قون. بالتاء. الحجة: أما قوله (تدعون) فالمعنى هذا الذي كنتم به تدعون الله، كقوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع). وأما (تدعون) بالتشديد فمعناه: تتداعون بوقوعه. قال ابن جني: يعني كانت الدعوة بوقوعه فاشية بينكم، كقوله تعالى في معنى العموم (ولا تنابزوا بالألقاب) أي لا يفش هذا فيكم، وليس معنى تدعون هنا من ادعاء الحقوق، وإنما بمعنى تتداعون من الدعاء، لا من الدعوى، كما في قول
[ 79 ]
الشاعر: (فما برحت خيل تثوب وتدعي) يعني تتداعى بينها يا لفلان. اللغة: يقال: كببته فأكب، وهو نادر مثل قشعت الريح السحاب، فأقشعت، ونزفت البئر فأنزفت أي: ذهب ماؤها، ونسلت ريش الطائر فانسل. والزلفة: القربة، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع، ومنه المزدلفة لقربه من مكة، وقد تجمع الزلفة زلفا. قال العجاج: ناج طواه الاين مما وجفا * طي الليالى زلفا فزلفا (1) وساءه الأمر يسوؤه سوءا أي غمه وحزنه، ومنه أساء يسئ إذا فعل ما يؤدي إلى الغم. وماء غور أي غائر، وصف بالمصدر مبالغة، كما يقال: هؤلاء زور فلان وضيفه، والمعين. قيل: إنه مفعول مأخوذ من العين. فعلى هذا يكون مثل مبيع من البيع. وقيل. إنه من الإمعان في الجري، فعلى هذا يكون على وزن فعيل، فكأنه قيل: ممعن في الإسراع والظهور. الاعراب: (قليلا). صفة مصدر محذوف أي، تشكرون شكرا قليلا. وما مزيدة (فستعلمون من هو في ضلال مبين): يحتمل أن يكون من استفهاما، فيكون إسما موصولا، قال أبو علي. دخلت الفاء في قوله، فمن يجير وقوله (فمن يأتيكم) لأن أرأيتم بمعنى انتبهوا أي: أنتبهوا فمن يجير، وانتبهوا فمن يأتيكم، كما تقول: قم فزيد قائم. قال: ولا يكون الفاء جواب الشرط، وإنما يكون جواب الشرط مدلول (أرأيتم) قال: وإن شئت كانت الفاء زائدة مثلها في قوله (فلا تحسبنهم) ويكون الإستفهام سادا مسد مفعولي أرأيتم، كقولهم أرأيت زيدا ما فعل، وهذا من دقائقه. المعنى: ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر والمؤمن، فقال: (أفمن يمشي مكبا على وجهه) أي منكسا رأسه إلى الأرض، فهو لا يبصر الطريق، ولا من يستقبله، لا ينظر أمامه، ولا يمينه، ولا شماله، وهو الكافر المقلد لا يدري أمحق هو أم مبطل هذا (أهدى أم من يمشي سويا) أي مستويا قائما يبصر الطريق، وجميع جهاته كلها (1) وبعده سماوة الهلال حتى احقوقفا قوله ناج أي الجمل الذي ينجو بصاحبه من خطر البرية. والأين: الإعياء والتعب أي هزل السير الجمل كما يهزل الليالي الهلال وزلفا فزلفا أي درجة بعد درجة ومنزلة بعد منزلة. (*).
[ 80 ]
فيضع قدمه حيث لا يعثر، وهو المؤمن الذي سلك طريق الحق، وعرفه واستقام عليه وأمكنه دفع المضار عن نفسه، وجلب المنافع إليها. (على صراط مستقيم) أي على طريق واضح قيم، وهذا معنى قول أبن عباس ومجاهد. وقيل: إن هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه يوم القيامة، كما قال (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم)، عن قتادة. (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار (هو الذي أنشأكم) بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود (وجعل لكم السمع) تسمعون به المسموعات (والأبصار) تبصرون بها المبصرات (والأفئدة) يعني القلوب تعقلون بها، وتتدبرون، فأعطاكم آلات التفكر والتمييز، والوصول إلى العلم (قليلا ما تشكرون) أي تشكرون قليلا. وقيل: معناه قليلا شكركم، فتكون (ما) مصدرية (قل) لهم يا محمد (هو) الله تعالى (الذي ذرأكم) أي خلقكم (في الأرض وإليه تحشرون) منها أي تبعثون إليه يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم. ثم حكى سبحانه ما كان يقوله الكفار، مستبطئين عذاب الله، مستهزئين بذلك، فقال: (ويقولون متى هذا الوعد) من الخسف والحاصب، أو البعث والجزاء (إن كنتم صادقين) في أن ذلك يكون (قل) يا محمد (إنما العلم عند الله) يعني علم الساعة (وإنما أنا نذير) مخوف لكم به (مبين) أي: مبين لكم ما أنزل الله إلي من الوعد والوعيد، والأحكام. ثم ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب ومعاينته فقال: (فلما رأوه زلفة) أي فلما رأوا العذاب قريبا، يعني يوم بدر، عن مجاهد. وقيل: معاينة، عن الحسن. وقيل: إن اللفظ ماض والمراد به المستقبل، والمعنى: إذا بعثوا ورأوا القيامة قد قامت، ورأوا ما أعد لهم من العذاب، وهذا قول أكثر المفسرين. (سيئت وجوه الذين كفروا) أي اسودت وجوههم، وعلتها الكآبة، يعني قبحت وجوههم بالسواد. وقيل: معناه ظهرت على وجوههم آثار الغم والحسرة، ونالهم السوء والخزي. (وقيل) لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب (هذا الذي كنتم به تدعون) قال الفراء: تدعون وتدعون واحد، مثل: تدخرون وتدخرون، والمعنى: كنتم به تستعجلون، وتدعون الله بتعجيله، وهو قولهم. (إن كان هذا هو الحق من عندك) الاية. عن ابن زيد. وقيل: هو تدعون من الدعوى أي: تدعون أن لا جنة، ولا نار، عن الحسن. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالأسانيد الصحيحة، عن الأعمش
[ 81 ]
قال: لما رأوا ما لعلي بن أبي طالب عليه السلام عند الله من الزلفى، سيئت وجوه الذين كفروا، وعن أبي جعفر عليه السلام فلما رأوا مكان على عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيئت وجوه الذين كفروا، يعني الذين كذبوا بفضله. (قل) لهؤلاء الكفار (أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) بإن يميتنا (أو رحمنا) بتأخير آجالنا (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) استحقوه بكفرهم، وما الذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم. وقيل: إن الكفار كانوا يتمنون موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وموت أصحابه، فقيل له: قل لهم: إن أهلكني الله ومن معي ذلك بأن يميتني، ويميت أصحابي، فمن الذي ينفعكم ويؤمنكم من العذاب، فإنه واقع بكم لا محالة. وقيل: معناه أرأيتم إن عذبني الله ومن معي، أو رحمنا اي غفر لنا فمن يجيركم أي: نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب، ولا رجاء لكم، كما للمؤمنين، عن ابن عباس، وأبن كيسان. ثم قال. (قل) لهؤلاء الكفار على وجه التوبيخ لهم (هو الرحمن) أي: إن الذي أدعوكم إليه هو الرحمن الذي عمت نعمته جميع الخلائق (آمنا به وعليه توكلنا) أي عليه اعتمدنا، وجميع أمورنا إليه فوضنا (فستعلمون) معاشر الكفار يوم القيامة (من هو في ضلال مبين) اليوم أنحن أم أنتم. ومن قرأ بالياء فمعناه: فسيعلم الكفار ذلك (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) اي غائرا ناضبا في الآبار والعيون (فمن يأتيكم بماء معين) أي ظاهر للعيون، عن أبي مسلم، والجبائي. وقيل: بماء جار، عن ابن عباس، وقتادة. أراد سبحانه أنه المنعم بالأرزاق، فاشكروه واعبدوه، ولا تشركوا به شيئا. وذكر مقاتل أنه أراد بقوله ماؤكم بئر زمزم وبئر ميمون، وهي بئر عادية قديمة. وكان ماؤهم من هاتين البئرين والمعين الذي تناله الدلاء، وتراه العيون.
[ 82 ]
68 - سورة القلم مكية وآياتها اثنتان وخمسون وتسمى أيضا سورة (ن)، وهي مكية، عن الحسن وعكرمة وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله (سنسمه على الخرطوم) مكي، وما بعده إلى قوله (لو كانوا يعلمون) مدني، وما بعده إلى قوله (يكتبون) مكي، وما بعده مدني، وهي اثنتان وخمسون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ومن قرأ سورة (ن) والقلم، أعطاه ثواب الذين حسن أخلاقهم). علي بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة (ن) والقلم في فريضة أو نافلة، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا، وأعاذه إذا مات من ضمة القبر، إن شاء الله. تفسيرها: ختم الله سبحانه سورة الملك بذكر تكذيب الكفار، ووعيدهم، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ((ن) والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصرو يبصرون (5) بأييكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7) فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9) ولا تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء بنميم (11) مناع للخير معتد أثيم (12) عتل بعد ذلك زنيم (13) أن كان ذا مال وبنين (14) إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الأولين (15) سنسمه
[ 83 ]
على الخرطوم (16). القرءة: مضى ذكر اختلاف القراء في إظهار النون وإخفائها، من نون في سورة ياسين، فلا وجه لإعادته. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب، وسهل (أن كان) بهمزة واحدة ممدودة على الإستفهام. وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزه (أأن كان) بهمزتين. وقرأ الباقون. (أن كان) " بفتح الهمزة، من غير استفهام. الحجة: قال أبو علي. (أن كان ذا مال): لا يخلو من أن يكون العامل فيه (تتلى) من قوله (إذا تتلى عليه آياتنا) أو قال من قوله. (قال اساطير الأولين) أو شئ ثالث، فلا يجوز أن يعمل واحد منهما فيه. ألا ترى أن (تتلى) قد أضيفت (إذا) إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله. لا تقول: القتال زيدا حين يأتي. ولا يجوز أن يعمل فيه قال أيضا، لأن قال جواب إذا، وحكم الجواب أن يكون بعد ما هو جواب له، ولا يتقدم عليه. فكما لا يعمل فيه الفعل الأول، فكذلك لا يعمل فيه الثاني فإذا لم يعمل فيه واحد من هذين الفعلين، وليس في الكلام غيرهما، علمت أنه محمول على شئ آخر، مما دل باقي الكلام عليه، والذي يدل عليه هذا الكلام من المعنى، هو يجحد، أو يكفر، أو يستكبر عن قبول الحق، ونحو ذلك. وإنما جاز أن يعمل فيه المعنى، وإن كان متقدما عليه، لشبهه بالظرف. والظرف قد تعمل فيه المعاني، وإن تقدم عليها. ويدلك على مشابهته الظرف، تقدير اللام معه. وإن من النحويين من يقول: إنه في موضع جر، كما أنه لو كانت اللام معه ظاهرة، كان كذلك. ومن قرأ بهمزة ممدودة فإنه يزيد همزة بعدها همزة مخففة. اللغة: السطر: الكتابة، وهو وضع الحروف على خط مستقيم. واستطر: اكتتب. والمسطر: آلة التسطير. والممنون. المقطوع. يقال: منه السير يمنه منا إذا قطعه. والمنين: الضعيف. والخلق: المرور في الفعل على عادة. فالخلق الكريم: الصبر على الحق، وتدبير الأمور على مقتضى العقل. وفي ذلك الأناة والرفق والحلم والمداراة. والمفتون: المبتلى بتخبيل الرأي كالمجنون. يقال: فتن فلان بفلانة. وأصل الفتنة الإبتلاء والإختبار. والمهين: الضعيف الذليل. والمهانة: الذلة والقلة. والهماز: الوقاع في الناس بما ليس له أن يعيبهم به. والأصل فيه: الدفع بشدة اعتماد، ومنه الهمزة حرف من الحروف المعجمة، فهي نبرة تخرج من الصدر بشدة اعتماد. والنميم: التضريب بين الناس بنقل الكلام الذي
[ 84 ]
يغيظ بعضهم على بعض. والنميم والنميمة بمعنى. ومنه النمام: المشموم لأنه بحدة ريحه كالمخبر عن نفسه. والعتل. الجافي الغليظ، وأصله الدفع. يقال عتله يعتله إذا زعزعه بغلظة وجفاء. والزنيم: الدعي الملصق بالقوم، وليس منهم. وأصله الزنمة: وهي الهنية المتدلية تحت حلق الجدي. ويقال للتيس له زنمتان. قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه، * بغي الأم ذو حسب لئيم (1) وقال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (2) ويقال: وسمه يسمه وسما وسمة. والخرطوم: ما نتأ من الأنف، وهو الذي يقع به الشم، ومنه قيل خرطوم الفيل وخرطمه إذا قطع أنفه. الاعراب: (بأيكم المفتون): فيه وجوه أحدها: إن المفتون مصدر بمعنى الفتنة كما يقال: ليس له معقول، وما له محصول. قال الراعي: حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما، ولا لفؤاده معقولا وثانيها. أن يكون المفتون اسم المفعول، والباء مزيدة. والتقدير. أيكم المفتون. ويكون مبتدأ وخبرا، وتكون الجملة معلقة بقوله: (يبصرون) وثالثها: إن الباء بمعنى في والمعنى: في أيكم المفتون أي. في أي الفريقين في فرقة الإسلام، أو في فرقة الكفر المجنون، وهذا قول الفراء. وقال الراجز في زيادة الباء: نحن بني جعدة أصحاب الفلج، * نضرب بالسيف، ونرجو بالفرج (3) أي. ونرجو الفرخ. المعنى: (ن) اختلفوا في معناه فقيل: هو اسم من أسماء السورة مثل حم (1) الزنيم: الدعي في النسب، المستلحق في قوم ليس منهم، لا يحتاج إليه، فكأنه فيهم زنمة. (2) هذا البيت من الطويل قاله في هجاء أبي سفيان. قوله: نيط أي علق. والقدح، إناء يشرب فيه يروي الرجلين. وفي الحديث: (لا تجعلوني كقدح الراكب) معناه: لا تجعلوني آخرا، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر الرحل بعد فراغه من أستصحاب الأهبة. (3) الفلج، الظفر والفوز. (*).
[ 85 ]
وص، وما أشبه ذلك. وقد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة. وقيل: هو الحوت الذي عليه الأرضون، عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي. وقيل: هو حرف من حروف الرحمن في رواية أخرى، عن ابن عباس. وقيل: هو الدواة، عن الحسن، وقتادة، والضحاك. وقيل: نون لوح من نور، وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو نهر في الجنة. قال الله له: كن مدادا فجمد، وكان أبيض من اللبن، وأحلى من الشهد، ثم قال للقلم: اكتب فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. وقيل: المراد به الحوت في البحر، وهو من آيات الله إذ خلقها في الماء، فإذا فارق الماء مات، كما أن حيوان البر إذا خالط الماء مات (والقلم) الذي يكتب به أقسم الله به لمنافع الخلق فيه، إذ هو أحد لساني الإنسان، يؤدي عنه ما في جنانه، ويبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه، وبه تحفظ أحكام الدين، وبه تستقيم أمور العالمين. وقد قيل: إن البيان بيانان: بيان اللسان، وبيان البنان. وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باق على مر الأيام. وقيل: إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم، وقد نظمه بعض الشعراء، وأحسن فيما قال: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت * له الرقاب، ودانت حذره الأمم فالموت، والموت شئ لا يغالبه، * ما زال يتبع ما يجري به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت، * أن السيوف لها مذ أرهفت خدم (1) (وما يسطررن) أي وما يكتبه الملائكة مما يوحى إليهم، وما يكتبونه من أعمال بني آدم. فكان القسم بالقلم، وما يسطر بالقلم. وقيل: إن (ما) مصدرية، وتقديره: والقلم وسطرهم، فيكون القسم بالكتابة. وعلى القول الأول يكون القسم بالمكتوب (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هو جواب القسم، ومعناه: لست يا محمد بمجنون بنعمة ربك، كما تقول: ما أنت بنعمة ربك بجاهل، وجاز تقديم معمولها بالباء، لأنها زائدة مؤكدة، وتقديره: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك. وقيل: هو كما يقال ما أنت بمجنون بحمد الله. وقيل: معناه بما أنعم عليك ربك من كمال العقل، والنبوة، والحكمة، لست بمجنون أي: لا يكون مجنونا من أنعمنا عليه بهذه النعم. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك، كما يقال: (1) برى القلم: شقه. وأرهف السيف رققه. (*)
[ 86 ]
سبحانك اللهم وبحمدك أي: والحمد لك. وهذا تقرير لنفي الجنون عنه. وقالوا: إن هذا جواب لقول المشركين: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (وإن لك) يا محمد (لأجرا) أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة، وتحملك أعباء الرسالة (غير ممنون) أي غير مقطوع، وهو ثواب الجنة. يعني: لا تبال بكلامهم مع ما لك عند الله من الثواب الدائم، والأجر العظيم. وقيل: غير ممنون أي لا يمن به عليك، عن أبي مسلم. والمعنى: غير مكدر بالمن الذي يقطع عن لزوم الشكر، فقد قيل. (المنة تكدر الصنيعة). وقال ابن عباس. ليس من نبي إلا وله مثل أجر من آمن به ودخل في دينه. ثم وصف سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وإنك) يا محمد (لعلى خلق عظيم) أي على دين عظيم، وهو دين الإسلام، عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل. معناه إنك متخلق بأخلاق الإسلام، وعلى طبع كريم، وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الاداب. وإنما سقي خلقا لأنه يصير كالخلقة فيه. فأما ما طبع عليه من الآداب، فإنه الخيم. فالخلق هو الطبع المكتسب. والخيم: هو الطبع الغريزي. وقيل: الخلق العظيم الصبر على الحق، وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح، والرفق، والمداراة، وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه، والتجاوز، والعفو، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين، وترك الحسد، والحرص، ونحو ذلك، عن الجبائي. وقالت عائشة. كان خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تضمنه العشر الأول من سورة المؤمنين، ومن مدحه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم، فليس وراء مدحه مدح. وقيل: سمي خلقه عظيما، لأنه عاشر الخلق بخلقه، وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق، وباطنه مع الحق. وقيل: لأنه امتثل تأديب الله سبحانه إياه بقوله: (خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن ا لجاهلين). وقيل: سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. ويعضده ما روي عنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقال. (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار). وعن أبي الدرداء قال: قال النبي: (ما من شئ أثقل في الميزان من خلق حسن). وعن الرضا علي بن موسى (ع)، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
[ 87 ]
" (عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا، الموطأون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون. وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات) (1). (فستبصر ويبصرون) أي فسترى يا محمد، ويرون، يعني الذين رموه بالجنون (بأيكم المفتون) أي: أيكم المجنون الذي فتن بالجنون، أأنت أم هم. وقيل: بأيكم الفتنة، وهو الجنون، يريد. إنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذبوك، وتركوا دينك، لا بك. وقيل: معناه فستعلم ويعلمون في أي الفريقين المجنون الذي فتنه الشيطان. ثم أخبر سبحانه أنه عالم بالفريقين فقال: (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الذي هو سبيل الحق، وعدل عنه، وجار عن السلوك فيه (وهو أعلم بالمهتدين) إليه العاملين بموجبه، فيجازي كلا بما يستحقه ويستوجبه. أخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، رحمه الله، قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني، قال: حدثنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: حدثنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدثنا أبو أحمد البصري، قال. حدثني عمرو بن محمد بن تركي، قال. حدثنا محمد بن الفضل، قال. حدثنا محمد بن شعيب، عن عمرو بن شمر، عن دلهم بن صالح، عن الضحاك بن مزاحم، قال: لما رأت قريش تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام، وإعظامه له، نالوا من علي، وقالوا: قد افتتن به محمد. فأنزل الله تعالى (ن والقلم وما يسطرون) قسم أقسم الله به (ما أنت) يا محمد (بنعمة ربك بمجنون وإنك لعلى خلق عظيم) يعني القرآن إلى قوله (بمن ضل عن سبيله) وهم النفر الذين قالوا ما قالوا، (وهو أعلم بالمهتدين) علي بن أبي طالب عليه السلام. ثم قال سبحانه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فلا تطع المكذبين) بتوحيد الله، عز وجل، الجاحدين لنبوتك، ولا تجبهم إلى ما يلتمسون منك، ولا توافقهم فيما يريدون (1) يعني: يتفحصون حتى يقفوا على عثرة للبرئ. (*).
[ 88 ]
(ودوا لو تدهن فيدهنون) أي ود هؤلاء الكفار أن تلين لهم في دينك فيلينون في دينهم. شبه التليين في الدين، بتليين الدهن، عن ابن عباس. وقيل: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون، عن الضحاك وعطاء وابن عباس في رواية أخرى. وقيل: معناه ودوا لو تركن إلى عبادة الأصنام فيما لئونك. والإدهان: الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع إضمار العداوة، وهو مثل النفاق. وقيل: ودوا لو تصانعهم في دينك، فيصانعونك، عن الحسن. ثم قال: (ولا تطع) يا محمد (كل حلاف) أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته بالكذب (مهين) فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز. وقيل: ذليل عند الله تعالى، وعند الناس. وقيل: كذاب لأن من عرف بالكذب كان ذليلا حقيرا، عن ابن عباس. وقيل: يعني الوليد بن المغيرة قال. عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم المال ليرجع عن دينه. وقيل. يعني الأخنس بن شريق، عن عطاء. وقيل: يعني الأسود بن عبد يغوث، عن مجاهد. (هماز) أي وقاع في الناس مغتاب، عن ابن عباس (مشاء بنميم) أي: قتات يسعى بالنميمة، ويفسد بين الناس، ويضرب بعضهم على بعض. (مناع للخير) أي بخيل بالمال، وقيل. مناع عشيرته عن الإسلام، بأن يقول: من دخل دين محمد لا أنفعه بشئ أبدا، عن ابن عباس. (معتد) أي مجاوز عن الحق، غشوم ظلوم، عن قتادة. (أثيم) أي آثم فاجر فاعل ما يأثم به. وقيل. معتد في فعله، أثيم في معتقده. وقيل. معتد في ظلم غيره، أثيم في ظلم نفسه. (عتل بعد ذلك) أي هو عتل مع كونه مناعا للخير معتديا أثيما، وهو الفاحش السئ الخلق، روي ذلك في خبر مرفوع. وقيل. هو القوي في كفره، عن عكرمة. وقيل. الجافي الشديد الخصومة بالباطل، عن الكلبي. وقيل الأكول المنوع، عن الخليل. وقيل: هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس، أو عذاب، ومنه قول الشاعر: فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه * ببطن الشرى مثل الفنيق المسدم (1) (زنيم) أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب. قال الشاعر: (1) قائلته: امرأة من طئ. والشرى: جبل في ديار طئ معروف بكثرة السباع والأسود. والفنيق: الفحل المكرم والمسدم: الذي جعل على فمه الكمام. (*).
[ 89 ]
زنيم تداعاه الرجال تداعيا * كما زيد في عرض الأديم الأكارع (1) وقيل: هو الذي له علامة في الشر، وهو معروف بذلك، فإذا ذكر الشر، سبق القلب إليه، كما أن العنز يعرف بين ألأغنام بالزنمة في عنقه، عن الشعبي. وقيل: هو الهجين المعروف بالشر، عن سعيد بن جبير. وقيل: هو الذي لا أصل له، عن علي عليه السلام. وقيل: هو المعروف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها، عن عكرمة. وروي أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العتل الزنيم، فقال: هو الشديد الخلق، الشحيح الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، الرحيب الجوف. وعن شداد ابن اوس قال: قال رسول الله: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري، ولا عتل زنيم) قلت: فما الجواظ ؟ قال. (كل جماع مناع). قلت: فما الجعظري ؟ قال: (الفظ الغليظ) قلت: فما العتل الزنيم ؟ قال: (كل رحيب الجوف، سئ الخلق، أكول شروب، غشوم ظلوم زنيم) قال ابن قتيبة. لا نعلم أن الله وصف أحدا وبلغ من ذكر عيوبه، ما بلغ من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة، لأنه وصف بالحلف والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفا، والدعوة، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة. (أن كان ذا مال وبنين) أي لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين يعني لماله وبنيه، عن الزجاج، والفراء. ومن قرأ بالإستفهام فلا بد أن يكون صلة ما بعده لأن الإستفهام لا يتقدم عليه ما كان في حيزه، فيكون المعنى: ألأن كان ذا مال وبنين، يجحد آياتنا، أي: جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال، الكفر بآياتنا، وهو قوله: (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) أي أحاديث الأوائل التي سطرت وكتبت، لا أصل لها. ثم أوعده سبحانه فقال. (سنسمه على الخرطوم) أي سنسمه (1) نسبه في (اللسان) إلى خطيم التميمي. وحكى عن بعض أنه نسبه إلى حسان. وروايته (زيادة) مكان (تداعيا) والظاهر أن المراد من الأديم في البيت: الجلد دبغ أو لم يدبغ. والأكارع. القوائم من الدابة، وقد ورد في بيت حسان أيضا في هجائه لقوم من كعب سرقوا درعا قال: (فإن تذكروا كعبا إذا ما نسبتم * فهل من أديم ليس فيه أكارعه) يقول: أنتم من كعب بمنزلة الأركاع من الأديم، ولا أديم ليس فيه أكارع. فلا يضر كعبا انتسابكم إليهم، إذ هم الرأس وأنتم الأذناب ويقال للسفلة من الناس أيضا الأكارع، تشبيها بقوائم الدابة. (*).
[ 90 ]
يوم القيامة بسمة تشوه خلقته، فيعرف من رآه أنه من أهل النار. وإنما خص الأنف، لأن الإنسان يعرف بوجهه. والأنف وسط الوجه. وهذا على عادة العرب، فإنهم يقولون: شمخ فلان بأنفه، وأرغم الله أنفه، وحمى فلان أنفه. وقيل: معناه سيجعل له في الاخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخص من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته للرسول عداوة يتبين بها من غيره، عن الزجاج. وقال الفراء: الخرطوم قد خص بالسمة لأنه في مذهب الوجه، فإن بعض الوجه يؤدي عن الكل. وقيل: إن المعنى سنخطمه بالسيف في القتال حتى يبقى أثره، ففعل ذلك يوم بدر، عن ابن عباس. وقيل: سنعلمه بشين يبقى على الأبد، عن قتادة. وقال القتيبي: العرب تقول قد وسمه ميسم سوء، يريدون ألصق به عارا لا يفارقه. لأن السمة لا تنمحق، ولا يعفو أثرها. وقد ألحق الله بمن ذكر عارا لا يفارقه، بما وسمه به من العيوب التي هي كالوسم في الوجه. وقيل: إن الخرطوم الخمر، فالمعنى سنسمه على شرب الخمر، قال الشاعر: أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه، * ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (19) فأصبحت كالصريم (20) فتنادوا مصبحين (21) أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين (22) فانطلقوا وهم يتخافتون (23) أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين (24) وغدوا على حرد قادرين (25) فلما رأوها قالوا إنا لضالون (26) بل نحن محرومون (27) قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون (28) قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين (29) فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون (30) قالوا يويلنا إنا كنا طاغين (31) عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون (32) كذلك العذاب ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون (33) القراءة: قرأ أهل المدينة، وأبو عمرو (ان يبدلها) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقد مر ذكره في سورة الكهف. اللغة: الصرم والجداد في النخل، بمنزلة الحصاد. والقطاف: في الزرع
[ 91 ]
والكرم، يقال: صرمت النخلة وجددتها، وأصرم النخل وأجدت: حان ذلك منها. والصريم: الليل الأسود، وأنشد أبو عمرو: ألا بكرت وعاذلتي تلوم * تجهلني، وما انكشف الصريم (1) وقال الآخر: تطاول ليلك الجون البهيم * فما ينجاب عن صبح صريم (2) إذا ما قلت: أقشع أن تناهى * جرت من كل ناحية غيوم ويسمى النهار أيضا صريما، فهو من الأضداد لأن الليل ينصرم عند مجئ النهار، والنهار ينصرم عند مجئ الليل. والصريم أيضا: المصروم أي صرم جميع ثمارها. وقيل. الصريم منقطع الرمل الذي لا نبات فيه. قال امرؤ القيس: وظل لصيران الصريم غماغم، * تدعسها بالسمهري المعلب (3) والطائف: الطارق بالليل. وإذا قيل: طاف به، صلح في الليل والنهار. وأنشد الفراء: أطفت بها نهارا، غير ليل * وألهى ربها طلب الرخال (4) والرخال: الإناث من أولاد الضأن، واحدتها رخل. والحرد: المنع من قولهم حاردت السنة إذا منعت قطرها. وحاردت الناقة إذا منعت لبنها. قال الكميت: وحاردت المكد الجلاد، ولم يكن * بعقبة قدر المستعيرين معقب (5) (1) العذل: اللوم والواو للحال، (2) الجون هنا: بمعنى الأسود. وليل بهيم: لا ضوء فيه إلى الصباح. وقوله (ينجاب) أي بنكشف. (3) صيران جمع صوار. القطيع من البقر. وفي اللسان (لثيران) بالثاء: وهو جمع الثور، وغماغمها: أصواتها عند الذعر، وأصوات الأبطال في الوغى عند القتال. والدعس: الطعن. والسمهري: الرمح الصليب العود. والمعلب - بالعين المهملة - الرمح الذي لوي بعلباء البعير، وهو عصب العنق وكانت العرب تشد على أجفان سيوفها العلابي الرطبة فتجف عليها، وتشد بها الرماح إذا تصدعت، فتيبس وتقوى عليه. (4) (ألهى ربها) أي شغل زوجها يصف فجوره بامرأة غاب عنها زوجها نهارا. (5) المكد جمع المكود: الناقة الكثيرة اللبن، ومثله الجلاد. والعقبة بالضم مرقة ترد في القدر المستعارة. وأعقب الرجل: رد إليه ذلك. (*).
[ 92 ]
ويروى النكد: وهي النوق الغزيرات الألبان. وقيل: إن أصل الحرد القصد. قال: أقبل سيل جاء من عند الله * يحرد حرد الجنة المغلة (1) أي: يقصد. وحرد يحرد حردا. وقيل: الحرد الغضب والحنق. قال الأشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفية * تساقوا على حرد دماء الأساود (2) المعنى: ثم قال سبحانه (إنا بلوناهم) يعني أهل مكة أي اختبرنا هم بالجوع والقحط (كما بلونا أصحاب الجنة) أي البستان الذي فيه الشجر. قال سعيد بن جبير: وهذه الجنة حديقة كانت باليمن في قرية يقال لها صروان بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا. كانت لشيخ، وكان يمسك منها قدر كفايته، وكفاية أهله، ويتصدق بالباقي. فلما مات قال بنوه. نحن أحق بها لكثرة عيالنا، ولا يسعنا أن نفعل كما فعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله تعالى في كتابه وهو قوله (إذ أقسموا) أي حلفوا فيما بينهم (ليصرمنها مصبحين) أي ليقطعن ثمرتها إذا دخلوا في وقت الصباح (ولا يستثنون) أي غير مستثنين في أيمانهم، فلم يقولوا: إن شاء الله، فإن قول القائل لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله استثناء، ومعناه: إلا أن يشاء الله منعي، أوتمكين مانعي. (فطاف عليها طائف من ربك) أي: أحاطت بها النار، فاحترقت، عن ابن عباس. وقيل: معناه طرقها طارق من أمر الله، عن قتادة. (وهم نائمون) أي في حال نومهم. قال مقاتل: بعث الله نارا بالليل على جنتهم فأحرقتها، حتى صارت مسودة، فذلك قوله (فأصبحت كالصريم) أي كالليل المظلم. والصريمان: الليل والنهار لانصرام أحد هما من الأخر، عن ابن عباس، وأبي عمرو بن العلاء. وقيل: الصريم المصروم ثماره أي المقطوع والمعنى: إنها صارت كأن جميع ثمارها قطعت، عن الجبائي. وقيل: الصريم الذي صرم عنه الخير، فليس فيه شئ منه، (1) الجنة أو الصنيعة المغلة: التي أتت بشئ، وأصلها باق. (2) شرى وخفية: موضعان فيهما آجام تكون فيها الأسود. وتساقى القوم: سقى كل واحد صاحبه بجمام الإناء الذي يسقيان فيه. (*).
[ 93 ]
عن الحسن. وقيل: كالصريم أي كالرملة انصرمت عن معظم الرمل، عن مؤرج. وقيل: كالرماد الأسود بلغة خزيمة. (فتنادوا مصبحين) أي نادى بعضهم بعضا وقت الصباح. وأصل التنادي من الندى بالقصر، لأن النداء الدعاء بندي الصوت الذي يمتد على طريقة: يا فلان ! لأن الصوت إنما يمتد للإنسان بندى حلقه (أن اغدوا على حرثكم) أي تنادوا بأن اغدوا معناه قال بعضهم لبعض: اغدوا على حرثكم. والحرث: الزروع والأعناب. (إن كنتم صارمين) أي قاطعين النخل (فانطلقوا) أي فمضوا إليها (وهم يتخافتون) أي يتسارون بينهم. وأصله من خفت فلان يخفت إذا أخفى نفسه (أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين) هذا ما كانوا يتخافتون به (وغدوا على حرد) أي على قصد منع الفقراء (قادرين) عند أنفسهم وفي اعتقادهم، على منعهم وإحراز ما في جنتهم. وقيل: على حرد أي على جد وجهد من أمرهم، عن مجاهد وقتادة وأبي العالية، وقيل: على جد في المنع، عن أبي عبيدة. وقيل. على حنق وغضب من الفقراء، عن سفيان. وقيل: قادرين مقدرين موافاتهم في الجنة في الوقت الذي قدروا إصرامها فيه، وهو وقت الصبح. والتقدير: قصدوا الجنة للوقت الذي قدروا إصرامها فيه، عن أبي مسلم. (فلما رأوها) أي رأوا الجنة على تلك الصفة (قالوا إنا لضالون) ضللنا عن الطريق فليس هذا بستاننا، عن قتادة. وقيل. معناه إنا لضالون عن الحق في أمرنا، فلذلك عوقبنا بذهاب ثمر جنتنا. ثم إستدركوا فقالوا. (بل نحن محرومون) والمعنى أن هذه جنتنا، ولكن حرمنا نفعها وخيرها لمنعنا حقوق المساكين، وتركنا الإستثناء (قال أوسطهم) أي أعدلهم قولا، عن ابن عباس والحسن ومجاهد، وقيل: معناه أفضلهم وأعقلهم، وقيل: أوسطهم في السن (ألم أقل لكم لولا تسبحون) كأنه كان حذرهم سوء فعالهم قال: لولا تستثنون، عن مجاهد، لأن في الإستثناء التوكل على الله، والتعظيم لله، والإقرار بأنه لا يقدر أحد على فعل شئ إلا بمشيئة الله، فلذلك سماه تسبيحا. وقيل: معناه هلا تعظمون الله بعبادته، واتباع أمره. وقيل: معناه هلا تذكرون نعم الله عليكم، فتؤدوا شكرها بأن تخرجوا حق الفقراء من أموالكم. وقيل: معناه هلا نزهتم الله تعالى عن الظلم، واعترفتم بأنه لا يظلم، ولا يرضى منكم بالظلم. وقيل: معناه لم لا تصلون.
[ 94 ]
ثم حكى عنهم أنهم (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) في عزمنا على حرمان المساكين من حصتهم عند الصرام، فحرمنا قطعها، وبالإنتفاع بها. والمعنى: إنه سبحانه منزه عن الظلم، فلم يفعل بنا ما فعله ظلما، وإنما الظلم وقع منا حيث منعنا الحق (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم بعضهم بعضا على ما فرط منهم (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين) قد غلونا في الظلم، وتجاوزنا الحد فيه. والويل: غلظ المكروه الشاق على النفس. والويس دونه، والويح بينهما. قال عمرو بن عبيد: يجوز أن يكون ذلك منهم توبة، ويجوز أن يكون على حد ما يقول الكافر إذا وقع في الشدة (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) أي: لما تابوا ورجعوا إلى الله، قالوا: لعل الله يخلف علينا، ويولينا خيرا من الجنة التي هلكت (إنا إلى ربنا راغبون) أي نرغب إلى الله، ونسأله ذلك، ونتوب إليه مما فعلناه. وقرئ يبدلنا بالتشديد والتخفيف، ومعناهما واحد (كذلك العذاب) في الدنيا للعاصين (ولعذاب الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون) والأكبر هو الذي يصغر مقدار غيره بالإضافة إليه. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بلغني أن القوم أخلصوا، وعرف الله تعالى منهم الصدق، فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا. وقال أبو خالد اليمامي: رأيت تلك الجنة، ورأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم (34) أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) مالكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتاب فيه تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38) أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون (39) سلهم أيهم بذلك زعيم (40) أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين (41) يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون (43) فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إن كيدي متين (45). اللغة: الزعيم والكفيل والضمين والقبيل نظائر. والساق للإنسان. وساق
[ 95 ]
الشجرة: ما تقوم عليه، وكل نبت له ساق، ويبقى صيفا وشتاء فهو شجرة. قال طرفة: للفتى عقل يعيش به * حيث تهدي ساقه قدمه (1) وتقول العرب: قامت الحرب على ساق، وكشفت عن ساق، يريدون شدتها. وقال جد أبي طرفة: كشفت لكم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح (2) وقال آخر: قد شمرت عن ساقها فشدوا * وجدت الحرب بكم فجدوا والقوس فيها وتر عرد (3) الاعراب: (كيف) في محل نصب على الحال، تقديره: أجائرين تحكمون أم عادلين. ويجوز أن يكون في محل المصدر، وتقديره: أي حكم تحكمون. و (تحكمون): في موضع النصب على الحال من معنى الفعل في قوله (لكم) لأن معنى قوله (مالكم) أي شئ ثبت لكم. وأم في جميع ذلك منقطعة (إن لكم فيه لما تخيرون). كسرت (ان) لمكان اللام في (لما) ولولا ها لوجب فتحها، لأنه مفعول (تدرسون)، وهو كقوله: (والله يعلم إنك لرسوله). وقوله: (إن لكم لما تحكمون) مثله. وإن شئت قلت: إنما كسرت إن، لأن ما قبله يمين، وهي تكسر في جواب القسم. وقوله: (يوم يكشف عن ساق): العامل في الظرف قوله (فليأتوا). و (خاشعة أبصارهم) حال. و (من يكذب): يجوز أن يكون مفعولا معه، ويجوز أن يكون عطفا على ضمير المتكلم من (ذرني). المعنى: لما ذكر سبحانه ما أعده بالآخرة للكافرين، عقبه بذكر ما أعده للمتقين، فقال: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) يتنعمون فيها، ويختارونها (1) فسره ابن الأعرابي فقال: معناه إن اهتدى لرشد علم أنه عاقل، وإن اهتدى لغير رشد علم أنه على غير رشد. (2) الصراح - بالحاء المهملة -: المحض الخالص من كل شئ. (3) وتر عرد: شديد. وفي بعض النسخ (عرند) وهو أيضا بمعناه. وبعده (مثل جران الفيل أو أشد) شبه الوتر بجران الفيل في توتره. (*).
[ 96 ]
على جنات الدنيا التي يحتاج صاحبها إلى المشقة والعناء. ثم استفهم سبحانه على وجه الإنكار فقال: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) أي لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء والثواب، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن كان بعث وجزاء، كما يقوله محمد، فإن حالنا يكون أفضل في الآخرة، كما في الدنيا، فأخبر سبحانه أن ذلك لا يكون أبدا. (ما لكم كيف تحكمون) هذا تهجين لهم، وتوبيخ، ومعناه: أي عقل يحملكم على تفضيل الكفار حتى صار سببا لإصراركم على الكفر، ولا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء والأعداء في دار الجزاء. (أم لكم كتاب فيه تدرسون) معناه: بل ألكم كتاب تدرسون فيه ذلك، فأنتم متمسكون به، لا تلتفتون إلى خلافه، فإذا قد عدمتم الثقة بما أنتم عليه وفي الكتاب الذي هو القرآن عليكم أكبر الحجة، لأنه الدلالة القائمة إلى وقت قيام الساعة، والمعجزة الشاهدة بصدق من ظهرت على يده (إن لكم فيه لما تخيرون) فيه وجهان أحدهما: إن تقديره أم لكم كتاب فيه تدرسون، بأن لكم فيه ما تخيرون، إلا أنه حذف الباء، وكسرت (إن) لدخول اللام في الخبر والثاني: إن معناه إن لكم لما تخيرونه عند أنفسكم، والأمر بخلاف ذلك. ولا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الخير المطلق (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة) أي: بل لكم عهود ومواثيق علينا، عاهدناكم بها، فلا ينقطع ذلك إلى يوم القيامة. (إن لكم لما تحكمون) لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. وقيل: بالغة معناها مؤكدة، وكل شئ متناه في الجودة والصحة، فهو بالغ. ثم قال سبحانه لنبيه: (سلهم) يا محمد (أيهم بذلك زعيم) يعني أيهم كفيل بأن لهم في الأخرة ما للمسلمين (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) معناه. أم لهم شركاء في العبادة مع الله، وهي الأصنام، فليأتوا بهؤلاء الشركاء إن كانوا صادقين في أنها شركاء الله. وقيل. معناه أم لهم شهداء يشهدون لهم بالصدق، فتقوم به الحجة، فليأتوا بهم يوم القيامة يشهدون لهم على صحة دعواهم، إن كانوا صادقين في دعواهم (يوم يكشف عن ساق) أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد. وقيل. معناه يوم يبدو عن الأمر الشديد الفظيع، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. قال عكرمة: سأل ابن عباس عن قوله (يوم يكشف عن ساق) فقال: إذا خفي عليكم شئ في القرآن
[ 97 ]
فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر: (وقامت الحرب بنا على ساق) هو يوم كرب وشدة. وقال القتيبي: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم، يحتاج إلى الجد فيه، يشمر عن ساقه، فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة: كميش الإزار خارج نصف ساقه، * بعيد من الآفات، طلاع أنجد (1) فتأويل الاية: يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق (ويدعون إلى السجود) أي يقال لهم على وجه التوبيخ اسجدوا (فلا يستطيعون) وقيل. معناه إن شدة الأمر، وصعوبة ذلك اليوم، تدعوهم إلى السجود، وإن كانوا لا ينتفعون به ليس أنهم يؤمرون به. وهكذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة أبصارهم، لا يرفعون نظرهم عن الأرض ذلة ومهانة (ترهقهم ذلة) أي تغشاهم ذلة الندامة والحسرة. (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) أي أصحاء يمكنهم السجود فلا يسجدون، يعني أنهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا، فلم يفعلوا. قال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح، فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقد ورد عن الربيع بن خيثم أنه عرض له الفالج، فكان يهادى بين رجلين إلى المسجد. فقيل له: يا أبا يزيد ! لو جلست فإن لك رخصة ؟ قال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا في هذه الأية: أفحم القوم، ودخلتهم الهيبة، وشخصت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلة، وقد كانوا يدعون إلى السجود، وهم سالمون أي: يستطيعون الأخذ بما أمروا به، والترك لما نهوا عنه، ولذلك ابتلوا. وقال مجاهد، وقتادة: يؤذن المؤذن يوم القيامة فيسجد المؤمن، وتصلب ظهور المنافقين، فيصير سجود المسلمين حسرة على المنافقين، وندامة. وفي الخبر: (إنه تصير ظهور المنافقين كالسفافيد) (2). (1) كميش الإزار أي: مشمرا جادا. وطلاع أنجد أي: ضابط للأمور، غالب لها. والبيت من قصيدة له يقولها في رثاء أخيه أبي قرعان عبد الله بن الصمة. (2) السفافيد جمع السفود - كنفور - حديدة يشوى عليها اللحم. (*).
[ 98 ]
ثم قال سبحانه: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) هذا تهديد معناه: فذرني والمكذبين أي: كل أمرهم إلي، كما يقول القائل. دعني وإياه، يقول. خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، ولا تشغل قلبك به، فإني أكفيك أمره (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) أي سنأخذهم إلى العقاب حالا بعد حال. وقد مر تفسيره في سورة الأعراف. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إذا أحدث العبد ذنبا، جدد له نعمة، فيدع الإستغفار فهو الإستدراج. (وأملي لهم إن كيدي متين) أي وأطيل آجالهم، ولا ابادر إلى عذابهم مبادرة من يخشى الفوت، فإنما يعجل من يخاف الفوت. إن عذابي لشديد: (أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (47) فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم (48) لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49) فاجتباه ربه فجعله من الصالحين (50) وأن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعالمين (52). القراءة: قرأ أهل المدينة: (ليزلقونك) بفتح الياء. والباقون: (ليزلقونك) بضم الياء. الحجة: من قرأ بفتح الياء جعله من زلقه وزلقته أنا مثل: حزن وحزنته، وشترت عينه وشترتها (1). قال أبو علي: والخليل يذهب في ذلك إلى ان المعنى جعلت فيه شترا، وجعلت فيه حزنا، كما أنك إذا قلت: كحلته ودهنته أردت جعلت ذلك فيه. ومن قرأ أزلقه نقل الفعل بالهمزة ومعنى (يزلقونك بأبصارهم). ينظرون إليك نظر البغضاء، كما ينظر الأعداء، ومثله قول الشاعر: يتقارضون إذا التقوافي مجلس * نظرا يزيل مواقع الأقدام اللغة: المغرم: ما يلزم من الدين الذي يلح في اقتضائه، وأصله من اللزوم بالإلحاح. ومنه قوله. (إن عذابها كان غراما) أي: لازما ملحا. قال الشاعر: (1) شتر عينه: قلب جفنها. والشتر: النقص والعيب. (*).
[ 99 ]
ويوم الجفار، ويوم النسار، * كانا عذابا، وكانا غراما (1) والمثقل: المحمل الثقل، وهو مثقل بالدين، ومثقل بالعيال، ومثقل بما عليه من الحقوق اللازمة والأمور الواجبة. والمكظوم: المحبوس عن التصرف في الأمور، ومنه كظمت رأس القربة إذا شددته. وكظم غيظه إذا حبسه بقطعه عما يدعو إليه. وكظم خصمه إذا أجابه بالمسكت. والعراء: الأرض العارية من النبات. قال قيس بن جعدة: ورفعت رجلا، لا أخاف عثارها، * ونبذت بالبلد العراء ثيابي المعنى: ثم خاطب سبحانه النبي (ص) فقال على وجه التوبيخ للكفار. (أم تسألهم أجرا) هذا عطف على قوله: (أم لكم كتاب فيه تدرسون) ذكر سبحانه جميع ما يحتج به فقال: أم تسأل يا محمد هؤلاء الكفار إجزاء على أداء الرسالة، والدعاء إلى الله (فهم من مغرم) أي هم من لزوم ذلك (مثقلون) أي محملون الأثقال (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) أي هل عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به لا يعلمه غيرهم، فهم يكتبونه، ويتوارثونه، وينبغي أن يبرزوه. ثم قال للنبي (ص): (فاصبر لحكم ربك) في إبلاغ الرسالة، وترك مقابلتهم بالقبيح. وقيل: اللام تجري مجرى إلى، والمعنى. إصبر إلى أن يحكم الله بنصر أوليائك، وقهر أعدائك. وقيل. معناه فاصبر لحكم الله في التخلية بين الظالم والمظلوم، حتى يبلغ الكتاب أجله (ولا تكن كصاحب الحوت) يعني يونس أي لا تكن مثله في استعجال عقاب قومه، وإهلاكهم، ولا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن لك الله كما خرج هو (إذ نادى وهو مكظوم) أي دعا ربه في جوف الحوت، وهو محبوس عن التصرف في الأمور والذي نادى به قوله: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقيل: مكظوم أي مختنق بالغم إذ لم يجد لغيظه شفاء. (لولا أن تداركه نعمة من ربه) أي لولا أن أدركته رحمة من ربه بإجابة دعائه، وتخليصه من بطن الحوت، وتبقيته فيه حيا، وإخراجه منه حيا (لنبذ) أي طرح (بالعراء) أي الفضاء (وهو مذموم) ملوم مليم قد أتى بما يلام عليه، ولكن الله (1) مر البيت في ما سبق. (*).
[ 100 ]
تعالى تداركه بنعمة من عنده، فطرح بالعراء، وهو غير مذموم (فاجتباه ربه) أي اختاره الله نبيا (فجعله من الصالحين) أي من جملة المطيعين لله، التاركين لمعاصيه (وإن يكاد الذين كفروا) إن هذه هي المخففة من الثقيلة، والتقدير: وإنه يكاد أي قارب الذين كفروا. (ليزلقونك بأبصارهم) أي ليزهقونك أي يقتلونك ويهلكونك، عن ابن عباس، وكان يقرأها كذلك. وقيل: ليصرعونك، عن الكلبي. وقيل: يصيبونك بأعينهم، عن السدي. والكل يرجع في المعنى إلى الإصابة بالعين، والمفسرون كلهم على أنه المراد في الآية. وأنكر الجبائي ذلك، وقال: إن إصابة العين لا تصح. وقال علي بن عيسى الرماني. وهذا الذي ذكره غير صحيح (1)، لأئه غير ممتنع أن يكون الله تعالى أجرى العادة لصحة ذلك، لضرب من المصلحة، وعليه إجماع المفسرين، وجوزه العقلاء، فلا مانع منه. وجاء في الخبر أن أسماء بنت عميس قالت. يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم ؟ قال: (نعم فلو كان شئ يسبق القدر لسبقه العين). وقيل: إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يصيب صاحبه بالعين تجوع ثلاثة أيام، ثم كان يصفه فيصرعه بذلك، وذلك بأن يقول للذي يريد أن يصيبه بالعين. لا أرى كاليوم إبلا، أو شاء أو ما أراد أي كإبل أراها اليوم. فقالوا للنبي كما كانوا يقولون لما يريدون أن يصيبوه بالعين، عن الفراء، والزجاج. وقيل: معناه أنهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن، والدعاء إلى التوحيد، نظر عداوة، وبغض، وإنكار لما يسمعونه، وتعجب منه، فيكادون يصرعونك بحدة نظرهم، ويزيلونك عن موضعك. وهذا مستعمل في الكلام، يقولون. نظر إلي فلان نظرا يكاد يصرعني، ونظرا يكاد يأكلني فيه، وتأويله كله أنه نظر إلي نظرا لو أمكنه معه أن يأكلني، أو يصرعني لفعل، عن الزجاج. وقوله (لما سمعوا الذكر) يعني القرآن (ويقولون) مع ذلك (إنه لمجنون) أي مغلوب على عقله مع علمهم بوقاره، ووفور عقله، تكذيبا عليه، ومعاندة له (وما هو) أي وما القرآن (الا ذكر) أي شرف (للعالمين) إلى أن تقوم الساعة. وقيل: (1) مر الكلام في صحة ذلك وعدمه، والدليل عليه من القرآن الكريم في سورة يوسف. راجع ما سبق. (*).
[ 101 ]
معناه وما محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا شرف للخلق حيث هداهم إلى الرشد، وأنقذهم من الضلالة، لما نسبوه إلى الجنون. وصفه بما ينفي ذلك عنه. وقيل: المراد بالذكر: انه يذكرهم أمر آخرتهم، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد. قال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الأية.
[ 102 ]
69 - سورة الحاقة مكية وآياتها اثنتان وخمسون عدد آيها: إحدى وخمسون آية بصري وشامي، وآيتان في الباقين. اختلافها: آيتان الحاقة الأولى كوفي، كتابه بشماله حجازي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ومن قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا). وروى جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: أكثروا من قراءة الحاقة، فإن قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله، ولم يسلب قارئها دينه حتى يلقى الله. تفسيرها: لما ذكر في آخر سورة القلم، حديث القيامة، ووعيد الكفار، افتتح هذه السورة بذكر القيامة أيضا، وأحوال أهل النار فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (الحاقة (1) ماالحاقة (2) وما أدراك ماالحاقة (3) كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (5) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6) سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (7) فهل ترى لهم من باقية (8) وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (9) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية (10). القراءة: قرأ أهل البصرة والكسائي: (ومن قبله) بكسر القاف، وفتح الباء. والباقون: (ومن قبله) بفتح القاف، وسكون الباء. الحجة: قال سيبويه: قبل لما ولي الشئ، تقول: ذهبت قبل السوق، ولي
[ 103 ]
قبلك حق أي: فيما يليك، واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك حق. وحجة من قرأ أنهم زعموا أن في قراءة أبي (وجاء فرعون ومن معه) وهذا يقوي (ومن قبله) لأن قبل لما ولي الشئ مما لم يتخلف عنه، وهو يتبعه، ويحف به. وحجة من قال (ومن قبله) أن معناه: ومن قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو. اللغة: قال ابن الأنباري: الحاقة الواجبة حق أي وجب يحق حقا وحقوقا فهو حاق. وقال الفراء: تقول العرب لما عرفت الحق مني هربت. والحقة والحاقة بمعنى. وقيل: سميت القيامة الحاقة، لأنها تحق الكفار من قولهم: حاققته فحققته، مثل خاصمته فخصمته. وسميت القارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن. ودريت الشئ دراية ودرية: علمته. وأدريته: أعلمته. والطاغية: الطغيان مصدر مثل العافية. والصرصر: الريح الشديدة الصوت. والحسوم. المتوالية، مأخوذ من حسم الداء بمتابعة الكي عليه، فكأنه تتابع الشر عليهم حتى استأصلهم. وقيل: هو من القطع، فكأنها حسمتهم حسوما أي: أذهبتهم وأفنتهم، وقطعت دابرهم. والخاوية: الخالية التي لا شئ في أجوافها. الاعراب: العامل في (الحاقة) أحد شيئين: إما الإبتداء والخبر (ما الحاقة) كما تقول زيد ما زيد. وإما أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هذه الحاقة. ثم قيل: أي شئ الحاقة تفخيما لشأنها. و (حسوما) نصب على المصدر الموضوع موضع الصفة لثمانية أي: تحسمهم حسوما. ويجوز أن يكون جمع حاسم، فيكون مثل راقد ورقود، وساجد وسجود. وعلى هذا فيكون منصوبا على أنه صفة لثمانية أيضا. و (صرعى): نصب على الحال. وقوله (كأنهم أعجاز نخل خاوية): جملة في موضع الحال من (صرعى) أي: صرعوا أمثال نخل خاوية. و (من). مزيدة في قوله (من باقية). المعنى: (الحاقة) إسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع، صادقة الوجود (ما الحاقة) استفهام معناه التفخيم لحالها، والتعظيم لشأنها. ثم زاد سبحانه في التهويل، فقال. (وما أدراك ما الحاقة) أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال. قال الثوري: يقال للمعلوم ما أدراك، ولما ليس بمعلوم ما يدريك في جميع القرآن. وإنما قال لمن
[ 104 ]
يعلمها (ما أدارك) لأنه إنما يعلمها بالصفة. ثم أخبر سبحانه عن المكذبين بها فقال: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) أي بيوم القيامة. وإنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية، لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة وإلا فقد كان يكفي أن يقول كذبت ثمود وعاد بها. ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم، فقال. (فأما ثمود) وهم قوم صالح (فأهلكوا بالطاغية) أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه أهلكوا بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت المقدار حتى أهلكتهم، عن قتادة، والجبائي، وأبي مسلم. وقال الزجاج: أهلكوا بالرجفة الطاغية. وقيل: بالخصلة المتجاوزة لحال غيرها في الشدة التي أهلك الله بها أهل، الفساد. (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر) أي باردة، عن ابن عباس، وقتادة. كأنه تصطك الأسنان بما يسمع من صوتها لشدة بردها. وقيل: الصرصر الشديدة العصوف، المتجاوزة لحدها المعروف. (عاتية) عتت على خزانها في شدة الهبوب. روى الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: ما يخرج من الريح شئ إلا عليها خزان يعلمون قدرها، وعددها، وكيلها، حتى كانت التي أرسلت على عاد، فاندفق منها، فهم لا يعلمون قدر غضب الله، فلذلك سميت عاتية. (سخرها عليهم) أي سلطها الله، وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام) قال وهب: وهي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد ورياح شديدة. وإنما نسبت هذه الأيام إلى العجوز، لأن عجوزا دخلت سربا، فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب، فانقطع العذاب في اليوم الثامن. وقيل: سميت أيام العجوز، لأنها في عجز الشتاء، ولها أسامي مشهورة، قالوا لليوم الأول صن وللثاني صنبر والثالث وبر وللرابع مطفئ الجمر وللخامس مكفئ الظعن، وقيل للسادس الآمر وللسابع المؤتمر وللثامن المعلل. وقال في ذلك شاعرهم: كسع الشتاء بسبعة غبر * أيام شهلتنا مع الشهر (1) فبآمر، وأخيه مؤتمر، * ومعلل، وبمطفئ الجمر فإذا انقضت أيام شهلتنا * بالصن، والصنبر، والوبر (1) الابيات لابن الأحمر، ونسبها بعض إلى أبي شبل الأعرابي. والكسع: شدة المر، يقال كسعه بكذا وكذا: إذا جعله تابعا له، ومذهبا به. والشهلة: العجوز. والغبر: البقية. (*).
[ 105 ]
ذهب الشتاء موليا هربا، * وأتتك وافدة من النجر (1) (حسوما) أي ولاء متتابعة، ليست لها فترة، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة. كأنه تتابع عليهم الشر حتى استأصلهم. وقيل. دائمة، عن الكلبي ومقاتل. وقيل: قاطعة قطعتهم قطعا حتى أهلكتهم، عن الخليل. وقيل: مشائيم نكداء قليلة الخير حسمت الخير عن أهلها، عن عطية. (فترى القوم فيها) أي في تلك الأيام والليالي (صرعى) أي مصروعين (كأنهم أعجاز نخل خاوية) أي أصول نخل بالية نخرة، عن قتادة. وقيل خاوية: فارغة خالية الأجواف، عن السدي. وقيل: ساقطة مثل قوله: (أعجاز نخل منقعر). (فهل ترى لهم من باقية) أي من نفس باقية. وقيل: من بقاء. والباقية بصنى المصدر مثل العافية والطاغية. والمعنى: هل ترى لهم من بقية أي: لم يبق منهم أحد. (وجاء فرعون ومن قبله) مر معناه. (والمؤتفكات) أي: وجاء أهل القرى المؤتفكات أي المنقلبات بأهلها، عن قتادة، وهي قرى قوم لوط، يريد الأمم والجماعات الذين ائتفكوا (بالخاطئة) أي بخطيئتهم التي هي الشرك والكفر. فالخاطئة مصدر كالخطأ والخطيئة. وقيل: معناه بالأفعال الخاطئة أي بالنفس الخاطئة (فعصوا رسول ربهم) فيما أمرهم به. وقيل: إن المراد بالرسول الرسالة، كما في قول الشاعر. لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بسر، ولا أرسلتهم برسول (2) أي: برسالة، عن أبي مسلم، والأول أظهر. (فأخذهم) الله بالعقوبة (أخذة رابية) أي زائدة في الشدة، عن ابن عباس. وقيل: نامية زائدة على عذاب الأمم. وقيل: عالية مذكورة خارجة عن العادة. (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية (11) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن وعية (12) فإذا نفخ في الصور نفخة وحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة وحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهى يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل (1) النجر: الحر. (2) باح بسره: أظهره. (*).
[ 106 ]
عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافيه (18) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتبيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24) القراءة: قرأ ابن كثير في رواية القواس: (وتعيها) بسكون العين (مختلسا) وهو بين الكسر والسكون. والباقون بكسر العين. وقرأ حمزة، والكسائي: (لا يخفى) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: الوجه في سكون العين من (تعيها) أنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخد، فأسكن لأن حرف المضارعة لا تنفصل من الفعل، فصار كقولك فهو، وفهي. والياء والتاء في قوله (لا يخفى) حسن. اللغة: الجارية: السفينة التي من شأنها أن تجري على الماء. والجارية: المرأة الشابة لأنه يجري فيها ماء الشباب. يقال: وعيت العلم أعيه وعيا. وأوعيت المتاع: جعلته في الوعاء. قال: إذا لم تكن حافظا واعيا فجمعك للكتب لا ينفع والدك: البسط، ومنه الدكان. واندك سنام البعير إذا انفرش على ظهره. والأرجاء: النواحي واحدها رجا مقصور، والتثنية رجوان. وهاؤم: أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، وللاثنين. هاؤما يا رجلان، وللجماعة: هاؤم يا رجال، وللمرأة هاء يا امرأة بكسر الهمزة، وليس بعدها ياء، وللمرأتين هاؤما، وللنساء هاؤن هذه لغة أهل الحجاز وتميم وقيس. يقولون: هاء يا رجل، مثل قول أهل الحجاز، وللإثنين هاءا، وللجماعة هاءوا. وللمرأة هائي، وللنساء هأن (1). وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم، هاك هاكما هاكن، ومعناه: خذ وتناول. ويؤمر بها ولا ينهى. ووقف الكسائي على (ا) قال ابن منظور: ولغة أخرى: هاء يا رجل بهمزة مكسورة، وللإثنين: هائيا وللجمع: هاؤوا وللمرأة هائي وللثنتين: هائيا وللجمع: هائين. (*).
[ 107 ]
هاؤم، وابتدأ (اقرأوا كتابيه) إعلاما منه أنه لا يذهب إلى إعمال الفعل الأول، وإنما العمل للثاني. والراضية. المرضية فاعلة بمعنى مفعول، لأنها في معنى ذات رضى، كما قيل: لابن وتامر أي: ذو لبن، وذو تمر. قال النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب، * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1) يعني: ذو نصب. فكأن العيشة أعطيت حتى رضيت، لأنها بمنزلة الطالبة كما أن الشهوة بمنزلة الطالبة للمشتهى. وقيل: هو مثل ليل نائم، وسر كاتم، وماء دافق، على وجه المبالغة في الصفة من غير التباس في المعنى. والقطوف: جمع قطف، وهو ما يقطف من الثمر. والقطف بالفتح: المصدر. الاعراب: (كتابي) مفعول (اقرأوا) لأنه يليه (قطوفها دانية): جملة مجرورة الموضع، لأنها صفة (جنة). المعنى: ثم بين سبحانه قصة نوح عليه السلام فقال: (إنا لما طغى الماء) أي جاوز الحد المعروف حتى غرقت الأرض بمن عليها، إلا من شاء الله نجاته (حملناكم في الجارية) أي حملنا آباءكم في السفينة، عن ابن عباس، وابن زيد (لنجعلها لكم تذكرة) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملناه، عبرة لكم وموعظة، تتذكرون بها نعم الله تعالى، وتشكرونه عليها، وتتفكرون فيها، فتعرفون كمال قدرته، وحكمته. (وتعيها أذن واعية) أي وتحفظها أذن حافظة، لما جاء من عند الله، عن ابن عباس. وقيل. سامعة قائلة لما سمعت، عن قتادة. وقال الفراء: لتحفظها كل أذن، فتكون عظة لمن يأتي بعد. وروى الطبري بإسناده عن مكحول أنه لما نزلت هذه الاية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اجعلها أذن علي) ثم قال علي عليه السلام: فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسيته. وروى بإسناده عن عكرمة، عن بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه واله والسلم قال لعلي عليه السلام: (يا علي ! إن الله تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وتعي، وحق على الله أن تعي) فنزل (وتعيها أذن واعية). أخبرني فيما كتب بخطه إلي المفيد أبو الوفاء عبد الجبار عبد الله بن علي (1) الشعر في (جامع الشواهد). (*).
[ 108 ]
الرازي قال: حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، والرئيس أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الكاتب، والشيخ أبو عبد الله حسن بن أحمد بن حبيب الفارسي، قالوا: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد الجرجاني قال: سمعت أبا عمرو عثمان بن خطاب المعمر المعروف بأبي الدنيا الأشج قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: لما نزلت (وتعيها اذن واعية) قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: (سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي). (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) وهي النفخة الأولى، عن عطا. والنفخة الأخيرة، عن مقاتل والكلبي. (وحملت الأرض والجبال) أي رفعت من أماكنها (فدكتا دكة واحدة) أي كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوي ما عليها من شئ مثل الأديم الممدود. وقيل. ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت الجبال، وسفتها الرياح، وبقيت الأرض شيئا واحدا، لا جبل فيها، ولا رابية، بل تكون قطعة مستوية. وإنما قال: دكتا لأنه جعل الأرض جملة واحدة، والجبال دكة واحدة (فيومئذ وقعت الواقعة) أي قامت القيامة. (وانشقت السماء) أي انفرج بعضها من بعض (فهي يومئذ واهية) أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها. وقيل: هو أن السماء تنشق بعد صلابتها، فتصير بمنزلة الصوف في الوهي والضعف (والملك على أرجائها) أي على أطرافها ونواحيها، عن الحسن، وقتادة. والملك اسم يقع على الواحد والجمع. والسماء مكان الملائكة، فإذا وهت صارت في نواحيها. وقيل: إن الملائكة يومئذ على جوانب السماء، تنتظر ما يؤمر به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والتكرمة فيها. (ويحمل عرش ربك فوقهم) يعني فوق الخلائق (يومئذ) يعني يوم القيامة (ثمانية) من الملائكة عن ابن زيد. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين، فيكونون ثمانية. وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة. لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، عن ابن عباس (يومئذ تعرضون) يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين (لا تخفى منكم خافية) أي نفس خافية، أو فعلة خافية. وقيل. الخافية مصدر أي خافية أحد. وروي في الخبر عن ابن مسعود وقتادة أن الخلق يعرضون ثلاث عرضات: اثنتان فيها معاذير وجدال، والثالثة: تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وليس يعرض الله الخلق ليعلم
[ 109 ]
من حالهم ما لم يعلمه، فإنه عز اسمه العالم لذاته، يعمل جميع ما كان منهم، ولكن ليظهر ذلك لخلقه. ثم قسم سبحانه حال المكلفين في ذلك اليوم فقال: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول) لأهل القيامة (هاؤم) أي تعالوا (اقرأوا كتابيه) وإنما يقوله سرورا به، لعلمه بأنه ليس فيه إلا الطاعات، فلا يستحي أن ينظر فيه غيره. وأهل اللغة يقولون: إن معنى (هاؤم) خذوا. (إني ظننت) أي علمت وأيقنت في الدنيا (أني ملاق حسابيه) والهاء لنظم رؤوس الآي وهي هاء الإستراحة، والمعنى: إني كنت مستيقنا في دار الدنيا بأني ألقى حسابي يوم القيامة، عالما بأني أجازي على الطاعة بالثواب، وعلى المعصية بالعقاب، فكنت أعمل بما أصل به إلى هذه المثوبة (فهو في عيشة راضية) أي في حالة من العيش، راضية يرضاها، بأن لقي الثواب، وأمن العقاب. (في جنة عالية) أي رفيعة القدر والمكان (قطوفها دانية) أي ثمارها قريبة ممن يتناولها. قال البراء بن عازب: يتناول الرجل من الثمرة، وهو نائم. وقد ورد في الخبر عن عطاء بن يسار، عن سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة أحدكم إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية). وقيل: معناه لا يرد أيديهم عن ثمرها بعد، ولا شوك، عن قتادة (كلوا واشربوا) أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة (هنيئا لما أسلفتم) أي قدمتم من أعمالكم الصالحة (في الأيام الخالية) الماضية يعني أيام الدنيا، ويعني بقوله (هنيئا) أنه ليس فيه ما يؤذي، فلا يحتاج فيه إلى إخراج فضل بغائط أو بول. (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم ادر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27) ما اغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32) انه كان لا يؤمن بالله العظيم (33) ولا يحض على طعام المسكين (34) فليس له اليوم ههنا حميم (35) ولا طعام إلا من غسلين (36) لا يأكله الا الخاطؤون (37)
[ 110 ]
اللغة: القاضية: الفاصلة بالإماتة. يقال: قضى فلان إذا مات. وأصله فصل الأمر، ومنه قضية الحاكم، ومنه قضاء الله وهو في الإخبار بما يكون على القطع. والتصلية: إلزام النار، ومنه الإصطلاء وهو القعود عند النار للدفاء. والجحيم: النار العظيمة. والسلسلة: حلق منتظمة كل واحدة منها في الأخرى، ويقال: سلسل كلامه إذا عقد شيئا منه بشئ. وتسلسل الشئ إذا استمر على الولاء شيئا قبل شئ. وذرع الثوب يذرعه ذرعا: مأخوذ من الذراع. والغسلين. الصديد الذي ينغسل بسيلانه من أبدان أهل النار، ووزنه فعلين من الغسل. الاعراب: قوله: كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه قال الزجاج: الوجه أن يوقف على هذه الهاءات، ولا توصل لأنها أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الوصل. ولا أحب مخالفة المصحف، ولا أن أقر وأثبت الهاءات في الوصل، وهذه رؤوس آيات، فالوجه أن يوقف عندها وكذلك قوله: (ما هيه) (فليس له اليوم ههنا حميم): الجار والمجرور خبر ليس ليصح قوله (ولا طعام إلا من غسلين) أي ولا له طعام، ولا يكون الخبر ههنا لأن التقدير يصير ولا طعام ههنا إلا من غسلين، وهذا غير جائز، إذ هنا طعام غير غسلين. ولا يكون الخبر (اليوم) لأن (حميم) جثة، وظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. المعنى: ثم ذكر سبحانه حال أهل النار فقال: (وأما من أوتي) أي أعطي (كتابه) الذي هو صحيفة أعماله (بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) أي تمنى أنه لم يؤته لما يرى فيه مقابح أعماله التي يسود لها وجهه (ولم أدر ما حسابيه) أي ولم أدر أي شئ حسابي، لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، وإنما هو كله عليه (يا ليتها كانت القاضية) الهاء في (ليتها) كناية عن الحال التي هم فيها. وقيل: هي كناية عن الموتة الأولى. والقاضية: القاطعة للحياة أي: ليت الموتة الأولى التي متنا لم نحي بعدها، عن الفراء. يتمنى دوام الموت، وأنه لم يبعث للحساب. وقال قتادة: تمنى يومئذ الموت، ولم يكن في الدنيا شئ عنده أكره من الموت. (ما أغنى عني ماليه) أي ما دفع عني مالي من عذاب الله شيئا. وقيل. معناه أني قصرت همتي على تحصيل المال، ليكشف الكرب عني، فما نفعني اليوم (هلك عني سلطانيه) أي حجتي، عن ابن عباس ومجاهد. أي ضل عني ما كنت أعتقده حجة. وقيل: معناه هلك عني تسلطي، وأمري، ونهيي في دار الدنيا على
[ 111 ]
ما كنت مسلطا عليه، فلا أمر لي، ولا نهي. ثم أخبر سبحانه إنه يقول للملائكة: (خذوه فغلوه) أي أوثقوه بالغل وهو أن تشد إحدى يديه ورجليه إلى عنقه بجامعة (ثم الجحيم صلوه) أي ثم أدخلوه النار العظيمة، وألزموه إياها (ثم في سلسلة ذرعها) أي طولها (سبعون ذراعا فاسلكوه) أي اجعلوه فيها، لأنه يؤخذ عنقه فيها، ثم يجر بها. قال الضحاك: إنما تدخل في فيه، وتخرج من دبره. فعلى هذا يكون المعنى: ثم اسلكوا السلسلة فيه، فقلب كما يقال. ادخلت القلنسوة في رأسي. وقال الأعشى: (إذا ما السراب ارتدى بالأكم) (1) وإنما ارتدى الأكم بالسراب، ولكنه قلب. وقال نوف البكالي: كل ذراع سبعون باعا، والباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة. وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو. وقال سويد بن نجيح. إن جميع أهل النار في تلك السلسلة، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرها. ثم قال سبحانه: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) شأنه أي لم يكن يوحد الله في دار التكليف، ولا يصدق به (ولا يحض على طعام المسكين) وهو المحتاج الفقير. والمعنى: إنه كان يمنع الزكاة، والحقوق الواجبة (فليس له اليوم ههنا حميم) أي صديق ينفعه (ولا طعام) أي ولا له اليوم طعام (إلا من غسلين) وهو صديد أهل النار، وما يجرى منهم، فالطعام هو ما هئ للأكل، ولذلك لا يسمى التراب طعاما للإنسان. فلما هئ الصديد لأكل أهل النار، كان ذلك طعاما لهم. وقيل: إن أهل النار طبقات: فمنهم من طعامه غسلين. ومنهم من طعامه الزقوم. ومنهم من طعامه الضريع، لأنه قال في موضع آخر (ليس لهم طعام إلا من ضريع). وقيل: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبر عنه بعبارتين، عن قطرب. وقيل: يجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع، ولا شراب إلا من غسلين، كما قال الشاعر: علفتها تبنا، وماء بارد * (2)، حتى شقت همالة عيناها (1) الأكم جمع الآكام: التل. (2) هذا المصراع يجعله بعض العلماء صدرا، ويحمل عجزه (حتى ثقت) كما في الكتاب. ويجعله بعضهم عجزا، ويجعل صدره (لما حططت الرحل عنها واردا) ومعنى المصراع، علفتهما تبنا وسقيتهما ماءا) على تقدير عامل محذوف وجعل الواو عاطفة، عطفت جملة على جملة. أو إن المراد من قوله: (علفتها) أعطيتها. فالواو عاطفة أيضا، وقد عطفت مفردا على مفرد. (*).
[ 112 ]
(لا يأكله) أي لا يأكل الغسلين (إلا الخاطئون) وهم الجائرون عن طريق الحق عامدين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن المخطئ قد يكون من غير تعمد. والخاطئ: المذنب المتعمد الجائر عن الصراط المستقيم. قال امرؤ القيس. يا لهف هند إذ خطئن كاهلا * القاتلين الملك الحلاحلا (1) (فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب العلمين (43) ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين 470) وإنه لتذكرة للمتقين (48) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين (49) وإنه لحسرة على الكفرين (50) وإنه لحق اليقين (51) فسبح باسم ربك العظيم (52). القراءة: قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وسهل: يؤمنون ويذكرون بالياء كناية عن الكفار. والباقون بالتاء خطابا لهم. وكلاهما حسن. اللغة: الوتين: نياط القلب، وإذا انقطع مات الإنسان. قال الشماخ بن ضرا ر: إذا بلغتني، وحملت رحلي، * عرابة فاشرقي بدم الوتين (2) (1) كاهل: أبو قببلة من الأسد، وهم قد قتلوا (حجرا) والد امرئ القيس في قصة طويلة، وأراد من الملك الحلاحل في البيت والده. والحلاحل بمعنى السيد في عشيرته. و (هند) أخته. وفي اللسان: (يا لهف نفسي) وخطئن بمعنى أخطأن وفاعله ضمير يرجع إلى (الخيل) وإن لم يجر لها ذكر. وهذا مثل قوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب) وقول لبيد: (حتى إذا ألقت يدا في كافر)، وغير ذلك. (2) عرابة: اسم رجل من الأنصار من الأوس، وكان من قصة شماخ على ما قيل، أنه خرج يريد المدينة، فلقيه عرابة، فسأله عما أقدمه المدينة فقال: أردت أن أمتار لأهلي ! وكان معه بعيران فأوقرهما عرابة تمرا وبرا وكساه، وأكرمه ! فخرج من المدينة وامتدحه بقصيدة منها البيت، ويخاطب فيه ناقته. وشرق الشئ: اشتد حمرته بدم، أو شئ أحمر. (*).
[ 113 ]
الاعراب: (قليلا) في الموضعين: صفة مصدر محذوف. و (ما) مزيدة وتقديره: إيمانا قليلا تؤمنون وتذكرا قليلا تذكرون. ويجوز أن يكون صفة لظرف محذوف أي: وقتا قليلا تؤمنون، ووقتا قليلا تذكرون. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، ويكون التقدير: قليلا إيمانكم، وقليلا تذكركم. ويكون (ما) في موضع رفع بقليل. وقوله (من أحد): في موضع رفع، لأنه إسم (ما)، و (من) مزيدة لتأكيد النفي تقديره: فما منكم أحد. والأصل فما أحد منكم. فمنكم: في موضع رفع بكونه صفة على الموضع أو في موضع جر على اللفظ. فلما تقدم الموصوف صار في موضع النصب على الحال. (حاجزين) منصوب بأنه خبر (ما) ولم يبطل قوله (منكم) عمل (ما)، وإن فصل بينهما، لأنه ظرف. والفصل بالظرف في هذا الباب كلا فصل. قال أبو علي: إن جعلت (منكم) مستقرا كان (حاجزين) صفة (أحد). وإن جعلت (منكم) غير مستقر، كان (حاجزين) خبر (ما). وعلى الوجهين فقوله (حاجزين): محمول على المعنى. وأقول في بيانه: إنه إن كان في (منكم) ضمير لأحد، ويكون خبرا له متقدما عليه، فيكون (حاجزين) صفة لأحد، وتقديره: ما منكم قوم حاجزون عنه، ويكون (ما) غير عاملة هنا على غير لغة تميم أيضا، ويكون (حاجزين) مجرورا حملا على اللفظ، وكونه غير مستقر هو أن يكون على ما ذكرناه قبل. المعنى: ثم أكد سبحانه ما تقدم فقال: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) قيل فيه وجوه أحدها: أن يكون قوله (لا) ردا لكلام المشركين، فكأنه قال: ليس الأمر كما يقول المشركون أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها، وما لا يبصر، ويدخل فيها جميع المكونات (إنه لقول رسول كريم) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن الفراء وقتادة. وثانيها: إن (لا) مزيدة مؤكدة والتقدير: فأقسم بما ترون، وما لا ترون وثالثها: إنه نفي للقسم ومعناه لا يحتاج إلى القسم لوضوح الأمر في أنه رسول كريم، فإنه أظهر من أن يحتاج في إثباته إلى قسم، عن أبي مسلم ورابعها: إنه كقول القائل: لا والله لا أفعل ذلك، ولا والله لأفعلن ذلك. وقال الجبائي. إنما أراد أنه لا يقسم بالأشياء المخلوقات، ما يرى وما لا يرى، وإنما أقسم بربها، لأن القسم لا يجوز إلا بالله. (إنه لقول رسول كريم) قال: إنه قول الله على الحقيقة، وإنما الملك
[ 114 ]
وجبرائيل والرسول، يحكون ذلك. وإنما أسنده إليهم من حيث إن ما يسمع منهم كلامهم. فلما كان حكاية كلام الله قيل: هو كلام الله على الحقيقة في العرف. قال الجبائي: والرسول الكريم جبرائيل. والكريم: الجامع لخصال الخير. (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) قول الشاعر ما ألفه بوزن، وجعله مقفى، وله معنى. وقول (الكاهن السجع، وهو كلام متكلف يضم إلى معنى يشاكله، طهره الله سبحانه من الشعر، والكهانة، وعصمه عنهما. وإنما منعه سبحانه من الشعر، ونزهه عنه، لأن الغالب من حال الشعر أن يدعو إلى الهوى، ويبعث على الشهوة. والنبي صلى الله عليه واله وسلم إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل، للحاجة إلى العمل عليها، والإهتداء بها. وأيضا فإنه سبحانه منعه من قول الشعر، دلالة على أن القرآن ليس بصفة الكلام المعتاد بين الناس، وأنه ليس بشعر، بل هو صنف من الكلام، خارج عن الأنواع المعتادة. وإذا بعد عما جرت به العادة في تأليف الكلام، فذلك أدل على إعجازه. وقوله (قليلا ما تؤمنون) معناه: لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى. يريد بالقليل نفي إيمانهم أصلا، كما تقول لمن لا يزورك: قل ما تأتينا، وأنت تريد لا تأتينا أصلا. فالمعنى: لا تؤمنون به، ولا تتذكرون، ولا تتفكرون فتعلموا المعجز، وتفصلوا بينه وبين الشعر والكهانة. (تنزيل من رب العالمين) بين أنه منزل من عنده على لسان جبرائيل حتى لا يتوهم أنه كلام جبرائيل. (ولو تقول علينا) محمد (بعض الأقاويل) معناه ولو كذب علينا، واختلق ما لم نقله، أي لو تكلف القول، وأتى به من عند نفسه (لأخذنا منه باليمين) أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال، كما يقول السلطان: يا غلام خذ بيده. فأخذها إهانة، عن ابن جرير. وقيل: معناه لقطعنا يده اليمنى، عن الحسن، وأبي مسلم. فعلى هذا تكون الباء مزيدة، أي لأخذنا منه اليمين. وقيل. معناه لأخذنا منه بالقوة والقدرة، أي لأخذناه ونحن قادرون عليه، مالكون له، عن الفراء والمبرد والزجاج. وإنما أقام اليمين مقام القوة والقدرة، لأن قوة كل شئ في ميامنه، عن ابن قتيبة. (ثم لقطعنا منه الوتين) أي ولكنا نقطع منه وتينه ونهلكه. قال مجاهد وقتادة. هو عرق في القلب متصل بالظهر. وقيل: هو حبل القلب (فما منكم من أحد عنه حاجزين) أي فما منكم أحد يحجزنا عنه، والمعنى: إنه لا يتكلف الكذب لأجلكم
[ 115 ]
مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاتبناه، ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه. ثم ذكر سبحانه أن القرآن ما هو فقال: (وإنه لتذكرة للمتقين) أي وإنه لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) بالقرآن. أي علمنا أن بعضكم يكذبه. أشار سبحانه إلى أن منهم من يصدق، ومنهم من يكذب (وإنه لحسرة على الكافرين) أي إن هذا القرآن حسرة عليهم يوم القيامة، حيث لم يعملوا به في الدنيا (وإنه لحق اليقين) معناه: وإن القرآن للمتقين لحق اليقين. والحق هو اليقين. وإنما أضافة إلى نفسه، كما يقال. مسجد الجامع، ودار الاخرة، وبارحة الأولى، ويوم الخميس، وما أشبه ذلك، فيضاف الشئ إلى نفسه، إذا اختلف لفظه. وقيل: إن الحق هو الذي معتقده على ما اعتقد، واليقين هو الذي لا شبهة فيه. (فسبح باسم ربك العظيم) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به جميع المكلفين، ومعناه: نزه الله سبحانه عما لا يجوز عليه من الصفات. والعظيم هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه، ويتضاءل كل شئ لعظمته وسلطانه.
[ 116 ]
70 - سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون قال الحسن: إلا قوله (والذين في أموالهم حق معلوم). عدد آيها: أربع وأربعون آية غير الشامي، ثلاث شامي. اختلافها: آية الف سنة غير الشامي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن قرأ (سأل سائل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون). وعن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله، وأسكنه جنته مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: لما ختم الله سورة الحاقة بوعيد الكفار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (سأل سائل بعذاب واقع (1) للكافرين ليس له دافع (2) من الله ذي المعارج (3) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (4) فاصبر صبرا جميلا (5) إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7) يوم تكون السماء كالمهل (8) وتكون الجبال كالعهن (9) ولا يسئل حميم حميما (10) القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر. (سال) بغير همز. والباقون بالهمز. وقرأ الكسائي. (يعرج) بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وقرأ ابن كثير في رواية البزي، وعاصم في رواية البرجمي. عن أبي بكر. (ولا يسأل) بضم الياء. والباقون: (لا
[ 117 ]
يسأل) بفتح الياء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (سال) جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين مثل قال وخاف. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول: هما يتساولان، فمن قال (سال) كان على هذه اللغة. ومن قرأ (سأل) فجعل الهمزة عين الفعل، فإن حقق قال (سأل)، وإن خفف جعلها بين الألف والهمزة. وأما قول الشاعر: سألت هذيل رسول الله فاحشة، * ضلت هذيل بما قالت، ولم تصب ويمكن فيه الوجهان. وكل القراء على همز (سائل)، لأنه لا يخلو إما أن يكون من يتساولان، أو من اللغة الأخرى. فإن كان من الأول لم يكن فيه إلا الهمز، كما يكون في قائل وخائف، لأن العين إذا أعتلت بالفعل اعتلت في اسم الفاعل. واعتلالها لا يكون بالحذف للإلتباس. فقلب إلى الهمزة. وإن كانت في لغة من همز، فليس فيه إلا الهمز كما يكون في ثائر، إلا أنك إن شئت خففت الهمزة، فجعلتها بين بين. وكذلك في الوجه الآخر. وأما يعرج وتعرج فالياء والتاء فيه حسنتان. ومن ضم قوله (ولا يسئل حميم حميما) فالمعنى والله أعلم: لا يسئل حميم عن حميمه ليعرف شأنه من جهته، كما يتعرف الخبر الصديق من جهة صديقه، والقريب عن قريب. فإذا كان كذلك فالكلام إذا بنيت الفعل للفاعل قلت: سألت زيدا عن حميمه، وإذا بنيت الفعل للمفعول به قلت: سئل زيد عن حميمه. وقد يحذف الجار، فيصل الفعل إلى الإسم الذي كان مجرورا قبل حذف الجار، فينتصب بأنه مفعول الإسم الذي أسند إليه الفعل المبني للمفعول به، فعلى هذا أنتصب قوله (حميما). ويدل على هذا المعنى قوله (يبصرونهم) أي يبصر الحميم الحميم. تقول: بصرت به، فإذا ضعفت عين الفعل صار الفاعل مفعولا، فتقول: بصرني زيد بكذا. فإذا حذفت الجار قلت: بصرني زيد كذا. فإذا بنيت الفعل للمفعول به، وقد حذفت الجار، قلت: بصرت زيدا. فعلى هذا قوله (يبصرونهم) فإذا بصروهم لم يحتج إلى تعرف شأن الحميم من حميمه، وإنما جمع فقيل يبصرونهم، لأن الحميم، وإن كان مفردا في اللفظ، فالمراد به الكثرة والجمع. يدلك على ذلك قوله (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم). ومن قرأ (ولا يسأل حميم حميما) فالمعنى: لا يسأل الحميم عن حميمه في ذلك اليوم، لأنه
[ 118 ]
يذهل عن ذلك، ويشغل عنه بشأنه، كما قال: (يوم يفر المرء من أخيه) إلى قوله: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). اللغة: المعارج: مواضع العروج، وهو الصعود مرتبة بعد مرتبة، ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الأخرى. قال الزجاج: المهل دردي الزيت. وقيل: هو الجاري بغلظه وعكره على رفق من أمهله إمهالا. والعهن: الصوف المنفوش. والحميم. القريب النسب إلى صاحبه، وأصله من القرب، قال: أحم الله ذلك من لقاء * أحاد أحاد في الشهر الحلال (1) الاعراب: (بعذاب): الباء تتعلق بسأل، لأن معناه دعا داع بعذاب. وقيل: إن الباء بمعنى عن، وتقديره عن عذاب. قال: دع المعمر لا تسأل بمصرعه، * واسأل بمصقلة البكري ما فعلا يريد: عن مصرعه، وعن مصقله. واللام في قوله (للكافرين) بمعنى على، ويتعلق بواقع أي: واقع على الكافرين. وقيل: إنه يتعلق بمحذوف، فيكون صفة لسائل، تقديره: سأل سائل كائن للكافرين أي: منهم. المعنى: (سأل سائل بعذاب واقع) قيل: إن هذا السائل هو الذي قال: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) الآية. وهو النضر بن الحارث بن كلدة، فيكون المعنى دعا داع على نفسه بعذاب واقع، مستعجلا له، وهو واقع بهم لا محالة، عن مجاهد. وقيل: سأل المشركون فقالوا: لمن هذا العذاب الذي تذكر يا محمد ؟ فجاء جوابه بانه (للكافرين ليس له دافع) عن الحسن. وقيل: معناه دعا بعذاب على الكافرين، وذلك الداعي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الجبائي. وتكون الباء في (بعذاب) مزيدة على التوكيد، كما في قوله: (وهزي إليك بجذع النخلة)، والتقدير: سأل سائل عذابا واقعا. وقيل: هي بمعنى عن، وعليه تأويل قول الحسن، لأنهم سألوا عن العذاب لمن هو. وقيل: الباء للتعدي أي: بإنزال عذاب، وعليه تأويل قول مجاهد. وقيل: إن معنى سأل سائل على قراءة من قرأ بالألف من سال يسيل سيلا، والتقدير: سال سيل سائل بعذاب واقع. وقيل: سائل (1) قائله احد من الهذليين. وأحمه الله اي قربه. (*).
[ 119 ]
اسم واد في جهنم، سمي به لأنه يسيل بالعذاب، عن ابن زيد. وأخبرنا السيد أبو الحمد قال حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: حدثنا أبو عبد الله الشيرازي قال: حدثنا أبو بكر الجرجاني قال: حدثنا أبو أحمد البصري قال. حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينه، عن جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: لاما نصب رسول الله م ! عليا عليه السلام يوم غدير خم وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها. ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شئ منك، أو أمر من عند الله ؟ فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله). فولى النعمان بن الحرث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء ! فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى: (سأل سائل بعذاب وا قع). وقوله: (ليس له دافع) (من الله ذي المعارج) أي ليس لعذاب الله دافع من الله. وقيل: معناه بعذاب للكافرين واقع من الله أي: وقوعه من الله. وذي المعارج: صفة الله سبحانه. وقيل فيه وجوه أحدها: إن معناه ذي الفواضل العالية، والدرجات التي يعطيها للأنبياء، والأولياء في الجنة، لأنه يعطيهم المنازل الرفيعة، والدرجات العلية، وهو معنى قول قتادة، والجبائي. وثانيها: إنها معارج السماء أي مواضع عروج الملائكة، عن ابن عباس، ومجاهد. وقال الكلبي: معناه ذي السماوات، لأن الملائكة تعرج فيها. وثالثها. إنه بمعنى ذي الملائكة أي مالك الملائكة التي تعرج إلى السماء، ومنه ليلة المعراج، لأنه عرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فيها. (تعرج الملائكة والروح) أي تصعد الملائكة، ويصعد الروح أيضا معهم، وهو جبرائيل. خصه بالذكر من بين الملائكة تشريفا له (إليه) أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سراه فيه حكم. جعل سبحانه عروجهم إلى ذلك الموضع عروجا إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: (إني ذاهب إلى ربي) إلى الموضع الذي وعدني ربي.
[ 120 ]
(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) اختلف في معناه فقيل: تعرج الملائكة إلى الموضع الذي يأمرهم الله به في يوم كان مقداره في عروج غيرهم خمسين ألف سنة، وذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع. وقوله في سورة السجدة: (في يوم كان مقداره ألف سنة) هو لما بين السماء الدنيا والأرض في الصعود والنزول. خمسمائة سنة في الصعود، وخمسمائة سنة في النزول، عن مجاهد. والمراد: إن الآدميين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد، لقطعوه في هذه المدة. وقيل: إنه يعني يوم القيامة، وإنه يفعل فيه من الأمور، ويقضي فيه من الأحكام بين العباد، ما لو فعل في الدنيا، لكان مقداره خمسين ألف سنة، عن الجبائي، وهو معنى قول قتادة، وعكرمة. وروى أبو سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله ! ما أطول هذا اليوم ؟ فقال: (والذي نفس محمد بيده ! إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا). وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة، من قبل أن يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة. وعنه أيضا قال: لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقيل: معناه إن أول نزول الملائكة في الدنيا، وأمره، ونهيه، وقضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء، وهو القيامة هذه المدة، فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة، لا يدري كم مضى وكم بقي. وإنما يعلمه الله، عز وجل. وقال الزجاج: يجوز أن يكون قوله (في يوم) من صلة (واقع)، فيكون المعنى. سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وذلك العذاب يقع يوم ا لقيامة. (فاصبر) يا محمد على تكذيبهم إياك (صبرا جميلا) لا جزع فيه، ولا شكوى على ما تقاسيه (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) أخبر سبحانه أنه يعلم مجئ يوم القيامة، وحلول العقاب بالكفار قريبا، ويظنه الكفار بعيدا، لأنهم لا يعتقدون صحته. وكل ما هو آت فهو قريب دان. فالرؤية الأولى بمعنى الظن، والثانية بمعنى العلم. ثم أخبر سبحانه أنه متى يقع العذاب بهم فقال. (يوم تكون السماء كالمهل) أي كدردي الزيت (1)، عن ابن عباس. وقيل: كعكر القطران، عن (1) دردي الزيت: ما يبقى راسبا في أسفله من الكدر، والعكر - محركة - بمعنى الدردي من كل شئ. (*).
[ 121 ]
عطاء. وقيل: مثل الفضة إذا أذيبت، عن الحسن. وقيل: مثل الصفر المذاب، عن أبي مسلم (وتكون الجبال كالعهن) أي كالصوف المصبوغ. وقيل. كالصوف المنفوش، عن مقاتل. وقيل: كالصوف الأحمر، عن الحسن. يعني: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الإجتماع. قال الحسن: إنها أولا تصير كثيبا مهيلا، ثم تصير عهنا منفوشا، ثم هباء منثورا. (ولا يسأل حميم حميما) لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره، عن مجاهد. وقيل: لا يسال حميم أن يتحمل عنه من أوزاره، ليأسه منه وذلك في الآخرة، عن الحسن. وقال الأخفش: الحميم من يخصه الرجل مودة وشفقة من قريب الرحم وبعيده. والحامة: الخاصة. وقيل: معناه أنه لا يحتاج إلى سؤاله، لأنه يكون لكل علامة يعرف بها، فعلامة الكافرين سواد الوجوه، وزرقة العيون، وعلامة المؤمنين نضارة اللون، وبياض الوجوه. (يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته التى تؤويه (13) ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه (14) كلا إنها لظى (15) نزاعة للشوى (16) تدعو من أدبر وتولى (17) وجمع فأوعى (18) إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذ مسه الخير منوعا (21) إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون (23) والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25) والذين يصدقون بيوم الدين (26) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم غير مأمون (28) والذين هم لفروجهم حافظون (29) إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (31) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32) والذين هم بشهادتهم قائمون (33) والذين هم على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنات مكرمون (35). القراءة: قرأ حفص: (نزاعة) بالنصب. والباقون بالرفع. وقرأ ابن كثير:
[ 122 ]
(لأمانتهم) بغير ألف بعد النون. والباقون. (لأماناتهم) بالجمع. وقرأ حفص، ويعقوب وسهل: (بشهاداتهم) على الجمع. والباقون: (بشهادتهم). وكلهم قرأوا: (على صلاتهم) على التوحيد. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (إنها لظى نزاعة للشوى) فرفع نزاعة، جاز في رفعه ما جاز في قولك: هذا زيد منطلق، وهذا بعلي شيخ. ومن نصب فعلى وجهين أحدهما: أن يكون حالا. والاخر: أن يحمل على فعل، فحمله على الحال يبعد، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال. فإن قلت. فإن في قوله (لظى) معنى التلظي والتلهب، فإن ذلك لا يستقيم، لأن لظى معرفة لا ينتصب عنها الأحوال. ألا ترى أن ما استعمل استعمال الأسماء من اسم فاعل، أو مصدر، لم يعمل هذا النحو من حيث جرى مجرى الأسماء، فبأن يعمل الإسم المعرفة عمله أولى. ويدلك على تعريف هذا الإسم، وكونه علما: أن التنوين لم يلحقه، فإذا كان كذلك لم ينتصب الحال عنه. فإن جعلتها مع تعريفها قد صارت معروفة بشدة التلظي، جاز أن تنصبه بهذا المعنى الحادث في العلم. وعلى هذا قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) علقت الظرف بما دل عليه الإسم من التدبير والألطاف. فإن علقت الحال بالمعنى الحادث في العلم، كما علقت الظرف بما دل عليه الإسم من التدبير والألطاف، لم يمتنع، لأن الحال كالظرف في تعلقها بالمعنى، كتعلق الظرف به، وكان وجها. وإن علقت (نزاعة) بفعل مضمر نحو أعينها نزاعة للشوى، لم يمتنع أيضا. وأما قوله (لأمانتهم) على الإفراد، وإن كان مضافا إلى جماعة، ولكل واحد منهم أمانة، فلأنه مصدر يقع على جميع الجنس، ويتناوله. ومن جمع فلاختلاف الأمانات، وكثرة ضروبها، فاشبهت بذلك الأسماء التي ليست للجنس. والقول في الشهادة والشهادات مثل القول في الأمانة والأمانات. اللغة: المودة: مشتركة بين التمني، وبين المحبة. يقال. وددت الشئ أي تمنيته. ووددته أي أحببته أود فيهما جميعا. والإفتداء: إفتداء الضرر عن الشئ ببدل منه. والفصيلة: الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة، عن أبوة عامة. ولظى: اسم من أسماء جهنم مأخوذة من التوقد. والنزاعة: الكثيرة النزع، وهو اقتلاع عن شدة ضم. والإقتلاع: أخذ بشدة اعتماد. والشوى: جلدة الرأس واحدتها شواة. قال الاعشى:
[ 123 ]
قالت قتيلة: ما له ؟ * قد جللت شيبا شواته (1) والشوى: الأكارع والأطراف. والشوى: ما عدى المقاتل من كل حيوان، يقال: رماه فأشواه أي أصاب غير مقتله. ورمى فأصمى أي أصاب المقتل. والشوى أيضا: الخسيس من المال. والهلوع: الشديد الحرص، الشديد الجزع. والإشفاق: رقة القلب عن تحمل ما يخاف من الأمور فإذا قسا قلب الإنسان بطل الإشفاق. والعادي: الخارج عن الحق، يقال: عدا فلان إذا اعتدى. وعدا في مشيه إذا أسرع، وهو الأصل. والعادي: الظالم بالإسراع إلى الظلم. الاعراب: يجوز أن يكون العامل في الظرف من قوله: (يوم تكون السماء كالمهل) قوله: (يبصرونهم) وقوله (يود المجرم): يجوز أن يكون استئناف كلام، ويجوز أن يكون في محل الجر بدلا من (تكون السماء كالمهل). هلوعا ومنوعا وجزوعا منصوبة على الحال. والتقدير: خلق هلوعا، جزوعا إذا مسه الشر، منوعا إذا مسه الخير. و (المصلين): منصوب على الإستثناء. وقوله: (إلا على أزواجهم) قيل إن (على) هذه محمولة على المعنى، والتقدير: فإنهم يلامون على غير أزواجهم. ويدل عليه قوله (فإنهم غير ملومين) عن الزجاج. وقيل: تقديره إلا من أزواجهم، فيكون (على) بمعنى من. المعنى: لما وصف سبحانه القيامة، وأخبر أن الحميم فيه لا يسأل حميمه لشغله بنفسه، قال: (يبصرونهم) أي يعرف الكفار بعضهم بعضا ساعة، ثم لا يتعارفون، ويفر بعضهم من بعض، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: يعرفهم المؤمنون، عن مجاهد أي: يبصر المؤمن أعداءه على حالهم من العذاب، فيشمت بهم ويسر. وقيل. يعرف أتباع الضلالة رؤساءهم. وقيل: إن الضمير يعود إلى الملائكة، وقد تقدم ذكرهم أي يعرفهم الملائكة، ويجعلون بصراء بهم، فيسوقون فريقا إلى الجنة، وفريقا إلى النار (يود المجرم) أي يتمنى العاصي (لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه) يتمنى سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه من أولاده الذين هم أعز الناس عليه (وصاحبته) أي زوجته التي كانت سكنا له. وربما آثرها على أبويه (وأخيه) الذي كان ناصرا له ومعينا (وفصيلته) أي وعشيرته (التي (1) قتيلة: إسم امرأة أي قالت ماله، وقد كسيت بالشعر الأبيض جلدة رأسه. (*).
[ 124 ]
تؤويه) في الشدائد، وتضمه ويأوي إليها في النسب. (ومن في الأرض جميعا) أي وبجميع الخلائق. يقول: يود لو يفتدي بجميع هذه الأشياء (ثم ينجيه) ذلك الفداء (كلا) لا ينجيه ذلك. قال الزجاج. كلا ردع وتنبيه أي: لا يرجع أحد من هؤلاء فارتدعوا (إنها لظى) يعني إن نار جهنم، أو القصة، لظى نزاعة للشوى. وسميت لظى لأنها تتلظى أي تشتعل وتلتهب على أهلها. وقيل: لظى اسم من أسماء جهنم. وقيل: هي الدركة الثانية منها، وهي (نزاعة للشوى) تنزع الأطراف، فلا تترك لحما، ولا جلدا إلا أحرقته، عن مقاتل. وقيل. تنزع الجلد وأم الرأس، عن ابن عباس. وقيل: تنزع الجلد واللحم عن العظم، عن الضحاك وقال الكلبي: يعني تأكل الدماغ كله، ثم يعود كما كان. وقال أبو صالح: الشوى لحم الساق. وقال سعيد بن جبير: العصب والعقب، وقال أبو العالية: محاسن الوجه (تدعو من أدبر وتولى) يعني النار تدعو إلى نفسها من أدبر عن الإيمان، وتولى عن طاعة الله ورسوله، عن قتادة. والمعنى: إنه لا يفوت هذه النار كافر، فكأنها تدعوه فيجيبها كرها. وقيل: إن الله تعالى ينطق النار حتى تدعوهم إليها. وقيل: معناه تدعو زبانية النار من أدبر وتولى عن الحق، فجعل ذلك سبحانه دعاء من النار، عن الجبائي. وقيل: تدعو أي تعذب، رواه المبرد عن الخليل قال: يقال دعاك الله أي: عذبك. (وجمع) المال (فأوعى) أي أمسكه في الوعاء فلم ينفقه في طاعة الله، فلم يؤد زكاة، ولم يصل رحما. وقيل: جمعه من باطل، ومنعه عن الحق (إن الإنسان خلق هلوعا) أي ضجورا شحيحا جزوعا من الهلع، وهو شدة الحرص. وقال أهل البيان. تفسيره فيما بعده (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) يعني إذا أصابه الفقر لا يحتسب، ولا يصبر. وإذا أصابه الغنى منعه من البر. ثم استثنى سبحانه الموحدين المطيعين، فقال: (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) مستمرون على أدائها، لا يخلون بها، ولا يتركونها. وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أن هذا في النوافل. وقوله: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) في الفرائض والواجبات. وقيل: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة، عن عقبة عن عامر والزجاج. (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) يعني الزكاة المفروضة.
[ 125 ]
والسائل: الذي يسأل. والمحروم: الفقير الذي يتعفف ولا يسأل. وقد سبق تفسيرها. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة وهو الشئ الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة، وإن شئت كل يوم، ولكل ذي فضل فضله. وروي عنه أيضا أنه قال. هو أن تصل القرابة، وتعطي من حرمك، وتتصدق على من عاداك. (والذين يصدقون بيوم الدين) أي يؤمنون بان يوم الجزاء والحساب حق لا يشكون في ذلك. (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون (إن عذاب ربهم غير مامون) أي لا يؤمن حلوله بمستحقيه وهم العصاة. وقيل: معناه يخافون أن لا تقبل حسناتهم، ويؤخذون بسيئاتهم. وقيل: غير مامون لأن المكلف لا يدري هل أدى الواجب كما أمر به، وهل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه. ولو قدرنا أن إنسانا يعلم ذلك من نفسه لكان آمنا (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزراجهم أو ما ملكت أيمانهم) يعني الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كل وجه وسبب، إلا على الأزواج، أو ملك الأيمان من الإماء (فإنهم غير ملومين) على ترك حفظ الفروج عنهم. (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج، فأولئك هم الذين تعدوا حدود الله، وخرجوا عما أباحه لهم. ومعنى (وراء ذلك): ما خرج عن حده من أي جهة كان (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي حافظون. والأمانة: ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا والودائع والحكومات ونحوها. وقيل: الأمانة الإيمان وما أخذ الله على عباده من التصديق بما أوجبه عليهم، والعمل بما يجب عليهم العمل به (والذين هم بشهاداتهم قائمون) أي يقيمون الشهادات التي تلزمهم إقامتها. والشهادة: الإخبار بالشئ أنه على ما شاهدوه ذلك أنه قد يكون عن مشاهدة للمخبر به، وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه (والذين هم على صلاتهم يحافظون) أي يحفظون أوقاتها وأركانها، فيؤدونها بتمامها، ولا يضيعون شيئا منها. وروى محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا. وروى زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: هذه الفريضة من صلاها لوقتها عارفا بحقها، لا يؤثر عليها غيرها، كتب الله له بها براءة لا يعذبه، ومن صلاها لغير وقتها، مؤثرا عليها غيرها، فإن ذلك
[ 126 ]
إليه إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه و (أولثك) من وصفوا بهذه الصفات (في جنات) اي بساتين يجنها الشجر (مكرمون) معظمون مبجلون بما يفعل بهم من ا لثواب. (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين (36) عن اليمين وعن الشمال عزين (37) أيطمع كل امرئ منهم ان يدخل جنة نعيم (38) كلا إنا خلقناهم مما يعلمون (39) فلا اقسم برب المشرق والمغرب إنا لقادرون (40) على ان نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون (42) يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذى كانو يوعدون (44) القراءة: قرأ ابن عامر وحفص وسهل: (إلى نصب) بضمتين. والباقون: (إلى نصب) بفتح النون، وسكون الصاد. الحجة: قال أبو علي: يجوزأن يكون (نصب) جمع نصب مثل: سقف وسقف، وورد وورد. ومن ثقل فقال (نصب) كان بمنزلة أسد. ويمكن أن يكون النصب والنصب لغتين كالضعف والضعف وما أشبه ذلك، ويكون الثقيل كشغل وشغل، وطنب وطنب. اللغة: قال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشئ لا يزايله، وذلك من نظر العدو. وقال أبو عبيدة: الإهطاع الإسراع. وعزين: جماعات في تفرقة واحدتهم عزة، وإنما جمع بالواو والنون لأنه عوض مثل سنة وسنون. وأصل عزة عزوة من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره، فكل جماعة من هذه الجماعات مضافة إلى الأخرى. قال الراعي: أخليفة الرحمن إن عشيرتي * أمسى سوامهم عزين فلولا (1) (1) هذا البيت من قصيدة لعبيد الراعي، يمدح بها عبد الملك بن مروان، ويشكو فيها من السعاة، وهم الذين ياخذون الزكاة من قبل السلطان. والسوائم: الإبل ترسل للرعي. والفلول جمع فل: بقية الشئ الكثير، ومنه فلول المعارك وهم موضع الحرب. (*).
[ 127 ]
وقال عنترة: وقرن قد تركت لدى مكر * عليه الطير كالعصب العزينا وقيل: إن المحذوف من عزة هاء. والأصل عزهة، وهو من العزهاة، وهو المنقبض عن النساء، وعن اللهو معهن. قال الأحوص: إذا كنت عزهاة عن اللهو، والصبى، * فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا (1) وعن أبي هريرة قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وهم حلق حلق متفرقون، فقال: (مالي أراكم عزين) والأجداث: القبور، واحدها جدث، وجدف بمعناه. والإيفاض: الإسراع. والنصب. الصنم الذي كانوا يعبدونه قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * لعاقبة، والله ربك فاعبدا (2) الاعراب: (فما للذين كفروا): ما رفع بالإبتداء واللام خبره، وفيه ضميره. و (قبلك): في موضع الحال من (كفروا) أو من المجرور على تقدير: فما لهم ثابتين قبلك. و (مهطعين): حال من الضمير في (قبلك). ويجوز في (قبلك) أن يكون ظرفا للام، وأن يكون ظرفا لمهطعين. ويجوز أن يكون (مهطعين) حالا بعد حال. و (عن اليمين) يتعلق به. و (عزين): حال بعد حال. ويجوز أن يتعلق (عن اليمين) بعزين. ومعناه: مجتمعين عن اليمين، وعن الشمال. (كأنهم إلى نصب يوفضون). جملة منصوبة الموضع على الحال من قوله إسراعا). (خاشعة أبصارهم): حال من الضمير في (يوفضون). المعنى: ثم قال سبحانه على وجه الإنكار على الكفار: (فما للذين كفروا) يعني: أي شئ للذين كفروا بتوحيد الله أي: ما بالهم، وما حملهم على ما فعلوا (قبلك) أي عندك يا محمد (مهطعين) مسرعين إليك، عن أبي عبيدة. وقيل. (1) الجلمد: بمنى الصخر أيضا. (2) البيت من قصيدة قالها في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقدم بها عليه، وهو في المدينة) عام صلح الحديبية، لبنشدها بين يديه، فعلم بذلك أبو سفيان، وأبو جهل، وجمع من كفار قريش، فأتوه وصدوه عما أراده بعد كلام طويل. فانصرف وأتى اليمامة ومات بعد زمان يسير. وقيل: ألقاه بعيره فقتله قبل وصوله إلى اليمامة. وتمام القصيدة مذكورة في شرح شواهد الكشاف صفحة (49) فراجع. (*).
[ 128 ]
متطلعين، عن الحسن. وقيل: مقبلين عنك بوجوههم لا يلتفتون عنك أي: ناظرين إليك بالعداوة. والمراد بالذين كفروا هنا: المنافقون. (عن اليمين وعن الشمال) أي عن يمينك، وعن شمالك (عزين) أي جماعات متفرقين، عصبة عصبة، وجماعة جماعة (أيطمع كل امرئ منهم) أي من هؤلاء المنافقين ب (أن يدخل جنة نعيم) كما يدخل أولئك الموصوفون قبل هذا. وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقولون: إن كان الأمر على ما قال محمد، فإن لنا في الاخرة عند الله أفضل مما للمؤمنين كما أعطانا في الدنيا أفضل مما أعطاهم. (كلا) أي لا يكون، ولا يدخلونها (إنا خلقناهم مما يعلمون) أي من النطفة، عن الحسن. أي من كان أصله من هذا الماء المهين فكيف استوجب الجنة باصله وبنفسه، إنما يستوجبها بالأعمال الصالحة. نبه سبحانه بهذا على أن الناس كلهم من أصل واحد، وإنما يتفاضلون بالإيمان والطاعة. وتحقيقه: إنما خلقناهم من المقاذر والأنجاس: فمتى يدخلون الجنة، ولم يؤمنوا بي، ولم يصدقوا رسولي. وقيل: معناه خلقناهم من الجنس الذين يعلمون، أو من الخلق الذين يعلمون ويفقهون، ويلزمهم الحجة، ولم نخلقهم من الجنس الذي لا يفقه كالبهائم والطير وقيل: معناه خلقناهم من أجل ما يعلمون من الثواب والعقاب، والتكليف للطاعات، تعريضا للثواب، كما يقول القائل: غضبت عليك مما تعلم أي من أجل ما تعلم قال الأعشى: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى أن تزارا (1) أي من أجل آل ليلى. ودل قوله (وشطت على ذي هوى) أنه لم يزمع من عندهم، وإنما أزمع من أجلهم للمصير إليهم (فلا أقسم) هو مفسر في سورة الحاقة (برب المشارق والمغارب) يعني مشارق الشمس ومغاربها، فإن لها ثلاثمائة وستين مطلعا، لكل يوم مطلع لا تعود إليه إلى قابل، عن ابن عباس (2) (إنا لقادرون على (1) هذا البيت مطلع قصيدة قالها في مدح قيس بن معد يكرب. وأزمعت أي: عزمت وقصدت. و (ابتكارا) هو في الأصل الخروج في وقت البكرة وأراد به الإرتحال. (وشطت)، أي بعدت. (2) قال بعض الأساتذة دام ظله: إن في هذه الاية وما يضاهيها من الايات الكريمة مثل قوله تعالى: (كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) الأعراف (137) إشارة إلى كروية الأرض، فإن طلوع الشمس على جزء من أجزاء الكرة الأرضية، يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون = (*).
[ 129 ]
(أن نبدل خيرا منهم) هذا جواب القسم يعني: إنا نقدر على أن نهلكهم، ونأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم (وما نحن بمسبوقين) هذا عطف على جواب القسم أي: وإن هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع لحاق العذاب بهم، فإنهم لم يكونوا سابقين، ولا العقاب مسبوقا منهم. والتقدير: وما نحن بمسبوقين يفوت عقابنا إياهم، فإنهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا. وقيل: معناه وما نحن بمغلوبين، عن أبي مسلم (فذرهم يخوضوا) في باطلهم (ويلعبوا) فإن وبال ذلك عائد عليهم (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) يعني يوم القيامة (يوم يخرجون من الأجداث) أي القبور (سراعا) مسرعين لشدة السوق (كأنهم إلى نصب يوفضون) أي كأنهم يسعون ويصرعون إلى علم نصب لهم، عن الجبائي، وأبي مسلم. وقيل: كأنهم إلى أوثانهم يسعون للتقرب إليها، عن ابن عباس، وقتادة. (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة خاضعة لا يستطيعون النظر من هول ذلك اليوم (ترهقهم ذلة) أي تغشاهم مذلة (ذلك اليوم الذي) وصفه اليوم الذي (كانوا يوعدون) به دار التكليف، فلا يصدقون به، ويجحدونه، قد شاهدوه في تلك الحال. = تعدد المشارق والمغارب واضحا، لا تكلف فيه، ولا تعسف. وأما الحمل على تعدد مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيام السنة فإنه تكلف لا ينبغي أن يصار إليه، لان الشمس لم يكن لها مطالع معينة، ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي. فلا بد من أن يراد بها المشارق والمغارب التي تتجدد شيئا فشيئا باعتبار كروية الأرض، وحركتها. (*).
[ 130 ]
71 - سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون عدد آيها: ثمان وعشرون آية كوفي. تسع بصري شامي ثلاثون في الباقين. اختلافها: أربع آيات سواعا فادخلوا نارا كلاهما غير الكوفي، ونسرا كوفي والمدني الأخير أضلوا كثيرا مكي والمدني الأول. فضلها: أبي بن كعب عن النيي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح). أبو عبد الله عليه السلام قال: من كان يؤمن بالله واليوم الأخر، ويقرأ كتابه، فلا يدع أن يقرأ سورة (إنا أرسلنا نوحا) فأي عبد قرأها محتسبا صابرا، في فريضة، أو نافلة، أسكنه الله مساكن الأبرار، وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله، وزوجه مائتي حوراء، وأربعة آلاف ثيب، إن شاء الله تعالى تفسيرها: لما ختم سبحانه تلك السورة بوعيد أهل التكذيب، افتتح هذه السورة بذكر قصة نوح وقومه، وما نالهم بالتكذيب، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أرسلنا نوحا الى قومه أن أنذز قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم (1) قال يا قوم إنى لكم نذير (2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (4) قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا (6) وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثم إني دعوتهم جهارا (8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت
[ 131 ]
لهم إسرارا (9) فقلت أستغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (12) مالكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14) اللغة: الإستغشاء: طلب التغشي. والإصرار: الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه. والمدرار: الكثير الدرور بالغيث والمطر. والإمداد: إلحاق الثاني بالأول على النظام حالا بعد حال، يقال: أمده بكذا، ومد النهر نهر آخر. والأموال: جمع المال. وهو عند العرب النعم. وأصل الوقار. الثبوت وما به يكون الشئ عظيما من الحلم الذي يمتنع معه الخرق. والرجاء بمعنى الخوف قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النخل لم يرج لسعها، * وخالفها في بيت نوب عواسل (1) الاعراب: (أن أنذر قومك). في موضع نصب بأرسلنا، لأن الأصل بأن أنذر قومك، فلما سقطت الباء أفضى الفعل. وقيل: إن موضعه جر، وإن سقطت الباء، وقد تقدم بيانه. ويجوز أن يكون (أن) هذه المفسرة بمعنى أي. و (جهارا). مصدر وضع موضع الحال أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعاء إلى التوحيد. وقوله (مدرارا): نصب على الحال. (لا ترجون لله وقارا): جملة في موضع الحال أيضا، والعامل في الحال ما في (مالكم) من معنى الفعل. (وقارا): منصوب بأنه مفعول (ترجون). المعنى: أخبر سبحانه عن نفسه فقال: (إنا أرسلنا) أي بعثنا (نوحا) رسولا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) معناه. أرسلنا لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا. قال الحسن: أمره أن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال: (قال يا قوم) أضافهم إلى نفسه، فكأنه قال: أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم (إني لكم نذير مبين) أي مخوف مبين وجوه الأدلة في الوعيد، وبيان الدين والتوحيد (أن اعبدوا الله (واتقوه) أي اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتقوا معاصيه. (وأطيعون) فيما آمركم به، لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله، وطاعة الله واجبة عليكم، لمكان نعمه (1): مرالبيت في ج 2. وج 3. (*).
[ 132 ]
السابقة التي لا توازيها نعمة منعم (يغفر لكم من ذنوبكم) أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم. ومن مزيدة. وقيل: إن (من) ههنا للتبعيض، والمعنى: يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليكم. ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح، قيد سبحانه هذا التقييد. (ويؤخركم إلى أجل مسمى) وفي هذا دلالة على ثبوت أجلين كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله والتقوى. فلما لم يقع ذلك منهم، اقتطعوا بعذاب الإستيصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى. ثم قال. (إن أجل الله) يعني الأقصى (إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) صحة ذلك، وتؤمنون به. قال الحسن: يعني بأجل الله يوم القيامة، جعله أجلا للبعث. ويجوز أن يكون هذا حكاية عن قول نوح عليه السلام لقومه أن يكون إخبارا منه سبحانه عن نفسه. (قال) نوح (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) إلى عبادتك، وخلع الأنداد من دونك، وإلى الإقرار بنبوتي فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فرارا من قبوله، ونفارا منه، وإدبارا عنه. وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر، لأنهم كانوا على كفر وضلال، فلما دعاهم نوح عليه السلام إلى الإقلاع عن ذلك، والإقرار به، ولم يقبلوه فكفروا بذلك، كان ذلك زيادة في الكفر، لأن الزيادة هي إضافة الشئ إلى مقدار قد كان حاصلا. ولو حصلا جميعا في وقت واحد لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر. (وإني كلما دعوتهم) إلى إخلاص عبادتك (لتغفر لهم) سيئاتهم (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا كلامي ودعائي. (واستغشوا ثيابهم) أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني (وأصروا) أي داموا على كفرهم (واستكبروا استكبارا) أي تكبروا وأنفوا عن قبول الحق. والإصرار: الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه. فلما كانوا عازمين على الكفر، كانوا مصرين. وقيل. إن الرجل منهم كان يذهب بإبنه إلى نوح، فيقول له. إحذر هذا لا يغوينك، فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك، فحذرني مثل ما حذرتك، عن قتادة (ثم إني دعوتهم جهارا) أي بأعلى صوتي، عن ابن عباس. وقيل: مجاهرة يرى بعضهم بعضا أي ظاهرا غير خفي. (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) أي دعوتهم في العلانية وفي السر. وقيل: معناه إني أعلنت جماعة بالدعوة، وأسررت جماعة ثم أعلنت للذين
[ 133 ]
أسررت، وأسررت للذين أعلنت لهم، ومعناه. إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب، وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف، فلم يجيبوا (فقلت استغفروا ربكم) أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم (إنه كان غفارا) لكل من طلب منه المغفرة، فمتى رجعتم عن كفركم، وأطعتموه (يرسل السماء عليكم مدرارا) أي كثيرة الدرور بالغيث. وقيل: إنهم كانوا قد قحطوا وأسنتوا (1)، وهلكت أموالهم وأولادهم، فلذلك رغبهم في رد ذلك بالإستغفار مع الإيمان، والرجوع إلى الله. قال الشعبي: قحط المطر على عهد عمربن الخطاب، فصعد المنبر ليستسقي، فلم يذكر إلا الإستغفار حتى نزل. فلما نزل قيل له: ما سمعناك استسقيت قال ؟ لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء (2) التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية. (ويمددكم بأموال وبنين) أي يكثر أموالكم وأولادكم الذكور، عن عطا (ويجعل لكم جنات) أي بساتين في الدنيا (ويجعل لكم أنهارا) تسقون بها جناتكم. قال قتادة. علم نبي الله نوح أنهم كانوا أهل حرص على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا والأخرة. وروى الربيع بن صبيح. أن رجلا أتى الحسن، فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: استغفر الله. وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وأتاه آخر فقال. ادع الله أن يرزقني إبنا فقال له: استغفر الله. فقلنا: أتاك رجال يشكون أبوابا، ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالإستغفار ؟ فقال: ما قلت ذلك من ذات نفسي، إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى حكاية عن نبيه نوح، إنه قال لقومه: (استغفروا ربكم) إلى آخره. وروى علي بن مهزيار، عن حماد بن عيسى، عن محمد بن يوسف، عن أبيه قال: سأل رجل أبا جعفر عليه السلام وأنا عنده، فقال له: جعلت فداك إني كثير المال، وليس يولد لي ولد، فهل من حيلة ؟ قال: نعم استغفر ربك سنة في آخر الليل مئة مرة، فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإن الله يقول (استغفروا ربكم) إلى آخره. ثم قال نوح (ع) لهم على وجه التبكيت: (ما لكم) معاشر الكفار (لا (1) أسنت القوم: أجدبوا وأصله من السنة بمعنى الجدب والقحط، فأبدلوا الواو في الفعل تاء ليفرقوا بينه وبين قولهم: أسنى القوم إذا أقاموا سنة في موضع. (2) المجاديح جمع المجدح: نجم من النجوم قيل هو الدبران، وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي: وهو عند العرب من الانواء الدالة على المطر، فجعل الإستغفار مشبها بالأنواء. (*).
[ 134 ]
ترجون لله وقارا) أي لا تخافون لله عظمة. فالوقار: العظمة اسم من التوقير، وهو التعظيم. والرجاء: الخوف هنا، والمعنى لا تعظمون الله حق عظمته فتوحدوه وتطيعوه، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة، عن قتادة أي لا تطمعون في عاقبة لعظمة الله تعالى. وقيل: معناه ما لكم لا تخافون لله عذابا، ولا ترجون منه ثوابا، في رواية أخرى، عن ابن عباس. وقيل. معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان، وتوحدون الله، عن الزجاج. وقيل. معناه ما لكم لا تعتقدون لله إثباتا، عن أبي مسلم. (وقد خلقكم أطوارا) أي خلقكم طورا نطفة، ثم طورا علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، نبت له الشعر، وكمل له الصورة، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل. أطوارا أحوالا، حالا بعد حال. وقيل: معناه صبيانا، ثم شبانا، ثم شيوخا. وقيل: خلقكم مختلفين في الصفات، أغنياء وفقراء، وزمناء وأصحاء، وطوالا وقصارا. والآية محتملة للجميع. (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20) قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب اغفر لي ولولدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظلمين إلا تبارا (28)
[ 135 ]
القراءة: قرأ أهل المدينة: (ودا) بالضم. والباقون بالفتح. وقرأ أبو عمرو: (مما خطاياهم). والباقون: (مما خطيئاتهم) بالتاء والمد والهمزة، وقد ذكرنا الإختلاف في ولده في سورة مريم عليها السلام. الحجة: قال أبو عبيدة: زعموا أن ودا كان صنم لهذا الحي من كلب، وحكاه بالفتح قال: وسمعت قول الشاعر: فحياك ود ما هداك لفتية، * وخوص بأعلى ذي طوالة هجد (1) وقال أبو الحسن: ضم أهل المدينة الواو، وعسى أن يكون لغة في اسم الصنم، وسمعت هذا البيت: حياك ودا، فإنا لا يحل لنا * لهو النساء، وان الدين قد عزما الواو مضمومة. وخطاياهم جمع التكسير. وخطيئات جمع التصحيح. وما زائدة كالتي في قوله: (فبما رحمة من الله) وقوله: (فبما نقضهم ميثاقهم) اللغة: الفجاج: الطرق المتسعة المتفرقة واحدها فج. وقيل: الفج المسلك بين جبلين. والسواع هنا: صنم، وفي غيره الساعة من الليل، ومثله السعواء. والكبار: الكبير جدا، يقال كبير، ثم كبار، ثم كبار، ومثله عجيب وعجاب وعجاب، وحسن وحسان وحسان. وروي أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ (ومكروا مكرا كبارا) فقال: ما أفصح ربك يا محمد ! وهذا من جفاء الأعراب لأن الله تعالى سبحانه لا يوصف بالفصاحة و (ديارا): فيعال من الدوران ونحوه القيام والأصل قيوام وديوار، فقلبت الواو ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى. قال الزجاج: يقال ما بالدار ديار أي: ما بها أحد يدور في الأرض، قال الشاعر: وما نبالي إذاما كنت جارتنا * أن لا يجاورنا إلآك ديار فجعل المتصل موضمع المنفصل ضرورة. (1) قائله الحطيئة وقبله: وفي كل مسمى ليلة، ومعرس، * خيال يوافي الركب من أم معبد والخوص: جمع الأخوص وهو الذي غارت عينه. وذي طوالة: موضع، وفي بعض النسخ: (ذي فضالة) والظاهر أنه تصحيف (ذي طوالة) وهجد: جمع الهجود: المصلي بالليل. (*).
[ 136 ]
الاعراب: (طباقا): منصوبا على أحد وجهين: أن يكون على تقدير خلقهن طباقا، وأن يكون نعتا لسبع أي: سبع سماوات ذات طباق. (نباتا): مصدر فعل محذوف تقديره أنبتكم فنبتم نباتا. وقال الزجاج. هو محمول على المعنى، لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتا. وما من قوله (مما خطيئاتهم) مزيدة لتأكيد ا لكلام. المعنى: ثم خاطب سبحانه المكلفين منبها لهم على توحيده، فقال: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) أي واحدة فوق الاخرى كالقباب (وجعل القمر فيهن نورا) قيل فيه وجوه أحدها: إن المعنى وجعل القمر نورا في السماوات والأرض، عن ابن عباس قال: يضئ ظهره لما يليه من السماوات، ويضئ وجهه لأهل الأرض، وكذلك الشمس، وثانيها: إن معنى فيهن معهن. يعني: وجعل القمر معهن أي مع خلق السماوات نورا، لأهل الأرض وثالثها: إن معنى فيهن في حيزهن، وإن كان في واحدة منها، كما تقول إن في هذه الدور لبئرا، وإن كانت في واحدة منها، لأن ما كان في إحداهن كان فيهن، وكما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم. (وجعل الشمس سراجا) أي مصباحا يضئ لأهل الأرض لما كانت الشمس، جعل فيها النور للإستضاءة به كانت سراجا، فهي سراج العالم كما أن المصباح سراج الإنسان (والله أنبتكم من الأرض نباتا) يعني مبتدأ خلق آدم، وآدم خلق من الأرض والناس ولده وهذا كقوله: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) وقيل: معناه أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض، ونما فيها. وقيل: معناه أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر. (ثم يعيدكم فيها) أي في الأرض أمواتا (ويخرجكم) منها عند البعث أحياء (إخراجا) وإنما ذكر المصدر تأكيدا (والله جعل لكم الأرض بساطا) أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها، والإستقرار فيها. ثم بين أنه إنما جعلها كذلك (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) أي طرقا واسعة. وقيل: طرقا مختلفة، عن ابن عباس. وقيل: سبلا في الصحارى، وفجاجا في الجبال. وإنما عدد سبحانه هذه الضروب من النعم، امتنانا على خلقه، وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة، خالصة من كل شرك، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم، ومدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود.
[ 137 ]
ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح عليه السلام بقوله: (قال نوح) على سبيل الدعاء (رب إنهم عصوني) " فيما أمرتهم به، ونهيتهم عنه يعني قومه (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) أي واتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال والولد، فقالوا: لو كان هذا رسولا لله، لكان له ثروة وغنى. وقرئ ولده وولده بالضم والفتح. فالولد: الجماعة من الأولاد. والولد. الواحد. وقيل: هما سواء. والخسار: الهلاك بذهاب رأس المال. وقيل: إن معناه اتبع الفقراء والسفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والأولاد إلا هلاكا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة (ومكروا) في دين الله (مكرا كبارا) أي كبيرا عظيما، عن الحسن. وقيل. معناه قالوا قولا عظيما، عن ابن عباس. وقيل. اجترأوا على الله، وكذبوا رسله، عن الضحاك. وقيل: مكرهم تحريشهم (1) سفلتهم على قتل نوح عليه السلام. (وقالوا لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم. ثم خصوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا: (ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، ثم عبدتها العرب فيما بعد، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل: إن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح عليه السلام، فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، كان أنشط لكم، وأشوق إلى العبادة. ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا قبلكم، كانوا يعبدونهم، فعبدوهم. فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت، عن محمد بن كعب. وقيل: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، ويحول بينه وبين الكفار، لئلا يطوفوا بقبره، فقال لهم إبليس: إن هؤلاء يفخرون عليكم، ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله، تطيفون به. فنحت خمسة أصنام، وحملهم على عبادتها، وهي: ود، وسواع، ويعوق، ويغوث، ونسر. فلما كان أيام الغرق، دفن الطوفان تلك الأصنام، وطمها التراب (2). فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فاتخذت قضاعة ودا فعبدوها بدومة (1): حرش بين القوم: أغرى بعضهم ببعض. (2) طم الشئ: دفنه. (*).
[ 138 ]
الجندل، ثم توارثها بنوه الأكابر فالأكابر حتى صارت إلى كلب، فجاء الإسلام وهو عندهم، وأخذ بطنان من طي يغوث، فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففروا به إلى بني الحرث بن كعب. وأما يعوق فكان لكهلان، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه. وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه، عن ابن عباس. وقيل: إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب فكانت ود بدومة الجندل، وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لبني غطيف من مراد، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وكان اللات لثقيف. وأما العزى فلسليم وغطفان وجشم ونضر وسعد بن بكر. وأما مناة فكانت لقديد. وأما إساف، ونائلة، وهبل فلأهل مكة. وكان إساف حيال الحجر الأسود. وكانت نائلة حيال الركن اليماني. وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا، عن عطا وقتادة والثمالي. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير. (وقد أضلوا كثيرا) أي ضل بعبادتها وبسببها كثير من الناس نظيره (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس). وقيل: معناه وقد أضل كبراؤهم كثيرا من الناس، عن مقاتل، وأبي مسلم. وعلى هذا فإن الضمير في أضلوا يعود إلى أكابر قوم نوح. (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) أي هلاكا كما في قوله (إن المجرمين في ضلال وسعر) وقيل: إلا فتنة بالمال والولد. وقيل: إلا ذهابا عن الجنة والثواب. قال البلخي: لا تزدهم إلا منعا من الطاعات، عقوبة لهم على كفرهم، فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها، ويمتثلون. ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق والإيمان، لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم تعالى الله عن ذلك. (مما خطيئاتهم أغرقوا) أي من خطيئاتهم. وما مزيدة والتقدير من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكبائر (اغرقوا) على وجه العقوبة (فأدخلوا نارا) بعد ذلك ليعاقبوا فيها (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي: لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله. وإنما أتى سبحانه بألفاظ المضي على معنى الإستقبال لصدق الوعد به. وقال الضحاك: أغرقوا فأدخلوا نارا في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون من
[ 139 ]
جانب، ويحترقون في النار من جانب. وأنشد ابن الأنباري: الخلق مجتمع طورا، ومفترق، * والحادثات فنون ذات أطوار لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت، * فالله يجمع بين الماء، والنار (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) أي نازل دار. يعني: لا تدع منهم أحدا إلا أهلكته. قال قتادة: ما دعا بهذا عليهم إلا بعد أن أنزل عليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلذلك قال: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك) أي إن تتركهم ولم تهلكهم، يضلوا عبادك عن الدين بالإغواء والدعاء إلى خلافه (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) وإلا فلم يعلم نوح الغيب، وإنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه. والمعنى: ولا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا، لأنه لا يذم على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر، وقال مقاتل والربيع وعطاء: إنما قال ذلك نوح عليه السلام لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا، وأعقم أرحام نسائهم، وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة. وأخبر الله تعالى نوحا بأنهم لا يؤمنون، ولا يلدون مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم، فأجاب الله دعاءه، فأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. ثم دعا لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات فقال: (رب اغفر لي ولوالدي) واسم أبيه لمك بن متو شلخ، واسم أمه سمحاء بنت أنوش وكانا مؤمنين. وقيل: يريد آدم وحواء (ولمن دخل بيتي مؤمنا) أي دخل داري. وقيل: مسجدي، عن الضحاك. وقيل: سفينتي. وقيل: يريد بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (وللمؤمنين والمؤمنات) عامة. وقيل: من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلبي. (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) أي هلاكا ودمارا. قال أهل التحقيق: دعا نوح (ع) دعوتين. دعوة على الكافرين، ودعوة للمؤمنين، فاستجاب الله دعوته على الكافرين، فأهلك من كان منهم على وجه الأرض، ونرجو أن يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين، فيغفر لهم.
[ 140 ]
72 - سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون وهي ثمان وعشرون آية. فضلها: أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (ومن قرأ سورة الجن أعطى بعدد كل جني وشيطان صدق بمحمد، وكذب به عتق رقبة). حنان بن سدير، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من أكثر قراءة (قل أوحي) لم يصبه في حياة الدنيا شئ من أعين الجن، ولا من نفثهم، ولا من سحرهم، ولا من كيدهم وكان مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: يا رب لا أريد بهم بدلا ؟، ولا أريد بدرجتي حولا. تفسيرها: لما تقدم في سورة نوح عليه السلام اتباع قومه أكابرهم، افتتح سبحانه في هذه السورة اتباع الجن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ليعلم الفرق بين من ربحت صفقته، وبين من خسرت بيعته، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم
[ 141 ]
رشدا (10). القراءة: قرأ أبو جعفر: (قل أوحي إلي أنه استمع) بفتح الألف، ولم يختلفوا فيه ثم قرأ في الآية الثالثة. (وأنه تعالى) بالفتح، وفي الرابعة (وأنه كان يقول) بالفتح، وفي السادسة. (وأنه كان رجال) بالفتح، ويقرأ ما سواها بالكسر إلا قوله (وأن لو استقاموا) (وأن المساجد لله) (وأنه لما قام) فإنه يقرأ هذه الثلاثة بالفتح. وقال الرواة عنه: ما كان مردودا على الوحي، فهو أنه بالفتح، وما كان من قول الجن فهو بالكسر، وهذا قول غير مستقيم على قراءته، ويمكن أن يكون قد وقع خلل في روايته. وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، غير أبي بكر بالفتح من قوله: (أنه تعالى) إلى قوله. (وأنا منا المسلمون). وقرأ الباقون كله بالكسر إلا قوله (وأن لو استقاموا) (وأن المساجد) فإنهما بالفتح، لم يختلفوا فيه. وقرأ نافع، وعاصم، برواية أبي بكر: (وأنه لما قام) بالكسر. والباقون بالفتح. وقرأ يعقوب. (أن لن تقول) بتشديد الواو وفتحها وفتح القاف، وروي ذلك عن الجحدري، والحسن. والباقون: (أن لن تقول) بالتخفيف. وفي الشواذ قراءة جوية بن عابد: (قل أحي إلي) على وزن فعل. الحجة: قال أبو علي: أما قوله: (أن لو استقاموا) فإنه يجوز فيه أمران أحدهما: أن تكون (أن) المخففة من الثقيلة، فيكون محمولا على الوحي، كأنه أوحي إلي أن لو استقاموا. وفصل لو بينها وبين الفعل، كفصل السين ولا في قوله: (أو لا يرون أن لا يرجع) (وعلم أن سيكون). والآخر: أن يكون (أن) قبل (لو) بمنزلة اللام في قوله: (لئن لم ينته المنافقون) إلى قوله (لنغرينك بهم)، وقوله: (لئن لم يغفر لنا ربنا ويرحمنا لنكونن من الخاسرين) فتلحق مرة، وتسقط أخرى. لأن لو بمنزلة فعل الشرط، فكما لحقت اللام زائدة قبل (أن) الداخلة على الشرط، كذلك لحقت (أن) هذه قبل (لو). ومعنى (أن لو استقاموا على الطريقة) قد قيل فيه قولان أحدهما: لو استقاموا على طريقة الهدى والأخر: لو استقاموا على طريقة الكفر ويستدل على القول الأول بقوله تعالى: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم) وقوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). ويستدل على الآخر بقوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم
[ 142 ]
سقفامن فضة). واما قوله (وأن المساجد لله)، فزعم سيبويه أن المفسرين حملوه على أوحي كأنه أوحي إلي أن المساجد لله. ومذهب الخليل أنه على قوله ولأن المساجد لله، فلا تدعوا... كما أن قوله (وأن هذه أمتكم) على قوله (ولأن هذه أمتكم أمة واحدة) (وأنا ربكم فاعبدون) أي: لهذا فاعبدون. ومثله في قول الخليل: (لإيلاف قريش) كأنه قال: لهذا فليعبدوا. قال سيبويه ولو قرأ (وإن المساجد) بالكسر لكان جيدا. فأما قوله: (وأنه لما قام عبد الله) فإنه على (أوحي إلي) ويكون أن يقطع من قوله (أوحي)، ويستأنف به، كما جوز سيبويه القطع من أوحي في قوله (وإن المساجد لله). وعلى هذا يحمل قراءة من كسر (إن) من قوله (وأنه لما قام عبد الله). ومن قرأ كل ذلك بالفتح فإنه للحمل على أوحي، ويجوز أن يكون على غيره، كما حمل المفسرون (وأن المساجد لله) على الوحي، وحمله الخليل على ما ذكرناه عنه. فأما ما جاء من ذلك بعد قول فحكاية كما حكى قوله قال الله: (إني منزلها عليكم) وكذلك ما بعد فاء الجزاء، لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، ولذلك حمل سيبويه: (ومن عاد فينتقم الله منه). (ومن كفر فأمتعه). (فمن يؤمن بربه فلا يخاف) على أن الإبتداء فيها مضمر، ومثل ذلك في هذه السورة: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم). ومن قرأ (لن تقول). فيكون قوله (كذبا) منصوبا على المصدر من غير حذف موصوف، وذلك أن لن تقول في معنى تكذب، فجرى مجرى تبسمت وميض البرق (1)، فإنه منصوب بفعل مضمر دل عليه تبسمت أي: أومضت، فكأنه قال: إن لن تكذب الإنس والجن على الله كذبا. قال ابن جني: ومن رأي أن ينتصب وميض البرق بنفس تبسمت، لأنه في معنى أومضت نصب أيضا كذبا بنفس تقول لأنه بمعنى كذب. ومن قرأ (أن لن تقول) على وزن تقوم، فإن كذبا وصف مصدر محذوف، أي قولا كذبا. فكذبا ههنا وصف لا مصدر كما في قوله: (وجاءوا على قميصه بدم كذب) أي كاذب. فإن جعلته ههنا مصدرا نصبته نصب المفعول به أي: لن تقول كذبا، كقولك: قلت حقا، وقلت شعرا. ولا يحسن أن تجعله مع تقول وصفا أي: (1) وميض البرق: لمعانه. (*).
[ 143 ]
تقول تقولا كذبا، لأن التقول لا يكون إلا كذبا، فلا فائدة فيه. ومن قرأ (أحي) فهو من وحيت إليه بمعنى أوحيت، وأصله وحي فلما انضمت الواو ضما لازما همزت، ونحوه: (وإذا الرسل أقتت) أي وقتت. قال العجاج: (وحي لها القرار فا ستقرت) (1). اللغة: الجد: أصله القطع، ومنه الجد العظمة، لانقطاع كل عظمة عنها لعلوها عليه. ومنه الجد أبو الأب، لانقطاعه بعلو أبوته، وكل من فوقه لهذا الولد أجداد. والجد: الحظ لانقطاعه بعلو شأنه. والجد: خلاف الهزل، لانقطاعه عن السخف، ومنه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع في غالب الأمر. والرهق: لحاق الإثم، وأصله اللحوق، ومنه راهق الغلام: إذا لحق حال الرجال، قال الأعشى: لا شئ ينفعني من دون رؤيتها، * هل يشفي وامق ما لم يصب رهقا (2) أي لم يغش إثما. الاعراب: (حرسا): منصوب على التمييز، وهو جمع حارس. ويجوز أن يكون جمع حرسي، فيكون مثل عربي وعرب. و (شديدا): مذكر محمول على اللفظ، ويمكن أن يكون على النسبة أي: ذات شدة. و (مقاعد) نصب لأنه ظرف مكان. (أشر أريد): مبتدأ وخبر، وإنما جاز أن تكون النكرة مبتدأ من غير تخصيص لأجل همزة الإستفهام، كما يجوز ذلك بعد حرف النفي، لأن كليهما يفيد معنى العموم. المعنى: أمر سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر قومه بما لم يكن لهم به علم، (1) وبعده (وشدها بالراسيات الثبت) وقد مر البيت في الكتاب مرارا. ويروى: (أوحى) وقبل هذا البيت قوله: (الحمد لله الذي استقلت * بإذنه السماء واطمأنت بإذنه الأرض وما تمنت * وحي لها... ا 0 (2) ومقه: أحبه. وقال في اللسان: الرهق. غشيان المحارم من شرب الخمر ونحوه. وقال ابن بري: وكذا فسر الرهق في شعر الأعشى بأنه غشيان المحارم، وما لا خير فيه في قوله: (لا شئ ينفعني.....). (انتهى)، وحكى عن شرح الديوان أن الرهق: الدنو من المحبوب، والقرب منه، والتمتع بما ينوله: وفسره الطبري في تفسيره بقوله: يقول ما لم يغش محرما. (*).
[ 144 ]
فقال: (قل) يا محمد (أوحي إلي) إنما ذكره على لفظ ما لم يسم فاعله، تفخيما وتعظيما، والله سبحانه أوحى إليه، وأنزل الملك عليه (أنه استمع نفر من الجن) أي استمع القرآن طائفة من الجن، وهم جيل رقاق الأجسام خفيفة على صورة مخصوصة، بخلاف صورة الإنسان والملائكة، فإن الملك مخلوق من النور، والإنس من الطين، والجن من النار. (فقالوا) أي قالت الجن بعضها لبعض (إنا سمعنا قرآنا عجبا) والعجب ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه المخصوص عن العادة في الكلام، وخفي سببه عن الأنام، كان عجبا لا محالة. وأيضا فإنه مباين لكلام الخلق في المعنى، والفصاحة، والنظام، لا يقدر أحد على الإتيان بمثله، وقد تضمن ؟ أخبار الأولين والآخرين، وما كان وما يكون، أجراه الله على يد رجل أمي من قوم أميين، فاستعظموه وسموه عجبا. (يهدي إلى الرشد) أي يدل على الهدى، ويدعو إليه، والرشد ضد الضلال (فآمنا به) أي صدقنا بأنه من عند الله (ولن نشرك) فيما بعد (بربنا أحدا) فنوجه العبادة إليه، بل نخلص العبادة لله تعالى. والمعنى: إنا قد بدأنا بأنفسنا، فقبلنا الرشد والحق، وتركنا الشرك، واعتقدنا التوحيد. وفي هذا دلالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس، وعلى أن الجن عقلاء مخاطبون، وبلغات العرب عارفون، وعلى أنهم يميزون بين المعجز وغير المعجز، وأنهم دعوا قومهم إلى الإسلام، وأخبروهم بإعجاز القرآن، وأنه كلام الله تعالى لأن كلام العباد لا يتعجب منه وروى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على الجن، وما رآهم. إنطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم ؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شئ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم وقالوا: (إنا
[ 145 ]
سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). ورواه البخاري ومسلم أيضا في الصحيح. وعن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن ؟ فقال: ما كان منا معه أحد. فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله ! أين كنت لقد أشفقنا عليك ؟ وقلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك ! فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن، فذهب بنا فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم. فأما أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه. وعن أبي روق قال: هم تسعة نفر من الجن. قال أبو حمزة الثمالي: وبلغنا أنهم من بني الشيصبان، هم أكثر الجن عددا، وهم عامة جنود إبليس. وقيل: كانوا سبعة نفر من جن نصيبين، رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا به، وأرسلهم إلى سائر الجن. (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) الإختيار كسر إن، لأنه من قول الجن لقومهم وهو معطوف على قوله (قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا) أي وقالوا تعالى جد ربنا. وقال الفراء: من فتح فتقديره فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا. وكذلك كل ما كان بعده ففتح أن بوقوع الإيمان عليه. والمعنى: تعالى جلال ربنا وعظمته عن اتخاذ الصاحبة والولد، عن الحسن ومجاهد. وقيل: معناه تعالت صفات الله التي هي له خصوصا، وهي الصفات العالية التي ليست للمخلوقين، عن أبي مسلم. وقيل. معناه جل ربنا في صفاته، فلا تجوز عليه صفات الأجسام والأعراض، عن الجبائي. وقيل. تعالى قدرة ربنا، عن ابن عباس. وقيل: تعالى ذكره، عن مجاهد. وقيل: فعله وأمره، عن الضحاك. وقيل: علا ملك ربنا، عن الأخفش. وقيل: تعالى آلاؤه ونعمه على الخلق، عن القرظي. والجميع يرجع إلى معنى واحد، وهو العظمة والجلال على ما تقدم ذكرهما، ومنه قول أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد في أعيننا أي عظم. وقال الربيع بن أنس إنه قال: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن بجهالة، فحكاه سبحانه كما قالت، وروي ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام.
[ 146 ]
(وأنه كان يقول سفيهنا) أي جاهلنا (على الله شططا) أرادوا بسفيههم ابليس، عن مجاهد وقتادة. والشطط: السرف في ظلم النفس، والخروج عن الحق. فاعترفوا بأن إبليس كان يخرج عن الحد في إغواء الخلق، ودعائهم إلى الضلال. وقيل: شططا أي قولا بعيدا من الحق، وهو الكذب في التوحيد والعدل. (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) إعترفوا بأنهم ظنوا أن لن يقول أحد من الإنس والجن كذبا على الله في اتخاذ الشريك معه، والصاحبة والولد أي حسبنا أن ما يقولونه من ذلك صدق، وأنا على حق حتى سمعنا القرآن، وتبينا الحق به. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا مقلدة حتى سمعوا الحجة، وأنكشف لهم الحق، فرجعوا عما كانوا عليه وفيه إشارة إلى بطلان التقليد، ووجوب اتباع الدليل. (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) أي يعتصمون ويستجيرون. وكان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، عن الحسن، ومجاهد، وقتادة. وكان هذا منهم على حسب اعتقادهم أن الجن تحفظهم. قال مقاتل: وأول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا في العرب. وقيل: معناه وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أهل الجن، ومن معرة الجن (1)، عن البلخي قال: لأن الرجال لا تكون إلا في الناس. وقال الأولون: في الجن رجال مثل ما في الناس. (فزادوهم رهقا) أي فزاد الجن الإنس إثما على إثمهم الذي كانوا عليه من الكفر والمعاصي، عن ابن عباس، وقتادة. وقيل. رهقا أي طغيانا، عن مجاهد. وقيل: فرقا وخوفا، عن الربيع، وابن زيد. وقيل: شرا، عن الحسن. وقيل. زادوهم ذلة وضعفا. قال الزجاج. يجوز أن يكون الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن، رهقا، وذلك أن الجن كانوا يزدادون طغيانا في قومهم بهذا التعوذ، فيقولون: سدنا الإنس والجن. ويجوز أن يكون الجن زاد الإنس رهقا. (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) قيل معناه: قال مؤمنو الجن لكفارهم إن كفار الإنس الذين يعوذون برجال من الجن في الجاهلية، حسبوا كما حسبتم يا معشر الجن أن لن يبعث الله رسولا بعد موسى، أو عيسى، ووراء هذا أن (1) المعرة: الأذى. والميم زائدة. (*).
[ 147 ]
الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآن، آمنوا واهتدوا به، فانتم معاشر العرب أولى بالتفكر والتدبر لتؤمنوا وتهتدوا مع أن الرسول من جنسكم، ولسانه لسانكم. وقيل: إن هذه الآية مع ما قبلها اعتراض من أخبار الله تعالى. يقول: إن الجن ظنوا كما ظننتم معاشر الإنس أن الله لا يحشر أحدا يوم القيامة، ولا يحاسبه، عن الحسن. وقيل: يعني لن يبعث الله أحدا رسولا، عن قتادة. ثم حكى عن الجن قولهم (وأنا لمسنا السماء) أي مسسناها. وقيل: معناه طلبنا الصعود إلى السماء، فعبر عن ذلك باللمس مجازا، عن الجبائي. وقيل إلتمسنا قرب السماء لاستراق السمع، عن أبي مسلم. (فوجدناها ملئت حرسا شديدا) أي حفظة من الملائكة شدادا (وشهبا) والتقدير ملئت السماء من الحرس والشهب، وهو جمع شهاب، وهو نور يمتد من السماء كالنار (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) أي لاستراق السمع أي: كان يتهيأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الإستماع، فنسمع منها صوت الملائكة وكلامهم (فمن يستمع) منا (الأن) ذلك (يجد له شهابا رصدا) يرمى به، ويرصد له. وشهابا مفعول به و (رصدا). صفته. قال معمر: قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال: نعم. قلت أفرأيت قوله. (إنا كنا نقعد منها) الآية قال: غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال البلخي: الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان، غير أنه لم يكن يمنع بها الجن عن صعود السماء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع بها الجن من الصعود. (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض) أي بحدوث الرجم بالشهب وحراسة السماء، جوزوا هجوم انقطاع التكليف، أو تغيير الأمر بتصديق نبي من الأنبياء، وذلك قوله (أم أراد بهم ربهم رشدا) أي صلاحا. وقيل: معناه إن هذا المنع لا يدرى العذاب سينزل بأهل الأرض، أم لنبي يبعث، ويهدي إلى الرشد. فإن مثل هذا لا يكون إلا لأحد هذين الأمرين. وسمى العذاب شرا، لأنه مضرة. وسمى بعثة الرسول رشدا، لأنه منفعة. (وأنا منا الصلحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولارهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون
[ 148 ]
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15) وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا (16) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (17) وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا (19) قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا (20)). القراءة: قرأ أهل العراق، غير أبي عمرو: (يسلكه) بالياء. والباقون بالنون. وقرأ ابن عامر برواية هشام: (لبدا) بضم اللام. والباقون بكسرها. وقرأ أبو جعفر، وعاصم، وحمزة: (قل إنما أدعو) والباقون (قال) وفي الشواذ قراءة الأعمش، ويحى بن وثاب (لو استقاموا) بضم الواو. وقراءة الحسن والجحدري: (لبدا) بالتشديد. وفي رواية أخرى عن الجحدري. (لبدا) بضمتين. الحجة: من قرأ (يسلكه) بالياء، فلتقدم ذكر الغيبة في قوله: (ومن يعرض عن ذكر ربه). ومن قرأ بالنون، فهو مثل قوله (وآتينا موسى الكتاب) بعد قوله سبحانه: (الذي أسرى). ومن قرأ (قال إنما أدعو) فلتقدم ذكر الغيبة أيضا في قوله: (وانه لما قام عبد الله). ومن قرأ (قل) فلأن بعده: (قل إني لا أملك) (قل إني لن يجيرني من الله أحد). ومن قرأ (لبدا) فإن اللبد الكثير من قوله (مالا لبدا) وكأنه قيل له لبد، لركوب بعضه على بعض، ولصوق بعضه لكثرته. واللبد: جمع لبدة وهي الجماعة. وقد يقال ذلك للجراد الكثير. قال بعض الهذليين: صابوا بستة أبيات، وواحدة، * حتى كان عليهم جابيا لبدا (1) قال الجبائي: هو الجراد، لأنه يجبي كل شئ بأكله. وقال الزجاج: اللبدة واللبدة بمعنى. ومن قرأ (لبدا) بالتشديد، فإنه وصف على فعل كالجبأ والزمل (2). ويجوز أن يكون جمع لابد فيكون مثل راكع وركع. واللبد: من الأوصاف التي جاءت (1) صابوا بهم أي: أوقعوا بهم. والجابي: الجراد، وجبا الجراد: هجم على البلد. وفي اللسان، وتفسير الطبري: (صابوا لستة أبيات وأربعة.... اه). (2) الجبأ: الجبان. والزمل: الضعيف الجبان الرذل. (*).
[ 149 ]
على فعل، كناقة سرح، ورجل طلق (1). ومن قرأ (لو استقاموا) فإنه على التشبيه بواو الجماعة، نحو قوله (اشتروا الضلالة) كما شبهت تلك بهذه فقيل: اشتروا الضلالة. وقد مضى هذا في سورة البقرة (2). اللغة: الصالح: عامل الصلاح الذي يصلح به حاله في دينه. وأما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الأمور، ولهذا يوصف سبحانه بأنه مصلح، ولا يوصف بأنه صالح. والطرائق: جمع طريقة، وهي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة. والقدد: القطع جمع قدة وهي المستمرة بالقد في جهة واحدة. والرهق: لحاق السرف في الأمر، وهو الظلم. والقاسط: الجائر. والمقسط: العادل. ونظيره الترب الفقير. والمترب: الغني، وأصله التراب. فالأول ذهب ماله حتى لصق بالتراب، والآخر كثر ماله حتى صار بعدد التراب. وكذلك القاسط: هو العادل عن الحق، والمقسط: العادل إلى الحق، قال: قوم هم قتلوا ابن هند عنوة * عمرا، وهم قسطوا على النعمان وقال آخر: قسطنا على الأملاك في عهد تبع، * ومن قبل ما أردى النفوس عقابها (3) والتحري: تعمد إصابة الحق، وأصله طلب الشئ والقصد له. قال امرؤ القيس: ديمة هطلاء فيها وطف، * طبق الأرض تحرى وتدر (4) وماء غدق: كثير. وغدق المكان يغدق غدقا: كثر فيه الماء والندى، وهو غدق، عن الزجاج. وقال أمية بن أبي الصلت: (1) ناقة سرح أي: سريعة النقلة والسير. وطلق: غير المقيد. (2) راجع ج 1. (3) أردى بمعنى أهلك. والضمير في (عقابها) يرجع إلى الأملاك. (4) الديمة: المطر الدائم في سكون. ومثله الهطلاء. وسحابة وطفاء: هي التي فيها استرخاء في جوانبها لكثرة الماء. و (مطر طبق الأرض) برفع طبق على الإضافة أي غطاه ومن رواه (طبق) بفتح القاف نصبه بقوله تحرى كما في (اللسان). (*).
[ 150 ]
مزاجها سلسبيل، ماؤها غدق، * عذب المذاقة، لا ملح، ولا كدر والصعد: الغليظ الصعب المتصعب في العظم، ومنه التنفس الصعداء. والصعود: العقبة الكؤود الشاقة. المعنى: ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن (وأنا منا الصالحون) وهم الذين عملوا الصالحات المخلصون (ومنا دون ذلك) أي دون الصالحين في الرتبة، عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد. (كنا طرائق قددا) أي فرقا شتى على مذاهب مختلفة، وأهواء متفرقة، من مسلم، وكافر، وصالح، ودون الصالح، عن ابن عباس، ومجاهد. وقيل: قددا ألوانا شتى مختلفين، عن سعيد بن جبير، والحسن. وقيل: فرقا متباينة كل فرقة تباين صاحبتها، كما يبين المقدود بعضه من بعض. قال السدي: الجن أمثالكم فيهم قد رية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة. (وانا ظننا) أي علمنا وتيقنا (أن لن نعجز الله في الأرض) أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا (ولن نعجزه هربا) أي أنه يدركنا حيث كنا (وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به) اعترفوا بانهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى، صدقوا به. ثم قالوا (فمن يؤمن بربه) أي يصدق بتوحيد ربه، وعرفه على صفاته (فلا يخاف) تقديره فإنه لا يخاف (بخسا) أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب (ولا رهقا) أي لحاق ظلم، وغشيان مكروه. وكأنه قال: لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا، وذلك أن أجره وثوابه موفر على أتم ما يمكن فيه. وقيل: معناه فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته، عن ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد، قالوا: لأن البخس النقصان، والرهق العدوان، وهذه حكاية عن قوة إيمان الجن، وصحة إسلامهم. ثم قالوا: (وأنا منا المسلمون) الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به، وانقادوا لذلك. (ومنا القاسطون) أي الجائرون عن طريق الحق (فمن أسلم) لما أمره الله به (فأولئك تحروا رشدا) أي توجهوا الرشد، والتمسوا الثواب والهدى، وتعمدوا إصابة الحق، وليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى، وزاغوا عن طريق الهدى (وأما القاسطون) العادلون عن طريق الحق والدين (فكانوا) في علم الله وحكمه (لجهنم حطبا) يلقون فيها، فتحرقهم كما تحرق النار الحطب، أو يكون معناه فسيكونون لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد النار بالحطب.
[ 151 ]
(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) هذا ابتداء حكم من الله سبحانه، أي لو استقام الإنس والجن على طريقة الإيمان، عن ابن عباس، والسدي. وقيل: أراد مشركي مكة أي لو آمنوا واستقاموا على الهدى، لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء، وذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين، عن مقاتل. وقيل: لو آمنوا واستقاموا لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلا، لأن الخير كله والرزق يكون في المطر، وهذا كقوله: (ولو أنهم أقاموا التوراة)، إلى قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)، وقوله: (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) وقيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر، فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا، ولوسعنا عليهم تغليظا للمحنة في التكليف، ولذلك قال: (لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم بذلك، عن الفراء، وهو قول الربيع والكلبي والثمالي وأبي مسلم وابن مجلز ودليله: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم) الآية. وقيل: لنفتنهم معناه لنعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الإنصراف عما تدعو شهواتهم إليه. وفي ذلك المحنة الشديدة وهي الفتنة. والمثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعو إليه الشهوات. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقيل: معناه لنختبرهم كيف يكون شكرهم للنعم، عن سعيد بن المسيب وقتادة ومقاتل والحسن. والأولى أن تكون الإستقامة على الطريقة محمولة على الإستقامة في الدين والإيمان، لأنها لا تطلق إلا على ذلك، ولأنها في موضع التلطف والإستدعاء إلى الإيمان، والحث على الطاعة. وفي تفسير أهل البيت عليهم السلام عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال: هو والله ما أنتم عليه، ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا. وعن بريد العجلي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة. ثم قال سبحانه على وجه التهديد والوعيد: (ومن يعرض عن ذكر ربه) أي ومن يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله، وتوحيده، والإخلاص في عبادته. وقيل: عن شكر الله وطاعته (يسلكه عذابا صعدا) أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم، وإنما قال (يسلكه) لأنه تقدم ذكر الطريقة. وقيل: معناه عذابا ذا صعد أي ذا مشقة (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) تقديره: ولأن
[ 152 ]
المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله، عن الخليل. والمعنى لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة والصلاة، أحدا على وجه الإشراك في عبادته، كما تفعل النصارى في بيعهم، والمشركون في الكعبة. قال الحسن: من السنة عند دخول المساجد أن يقال: لا إله إلا الله، لا أدعو مع الله أحدا. وقيل: المساجد مواضع السجود من الإنسان، وهي: الجبهة، والكفان، وأصابع الرجلين، وعينا الركبتين، وهي لله تعالى إذ خلقها، وأنعم بها، فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى، عن سعيد بن جبير، والزجاج، والفراء. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر بن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن قوله تعالى (وأن المساجد لله) فقال: هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها. وقيل: إن المراد بالمساجد البقاع كلها، وذلك لأن الأرض كلها جعلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجدا، عن الحسن. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف لنا أن نأتي المسجد، ونشهد معك الصلاة، ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت الآية. وروي عن الحسن أيضا أن المساجد الصلوات، وهي لله. والمراد أخلصوا لله العبادة وأقروا له بالتوحيد، ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا. (وأنه لما قام عبد الله) يريد به محمدا (يدعوه) بقول لا إله إلا الله، ويدعو إليه، ويقرأ القرآن (كادوا يكونون عليه لبدا) أي: كاد الجن يركب بعضهم بعضا، يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن، عن ابن عباس، والضحاك. وقيل: هو من قول الجن لأصحابهم حين رجعوا إليهم، والمراد إن أصحاب النبي يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه، يود كل واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه، فيتلبد بعضهم على بعض، عن سعيد بن جبير. وقيل: هو من جملة ما أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم بما كان من حرص الجن على استماع القرآن. وقيل: معناه أنه لما دعا قريشا إلى التوحيد، كادوا يتراكبون عليه بالزحمة، جماعات متكاثرات، ليزيلوه بذلك عن الدعوة، وأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناواه، عن قتادة والحسن. وعلى هذا فيكون ابتداء كلام (قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا) وذلك أنهم قالوا للنبي: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله، فارجع عنه. فأجابهم بهذا، عن مقاتل، وأمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا. فقال: (قل إنما أدعو ربي) وهذا يعضد قول الحسن وقتادة، لأنه كالذم لهم على ذلك.
[ 153 ]
(قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إني لن يجيرني من الله أحدا ولن أجد من دونه ملتحدا (22) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خلدين فيها أبدا (23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا (24) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا (25) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا (28)). القراءة: قرأ يعقوب: (ليعلم) بضم الياء. والباقون: (ليعلم) بفتح الياء. والمعنيان متقاربان. اللغة: الملتحد. الملتجأ بالميل إلى جهة. والرصد: جمع راصد، وهو ا لحافظ. الاعراب: (بلاغا): منصوب لأنه بدل من ملتحد أي: لن أجد ملجأ إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلني به فهو ملجأي. و (رسالاته): منصوبة بالعطف على محذوف، والتقدير. إلا بلاغا من الله وآياته ورسالاته. قوله (من أضعف ناصرا): جملة من مبتدأ وخبر هي تعليق. و (ناصرا): نصب على التمييز، وكذلك قوله (عددا). وقوله (أقريب ما توعدون): الإستفهام مع ما في حيزه تعليق. (إلا من ارتضى): يجوز أن يكون من مبتدأ. وقوله (فإنه يسلك): خبره، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا. و (عددا): انتصابه على ضربين أحدهما: على معنى وأحصى كل شئ في حال العدد، فلم يخف عليه سقوط ورقة، ولا حبة، ولا رطب، ولا يابس والآخر. أن يكون في موضع المصدر، لأن معناه وعد كل شئ عددا، عن الزجاج. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (قل) يا محمد للمكلفين (إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) أي لا أقدر على دفع الضرر عنكم، ولا إيصال الخير
[ 154 ]
إليكم، وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى، ولكني رسول ليس علي إلا البلاغ والدعاء إلى الدين، والهداية إلى الرشاد. وهذا اعتراف بالعبودية، وإضافة الحول والقوة إليه تعالى. ثم قال. (قل) لهم يا محمد (إني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يمنعني أحد مما قدره الله علي (ولن أجد من دونه) أي من دون الله (ملتحدا) أي ملتجأ إليه أطلب به السلامة (إلا بلاغا من الله) أي تبليغا من الله آياته (ورسالاته) فإنه ملجأي ومنجاي وملتحدي، ولي فيه الأمن والنجاة، عن الحسن، والجبائي. وقيل: معناه لا أملك لكم، ضرا ولا رشدا، فما علي إلا البلاغ عن الله. فكأنه قال: لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي الله بتوفيقه وعونه، عن قتادة. وقيل: إن قوله (إلا بلاغا) يحتمل معنيين أحدهما: إلا ما بلغني من الله أي: لا يجيرني شئ إلا ما أتاني من الله، فلا فرق بين أن يقول بلغني كتابه، وأن يقول أتاني كتابه والثاني: إلا تبليغ ما أنزل إلي. فأما القبول والإيمان فليس إلي، وإنما ذلك إليكم، عن أبي مسلم. وقيل. إنه عطف رسالاته على البلاغ، فوجب أن يكون غيره، فالأولى أن يكون أراد بالبلاغ ما بلغه من توحيد الله وعدله، وما يجوز عليه، وما لا يجوز. وأراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع. ولما بين سبحانه أنه لا ملجأ من عذابه إلا طاعته، عقبه بوعيد من قارف معصيته فقال: (ومن يعص الله ورسوله) أي خالف أمره في التوحيد، وارتكب الكفر والمعاصي (فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) جزاء على ذلك (حتى إذا رأوا) في الأخرة (ما يوعدون) به من العقاب في الدنيا. وقيل: هو عذاب الإستئصال (فسيعلمون) عند ذلك (من أضعف ناصرا وأقل عددا) المشركون أم المؤمنون. وقيل: أجند الله أم الذي عبده المشركون. وإنما قال (من أضعف ناصرا) ولا ناصر لهم في الأخرة، لأنه جاء على جواب من توهم أنه إن كانت الأخرة فناصرهم أقوى وعددهم أكثر. وفي هذا دلالة على أن المراد بقوله: (ومن يعص الله ورسوله) الكفار. وكانوا يفتخرون على النبي بكثرة جموعهم، ويصفونه بقلة العدد، فبين سبحانه أن الأمر سينعكس عليهم. (قل) يا محمد (إن أدري) أي لست أعلم (أقريب ما توعدون) به من العذاب (أم يجعل له ربي أمدا) أي مهلة وغاية ينتهي إليها. قال عطاء: أراد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده (عالم الغيب) أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون
[ 155 ]
القيامة (فلا يظهر على غيبه أحدا) أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده. ثم استثنى فقال: (إلا من ارتضى من رسول) يعني الرسل، فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخبروا بالغيب، لتكون آية معجزة لهم، ومعناه: إن من ارتضاه واختاره للنبوة والرسالة، فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه، على حسب ما يراه من المصلحة، وهو قوله: (فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) والرصد: الطريق. أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء والسلف، وعلم ما يكون بعده طريقا. وقيل: معناه أنه يحفظ الذي يطلع عليه الرسول، فيجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة، يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة. وقيل: رصدا من بين يدي الرسول ومن خلفه، وهم الحفظة من الملائكة، يحرسونه عن شر الأعداء وكيدهم، فلا يصل إليه شرهم. وقيل: المراد به جبرائيل أي يجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا كالحجاب، تعظيما لما يتحمله من الرسالة، كما جرت عادة الملوك بأن يضموا إلى الرسول جماعة من خواصهم، تشريفا له. وهذا كما روي أن سورة الأنعام نزلت ومعها سبعون ألف ملك. (ليعلم) الرسول (أن قد أبلغوا) يعني الملائكة. قال سعيد بن جبير: ما نزل جبرائيل بشئ من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي قد أمر به. وقيل: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات الله، عن مجاهد. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الرسل قبله، قد أبلغ جميعهم (رسالات ربهم) كما أبلغ هو إذ كانوا محروسين محفوظين بحفظ الله، عن قتادة. وقيل: ليعلم الله أن قد أبلغوا، عن الزجاج. وقيل: معناه ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما، ويعلمه واقعا، كما كان يعلم أنه سيقع. وقيل: أراد ليبلغوا فجعل بدل ذلك قوله ليعلم إبلاغهم توسعا، عن الجبائي. وهذا كما يقول الإنسان ما علم الله ذلك مني أي ما كان ذلك أصلا، لأنه لو كان لعلم الله ذلك، فوضع العلم موضع الكون. (وأحاط بما لديهم) أي أحاط الله علما بما لدى الأنبياء والخلائق، وهم لا يحيطون إلا بما يطلعهم الله عليه، مما هو عند الله. (وأحصى كل شئ عددا) أي أحصى ما خلق، وعرف عدد ما خلق، لم يفته علم شئ حتى مثاقيل الذر والخردل، عن ابن عباس. وقيل: معناه عد جميع المعلومات المعدومة والموجودة
[ 156 ]
عدا، فعلم صغيرها وكبيرها، وقليلها وكثيرها، وما يكون وما لا يكون، وما كان وما لم يكن، ولو كان كيف كان. وقيل: معناه لا شئ يعلمه عالم، أو يذكره ذاكر، إلا وهو تعالى عالم به، ومحص إياه، عن الجبائي، قال: الإحصاء فعل وليس هو بمنزلة العلم، فلا يجوز أن يقال أحصى ما لا يتناهى، كما يجوز أن يقال علم ما لا يتناهى، فإن حمل على العلم تناول جميع المعلومات، وإن حمل على العد تناول الموجودات.
[ 157 ]
73 - سورة المزمل مكية وآياتها عشرون وهي مدنية، وقيل: بعضها مكي، وبعضها مدني. عدد آيها: ثماني عشرة آية المدني الأخير وتسع عشرة بصري عشرون في الباقين. اختلافها: ثلاث آيات المزمل كوفي شامي والمدني الأول شيبا غير المدني الأخير إليكم رسولا مكي. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول صلى الله وآله وسلم: (ومن قرأ سورة المزمل، رفع عنه العسر في الدنيا والآخرة). منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ومن قرأ سورة المزمل في العشاء الآخرة، أو في آخر الليل، كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة، وأحياه الله حياة طيبة، وأماته ميتة طيبة. تفسيرها: لما ختم الله سورة الجن بذكر الرسل، افتتح هذه السورة بذكر نبينا صلى الله وآله وسلم خاتم الرسل، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها المزمل (1) قم اليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة اليل هي أشد وطا وأقوم قيلا (6) إن لك في النهار سبحا طويلا (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله هو فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10).
[ 158 ]
القراءة: قرأ أبو عمرو، وابن عامر: (وطاء) بكسر الواو والمد. والباقون: (وطا) بفتح الواو وسكون الطاء مقصورا. وقرأ أهل الكوفة غير حفص، وابن عامر، ويعقوب: (رب المشرق) بالجر. والباقون بالرفع. وفي الشواذ قراءة عكرمة. المزمل، والمدثر خفيفة الزاي والدال، مشددة الميم والثاء. وقراءة أبي السماك: (قم الليل) بضم الميم. الحجة: من قرأ (أشد وطاء): فمعناه مواطأة أي موافقة وملاءمة، ومنه (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي ليوافقوا. والمعنى ان صلاة ناشئة الليل، وعمل ناشئة الليل، يواطئ السمع القلب فيها أكثر مما يواطئ في ساعات النهار، ولأن البال أفرغ لانقطاع كثير مما يشغل بالنهار. ومن قال (وطا) فالمعنى أنه أشق على الإنسان من القيام بالنهار، لأن الليل للدعة والسكون. وجاء في الحديث (اللهم اشدد وطأتك على مضر). (وأقوم قيلا) أي أشد استقامة وصوابا لفراغ البال، وانقطاع ما يشغله، قال: له ولها وقع بكل قرارة، * ووقع بمستن الفضاء قويم (1) أي مستقيم. والناشئة: ما يحدث وينشأ من ساعات الليل. والرفع في (رب المشرق) يحتمل أمرين أحدهما: إنه لما قال (واذكر اسم ربك) قطعه من الأول، فقال: هو رب المشرق، فيكون خبر مبتدأ محذوف والآخر: أن يكون مبتدأ وخبره الجملة التي هي لا إله إلا هو. ومن جر فعلى إتباعه قوله اسم ربك. وأما قوله (المزمل) بتخفيف الزاي فعلى حذف المفعول به أي يا أيها المزمل نفسه، والمدثر نفسه، وحذف المفعول كثير. قال الحطيئة: منغمة تصون إليك منها * كصونك من رداء شرعبي (2) أي: تصون حديثا وتخزنه، كقول الشنفرى. (1) القرارة: القاع المستدير. واستن السراب: اضطرب، (2) الشرعبي: ضرب من البرود (*).
[ 159 ]
كأن لها في الأرض نسيا تقصه * على أمها وإن تكلمك تبلت (1) ومن قرأ قم الليل، وضم، فيمكن أن يكون ضمه للإتباع. اللغة: المزمل: المتزمل في ثيابه، أدغم التاء في الزاي، لأن الزاي قريبة المخرج من التاء، وهي أندى في المسموع من التاء، وكل شئ لفف فقد زمل. قال امرؤ القيس: كأن ثبيرا في عرانين وبله، * كبير أناس في بجاد مزمل (2) والنصف: أحد قسمي الشئ المساوي للآخر في المقدار، كما أن الثلث جزء من ثلاثة، والربع جزء من أربعة، وهذه من صفات الأجسام، فإذا رفعت التأليفات عنها، بقيت أجزاء لا توصف بأن لها نصفا أو ثلثا أو ربعا. والعرض لا يوصف بالنصف، والجزء. والقديم لا يوصف أيضا بذلك، لأن هذه عبارات عن مؤلفات على وجوه. فإن قيل: فإذا يجب أن لا يكون وصف القديم تعالى بأنه واحد مدحا ؟ فالجواب: إن معنى قولنا: إنه واحد، اختصاصه بصفات لا يستحقها غيره، وهي كونه قادرا عالما لذاته، قديما، ونحو ذلك. وإذا قيل: إنه لا يتجزأ، فليس بمدح إلا أن يقال إنه حي لا يتجزأ، بخلاف غيره من الأحياء. والترتيل: ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها، بتثبت فيها. والحدر هو الإسراع فيها، وكلاهما حسن، إلا أن الترتيل هنا هو المرغب فيه. والإلقاء: مثل التلقية، تقول ألقت على فلان مسألة. والأقوم: الأخلص استقامة. والسبح: التقلب، ومنه السابح في الماء لتقلبه فيه. وقرأ يحى بن يعمر، والضحاك (سبخا طويلا) بالخاء ومعناه التوسعة. يقال: سبخت القطن إذا وسعته للندف. ومنه قول النبي صلى الله وآله وسلم لعائشة، وقد سمعها تدعو (1) النسي: الشئ المنسي الذي لا يذكر و (نقصه) أي تطلبه. والأم: الطريق، و (تبلت) أي تقطع الكلام بما يعتريها من الحياء. وقيل: أي تفصل الكلام. وفي تفسير الطبري: (إذا ما غدت وإن تحدثك قبلت) بدل المصراع الأخير وقال يعني بقوله: (قبلت) تحسن وتصدق. وقد مر البيت في ج 3 أيضا فراجع. (2) البيت من معلقته المعروفة، وكذا البيت الآتي يصف سحابا بكثرة المطر. وثبير كأمير: جبل بمكة. والعرانين: أوائل المطر. والوبل: المطر الشديد الضخم القطر. والبجاد: كساء مخطط. يقول: كأن ثبيرا في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس تلفف بكساء مخطط، شبه تغطيته بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء (*).
[ 160 ]
على سارق: (لا تسبخي عنه بدعائك عليه) أي لا تخففي. ويقال لقطع القطن إذا ندف: سبائخ. قال الأخطل يصف القناص (1)، والكلاب: فأرسلوهن يذرين التراب كما * يذري سبائخ قطن ندف أوتار وقال ثعلب: السبح التردد والإضطراب. والسبخ: السكون، ومنه قول النبي صلى الله وآله وسلم: (الحمى من فيح جهنم فسبخوها بالماء) أي أسكنوها. والتبتل: الإنقطاع إلى الله عز وجل، وإخلاص العبادة له. قال امرؤ القيس: تضئ الظلام بالعشي كأنها * منارة ممسي راهب متبتل (2) وأصله من بتلت الشئ: قطعته. وصدقة بتة بتلة أي: بائنة مقطوعة من صاحبها، لا سبيل له عليها. ومنه البتول عليها السلام، لانقطاعها إلى عبادة الله، عز وجل. الاعراب: (الليل) نصب على الظرف: (إلا قليلا): نصب على الإستثناء، تقديره: إلا شيئا قليلا منه، لا تقوم فيه. ثم بين القدر فقال. نصفه. قال الزجاج: إن نصفه بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيدا رأسه، فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيد. فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلا، أو انقص من النصف، أو زد على النصف، وانقص منه قليلا بمعنى إلا قليلا، ولكنه ذكر مع الزيادة. فالمعنى: قم نصف الليل، أو انقص من نصف الليل، أو زد على نصف الليل. المعنى: (يا أيها المزمل) معناه: يا أيها المتزمل بثيابه، المتلفف بها، عن قتادة. وقيل: يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي: المتحمل لأثقالها، عن عكرمة. وقيل: معناه يا أيها النائم، وكان قد تزمل للنوم، عن السدي. وقيل: كان يتزمل بالثياب في أول ما جاء به جبرائيل خوفا حتى أنس به، وإنما خوطب بهذا في بدء الوحي، ولم يكن قد بلغ شيئا، ثم خوطب صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بالنبي والرسول (قم (1) القناص: الصيادون. (2) يصف محبوبته بنور الوجه، وشبهها بمصباح الراهب، والمتبتل: صفة الراهب، لأنه يوقد ليهتدي به الضلال. يريد أن نور وجهها يغلب ظلام الليل كغلبة نور مصباح الراهب. (*).
[ 161 ]
الليل) للصلاة (إلا قليلا) والمعنى بالليل صل إلا قليلا من الليل، فإن القيام بالليل عبارة عن الصلاة بالليل (نصفه) هو بدل من الليل، فيكون بيانا للمستثنى منه أي: قم نصف الليل، ومعناه صل من الليل النصف إلا قليلا، وهو قوله (أو انقص منه قليلا) أي من النصف. (أو زد عليه) أي على النصف. وقال المفسرون: أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. وقيل: إن نصفه بدل من القليل، فيكون بيانا للمستثنى، والمعني فيهما سواء. ويؤيد هذا القول ما روي عن الصادق عليه السلام قال: القليل النصف، أو انقص من القليل قليلا، أو زد على القليل قليلا. وقيل: معناه قم نصف الليل إلا قليلا من الليالي، وهي ليالي العذر كالمرض، وغلبة النوم، وعلة العين، ونحوها، أو انقص من النصف قليلا، أو زد عليه، ذكره الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. خير الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الساعات القيام بالليل، وجعله موكولا إلى رأيه. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من المؤمنين معه، يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل منهم لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل. فكان يقوم الليل كله، مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة. وعن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام قال: قلت لعائشة أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال: ألست تقرأ (يا أيها المزمل) قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة. فقام نبي الله، وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة. وقيل: كان بين أول السورة وآخرها الذي نزل فيه التخفيف، عشر سنين، عن سعيد بن جبير. وقيل: كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بالخمس عن ابن كيسان، ومقاتل. وقيل: لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، فكان بين أولها وآخرها سنة، عن ابن عباس. وقيل: إن الآية الأخيرة نسخت الأولى، عن الحسن، وعكرمة. وليس في ظاهر الآيات ما يقتضي النسخ، فالأولى أن يكون الكلام على ظاهره، فيكون القيام بالليل سنة مؤكدة، مرغبا فيه، وليس بفرض.
[ 162 ]
(ورتل القرآن ترتيلا) أي بينه بيانا. واقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا، عن ابن عباس. قال الزجاج: والبيان لا يتم بأن تعجل في القرآن، إنما يتم بأن تبين جميع الحروف، وتوفي حقها من الإشباع. قال أبو حمزة: قلت لابن عباس إني رجل في قراءتي وفي كلامي عجلة. فقال ابن عباس. لأن أقرأ البقرة أرتلها، أحب إلى من أن أقرأ القرآن كله. وقيل: معناه ترسل فيه ترسلا، عن مجاهد. وقيل: معناه تثبت فيه تثبتا، عن قتادة. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في معناه أنه قال: بينه بيانا، ولا تهذه هذ الشعر (1)، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن إقرع به القلوب القاسية، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة، فاسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار، فتعوذ بالله من النار. وقيل: الترتيل هو أن تقرأ على نظمه وتواليه، ولا تغير لفظا، ولا تقدم مؤخرا، وهو مأخوذ من ترتل الأسنان إذا استوت وحسن انتظامها، وثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية، لا تفاوت فيها. وقيل: رتل معناه ضعف. والرتل: اللين، عن قطرب، قال: والمراد بهذا تحزين القرآن أي: اقرأه بصوت حزين، ويعضده ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في هذا قال: هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك. وروي عن أم سلمة، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته آية آية. وعن أنس قال: كان يمد صوته مدا. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصاحب القرآن: إقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) أي سنوحي عليك قولا يثقل عليك وعلى أمتك. أما ثقله عليه فلما فيه من تبليغ الرسالة، وما يلحقه من الأذى فيه، وما يلزمه من قيام الليل، ومجاهدة النفس، وترك الراحة والدعة. وأما ثقله على أمته، فلما فيه من الأمر والنهي والحدود. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل والحسن. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، وكما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. وقيل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مؤيدة بالتوحيد، وقيل: ثقيلا ليس بالسفساف الخفيف (2)، لأنه كلام ربنا جلت عظمته، عن الفراء. وقيل: معناه قولا عظيم (1) الهذ. سرعة القراءة. (2) أي الذي يستخف به (*).
[ 163 ]
الشأن، كما يقال هذا كلام رصين، وهذا الكلام له وزن إذا كان واقعا موقعه. وقيل: معناه قولا ثقيلا نزوله فأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتغير حاله عند نزوله، ويعرق. وإذا كان راكبا يبرك راحلته، ولا يستطيع المشي. وسأل الحرث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ! كيف يأتيك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي، فيفصم عني (1) وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثل الملك رجلا، فأعي ما يقول). قالت عائشة. إنه كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على راحلته، فيضرب بجرانها (2). قالت: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا. وقيل: ثقيلا على الكفار لما فيه من الكشف عن جهلهم، وضلالهم، وسفه أحلامهم، وقبح أفعالهم. (إن ناشئة الليل) معناه: إن ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، وتقديره: إن ساعات الليل الناشئة. وقال ابن عباس: هو الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار. وقال مجاهد: هي ساعات التهجد من الليل. وقيل: هي بالحبشية قيام الليل، عن عبد الله بن مسعود، وسعيد بن جبير. وقيل: هي القيام بعد النوم، عن عائشة. وقيل: هي ما كان بعد العشاء الآخرة، عن الحسن، وقتادة. والمروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام أنهما قالا: هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل (هي أشد وطأ) أي أكثر ثقلا، وأبلغ مشقة، لأن الليل وقت الراحة والعمل يشق فيه. ومن قال (وطاء) فالمعنى: أشد مواطأة للسمع والبصر، يتوافق فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم والتفكر إذ القلب غير مشتغل بشئ من أمور الدنيا. (وأقوم قيلا) أي أصوب للقراءة، وأثبت للقول لفراغ البال، وانقطاع ما يشغل القلب، عن أنس ومجاهد وابن زيد. وقال أبو عبد الله عليه السلام: هو قيام الرجل عن فراشه، لا يريد به إلا الله تعالى (إن لك في النهار سبحا طويلا) معناه: إن لك يا محمد في النهار منصرفا ومنقلبا إلى ما تقضي فيه حوائجك، عن قتادة. والمراد إن مذاهبك في النهار، ومشاغلك كثيرة، فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة، ودعوة (1) قال الجزري: أي يقلع عني. (2) الجران: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره (*).
[ 164 ]
الخلق، وتعليم الفرائض والسنن، وإصلاح المعيشة لنفسك وعيالك، وفي الليل يفرغ القلب للتذكر والقراءة، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، لتأخذ بحظك من خير الدنيا والآخرة. وفي هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل، لأجل التعليم والتعلم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتاج إلى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا إليه. ثم لم يرض سبحانه أن يترك حظه من قيام الليل (واذكر اسم ربك) يعني أسماء الله تعالى التي تعبد بالدعاء بها. وقيل: اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك، توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك من كل ما سواه. وقيل: واقصد بعملك وجه ربك (وتبتل إليه تبتيلا) أي أخلص له إخلاصا، عن ابن عباس، وغيره يعني في الدعاء والعبادة. وقيل: انقطع إليه انقطاعا، عن عطاء، وهو الأصل. وقيل: توكل عليه توكلا، عن شقيق. وقيل: تفرغ لعبادته، عن ابن زيد. وقد جاء في الحديث النهي عن التبتل، والمراد به الإنقطاع عن الناس والجماعات. وكان يجب أن يقول تبتلا لأن المراد بتلك الله من المخلوقين، واصطفاك لنفسه تبتيلا، فتبتل أنت أيضا إليه. وقيل: إنما قال تبتيلا ليطابق أواخر آيات السورة. وروى محمد بن مسلم وزرارة وحمران عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام أن التبتل هنا رفع اليدين في الصلاة. وفي رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله، وتضرعك إليه. (رب المشرق والمنرب) أي رب العالم بما فيه، لأنه بين المشرق والمغرب. وقيل: رب مشرق الشمس ومغربها. والمراد أول النهار وآخره. فأضاف النصف الأول من النهار إلى المشرق، والنصف الآخر منه إلى المغرب وقيل: مالك المشرق والمغرب أي المتصرف فيما بينهما، والمدبر لما بينهما (لا إله إلا هو) أي لا أحد تحق له العبادة سواه (فاتخذه وكيلا) أي حفيظا للقيام بأمرك. وقيل: معناه فاتخذه كافيا لما وعدك به، واعتمد عليه، وفوض أمرك إليه، تجده خير حفيظ وكاف. (واصبر على ما يقولون) لك يعني الكفار من التكذيب والأذى، والنسبة إلى السحر والكهانة. (واهجرهم هجرا جميلا) والهجر الجميل إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة. قال الزجاج: هذا يدل على أنه
[ 165 ]
نزل قبل الأمر بالقتال. وقيل: بل هو أمر بالتلطف في استدعائهم، فيجب مع القتال، ولا نسخ. وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى، لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة. (وذزني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينآ أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدن شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا (19). اللغة: يذر ويدع: بمعنى يترك، ولا يقال وذر، ولا ودع. واستغني بترك عن ذلك، لأن الإبتداء بالواو عندهم مكروه، ولذلك أبدلوا منها الهمزة في أقتت، والتاء في تخمة وتراث. والنعمة بفتح النون: لين اللمس، وضدها الخشونة. والنعمة: الثروة والمنة أيضا. والنعمة بضم النون: المسرة، يقال نعم ونعمة عين ونعمى عين. والأنكال. القيود واحدها نكل. والغصة: تردد اللقمة في الحلق، ولا يسيغها آكلها، يقال: غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا، وهي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام والشراب. قال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق، * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1) والكثيب: الرمل المجتمع الكثير. وهلت الرمل أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله، فسال أعلاه. ومنه الحديث (كيلوا ولا تهيلوا، وكل ثقيل وبيل). ومنه كلأ مستوبل أي: مستوخم لا يستمرأ لثقله، ومنه الوبل والوابل: وهو المطر العظيم (1) الشرق: الشجا وكالغصص في الطعام. والإعتصار: الإلتجاء. وقيل الإعتصار هو أن يغص الإنسان بالطعام، فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا. يقول: كان اعتصاري بالماء إذا شرقت بغيره. فإذا شرقت بالماء فبم أعتصر. (*).
[ 166 ]
القطر، ومنه الوبال وهو ما يغلظ على النفس. والوبيل أيضا: الغليظ من العصي. قال طرفة: فمرت كهاة ذات خيف جلالة * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (1) المعنى: ثم قال سبحانه مهددا للكفار (وذرني) يا محمد (والمكذبين) الذين يكذبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد، وإخلاص العبادة، وفي البعث والجزاء. وهذا كما يقول القائل: دعني وإياه إذا أراد أن يهدده، وهو نصب على أنه مفعول معه (أولي النعمة) يعني المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا أي: كل جزاءهم إلي، ولا تشغل قلبك بمجازاتهم (ومهلهم قليلا) وهذا أيضا وعيد لهم، ولم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر، والمعنى وأخرهم في المدة قليلا. قال مقاتل: نزلت في المطعمين ببدر، وهم عشرة، ذكرناهم في الأنفال (2). وقيل: نزلت في صناديد قريش، والمستهزئين (إن لدينا أنكالا) أي عندنا قيودا في الاخرة، عظاما لا تفك أبدا، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: أغلالا (وجحيما) وهو اسم من أسماء جهنم. وقيل: يعني ونارا عظيمة، ولا يسمى القليل به (وطعاما ذا غصة) أي ذا شوك يأخذ الحلق، فلا يدخل، ولا يخرج، عن ابن عباس. وقيل: طعاما يأخذ بالحلقوم لخشونته، وشدة تكرهه. وقيل: يعني الزقوم والضريع. وروي عن حمران بن أعين، عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع قارئا يقرأ هذه فصعق. (وعذابا أليما) أي عقابا موجعا مؤلما. ثم بين سبحانه متى يكون ذلك فقال: (يوم ترجف الأرض) أي تتحرك باضطراب شديد (والجبال) أي وترجف الجبال معها أيضا، وتضطرب بمن عليها (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) أي رملا سائلا متناثرا، عن ابن عباس. وقيل: المهيل الذي إذا وطأته القدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهار أعلاه، عن الضحاك. والمعنى: إن الجبال تنقلع من أصولها، فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل. ثم أكد سبحانه الحجة على أهل مكة فقال: (إنا أرسلنا إليكم رسولا) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم (1) البيت من معلقته المعروفة، يصف فيه نحر ناقة أبيه، أو رجل غيره على خلاف ذكره الزوزني. الكهاة والجلالة: الناقة الضخيمة السمنة. والخيف: جلد الضرع. والعقيلة: كريمة الأصل. ويلندد: الشديد الخصومة أراد به صاحب الناقة، أو أباه. (2) في نسخة أخرى: ذكر في سورة (*).
[ 167 ]
(شاهدا عليكم) أي: يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم، لا في الدنيا (كما أرسلنا إلى فرعون) بمصر (رسولا) يعني موسى بن عمران. (فعصى فرعون الرسول) ولم يقبل منه ما دعاه إليه (فأخذناه) بالعذاب (أخذا وبيلا) أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده، وسعة ملكه، يعني الغرق. حذرهم سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون وقومه (فكيف تتقون إن كفرتم) ولم تؤمنوا برسولكم (يوما) أي عقاب يوم (يجعل الولدان شيبا) وهو جمع أشيب. وهذا وصف لذلك اليوم وشدته. كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد، وتشيب منه النواصي إذا كان عظيما شديدا. والمعنى: بأي شئ تتحصنون من عذاب ذلك اليوم ان كفرتم ؟ وكيف تدفعون عنكم ذلك ؟ قال النابغة: سقط النصيف، ولم ترد إسقاطه، * فتناولته واتقتنا باليد (1) أي دفعتنا. ثم زاد سبحانه في وصف شدة ذلك اليوم فقال: (السماء منفطر به) الهاء تعود إلى اليوم، وهذا كما يقال فلان بالكوفة أي: هو فيها. والمعنى: إن السماء تنفطر وتنشق في ذلك اليوم من هوله. وقيل: بسبب ذلك اليوم وهو له وشدته. وقيل: بأمر الله وقدرته. ولم يقل منفطرة لأن لفظة السماء مذكر، فيجوز أن يذكر ويؤنث. ومن ذكر أراد السقف. وقيل: معناه ذات انفطار، كما يقال امرأة مطفل أي: ذات أطفال، ومرضع ذات رضاع، فيكون على طريق النسبة. (كان وعده مفعولا) أي كائنا لا خلف فيه، ولا تبديل (إن هذه) الصفة التي ذكرناها، وبيناها (تذكرة) أي عظة لمن أنصف من نفسه، والتذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه. (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) أي فمن شاء من المكلفين، اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا، لانه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب، وقد رغبه الله تعالى فيه، ودعاه إلى فعل ما يوصله إليه، وبعث رسولا يدعوه إليه، فمن لم يصل إليه، فبسوء اختياره انصرف عنه. (1) كان النابغة من أخصاء النعمان بن المندر، ملك الحيرة، ودخل عليه يوما فجأة، ومعه امرأته المتجردة فالتفتت إليه مذعورة، فسقط نصيفها - وهو الخمار - فاستترت بيدها وذراعها. فكادت ذراعها تستر وجهها لغلظها، وكثرة لحمها، فأمره النعمان أن يقول قصيدة فيها، فأنشأ قصيدته ومنها البيت (*).
[ 168 ]
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر اليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (20). القراءة: قرأ ابن كثير، وأهل الكوفة: (نصفه وثلثه) بالنصب. والباقون بالجر. الحجة: قال أبو علي. من نصب حمله على (أدنى) و (أدنى) في موضع نصب. قال أبو عبيدة: أدنى أقرب، فكأنه قال: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وتقوم نصفه وثلثه. ومن جر فإنه يحمله على الجار. قال أبو الحسن: وليس المعنى عليه فيما بلغنا، لأن المعنى يكون على أدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه. قال: وكان الذي افترض الثلث، وأكثر من الثلث قال: فأما الذين قرأوا بالجر، فعلى أن يكون المعنى: إنكم إن لم تؤدوا ما فرض الله عليكم، فقوموا أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، ومن ثلثه. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن ربك) يا محمد (يعلم أنك تقوم أدنى) أي أقرب وأقل (من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) أي أقل من نصفه وثلثه، والهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل، وثلث الليل. والمعنى: إنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين، وفي بعضها قريبا من نصف الليل، وقريبا من ثلثه. وقيل: إن الهاء تعود إلى الثلثين أي: وأقرب من نصف الثلثين، ومن ثلث الثلثين. وإذا نصبت فالمعنى تقوم نصفه وثلثه (و) تقوم (طائفة من الذين معك) على الإيمان. وروى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسن في قوله (وطائفة من الذين معك) قال: علي وأبو ذر. (والله يقدر الليل والنهار) أي يقدر أوقاتهما لتعملوا فيها على ما يأمركم به.
[ 169 ]
وقيل: معناه لا يفوته علم ما تفعلون، عن عطاء. والمراد: إنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل. (علم أن لن تحصوه) قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فقال سبحانه: علم أن لن تحصوه أي: لن تطيقوا معرفة ذلك. وقال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فقال سبحانه: إنكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة. وقيل: معناه لن تطيقوا المداومة على قيام الليل، ويقع منكم التقصير فيه. (فتاب عليكم) بأن جعله تطوعا، ولم يجعله فرضا، عن الجبائي. وقيل: معناه فلم يلزمكم إثما، كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه، كرفع التبعة عن التائب. وقيل: فتاب عليكم أي فخفف عليكم. (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) الآن يعني في صلاة الليل، عن أكثر المفسرين، وأجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله (قم الليل) هو القيام إلى الصلاة، إلا أبا مسلم فإنه قال: أراد القيام لقراءة القرآن، لا غير. وقيل: معناه فصلوا ما تيسر من الصلاة، وعبر عن الصلاة بالقرآن، لأنها تتضمنه. ومن قال: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، فهو محمول على الإستحباب عند الأكثرين دون الوجوب، لأنه لو وجبت القراءة، لوجب الحفظ. وقال بعضهم: هو محمول على الوجوب، لأن القارئ يقف على إعجاز القرآن، وما فيه من دلائل التوحيد، وإرسال الرسل، ولا يلزم حفظ القرآن لأنه من القرب المستحبة المرغب فيها. ثم اختلفوا في القدر الذي تضمنه هذا الأمر من القراءة، فقال سعيد بن جبير: خمسون آية. وقال ابن عباس: مائة آية، وعن الحسن قال: من قرأ مائة آية في ليلة، لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ مائة آية في ليلة، كتب من القانتين. وقال السدي: مائتا آية. وقال جويبر: ثلث القرآن لأن الله يسره على عباده، والظاهر أن معنى ما تيسر مقدار ما أردتم وأحببتم. (علم أن سيكون منكم مرضى) وذلك يقتضي التخفيف عنكم (وآخرون) أي ومنكم قوم آخرون (يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) أي يسافرون للتجارة، وطلب الأرباح، عن ابن عباس (وآخرون) أي ومنكم قوم آخرون (يقاتلون في سبيل الله) فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم (فاقرأوا ما تيسر منه) وروي عن الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن جده عليه السلام قال: ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب، وصفاء السر (وأقيموا الصلاة) بحدودها التي أوجبها الله عليكم (وآتو
[ 170 ]
الزكاة) المفروضة (وأقرضوا الله قرضا حسنا) أي وأنفقوا في سبيل الله، والجهات التي أمركم الله، وندبكم إلى النفقة فيها. وقد مر معنى القرض فيما تقدم (وما تقدموا لأنفسكم من خير) أي طاعة (تجدوه) أي تجدوا ثوابه (عند الله هو خيرا) لكم من الشح والتقصير. (وأعظم أجرا) أي أفضل ثوابا، وهو هنا يسمى فصلا عند البصريين، وعمادا عند الكوفيين. ويجوز أن يكون صفة للهاء في تجدوه (واستغفروا الله) أي اطلبوا مغفرته. (إن الله غفور رحيم) أي ستار لذنوبكم، صفوح عنكم، رحيم بكم، منعم عليكم. قال عبد الله بن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين، صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند الله بمنزلة الشهداء. ثم قرأ (وآخرون يضربون في الأرض) الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله، أحب إلي من أن أموت بين شقي رحل، أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله. وقيل: إن هذه الآية مدنية، ويدل عليها أن الصلاة والزكاة لم توجبا بمكة. وقيل: أوجبتا بمكة، والآية مكية.
[ 171 ]
74 - سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون عدد آيها: خمسون وست آيات عراقي والبزي والمدني الأول وخمس شامي والمدني الأخير والمكي غير البزي. اختلافها: يتساءلون غير المدني الأخير عن المجرمين غير الشامي والمكي إلا البزي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذب به بمكة). محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقا على الله أن يجعله مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم في درجته، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا. تفسيرها: لما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في آخر المزمل بالصلاة وغيرها، أمره في مفتتح هذه السورة بالإنذار، فكأنه أمره أن يبدأ بنفسه، ثم بالناس، فقال: بسمه الله الرحمن الرحيم (يأيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر (7) فإذا نقر في الناقور (8) فذلك يومئذ يوم عسير (9) على الكفرين غير يسير (10). القراءة: قرأ أبو جعفر وحفص ويعقوب وسهل: (والرجز) بالضم. والباقون بكسر الراء. وقرأ الحسن: (تستكثر) بالجزم. وقرأ الأعمش: (تستكثر) بالنصب. والقراءة بالرفع. الحجة: الرجز بالضم قراءة الحسن، وهو اسم صنم فيما زعموا. وقال قتادة:
[ 172 ]
هما صنمان إساف ونائلة. ومن كسر فهو العذاب، والمعنى ذات العذاب فاهجر لأن عبادتها تؤدي إلى العذاب. ويجوز أن يكون الرجز والرجز لغتين كالذكر والذكر. وقال ابن جني: الجزم في تستكثر يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون بدلا من (تمنن) فكأنه قال: لا تستكثر. فإن قيل: فعبرة البدل أن يصلح إقامة الثاني مقام الأول، وأنت لو قلت لا تستكثر لا يدلك النهي على المن للإستكثار، وإنما المعنى لا تمنن من مستكثر ؟ قيل: قد يكون البدل على حذف الأول، وقد يكون على نية ثباته، وذلك كقولك زيد مررت به أبي محمد، فتبدل أبا محمد من الهاء. ولو قلت زيد مررت مررت بأبي محمد، كان قبيحا. فقوله: (ولا تمنن تستكثر) من هذا القبيل. وأنكر أبو حاتم الجزم على البدل والآخر: أن يكون أراد تستكثر، فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكى أبو زيد من قولهم: (بلى ورسلنا) بإسكان اللام. وأما (تستكثر) بالنصب فبأن مضمرة وذلك أن يكون بدلا من قوله (ولا تمنن) في المعنى. ألا ترى أن معناه لا يكن منك من فاستكثار، فكأنه قال: لا يكن منك من أن تستكثر فتضمر أن لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلا عن المن في المعنى الذي دل عليه الفعل، ومما وقع فيه الفعل موقع المصدر قوله: فقالوا: ما تشاء ؟ فقلت: ألهو * إلى الأصباح آثر ذي أثير (1) أراد: فقلت اللهو. فوضع ألهو موضع اللهو. اللغة: المدثر: المتفعل من الدثار، إلا أن الثاء أدغمت في الدال، وهو المتغطي بالثياب عند النوم. والتكبير: وصف الأكبر على اعتقاد معناه، كتكبير المكبر في الصلاة بقوله: الله أكبر. والتكبير: نقيض التصغير. والكبير الشأن هو المختص با تساع المقدور والمعلوم. والطهارة: النظافة بانتفاء النجاسة، لأن النظافة قد تكون بانتفاء الوسخ من غير نجاسة، وقد تكون بانتفاء النجاسة، فالطهارة في الآية هو القسم الأخير. والمن: ذكر النعمة بما يكدرها، ويقطع حق الشكر بها، يقال: من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك. فأما المن على الأسير فهو إطلاقه بقطع أسباب الإعتقال عنه. والإستكثار: طلب الكثرة، وهو هنا طلب ذكر الإستكثار للعطية. والناقور. فاعول من النقر، كهاضوم من الهضم، وحاطوم من الحطم: وهو الذي (1) آثر ذي أثير أي: أول كل شئ. (*).
[ 173 ]
من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به. واليسير: القليل الكلفة، ومنه اليسار وهو كثرة المال لقلة الكلفة به في الإنفاق. ومنه تيسير الأمور لسهولته. الاعراب: (وربك فكبر): تقديره قم فكبر ربك، وكذلك ما بعده. وفائدة تقديم المفعول عنها التخصيص، لأنك إذا قلت: وكبر ربك، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز تكبير غير الرب. وإذا قلت: ربك فكبر دل على أنه لا يجوز تكبير غيره. و (تستكثر): في موضع نصب على الحال، (فذلك): مبتدأ. و (يوم عسير) خبره. و (يومئذ): يجوز أن يكون رفعا. ويجوز أن يكون نصبا، فإذا كان رفعا، فإنما يبنى على الفتح لإضافته إلى إذ لأن إذ غير متمكنة. وإذا كان نصبا فعلى الظرف، وتقديره: فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور، قاله الزجاج. وقال أبو علي، في بعض كتبه: لا يجوز أن ينتصب (يومئذ) بقوله (عسير) لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، وإنما انتصب (يومئذ) على أنه صلة قوله (فذلك) لأن ذلك كناية عن المصدر، فكأنه قال: فذلك النقر يومئذ. وعلى هذا فيكون التقدير: فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير. وقوله (على الكافرين غير يسير) على يتعلق بعسير، ولا يتعلق بيسير، لأن ما يعمل فيه المضاف إليه، لا يتقدم على المضاف. على أنهم قالوا: إن غيرا في حكم حرف النفي، فيجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله، نحو أن تقول: أنت زيدا غير ضارب، ولا يجوز أن تقول: أنت زيدا مثل ضارب، فتعمل ضاربا في زيد، وإنما أجازوا: أنت زيدا غير ضارب، حملا على أنت زيدا لا ضارب. المعنى: خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا أيها المدثر) أي المتدثر بثيابه. قال الأوزاعي: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل من قبل ؟ قال: (يا أيها المدثر) فقلت: أو (اقرأ باسم ربك) فقال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل ؟ قال: يا أيها المدثر. فقلت: أو اقرأ ؟ فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله قال: (جاورت بحراء شهرا. فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الواد، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، فلم أر أحدا. ثم نوديت فرفعت رأسي، فإذا هو على العرش في الهواء، يعني جبرائيل. فقلت: دثروني دثروني، فصبوا علي ماء، فأنزل الله، عز وجل يا أيها المدثر). وفي رواية (فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي
[ 174 ]
فقلت: زملوني فنزل يا أيها المدثر). (قم فأنذر) أي ليس بك ما تخافه من الشيطان، إنما أنت نبي، فأنذر الناس، وادعهم إلى التوحيد. وفي هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة، والآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شئ سواها، ولا يفزع، ولا يفرق. وقيل: معناه يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار، أطلبه بالإنذار وخوف قومك بالنار، وإن لم يؤمنوا. وقيل: إنه كان قد تدثر بشملة صغيرة لينام، فقال: يا أيها النائم ! قم من نومك، فأنذر قومك. وقيل: إن المراد به الجد في الأمر، والقيام بما أرسل به، وترك الهوينا فيه، فكأنه قيل له: لا تنم عما أمرتك به، وهذا كما تقول العرب: فلان لا ينام في أمره إذا وصف بالجلد، والإنكماش، وصدق العزيمة، وكأنهم يحظرون النوم على ذي الحاجة، حتى يبلغ حاجته، وبذلك نطقت أشعارهم، كما قيل: ألا أيها الناهي فزارة بعد ما * أجدت لأمر، إنما أنت حالم أرى كل ذي وتر، يقوم بوتره، * ويمنع عنه النوم إذ أنت نائم (1) ويقال لمن أدرك ثأره: هذا هو الثأر المنيم. وقال الشاعر يصف من أورد إبلا له: أوردها سعد، وسعد مشتمل، * ما هكذا تورد يا سعد الإبل (2) والإشتمال مثل التدثر. (وربك فكبر) أي عظمه ونزهه عما لا يليق به. وقيل: كبره في الصلاة، فقل الله أكبر (وثيابك فطهر) أي: وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة. وقيل: معناه ونفسك فطهر من الذنوب والثياب عبارة عن النفس، عن قتادة، ومجاهد. وعلى هذا فيكون التقدير وذا ثيابك فطهر، فحذف المضاف. ومما يؤيد هذا القول قول عنترة. هامش) * (1) يعني: أدركت ثارك فنمت، ولكن فزارة على الإنتقام. ويجب على كل ذي وتر أن يدفع عن نفسه النوم. (2) البيت لمالك بن زيد مناة، وكان آبل أهل زمانه - أي: الحاذق في مصلحة الإبل - ثم إنه تزوج، وبنى بامرأته، فأورد الإبل أخوه سعد، ولم يحسن القيام عليها، والرفق بها. فقال مالك هذا البيت، يريد: إن من يورد الإبل لا بد وأن يكون متشمرا لا مشتملا. وفي بعض النسخ: (يا سعد لا تروي بهذاك الإبل) بدل المصراع الأخير (*).
[ 175 ]
فشككت بالرمح الأصم ثيابه، * ليس الكريم على القنا بمحرم (1) وقيل: معناه طهر ثيابك من لبسها على معصية أو غدرة، كما قال سلامة بن غيلان الثقفي، أنشده ابن عباس: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست، ولا من غدرة أتقنع قال الزجاج: معناه (2) ويقال للغادر دنس الثياب، وفي معناه قول من قال: وعملك فأصلح. قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب. وقيل: معناه وثيابك فقصر، عن طاووس، وروي ذلك عن عبد الله عليه السلام. قال الزجاج: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة، فإنه إذا انجر على الأرض، لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه، وقيل: معناه وثيابك فاغسلها عن النجاسة بالماء، لأن المشركين كانوا لا يتطهرون، عن ابن زيد، وابن سيرين. وقيل: لا يكن ثيابك من حرام، عن ابن عباس. وقيل: معناه وأزواجك فطهر هن عن الكفر والمعاصي حتى يصرن مؤمنات صالحات. والعرب تكني بالثياب عن النساء، عن أبي مسلم. وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: غسل الثياب يذهب الهم والحزن، وهو طهور المصلاة، وتشمير الثياب طهور لها. وقد قال الله سبحانه: (وثيابك فطهر) أي فشمر. (والرجز فاهجر) أي اهجر الأصنام والأوثان، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري، وقيل: معناه اجتنب المعاصي، عن الحسن. قال الكسائي: الرجز بالكسر. العذاب وبالضم: الصنم. وقال: المعنى اهجر ما يؤدي إلى العذاب، ولم يفرق غيره بينهما. وقيل: معناه جانب الفعل القبيح، والخلق الذميم، عن الجبائي. وقيل: معناه أخرج حب الدنيا من قلبك، لأنه رأس كل خطيئة. (ولا تمنن تستكثر) أي لا تعط عطية لتعطى أكثر منها، وهذا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، أدبه الله سبحانه بأكرم الآداب وأشرفها، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والنخعي والضحاك. وقيل: معناه ولا تمنن حسناتك على الله تعالى، مستكثرا لها، فينقصك (1) البيت من المعلقات. والشك: الإنتظام. والأصم: الصلب. يقول: فانتظمته برمحي الصلب أي طعنته طعنة أنفذت في جسمه، وثيابه كلها، ثم قال: ليس الكريم محرما على الرماح. (2) (لا تكن غادرا) (*).
[ 176 ]
ذلك عند الله، عن الحسن، وربيع بن أنس. وقيل: معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن، مستكثرا به الأجر من الناس، عن ابن زيد. وقيل: هو نهي عن الربا المحرم أي: لا تعط شيئا طالبا أن تعطى أكثر مما أعطيت، عن أبي مسلم. وقيل: لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك، عن مجاهد. وقيل: ولا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته، فإن متاع الدنيا قليل، ولأن المن يكدر الصنيعة. وقيل: معناه إذا أعطيت عطية، فأعطها لربك، واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها، عن زيد بن أسلم. وقيل: معناه لا تمنن بإبلاغ الرسالة على أمتك، عن الجبائي. (ولربك) أي لوجه ربك (فاصبر) على أذى المشركين، عن مجاهد. وقيل: فاصبر على ما أمرك الله به من أداء الرسالة، وتعظيم الشريعة، وعلى ما ينالك من التكذيب والأذى، لتنال الفوز والذخر. وقيل: فاصبر عن المعاصي، وعلى الطاعات، والمصائب. وقيل: فاصبر لله على ما حملت من الأمور الشاقة في محاربة العرب والعجم، عن ابن زيد. (فإذا نقر في الناقور) معناه إذا نفخ في الصور، وهي كهيئة البوق، عن مجاهد. وقيل: إن ذلك في النفخة الأولى، وهو أول الشدة الهائلة العامة. وقيل: إنه النفخة الثانية، وعندها يحيي الله الخلق، وتقوم القيامة، وهي صيحة الساعة، عن الجبائي. (فذلك يومئذ) قد مر معناه في الأعراف (يوم عسير) أي شديد (على الكافرين) لنعم الله الجاحدين لآياته (غير يسير) غير هين، ولا سهل، وهو بمعنى قوله عسير، إلا أنه أعاده بلفظ آخر للتأكيد كما تقول: إني واد لفلان، غير مبغض. وقيل: معناه عسير في نفسه، وغير عسير على المؤمنين، لما يرون من حسن العاقبة. (ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقى ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة
[ 177 ]
عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتب ويزداد الذين ءامنوا إيمنا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكفرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (31). اللغة: التمهيد والتوطئة والتذليل والتسهيل نظائر. والعنيد: الذاهب عن الشئ على طريق العداوة له، يقال: عند العرق يعند عنودا، فهو عاند إذا نفر. والمعاندة: منافرة المضادة وكذلك العناد. وبعير عنود أي نافر. قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطا، * إني كبير لا أطيق العندا (1) والإرهاق: الإعجاز بالعنف. والصعود: العقبة التي يصعب صعودها، وهي الكؤود، وعبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه. والعبوس والتكليح والتقطيب نظائر، وضدها الطلاقة والبشاشة. والبسور: بدو التكره في الوجه، وأصله من بسر بالأمر إذا عجل به، ومنه البسر لتعجيل حاله قبل الإرطاب. قال توبة: وقد رابني منها صدود رأيته، * وإعراضها عن حاجتي وبسورها (2) والإصلاء. إلزام موضع النار، يقال: أصليته فاصطلى. وسقر: اسم من أسماء جهنم لم يصرف للتأنيث والتعريف، وأصله من سقرته الشمس سقرا إذا آلمت دماغه. والإبقاء. ترك شئ مما أخذ. والتلويح: تغيير اللون إلى الإحمرار. ولوحته الشمس تلويحا فهي لواحة على المبالغة. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد، ومنه سمي الإنسان بشرا، لأنه ظاهر الجلد بتعريه من الوبر والريش والصوف الذي يكون في غيره من الحيوان. الاعراب: (وحيدا): منصوب على الحال، وهو على وجهين أحدهما: أن (1) العند جمع العنود: الناقة التي لا تخالط الإبل، تباعد عن الإبل، فترعى ناحية أبدا. (2) البيت لتوبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية. وقبل هذا البيت قوله: (وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت * فقد رابني منها الغداة سفورها)، ورابني أي: أوقعني في الريب والشك (*).
[ 178 ]
يكون من صفة الله أي: ذرني ومن خلقته وحدي. والآخر: أن يكون من صفة المخلوق. النزول: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، وذلك أن قريشا اجتمعت في دار الندوة، فقال لهم الوليد: إنكم ذوو أحساب، وذوو أحلام، وإن العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم، على أمر مختلف. فاجمعوا أمركم على شئ واحد، ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا: نقول إنه شاعر. فعبس عندها وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا: نقول إنه كاهن. قال: إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة. قالوا: نقول إنه لمجنون. فقال: إذا تأتونه فلا تجدونه مجنونا. قالوا: نقول: إنه ساحر. قال: وما الساحر ؟ فقالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين. قال: فهو ساحر، فخرجوا. فكان لا يلقى أحد منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا قال: يا ساحر، يا ساحر. واشتد عليه ذلك، فأنزل الله تعالى. (يا أيها المدثر) إلى قوله (الا قول البشر) عن مجاهد. ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أنزل عليه: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) قام إلى المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته. فلما فطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية. فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثر، وإن أسفله لمغدق (1)، وإنه ليعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله. فقال قريش: صبأ (2) والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم. وكان يقال للوليد. ريحانة قريش. فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا، فقال لي. ما لي أراك حزينا يا ابن أخي ؟ قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ! فقام مع أبي جهل، حتى أتى مجلس قومه فقال. أتزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط ؟ فقالوا: اللهم لا. قال: أتزعمون أنه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك ؟ قالوا: (1) والطلاوة: الحسن والرونق. والمغدق - مفعل - من الغدق - المطر الكبار القطر. (2) صبأ الرجل: خرج من دين إلى دين آخر (*).
[ 179 ]
اللهم لا. قال: أتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط ؟ قالوا: اللهم لا. قال: أتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟ فقالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه. فقالت قريش للوليد. فما هو ؟ فتفكر في نفسه، ثم نظر وعبس، فقال ما هو إلا ساحر، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر. المعنى: ثم قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على وجه التهديد للكافر الذي وصفه (ذرني ومن خلقت وحيدا) أي دعني وإياه فإني كاف له في عقابه، كما يقول القائل: دعني وإياه، ومعناه دعني ومن خلقته متوحدا بخلقه، لا شريك لي في خلقه. وإن حملته على صفة المخلوق، فمعناه. دعني ومن خلقته في بطن أمه وحده لا مال له، ولا ولد، يعني الوليد بن المغيرة. قال مقاتل. معناه خل بيني وبينه، فأنا أفرد بهلكته. وقال ابن عباس: كان الوليد يسمى الوحيد في قومه. وروى العياشي بإسناده، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله، وأبي جعفر عليه السلام أن الوحيد ولد الزنا، قال زرارة: ذكر لأبي جعفر عليه السلام، عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد. فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها ! فقلنا له: وما هو ؟ قال: من لا يعرف له أب. ثم ذكر سبحانه رزقه المال والولد فقال: (وجعلت له مالا ممدودا) ما بين مكة إلى الطائف من الإبل المؤبلة (1)، والخيل المسومة، والنعم المرحلة، والمستغلات التي لا تنقطع غلتها، والجواري والعبيد والعين الكثيرة، عن عطاء، عن ابن عباس. وقيل: الممدود الكثير الذي لا تنقطع غلته عنه سنة حتى يدرك غلة سنة أخرى، فهو ممدود على الأيام، وكان له بستان بالطائف، لا ينقطع خيره في شتاء ولا صيف، وعشرة بنين، ومائة ألف دينار، عن مجاهد. وقيل: ستة آلاف دينار، عن قتادة. وقيل: أربعة آلاف دينار، عن سفيان (وبنين شهودا) حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه لغناهم عن ركوب السفر للتجارة. قال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر. وقال مقاتل: كانوا سبعة: الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس، أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة. قالوا: فما زال (1) إبل مؤبلة أي مجتمعة (*).
[ 180 ]
الوليد بعد هذه الآية في نقصان من ماله وولده، حتى هلك. (ومهدت له تمهيدا) أي بسطت له في العيش بسطا، حتى صار مكفي المؤونة من كل وجه، حتى صارت أحواله متناسبة، عن الحسن وغيره. وقيل: سهلت له. وقيل: سهلت له التصرف في الأمور تسهيلا (ثم يطمع أن أزيد) أي لم يشكرني على هذه النعم، بل كفر نعمائي، وهو مع ذلك يطمع أن أزيد في إنعامه. ثم قال على وجه الردع والزجر: (كلا) أي لا يكون كما ظن، ولا أزيده مع كفره. وقيل: كلا معناه انزجر وارتدع، فليس الأمر على ما تتوهم. ثم بين سبحانه كفره فقال: (إنه كان لآياتنا عنيدا) أي إنما لم نفعل به ذلك، لأنه كان بحججنا وأدلتنا معاندا، ينكرها مع معرفته بها. وقيل: عنيدا جحودا، عن ابن عباس وقتادة. (سأرهقه صعودا) أي سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة فيه. وقيل: صعود جبل في جهنم من نار يؤخذ بارتقائه، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وكذلك رجله في خبر مرفوع. وقيل: هو جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة، عن الكلبي. (إنه فكر) ودبر ماذا يقول في القرآن (وقدر) القول في نفسه. وإنما فكر ليحتال به للباطل، لأنه لو فكر على وجه طلب الرشاد، لكان ممدوحا وقدر فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به، وإن قلنا كاهن لم يصدقونا، لأن كلامه لا يشبه كلام الكهان، فنقول: ساحر يؤثر ما أتى به عن غيره من السحرة. (فقتل) أي لعن وعذب. وقيل: لعن بما يجري مجرى القتل. وقيل: استحق العذاب، عن الجبائي. (كيف قدر) قال صاحب النظم: معناه لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع أي: على أي حال كان منه. (ثم قتل كيف قدر) هذا تكرير للتأكيد. وقيل: معناه كيف قدر في آياتنا ما قدر مع وضوح الحجة. ثم لعن وعوقب بعقاب آخر كيف قدر في إبطال الحق تقديرا آخر. وقيل: معناه عوقب في الآخرة مرة بعد مرة. (ثم نظر) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده. (ثم عبس وبسر) أي كلح وكره وجهه، ونظر بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في الشئ. (ثم أدبر) عن الإيمان (واستكبر) أي تكبر حين دعا إليه (فقال إن هذا)
[ 181 ]
أي ما هذا القرآن (إلا سحر يؤثر) أي يروى عن السحرة. وقيل: هو من الإيثار أي. سحر تؤثره النفوس، وتختاره لحلاوته فيها (إن هذا إلا قول البشر) أي ما هذا إلا كلام الإنس، وليس من عند الله، ولو كان القرآن سحرا، أو من كلام البشر، كما قاله الملعون، لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله، ولقدر هو وغيره مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله. ثم قال سبحانه مهددا له: (سأصليه سقر) أي سأدخله جهنم، وألزمه إياها. وقيل: سقر دركة من دركات جهنم. وقيل: باب من أبوابها (وما أدراك) أيها السامع (ما سقر) في شدتها وهولها وضيقها، ثم وصف بعض صفاتها فقال. (لا تبقي ولا تذر) أي لا تبقي لهم لحما إلا أكلته، ولا تذرهم إذا اعيدوا خلقا جديدا، عن مجاهد. وقيل: لا تبقي شيئا إلا أحرقته، ولا تذر أي لا تبقي عليهم، بل يبلغ مجهودهم في أنواع العذاب، عن الجبائي. (لواحة للبشر) أي مغيرة للجلود. وقيل: لافحة للجلود حتى تدعها أشد سوادا من الليل. (عليها تسعة عشر) من الملائكة هم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، تسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألفا، فيرميهم حيث أراد من جهنم. وقيل: معناه على سقر تسعة عشر ملكا، وهم خزان سقر، وللنار ودركاتها الأخر، خزان آخرون. وقيل: إنما خصوا بهذا العدد، ليوافق المخبر الخبر لما جاء به الأنبياء قبله، وما كان من الكتب المتقدمة، ويكون في ذلك مصلحة للمكلفين. وقال بعضهم في تخصيص هذا العدد: إن تسعة عشر يجمع أكثر القليل من العدد، وأقل الكثير منه لأن العدد آحاد وعشرات ومئات وألوف، فأقل العشرات عشرة، وأكثر الآحاد تسعة. قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم (1) الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ؟ فقال أبو الأسد الجمحي. أنا أكفيكم سبعة عشر: عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم أثنين. فنزل: (1) الدهم: الجماعة الكثيرة (*).
[ 182 ]
(وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) الآية. عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومعناه: وما جعلنا الموكلين بالنار، المتولين تدبيرها، إلا ملائكة جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل النار، ولم نجعلهم من بني آدم، كما تعهدون أنتم فتطيقونهم (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) أي لم نجعلهم على هذا العدد إلا محنة وتشديدا في التكليف للذين كفروا نعم الله، وجحدوا وحدانيته، حتى يتفكروا فيعلموا أن الله سبحانه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة، ويعلموا أنه قادر على أن يزيد في قواهم ما يقدرون به على تعذيب الخلائق، ولو راجع الكفار عقولهم لعلموا أن من سلط ملكا واحدا على كافة بني آدم، لقبض أرواحهم، فلا يغلبونه، قادر على سوق بعضهم إلى النار، وجعلهم فيها بتسعة عشر من الملائكة (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى أنه حق، وان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم صادق من حيث أخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لها، ولا تعلم منهم (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) أي يقينا بهذا العدد وبصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخبرهم أهل الكتاب أنه مثل ما في كتابهم. (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون) أي ولئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة. والمعنى: وليستيقن من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن آمن به صحة نبوته، إذا تدبروا وتفكروا (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) اللام هنا لام العاقبة أي عاقبة أمر هؤلاء أن يقولوا هذا يعني المنافقين والكافرين. وقيل: معناه ولأن يقولوا ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد، ويتدبروه، فيؤدي بهم التدبر في ذلك إلى الإيمان (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) أي مثل ما جعلنا خزنة أصحاب النار ملائكة ذوي عدد محنة واختبارا، نكلف الخلق ليظهر الضلال والهدى، وأضافهما إلى نفسه، لأن سبب ذلك التكليف هو من جهته. وقيل: يضل عن طريق الجنة والثواب من يشاء ويهدي من يشاء إليه (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي ما يعلم جنود ربك من كثرتها أحد، إلا هو، ولم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلة جنوده، ولكن الحكمة اقتضت ذلك. وقيل: هذا جواب أبي جهل حين قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر، عن مقاتل. وقيل: معناه وما يعلم عدة الملائكة الذين خلقهم الله لتعذيب أهل النار إلا الله، عن عطاء. والمعنى: إن التسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود ما لا يعلمه إلا الله. ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: (وما هي إلا ذكرى للبشر) أي تذكرة وموعظة
[ 183 ]
للعالم ليتذكروا فيتجنبوا ما يستوجبون به ذلك. وقيل: معناه وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة للبشر من نار الآخرة حتى يتفكروا فيها، فيحذروا نار الآخرة. وقيل: ما هذه السورة إلا تذكرة للناس. وقيل: وما هذه الملائكة التسعة عشر إلا عبرة للخلق، يستدلون بذلك على كمال قدرة الله تعالى، وينزجرون عن المعاصي. (كلا والقمر (32) واليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر (34) إنها لإحدى الكبر (35) نذيرا للبشر (36) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (37) كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحب اليمين (39) في جنت يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر (42) قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا نخوض مع الخائضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى أتنا اليقين (47) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48) فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (52) كلا بل لا يخافون الاخرة (53) كلا إنه تذكرة (54) فمن شآء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشآء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة (56). القراءة: قرأ نافع وحمزة ويعقوب وخلف: (إذ) بغير ألف (أدبر) بالألف. والباقون. (إذا) بالالف (دبر) بغير الألف. وقرأ أهل المدينة، وابن عامر: (مستنفرة) بفتح الفاء. والباقون بكسر الفاء. وفي الشواذ قراءة بعضهم يرويه عن ابن كثير (انها لحد الكبر) بلا همزة. وقراءة سعيد بن جبير. (صحفا منشرة) بسكون الحاء والنون. الحجة: أبو علي. قال يونس دبر انقضى، وأدبر تولى. قال قتادة: والليل إذا أدبر: إذا ولى، ويقال دبر وأدبر. وقال: والتخفيف في (لإحدى الكبر) أن يجعل فيها الهمزة بين بين، نحو سيم. فأما حذف الهمزة، فليس بقياس. ووجه ذلك أن الهمزة حذفت حذفا كما حذفت في قوله:
[ 184 ]
ويلمها في هواء الجو طالبها، * ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (1) وقد جاء ذلك في مواضع من الشعر، قال أبو الأسود لزياد: يابا المغيرة ! رب أمر معضل * فرجته بالنكر مني، والدهاء (2) وقال آخر: إن لم أقاتل فالبسوني برقعا، * وفتخات في اليدين أربعا (3) وأنشد أحمد بن يحيى: إن كان حزن لك بافقيمة * باعك عبدا بأخس قيمة وقال الفرزدق: وعليك إثم عطية بن الخطفي، * وإثم التي زجرتك، إن لم تجهد قال: والكسر في (مستنفرة) أولى لقوله: (فرت من قسورة)، فهذا يدل على أنها هي استنفرت. ويقال: نفر واستنفر، مثل سخر واستسخر، وعجب واستعجب. ومن قال (مستنفرة) فكأن القسورة استنفرتها والرامي. قال أبو عبيدة: مستنفرة مذعورة. وأنشد الزجاج: أمسك حمارك إنه مستنفر، * في إثر أحمرة عمدن لغرب (4) ورويت بالكسر أيضا. قال ابن سلام: سألت أبا سوار العرني، وكان أعرابيا فصيحا، قارئا للقرآن، فقلت: كأنهم حمر ماذا قال حمر مستنفرة طردها قسورة. قلت: إنما هو فرت من قسورة. فقال: أفرت ؟ قلت: نعم. فقال: مستنفرة. قال ابن جني: أما سكون الحاء من (صحف) فلغة تميمية، وأما (منشرة) بسكون (1) الشاهد في (ويلمها) فإن أصله (ويل أمها) فحذفت همزة أم. (2) والشاهد في حذف الهمزة من أبا مغيرة. وكذا في أبا فقيمة في الشعر الآتي. (3) فتخات جمع الفتخة: حلقة من فضة كالخاتم لا فص فيها. والشاهد في حذف الهمرة من (فالبسوني). (4) غرب: اسم جبل دون الشام إلى العراق في ديار بني كلب. وفي المعاجم الكبرى: موضع تلقاء الستار (*).
[ 185 ]
النون، فإن العرف في الإستعمال نشرت الثوب وغيره، وأنشر الله الموتى فنشروا هم قال: وقد جاء عنهم أيضا. نشر الله الميت، قال المتنبي: ردت صنائعه إليه حياته، * فكأنه من نشرها منشور ولم نعلمهم قالوا أنشرت الثوب ونحوه، إلا أنه يجوز أن يشبه بشئ، وكما جاز أن يشبه الميت بالشئ المطوي حتى قال المتنبي منشور، فكذلك يجوز أن يشبه المطوي بالميت فيقال: صحف منشرة أي: كأنها بطيها ميتة، فلما نشرت قيل: منشرة. اللغة: اليقين: العلم الذي يوجد برد الثقة به في الصدر، ويقال: وجد فلان برد اليقين، وثلج اليقين في صدره، ولذلك لا يوصف سبحانه بأنه متيقن. والقسورة: الأسد. وقيل: هم الرماة من قسره يقسره قسرا إذا قهره. وأصل الفرار الإنكشاف عن الشئ، ومنه يقال: فر الفرس يفر فرا إذا كشف عن سنه. والصحف: جمع الصحيفة، وهي الورقة التي من شأنها أن تقلب من جهة إلى جهة لما فيها من الكتابة، ومنه المصحف، وجمعه مصاحف. الاعراب: (نذيرا للبشر): اختلف في وجه انتصابه، فقيل: نصب على الحال، وهو إسم فاعل بمعنى منذر، وذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد إلى الهاء في أنها وهي كناية عن النار. فالمعنى: إنها لكبيرة في حال الإنذار، وإنما ذكره لأن معناه معنى العذاب. ويجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طالق أي: ذات طلاق، وكذلك نذير بمعنى ذات إنذار. وقيل: هو حال يتعلق بأول السورة، فكأنه قال: يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر. وقيل. إن النذير هنا بمعنى الإنذار، وتقديره: إنذارا للبشر، فيكون نصبا على المصدر، لأنه لما قال: إنها لإحدى الكبر، دل على أنه أنذرهم بها إنذارا. وقوله: (معرضين) منصوب على الحال مما في اللام من قوله (فما لهم) من معنى الفعل، والتقدير: أي شئ ثبت لهم معرضين عن التذكرة، و (كأنهم حمر مستنفرة): جملة في موضع الحال من معرضين، وهي حال من حال، أو حال بعد حال أي. مشابهين حمرا. المعنى: ثم أقسم سبحانه على عظيم ما ذكره من الوعيد، فقال: (كلا) أي حقا. وقيل: معناه ليس الأمر على ما يتوهمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار
[ 186 ]
وغلبتهم. (والقمر) أقسم بالقمر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه وغروبه ومسيره وزيادته ونقصانه. (والليل إذ أدبر) وأقسم بالليل إذا ولى وذهب، عن قتادة. وقيل: أدبر إذا جاء بعد غيره، وأدبر. إذا ولى مدبرا. فعلى هذا يكون المعنى في إذ أدبر إذا جاء الليل في أثر النهار. وفي إذا دبر: إذا ولى الليل فجاء الصبح عقيبه. وعلى القول الأول فهما لغتان معناهما ولى وانقضى. (والصبح إذا أسفر) أي إذا أضاء وأنار، عن قتادة، وهو قسم آخر. وقيل: معناه إذا كشف الظلام وأضاء الأشخاص. وقال قوم: التقدير في هذه الأقسام، ورب هذه الأشياء، لأن اليمين لا يكون إلا بالله تعالى. (إنها لإحدى الكبر) هذا جواب القسم يعني إن سقر التي هي النار لإحدى العظائم. والكبر: جمع الكبرى، وهي العظمى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: معناه إن آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد (نذيرا للبشر) أي منذرا ومخوفا معلما مواضع المخافة والنذير الحكيم بالتحذير، عما ينبغي أن يحذر منه، فكل نبي نذير، لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى، على معاصيه. واختلف فيه فقيل: إنه من صفة النار، عن الحسن. وقيل: من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكأنه قال قم نذيرا، عن ابن زيد. وقيل: من صفة الله تعالى، عن ابن رزين. وعلى هذا يكون حالا من فعل القسم المحذوف. (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) أي يتقدم في طاعة الله، أو يتأخر عنها بالمعصية، عن قتادة. والمشيئة هي الإرادة، فيكون المعنى إن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي، ويفعل الطاعات، فيقدر على التقدم والتأخر في أمره بخلاف قول أهل الجبر القائلين مالا يطاق. وقيل: إنه سبحانه عبر عن الإيمان والطاعة بالتقدم، لأن صاحبه متقدم في العقول والدرجات، وعن الكفر والمعصية بالتأخير، لأنه متأخر في العقول والدرجات. وروى محمد بن الفضيل، عن أبي الفضل، عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر، وكل من تأخر عن ولايتنا، تقدم إلى سقر (كل نفس بما كسبت رهينة) أي مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أو من معصية، فالرهن أخذ الشئ بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه. قال زهير:
[ 187 ]
وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع، فأمسى الرهن قدغلقا (1) فكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له. والكسب هو كل ما يجتلب به نفع، أو يدفع به ضرر، ويدخل فيه الفعل، وأن لا يفعل. ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال: (إلا أصحاب اليمين). وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقيل: هم الذين يسلك بهم ذات اليمين. قال قتادة: غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين، وهم الذين لا ذنب لهم فهم ميامين على أنفسهم. وقيل: هم المؤمنون المستحقون للثواب، عن الحسن. وقيل: هم الملائكة، عن ابن عباس. وقال الباقر عليه السلام: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين. (في جنات يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا. وقيل: يساءلون (عن المجرمين) أي عن حالهم، وعن ذنوبهم التي استحقوا بها النار. (ما سلككم في سقر) هذا سؤال توبيخ أي يتطلع أهل الجنة على أهل النار، فيقولون لهم ما أوقعكم في النار (قالوا لم نك من المصلين) أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قررها الشرع. وفي هذا دلالة على أن الإخلال بالواجب يستحق به الذم والعقاب، لأنهم علقوا استحقاقهم العقاب بالإخلال في الصلاة. وفيه دلالة أيضا على أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية، لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله: (وكنا نكذب بيوم الدين). وقوله: (ولم نك نطعم المسكين) معناه لم نك نخرج الزكوات التي كانت واجبة علينا، والكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين، وهم الفقراء. (وكنا نخوض مع الخائضين) أي: كلما غوى غاو بالدخول في الباطل، غوينا معه، عن قتادة. والمعنى: كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل، كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يجرون مع من يكذب بالحق، مشيعين لهم في القول، كانوا خائضين معهم. (وكنا نكذب بيوم الدين) مع ذلك أي نجحد يوم الجزاء، وهو يوم القيامة. والجزاء هو الإيصال إلى كل من له شئ أم عليه شئ ما يستحقه. فيوم الدين هو يوم أخذ المستحق بالعدل (حتى أتانا اليقين) أي أتانا الموت على هذه الحالة. وقيل: حتى جاءنا العلم اليقين من ذلك بأن عايناه. (1) الغلق في الرهن: ضد الفك، فإذا فك الراهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. يذكر زهير في هذا البيت امرأة معناه: أنها ارتهنت قلبه، ورهنت به (*).
[ 188 ]
(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي شفاعة الملائكة والنبيين كما نفعت الموحدين، عن ابن عباس في رواية عطاء. وقال الحسن: لم تنفعهم شفاعة ملك، ولا شهيد، ولا مؤمن. ويعضد هذا الإجماع على أن عقاب الكفر لا يسقط بالشفاعة. وقد صحت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال: يشفع نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع أكثر مما يشفع فيه نبيكم صلى الله عيله وآله وسلم، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: (ما سلككم في سقر) إلى قوله (فما تنفعهم شفاعة الشافعين). قال ابن مسعود. فهؤلاء الذين يبقون في جهنم. وعن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة: أي رب عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفعني فيه، فيقول: إذهب فأخرجه من النار، فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أمتي من سيدخل الله الجنة بشفاعته أكثر من مضر). (فما لهم عن التذكرة معرضين) أي أي شئ لهم، ولم أعرضوا وتولوا عن القرآن، فلم يؤمنوا به. والتذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والمعنى: لا شئ لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن، ونفروا عنه (كأنهم حمر مستنفرة) أي كأنهم حمر وحشية نافرة (فرت من قسورة) يعني الأسد، عن عطاء والكلبي. قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، كذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن هربوا منه. وقيل: القسورة الرماة، ورجال القنص (1)، عن ابن عباس بخلاف، والضحاك ومقاتل ومجاهد. وقال سعيد بن جبير: هم القناص (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) أي كتبا من السماء تنزل إليهم بأسمائهم، أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن وقتادة وابن زيد. وقيل: معناه أنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة، وإسباغ النعمة حتى يؤمنوا، وإلا أقاموا على كفرهم. وقيل: يريد كل واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه متبوعا، وأنف من أن يكون تابعا. وقيل: هو تفسير ما ذكره الله تعالى في قوله (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه). القنص: الصيد (*).
[ 189 ]
فقال سبحانه. (كلا) أي حقا ليس الأمر على ما قالوا، ولا يكون كذلك (بل لا يخافون الآخرة) بجحدهم صحتها، ولو خافوا عذاب الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالات والمعجزات (كلا) أي حقا (إنه تذكرة) أي إن القرآن تذكير وموعظة (فمن شاء ذكره) أي اتعظ به، لأنه قادر عليه (وما يذكرون إلا أن يشاء الله) هذه المشيئة غير الأولى، إذ لو كانت واحدة لتناقض. فالأولى مشيئة اختيار، والثانية مشيئة إكراه وإجبار. والمعنى. إن هؤلاء الكفار لا يذكرون إلا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك. وقيل: معناه إلا أن يشاء الله من حيث أمر به، ونهى عن تركه، ووعد الثواب على فعله، وأوعد بالعقاب إن لم تفعله، فكانت مشيئته سابقة أي: لا تشاؤون إلا والله قد شاء ذلك (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) أي هو أهل أن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب، عن قتادة. وروي مرفوعا عن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية، فقال. (قال الله سبحانه: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له). وقيل: معناه وهو أهل أن يتقى عقابه، وأهل أن يعمل له بما يؤدي إلى مغفرته.
[ 190 ]
75 - سورة القيامة مكية وآياتها أربعون أربعون آية كوفي وتسع وثلاثون في الباقين. اختلافها: آية لتعجل به كوفي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم القيامة، أنه كان مؤمنا بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة). أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أدمن قراءة لا أقسم، وكان يعمل بها، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره، في أحسن صورة تبشر وتضحك في وجهه حتى يجوز الصراط، والميزان. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة المدثر بذكر القيامة، وأن الكافر لا يؤمن بها، افتتح هذه السورة بذكر القيامة، وذكر أهوالها فقال: بسمه الله الرحمن الرحيم (لا أقسم بيوم القيامة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2) أ يحسب الانسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4) بل يريد الانسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة (6) فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9) يقول الانسان يؤمئذ أين المفر (10) كلا لا وزر (11) إلى ربك يؤمئذ المستقر (12) ينبؤا والانسان يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الانسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15). القراءة: قرأ القواس: (لأقسم) والباقون: (لا أقسم) ولم يختلفوا في
[ 191 ]
الثاني أنه: (ولا أقسم). وقرأ أهل المدينة: (برق البصر) بفتح الراء. والباقون: (برق) بالكسر. وفي الشواذ قراءة ابن عباس وعكرمة وأيوب السختياني (1) والحسن: (المفر) بفتح الميم، وكسر الفاء، وقراءة الزهري: (المفر) بكسر الميم، وفتح الفاء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (لا أقسم بيوم القيامة) كانت (لا) على قوله صلة كالتي في قوله (لئلا يعلم أهل الكتاب). فإن قلت: لا وما والحروف التي هن زوائد، إنما تكون بين كلامين كقوله (مما خطيئاتهم) و (فبما رحمة من الله). و (فبما نقضهم) ولا تكاد تزاد أولا، فقد قالوا: إن مجاري القرآن مجاري الكلام الواحد والسورة الواحدة قال: والذي يدل على ذلك أنه قد يذكر الشئ في سورة، ويجئ جوابه في سورة أخرى كقوله: (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) جاء جوابه في سورة أخرى (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) فلا فصل على هذا بين قوله (لئلا يعلم)، وبين قوله: (لا أقسم). فأما من قرأ (لأقسم) فإن اللام تجوز أن تكون اللام التي تصحبها إحدى النونين في أكثر الأمر. وقد حكى ذلك سيبويه وأجازه، وكما لم يلحق النون مع الفعل الآتي في (لأقسم) كذلك لم يلحق اللام مع النون في نحو قول الشاعر. وقتيل مرة أثأرن فإنه * فرغ وإن أخاكم لم يثأر (2) يريد: لأثارن، فحذف اللام. ويجوز أن يكون اللام لحقت فعل الحال. وإذا كان المثال للحال، لم يتبعها النون، لأن هذه النون التي تلحق الفعل في أكثر الأمر، إنما هي للفصل بين فعل الحال، والفعل الآتي. وقد يمكن أن يكون لا ردا لكلام. وزعموا أن الحسن قرأ (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة). وقال أقسم بالأولى، ولم يقسم بالثانية. وحكي نحو ذلك عن ابن أبي إسحاق أيضا. وذكر أبو علي في غير كتاب الحجة أن اللام زيادة، لأن القسم لا يدخل على القسم. وقال (1) هو أيوب بن تميمة كيسان العنبري البصري السختياني، نسبة إلى عمل السختيان، وهو جلد الماعز إذا دبغ، أو بيعه. وفي بعض النسخ السجستاني. وهذا الإختلاف موجود في كتب الرجال أيضا. (2) الشعر في (جامع الشواهد) (*).
[ 192 ]
ابن جني: ينبغي أن تكون هذه اللام لام الإبتداء أي: لأنا أقسم بيوم القيامة وحذف المبتدأ للعلم به. وقال أبو الحسن: برق البصر أكثر في كلام العرب، والمفتوحة لغة. قال الزجاج: من قرأ برق فمعناه فزع وتحير. ومن قرأ برق فهو من بريق العينين، وقال أبو عبيدة: برق البصر إذا شق وأنشد: لما أتاني ابن صبيح راغبا * أعطيته عيساء منها فبرق (1) والمفر: الفرار. والمفر بكسر الفاء: الموضع الذي يفر إليه. والمفر: بكسر الميم، وفتح الفاء: الإنسان الجيد الفرار. وقال امرؤ القيس: مكر، مفر، مقبل، مدبر، معا، * كجلمود صخر حطه السيل من عل (2) الاعراب: (بلى قادرين): نصب على الحال، والتقدير: بلى بجمعها قادرين. فالعامل في الحال محذوف لدلالة ما تقدم عليه، كما في قوله (فإن خفتم فرجالا) أي فصلوا رجالا. ومفعول يريد محذوف تقديره بل يريد الإنسان الحياة. ليفجر ويسأل: جملة في موضع الحال. و (لا وزر): خبره محذوف وتقديره لا وزر في الوجود. وقوله (بل الانسان على نفسه بصيرة) قيل في تفسيره أقوال أحدها: إن المعنى بل الإنسان على نفسه عين بصيرة والثاني: حجة بصيرة أي: بينة والثالث: إن الهاء للمبالغة، كما يقال رجل علامة ونسابة. وقال علي بن عيسى: تقديره بل الإنسان على نفسه من نفسه بصيرة أي: جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة، فأنث بصيرة، لأنه حمل الإنسان على النفس. وجواب (لو) محذوف تقديره: ولو ألقى معاذيره، لم ينفعه ذلك. ويجوز أن يكون جوابه فيما سبق. المعنى: (لا أقسم بيوم القيامة) قيل: إن لا صلة ومعناه أقسم بيوم القيامة، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقيل: إن لا رد على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين، فكأنه قال: لا كما تظنون. ثم ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة إنكم مبعوثون، ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا، وبين اليمين المستأنفة. (1) قائله أبو عبيدة الكلابي، والعيساء: الإبل البيض يخالط بياضها شئ من الشقرة. (2) البيت من معلقته المعروفة، يصف فيه شدة عدو فرسه. ومفعل من أوصاف المبالغة. والجلمود: الحجر العظيم. ومعنى مقبل مدبر معا: إنه سلس العنان، فكيف إذا أعانته قوة دفاع السيل من عل، فهو حال تدحرجه يرى وجهه في الآن الذي يرى فيه ظهره لسرعة تقلبه وبالعكس. (*).
[ 193 ]
وقيل: معناه لا أقسم بيوم القيامة لظهورها بالدلائل العقلية والسمعية. وقيل: معناه لا أقسم بيوم القيامة، فإنكم لا تقرون بها. (ولا أقسم بالنفس اللوامة) فإنكم لا تقرون بأن النفس تلوم صاحبها يوم القيامة. ولكن أستخبركم فأخبروني هل أقدر على أن أجمع العظام المتفرقة، وهذان الوجهان عن أبي مسلم. وقيل: معناه أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة. أقسم بالأول، ولم يقسم بالثاني، عن الحسن. قال علي بن عيسى. وهذا ضعيف، لأنه يخرج عن تشاكل الكلام. والأولى أن يكونا قسمين، وهو قول الأكثرين. وجواب القسم محذوف تقديره ما الأمر على ما تتوهمون، وإنكم تبعثون، أو لتبعثن، ومن قرأ (لأقسم) فإنه يجعلها جواب القسم، وحذف النون لأنه أراد الحال. وقد ذكرنا ما قيل فيه. والنفس اللوامة: الكثيرة اللوم. وليس من نفس برة، ولا فاجرة، إلا وهي تلوم نفسها يوم القيامة، إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت: يا ليتني لم أفعل، عن ابن عباس، في رواية عطاء. وقال مجاهد: تلوم على ما مضى، تقول: لم فعلت، ولم لم أفعل. وقيل: النفس اللوامة. الكافرة الفاجرة، عن قتادة ومجاهد. ومعناه: ذات اللوم الكثير لما سلف منها. وقيل: هي النفس المؤمنة، تلوم نفسها في الدنيا، وتحاسبها، فتقول: ماذا فعلت ؟ ولم قصرت ؟ فتكون مفكرة في العواقب أبدا. والفاجر: لا يفكر في أمر الآخرة، ولا يحاسب نفسه، عن الحسن. (أيحسب الإنسان) صورته صورة الإستفهام، ومعناه الإنكار على منكري البعث ومعناه: أيحسب الكافر بالبعث والنشور، يعني جنس الكفار (أن لن نجمع عظامه) أي أنه لن نعيده إلى ما كان أولا خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا، فكنى عن البعث بجمع العظام. ثم قال سبحانه: (بلى) نجمعها (قادرين على أن نسوي بنانه) على ما كانت، وإن قلت عظامها وصغرت، فنردها كما كانت، ونؤلف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على جمع صغار العظام، فهو على جمع كبارها أقدر، عن الزجاج، والجبائي، وأبي مسلم. وقيل: معناه نقدر على أن نجعل بنانه كالخف والحافر، فيتناول المأكول بفيه، ولكنا مننا عليه بالأنامل، ليكمل بها المنفعة، ويتهيأ له القبض والبسط، والإرتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة وغيرها، عن ابن عباس، وقتادة.
[ 194 ]
(بل يريد الإنسان) أي يريد الكافر (ليفجر أمامه) هذا إخبار من الله تعالى أن الإنسان يمضي قدما في معاصي الله تعالى، راكبا رأسه، لا ينزع عنها ولا يتوب، عن مجاهد والحسن وعكرمة والسدي، أي فهذا هو الذي يحمله على الإعراض عن مقدورات ربه، فلذلك لا يقر بالبعث، وينكر النشور. وقيل: ليفجر أمامه أي ليفكر بما قدامه من البعث، ويكذب به، فالفجور هو التكذيب. وعن الزجاج قال: ويجوز أن يريد أنه يسوف التوبة، ويقدم الأعمال السيئة. وقال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد عمره، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه. وقيل: معناه أنه يقول أعمل ثم أتوب، عن عطية، والمراد أنه يتعجل المعصية، ثم يسوف التوبة، يقول غدا، وبعد غد (يسأل أيان يوم القيامة) معناه: إن الذي يفجر أمامه يسأل متى تكون القيامة، فإن معنى أيان متى، إلا أن السؤال بمتى أكثر من السؤال بأيان فلذلك حسن أن يفسر بها، وإنما يسأل عن ذلك تكذيبا واشتغالا بالدنيا، من غير تفكر في العاقبة، فإذا خوف بالقيامة قال: متى يكون ذلك. ثم قال سبحانه: (فإذا برق البصر) أي شخص البصر عند معاينة ملك الموت، فلا يطرف من شدة الفزع. وقيل: إذا فزع وتحير لما يرى من أهوال القيامة، وأحوالها مما كان يكذب به في الدنيا. وهذا كقوله لا يرتد إليهم طرفهم، عن قتادة، وأبي مسلم (وخسف القمر) أي ذهب نوره وضوؤه (وجمع الشمس والقمر) جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف، ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتى يراها كل أحد بغير نور وضياء، عن مجاهد، وهو اختيار الفراء، والزجاج. والجمع على ثلاثة أقسام جمع في المكان، وجمع في الزمان، وجمع الأعراض في المحل. فأما جمع الشيئين في حكم أو صفة، فمجاز، لأن حقيقة الجمع جعل أحد الشيئين مع الآخر. وقيل: جمع بينهما في طلوعهما من المغرب، كالبعيرين القرينين، عن ابن مسعود (يقول الإنسان) المكذب بالقيامة (يومئذ أين المفر) أي أين الفرار، ويجوز أن يكون معناه: أين موضع الفرار، عن الفراء. وقال الزجاج: المفر بالفتح الفرار. والمفر بالكسر مكان الفرار. قال الله سبحانه (كلا لا وزر) أي لا مهرب، ولا ملجأ لهم يلجأون إليه. والوزر. ما يتحصن به من جبل أو غيره، ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في الأمور. وقيل: معناه لا حصن، عن الضحاك (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المنتهى، عن
[ 195 ]
قتادة. أي ينتهي الخلق يومئذ إلى حكمه وأمره، فلا حكم ولا أمر لأحد غيره. وقيل: المستقر المكان الذي يستقر فيه المؤمن والكافر، وذلك إلى الله، لا إلى العباد. وقيل: المستقر المصير، والمرجع، عن ابن مسعود. والمستقر على وجهين. مستقر إلى أمد، ومستقر إلى الأبد (ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأول عمله وآخره، فيجازى به، عن مجاهد. وقيل: معناه بما قدم من العمل في حياته، وما سنه فعمل به بعد موته من خير أو شر. وقيل: بما قدم من المعاصي، وأخر من الطاعات، عن ابن عباس. وقيل: بما أخذ وترك، عن ابن زيد. وقيل: بما قدم من طاعة الله، وأخر من حق الله فضيعه، عن قتادة. وقيل: بما قدم من ماله لنفسه، وما خلفه لورثته بعده، عن زيد بن أسلم. وحقيقة النبأ الخبر بما يعظم شأنه، وإنما حسن في هذا الموضع، لأن ما جرى مجرى المباح، لا يعتد به في هذا الباب، وإنما هو ما يستحق عليه الجزاء. فأما ما وجوده كعدمه فلا اعتبار به. (بل الإنسان على نفسه بصيرة) أي: إن جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه، عن ابن عباس وعكرمة ومقاتل. وقال القتيبي: أقام جوارحه مقام نفسه، ولذلك أنث لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح. وقال الأخفش. هي كقولك فلان حجة وعبرة ودليله قوله تعالى: (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) وقيل: معناه أن الإنسان بصير بنفسه وعمله. وروى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا، ويسر سيئا ؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك، والله سبحانه يقول (بل الإنسان على نفسه بصيرة إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه تلا هذه الآية، ثم قال: ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: من أسر سريرة رداه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعن زرارة قال: سألت أبا عبد الله ما حد المرض الذي يفطر صاحبه ؟ قال: بل الإنسان على نفسه بصيرة، هو أعلم بما يطيق. وفي رواية أخرى هو أعلم بنفسه ذاك إليه. (ولو ألقى معاذيره) أي ولو اعتذر وجادل عن نفسه، لم ينفعه ذلك. يقال: معذرة ومعاذر ومعاذير، وهي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب. وقيل: معناه ولو
[ 196 ]
أرخى الستور، وأغلق الأبواب، عن الضحاك، والسدي. قال الزجاج: معناه ولو أدلى بكل حجة عنده. وجاء في التفسير المعاذير: الستور، واحدها معذار. وقال المبرد: هي لغة طائية، والمعنى على هذا القول: وإن أسبل الستور ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه. (لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرءانه (17) فإذا قرأنه فاتبع قرءانه (18) ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الاخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25). القراءة: قرأ أهل المدينة والكوفة: (تحبون وتذرون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: من قرأ بالتاء فعلى معنى: قل لهم بل تحبون وتذرون. ومن قرأ بالياء فعلى معنى هم يحبون ويذرون. قال أبو علي: الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان، فإن المراد به الكثرة والعموم، كقوله: (إن الإنسان خلق هلوعا) ثم قال: (إلا المصلين). اللغة: التحريك. تصيير الشئ من مكان إلى مكان، أو من جهة إلى جهة، بفعل الحركة فيه، والحركة ما به يتحرك المتحرك، والمتحرك هو المنتقل من جهة إلى غيرها. واللسان: آلة الكلام. والعجلة: طلب عمل الشئ قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه. ونقيضه الإبطاء. والسرعة: عمل الشئ في أول الوقت الذي هو له، وضده الأناة. والقرآن: أصله الضم والجمع، وهو مصدر كالرجحان والنقصان. والبيان: إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره، ونقيض البيان الإخفاء، والإغماض. والنضرة: مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، نضر وجهه ينضر نضارة ونضرة فهو ناضر. والنظر: تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي، طلبا لرؤيته، ويكون النظر بمعنى الإنتظار كما قال عز شأنه (واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة) أي منتظرة. وقال الشاعر: وجوه، يوم بدر، ناظرات * إلى الرحمن، تنتظر الفلاحا ثم يستعمل في الفكر فيقال: نظرت في هذه المسألة أي تفكرت. ومنه المناظرة، وتكون من المقابلة، يقال: دور بني فلان تتناظر أي تتقابل. والفاقرة:
[ 197 ]
الكاسرة لفقار الظهر شدة. وقيل: الفاقرة الداهية والآبدة. المعنى: ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه القرآن، عجل بتحريك لسانه، لحبه إياه، وحرصه على أخذه وضبطه، مخافة أن ينساه، فنهاه الله عن ذلك. وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعاني من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حفظه، فكان يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، فقال سبحانه: (لا تحرك به) أي بالوحي، أو بالقرآن (لسانك) يعني بالقراءة (لتعجل به) أي لتأخذه كما قال: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) (إن علينا جمعه) في صدرك حتى تحفظه (وقرآنه) أي وتأليفه على ما نزل عليك، عن قتادة. وقيل: معناه إن علينا جمعه وقرآنه عليك حتى تحفظه، ويمكنك تلاوته، فلا تخف فوت شئ منه، عن ابن عباس، والضحاك. (فإذا قرأناه) أي قرأه جبريل عليك بأمرنا (فاتبع قرآنه) أي قراءته، عن ابن عباس، والمعنى اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته. قال: فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا، إذا نزل عليه جبريل عليه السلام أطرق، فإذا ذهب قرأ. وقيل: فاتبع قرآنه أي: فاعمل بما فيه من الأحكام، والحلال والحرام، عن قتادة، والضحاك. وقال البلخي: الذي أختاره أنه لم يرد القرآن، وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، يدل على ذلك ما قبله وما بعده، وليس فيه شئ يدل على أنه القرآن، ولا شئ من أحكام الدنيا. وفي ذلك تقريع للعبد، وتوبيخ له، حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك، يعني. إقرأ كتابك ولا تعجل، فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل، فيقال له توبيخا: لا تعجل، وتثبت لتعلم الحجة عليك، فإنا نجمعها لك، فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالإنقياد لحكمه، والإستسلام للتبعة فيه، فإنه لا يمكنك إنكاره. (ثم إن علينا بيانه) لو أنكرت. وقال الحسن: معناه ثم إن علينا بيان ما أنبأناك أنا فاعلون في الآخرة وتحقيقه، وقيل يريد: إنا نبين لك معناه إذا حفظته، عن قتادة. وقيل: معناه ثم إن علينا أن نحفظه عليك حتى تبين للناس بتلاوتك إياه عليهم. وقيل: معناه علينا أن ننزله قرآنا عربيا فيه بيان للناس، عن الزجاج. وفي هذا دلالة على أنه لا تعمية في القرآن، ولا ألغاز، ولا دلالة فيه على جواز تأخير
[ 198 ]
البيان عن وقت الحاجة، وإنما يدل على جواز تأخير البيان، عن وقت الخطاب (كلا) أي لا تتدبرون القرآن، وما فيه من البيان (بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) أي تختارون الدنيا على العقبى، فيعملون للدنيا لا للآخرة، جهلا منهم، وسوء اختيار. ثم بين سبحانه حال الناس في الآخرة فقال: (وجوه يومئذ) يعني يوم القيامة (ناضرة) أي ناعمة بهجة حسنة، عن ابن عباس، والحسن. وقيل: مسرورة، عن مجاهد. وقيل: مضيئة بيض يعلوها النور، عن السدي، ومقاتل. جعل الله سبحانه وجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة، علامة للخلق والملائكة، على أنهم الفائزون (إلى ربها ناظرة) إختلف فيه على وجهين أحدهما. إن معناه نظر العين والثاني: إنه الإنتظار. واختلف من حمله على نظر العين على قولين أحدهما: إن المراد: إلى ثواب ربها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة، حالا بعد حال، فيزداد بذلك سرورها. وذكر الوجوه والمراد أصحاب الوجوه. روى ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين لهم وغيرهم. فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: (وجاء ربك) أي أمر ربك. وقوله: (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) أي إلى طاعة العزيز الغفار، وتوحيده. وقوله. (إن الذين يؤذون الله) أي أولياء الله. والآخر: إن النظر بمعنى الرؤية والمعنى تنظر إلى الله معاينة، رووا ذلك عن الكلبي ومقاتل وعطاء وغيرهم. وهذا لا يجوز لأن كل منظور إليه. بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ، والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين، كما يجل سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع، وأيضا فإن الرؤية بالحاسة، لا تتم إلا بالمقابلة والتوجه. والله يتعالى عن ذلك بالإتفاق. وأيضا فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئي، والله منزه عن اتصال الشعاع به، على أن النظر لا يفيد الرؤية في اللغة، فإنه إذا علق بالعين أفاد طلب الرؤية، كما أنه إذا علق بالقلب، أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال، فلم أره. فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطا متناقضا. وقولهم: ما زلت أنظر إليه حتى رأيته. والشئ لا يجعل غاية لنفسه، فلا يقال: ما زلت أراه حتى رأيته، ولأنا نعلم الناظر بالضرورة، ولا نعلمه رائيا بالضرورة، بدلالة أنا نسأله هل رأيت أم لا ؟ وأما من حمل النظر في الآية على
[ 199 ]
الإنتظار، فإنهم اختلفوا في معناه على أقوال أحدها: إن المعنى منتظرة لثواب ربها، وروى ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك، وهو المروي عن علي عليه السلام. ومن اعترض على هذا بأن قال: إن النظر بمعنى الإنتظار، لا يتعدى بإلى، فلا يقال: انتظرت إليه، وإنما يقال انتظرته. فالجواب عنه على وجوه: منها أنه قد جاء في الشعر بمعنى الإنتظار، معدى بإلى، كما في البيت الذي سبق ذكره: (ناظرات إلى الرحمن). وكقول جميل بن معمر: وإذا نظرت إليك من ملك، * والبحر دونك، جدتني نعما (1) وقول الآخر: إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر ونظائره كثيرة. ومنها أن تحمل إلى في قوله (إلى ربها ناظرة) علي أنها إسم، فهو واحد الآلاء التي هي النعم، فإن في واحدها أربع لغات: (إلى وألى مثل معا وقفا، وألي وإلي، مثل جدي وحسي. وسقط التنوين بالإضافة. وقال أعشى وائل: أبيض لا يرهب الهزال، ولا * يقطع رحما، ولا يخون إلى أي لا يخون نعمة من أنعم عليه. وليس لأحد أن يقول إن هذا من أقوال، المتأخرين، وقد سبقهم الإجماع، فإنا لا نسلم ذلك لما ذكرناه من أن عليا عليه السلام ومجاهدا والحسن وغيرهم قالوا: المراد بذلك تنتظر الثواب، ومنها: إن لفظ النظر يجوز أن يعدى بإلى في الإنتظار على المعنى، كما أن الرؤية عديت بإلى في قوله تعالى. (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) فأجرى الكلام على المعنى، ولا يقال رأيت إلى فلان. ومن إجراء الكلام على المعنى، قول الفرزدق: ولقد عجبت إلى هوازن أصبحت * مني تلوذ ببطن أم جرير (2) فعدى عجبت بإلى، لأن المعنى نظرت وثانيها: إن معناه مؤملة لتجديد الكرامة (1) قوله: البحر دونك أي أقل منك في الجود، والمعنى: إذا رجوت عطائك، وأنت من الملوك. والحال أن البحر أقل جودا منك زدتني نعما.. (2) البيت من قصيدة يهجو فيها جريرا. وفي بعض النسخ بنظر أم جرير، والبظر - بفتح (*).
[ 200 ]
كما يقال عيني ممدودة إلى الله تعالى، وإلى فلان، وأنا شاخص الطرف إلى فلان، ولما كانت العيون بعض أعضاء الوجوه، أضيف الفعل الذي يقع بالعين إليها، عن أبي مسلم وثالثها: إن المعنى أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شئ سوى الله تعالى ووجوده دون غيره، فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر، ألا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان، وتطمع في إفضاله عليها، وإسعافه في حوائجها، فنظر الناس مختلف: فناظر إلى سلطان، وناظر إلى تجارة، وناظر إلى زراعة، وناظر إلى ربه يؤمله، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى. وعلى هذا فإن هذا الإنتظار متى يكون. فقيل: إنه بعد الإستقرار في الجنة. وقيل: إنه قبل استقرار الخلق في الجنة والنار، فكل فريق ينتظر ما هو له أهل. وهذا اختيار القاضي عبد الجبار. وذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يحمل على المعنيين جميعا، ولا مانع لنا من حمله على الوجهين، فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المعد لهم في الحال من أنواع النعيم، وينتظرون أمثالها حالا بعد حال، ليتم لهم ما يستحقونه من الإجلال. ويسأل على هذا فيقال: إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة، وبمعنى الإنتظار مجازا، فكيف يحمل عليهما ؟ والجواب. إن عند أكثر المتكلمين في أصول الفقه، يجوز أن يرادا بلفظة واحدة إذ لا تنافي بينهما، وهو اختيار المرتضى، قدس الله روحه، ولم يجوز ذلك أبو هاشم، إلا إذا تكلم به مرتين، مرة يريد النظر، ومرة يريد الإنتظار. وأما قولهم: المنتظر لا يكون نعيمه خالصا، فكيف يوصف أهل الجنة بالإنتظار ؟ فالجواب عنه: إن من ينتظر شيئا لا يحتاج إليه في الحال، وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته، فإنه لا يهتم بذلك، ولا يتنغص سروره به، بل ذلك زائد في نعيمه، وإنما يلحق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال، ويلحقه بفوته مضرة وهو غير واثق بالوصول إليه، وقد قيل في إضافة النظر إلى الوجوه: إن الغم والسرور إنما يظهران في الوجوه، فبين الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة، تهلل وجهه، وأن الكافر العاصي يخاف مغبة أفعاله القبيحة، فيكلح وجهه، وهو قوله (ووجوه يومئذ باسرة) أي كالحة عابسة متغيرة (تظن أن يفعل بها فاقرة) أي تعلم وتستيقن أنه يعمل بها داهية تفقر ظهورهم أي تكسرها. وقيل: إنه على حقيقة الظن أي يظنون حصولها جملة، ولا يعلمون تفصيلها. وهذا أولى من الأول،
[ 201 ]
لأنه لو كان بمعنى العلم، لكان (أن) بعده مخففة من (أن) الثقيلة على ما ذكر في غير موضع. وذكر سبحانه هذه الوجوه الظانة في مقابلة الوجوه الناظرة، فهؤلاء يرجون تجديد الكرامة، وهؤلاء يظنون حلول الفاقرة. فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارة على الضد من حال الوجوه الظانة للفاقرة. النظم: وجه اتصال قوله (لا تحرك به لسانك) بما قبله أنه لما تقدم ذكر القيامة والوعيد، خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا تحرك به لسانك لتعجل قراءته، بل كررها عليهم ليتقرر في قلوبهم، فإنهم غافلون عن الأدلة، ألهاهم حب العاجلة، فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وتقرير. (كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك فأولى (35) أيحسب الانسن أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم، كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكرو الأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40). القراءة: قرأ حفص، ورويس: (يمنى) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قال أبو علي من قرأ بالتاء حمله على النطفة أي: لم يك نطفة تمنى من مني. ومن قرأ بالياء حمله على المني أي من مني يمنى يقدر خلق الإنسان وغيره منها. قال: منت لك أن تلقى ابن هند منية * وفارس مياس إذا ما تلببا (1) وقال آخر: لعمر أبي عمرو، لقد ساقه المنى * إلى جدث يؤزى له بالأهاضب (2) (1) قوله: (منت لك) أي: قدرت لك. والمياس: المتبختر. وتلبب الرجل للحرب: تحزم وتشمر له (2) قائله: صخر الغي. والجدث: القبر. ويؤزى له أي: يسوى له. والأهاضب: جمع هضبة: ما ارتفع من الأرض (*).
[ 202 ]
أي ساقه القدر. اللغة: التراقي. جمع الترقوة، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، تترقى إليه النفس عند الموت، وإليه يتراقى البخار من الجوف، وهناك تقع الحشرجة (1). قال ذو الرمة: ورب عظيمة دافعت عنها، * وقد بلغت نفوسهم التراقي والراقي: طالب الشفاء. رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء بأسماء الله الشريفة، وآيات كتابه العظيمة. وأما العوذة فهي دفع البلية بكلمات الله تعالى، وتقول العرب: قامت الحرب على ساق يعنون شدة الأمر، قال: فإذ شمرت لك عن ساقها * فويها ربيع، ولا تسأم (2) والمطي: تمدد البدن من الكسل، وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره. وقيل: أصله يتمطط. فجعل إحدى الطائين ياء، وهو من المط بمعنى المد، كقولهم: تظنيت وأمليت، ونحو ذلك، ونهى عن مشية المطيطاء، وذلك أن يلقي الرجل يديه مع التكفي في مشيته. أولى لك: كلمة وعيد وتهديد، قالت الخنساء: هممت بنفسي كل الهموم، فأولى بنفسي، أولى لها والسدى: المهمل. والعلقة: القطعة من الدم المنعقد. الاعراب: في إعراب (أولى) وجوه أحدها: أن يكون مبتدأ وخبره لك والآخر: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره. الشر أولى لك، فعلى هذا يكون اللام في لك للإختصاص، كأنه قال: الشر أولى لك من الخير. ويجوز أن يكون بمعنى من تقديره الشر أقرب منك. و (سدى): منصوب على الحال من قوله (يترك). المعنى: ثم بين سبحانه حالهم عند النزع فقال: (كلا) أي ليس يؤمن الكافر بهذا. وقيل: معناه حقا (إذا بلغت) النفس أو الروح. ولم يذكره لدلالة الكلام (1) الحشرجة: تردد النفس، والغرغرة عند الموت. (2) قوله (فويها) كذا في بعض النسخ. وفي بعضها بالقاف. وفي تفسير الطبري (فرنها) ولعل الصحيح (فؤبها) كما في بعض المطبوعة أمر من آب أي رجع. والمعنى أئبها يا ربيع. سئم من الشئ: مله (*).
[ 203 ]
عليه، كما قال: (ما ترك على ظهرها من دابة) يعني على ظهر الأرض (التراقي) أي العظام المكتنفة بالحلق، وكنى بذلك عن الإشفاء على الموت (وقيل من راق) أي وقال من حضره من أهله: هل من راق أي: طبيب شاف يرقيه، ويداويه فلا يجدونه، عن أبي قلابة والضحاك وقتادة وابن زيد. قال قتادة: التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من عذاب الله شيئا. وقيل: إن معناه قالت الملائكة من يرقى بروحه أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب، عن ابن عباس، ومقاتل. قال أبو العالية: تختصم فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، أيهم يرقى بروحه. وقال الضحاك: أهل الدنيا يجهزون البدن وأهل الآخرة يجهزون الروح. (وظن أنه الفراق) أي وعلم عند ذلك هذا الذي بلغت روحه تراقيها، أنه الفراق من الدنيا والأهل والمال والولد، والفراق ضد الوصال، وهو بعاد الألاف. وجاء في الحديث: إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته، ومفاصله يسلم بعضها على بعض، يقول: عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة. (والتفت الساق بالساق) قيل فيه وجوه أحدها: التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، عن ابن عباس، ومجاهد. والثاني: التفت حال الموت بحال الحياة، عن الحسن والثالث: التفت ساقاه عند الموت، عن الشعبي، وأبي مالك، لأنه يذهب القوة، فيصير كجلد يلتف بعضه ببعض. وقيل: هو أن يضطرب فلا يزال يمد إحدى رجليه، ويرسل الأخرى، ويلف إحداهما بالأخرى، عن قتادة. وقيل: هو التفاف الساقين في الكفن. والرابع: إلتف ساق الدنيا بساق الآخرة، وهو شدة كرب الموت، بشدة هول المطلع. والمعنى في الجميع أنه تتابعت عليه الشدائد، فلا يخرج من شدة إلا جاءه أشد منها. (إلى ربك يومئذ المساق) أي مساق الخلائق إلى المحشر، الذي لا يملك فيه الأمر والنهي غير الله تعالى. وقيل: يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به، إن كان من أهل الجنة فإلى عليين، وإن كان من أهل النار فإلى سجين، والمساق موضع السوق (فلا صدق ولا صلى) أي لم يتصدق بشئ، ولم يصل لله (ولكن كذب) بالله (وتولى) عن طاعته، عن الحسن. وقيل: معناه لم يصدق بكتاب الله، ولا صلى لله، ولكن كذب بالكتاب والرسول، وأعرض عن الإيمان، عن قتادة (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) أي: يرجع إليهم يتبختر ويختال في مشيته.
[ 204 ]
وقيل: إن المراد بذلك أبو جهل بن هشام. (أولى لك فأولى) وهذا تهديد من الله له، والمعنى وليك المكروه يا أبا جهل، وقرب منك. وجاءت الرواية أن رسول الله أخذ بيد أبي جهل، ثم قال له أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شئ تهددني، لا تستطيع أنت، ولا ربك، أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعز أهل هذا الوادي ! فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: معناه الذم أولى لك من تركه، إلا أنه حذف، وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك، وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره. وقيل: هو وعيد على وعيد، عن قتادة، ومعناه وليك الشر في الدنيا وليك، ثم وليك الشر في الآخرة وليك. والتكرار للتأكيد. وقيل: بعدا لك من خيرات الدنيا،. بعدا لك من خيرات الآخرة، عن الجبائي. وقيل: أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر، فأولى لك في القبر. (ثم أولى لك) يوم القيامة، فلذلك أدخل ثم (فأولى) لك في النار. (أيحسب الإنسان) يعني أبا جهل (أن يترك سدى) مهملا لا يؤمر ولا ينهى، عن ابن عباس، ومجاهد. والألف للإستفهام، والمراد الإنكار أي لا ينبغي أن يظن ذلك. وقيل: إنه عام أي أيظن الإنسان الكافر بالبعث، الجاحد لنعم الله، أن يترك مهملا من غير أمر يؤخذ به، فيكون فيه تقويم له، وإصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره، وأجمل به في دنياه وآخرته (ألم يك نطفة من مني يمنى) أي كيف يظن أن يهمل، وهو يرى في نفسه، ومن تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعا حكيما، أكمل عقله، وأقدره، وخلق فيه الشهوة، فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف. ومعنى قوله (يمنى) أي يقدر. وقيل: معناه يصب في الرحم (ثم كان علقة فخلق) منها خلقا في الرحم (فسوى) خلقه وصورته وأعضاءه الباطنة والظاهرة في بطن أمه. وقيل: فسواه إنسانا بعد الولادة، وأكمل قوته. وقيل: معناه فخلق الأجسام فسواها للأفعال، وجعل لكل جارحة عملا يختص بها. (فجعل منه) أي من الإنسان (الزوجين الذكر والانثى) وقيل من المني. وهذا إخبار من الله سبحانه أنه لم يخلق الإنسان من المني، ولم ينقله من حال إلى حال، ليتركه مهملا، فإنه لا بد من غرض في ذلك، وهو التعريض للثواب بالتكليف. (أليس ذلك) الذي فعل هذا (بقادر على أن يحيي الموتى) هذا تقرير
[ 205 ]
لهم على أن من قدر على الإبتداء قدر على البعث والإحياء، فإن من قدر على جعل النطفة علقة، والعلقة مضغة، إلى أن يجعلها حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس، والأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر، وخلق الزوجين الذكر والأنثى اللذين يصح بهما التناسل، فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيا. وجاء في الحديث عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبحانك اللهم، وبلى). وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي، فإنه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.
[ 206 ]
76 - سورة الإنسان مدنية وآياتها احدى وثلاثون وتسمى سورة الدهر، وتسمى سورة الأبرار، ومنهم من يسميها بفاتحتها، واختلفوا فيها فقيل: مكية كلها. وقيل: مدنية كلها، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: إنها مدنية إلا قوله (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) فإنه مكي، عن الحسن، وعكرمة، والكلبي. وقيل: إن قوله (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) إلى آخر السورة مكي والباقي مدني. عدد آيها: إحدى وثلاثون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنة وحريرا). وقال أبو جعفر عليه السلام: من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس، زوجه الله من الحور العين مائة عذراء، وأربعة آلاف ثيب، وكان مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: ختم الله سبحانه يوم القيامة بأن دل على صحة البعث بخلق الإنسان من نطفة، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال: بسمه الله الرحمن الرحيم (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (1) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) إنآ أعتدنا للكفرين سلاسلاو أغلالا وسعيرا (4) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد
[ 207 ]
الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا (10). القراءة: قرأ أهل المدينة وأبو بكر عن عاصم والكسائي: (سلاسلا) بالتنوين، وكذلك (قواريرا قواريرا) (1) ويقفون بالألف على الجميع. وقرأ ابن كثير، وخلف: (سلاسل) بغير تنوين و (قواريرا قوارير) الأول بالتنوين، والثاني بغير تنوين ويقفان على سلاسل، وقوارير الثانية بغير الألف. وقرأ حمزة ويعقوب بغير تنوين في الجميع، ويقفان بغير ألف عليها. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص بغير تنوين فيها أيضا، إلا أنهم يقفون على سلاسل وقواريرا الأولى بالألف، وعلى قوارير الثانية بغير ألف، غير أن شجاعا يقف على سلاسل أيضا بغير ألف. الحجة: قال أبو علي: حجة من صرف سلاسلا وقواريرا في الوصل والوقف أمران أحدهما: إن أبا الحسن قال: سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف قال: وهذه لغة أهل الشعر، لأنهم اضطروا إليه في الشعر، فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، واحتملوا ذلك في الشعر، لأنه يحتمل الزيادة، كما يحتمل النقص. فاحتملوا زيادة التنوين. والأمر الآخر: إن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قالوا صواحبات يوسف، فلما جمعت جمع الآحاد المنصرفة، جعلوه في حكمها، فصرفوها. قال أبو الحسن: وكثير من العرب يقول مواليات يريد الموالي، وأنشد للفرزدق: فإذا الرجال رأوا يزيد، رأيتهم، * خضع الرقاب، نواكسي الأبصار (2) فهذا كأنه جمع نواكس. ومن قرأ بغير تنوين ولا ألف. فإنه جعله كقوله: (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) وإلحاق الألف في سلاسل وقوارير، كإلحاقه في قوله: الظنونا والسبيلا والرسولا يشبه ذلك بالإطلاق في القوافي من حيث كانت مثلها في أنها كلام تام. (1) أي فيما يأتي في آية 15 - 16 من هذه السوة. (2) وفي رواية الفراء والكسائي: (نواكس الأبصار) بغير الياء مفتوحا. (*).
[ 208 ]
اللغة: الدهر: مرور الليل والنهار، وجمعه أدهر ودهور. وأصل النطفة الماء القليل. وقد تقع على الكثير، قال أمير المؤمنين عليه السلام حين ذكر الخوارج: مصارعهم دون النطفة. يريد النهروان. والجمع نطاف ونطف. قال الشاعر: وما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفوا غديرها وواحد الأمشاج: مشيج. ومشجت هذا بهذا أي: خلطته، وهو ممشوج ومشيج. وواحد الأبرار: بار نحو ناصر وأنصار، وبر أيضا. والكأس: الإناء إذا كان فيه شراب، قال عمرو بن كلثوم: صددت الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا (1) وأوفى بالعقد، ووفى به، فأوفى لغة أهل الحجاز. ووفى لغة تميم، وأهل نجد. والنذر: عقد عملي، فعل بر يوجبه الإنسان على نفسه نذر ينذر قال عنترة: الشاتمي عرضي، ولم أشتمهما، والناذرين إذا لم ألقهما دمي (2) أي يقولان إن لقينا عنترة لنقتلنه. والمستطير: المنتشر. قال الأعشى: فبانت وقد أسأرت في الفؤاد * صدعا على نأيها مستطيرا (3) والقمطرير: الشديد في الشر. وقد اقمطر اليوم اقمطرارا. ويوم قمطرير وقماطر، كأنه قد التف شره بعضه على بعض. قال الشاعر: بني عمنا ! هل تذكرون بلاءنا * عليكم إذاما كان يوم قماطر قيل: إن هل هنا بمعنى قد، قال الشاعر: 1) البيت من (المعلقات)، وفي رواية (صبنت) وهو بمعنى الصد أيضا. يقول: كان مجرى الكأس في العادة من يمين المجلس، وأنت يا أم عمر أجريتها على خلاف العادة. ونسب بعض هذا البيت إلى عمرو بن عدي اللخمي ابن اخت جذيمة الأبرش. (2) هذا البيت من (المعلقات) أيضا، يهجو فيه حصينا وهرما إبنا ضمضم. وقد ذكرهما في بيت قبله، يقول: اللذان يشتمان عرضي، ولم أشتمهما أنا، والموجبان على أنفسهما سفك دمي إذا لم أرهما، يريد أنهما يتواعدانه حال غيبته فأما في الحضور فلا يتحاسبان عليه. (3) أسأرت أي أبقت من السؤر بمعنى البقية. والصدع: الشق. والنأي: البعد (*).
[ 209 ]
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته * إثر الأحبة يوم البين مشكوم (1) الاعراب: (لم يكن شيئا): جملة في محل الرفع، لأنها صفة حين. والتقدير لم يكن فيه شيئا مذكورا. و (أمشاج): يجوز أن يكون صفة لنطفة، ويجوز أن يكون بدلا. والوصف بالجمع مثل قولهم برمة أعشار، وثوب أسمال (2). و (نبتليه): في موضع نصب على الحال. (إما شاكرا وإما كفورا): حالان من الهاء في (هديناه) أي هديناه شاكرا أو كفورا. وقوله (عينا) في انتصابه وجوه أحدها: أن يكون بدلا من (كافورا) إذا جعلت الكافور إسم عين، فيكون بدل الكل من الكل. والثاني: أن يكون بدلا من قوله (من كأس) أي: يسقون من عين. ثم حذف الجار، فوصل الفعل إليه فنصبه والثالث: أن يكون منصوبا على المدح، والتقدير أعني عينا يشرب بها الباء مزيدة أي يشربها. والمعنى يشرب ماؤها، لأن العين لا تشرب، وإنما يشرب ماؤها. النزول: قد روى الخاص والعام أن الآيات من هذه السورة، وهي قوله (إن الأبرار يشربون) إلى قوله: (وكان سعيكم مشكورا) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام، وجارية لهم تسمى فضة، وهو المروي عن ابن عباس، ومجاهد، وأبي صالح. والقصة طويلة: جملتها أنهم قالوا: مرض الحسن والحسين عليه السلام، فعادهما جدهما صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوه العرب وقالوا: يا أبا الحسن ! لو نذرت على ولديك نذرا. فنذر صوم ثلاثة أيام، إن شفاهما الله سبحانه، ونذرت فاطمة عليه السلام كذلك. وكذلك فضة فبرآ وليس عندهم شئ، فاستقرض علي عليه السلام ! ثلاثة أصوع من شعير من يهودي، وروي أنه أخذها ليغزل له صوفا، وجاء به إلى فاطمة عليه السلام، فطحنت صاعا منها، فاختبزته، وصلى علي المغرب، وقربته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم، وسألهم فأعطوه. ولم يذوقوا إلا الماء. (1) وفي بعض النسخ (كثير) مكان (كبيرا). والعبرة: الدمعة. والشكم: الجزاء. (2) البرمة: القدر من الحجر. وأعشار جمع العشر - بالكسر -: القطعة من كل شئ كسر إلى عشر قطع. والأسمال جمع السمل محركة: الثوب الخلق (*).
[ 210 ]
فلما كان اليوم الثاني، أخذت صاعا فطحنته وخبزته، وقدمته إلى علي عليه السلام فإذا يتيم في الباب يستطعم، فأعطوه، ولم يذوقوا إلا الماء، فلما كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي، فطحنته واختبزته، وقدمته إلى علي عليه السلام، فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء، فلما كان اليوم الرابع، وقد قضوا نذورهم، أتى علي عليه السلام، ومعه الحسن والحسين عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهما ضعف، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل جبرائيل بسورة (هل أتى). وفي رواية عطاء عن أبن عباس أن علي بن أبي طالب عليه السلام أجر نفسه ليستقي نخلا بشئ من شعير ليلة، حتى أصبح. فلما أصبح وقبض الشعير، طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئا ليأكلوه، يقال له الحريرة (1). فلما تم إنضاجه، أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام. ثم عمل الثلث الثاني. فلما تم إنضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه. ثم عمل الثلث الثالث، فلما تم إنضاجه، أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك. ذكره الواحدي في تفسيره. وذكر علي بن إبراهيم أن أباه حدثه عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عند فاطمة شعير، فجعلوه عصيدة، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم، جاء مسكين فقال المسكين: رحمكم الله فقام علي فأعطاه ثلثها. فلم يلبث أن جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم الله. فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث. ثم جاء أسير فقال الأسير: رحمكم الله. فأعطاه علي عليه السلام الثلث الباقي، وما ذاقوها. فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم، وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز وجل، وفي هذا دلالة على أن السورة مدنية. وقال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنها مدنية نزلت في علي وفاطمة السورة كلها. حدثنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني قال: أخبرنا الحاكم أبو القسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال: حدثنا أبو نصر المفسر قال: حدثني عمي أبو حامد إملاء قال: (1) الحريرة: دقيق يطبخ بلبن أو دسم، وفي بعض الكتب ككتاب أسباب النزول للواحدي (ص: 251) خزيزة بالخاء ثم الزاء المعجمتين -: وهي الحساء من الدسم والدقيق. وقيل: إذا كانت فيها لحم فهي خزيرة وبدونه عصيدة أو خزيزة وقيل غير ذلك. راجع كتاب اللسان (خزر) (*).
[ 211 ]
حدثني الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري قال: حدثنا محمد بن يزيد السلمي قال: حدثنا زيد بن موسى قال: حدثنا عمرو بن هارون، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أول ما أنزل بمكة (إقرأ باسم ربك) ثم (ن والقلم) ثم (المزمل) ثم (المدثر) ثم (تبت) ثم (إذا الشمس كورت) ثم (سبح اسم ربك الأعلى) ثم (والليل إذا يغشى) ثم (والفجر) ثم (والضحى) ثم (ألم نشرح) ثم (والعصر) ثم (والعاديات) ثم (إنا أعطيناك الكوثر) ثم (ألهاكم التكاثر) ثم (أرأيت) ثم (الكافرون) ثم (ألم تر كيف) ثم (قل أعوذ برب الفلق) ثم (قل أعوذ برب الناس) ثم (قل هو الله أحد) ثم (والنجم) ثم (عبس) ثم (إنا أنزلناه) ثم (والشمس) ثم (البروج) ثم (والتين) ثم (لإيلاف) ثم (القارعة) ثم (القيامة) ثم (الهمزة) ثم (والمرسلات) ثم (ق) ثم (لا أقسم بهذا البلد) ثم (الطارق) ثم (اقتربت الساعة) ثم (ص) ثم (الأعراف) ثم (قل أوحي) ثم (يس) ثم (الفرقان) ثم (الملائكة) ثم (كهيعص) ثم (طه) ثم (الواقعة) ثم (الشعراء) ثم (النمل) ثم (القصص) ثم (بني إسرائيل) ثم (يونس) ثم (هود) ثم (يوسف) ثم (الحجر) ثم (الأنعام) ثم (الصافات) ثم (لقمان) ثم (القمر) ثم (سبأ) ثم (الزمر) ثم (حم المؤمن) ثم (حم السجدة) ثم (حمعسق) ثم (الزخرف) ثم (الدخان) ثم (الجاثية) ثم (الأحقاف) ثم (الذاريات) ثم (الغاشية) ثم (الكهف) ثم (النحل) ثم (نوح) ثم (إبراهيم) ثم (الأنبياء) ثم (المؤمنون) ثم (الم تنزيل) ثم (الطور) ثم (الملك) ثم (الحاقة) ثم (ذو المعارج) ثم (عم يتساءلون) ثم (النازعات) ثم (انفطرت) ثم (انشقت) ثم (الروم) ثم (العنكبوت) ثم (المطففين) فهذه أنزلت بمكة وهي خمس وثمانون سورة. ثم أنزلت بالمدينة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذا زلزلت) ثم (الحديد) ثم سورة (محمد) ثم (الرعد) ثم سورة (الرحمن) ثم (هل أتى) ثم (الطلاق) ثم (لم يكن) ثم (الحشر) ثم (إذا جاء نصر الله) ثم (النور) ثم (الحج) ثم (المنافقون) ثم (المجادلة) ثم (الحجرات) ثم (التحريم) ثم (الجمعة) ثم (التغابن) ثم سورة (الصف) ثم سورة (الفتح) ثم سورة (المائدة) ثم سورة (التوبة) فهذه ثمان وعشرون سورة. وقد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في كتاب الإيضاح وزاد فيه: وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة، كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة.
[ 212 ]
وبإسناده عن عكرمة، والحسن بن أبي الحسن البصري أن أول ما أنزل الله من القرآن بمكة على الترتيب اقرأ باسم ربك ون والمزمل إلى قوله وما نزل بالمدينة (ويل للمطففين) والبقرة والأنفال وآل عمران والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد وسورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرعد والرحمن وهل أتى على الإنسان إلى آخره. وبإسناده عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: سألت النبي عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم (اقرأ باسم ربك) ثم (ن) إلى أن قال: وأول ما نزل بالمدينة سورة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذ ا زلزلت) ثم (الحديد) ثم (سورة محمد) ثم (الرعد) ثم (سورة الرحمن) ثم (هل أتى) إلى قوله فهذا ما أنزل بالمدينة. ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وجميع آيات القرآن ستة الاف ومائتان. وست وثلاثون آية وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف وواحد وعشرون ألف ومائتان وخمسون حرفا لا يرغب في تعلم القرآن إلا السعداء، ولا يتعهد قراءته إلا أولياء الرحمن. أقول: قد اتسع نطاق الكلام في هذا الباب، حتى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب، وربما نسبنا به إلى الإطناب، ولكن الغرض فيه أن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة، بأن قال: هذه السورة مكية، فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة، واستدل بذلك على أنها مخترعة، جرأة على الله سبحانه، وعداوة لأهل بيت رسوله، فأحببت إيضاح الحق في ذلك، وإيراد البرهان في معناه، وكشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه، على أنه كما ترى يحتوي على السر المخزون، والدر المكنون من هذا العلم الذي يستضاء بنوره، ويتلألأ بزهوره، وهو معرفة ترتيب السور في التنزيل، وحصر عددها على الجملة والتفصيل. اللهم أمددنا بتأييدك، وأيدنا بتوفيقك، فأنت الرجاء والأمل، وعلى فضلك المعول والمتكل. المعنى: (هل أتى) معناه قد أتى (على الإنسان) أي ألم يأت على الإنسان (حين من الدهر) وقد كان شيئا إلا أنه (لم يكن شيئا مذكورا) لأنه كان ترابا وطينا، إلى أن نفخ فيه الروح، عن الزجاج. وعلى هذا فهل هنا استفهام يراد به التقرير. قال الجبائي: وهو تقرير على ألطف الوجوه، وتقديره أيها المنكر للصانع وقدرته،
[ 213 ]
أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا، ثم ذكرت، وكل أحد يعلم من نفسه أنه لم يكن موجودا ثم وجد، فإذا تفكر في ذلك علم أن له صانعا صنعه، ومحدثا أحدثه. والمراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام. وهو أول من سمي به، عن الحسن وقتادة وسفيان والجبائي. وقيل: إن المراد به كل إنسان، والألف واللام للجنس، عن أبي مسلم. وقيل: إنه أتى على آدم عليه السلام أربعون سنة، لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض، بل كان جسدا ملقى من طين، قبل أن ينفخ فيه الروح. وروى عطاء عن ابن عباس، أنه تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة. وروى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله (لم يكن شيئا مذكورا) قال: كان شيئا. ولم يكن مذكورا. وبإسناده عن سعيد الحداد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان مذكورا في العلم، ولم يكن مذكورا في الخلق. وعن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. وعن حمران بن أعين قال: سألت عنه فقال: كان شيئا مقدورا، ولم يكن مكونا. وفي هذا دلالة على أن المعدوم معلوم، وإن لم يكن مذكورا، وأن المعدوم يسمى شيئا، فإذا حملت الإنسان على الجنس، فالمراد أنه قبل الولادة، لا يعرف، ولا يذكر، ولا يدرى من هو، وما يراد به، بل يكون معدوما، ثم يوجد في صلب أبيه، ثم في رحم أمه، إلى وقت الولادة. وقيل: المراد به العلماء، لأنهم كانوا لا يذكرون، فصيرهم الله سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاص والعام في حياتهم، وبعد مماتهم، وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقرأ هذه الآية فقال: ليت ذلك ثم يعني ليت آدم بقي على ما كان، فكان لا يلد ولا يبتلى أولاده. ثم قال سبحانه: (إنا خلقنا الإنسان) يعني ولد آدم عليه السلام (من نطفة) وهي ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد (أمشاج) أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة في الرحم، فأيهما علا ماء صاحبه، كان الشبه له، عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد. وقيل: أمشاج أطوار طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما إلى أن صار إنسانا، عن قتادة. وقيل: أراد اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، فهي مختلفة الألوان، عن مجاهد والضحاك والكلبي، وروي أيضا عن ابن عباس. وقيل: نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض، عن الحسن. وقيل: هي العروق التي
[ 214 ]
تكون في النطفة، عن ابن مسعود. وقيل: أمشاج أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة، جعلها الله في النطفة، ثم بناه الله البنية الحيوانية المعدلة الأخلاط. ثم جعل فيه الحياة. ثم شق له السمع والبصر. فتبارك الله رب العالمين وذلك قوله: (فجعلناه سميعا بصيرا) وقوله (نبتليه) أي نختبره بما نكلفه من الأفعال الشاقة ليظهر إما طاعته، وإما عصيانه، فنجازيه بحسب ذلك. قال الفراء معناه (فجعلناه سميعا بصيرا) لنبتليه أي: لنتعبده ونأمره وننهاه والمراد فأعطيناه آلة السمع والبصر، ليتمكن من السمع والبصر، ومعرفة ما كلف. (إنا هديناه السبيل) أي بينا له الطريق، ونصبنا له الأدلة، وأزحنا له العلة، حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل. وقيل: هو طريق الخير والشر، عن قتادة. وقيل: السبيل هو طريق معرفة الدين الذي به يتوصل إلى ثواب الأبد، ويلزم كل مكلف سلوكه، وهو أدلة العقل والشرع التي يعم جميع المكلفين (إما شاكرا وإما كفورا) قال الفراء: معناه إن شكر وإن كفر على الجزاء. وقال الزجاج: معناه ليختار إما السعادة وإما الشقاوة، والمراد إما أن يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى، والإعتراف بنعمه، فيصيب الحظ. وإما أن يكفر نعم الله، ويجحد إحسانه، فيكون ضالا عن الصواب، فأيهما اختار جوزي عليه بحسبه. وهذا كقوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وفي هذه الآية دلالة على أن الله قد هدى جميع خلقه، لأن اللفظ عام. ثم بين سبحانه ما أعده للكافرين فقال: (إنا أعتدنا للكافرين) أي هيأنا وادخرنا لهم جزاء على كفرانهم وعصيانهم (سلاسل) يعني في جهنم كما قال في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا (وأغلالا وسعيرا) نار موقدة نعذبهم بها، ونعاقبهم فيها. ثم ذكر ما أعده للشاكرين المطيعين فقال: (إن الأبرار) وهو جمع البر المطيع لله المحسن في أفعاله. وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر، ولا يرضون الشر. وقيل: هم الذين يقضون الحقوق اللازمة والنافلة. وقد أجمع أهل البيت عليه السلام وموافقوهم، وكثير من مخالفيهم، أن المراد بذلك: علي، وفاطمة، والحسن والحسين عليه السلام. والآية مع ما بعدها متعينة فيهم. وأيضا فقد انعقد الإجماع على أنهم كانوا أبرارا، وفي غير هم خلاف.
[ 215 ]
(يشربون من كأس) إناء فيه شراب (كان مزاجها) أي ما يمازجها (كافورا) وهو إسم عين ماء في الجنة، عن عطاء والكلبي، واختاره الفراء قال: ويدل عليه قوله (عينا) وهي كالمفسرة للكافور. وقيل: يعني الكافور الذي له رائحة طيبة، والمعنى يمازجه ريح الكافور، وليس ككافور الدنيا، عن مجاهد ومقاتل. قال قتادة: يمزج بالكافور، ويختم بالمسك. وقيل: معناه طيب بالكافور والمسك والزنجبيل، عن ابن كيسان. (عينا يشرب بها عباد الله) أي أولياؤه، عن أبن عباس أي هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء الله، وخصهم بأنهم عباد الله تشريفا وتبجيلا. قال الفراء: شربها، وشرب بها، سواء في المعنى كما يقولون: تكلمت بكلام حسن، وكلاما حسنا. قال عنترة: شربت بماء الدحرضين، فأصبحت * عسرا علي طلابها ابنة مخرم (1) وأنشد الفراء: شربن بماء البحر، ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج (2) أي صوت (يفجرونها تفجيرا) أي يقودون تلك العين حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، عن مجاهد. والتفجير: تشقيق الأرض بجري الماء، قال: وأنهار الجنة تجري بغير أخدود، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا، خط خطا فينبع الماء من ذلك الموضع، ويجري بغير تعب. ثم وصف سبحانه هؤلاء الأبرار فقال. (يوفون بالنذر) أي كانوا في الدنيا بهذه الصفة. والإيفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه، فإذا نذر طاعة تممها، ووفى بها، عن مجاهد وعكرمة. وقيل: يتمون ما فرض الله عليهم من الواجبات، عن قتادة. (ويخافون يوما كان شره مستطيرا) أي فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات، بلغ (1) كذا في النسخ لكن في (المعلقات) ورواية الزوزني وغيره هكذا: (حلت بأرض العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة محزم) ورووا كلهم (طلابك) بكاف المخاطبة. وقد مر بمعناه في ج 4. ثم ذكر بعد أبيات هذا البيت: (شربت بماء الدحرضين فأصبحت * زوراء تنفر عن حياض الديلم) والدحرضان: إسم موضع وقيل هما دحرض ووشيع، فغلب أحدهما على الآخر كالقمرين: للشمس والقمر، والعمرين: لأبي بكر وعمر. (2) الشعر في (جامع الشواهد) (*).
[ 216 ]
أقصى المبالغ، وسمي العذاب شرا، لأنه لا خير فيه للمعاقبين، وإن كان في نفسه حسنا، لكونه مستحقا. وقيل: المراد بالشر هنا أهوال يوم القيامة وشدائده (ويطعمون الطعام على حبه) أي على حب الطعام، والمعنى: يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه. وصفهم الله سبحانه بالأثرة على أنفسهم. وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة، وما من مسلم كسا أخاه على عري، إلا كساه الله من خضر الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق) قال ابن عباس يطعمون الطعام على شهوتهم له، ومحبتهم إياه. وقيل: الهاء كناية عن الله تعالى أي: يطعمون الطعام على حب الله. (مسكينا) وهو الفقير الذي لا شئ له (ويتيما) وهو الذي لا والد له من الأطفال (وأسيرا) وهو المأخوذ من أهل دار الحرب عن قتادة. وقيل: هو المحبوس من أهل القبلة، عن مجاهد، وسعيد بن جبير. وقيل: الأسير المرأة. (إنما نطعمكم لوجه الله) أي لطلب رضا الله خالصا لله، مخلصا من الرياء، وطلب الجزاء، وهو قوله: (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وهو مصدر مثل القعود والجلوس. وقيل: إنهم لم يتكلموا بذلك، ولكن علم الله سبحانه ما في قلوبهم فأثنى به عليهم، ليرغب في ذلك الراغب، عن سعيد بن جبير، ومجاهد. والمراد لا نطلب بهذا الطعام مكافأة عاجلة، ولا نريد أن تشكرونا عليه، عند الخلق، بل فعلناه لله. (إنا نخاف من ربنا يوما) أي عذاب يوم (عبوسا) أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه. ووصف اليوم بالعبوس توسعا لما فيه من الشدة، وهذا كما يقال: يوم صائم وليل قائم. قال ابن عباس: يعبس فيه الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، (قمطريرا) أي صعبا شديدا، عن أبي عبيدة، والمبرد. وقال الحسن: سبحان الله ما أشد اسمه، وهو من اسمه أشد. وقيل: القمطرير الذي يقلص الوجوه، ويقبض الجباه، وما بين الأعين من شدته، عن قتادة. (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا (11) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم
[ 217 ]
ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير (15) قوارير من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18) ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (20) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا (22). القراءة: قرأ الشعبي وعبيد بن عمير: (قدروها) بضم القاف. والقراءة المشهورة: (قدروها) بفتح القاف. وقرأ أهل المدينة وحمزة. (عاليهم) ساكنة الياء. والباقون: (عاليهم) بفتح الياء. وقرأ أهل البصرة وأبو جعفر وابن عامر: (خضر) بالرفع (وإستبراق) بالجر. وقرأ ابن كثير وأبو بكر (خضر) بالجر، (وإستبرق) بالرفع. وقرأ نافع وحسن بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالجر فيهما. الحجة: من قرأ (قدروها) بالفتح، فالمعنى قدروها في أنفسهم، فجاءت كما قدروها. ومن قرأ بالضم أراد أن ذلك قدر لهم أي قدره الله لهم، كذلك قال أبو علي الضمير في قدروها للخزان، أو الملائكة أي قدروها على ربهم، لا ينقص من ذلك، ولا يزيد عليه. ومن قرأ (قدروها) فهو على هذا المعنى يريد وكان اللفظ قدروا عليها، فحذف الجار، كما حذف من قوله: كأنه واضح الأقراب في لقح * أسمى بهن، وعزته الأناصيل (1) فلما حذف الحرف، وصل الفعل، فكذلك قوله (قدروها) إلا أن المعنى قدرت عليهم أي على ربهم، فقلب كما قال: لا تحسبن دراهما سرقتها * تمحو مخازيك التي بعمان وعلى هذا يتأول قوله: (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) ومثل هذا ما حكاه أبو (1) أي عزت عليه. وقد مر البيت بمعناه (*).
[ 218 ]
زيد إذا طلعت الجوزاء، أوفي السود في الجرباء. قال: ومن نصب (عاليهم) فإن النصب يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون حالا والآخر: أن يكون ظرفا. فأما الحال فيحتمل أن يكون العامل فيها أحد شيئين أحدهما: لقاهم والآخر: جزاهم، ومثله في كونه حالا (متكئين فيها على الأرائك). فإن قلت: لم لا يكون متكئين صفة جنة، وفيها ذكر لها ؟ قيل: لا يجوز ذلك. ألا ترى أنه لو كان كذلك، للزمك أن تبرز الضمير الذي في إسم الفاعل، من حيث كان صفة للجنة، وليس الفعل لها، فإذا لم يجز ذلك كان حالا، وكذلك قوله (ودانية عليهم ظلالها) إلا أنه يجوز في قوله ودانية عليهم ظلالها أمران أحدهما: الحال والآخر. أن ينتصب على أنه مفعول به. ويكون المعنى وجزاهم جنة وحريرا أي: لبس حرير، ودخول جنة، ودانية عليهم ظلالها. فيكون على هذا التقدير كقوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فإن لم نحمله على هذا وقلت: إنه يعرض فيه إقامة الصفة مقام الموصوف، وإن ذلك ليس بالمطرح في كلامهم، وإذا حملته على الحال يكون مثل ما عطفته عليه من قوله (متكئين ودانية عليهم)، وكذلك يكون عاليهم ثياب سندس، معطوفا على ما انتصب على الحال في السورة، فيكون ثياب سندس مرتفعة باسم الفاعل، والضمير عائد إلى ذي الحال من قوله (عاليهم) وفي الشواذ (عاليتهم) قراءة الأعمش ويكون بمنزلة قوله خاشعا أبصارهم. وخاشعة أبصارهم. ومن جعله ظرفا فإنه لما كان عالي بمعنى فوق، أجري مجراه في هذا. ومن قرأ (عاليهم) بسكون الياء، جعله مبتدأ و (ثياب سندس) خبره، ويكون (عاليهم) المبتدأ في موضع الجماعة، كما أن الخبر جماعة. وقد جاء إسم الفاعل في موضع جماعة قال: ألا إن جيراني العشية رائح، * دعتهم دواع هوى، ومنادح وفي التنزيل: (مستكبرين به سامرا تهجرون فقطع دابر القوم الذين ظلموا) فكأنه أفرد من حيث جعل بمعنى المصدر من نحو قوله: (ولا خارجا من في زور كلام) (1)، وقد قالوا: الجامل والباقر، يراد بهما الكثرة. وأخذ عليه البصير النحوي الملقب بجامع العلوم هذا الكلام، ونسبه فيه إلى سوء التأمل، وقال: عاليهم بسكون الياء صفة الولدان أي: يطوف عليهم ولدان عاليهم ثياب سندس، فيرتفع ثياب (1) قائله فرزدق وقبله: (على قسم لا أشتم الدهر مسلما) والبيت من قصيدة قالها في مربد (*).
[ 219 ]
سندس باسم الفاعل الجاري صفة على الموصوف. وأقول وبالله التوفيق: إني لأرى أن نظر هذا الفاضل قد اختل، كما أن بصره قد اعتل، فرمى أبا علي بدائه وانسل. ألم ينظر في خاتمة هذه الآية إلى قوله سبحانه: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) ثم قوله عقيب ذلك (إن هذا كان لكم جزاء) فيعرف أن الضمير في (عاليهم) هو بعينه في (وسقاهم)، وهو ضمير المخاطبين في لكم. وهذا الضمير لا يمكن أن يعود إلا إلى الأبرار المثابين المجازين دون الولدان المخلدين الذين هم من جملة ثوابهم وجزائهم. اللهم لك الحمد على تأييدك وتسديدك. رجعنا إلى كلام أبي علي قال: ويجوز على قياس قول أبي الحسن في قائم أخواك وإعمال اسم الفاعل عمل الفعل، وإن لم يعتمد على شئ أن يكون ثياب سندس مرتفعة بعاليهم، وأفردت عاليا، لأنه فعل متقدم. قال أبو علي: والأوجه قراءة من قال خضر بالرفع، وإستبرق بالجر. لأن خضرا صفة مجموعة لموصوف مجموع وهو ثياب، وأما إستبرق فجر من حيث كان جنسا، أضيفت إليه الثياب، كما أضيفت إلى سندس، كما يقال ثياب خز وكتان. ويدل على ذلك قوله (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق) ومن قرأ خضر واستبرق فإنه أجرى الخضر وهو جمع على السندس، لما كان المعنى أن الثياب من هذا الجنس. وأجاز أبو الحسن وصف هذه الأجناس بالجمع فقال: تقول أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، على استقباح له. ومن رفع إستبرق فإنما أراد عطف الإستبرق على الثياب كأنه ثياب سندس، وثياب إستبرق، فحذف المضاف الذي هو ثياب، وأقام إستبرق مقامه، كما أنك إذا قلت عليه خز بمعنى عليه ثوب خز. وليس المعنى أن عليه الدابة التي هي الخز، وعلى هذا قوله: كأن خزا تحته، وقزا، * وفرشا محشوة أوزا اللغة: الوقاية: الحفظ والمنع من الأذى. وقاه يقيه وقاية، ووقاه توقية قال رؤبة: (إن الموقي مثل ما وقيت) ومنه إتقاه وتوقاه. وأصل الشر: الظهور، فهو ظهور الضرر، ومنه شررت الثوب إذا ظهرته للشمس، أو الريح. قال: (وحتى أشرت بالأكف المصاحف) (1) أي أظهرت. ومنه شرر النار: لظهوره بتطايره. والنضرة: (1) قائله حصين بن حمام المري، يذكر يوم صفين، وصدره: (فما برحوا حتى برى الله صبرهم) (*).
[ 220 ]
حسن الألوان. ونبت ناضر ونضير ونضر. والسرور: اعتقاد وصول المنافع إليه في المستقبل. وقال قوم: هو لذة في القلب فحسب متعلقة بما فيه النفع، وكل سرور فلا بد له من متعلق كالسرور بالمال والولد، والسرور بالإكرام والإجلال، والسرور بالحمد والشكر، والسرور بالثواب. والأرائك: الحجال فيها الأسرة واحدتها أريكة. قال الزجاج: الأريكة كل ما يتكأ عليه من مسورة (1) أو غيرها، والزمهرير: أشد ما يكون من البرد. والزنجبيل: ضرب من القرفة طيب الطعم، يحذو اللسان ويربى بالعسل، ويستدفع به المضار، وإذا مزج به الشراب فاق في الإلذاذ. والعرب تستطيب الزنجبيل جدا، قال الشاعر: كأن القرنفل، والزنجبيل، * باتا بفيها وأريا مشورا (2) والسلسبيل: الشراب السهل اللذيذ يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل. والولدان: الغلمان، جمع وليد. والسندس: الديباج الرقيق الفاخر الحسن. والإستبرق: الديباج الغليظ الذي له بريق. الاعراب: (وإذا رأيت ثم) قال الزجاج: العامل في ثم معنى رأيت والمعنى: وإذا رأيت ببصرك. ثم قال الفراء: المعنى وإذا رأيت ما ثم. وغلطه الزجاج في ذلك وقال: إن ما تكون موصولة بقوله: ثم على هذا التفسير، ولا يجوز إسقاط الموصول، وترك الصلة. ولكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم. وأقول: يجوز أن يكون مفعول رأيت محذوفا، ويكون ثم ظرفا، والتقدير: وإذا رأيت ما ذكرناه ثم. المعنى: ثم أخبر سبحانه بما أعد للأبرار الموصوفين في الآيات الأولى من الجزاء فقال: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) أي كفاهم الله، ومنع منهم أهوال يوم القيامة وشدائده. (ولقاهم نضرة وسرورا) أي استقبلهم بذلك (وجزاهم) أي وكافأهم (بما صبروا) أي بصبرهم على طاعته، واجتناب معاصيه، وتحمل محن الدنيا وشدائدها (جنة) يسكنونها (وحريرا) من لباس الجنة يلبسونه ويفرشونه (متكئين) أي جالسين جلوس الملوك (فيها) أي في الجنة (على الأرائك) أي الأسرة في الحجال، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل: كلما يتكأ عليه فهو (1) المسورة: المتكأ من جلد. (2) الأري: العسل. والمشور: من شرت العسل شورا. والشور: موضع النحل الذي يعسل فيه (*).
[ 221 ]
أريكة، عن الزجاج. وقيل: الأرائك الفرش فوق الأسرة، عن أبي مسلم (لا يرون فيها) أي في تلك الجنة (شمسا) يتأذون بحرها (ولا زمهريرا) يتأذون ببرده. (ودانية عليهم ظلالها) يعني أن أفياء أشجار تلك الجنة قريبة منهم. وقيل: إن ظلال الجنة لا تنسخها الشمس، كما تنسخ ظلال الدنيا (وذللت قطوفها تذليلا) أي وسخرت وسهل أخذ ثمارها تسخيرا إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد نزلت عليه حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت حتى تنالها يده، عن مجاهد. وقيل: معناه لا يرد أيديهم عنها بعد، ولا شوك. (ويطاف عليهم) أي على هؤلاء الأبرار الموصوفين قبل (بآنية من فضة وأكواب) جمع كوب، وهو إناء للشرب من غير عروة. وقيل: الأكواب الأقداح، عن مجاهد (كانت) تلك الأكواب (قواريرا) أي زجاجات (قواريرا من فضة) قال الصادق عليه السلام: ينفذ البصر في فضة الجنة، كما ينفذ في الزجاج، والمعنى: إن أصلها من فضة، فاجتمع لها بياض الفضة، وصفاء القوارير فيرى من خارجها ما في داخلها. قال أبو علي: إن سئل فقيل: كيف تكون القوارير من فضة، وإنما القوارير من الرمل دونها ؟ فالقول في ذلك: إن الشئ إذا قاربه شئ، واشتدت ملابسته له، قيل إنه من كذا، وإن لم يكن منه في الحقيقة، كقول البعيث. ألا أصبحت خنساء خارمة الوصل، - * وضنت علينا، والضنين من البخل (1) وصدت فأعدانا بهجر صدودها، * وهن من الأخلاف قبلك والمطل وقال: ألافي سبيل الله تغيير لمتي * ووجهك مما في القوارير أصفر فعلى هذا يجوز قوارير من فضة أي: هي في صفاء الفضة ونقائها، ويجوز تقدير حذف المضاف أي: من صفاء الفضة وقواير الثانية بدل من الأولى، وليست بتكرار. وقيل: إن قوارير كل أرض من تربتها. وأرض الجنة فضة، فلذلك كانت قواريرها مثل الفضة، عن ابن عباس، (قدروها تقديرا) أيى قدروا الكأس على قدر ريهم، لا يزيد ولا ينقص من الري، والضمير في قدروها للسقاة والخدم الذين (1) الخارم التارك (*).
[ 222 ]
يسقون، فإنهم يقدرونها، ثم يسقون. وقيل: قدروها على قدر مل ء الكف أي كانت الأكواب على قدر ما اشتهوا، لم تعظم، ولم يثقل الكف عن حملها، عن الربيع والقرظي. وقيل: قدروها في أنفسهم قبل مجيئها على صفة، فجاءت على، ما قدروا. والضمير في قدروا للشاربين. (ويسقون فيها) أي في الجنة (كأسا كان مزاجها زنجبيلا) قال مقاتل: لا يشبه زنجبيل الدنيا. وقال ابن عباس: كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له مثل في الدنيا، ولكن سماه الله بالإسم الذي يعرف. والزنجبيل: مما كانت العرب تستطيبه، فلذلك ذكره في القرآن، ووعدهم أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة. (عينا فيها تسمى سلسبيلا) أي تمزج الخمر بالزنجبيل، والزنجبيل من عين تسمى تلك العين سلسبيلا. قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن. وقال الزجاج: هو صفة لما كان في غاية السلاسة، يعني أنها سلسلة تتسلسل في الحلق. وقيل: سمي سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق، وفي منازلهم تنبع من أصل العرش، من جنة عدن، إلى أهل الجنان، عن أبي العالية، ومقاتل. وقيل: سميت بذلك لأنها ينقاد ماؤها لهم، يصرفونها حيث شاؤوا، عن قتادة. (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) مر تفسيره (إذا رأيتهم) يعني إذا رأيت أولئك الولدان (حسبتهم لؤلؤا منثورا) من الصفاء وحسن المنظر والكثرة، فذكر لونهم وكثرتهم. وقيل: إنما شبههم بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم (وإذا رأيت ثم) أي إذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة. وقيل: إن تقديره وإذا رأيت الأشياء ثم (رأيت نعيما) خطيرا (وملكا كبيرا) لا يزول ولا يفنى، عن الصادق عليه السلام. وقيل: كبيرا أي واسعا يعني أن نعيم الجنة لا يوصف كثرة، وإنما يوصف بعضها. وقيل: الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام. وقيل: هو أنهم لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه. وقيل: هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل: هو الملك الدائم الأبدي في نفاذ الأمر، وحصول الأماني (عاليهم ثياب سندس) من جعله ظرفا فهو بمنزلة قولك فوقهم ثياب سندس، ومن جعله حالا فهو بمنزلة قولك يعلوهم ثياب سندس، وهو ما رق من الثياب فيلبسونها. وروي عن الصادق عليه اسلام أنه قال في
[ 223 ]
معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها (خضر وإستبرق) وهو ما غلظ منها، ولا يراد به الغلظ في السلك، إنما يراد به الثخانة في النسج. قال ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب، والذي يعلوها أفضلها. (وحلوا أساور من فضة) الفضة الشفافة وهي التي يرى ما وراءها، كما يرى من البلورة، وهو أفضل من الدر والياقوت، وهما أفضل من الذهب والفضة، فتلك الفضة أفضل من الذهب والفضة في الدنيا، وهما أثمن الأشياء. وقيل: إنهم يحلون بالذهب تارة، وبالفضة أخرى، ليجمعوا محاسن الحلية، كما قال الله تعالى (يحلون فيها من أساور من ذهب) والفضة، وإن كانت دنية الثمن في الدنيا، فهي في غاية الحسن خاصة إذا كانت بالصفة التي ذكرناها، والغرض في الآخرة ما يكثر الإستلذاذ والسرور به، لا ما يكثر ثمنه، لأنه ليست هناك أثمان. (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) أي طاهرا من الأقذار والأقذاء، لم تدنسها الأيدي، ولم تدسها الأرجل كخمر الدنيا. وقيل: طهورا لا يصير بولا نجسا، ولكن يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك، وإن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، وأكلهم ونهمتهم. فإذا أكل ما شاء، سقي شرابا طهورا، فيطهر بطنه، ويصير ما أكل رشحا، يخرج من جلده، أطيب ريحا من المسك الأذفر، ويضمر بطنه، وتعود شهوته، عن إبراهيم التميمي، وأبي قلابة. وقيل: يطهرهم عن كل شئ سوى الله، إذ لا طاهر من تدنس بشئ من الأكوان، إلا الله. رووه عن جعفر بن محمد عليه السلام. (إن هذا) يعني ما وصف من النعيم وأنواع الملاذ (كان لكم جزاء) أي مكافأة على أعمالكم الحسنة، وطاعتكم المبرورة. (وكان سعيكم) في مرضاة الله، وقيامكم بما أمركم الله به (مشكورا) أي مقبولا مرضيا جوزيتم عليه، فكأنه شكر لكم فعلكم. (إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنريلا (23) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا (24) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا (26) إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا (27) نحن
[ 224 ]
خلقناهم وشددنا أسرهم وإذاشئنا بدلنا أمثالهم تبديلا (28) إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا (29) وما تشاءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليما حكيما (30) يدخل من يشآء في رحمته والظلمين أعد لهم عذابا أليما (31). القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (وما يشاؤون) بالياء. والباقون بالتاء. وفي الشواذ قراءة عبد الله بن الزبير، وأبان بن عثمان: (والظالمون) بالواو. الحجة: وجه الياء قوله تعالى (فمن شاء اتخذ). ووجه التاء أنه خطاب للكافة أي: وما تشاؤون الطاعة، والإستقامة، إلا أن يشاء الله، أو يكون محمولا على الخطاب. وأما قوله: (والظالمون) فإنه على ارتجال جملة مستأنفة. قال ابن جني: كأنه قال الظالمون أعد لهم عذابا أليما، ثم إنه عطف الجملة على ما قبلها، وقد سبق الرفع إلى مبتدئها غير أن قراءة الجماعة أسبق، وهو النصب، لأن معناه: ويعذب الظالمين. فلما أضمر هذا الفعل، فسره بقوله (أعد لهم عذابا أليما) وهذا أكثر من أن يؤتى له بشاهد. قال الزجاج: يقول النحويون أعطيت زيدا، وعمرا أعددت له برا، فيختارون النصب على معنى وبررت عمرا، أعددت له برا، وأنشد غيره: أصبحت لا أحمل السلاح، ولا * أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي، وأخشى الرياح، والمطرا اللغة: الأسر: أصله الشد، ومنه قتب مأسور أي مشدود. ومنه الأسير لأنهم كانوا يشدونه بالقد. قولهم خذ بأسره أي. بشده قبل أن يحل. ثم كثر حتى صار بمعنى. خذ جميعه. قال الأخطل: من كل مجتنب شديد أسره * سلس القياد تخاله مختالا (1) الاعراب: قال الزجاج في قوله (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) أو هنا أوكد من الواو. لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا، فأطاع أحدهما، كان غير عاص، لأنك (1) يصف خيلا. والمجتنب: الذي يجنبه صاحبه بجانب فرسه، ولا يركب عليه. وشديد الأسر: قوي. ومختالا أي تحسبه من نشاطه فيه اختيال لحسن مشيته (*).
[ 225 ]
أمرته أن لا يطيع الإثنين. وإذا قلت: لا تطع منهم آثما أو كفورا فأو قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، وأنهما أهل أن يعصيا، كما أنك إذا قلت: جالس الحسن، أو ابن سيرين، فقد قلت كل واحد منهما أهل أن يجالس. قال البصير النحوي: أو هذه التي للتخيير، إذا قلت اضرب زيدا أو عمرا، فمعناه اضرب أحدهما. فإذا قلت لا تضرب زيدا أو عمرا، فمعناه لا تضرب أحدهما، فيحرم عليه ضربهما، لأن أحدهما في النفي يعمم. وابن كيسان يحمل النهي على الأمر، فيقول: إذا قال لا تضرب أحدهما، لم يحرم علي ضربهما، وإنما حرم في الآية طاعتهما، لأن أحدهما بمنزلة الآخر في امتناع الطاعة له، ألا ترى أن الآثم مثل الكفور في هذا المعنى. قال سيبويه: ولو قال لا تطع آثما ولا تطع كفورا، لانقلب المعنى إذ ذاك، لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) فيه شرف وتعظيم لك. وقيل: معناه فصلناه في الإنزال آية بعد آية، ولم ننزله جملة واحدة، عن ابن عباس (فاصبر) يا محمد على ما أمرتك به من تحمل أعباء الرسالة (لحكم ربك) أن تبلغ الكتاب، وتعمل به. وقيل: إنه أمر لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر، وإن كذب فيما أتى به، ووعيد لمن كذبه. (ولا تطع منهم) أي من مشركي مكة (آثما) يعني عتبة بن ربيعة (أو كفورا) يعني الوليد بن المغيرة، فإنهما قالا له: إرجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال والتزويج، عن مقاتل. وقيل: الكفور أبو جهل، نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، وقال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فنزلت الآية. عن قتادة. وقيل: إن ذلك عام في كل عاص فاسق وكافر منهم أي من الناس، أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر. وهذا أولى لزيادة الفائدة، وعدم التكرير. (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) أي أقبل على شأنك من ذكر الله، والدعاء إليه، وتبليغ الرسالة صباحا ومساء أي دائما، فإن الله ا ومؤيدك ومعينك. والبكرة: أول النهار. والأصيل: العشي، وهو أصل الليل. (ومن الليل فاسجد له) دخلت من للتبعيض، والمعنى: فاسجد له في بعض الليل، لأنه لم يأمره بقيام الليل كله. وقيل: فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء (وسبحه ليلا طويلا) أي في ليل طويل يريد التطوع بعد المكتوبة. وروي عن الرضا عليه السلام أنه سأله أحمد بن
[ 226 ]
محمد عن هذه الآية وقال: ما ذلك التسبيح ؟ قال: صلاة الليل. (إن هؤلاء يحبون العاجلة) أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة في دار الدنيا (ويذرون وراءهم) أي ويتركون أمامهم (يوما ثقيلا) أي عسيرا شديدا. والمعنى أنهم لا يؤمنون به، ولا يعملون له. وقيل: معنى وراءهم خلف ظهورهم، وكلاهما محتمل. ثم قال سبحانه: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) أي قوينا وأحكمنا خلقهم، عن قتادة ومجاهد. وقيل: أسرهم أي مفاصلهم، عن الربيع. وقيل: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب، عن الحسن. ولولا إحكامه إياها على هذا الترتيب لما أمكن العمل بها، والإنتفاع منها. وقيل: شددنا أسرهم جعلناهم أقوياء، عن الجبائي، وقيل: معناه كلفناهم، وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله كما يشد الأسير بالقد لئلا يهرب، (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) أي أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلا منهم، ولكن نبقيهم إتماما للحجة. (إن هذه) السورة (تذكرة) أي تذكير وعظة يتذكر بها أمر الآخرة، عن قتادة. وقيل: إن هذه الرسالة التي تبلغها (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) أي فمن أراد اتخذ إلى رضا ربه طريقا، بأن يعمل بطاعته، وينتهي عن معصيته. وفي هذا دلالة على أن الإستطاعة قبل الفعل. (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) أي وما تشاؤون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله اختيارا، إلا أن يشاء الله إجباركم عليه، وإلجاءكم إليه، فحينئذ تشاؤون ولا ينفعكم ذلك، والتكليف زائل. ولم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان، لتستحقوا الثواب، عن أبي مسلم. وقيل: معناه وما تشاؤون شيئا من العمل بطاعته، إلا والله يشاؤه ويريده. وليس المراد بالآية أنه سبحانه يشاء كل ما يشاء العبد من المعاصي والمباحات وغيرها، لأن الدلائل الواضحة قد دلت على أنه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح، ويتعالى عن ذلك. وقد قال سبحانه: (ولا يريد بكم العسر). (وما الله يريد ظلما للعباد) (إن الله كان عليما حكيما) مر معناه (يدخل من يشاء في رحمته) أي جنته يعني المؤمنين (والظالمين) يعني: ويجزي الكافرين والمشركين (أعد لهم عذابا أليما).
[ 227 ]
77 - سورة المرسلات مكية وآياتها خمسون وهي خمسون آية بلا خلاف. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأ سورة والمرسلات، كتب أنه ليس من المشركين) وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأها عرف الله بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: لما ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة، وما أعد فيها للظالمين، افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال: بسمه الله الرحمن الرحيم (والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات نشرا (3) فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أو نذزا (6) إنما توعدون لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا السماء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11) لأى يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) وما أدراك ما يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15). القراءة: قرأ أهل الحجاز والشام وأبو بكر ويعقوب وسهل: (عذرا) ساكنة الذال (أو نذرا) بضمها. وروى محمد بن الحبيب عن الأعشى والبرجمي عن أبي بكر بضم الذال فيهما. ومحمد بن خالد عن الأعشى: (عذرا) بسكون الذال (أو نذرا) بضمها مثل رواية حماد ويحيى، عن أبي بكر. وقرأ الباقون بسكون الذال فيهما. وقرأ أبو جعفر: (وقتت) بالواو والتخفيف. وقرأ أهل البصرة، غير رويس بالواو والتشديد. وقرأ الباقون: (أقتت) بالألف، وتشديد القاف.
[ 228 ]
الحجة: قال أبو علي: النذر بالتثقيل والنذير، مثل النكر والنكير، وهما جميعا مصدران ويجوز في النذير ضربان أحدهما: أن يكون مصدرا كالنكير، وعذير الحي والآخر: أن يكون فعيلا يراد به المنذر، كما أن الأليم بمعنى المؤلم. ويجوز تخفيف النذر على حد التخفيف في العنق والعنق، والأذن والأذن. قال أبو الحسن: (عذرا أو نذرا) أي إعذارا أو إنذارا، وقد خففتا جميعا، وهما لغتان. فأما انتصاب (عذرا) فعلى ثلاثة أضرب أحدها: أن يكون بدلا من الذكر في قوله (فالملقيات ذكرا). والآخر: أن يكون مفعوله (ذكرا) أي: فالملقيات أن يذكر عذرا أو نذرا والثالث: أن يكون منصوبا على أنه مفعول له، ويجوز في قول من ضم (عذرا أو نذرا) أن يكون عذرا جمع عاذر أو عذور. والنذر: جمع نذير قال حاتم: أماوي قد طال التجنب، والهجر، * وقد عذرتني في طلابكم العذز (1) فيكون (عذرا أو نذرا) على هذا حالا من الإلقاء، كأنهم يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. ومن قرأ (وقتت) بالواو، فلأن الكلمة أصلها من الوقت. ومن أبدل منها الهمزة، فلانضام الواو والواو إذا انضمت أولا في نحو وجوه ووعود. وثالثة في نحو أدؤر، فإنها تبدل على الإطراد همزة لكراهتهم الضمة على الواو. المعنى: (والمرسلات عرفا) يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس، عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي صالح. فعلى هذا يكون عرفا نصبا على الحال من قولهم: جاؤوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين. وقيل: إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه. وفي رواية أخرى عن ابن مسعود، وعن أبي حمزة الثمالي، عن أصحاب علي، عنه عليه السلام. وعلى هذا يكون مفعولا له. وقيل: المراد بها الأنبياء، جاءت بالمعروف. والإرسال نقيض الإمساك. (فالعاصفات عصفا) يعني الرياح الشديدات الهبوب. والعصوف. مرور الريح بشدة. (والناشرات نشرا) وهي الرياح التي تأتي بالمطر تنشر السحاب نشرا للغيث، كما تلقحه للمطر. وقيل: إنها الملائكة تنشر الكتب عن الله تعالى، عن أبي حمزة الثمالي، وأبي صالح. وقيل: إنها الأمطار تنشر النبات، عن أبي صالح (1) ماوي مرخم ماوية: اسم امرأة حاتم. وقال في شرح الأشموني (ماوي): هو اسم امرأته. وكانت تلومه على إسرافه وتبذيره. وهذا البيت مطلع قصيدة قالها في الجواب عن امرأته (*).
[ 229 ]
في رواية أخرى. وقيل: الرياح ينشرها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته، عن الحسن. وقيل: الرياح تنشر السحاب في الهواء، عن الجبائي. (فالفارقات فرقا) يعني الملائكة تأتي بما يفرق به بين الحق والباطل، والحلال والحرام، عن ابن عباس، وأبي صالح. وقيل: هي آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، عن الحسن، وأبي حمزة، وقتادة. وقيل: إنها الرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده، عن مجاهد. (فالملقيات ذكرا) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، وتلقيه الأنبياء إلى الأمم، عن ابن عباس، وقتادة، كأنها الحاملات للذكر الطارحات له، ليأخذه من خوطب به، والإلقاء: طرح الشئ على غيره. (عذرا أو نذرا) أي للإعذار والإنذار، ومعناه إعذارا من الله، وإنذارا إلى خلقه، وقيل: عذرا يعتذر الله به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، ونذرا أي إعلاما بموضوع المخافة، عن الحسن، وهذه أقسام ذكرها الله تعالى. وقيل: أقسم الله سبحانه برب هذه الأشياء، عن الجبائي قال: لا يجوز القسم إلا بالله سبحانه. وقال غيره: بل أقسم بهذه الأشياء تنبيها على عظم موقعها. (إنما توعدون لواقع) هذا جواب القسم، والمعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث والنشور، والثواب والعقاب، لكائن لا محالة. وقيل: إن الفرق بين الواقع والكائن أن الواقع لا يكون إلا حادثا تشبيها بالحائط الواقع، لأنه من أبين الأشياء في الحدوث. والكائن: أعم منه، لأنه بمنزلة الموجود الثابت، يكون حادثا وغير حادث. ثم بين سبحانه وقت وقوعه فقال: (فإذا النجوم طمست) أي محيت آثارها، وأذهب نورها، وأزيل ضوؤها (وإذا السماء فرجت) أي شقت وصدعت، فصار فيها فروج (وإذا الجبال نسفت) أي قلعت من مكانها كقوله سبحانه: (ينسفها ربي نسفا). وقيل: نسفت أذهبت بسرعة حتى لا يبقى لها أثر في الأرض. (وإذا الرسل أقتت) أي جمعت لوقتها، وهو يوم القيامة لتشهد على الامم، وهو قوله: (لأي يوم أجلت) أي أخرت، وضرب لهم الأجل لجمعهم. تعجب العباد من ذلك اليوم، عن إبراهيم ومجاهد وابن زيد. وقيل: اقتت معناه: عرفت وقت الحساب والجزاء، لأنهم في الدنيا لا يعرفون متى تكون الساعة. وقيل: عرفت ثوابها في ذلك اليوم. وقال الصادق عليه السلام: أقتت أي بعثت في أوقات مختلفة.
[ 230 ]
ثم بين سبحانه ذلك اليوم فقال: (ليوم الفصل) أي يوم يفصل الرحمن بين الخلائق. ثم عظم ذلك اليوم فقال: (وما أدراك ما يوم الفصل) ثم أخبر سبحانه حال من كذب به فقال: (ويل يومئذ للمكذبين) هذا تهديد ووعيد. إنما خص الوعيد بمن جحدوا يوم القيامة، وكذبوا به، لأن التكذيب بذلك يتبعه خصال المعاصي كلها، وإن لم يذكر معه. والعامل في الظرف محذوف يدل عليه قوله: (إنما توعدون لواقع) والتقدير: فإذا طمست النجوم، وفرجت السماء، ونسفت الجبال، وأقتت الرسل، وقعت القيامة. (ألم نهلك الأولين (16) ثم نتبعهم الأخرين (17) كذلك نفعل بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القدرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم نجعل الأرض كفاتا (25) أحياء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28). القراءة: قرأ أهل المدينة والكسائي: (فقدرنا) بالتشديد. والباقون: (فقدرنا) بالتخفيف. وفي الشواذ قراءة الأعرج: (نتبعهم) بالجزم. الحجة: قد تقدم أن قدر وقدر بمعنى، والتخفيف أليق بقوله (فنعم القادرون). ومن شد أراد أن يجئ باللغتين، كما يقال جاد مجد (1). وكقوله سبحانه (فمهل الكافرين أمهلهم) ومن جزم نتبعهم، فإنه يحتمل أمرين أحدهما: إنه أسكن العين استثقالا لتوالي الحركات والثاني: أن يكون عطفا على نهلك، كما تقول: ألم أزرك ثم أحسن إليك، فيكون معنى هذه القراءة أنه يريد قوما أهلكهم الله سبحانه بعد قوم قبلهم، على اختلاف أوقات المرسلين إليهم نبيا بعد نبي. وأما الرفع على القراءة المشهورة، فلاستئناف الكلام، أو على أن يجعل خبر مبتدأ محذوف. اللغة: القرار: المكان الذي يمكن طول المكث فيه. والقدر: المقدر المعلوم (1) فلان جاد مجد أي مجتهد يقال: جد الرجل في أمره إذا بلغ فيه جده، وأجد لغة، فجمع بينهما في الكلام ههنا. (*).
[ 231 ]
الذي لا زيادة فيه ولا نقصان. والقدر: المصدر من قولهم قدر يقدر قدرا، وقدرا أي: قدر فمن شدد جمع بين اللغتين، كما قال الأعشى: وأنكرتني، وما كان الذي نكرت، * من الحوادث إلا الشيب، والصلعا (1) وكفت الشئ يكفته كفتا وكفاتا إذا ضمه، ومنه الحديث: (اكفتوا صبيانكم) أي ضموهم إلى أنفسكم ومثله: (ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء). ويقال للوعاء: كفت وكفيت، وقال أبو عبيدة: كفاتا أي أوعية، والرواسي: الثوابت. والشامخات: العاليات. ومنه شمخ بأنفه. إذا رفعه كبرا. وماء فرات وزلال وعذب ونمير، كله من العذوبة والطيب، ومنه سمي النهر العظيم المعروف بالفرات. قال الشاعر: إذا غاب عنا، غاب عنا فراتنا * وإن شهد أجدى نيله وفواضله (2) قال ابن عباس: أصول الأنهار العذبة أربعة: جيحان ومنه دجلة، وسيحان نهر بلخ، وفرات الكوفة، ونيل مصر. الاعراب: (أحياء). منصوب بأنه مفعول قوله (كفاتا) معناه: أن يكفت أحياء وأمواتا، فعلى هذا يكون (كفاتا) مصدرا، وإن جعلته جمع كفت، فيكون العامل في أحياء معناه والتقدير واعية أحياء، أو تعي أحياء. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما فعله بالمكذبين الأولين فقال: (ألم نهلك الأولين) يعني بالعذاب في الدنيا، يريد قوم نوح وعاد وثمود حين كذبوا رسلهم (ثم نتبعهم الآخرين) قوم لوط وإبراهيم، لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم، بل استأنف. وقال المبرد: تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز غيره، لأن قوله (ألم نهلك) ماض وقوله (ثم نتبعهم) مستقبل، ويؤيده قول الحسن إن الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة (كذلك نفعل بالمجرمين) أي كما فعلنا بمن تقدم، نفعل بالمكذبين من أهل مكة. وقد فعل بهم ذلك فقتلوا يوم بدر، وقد يكون الإهلاك بتصيير الشئ إلى حيث لا يدرى أين هو، إما بإعدامه، أو بإخفاء مكانه، وقد يكون بالإماتة. وقد (1) الصلع: انحسار شعر مقدم الرأس. (2) أجدى فلان أي أعطى (*).
[ 232 ]
يكون بالنقل إلى حال الجمادية. (ويل يومئذ) يعني يوم الجزاء (للمكذبين) فإنهم يجازون بأليم العقاب (ألم نخلقكم من ماء مهين) أي حقير قليل الغناء، وفي خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة، والعقل الشريف، والتمييز والنطق، من ماء ضعيف، أعظم الإعتبار، وأبين الحجة على أن له صانعا مدبرا حكيما، والجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول. (فجعلناه) أي فجعلنا ذلك الماء المهين (في قرار مكين) يعني الرحم (إلى قدر معلوم) أي إلى مقدار من الوقت معلوم، يعني مدة الحمل (فقدرنا) أي قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا أو طويلا، ذكرا أو أنثى. (فنعم القادرون) أي: فنعم المقدرون نحن. ويجوز أن يكون المعنى إذا خفف من القدرة أي: قدرنا على جميع ذلك، فنعم القادرون على تدبير ذلك، وعلى ما لا يقدر عليه أحد، إلا نحن، فحذف المخصوص بالمدح (ويل يومئذ للمكذبين) بأنا قد خلقنا الخلق، وأنا نعيدهم (ألم نجعل الأرض كفاتا) للعباد تكفتهم (أحياء) على ظهرها في دورهم ومنازلهم. (و) تكفتهم (أمواتا) في بطنها أي تحوزهم وتضمهم، عن قتادة ومجاهد والشعبي. قال بنان: خرجنا في جنازة مع الشعبي، فنظر إلى الجنازة فقال: هذه كفات الأموات. ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء، وروي ذلك عن أمير المؤمنين عليه اسلام. وقيل: كفاتا أي: وعاء. وهذا كفته أي وعاءه وقوله أحياء وأمواتا أي: منه ما ينبت ومنه ما لا ينبت. فعلى هذا يكون (أحياء وأمواتا) نصبا على الحال، وعلى القول الأول على المفعول به. (وجعلنا فيها رواسي شامخات) أي جبالا ثابتة عالية (وأسقيناكم ماء فراتا) أي وجعلنا لكم سقيا من الماء العذب، عن ابن عباس. (ويل يومئذ للمكذبين) بهذه النعم وأنها من جهة الله. وقيل: بالأنبياء والقرآن، وإنما كرر لأنه عدد النعم، فذكره عند كل نعمة، فلا يعد ذلك تكرارا، وقد تقدم الوجه في التكرار في سورة الرحمن. (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذى ثلث شعب (30) لا ظليل ولا يغني من اللهب (31) إنها ترمي بشرر كالقصر (32) كأنه جمالات صفر (33) ويل يومئذ للمكذبين (34) هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل
[ 233 ]
يومئذ للمكذبين (37) هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40). القراءة: قرأ رويس عن يعقوب: (انطلقوا) الثانية بفتح اللام. والباقون من القراء على كسر اللام فيهما. وقرأ أهل الكوفة، غير أبي بكر (جمالة) بغير ألف. ويعقوب: (جمالات صفر) بالألف، وضم الجيم. وروي ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغيرهما. وقرأ الباقون: (جمالات) بالألف وكسر الجيم. وفي الشواذ قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف (كالقصر) بفتح القاف والصاد. الحجة: من قرأ انطلقوا الثانية بالفتح فإنه حمل الأول على الأمر، والثاني على الخبر، وجمالات: جمع جمال. وجمع بالألف والتاء على تصحيح البناء، كما جمع على تكسيره في قولهم جمائل. قال ذو الرمة: وقربن بالزرق الجمائل بعدما * تقوب عن غربان أوراكها الخطر (1) وأما جمالة فإن التاء لحقت جمالا، لتأنيث الجمع، كما لحقت في فحل وفحالة، وذكر وذكارة، ومن قرأ جمالات بالضم فهي جمع جمالة، وهو القلس (2) من قلوس سفن البحر، ويقال من قلوس الجسر. قال الزجاج: ويجوز أن يكون جمع جمل جمال وجمالات، كما قيل رخال جمع رخل. ومن قرأ (كالقصر) بفتح الصاد فهو جمع قصرة أي: كأنها أعناق الإبل. وقيل القصر أصول الشجر واحدتها قصرة. وكذا قرأها مجاهد قال: وهي خرم الشجر. قال الحسن: قصرة وقصر مثل جمرة وجمر، وهي أصول الشجر. قال: والعامة يجعلونها على القصور. قال ابن جني: وحدثنا أبو علي أن القصر هنا بمعنى القصور. وقال: هي بيوت من أدم كانوا يضربون بها إذا نزلوا على الماء. المعنى: ثم بين سبحانه ما يقال لهم جزاء على تكذيبهم فقال: (انطلقوا إلى (1) الزرق: أكثبة بموضع يقال له الدهناء. والجمائل جمع جمل. والغربان هنا: رؤوس الأوراك. وتقوب: تفطع. وخطر البعير بذنبه يخطر إذا رفعه وحطه نشاطا يريد أن خطر الجمال بأوراكها أحدث فيها قوبا فتقطعت وفي اللسان الخطر: ما لصق بالوركين من البول، ثم استشهد بالبيت. (2) القلس - كفلس: حبل للسفينة ضخم من ليف. وقيل: من خوص. وقيل من غيرهما (*).
[ 234 ]
ما كنتم به تكذبون) أي تقول لهم الخزنة إذهبوا وسيروا إلى النار التي كنتم تجحدونها، وتكذبون بها، ولا تعترفون بصحتها في الدنيا. والإنطلاق: الإنتقال من مكان إلى مكان من غير مكث. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالإنطلاق إليه، فقال: (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) أي نار لها ثلاث شعب، سماها ظلا لسواد نار جهنم. وقيل: هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر: شعبة تكون فوقه، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله. وسمي الدخان ظلا، كما قال: (أحاط بهم سرادقها) أي من الدخان الآخر بالإنفاث، عن مجاهد وقتادة. وقيل: يخرج من النار لسان فيحيط بالكافر كالسرادق، فيتشعب ثلاث شعب، فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب. ثم وصف سبحانه ذلك الظل فقال: (لا ظليل) أي غير مانع من الأذى بستره عنه، ومثله الكنين. فالظليل من الظلة، وهي السترة. والكنين من الكن. فظل هذا الدخان لا يغني الكفار شيئا من حر النار، وهو قوله: (ولا يغني من اللهب). واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر، يعني أنهم إذا استظلوا بذلك الظل، لم يدفع عنهم حر اللهب. ثم وصف سبحانه النار فقال: (إنها ترمي بشرر) وهو ما يتطاير من النار في الجهات (كالقصر) أي مثله في عظمه وتخويفه، تتطاير على الكافرين من كل جهة، نعوذ بالله منه، وهو واحد القصور من البنيان، عن ابن عباس، ومجاهد. والعرب تشبه الإبل بالقصور. قال الأخطل: كأنه برج رومي يشيده * لز بجص، وآجر، وأحجار (1) قال عنترة: فوقفت فيها ناقتي، وكأنها * فدن لأقضي حاجة المتلوم (2) والفدن: القصر. وقيل: كالقصر أي كأصول الشجر العظام، عن قتادة والضحاك وسعيد بن جبير. ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر فقال: (كأنه جمالات صفر) أي كأنها أينق سود لما يعتري سوادها من الصفرة، عن الحسن، وقتادة. قال الفراء: لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، ولذلك سمت العرب سود (1) لز الشئ بالشئ: شده وألصقه. (2) التلوم: الإنتظار (*).
[ 235 ]
الإبل صفراء. وقيل: هو من الصفرة، لأن النار تكون صفراء، عن الجبائي. (ويل يومئذ للمكذبين) بنار هذه صفتها. (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) قيل في معناه قولان أحدهما: إنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به، فكأنهم لم ينطقوا والثاني: إن في القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم ولا يتكلمون. وعن قتادة قال: جاء رجل إلى عكرمة قال: أرأيت قول الله تعالى (هذا يوم لا ينطقون) وقوله (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فقال: إنها مواقف فأما موقف منها فتكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون. وأجاز النحويون: هذا يوم لا ينطقون بالنصب على أنه يشير إلى الجزاء، ولا يشير إلى اليوم. وقوله (فيعتذرون) رفع عطفا على قوله (ولا يؤذن لهم) تقديره فلا يعتذرون، ولو قيل: فلا يعتذروا فنصب لكان المعنى أن الإذن سبب لعذرهم، ولكن المعنى لا يؤذن لهم في الإعتذار، فهم لا يعتذرون. (ويل يومئذ للمكذبين) بهذا الخبر (هذا يوم الفصل) بين أهل الجنة والنار، وقيل: هذا يوم الحكم والقضاء بين الخلق والإنتصاف للمظلوم من الظالم، وفصل القضاء يكون في الآخرة على ظاهر الأمر وباطنه، بخلاف الدنيا، لأن القاضي يحكم على ظاهر الأمر في الدنيا، ولا يعرف البواطن (جمعناكم والأولين) يعني مكذبي هذه الأمة مع مكذبي الأمم قبلها، يجمع الله سبحانه الخلائق في يوم واحد، وفي صعيد واحد (فإن كان لكم كيد فكيدون) أي إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم. وقيل: إن هذا توبيخ من الله تعالى للكفار، وتقريع لهم، وإظهار لعجزهم عن الدفع عن أنفسهم، فضلا عن أن يكيدوا غيرهم، وإنما هو على أنكم كنتم تعملون في دار الدنيا ما يغضبني، فالآن عجزتم عن ذلك، وحصلتم على وبال ما عملتم (ويل يومئذ للمكذبين) بهذا. (إن المتقين في ظلل وعيون (41) وفوكه مما يشتهون (42) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (43) إنا كذلك نجزى المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) وإذا قيل لهم اركعوا لا
[ 236 ]
يركعون (48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأى حديث بعده، يؤمنون (50). المعنى: ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال: (إن المتقين) الذين اتقوا الشرك والفواحش (في ظلال) من أشجار الجنة (وعيون) جارية بين أيديهم في غير أخدود لأن ذلك أمتع لهم بما يرونه من حسن مياهها وصفائها. وقيل: عيون أي ينابيع بما يجري خلال الأشجار (وفواكه) جمع فاكهة وهي ثمار الأشجار (مما يشتهون) أي من جنس ما يشتهونه. والشهوة: معنى في القلب إذا صادف المشتهى كان لذة، وضدها النفار. ثم يقال لهم (كلوا واشربوا) صورته صورة الأمر، والمراد الإباحة. وقيل: إنه أمر على الحقيقة، وهو سبحانه يريد منهم الأكل والشرب في الجنة، فإنهم إذا عملوا ذلك ازداد سرورهم، فلا يكون إرادته لذلك عبثا (هنيئا بما كنتم تعملون) في دار الدنيا أي: خالصا من التكدير. والهنئ: النفع الخالص من شائب الأذى. وقيل: هو الأذى الذي لا أذى يتبعه. (إنا كذلك نجزي المحسنين) هذا ابتداء الإخبار من الله تعالى، ويقال لهم ذلك أيضا (ويل يومئذ للمكذبين) بهذا الوعد، ثم عاد الكلام إلى ذكر المكذبين، فقال سبحانه: (كلوا) أي: يقال لهم كلوا (وتمتعوا) في الدنيا (قليلا) أي تمتعا قليلا، أو زمانا قليلا، فإن الموت كائن لا محالة (إنكم مجرمون) أي مشركون مستحقون للعقاب (ويل يومئذ للمكذبين) بهذا الوعيد. (وإذا قيل لهم اركعوا) أي صلوا (لا يركعون) أي لا يصلون. قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله بالصلاة فقالوا: لا ننحني - والرواية لا نحني - فإن ذلك سبة علينا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم (لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود). وقيل: إن المراد بذلك يوم القيامة، حين يدعون إلى السجود، فلا يستطيعون، عن ابن عباس. (ويل يومئذ للمكذبين) بوجوب الصلاة والعبادات. (فبأي حديث بعده يؤمنون) أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدقون، ولم يصدقوا به مع إعجازه، وحسن نظمه، فإن من لم يؤمن به مع ما فيه من الحجة الظاهرة، والآية الباهرة، لا يؤمن بغيره.
[ 237 ]
78 - سورة النبا مكية وآياتها أربعون وتسمى سورة النبأ، وسورة المعصرات، ومنهم من يقول سورة التساؤل، وهي مكية عدد آيها: إحدى وأربعون آية مكي وبصري، وأربعون في الباقين. اختلافها: آية واحدة عذابا قريبا مكي بصري. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ومن قرأ سورة (عم يتساءلون) سقاه الله برد الشراب يوم القيامة " وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من قرأ عم يتساءلون، لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم، حتى يزور البيت الحرام. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة، ووعيد المكذبين بها، افتتح هذه السورة بذكرها، وذكر دلائل القدرة على البعث والإعادة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (عم يتساءلون (1) عن النبا العظيم (2) الذى هم فيه مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5) ألم نجعل الأرض مهدا (6) والجبال أو تادا (7) وخلقنكم أزوجا (8) وجعلنا نومكم سباتا (9) وجعلنا اليل لباسا (10) وجعلنا النهار معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا شدادا (12) وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرت ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنت ألفافا (16). القراءة: في الشواذ قراءة عكرمة، وعيسى بن عمر: (عما يتساءلون) وقرأ
[ 238 ]
ابن الزبير، وابن عباس، وقتادة: (وأنزلنا بالمعصرات). الحجة: قال ابن جني: إثبات الألف في (ما) الإستفهامية إذا دخل عليها حرف جر أضعف اللغتين، وروينا عن قطرب لحسان: على ما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في رماد (1) وقال في قوله (بالمعصرات) إذا أنزل منها، فقد أنزل بها، كقولهم: أعطيته من يدي شيئا وبيدي شيئا. والمعنى واحد. ومعنى من هنا ابتداء الغاية أي: كان مبتدأ العطية من يده. اللغة: النبأ: الخبر العظيم الشأن، ومنه النبئ على مذهب من يهمز. والمهاد: الوطاء ومهد الشئ تمهيدا أي: وطأه توطية. والوتد: المسمار إلا أنه أغلظ منه. والسبات: قطع العمل للراحة، ومنه سبت أنفه إذا قطعه. ومنه يوم السبت أي يوم قطع العمل على ما جرت به العادة في شرع موسى عليه السلام. والوهاج: الوقاد. وهو المشتعل بالنور العظيم. والمعصرات: السحائب تعتصر بالمطر، كأن السحاب يحمل الماء ثم تعصره الرياح، وترسله كإرسال الماء بعصر الثوب. وعصر القوم: مطروا. والثجاج: الدفاع في انصبابه كثج دماء البدن، يقال: ثججت دمه أثجه ثجا وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وفي الحديث: (أفضل الحج العج فالثج) فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إسالة دم الهدي. والألفاف: الأخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض، واحدها لف ولفيف. وقيل: شجرة لفاء، وأشجار لف بضم اللام، وجنات ألفاف. الإعراب: (عم): أصله (عن ما) جعل النون ميما، وأدغم في الميم، وحذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر، حتى صارت كالجزء منه، وليحصل الفرق بين الإستفهام والخبر. وهذه الحروف التي تسقط معها هذه الألف ثمانية: عن تقول: عم، ومن تقول: مم، و (الباء) نحو (بم)، واللام نحو (لم) وفي نحو فيم وإلى نحو (إلى م) وعلى نحو: (على م)، وحتى نحو: (حتى م). قال البصير جامع العلوم النحوي عن النبأ العظيم: لا يكون بدلا من (عم)، لأنه لو كان بدلا لوجب تكرار ما لأن الجار المتصل بحرف الإستفهام إذا أعيد، أعيد مع الحرف المستفهم (1) تمرغ في التراب: تقلب (*).
[ 239 ]
به، كقولك: بكم ثوبك ؟ أبعشرين أم بثلاثين ؟ ولا يجوز بعشرين من غير همزة، فإذا كان كذلك كان قوله (عن النبأ) متعلقا بفعل آخر دون هذا الظاهر. المعنى: (عم يتساءلون) قالوا: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرهم بتوحيد الله تعالى، وبالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم أي يسأل بعضهم بعضا على طريق الإنكار والتعجب، فيقولون: ماذا جاء به محمد، وما الذي أتى به. فأنزل الله تعالى (عم يتساءلون) أي عن أي شئ يتساءلون. قال الزجاج: اللفظ لفظ الإستفهام، والمراد تفخيم القصة، كما تقول: أي شئ زيد إذا عظمت شأنه. ثم ذكر أن تساؤلهم عن ماذا فقال: (عن النبأ العظيم) وهو القرآن، ومعناه الخبر العظيم الشأن، لأنه ينبئ عن التوحيد، وتصديق الرسول، والخبر عما يجوز، وعما لا يجوز، وعن البعث والنشور. وقيل: يعني يوم القيامة، عن الضحاك، وقتادة، ويؤيده قوله: (إن يوم الفصل كان ميقاتا). وقيل: النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته، والملائكة والرسل والبعث والجنة والنار والرسالة والخلافة، فإن النبأ معروف يتناول الكل. (الذي هم فيه مختلفون) فمصدق به ومكذب (كلا) أي ليس الأمر كما قالوا (سيعلمون) عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور (ثم كلا سيعلمون) هذا وعيد على أثر وعيد. وقيل: كلا أي حقا سيعلمون أي: سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، عن الضحاك، وقيل: كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة، ثم كلا سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب، فعلى هذا لا يكون تكرارا. ثم نبههم سبحانه على وجه الإستدلال على صحة ذلك، فقال: (ألم نجعل الأرض مهادا) أي وطاء وقرارا مهيئا للتصرف فيه من غير أذية. وقيل: مهادا أي بساطا، عن قتادة. (والجبال أوتادا) للأرض لئلا تميد بأهلها (وخلقنكم أزواجا) أي أشكالا كل واحد شكل للآخر. وقيل: معناه ذكرانا وإناثا حتى يصح منكم التناسل، ويتمتع بعضكم ببعض. وقيل: أصنافا أسود وأبيض، وصغيرا وكبيرا، إلى غير ذلك. (وجعلنا نومكم سباتا) اختلف في معناه على وجوه أحدها: إن معناه وجعلنا نومكم راحة ودعة لأجسادكم وثانيها: إن المعنى جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم وتصرفكم، عن ابن الأنباري وثالثها: جعلنا نومكم سباتا ليس بموت على الحقيقة،
[ 240 ]
ولا مخرجا عن الحياة والإدراك (وجعلنا الليل لباسا) أي غطاء وسترة يستر كل شئ بظلمته وسواده (وجعلنا النهار معاشا) المعاش العيش أي: جعلناه مطلب معاش أي مبتغى معاش. وقيل: معناه وجعلنا النهار وقت معاشكم لتتصرفوا في معاشكم، أو موضع معاشكم، تبتغون فيه من فضل ربكم. (وبنينا فوقكم سبعا) أي سبع سماوات (شدادا) محكمة أحكمنا صنعها، وأوثقنا بناءها. (وجعلنا سراجا وهاجا) يعني الشمس جعلها سبحانه سراجا للعالم، وقادا متلألئا بالنور، يستضيئون به. فالنعمة عامة به لجميع الخلق. قال مقاتل: جعل فيه نورا وحرا. والوهج يجمع النور والحر. (وأنزلنا من المعصرات) أي الرياح ذوات الأعاصير، عن مجاهد وقتادة والكلبي. وقال الأزهري: ومن معناه الباء، فكأنه قال بالمعصرات، أو ذلك أن الريح تستدر المطر. وقيل: المعصرات السحائب، تتحلب بالمطر، عن الربيع، وأبي العالية، وهو رواية الوالبي، عن ابن عباس (ماء ثجاجا) أي صبابا دفاعا في انصبابه. وقيل: مدرارا، عن مجاهد. وقيل: متتابعا يتلو بعضه بعضا عن قتادة (لنخرج به) أي بالماء (حبا ونباتا) فالحب كل ما تضمنه كمام الزرع الذي يحصد. والنبات: الكلأ بن الحشيش والزرع ونحو هما. فجمع سبحانه بين جميع ما يخرج من الأرض. وقيل: حبا يأكله الناس، ونباتا تنبته الأرض مما يأكله الأنعام. (وجنات ألفافا) أي بساتين ملتفة بالشجر، والتقدير: ونخرج به شجر جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما سمي جنة، لأن الشجر تجنها أي تسترها. (إن يوم الفصل كان ميقتا (17) يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا (18) وفتحت السماء فكانت أبوبا (19) وسيرت الجبال فكانت سرابا (20) إن جهنم كانت مرصادا (21) للطغين مئابا (22) لبثين فيها أحقابا (23) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (24) إلا حميما وغساقا (25) جزاء وفاقا (26) إنهم كانوا لا يرجون حسابا (27) وكذبوا بئايتنا كذابا (28) وكل شئ أحصينه كتبا (29) فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا (30). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير الأعشى والبرجمي: (وفتحت) بالتخفيف.
[ 241 ]
والباقون بالتشديد. وقرأ حمزة لبثين بغير الألف. والباقون: (لابثين) بالألف. والخلاف في (غساق) مذكور في ص. ورووا عن علي بن أبي طالب عليه السلام: (وكذبوا بآياتنا كذابا) خفيفة. والقراءة المشهورة: (وكذبوا بآياتنا كذابا) بالتثقيل. وحكى أبو حاتم في الشواذ عن عبد الله بن عمر: (كذابا) بضم الكاف، وتشديد الذال. الحجة: قال أبو علي: فتحت بالتشديد أوفق لقوله تعالى: (مفتحة لهم الأبواب) ومن حجة التخفيف قوله: (فتحنا عليهم أبواب كل شئ). وحجة من قرأ (لابثين) بالألف، مجئ المصدر على اللبث، فهو من باب شرب يشرب، ولقم يلقم. وليس من باب فرق يفرق، إذ لو كان منه لكان المصدر مفتوح العين. فلما أسكن وجب أن يكون اسم الفاعل على فاعل كشارب ولاقم، كما كان اللبث كاللقم. ومن قرأ (لبثين): جعل اسم الفاعل فعلا، وقد جاء غير حرف من هذا النحو على فاعل وفعل، والكذاب: مصدر كذب، كما أن الكلام مصدر كلم. وكذا القياس فيما زاد على الثلاثة، أن تأتي بلفظ الفعل، وتزيد في آخره الألف، كقوله أكرمته إكراما. وأما التكذيب فزعم سيبويه أن التاء عوض من التضعيف، والياء التي قبل الآخر كالألف. فأما الكذاب فمصدر كذب. قال الأعشى: فصدقته، وكذبته * والمرء ينفعه كذابه فهو مثل كتاب في مصدر كتب. وأما الكذاب بضم الكاف، فقد قال أبو حاتم: لا وجه له إلا أن يكون كذاب جمع كاذب، فينصبه على الحال أي: وكذبوا بآياتنا في حال كذبهم. قال طرفة: إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا * به، حين يأتي، لا كذاب، ولا علل اللغة: الميقات: منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور، وهو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد والمقدار من القدر. والمرصاد هو المعد لأمر على ارتقاب الوقوع فيه. قال الازهري: المرصاد المكان الذي يرصد فيه العدو. والأحقاب: جمع واحدها حقب من قوله: (أو أمضى حقبا) أي دهرا طويلا. وقيل: واحده حقب بفتح القاف، وواحد الحقب حقبة. قال:
[ 242 ]
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الذهر، حتى قيل: لن يتصدعا (1) الاعراب: يوم الفتح: منصوب لأنه بدل من يوم الفصل و (أفواجا): نصب على الحال. (لا يذوقون فيها بردا): جملة يجوز أن يكون حالا من (لابثين)، والتقدير يلبثون غير ذائقين. ويجوز أن يكون صفة لقوله (أحقابا)، والتقدير أحقابا غير مذوق فيها، و (جزاء): مصدر وضع موضع الحال. (وكل شئ): منصوب بفعل مضمر يفسره قوله (أحصيناه). و (كتابا): منصوب على المصدر، لأن كتب في معنى أحصى، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي نكتبه، والتقدير أحصيناه كاتبين. المعنى: ثم ذكر سبحانه الإعادة والبعث تنبيها على أنه دل بذكر الآيات فيما تقدم على صحة البعث فقال: (إن يوم الفصل) أي يوم القضاء الذي يفصل الله فيه الحكم بين الخلاق (كان ميقاتا) لما وعد الله من الجزاء والحساب والثواب والعقاب (يوم ينفخ في الصور) قد مر معناه (فتأتون أفواجا) أي جماعة جماعة إلى أن تتكاملوا في القيامة. وقيل: زمرا زمرا من كل مكان للحساب، وكل فريق يأتي مع شكله. وقيل: إن كل أمة تأتي مع نبيها، فلذلك جاؤوا أفواجا أفواجا (وفتحت السماء) أي شقت لنزول الملائكة (فكانت أبوابا) أي ذات أبواب أبواب. وقيل: صار فيها طرق، ولم تكن كذلك من قبل (وسيرت الجبال) أي أزيلت عن أماكنها، وذهب بها. (فكانت سرابا) أي كالسراب يظن أنها جبال، وليست إياها. وفي الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول (ص) في منزل أبي أيوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول الله ! أرأيت قول الله تعالى: (يوم ينفخ في الصور فتاتون أفواجا) الآيات. فقال: " يا معاذ ! سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه، ثم قال: يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا، قد ميزهم الله من المسلمين، وبدل صورهم بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم من فوق، ووجوههم من تحت، ثم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون (1) مر البيت بمعناه في ما سبق. (*)
[ 243 ]
ألسنتهم، فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران، لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات (1) من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا. والعمي: الجائرون في الحكم. والصم والبكم: المعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: الذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان. والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوادت واللذات، ويمنعون حق الله في أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء ". (إن جهنم كانت مرصادا) يرصدون به أي هي معدة لهم، يرصد بها خزنتها الكفار، عن المبرد. وقيل: مرصدا محبسا يحبس فيه الناس، عن مقاتل. وقيل: طريقا منصوبا على العاصين، فهو موردهم ومنهلهم، وهذا إشارة إلى أن جهنم للعصاة على الرصد لا يفوتونها (للطاغين مابا) أي للذين جاوزوا حدود الله، وطغوا في معصية الله مرجعا يرجعون إليه، ومصيرا. فكأن المجرم قد كان بإجرامه فيها، ثم رجع إليها. (لابثين فيها أحقابا) أي ماكثين فيها أزمانا كثيرة، وذكر فيها أقوال أحدها. إن المعنى أحقابا لا انقطاع لها، كلما مضى حقب، جاء بعده حقب آخر. والحقب: ثمانون سنة من سني الآخرة، عن قتادة والربيع. وثانيها: إن الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا، كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، وكل يوم ألف سنة، عن مجاهد وثالثها: إن الله تعالى لم يذكر شيئا إلا وجعل له مدة ينقطع إليها، ولم يجعل لأهل النار مدة، بل قال لابثين فيها أحقابا " فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب، دخل آخر، ثم آخر، كذلك إلى أبد الآبدين، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار، ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك السنين ألف سنة مما نعده، عن الحسن. ورابعها: إن مجاز الآية (لابثين فيها أحقابا) لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا (1) النمامون. (*)
[ 244 ]
ولا شرابا، إلا حميما وغساقا. ثم يلبثون فيها، لا يذوقون غير الحميم والغساق من أنواع العذاب. فهذا توقيت لأنواع العذاب، لا لمكثهم في النار، وهذا أحسن الأقوال. وخامسها: إنه يعني به أهل التوحيد، عن خالد بن معدان. وروى نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): " لا يخرج من النار من دخلها، حتى يمكث فيها أحقابا. والحقب: بضع وستون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار ". وروى العياشي بإسناده عن حمران قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية، فقال: هذه في الذين يخرجون من النار. وروي عن الأحول مثله. وقوله: (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا) يريد النوم والماء، عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: البرد النوم هنا، وأنشد: " فصدني عنها وعن قبلاتها البرد " (1) أي النوم. وقيل: لا يذوقون في جهنم بردا ينفعهم من حرها، ولا شرابا ينفعهم من عطشها، عن مقاتل. (إلا حميما) وهو الماء الحار، الشديد الحر (وغساقا) وهو صديد أهل النار (جزاء وفاقا) أي وافق عذاب النار الشرك، لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار، عن مقاتل. وقيل: جوزوا جزاء وفق أعمالهم، عن الزجاج، وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. والوفاق: الجاري على المقدار، فالجزاء وفاق لأنه جار على مقدار الأعمال في الإستحقاق. (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) أي فعلنا ذلك بهؤلاء الكفار لأنهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى: كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا بأنهم محاسبون، عن الحسن وقتادة. وقيل: لا يرجون المجازاة على الأعمال، ولا يظنون أن لهم حسابا، عن أبي مسلم. وقال الهذلي في الرجاء بمعنى الخوف. إذا لسعته النحل، لم يرج لسعها، * وخالفها في بيت نوب عواسل (2) (وكذبوا باياتنا) أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بالقرآن. وقيل. بحجج (1) هذا عجز بيت للكندي، وتمامه: بردت مراشفها علي فصدني * عنها وعن قبلاتها البرد والمراشف الشفاه. (2) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 245 ]
الله، ولم يصدقوا بها (كذابا) أي تكذيبا (وكل شئ أحصيناه كتابا) أي وكل شئ من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، ومثله (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين). وقيل: معناه وكل شئ من أعمالهم حفظناه لنجازيهم به. ثم بين أن ذلك الإحصاء والحفظ، وقع بالكتابة، لأن الكتابة أبلغ في حفظ الشئ من الإحصاء. ويجوز أن يكون (كتابا) حالا مؤكدة أي أحصيناه في حال كونه مكتوبا عليهم، والكتاب بمعنى المكتوب. (فذقوا) أي فقيل لهؤلاء الكفار ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب. (فلن نزيدكم إلا عذابا) لأن كل عذاب يأتي بعد الوقت الأول، فهو زائد عليه. إن للمتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب أترابا (33) وكأسا دهاقا (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (35) جزاء من ربك عطاء حسابا (36) رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا (37) يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمو ن إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا (38) ذلك اليو م الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا (39) إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا (40) القراءة: قرأ الكسائي: (ولا كذابا) بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو (رب السماوات) بالرفع. والباقون بالجر. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب وسهل: (الرحمن) بالجر. والباقون بالرفع. الحجة: (ولا كذابا): يجوز أن يكون مصدر كذب، فيكون معناه: ولا كذبا. ويجوز أن يكون مصدر كاذبه مكاذبة وكذابا، وبالتشديد قد يكون مصدر كذب. قال الفراء: قال أعرابي في طريق مكة: يابا زكريا ! القصار أحب إليك أم الحلق ؟ يريد أقصر شعري أم أحلق. ومن قرأ (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن) قطع الإسم الأول من الجر الذي قبله في قوله (جزاء من ربك) فابتدأه، وجعل (الرحمن) خبره، ثم استانف (لا يملكون منه). ومن قرأ (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن) أتبع الإسمين الجر الذي قبلهما في قوله (من ربك). ومن قرأ (رب السماوات... الرحمن) أتبع رب السماوات الجر الذي في قوله من
[ 246 ]
ربك واستانف بقوله الرحمن وجعل قوله لا يملكون خبر قوله الرحمن. اللغة: الحديقة: الجنة المحوطة، والجمع حدائق، ومنه أحدق القوم بفلان إذا طافوا به. ومنه الحدقة لأنه يحيط بها جفنها. والأعناب: جمع عنب، وهو ثمر الكرم قبل أن يجف، فإذا جف فهو الزبيب، والكواعب: جمع الكاعب، وهي الجارية التي نهد ثدياها. والأتراب: جمع الترب. وهي اللدة التي تنشأ مع لدتها على سن الصبي الذي يلعب بالتراب. والدهاق: الكأس الممتلئة التي لا مزيد فيها. وأصل الدهق: شدة الضغط. أدهقت الكأس: ملأتها. قال: (يلذه بكأسه الدهاق). وعطاء حسابا أي: كثيرا كافيا. يقال: أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال: حسبي قال: ونقفي وليد الحي إن كان جائعا، * ونحسبه إن كان ليس بجائع (1) قال الأصمعي: يقال حسبت الرجل بالتشديد أي أكرمته، وأنشد: إذا أتاه ضيفه يحسبه * من حاقن، أو من صريح يحلبه (2) الاعراب: (حدائق): بدل من قوله (مفازا) بدل البعض من الكل، وكذلك ما بعده. و (أترابا). صفة لكواعب. (جزاء). منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا أي: جازاهم بذلك جزاء، وأعطاهم عطاء، فإن معنى جازاهم وأعطاهم واحد. (يوم يقوم الروح): ظرف لقوله (إلا يملكون). وقوله (صفا) منصوب على الحال. و (يوم ينظر): ظرف لقوله (عذابا) لأنه بمعنى التعذيب. المعنى: ثم عقب سبحانه وعيد الكفار بالوعد للمتقين الأبرار فقال: (إن للمتقين) الذين يتقون الله باجتناب الشرك والمعاصي (مفازا) أي فوزا ونجاة إلى حال السلامة والسرور. وقيل: المفاز موضع الفوز، وقالوا للمهلكة: مفازة على طريق التفاؤل، كأنهم قالوا (3) وقيل: مفازا منجى إلى متنزه، وهو النجاة من النار إلى الجنة. ثم بين ذلك الفوز فقال: (حدائق وأعنابا) يعني أشجار الجنة وثمارها (وكواعب أترابا) أي جواري تكعب ثديهن مستويات في السن، عن قتادة، ومعناه (1) أقفى فلانا بالأمر: آثره به. (2) حقن اللبن. جمعه في السقاء. (3) [ منجاة ]. (*).
[ 247 ]
استواء الخلقة والقامة والصورة والسن، حتى يكن متشاكلات، وقيل أترابا على مقدار أزواجهن في الحسن والصورة والسن، عن أبي علي الجبائي. (وكأسا دهاقا) أي مترعة مملؤة، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: متتابعة على شاربيها أخذ من متابعة الشد في الدهق، عن مجاهد وسعيد بن جبير. وقيل: دمادم، عن أبي هريرة. وقيل: على قدر ريهم، عن مقاتل. (لا يسمعون فيها) أي في الجنة لغوا، أي كلاما لغوا لا فائدة فيه (ولا كذابا) ولا تكذيب بعضهم لبعض. ومن قرأ بالتخفيف يريد ولا مكاذبة، عن أبي عبيدة. وقيل: كذبا، عن أبي علي الفارسي (جزاء من ربك) أي فعل بالمتقين ما فعل بهم جزاء من ربك على تصديقهم بالله ونبيه (ص). (عطاء) أي أعطاهم الله عطاء (حسابا) أي كافيا، عن أبي عبيدة والجبائي. وقيل: حسابا أي كثيرا. وقيل. حسابا على قدر الإستحقاق، وبحسب العمل. قال الزجاج. معناه ما يكفيهم أي: إن فيه ما يشتهون (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن) مر ذكره، والمعنى: إن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هو رب السماوات والأرض، ومدبرهما، ومدبر ما بينهما، والمتصرف فيهما على ما يشاء الرحمن المنعم على خلقه، مؤمنهم وكافرهم. (لا يملكون منه خطابا) أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه، كقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقوله: (لا تكلم نفس إلا بإذنه) والخطاب: توجيه الكلام إلى مدرك له بصيغة منبئة عن المراد على طريقة أنت وربك. قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) أي في ذلك اليوم. اختلف في معنى الروح هنا على أقوال أحدها: إن الروح خلق من خلق الله تعالى على صورة بني آدم، وليسوا بناس، وليسوا بملائكة يقومون صفا، والملائكة صفا هؤلاء جند، وهؤلاء جند، عن مجاهد وقتادة وأبي صالح. قال الشعبي: هما سماطا (1) رب العالمين يوم القيامة: سماط من الروح، وسماط من الملائكة وثانيها: إن الروح ملك من الملائكة، ما خلق الله مخلوقا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفهم، عن ابن مسعود، وعن عطاء، عن ابن عباس. (1) السماط: صف الجنود الذين يتقدمون بين يدي الملك. (*)
[ 248 ]
وثالثها: إن أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد، عن عطية، عن ابن عباس ورابعها: إنه جبريل عليه السلام عن الضحاك. وقال وهب: إن جبرائيل (ع) واقف بين يدي الله، عز وجل، ترتعد فرائصه، يخلق الله عز وجل، من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى، منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالو: لا إله إلا أنت. وقال صوابا أي: لا إله إلا الله. وروى علي بن ابراهيم بإسناده عن الصادق (ع) قال: هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل. وخامسها: إن الروح بنو آدم عن الحسن وقوله صفا معناه مصطفين (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) وهم المؤمنون والملائكة (وقال) في الدنيا (صوابا) أي شهد بالتوحيد. وقال: لا اله إلا الله. وقيل: إن الكلام ههنا الشفاعة أي: لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع، عن الحسن، والكلبي. وروى معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (ع) قال: سئل عن هذه الأية فقال: نحن والله المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون. قال: جعلت فداك ما تقولون ؟ قال: نمجد ربنا، ونصلي على نبينا (ص) ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربنا. رواه العياشي مرفوعا (ذلك اليوم الحق) الذي لا شك في كونه وحصوله، يعني القيامة (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) أي مرجعا للطاعة، والمعنى: فمن شاء عمل عملا صالحا يؤوب إلى ربه، فقد أزيحت العلل، وأوضحت السبل، وبلغت الرسل. والمآب: مفعل من الأوب، وهو الرجوع. قال عبيد: وكل ذي غيبة يؤوب، * وغائب الموت لا يؤوب ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) يعني العذاب في الاخرة، فإن كل ما هو آت قريب (يوم ينظز المرء ما قدمت يداه) أي ينتظر جزاء ما قدمه، فإن قدم الطاعة انتظر الثواب، وإن قدم المعصية انتظر العقاب. وقيل: معناه أن كل أحد ينظر إلى عمله في ذلك اليوم، من خير وشر، مثبتا عليه في صحيفته، فيرجو ثواب الله على صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله. (ويقول الكافر) في ذلك اليوم (يا ليتني كنت ترابا) أي يتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد، ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم. قال الزجاج: إن معنى (يا ليتني كنت ترابا) يا ليتني لم أبعث. قال عبد الله بن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت
[ 249 ]
الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش. ثم يجعل القصاص بين الدواب، حتى يقتص للشاة الجماء (1) من الشاة القرناء التي نطحتها. وقال مجاهد: يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة. وقال المقاتلان: إن الله يجمع الوحوش والهوام والطير، وكل شئ غير الثقلين، فيقول: من ربكم ؟ فيقولون: الرحمن الرحيم. فيقول لهم الرب بعدما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء: إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم، وكنتم مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا، فتكون ترابا. فإذا التفت الكافر إلى شئ صار ترابا يتمنى فيقول. يا ليتني كنت في الدنيا على صورة خنزير، رزقي كرزقه، وكنت اليوم أي في الأخرة ترابا. وقيل: إن المراد بالكافر هنا إبليس، عاب آدم بان خلق من تراب، وافتخر بالنار، فيوم القيامة إذا رأى كرامة آدم وولده المؤمنين، قال: يا ليتني كنت ترابا. (1) الجماء: التي لا قرن لها. (*)
[ 250 ]
سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون عددها آيها ست وأربعون آية كوفي، وخمس في الباقين. اختلافها: آيتان ولأنعامكم حجازي كوفي طغى عراقي شامي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة والنازعات لم يكن حسبه وحسابه يوم القيامة إلا كقدر صلاة مكتوبة، حتى يدخل الجنة،. وقال أبو عبد الله (ع): من قرأها لم يمت إلا ريان، ولم يبعثه الله إلا ريان، ولم يدخله الجنة إلا ريان. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر أحوال القيامة وأهوالها، افتتح هذه السورة بمثله، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قلوب يومئذ واجفة (8) أبصارها خاشعة (9) يقولون أإنا لمردودون في الحافرة (10) أإذا كنا عظاما نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة خاسرة (12) فإنما هي زجرة واحدة (13) فإذا هم بالساهرة (14). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص وقتيبة ونصير ورويس عن يعقوب: (ناخرة) بالألف. والباقون: (نخرة) بغير ألف. وروى أبو عمرو الدوري وحمدون عن الكسائي (ناخرة ونخرة) لا يبالي كيف قرأ. وفي الشواذ قراءة أبي حياة:
[ 251 ]
(الحفرة) بغير ألف. وقرأ نافع غير قالون ويعقوب: (انا لمردودون) بهمزة واحدة غير ممدودة (إذا كنا) بغير استفهام. وقرأ ابن عامر والكسائي: (أءنا لمردودون) بهمزتين (إذا كنا) كما تقدم. وقرأ ابن كثير: (إنا إذا كنا) بالإستفهام فيهما بهمزة واحدة غير ممدودة. وقرأ أبو عمرو بالإستفهام فيهما بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم وحمزة وخلف فيهما بهزتين مميزتين. وقد تقدم ذكر هذا مشروحا في مواضع. الحجة: نخرة وناخرة لغتان. وقال الفراء: النخرة البالية. والناخرة المجوفة. قال الزجاج: ناخرة أكثر، وأجود لشبه أواخر الأي بعضها ببعض نحو الخاسرة والحافرة. وأما الوجه في الحفرة، فهو أن يكون أراد الحافرة، كقراءة الجماعة، فحذف الألف تخفيفا، كما في قوله: أصبح قلبي صردا * لا يشتهي أن يردا * إلا عردا (1) أي عاردا.، اللغة: الغرق: اسم أقيم مقام المصدر، وهو الإغراق. يقال: أغرق في النزع: إذا استوفى في مد القوس، وبالغ فيه. والنشط: النزع أيضا، ومنه حديث أم سلمة: (فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة، ونشط زينب من حجرها) أي نزعها. ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج بنشاط. والهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلى حال. قال هميان بن قحافة: أمست همومي تنشط المناشطا * الشام بي طورا، وطورا واسطا (2) وأنشطت العقدة: حللتها. ونشطتها: عقدتها. قالوا: كأنما أنشط من عقال. والأنشوطة: العقدة تنحل إذا مد طرفاها، يقال: ما عقاله بأنشوطة. والرجف: حركة الشئ من تحت غيره بترديد واضطراب. والرجفة: الزلزلة العظيمة. وأرجفوا أي: أزعجوا الناس باضطراب الأمور. وكل شئ تبع شيئا فقد ردفه. وإرداف النجوم: (1) في (اللسان) عن الأزهري: إذا انتهى القلب عن شئ صرد عنه. ثم استشهد بهذا البيت. والعرادة: نبت أو شجرة صلبة. وفي (اللسان) أيضا قال أبو الهيثم: تقول العرب قيل للضب: وردا وردا فقال: (أصبح قلبي... الأبيات) وعراد عرد على المبالغة. (2) يعني صارت همومي تنقلني من بلد إلى بلد، فمرة إلى الشام، ومرة إلى واسط العراق. (*)
[ 252 ]
تواليها يتبع بعضها بعضا. وأرداف الملوك في الجاهلية: الذين يخلفون الملوك. والردفان: الليل والنهار. والوجيف: شدة الإضطراب. وقلب واجف. مضطرب. والوجيف: سرعة السير. وأوجف في السير: أسرع وأزعج الركاب فبه. والحافرة بمعنى المحفورة مثل ماء دافق أي مدفوق. وقيل: الحافرة الأرض المحفورة. ورجع الشيخ في حافرته أي رجع من حيث جاء، وذلك كرجوع القهقرى. قال: أحافرة على صلع، وشيب، * معاذ الله من سفه، وعار أي أرجوعا إلى حال الشباب وأوله. ويقال: النقد عند الحافر أي لا يزول حافر الفرس حتى ينقد الثمن، لأنه لكرامته لا يباع نسيئة، ثم كثر حتى قيل في غير الحافرة. والساهرة: وجه الأرض. والعرب تسمي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي: ذات سهر، لأنه يسهر فيها خوفا منها. قال أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة، وبحر، * وما فاهوا به لهم مقيم (1) أي وفيها صيد البر والبحر. وقال آخر: فإنما قصرك ترب الساهرة * ثم تعود بعدها في الحافرة (2) الاعراب: جواب القسم محذوف على تقدير ليبعثن. وقيل الجواب في (إن في ذلك لعبرة) (يوم ترجف الراجفة): نصب باذكر. وإن شئت كان نصبا بمدلول قوله (قلوب يومئذ واجفة) على تقدير يوم ترجف الراجفة، رجفت قلوبهم. ويكون (يومئذ) بدلا من (يوم ترجف الراجفة). المعنى: (والنازعات غرقا) اختلف في معناها على وجوه أحدها: إنه يعني الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدى. وروي ذلك عن علي (ع) ومقاتل وسعيد بن جبير. وقال مسروق: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم. وقيل: هو الموت ينزع النفوس، عن مجاهد. وروي ذلك عن الصادق (ع). وثانيها: إنها النجوم تنزع من أفق إلى (1) يصف الجنة بأنهم يطعمون فيها لحما من الصيد. (2) هذا بيت من خمسة أبيات من مشطور الرجز قالها الهمداني يوم القادسية، يخاطب بها فرسه، وبعده، (من بعد ما كنت عظاما نخرة) قوله قصرك أي: نهاية أمرك، وغايته. (*)
[ 253 ]
أفق أي: تطلع وتغيب، عن الحسن وقتادة وأبي عبيدة والأخفش والجبائي. قال أبو عبيدة: تنزع من مطالعها، وتغرق في مغاربها وثالثها: النازعات القسي تنزع بالسهم. والناشطات: الازهاق، عن عطاء، وعكرمة. وعلى هذا فالقسم بفاعلها، وهم الغزاة المجاهدون في سبيل الله. (والناشطات نشطا) في معناها أقوال أحدها ما ذكرناه وثانيها: إنها الملائكة تنشط أرواح الكفار بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم، عن علي (ع). والنشط: الجذب، يقال: نشطت الدلو نشطا: نزعته وثالثها: إنها الملائكة تنشط أنفس المؤمنين، فتقبضها كما تنشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، عن ابن عباس. وحكى الفراء هذا القول، ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا: كأنما أنشط من عقال. ونشطت الحبل: ربطته، وأنشطته. حللته. ورابعها: إنها أنفس المؤمنين عند الموت، تنشط للخروج، وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا عرضت عليه الجنة، قبل أن يموت، فيرى موضعه فيها، وأزواجه من الحور العين، فنفسه تنشط أن تخرج، عن ابن عباس أيضا. وخامسها: إنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب. يقال: حمار ناشط، عن قتادة والأخفش والجبائي. (والسابحات سبحا) فيها أقوال أحدها: إنها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين، يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشئ في الماء يرمي به، عن علي (ع) والكلبي. وثانيها: إنها الملائكة ينزلون من السماء مسرعين وهذا كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه، عن مجاهد وأبي صالح. وثالثها: إنها النجوم تسبح في فلكها، عن قتادة والجبائي. وقيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها كقوله: (والعاديات ضبحا) عن أبي مسلم. وقيل: هي السفن تسبح في الماء، عن عطاء (فالسابقات سبقا) فيها أقوال أيضا أحدها: إنها الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح، عن مجاهد. وقيل: إنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء. وقيل: إنها تسبق بارواح المؤمنين إلى الجنة، عن علي (ع) ومقاتل. وثانيها: إنها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقا إلى رحمة الله، ولقاء ثوابه وكرامته، عن ابن مسعود. وثالثها: إنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير، عن قتادة والجبائي.
[ 254 ]
ورابعها: إنها الخيل يسبق بعضها بعضا في الحرب، عن عطاء وأبي مسلم. (فالمدبرات أمرا) فيها أقوال أيضا أحدها: إنها الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة، عن علي (ع). وثانيها: إن المراد بذلك جبرائيل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل (ع)، يدبرون أمور الدنيا. فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، عن عبد الرحمن بن سابط. وثالثها: إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله تعالى، فيجري بها القضاء في الدنيا، رواه علي بن إبراهيم. أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي عددها. وقيل: تقديره: ورب النازعات، وما ذكر بعدها، وهذا ترك للظاهر بغير دليل. وقد قال الباقر والصادق (ع): إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. والوجه في ذلك أنه سبحانه يقسم بخلقه للتنبيه على موضع العبرة فيه، لأن القسم يدل على عظم شأن المقسم به، وجواب القسم محذوف، فكأنه سبحانه أقسم فقال: وهذه الأشياء لتبعثن، ولتحاسبن. (يوم ترجف الراجفة) يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق، والراجفة: صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض (تتبعها الرادفة) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى، وهي التي يبعث معها الخلق، وهو كقوله: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون). و (يوم) منصوب على معنى (قلوب يومئذ واجفة) يوم ترجف الراجفة، ومعنى الواجفة: الشديدة الإضطراب أيضا. وهذا معنى قول الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: معناه يوم تضطرب الأرض اضطرابا شديدا، وتتحرك تحركا عظيما، يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة أي اضطرابة أخرى كائنة بعد الأولى في موضع الردف من الراكب، فلا تزال تضطرب حتى تفنى كلها. وقال ابن عباس: معنى الواجفة خائفة، والمراد بذلك أصحاب القلوب، يعني أنها قلقة غير هادئة، ولا ساكنة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة. (أبصارها خاشعة) أي ذليلة من هول ذلك اليوم. قال عطاء: يريد أبصار من مات على غير الإسلام. (يقولون أءنا لمردودون في الحافرة) أي يقول هؤلاء المنكرون للبعث من مشركي قريش وغيرهم في الدنيا، إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون
[ 255 ]
من بعد الموت، أنرد إلى اول حالنا، وابتداء أمرنا، فنصير أحياء كما كنا ؟. والحافرة عند العرب: اسم لأول الشئ، وابتداء الأمر، قال ابن عباس والسدي: الحافرة الحياة الثانية. وقيل: الحافرة الأرض المحفورة، والمعنى أنرد من قبورنا بعد موتنا أحياء (إذا كنا عظاما نخرة) أي بالية مفتتة والمعنى أنهم أنكروا البعث، فقالوا: أنرد أحياء إذا متنا، وتفتتت عظامنا. يقال: نخر العظم ينخر، فهو ناخر ونخر. (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) أي: قال الكفار تلك الكرة الكائنة بعد الموت كرة خسران، ومعناه. إن أهلها خاسرون، لأنهم نقلوا من نعيم الدنيا إلى عذاب النار، والخاسر: الذاهب رأس ماله. وإنما قالوا، (كرة خاسرة) على معنى أنه لا يجئ منها شئ كالخسران الذي لا يجئ منه فائدة، فكأنهم قالوا: هي كالخسران بذهاب رأس المال، لا تجئ به تجارة، فكذلك لا تجئ بتلك الكرة حياة. وقيل: معناه إن كان الأمر على ما يقوله محمد من أنا نبعث ونعاقب، فتلك كرة ذات خسران علينا. ثم أعلم سبحانه سهولة البعث عليه فقال (فإنما هي) يعني النفخة الأخيرة (زجرة واحدة) أي صيحة واحدة من إسرافيل، يسمعونها وهم أموات في بطون الأرض، فيحيون، وهو قوله: (فإذا هم بالساهرة) وهي وجه الأرض وظهرها، عن الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم. وقيل: إنما سميت الأرض ساهرة، لأن عملها في النبت في الليل والنهار دائب، ولذلك قيل: خير المال عين خرارة في أرض خوارة (1) تسهر إذا نمت، وتشهد إذا غبت. ثم صارت إسما لكل أرض. وقيل: المراد بذلك عرصة القيامة، لأنها أول مواقف الجزاء، وهم في سهر لا نوم فيه. هل أتاك حديث موسى (15) إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19) فأراه الأية الكبرى (20) فكذب وعصى (21) ثم أدبر يسعى (22) فحشر فنادى (23) فقال أنا ربكم الأعلى (24) فأخذه الله نكال الأخرة والاولى (25) إن في ذلك لعبرة لمن يخشيى (26) (1) الخرار: الكثير الخرير وهو صوت الماء وأرض خوارة: اللينة السهلة. (*)
[ 256 ]
القراءة: قرأ أهل الحجاز والبصرة (طوى) بغير تنوين. والباقون بالتنوين. وقرأ أهل الحجاز وعباس ويعقوب: (تزكى) بتشديد الزاء. والباقون بتخفيفها. الحجة: قال أبو علي: قال أبو عبيدة: طوى مضمومة الأول ومكسورته. فمن لم ينون جعله إسما مؤنثا. ومن نون جعله مثل ثنى على معنى المقدس مرة بعد مرة. وروي عن الحسن أنه قرأ: (طوى) بكسر الطاء. وقال: وطوى بالبركة والتقديس مرتين، كما قال طرفة: أعاذل إن اللوم في غيركنهه، * علي طوى من غيك المتردد (1) أي: إن لومك مكرر علي. قال أبو علي: من لم يصرف (طوى) احتمل قوله امرين أحدهما: إنه جعله اسم بلدة أو بقعة، أو يكون معدولا كزفر وعمر. ومن صرف احتمل أيضا أمرين أحدهما: أن يكون جعله اسم موضع أو بلد أو مكان والاخر: أن يكون مثل زحل وحطم ولكع. وقوله: (تزكى) معناه تطهر من الكفر. والمبتدأ محذوف من اللفظ مراد في المعنى. والتقدير: هل لك الى ذلك حاجة، أو إربة. قال الشاعر: فهل لكم فيها إلي، فإنني * طبيب بما أعيى النطاسي حذيما (2) ومن قال: تزكى أراد تتزكى، فادغم تاء التفعل في الزاء لتقاربهما. ومن خفف حذف التاء التي أثبتها من أدغم، وتخفيفها بالحذف أشبه. المعنى: ثم ذكر سبحانه قصة موسى (ع) فقال: هل أتاك) يا محمد (حديث موسى)، استفهام يراد به التقرير. (إذ ناداه ربه) أي حين ناداه الله، ودعاه. فالنداء: الدعاء بطريقة يا فلان. فالمعنى قال له: يا موسى (بالواد المقدس) أي المطهر (طوى) إسم واد، عن مجاهد، وقتادة. وقيل: طوي بالتقديس مرتين، وهو الموضع الذي كلم) الله فيه موسى. (إذهب إلى فرعون إنه طغى) أي علا وتكبر وكفر بالله، وتجاوز الحد في الإستعلاء والتمرد والفساد (فقل هل لك إلى أن تزكى) أي تتطهر من الشرك، وتشهد أن لا إله إلا الله، عن ابن (1) نسب البيت في اللسان إلى عدي بن زيد. (2) النطاسي: الطبيب الحاذق. وحذيم: اسم طبيب قال في (اللسان) أراد ابن حذيم، فحذف ابن كما قال الشاعر: (يحملن عباس بن عبد المطلب) يعني عبد الله بن عباس. (*)
[ 257 ]
عباس. وهذا تلطف في الإستدعاء، ومعناه: هل لك رغبة إلى أن تسلم وتصلح وتطهر. (وأهديك إلى ربك) أي وأدلك إلى معرفة ربك، وأنه خلقك ورباك. وقيل: وأهديك أي أرشدك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته، وصلت إلى رضاء الله وثوابه (فتخشى) أي فتخافه فتفارق ما نهاك عنه. وفي الكلام حذف تقديره فأتاه، ودعاه (فأراه الاية الكبرى) يعني العصا. وقال الحسن: هي اليد البيضاء (فكذب) بأنها من الله (وعصى) نبي الله، وجحد نبوته (ثم أدبر) فرعون أي ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة موسى في المعجزة العظيمة، فما ازداد إلا غواية (يسعى) أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: إنه لما رأى الحية في عظمها، خاف منها، فأدبر وسعى هربا، عن الجبائي. (فحشر) أي فجمع قومه، وجنوده (فنادى) فيهم (فقال أنا ربكم الأعلى) أي لا رب فوقي. وقيل. معناه أنا الذي أنال بالضرر من شئت، ولا ينالني غيري، وكذب اللعين إنما هذه صفة لم الله الذي خلقه، وخلق جميع الخلائق. وقيل: إنه جعل الأصنام أربابا فقال: أنا ربها وربكم. (فأخذه الله نكال الأخرة والأولى) نكال: مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله: نكل به نكال الاخرة والأولى بأن أغرقه في الدنيا، ويعذبه في الآخرة. وقيل: معناه فعاقبه الله بكلمته الآخرة، وكلمته الأولى. فالآخرة قوله:، (أنا ربكم الأعلى). والأولى قوله: (ما علمت لكم من إله غيري) فنكل به نكال هاتين الكلمتين. وجاء في التفسير، عن أبي جعفر (ع) أنه كان بين الكلمتين أربعون سنة. وقيل إنه إنما ناداهم فقال (أنا ربكم الأعلى) فامنعوني من هذا الثعبان، ولم يعلم الجهال أن من يخاف ضرر حية، ويستعين بأمثاله، لا يكون إلها. وعن وهب، عن ابن عباس قال: قال موسى (ع): يا رب ! إنك أمهلت فرعون أربعمائة سنة، وهو يقول: أنا ربكم الأعلى، ويجحد رسلك، ويكذب بآياتك، فأوحى الله تعالى إليه: إنه كان حسن الخلق، سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه. وروى أبو بصير، عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): قال جبرائيل (ع): قلت يا رب تدع فرعون، وقد قال: أنا ربكم الأعلى ؟ فقال: إنما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت. (إن في ذلك) الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى (لعبرة) أي لعظة (لمن يخشى) الله تعالى ويخاف عقابه ونقمته، ودلالة يمكن أن يعتبر بها العاقل،
[ 258 ]
ويميز بين الحق والباطل. النظم: وجه اتصال قصة موسى (ع) بما قبلها أنه لما تقدم ذكر المكذبين للأنبياء، المنكرين للبعث، عقبه بحديث موسى، وتكذيب قومه إياه، وما قاساه من الشدائد، تسلية لنبينا (ص)، وعدة له بالنصر، وحثا إياه على الصبر، اقتداء بموسى، وتحذيرا لقومه، أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، وعظة بهم، وتاكيدا للحجة عليهم. (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرسلها (32) متاعا لكم ولأنعامكم (33) فإذا جاءت الطامة الكبرى (34) يوم يتذكر الإنسان ما سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) فأما من طغى (37) وآثر الحيواة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41) يسئلونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكرها (43) إلى ربك منتهاها (44) إنما أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أوضحاها (46) القراءة: قرأ أبو جعفر والعباس عن العياشي عن أبي عمرو: (وإنما أنت منذر) بالتنوين. والباقون بغير تنوين. وفي الشواذ قراءة الحسن، وعمرو بن عبيد: (والجبال أرساها) بالرفع. وقراءة مجاهد: (والأرض مع ذلك دحاها). وقراءة عكرمة: (وبرزت الجحيم لمن ترى) بالتاء. الحجة: قال أبو علي: حجة التنوين في قوله: إنما أنت منذر) أن اسم الفاعل هنا للحال، ويدل عليه قوله: (قل إنما أنذركم بالوحي) فليس المراد أنذر فيما استقبل، وإنما يقول أنذر في الحال، واسم الفاعل على قياس الفعل. ومن أضاف استخف فحذف التنوين، كما حذف من قوله: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم) ونحو ذلك مما جاء على لفظ الإضافة، والمراد به الإنفصال. ويجوز أن
[ 259 ]
يكون (منذر من) على نحو: هذا ضارب زيدا أمس، لأنه قد فعل الإنذار، ومن قرأ (والجبال أرساها) بالرفع فإنه مثل قراءة من قرأ (والظالمون أعد لهم)، وقد تقدم بيانه. ومن قرأ (والأرض مع ذلك) فلعله قال ذلك، تفسيرا للقراءة المشهورة، لأنه ليس الغرض فيه ترتيب الزمان. وإنما الغرض اجتماعهما أعني السماوات والأرض في الخلق، لا في أن زمان الفعلين واحد. وهذا كقولك: فلان كريم، فيقول السامع: وهو مع ذلك شجاع أي: قد اجتمع له الوصفان. وأما قوله (لمن ترى) بالتاء المفتوحة فيمكن م ن يكون خطابا للنبي (ص)، والمراد: لمن ترى يا محمد من الناس فأشار إلى البعض، وغرضه الجنس والجميع، كقول لبيد: ولقد سئمت من الحياة، وطولها، * وسؤال هذا الناس كيف لبيد (1) فأشار إلى جنس الناس، ونحن نعلم أنه ليس جميعهم شاهدا حاضرا له، ويمكن أن يكون التاء في ترى للجحيم أي: لمن تراه النار. اللغة: السمك: الإرتفاع وهو مقابل العمق، لأنه ذهاب الجسم بالتأليف إلى جهة العلو وبالعكس صفة العمق. والمسموكات: السماوات لارتفاعها. ومنه قول أمير المؤمنين (ع): يا داعم المسموكات. قال الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز، وأطول والتسوية: جعل أحد الشيئين على مقدار الاخر في نفسه، أو في حكمه. والغطش: الظلمة. وأغطشه الله: أظلمه. والأغطش: الذي في عينيه شبه العمش. وفلاة غطشاء: لا يهتدى فيها. والدحو: البسط. دحوت أدحو دحوا، ودحيت أدحي دحيا لغتان، قال أمية بن أبي الصلت: دار دحاها، ثم أعمر بابها، * وأقام بالأخرى التي هي أمجد وقال أوس: ينفي الحصى عن جديد الأرض، مبترك، * كأنه فاحص، أو لاعب داح (2) (1) لبيد بن ربيعة أحد شعراء الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم، وحسن إسلامه، وعمر طويلا حتى قيل إنه مات وهو أبن مأة وسبع وخمسين سنة، وأنشد هذا البيت حين بلغ مأة وعشرين سنة، (2) وقد نسب بعض هذا البيت إلى عبيد بن الأبرص، يصف الغيث. وجديد الأرض: وجهها. والمبترك: المعتمد على الشئ الملح عليه. والفاحص: الذي يفحص الأرض. وينبشها، ويحتفرها. (*).
[ 260 ]
والطامة: العالية الغالبة يقال: هذا أطم من هذا أي: أعلى منه. وطم الطائر الشجرة: علاها. وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها: طامة. الاعراب: (والأرض): منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، وكذا قوله: (والجبال أرساها متاعا لكم) مفعول له، لأن المعنى لإمتاعكم. ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر لأن معنى قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها) أمتع بذلك. وقوله: (فإن الجحيم هي المأوى) وتقديره: هي المأوى له. قال الزجاج: وقال قوم الألف واللام بدل من الضمير العائد أي هي مأواه، والمراد أن المعنى يؤول إلى التي هي مأواه، لأن الألف واللام بدل من الهاء، وهذا كما يقول الإنسان. غض الطرف يا هذا. فليس الألف واللام بدلا من الكاف، وإن كان المعنى غض طرفك، لأن المخاطب يعرف أنك لا تأمره بغض طرف غيره، قال. فغض الطرف إنك من نمير * فلا سعدا بلغت، ولا كلابا (1) وكذلك المعنى في الآية، وجواب إذا في قوله: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) في قوله: (فأما من طغى) وما بعده، فإن المعنى إذا جاءت الطامة الكبرى، فإن الأمر كذلك، وقوله (أو ضحاها): أضاف الضحى إلى العشية والغداة والعشي والضحوة والضحى لليوم الذي يكون فيه. فإذا قلت: أتيتك صباحا ومساء، ومساءة وصباحة، فالمعنى: أتيتك صباحا ومساء يلي الصباح. وأتيتك مساء وصباحا يلي المساء. وتقول: أتيتك العشية وغداتها. المعنى: لما قدم سبحانه ما أتى به موسى، وما قابله به فرعون، وما عوقب به في الدارين، عظة لمن كان على عهد رسول الله (ص)، وتحذيرا لهم من المثلات، خاطب عقيب ذلك منكري البعث فقال: (أأنتم) أيها المشركون المنكرون للبعث (أشد خلقا أم السماء) يعني أخلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء، وهما في قدرة الله تعالى واحد. وهذا كقوله (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس). ثم ابتدأ فبين سبحانه كيف خلق السماء، فقال: (بناها) الله تعالى الذي لا يكبر عليه خلق شئ (رفع سمكها) سقفها، وما ارتفع (1) البيت لجرير الخطفي. يهجو به الراعي النميري الشاعر. وغض النظر أي: كف بصرك ذلا ومهانة. وسعد وكلاب حيان من تميم. وفي تفسير الطبري فلا كعبا بلغت... ا ه). (*).
[ 261 ]
منها (فسواها) بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت. وقيل: سواها أحكمها، وجعلها متصرفا للملائكة. (وأغطش ليلها) أي أظلم ليلها، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة (وأخرج ضحاها) اي أبرز نهارها. وإنما أضاف الليل والضحى إلى السماء، لأن منها منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها، على ما دبرها الله، عز وجل (والأرض بعد ذلك دحاها) أي بعد خلق السماء بسطها من الدحو، وهو البسط. قال ابن عباس: إن الله تعالى دحا الأرض بعد السماء، وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء، وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. وقال مجاهد، والسدي: معناه والأرض مع ذلك دحاها، كما قال: (عتل بعد ذلك زنيم) أي مع ذلك (أخرج منها) أي من الأرض (ماءها) والمعنى: فجر الأنهار والبحار والعيون، عن ابن عباس. (ومرعاها) مما يأكل الناس والأنعام. بين سبحانه بذلك جميع المنافع المتعلقة بالأرض من المياه التي بها حياة كل شئ من الحيوانات والأشجار والثمار والحبوب والعيون، عن ابن عباس. وبها يحصل جميع الأرزاق، والنبات التي تصلح للمواشي، فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه. (والجبال أرساها) أي: أثبتها في أوساط الأرض (متاعا لكم ولأنعامكم) أي خلق سبحانه الأرض، وأخرج منها المياه والمراعي، وأثبت الجبال بما فيها من أنواع المعادن لمنفعتكم، ومنفعة أنعامكم، تنتفعون بها. ولما دل سبحانه بهذه الأشياء على صحة البعث، وصف يوم البعث فقال: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) وهي القيامة، لأنها تطم على كل داهية هائلة، أي تعلو وتغلب. ومن ذلك يقال: ما من طامة إلا وفوقها طامة، والقيامة فوق كل طامة، فهي الداهية العظمى، قال الحسن: هي النفخة الثانية. وقيل: هي الغاشية الغليظة المجللة التي تدقق الشئ بالغلظ. وقيل: إن ذلك حين يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار (يوم يتذكر الإنسان ما سعى) أي تجئ الطامة في يوم يتذكر الإنسان ما عمله من خير أو شر (وبرزت الجحيم) أي أظهرت النار (لمن يرى) فيراها الخلق مكشوفا عنها الغطاء، ويبصرونها مشاهدة (فأما من طغى) أي تجاوز الحد الذي حده الله، وارتكب المعاصي (وآثر الحياة الدنيا) على الآخرة (فإن الجحيم هي المأوئ) له. والإيثار إرادة الشئ على طريقة التفضيل له على غيره (وأما من خاف مقام ربه) أي
[ 262 ]
خاف مقام مسألة ربه عما يجب عليه فعله أو تركه (ونهى النفس عن الهوى) أي عن المحارم التي تشتهيها وتهواها. وقيل: إن الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب فيتركها، عن مقاتل (فإن الجنة هي المأوى) له أي هي مقره ومأواه. ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) فقال: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) أي متى يكون قيامها، ثابتة على ما وصفتها. (فيم أنت من ذكراها) أي لست في شئ من علمها وذكراها. والمعنى: لا تعلمها. قال الحسن: أي ليس عندك علم بوقتها، وإنما تعلم أنها تكون لا محالة. وقيل: معناه ليس هذا مما يتصل بما بعثت لأجله، فإنما بعثت داعيا. وقيل: إنها من حكاية قولهم. والمعنى: إنك قد أكثرت من ذكراها، فمتى يكون (إلى ربك منتهاها) أي قل لهم إلى الله إجراؤها. والمنتهى: موضع بلوغ الشئ. فكأنه قيل: إلى أمر ربك ومنتهى أمرها بإقامتها، لأن منتهى أمرها بذكرها ووصفها، والإقرار بها إلى الرسول، ومنتهى أمرها بإقامتها إلى الله، لا يقدر عليها إلا هو سبحانه. وقيل: معناه إلى ربك منتهى علمها أي: لا يعلم وقتها إلا هو، عن الحسن. (إنما أنت منذر من يخشاها) أي إنما أنت مخوف من يخاف قيامها أي إنما ينفع إنذارك من يخافها. فأما من لا يخشاها فكأنك لم تنذره (كأنهم يوم يرونها) أي يعاينون القيامة (لم يلبثوا) في الدنيا (إلا عشية أو ضحاها) أي إلا قدر آخر نهار وأوله، ومثله (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) وقد مر بيانه. وقيل. إن معناه أنهم إذا رأوا الآخرة، صغرت الدنيا في أعينهم، حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية، أو مقدار ضحى تلك العشية، عن قتادة.
[ 263 ]
80 سورة عبس مكية وآياتها اثنتان وأربعون وتسمى سورة السفرة مكية. عدد آيها: اثنتان وأربعون آية حجازي كوفي واحدى وأربعون بصري وأربعون شامي والمدني الأول. اختلافها: ثلاث آيات ولأنعامكم حجازي كوفي إلى طعامه غير يزيد الصاخة غير الشامي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر) وروى معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (ع) قال: ومن قرأ سورة عبس وتولى، وإذا الشمس كورت كان تحت (1) الله من الجنان، وفي ظل الله وكرامته في جنانه، ولا يعظم ذلك على ربه، عز وجل. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر إنذاره من يخشى القيامة، افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم، وإعراضه عمن يخشى فقال: بسم الله الرحمان الرحيم عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5) فأنت له تصدى (6) وما عليك الا يزكى (7) وأما من جاءك يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت عنه تلهى (10) كلا إنها تذكرة (11) فمن شاء ذكره (12) في صحف (1): كذا في النسخ. وفي رواية الصدوق (ره) في (ثواب الاعمال): (كان تحت جناح الله من الجنان... اه) (*).
[ 264 ]
مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدى سفرة (15) كرام بررة (16) قتل الإنسان ما أكفره (17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته فأقبره (21) ثم إذا شاء أنشره (22) كلا لما يقض ما أمره (23). القراءة: قرأ عاصم غير الأعشى والبرجمي: (فتنفعه) بالنصب. والباقون بالرفع. وقرأ أهل الحجاز (تصدى) بالتشديد. والباقون: تصدى) بتخفيف الصاد. وفي المشواذ قراءة الحسن: (أن جاءه). وقراءة أبي جعفر الباقر (ع) (تصدى) بضم التاء، وفتح الصاد (وتلهى) بضم التاء أيضا. وقراءة أبي حيوة وشعيب بن أبي حمزة (نشره) بغير ألف. الحجة: قال أبو علي: من قرأ فتنفعه) بالرفع عطفه على ما تقدم من المرفوع. ومن قرأ بالنصب، فعلى أنه جواب بالفاء، لأن المتقدم غير موجب، فكأن قوله تعالى يذكر المعطوف على يزكى في معنى لعله يكون منه تذكر فانتفاع، وكذا قوله (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع) وقوله (تصدى) أي تعرض. فمن قرأ بتشديد الصاد أدغم التاء في الصاد. ومن قرأ بالتخفيف أراد تتصدى، فحذف التاء، ولم يدغمها. وقرأ ابن فليح والبزي عن ابن كثير (تلهى) بتشديد التاء، على أنه شبه المنفصل بالمتصل. وجاز وقوع الساكن بعد اللين، كما جاز تمود الثوب في المتصل. وحكى سيبويه: فلا تناجوا. ومن قرأ (أن جاءه) بلفظ الإستفهام فتقديره الأن جاءه الأعمى، وكان ذلك منه، فعلق أن يفعل بمحذوف دل عليه (عبس وتولى). وأما على القراءة المشهورة، فأن جاءه في موضع نصب بتولى، لأنه الفعل الأقرب منه، فكأنه قال: تولى لمجئ الأعمى، وهو مفعول به. ومن قرأ تصدى فالمعنى: يدعوك داع من زينة الدنيا وبشارتها إلى التصدي له، والإقبال عليه. وعلى ذلك قوله (تلهى) أيضا أي تصرف عنه. ومن قرأ (نشره) فعلى أنه لغة في أنشره. اللغة: التصدي: التعرض للشئ كتعرض الصديان للماء. والصحف: جمع صحيفة. والعرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة، كما تسميه كتابا، رقا كان أو غيره. والسفرة: الكتبة لأسفار الحكمة، واحدهم سافر، وواحد الأسفار سفر. وأصله الكشف من قولهم سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها. وسفرت القوم إذا أصلحت بينهم. قال:
[ 265 ]
وما أدع السفارة بين قومي، * وما أمشي بغش إن مشيت والبررة: جمع بار، وهو فاعل البر. والبر: فعل النفع اجتلابا للمودة، وأصله اتساع النفع. ومنه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به. وأقبره: جعل له قبرا. فالإقبار: جعل القبر لدفن الميت فيه. ويقال: أقبرني فلانا أي اجعلني أقبره. والقابر: الدافن للميت بيده. قال الأعشى: لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش، ولم ينقل إلى قابر (1) حتى يقول الناس مما رأوا: * يا عجبا للميت الناشر والإنشار: الإحياء للتصرف بعد الموت، كنشر الثوب بعد الطي. الاعراب: (ثم السبيل يسره): انتصب السبيل بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر تقديره: ثم يسر السبيل يسره له أي للإنسان. ثم حذف الجار والمجرور. وقوله (كلا لما يقض ما أمره) أي ما أمره به، فحذف الباء، فصار التقدير ما أمرهه، فحذف الهاء الأولى، فصار ما أمره، فالهاء الباقية لما الموصولة، والهاء المحذوفة للأنسان. النزول: قيل: نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم، وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، من بني عامر بن لؤي، وذلك أنه أتى رسول الله (ص) وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأبيا وامية إبني خلف، يدعوهم إلى الله، ويرجو إسلامهم، فقال: يا رسول الله ! أقرئني وعلمني مما علمك الله، فجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله (ص) لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك (1) البيت من قصيدة طويلة يقولها في مدح عامر بن الطفيل، ويفضله على علقمة بن علاثة في المنافرة التي جرت بينهما وهي مشهورة، ذكرها أهل الأدب في كتبهم. راجع (شرح الشريشي على مقامات الحربري، وسرح العيون بشرح الرسالة الهزلية لابن زيدون) ومطلع هذه القصيدة قوله: (شاقتك من قليلة أطلالها * بالشط فالجزع إلى حاجر). (*)
[ 266 ]
يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ! ويقول له: هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين. وقال أنس بن مالك: فرأيته يوم القادسية، وعليه درع، ومعه راية سوداء. قال المرتضى علم الهدى، قدس الله روحه: ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي (ص)، بل هو خبر محض، لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل على أن المعني بها غيره، لأن العبوس ليس من صفات النبي (ص)، مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء، ويتلهى عن الفقراء، لا يشبه أخلاقه الكريمة، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه (ص) (وإنك لعلى خلق عظيم) وقوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) فالظاهر أن قوله. (عبس وتولى) المراد به غيره. وقد روي عن الصادق (ع) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (ص)، فجاء ابن أم مكتوم، فلما راه تقذر منه، وجمع نفسه، وعبس، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك، وأنكره عليه. فإن قيل: فلو صح الخبر الأول، هل يكون العبوس ذنبا أم لا ؟ فالجواب: إن العبوس والإنبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشق عليه ذلك، فلا يكون ذنبا، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (ص)، ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه، أولى من تأليف المشرك، طمعا في إيمانه، وقال الجبائي: في هذا دلالة على أن الفعل يكون معصية فيما بعد، لمكان النهي. فأما في الماضي، فلا يدل على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه، والله سبحانه لم ينهه إلا في هذا الوقت. وقيل. إن ما فعله الأعمى نوعا من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم، تعظيما لهم، فعاتبه الله سبحانه على ذلك. وروي عن الصادق (ع) أنه قال: كان رسول الله (ص) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (ص) مما يفعل به. المعنى: (عبس) أي بسر وقبض وجهه (وتولى) أي أعرضن بوجهه (أن جاءه
[ 267 ]
الأعمى) أي لأن جاءه الأعمى (وما يدريك لعله) أي لعل هذا الأعمى (يزكى) يتطهر بالعمل الصالح، وما يتعلمه منك (أو يذكر) أي يتذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن. (فتنفعه الذكرى) في دينه. قالوا: وفي هذا لطف من الله عظيم لنبيه (ص)، إذ لم يخاطبه في باب العبوس، فلم يقل عبست. فلما جاوز العبوس عاد إلى الخطاب فقال. وما يدريك. ثم قال (أما من استغنى) أي من كان عظيما في قومه، واستغنى بالمال (فأنت له تصدى) أي تتعرض له وتقبل عليه بوجهك (وما عليك ألا يزكى) أي في شئ يلزمك إن لم يسلم، ولم يتطهر من الكفر، فإنه ليس عليك إلا البلاغ (وأما من جاءك يسعى) أي يعمل في الخير، يعني ابن أم مكتوم (وهو يخشى) الله، عز وجل (فأنت عنه تلهى) أي تتغافل وتشتغل عنه بغيره (كلا) أي: لا تعد لذلك، وانزجر عنه (إنها تذكرة) أي إن آيات القرآن تذكير، وموعظة للخلق (فمن شاء ذكره) أي ذكر التنزيل أو القرآن أو الوعظ. والمعنى: فمن شاء أن يذكره ذكره. وفي هذا دلالة على أن العبد قادر على الفعل، مخير فيه. وقوله. (كلا) فيه دلالة على أنه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل. وأما الماضي، فلم يتقدم النهي عن ذلك فيه، فلا يكون معصية. ثم أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال: (في صحف مكرمة) أي هذا القرآن، أو هذه التذكرة في كتب معظمة عند الله، وهي اللوح المحفوظ، عن ابن عباس. وقيل: يعني كتب الأنبياء المنزلة عليهم، كقوله. (إن هذا لفي الصحف الأولى. (مرفوعة) في السماء السابعة. وقيل: مرفوعة قد رفعها الله عن دنس الأنجاس (مطهرة) لا يمسها إلا المطهرون. وقيل: مصونة عن أن تنالها أيدي الكفرة، لأنها في أيدي الملائكة في أعز مكان، عن الجبائي. وقيل: مطهرة من كل دنس، عن الحسن. وقيل: مطهرة من الشك والشبهة والتناقض. (بايدي سفرة) يعني الكتبة من الملائكة، عن ابن عباس ومجاهد، وقيل. يعني السفراء بالوحي بين الله تعالى، وبين رسله من السفارة. وقال قتادة هم القراء يكتبونها ويقرأونها. وروى فضيل بن يسار، عن الصادق (ع) قال: الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.
[ 268 ]
ثم أثنى عليهم فقال: (كرام) على ربهم (بررة) مطيعين. وقيل: كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها. بررة أي صالحين متقين. وقال مقاتل: كان القرآن ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة. ثم ينزل به جبرائيل (ع) إلى النبي (ص). ثم ذكر سبحانه المكذبين بالقرآن فقال: (قتل الإنسان) أي عذب ولعن الإنسان وهو إشارة إلى كل كافر، عن مجاهد. وقيل: هو أمية بن خلف، عن الضحاك. وقيل: هو عتبة بن أبي لهب إذ قال: كفرت برب النجم إذا هوى (ما أكفره) أي ما أشد كفره، وما أبين ضلاله ! وهذا تعجب منه، كأنه قد قال: تعجبوا منه ومن كفره، مع كثرة الشواهد على التوحيد، والإيمان. وقيل. إن ما للإستفهام أي: أي شئ أكفره، وأوجب كفره، عن مقاتل والكلبي. فكأنه قال: ليس ههنا شئ يوجب الكفر، ويدعو إليه، فما الذي دعاه إليه مع كثرة نعم الله عليه. ثم بين سبحانه من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه، فقال: (من أي شئ خلقه) لفظه استفهام ومعناه التقرير. وقيل: معناه لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أي شئ خلقه الله، ليدله على وحدانية الله تعالى. ثم فسر فقال: (من نطفة خلقه فقدره) أطوارا نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، وعلى حد معلوم من طوله وقصره وسمعه وبصره وحواسه وأعضائه ومدة عمره ورزقه وجميع أحواله (ثم السبيل يسره) أي ثم يسر سبيل الخروج من بطن أمه، حتى خرج منه، عن ابن عباس وقتادة. وذلك أن رأسه كان إلى رأس امه، وكذلك رجلاه كانتا إلى رجليها، فقلبه الله عند الولادة، ليسهل خروجه منها. وقيل: ثم السبيل أي سبيل الدين يسره، وطريق الخير والشر بين له وخيره، ومكنه من فعل الخير، وأجتناب الشر، ونظيره (وهديناه النجدين) عن مجاهد والحسن وابن زيد. (ثم أماته) أي خلق الموت فيه، وقيل: أزال عنه حياته (فأقبره) أي صيره بحيث يقبر، وجعله ذا قبر، عن أبي مسلم. وقيل: جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى إلى السباع والطير، عن الفراء. وقيل: أمر بأن يقبر، عن أبي عبيدة (ثم إذا شاء أنشره) أي أحياه من قبره، وبعثه إذا شاء تعالى أن يحييه للجزاء والحساب، والثواب والعقاب، عن الحسن (كلا) أي حقا (لما يقض) أي لم يقض (ما أمره) الله به من إخلاص عبادته، ولم يؤد حق الله تعالى عليه، مع كثرة نعمه. قال
[ 269 ]
مجاهد: هو على العموم في الكافر والمسلم، لم يعبده أحد حق عبادته. فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم (32) فإذا جاءت الصاخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة (42) القراءة: قرأ أهل الكوفة: (أنا صببنا) بالفتح. والباقون بالكسر. وفي الشواذ قراءة ابن محيصن: (يعنيه) بالعين، وفتح الياء. الحجة: قال أبو علي: من كسر كان ذلك تفسيرا للنظر إلى طعامه، كما أن قوله: (لهم مغفرة) تفسير للوعد. ومن فتح فقال: أنا فالمعنى على البدل بدل الإشتمال، لأن هذه الأشياء مشتملة على كون الطعام وحدوثه فهو من نحو: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)، و (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود) وقوله. (وما أنسانيه إلا الشيطان ان أذكره)، لأن الذكر كالمشتمل على المذكور. ومعنى (إلى طعامه) إلى كون طعامه وحدوثه، وهو موضع الإعتبار. قال ابن جني: قوله (يعنيه) بالعين: قراءة حسنة، إلا أن قراءة الجماعة أقوى معنى، فإن الإنسان قد يعنيه الشئ، ولا يغنيه عن غيره. ألا ترى أن من كان له ألف درهم، فيؤخذ منها مائة درهم، يعنيه أمرها ولا يغنيه عن بقية ماله أن يهتم به، ويراعيه. فأما إذا أغناه الأمر عن غيره، فإن ذلك أقوى فاعرفه. اللغة: الحديقة: البستان المحوط، وجمعه حدائق، ومنه قولهم: أحدق به القوم إذا أحاطوا به. والغلب: الغلاظ. شجرة غلباء: غليظة. قال الفرزدق: عوى فأثار أغلب ضيغميا * فويل ابن المراغة ما استثارا (1) (() يهجو جريرا. وأسد أغلب: غليظ الرقبة. والضيغم: الشديد العض. والمراغة: لقب أم = (*)
[ 270 ]
والأب: المرعى من الحشيش، وسائر النبات الذي ترعاه الأنعام والدواب. ويقال: أب إلى سيفه فاستله أي: بدر إليه، وهب إليه. فيكون كبدور المرعى بالخروج. قال الأعشى: صرمت، ولم أصرمكم، وكصارم * أخ قد طوى كشحا، وأب ليذهب (1) وقال في الأب: جذمنا قيس، ونجد دارنا، * ولنا الاب بها، والمكرع (2) والصاخة: الصاكة لشدة صوتها الآذان فتصمها. والقترة: ظلمة الدخان، ومنه القتار: ريح الشواء، لأنها كالدخان. الاعراب: (فإذا جاءت الصاخة) العامل في الظرف في قوله (لكل مرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) أي ثبت لكل امرئ منهم ذلك في وقت مجئ الصاخة. المعنى: لما ذكر سبحانه خلق ابن آدم، ذكر رزقه ليعتبر فقال: (فلينظر الإنسان إلى طعامه) الذي يأكله، ويتقوته من الأطعمة الشهية اللذيذة، كيف خلقها سبحانه، وهيأها لرزق عباده، ليفكر كيف مكنه من الإنتفاع بذلك. ثم بين فقال: (أنا صببنا الماء صبا) أي نزلنا الغيث إنزالا (ثم شققنا الأرض شقا) بالنبات (فأنبتنا فيها) أي في الأرض (حبا) أي جنس الحبوب التي يتغذى بها، وتدخر (وعنبا) خص العنب لكثرة منافعه (وقضبا) وهو القت الرطب يقضب مرة بعد أخرى يكون علفا للدواب، عن ابن عباس والحسن. (وزيتونا) وهو ما يعصر عنه الزيت (ونخلا) جمع نخلة (وحدائق غلبا) أي وبساتين محوطة تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة. وقيل: غلبا ملتفة الشجر، عن مجاهد (وفاكهة) يعني سائر ألوان الفواكه (وأبا) وهو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الأنعام. وقيل: إن الأب للأنعام كالفاكهة للناس (متاعا) أي منفعة لكم (ولأنعامكم) مر معناه. ثم ذكر يوم القيامة فقال: (فإذا جاءت الصاخة) يعني صيحة القيامة، عن ابن = الجرير لقبها الأخطل أي يتمرغ عليها الرجال، والمراغة في اللغة. الأتان التي لا تمتنع من الفحول، (1) الصرم: القطع، أي صرمتكم في تهيؤ لمفارقتكم، ومن تهيأ للمفارقة فهو كمن صرم، (2) الجذم بالكسر: الأصل، والمكرع: أول الماء. (*).
[ 271 ]
عباس، سميت بذلك لأنها تصخ الآذان أي تبالغ في إسماعها، حتى تكاد تصمها. وقيل: لأنها يصخ لها الخلق أي يستمع، وقد قلب حرف التضعيف ياء لكراهية التضعيف، فقالوا: صاخ كما قالوا: تظنيت في تظننت، وتقضي البازي (1) في تقضض. ثم ذكر سبحانه في أي وقت تجئ الصاخة فقال: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته) أي وزوجته (وبنيه) أي وأولاده الذكور أي: لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء، لعظم ما هو فيه، وشغله بنفسه، وإن كان في الدنيا يعتني بشأنهم. وقيل: يفر منهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم. وقيل: لعلمه بأنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئا. ويجوز أن يكون مؤمنا، وأقرباؤه من أهل النار فيعاديهم، ولا يلتفت إليهم، أو يفر منهم لئلا يرى ما نزل بهم من الهوان. (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) أي لكل إنسان منهم أمر عظيم يشغله عن الأقرباء، ويصرفه عنهم. ومعنى يغنيه: يكفيه من زيادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره، لما هو فيه من الأمر الذي قد أكتنفه، وملأ صدره، فصار كالغني عن الشئ في أمر نفسه، لا ينازع إليه. وروي عن عطاء بن يسار، عن سودة زوجة النبي (ص) قالت: قال رسول (ص): (يبعث الناس عراة حفاة غرلا (2) يلجمهم العرق، ويبلغ، شحمة الأذان قالت قلت: يا رسول الله ! واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ! قال: شغل الناس عن ذلك. وتلا رسول الله: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). ثم قسم سبحانه أحوال الناس في ذلك اليوم فقال: (وجوه يومئذ مسفرة) أي مشرقة مضيئة (ضاحكة مستبشرة) من سرورها وفرحها بما أعد لها من الثواب، وأراد بالوجوه أصحاب الوجوه (ووجوه يومئذ عليها غبرة) أي سواد وكآبة للهم (ترهقها) أي تعلوها وتغشاها (قترة) أي سواد أو كسوف عند معاينة النار. وقيل: إن الغبرة ما انحطت من السماء إلى الارض. والقترة ما ارتفعت من الأرض إلى السماء. عن زيد بن مسلم (أولئك هم الكفرة) في أديانهم (الفجرة) في أفعالهم. واستدلت الخوارج بذلك على أن من ليس بمؤمن، لا بد أن يكون كافرا، فإن الله سبحانه قسم (1) هذا جزء بيت قد مر بتمامه في الجزء الأول فراجع. (2) الغرل: جمع الأغرل، وهو الأقلف. (*)
[ 272 ]
الوجوه هذين القسمين، ولا تعلق لهم به، لأنه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين: وجوه المؤمنين، ووجوه الكفار، ولم يذكر وجوه الفساق، من أهل الصلاة. فيجوز أن يكون لها صفة أخرى، بان يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة، أو، يكون عليها صفرة، أو لون آخر.
[ 273 ]
81 - سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون عددآيها: تسع وعشرون آية. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة (إذا الشمس كورت) أعاذه الله تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته). ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة، فليقرأ (إذا الشمس كورت) وروى أبو بكر قال: قلت لرسول الله (ص): يا رسول الله ! أسرع إليك الشيب ! قال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت). فأما ما روي عن أنس أنه سئل هل اختضب رسول الله (ص) فقال: ما شانه الشيب. فقيل: أو شين هو يا أبا حمزة ؟ فقال: كلكم يكرهه. فالوجه فيه أنه يجوز أن يكون المراد بقوله شيبتني أنه لو كان أمر يشيب منه إنسان، لشبت من قراءة هذه السطور. وقد روي أن عليا (ع) لما غسل رسول الله (ص) وجد في لحيته شعرات بيضا، وما لا يظهر إلا بعد التفتيش، لا يكون شيبا. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه سورة عبس بذكر يوم القيامة وأهوالها، افتتح هذه السورة أيضا بذكر علاماتها وأحوالها فقال: بسم الله الرحمن الرحيم إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10) وإذا السماء كشطت (11) وإذا الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس
[ 274 ]
ما أحضرت (14). القراءة: قرأ ابن كثير وأهل البصرة: (سجرت) بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم ويعقوب وسهل: (نشرت) بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وقرأ أهل المدينة وابن عامر ورويس وعاصم غير يحيى وحماد: (سعرت) بالثشديد والباقون بالتخفيف. وقرأ أبو جعفر: (قتلت) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع): (وإذا المودة سئلت) بفتح الميم والواو. وروي ذلك عن ابن عباس أيضا. وروي عن أمير المؤمنين (ع): وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) وهو قراءة ابن عباس ويحيى بن يعمر ومجاهد وأبي الضحى وجابر بن زيد. الحجة: قال أبو علي: حجة (سجرت) قوله: (والبحر المسجور). وقيل في البحر المسجور: إنه الفارغ والممتلئ ومن الممتلئ قول الشاعر في صفة وعل: إذا شاء طالع مسجورة * ترى حولها النبع، والساسما (1) وحجة تشديد (نشرت) قوله: (صحفا منشرة). وحجة (سعرت) بالتخفيف قوله (وكفى بجهنم سعيرا) فسعير فعيل بمعنى مفعول. وهذا إنما يجئ من فعل. وحجة من قال (سجرت) أن الفعل مسند إلى ضمير كثرة من باب (غلقت الأبواب). وحجة (نشرت) خفيفة قوله: (في رق منشور). وحجة (سعرت) مشددة كلما خبت زدناهم سعيرا) فهذا يدل على كثرة، وشئ بعد شئ، فحقه التشديد. ومن قرأ (وإذا الموءودة سألت) بفتح السين جعل الموءودة موصوفة بالسؤال وبالقول (بأي ذنب قتلت). ويمكن أن يكون الله سبحانه أكملها في تلك الحال، وأقدرها على النطق حتى قالت ذلك القول، ويعضده ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (يجئ المقتول ظلما يوم القيامة، وأوداجه تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلقا بقاتله يقول: يا رب ! سل هذا فيم قتلني). ومن قرأ (قتلت) بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل، لأن المراد بالموءودة هنا الجنس. فإرادة التكرار جائزة. وأما من قرأ المودة) بفتح الميم والواو فالمراد بذلك الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها. وروي عن ابن عباس أنه قال: هو من (1) النبع والساسم: نوعان من الشجر. (*).
[ 275 ]
قتل في مودتنا أهل البيت (ع). وعن أبي جعفر (ع) قال: يعني قرابة رسول الله (ص) ومن قتل في جهاد. وفي رواية أخرى قال: هو من قتل في مودتنا وولايتنا. اللغة: التكوير: التلفيف على جهة الإستدارة، ومنه كور العمامة، كرت العمامة على رأسي أكورها كورا، وكورتها تكويرا. وطعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعا. ونعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة. والإنكدار: انقلاب الشئ حتى يصير أعلاه أسفله بما لو كان ماء لتكدر، وأصله الإنصباب. قال العجاج: (أبصر خربان فضاء فانكدر) (1). والعشار: جمع عشراء، وهي الناقة التي قد أتى عليها عشرة أشهر من حملها. والناقة إذا وضعت لتمام ففي سنة. وأصل السجر المل ء قال لبيد: فتوسطا عرض السري فصدعا * مسجورة متجاورا قلامها (2) أي مملوءة وتنور مسجور: مملوء بالنار. والموؤودة من وأد يئد وأدا. وكانت العرب تئد البنات خوف الإملاق. قال قتادة: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبي (ص) فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية ! فقال: فأعتق عن كل واحدة رقبة. قال: إني صاحب إبل. قال. فاهد إلى من شئت عن كل واحدة بدنة. قال الجبائي: إنما سميت موءودة، لأنها ثقلت في التراب الذي طرح عليها، حتى ماتت. وهذا خطأ لأن الموءودة من وأد يئد معتل الفاء. ومن الثقل: آده يؤده: أثقله. وهو معتل العين، ولو كانت مأخوذة منه لقيل: موءودة على وزن معوودة. وروي عن النبي (ص) سئل عن العزل فقال: ذاك الوأد الخفي. قال الفرزدق: ومنا الذي منع الوائدات * فأحيا الوئيد فلم توأد وقال: (1) الخربان: جمع خرب بالتحريك. الحبارى وهو طائر يضرب به المثل في البلاهة والحمق. يقول: إن البازي قد انقض من أعلى الجولانة، رأى أسراب الحبارى على الأرض، فانقض ليصيدها. (2) البيت من (المعلقات) وضمير التثنية يرجع إلى العير والأتان أي: إنهما قد وردا عينا ممتلية ماء، فدخلا فيها من عرض نهرها، وقد تجاور نبتها. (*).
[ 276 ]
ومنا الذي أحيا الوئيد، وغالب، * وعمرو، ومنا حاجب، والأقارع (1) والكشط: القلع عن شدة التزاق. والكشط والقشط واحد. وفي حرف عبد الله: (وإذا السماء قشطت). والتسعير: تهييج النار حتى تتأجج، ومنه السعر لأنه حال هيج الثمن بالإرتفاع والإنحطاط. الاعراب: ارتفعت (الشمس) بفعل مضمر تقديره إذا كورت الشمس كورت. ولا يجوز إظهاره، لأن ما بعده يفسره، وانما احتيج إلى إضمار فعل، لأن في إذا معنى الشرط. والشرط يقتضي الفعل، وجواب إذا قوله (علمت نفس ما أحضرت) فإذا في موضع النصب لأنه ظرف لعلمت. وعلى هذا يجري أمثاله. والجملة التي هي الفعل المحذوف مع فاعله بعد إذا في موضع جر بإضافة إذا إليها، والتقدير: وقت تكوير الشمس، تعلم كل نفس ما عملته، وتجزى به. وعلى هذا فهنا إثنا عشر ظرفا كلها إضافة إلى الجمل من قوله: (إذا الشمس كورت) إلى قوله: (وإذا الجنة أزلفت). والعامل فيها كلها قوله (علمت نفس ما أحضرت). المعنى: أخبر الله سبحانه عن القيامة وشدائدها فقال: (إذا الشمس كورت) أي ذهب ضوؤها ونورها، فأظلمت واضمحلت، عن ابن عباس وأبي مجاهد وقتادة. وقيل: ألقيت ورمي بها، عن أبي صالح، والربيع بن خيثم. وقيل: جمع ضوؤها، ولفت كما تلف العمامة، عن الزجاج. والمعنى: إن الشمس تكور بأن يجمع نورها حتى تصير كالكارة الملقاء، ويذهب ضوؤها، ويحدث الله تعالى للعباد ضياء غيرها. (وإذا النجوم انكدرت) أي تساقطت وتناثرت، عن مجاهد وقتادة والربيع بن خيثم، يقال. انكدر الطائر من الهواء إذا انقض. وقيل: تغيرت من الكدورة، عن الجبائي، والأول أولى لقوله: (وإذا الكواكب انتثرت) إلا أن تقول يذهب ضوؤها، ثم تتناثر. (وإذا الجبال سيرت) عن وجه الأرض، فصارت هباء منبثا، وسرابا. (وإذا العشار) وهي النوق الحوامل، أتت عليها عشرة أشهر، وبعد الوضع تسمى عشارا أيضا. وهي أنفس مال عند العرب (عطلت) أي تركت هملا بلا راع. (1) كان صعصعة بن ناجية بن عقال جد الفرزدق ممن فدى المؤودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن، ويقال إنه أحيا ألف. (*).
[ 277 ]
وقيل: العشار السحاب تعطل فلا تمطر، عن الجبائي. وحكي ذلك عن أبي عمرو. قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة. (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء. ويحشر الله سبحانه الوحوش، ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا، وينتصف لبعضها من بعض، فإذا وصل إليها ما استحقته من الأعواض، فمن قال: إن العوض دائم تبقى منعمة إلى الأبد. ومن قال: تستحق العوض منقطعا. فقال بعضهم: يديمه ألته لها تفضلا، لئلا يدخل على المعوض غم بانقطاعه. وقال بعضهم: إذا فعل الله بها ما استحقته من الأعواض، جعلها ترابا. (وإذا البحار سجرت) أي أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها، حتى امتلأت. وقيل: إن المعنى فجر بعضها في بعض، فصارت البحور كلها بحرا واحدا، ويرتفع البرزخ، عن مجاهد ومقاتل والضحاك. وقيل. سجرت أي أوقدت فصارت نارا تضطرم، عن ابن عباس. وقيل: يبست وذهب ماؤها، فلم يبق فيها قطرة، عن الحسن وقتادة. وقيل: ملئت من القيح والصديد الذي يسيل من أبدان أهل النار في النار، و أراد بحار جهنم، لأن بحور الدنيا قد فنيت، عن الجبائي. (وإذا النفوس زوجت) أي قرن كل واحد منها إلى شكله، وضم إليه. والنفس يعبر بها عن الإنسان، وقد يعبر بها عن الروح. فالمعنى: قرن كل إنسان بشكله من أهل النار، وبشكله من أهل الجنة، عن عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة. وقيل: معناه ردت الأرواح إلى الأجساد، فتصير أحياء، عن عكرمة والشعبي وأبي مسلم. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من إنسان، أو شيطان، عن الجبائي. وقيل: زوجت أي قرنت نفوس الصالحين من المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين، عن عطاء ومقاتل. (وإذا الموءودة سئلت) يعني الجارية المدفونة حيا، وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة، وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاما حبسته، عن ابن عباس. قال شاعرهم: سميتها إذ ولدت تموت * والقبر صهر ضامن زميت (1) (1) الزميت بمعنى الساكن، وبعده قوله: ليس لمن ضمنه تربيت). (*).
[ 278 ]
ومعنى قوله سئلت: (بأي ذنب قتلت) أن الموءودة تسأل فيقال لها: بأي ذنب قتلت، ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب. ويجري هذا مجرى قوله سبحانه لعيسى (ع) (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) على سبيل التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم، عن الفراء. وقيل: إن معنى (سئلت) طولب قاتلها بالحجة في قتلها، وسئل عن سبب قتلها، فكأنه قيل: والموءودة يسأل قاتلها بأي ذنب قتلت هذه، ونظيره قوله: (إن العهد كان مسؤولا) أي مسؤولا عنه، عن أبي مسلم. وعلى هذا فيكون القتلة هنا هم المسؤولين على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. (وإذا الصحف نشرت) يعني صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال أهلها، من خير وشر، تنشر ليقرأها أصحابها، ولتظهر الأعمال، فيجازوا بحسبها. (وإذا السماء كشطت) أي أزيلت عن موضعها كالجلد يزال عن الجزور، ثم يطويها الله. وقيل: معناه قلعت كما يقلع السقف، عن الزجاج. وقيل: كشفت عمن فيها. ومعنى الكشط رفعك شيئا عن شئ قد غطاه، كما يكشط الجلد عن السنام. (وإذا الجحيم سعرت) أوقدت واضرمت حتى ازدادت شدة على شدة. وقيل: سعرها غضب الله، وخطايا بني آدم، عن قتادة. (وإذا الجنة أزلفت) أي قربت من أهلها للدخول. وقيل: قربت بما فيها من النعيم، فيزداد المؤمن سرورا، ويزداد أهل النار حسرة (علمت نفس ما أحضرت) أي إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة، علمت في ذلك الوقت كل نفس ما وجدت حاضرا من عملها، كما قالوا: أحمدته وجدته محمودا. وقيل: علمت ما أحضرته من خير وشر. وإحضار الأعمال مجاز، لأنها لا تبقى والمعنى: إنه لا يشذ عنها شئ، فكأن كلها حاضرة. وقيل: إن المراد صحائف الأعمال. (فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذاعسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صاحبكم بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعالمين (27) لمن شاء منكم
[ 279 ]
أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (29). القراءة: قرأ أهل البصرة، غير سهل وأبن كثير والكسائي: (بظنين) بالظاء. والبا قون (بضنين) بالضاد. الحجة: الظنين: المتهم من قولهم ظننت أي اتهمت لا من ظننت المتعدى إلى مفعولين، إذ لو كانت منه لكان لا بد من ذكر المفعول الثاني. وفي أنه لم يذكر المفعول الآخر دلالة على أنه من ظننت بمعنى اتهمت. وكان النبي (ص) يعرف بالأمين، وبذلك وصفه أبو طالب في قوله: إن ابن آمنة الأمين محمدا * عندي بمثل منازل الأولاد ومن قرأ (بضنين) فهو من البخل. والمعنى أنه يخبر بالغيب، فيبينه ولا يكتمه، كما يمتنع الكاهن من إعلام ذلك حتى يأخذ عليه حلوانا (1). اللغة: الخنس: جمع خانس. والكنس: جمع كانس. وأصلهما الستر. والشيطان خناس، لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالى أي يذهب ويستتر. وكناس الطير والوحش: بيت يتخذه ويختفي فيه. والكواكب تكنس في بروجها كالظباء تدخل في كناسها. وعسعس الليل إذا أقبل من أوله وأظلم. وعسعس إذا أدبر، وهو من الأضداد. قال علقمة بن قرط: حتى إذا الصبح لها تنفسا * وانجاب عنها ليلها، وعسعسا (2) والعس: طلب الشئ بالليل ومنه أخذ العسس. ويقال: عسعس الليل، وسعسع. الاعراب: (إنه لقول رسول كريم): جواب القسم. ثم وصف الرسول بأوصاف إلى قوله (أمين) ثم قال: (وما صاحبكم بمجنون) وهو معطوف على جواب القسم، وكذلك ما بعده. وقوله: (فأين تذهبون) اعتراض. قال الفراء: تقول العرب إلى أين تذهب، وأين تذهب. وتقولون: ذهبت الشام، وخرجت الشام، وانطلقت السوق، سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة. وأنشد الفراء: (1) الحلوان - بالضم -: الأجرة. (2) انجاب أي انكشف. (*)
[ 280 ]
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا * وأي الأرض تذهب للصياح يريد: إلى أي الأرض، ولم يحك سيبويه من هذا إلا ذهبت الشام. وعلى هذا جاء (فأين تذهبون) والمعنى: فإلى أين تذهبون. وقوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين) جواب القسم أيضا. وقوله: (وما تشاءون) داخل في جواب القسم أيضا. وقوله: (لمن شاء منكم): بدل من قوله: (للعالمين) بدل البعض من الكل، فإذا السورة كلها مركبة من فعل وفاعل، ومن قسم وأجوبة. المعنى: ثم أكد سبحانه ما تقدم بالقسم فقال: (فلا أقسم) أي فأقسم ولا زائدة، وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيه عند قوله (لا أقسم بيوم القيامة). (بالخنس) وهي النجوم تخنس بالنهار، وتبدو بالليل (والجواري) صفة لها، لأنها تجري في أفلاكها) (الكنس) من صفتها أيضا، لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها، كما تتوارى الظباء في كناسها، وهي خمسة أنجم: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، عن علي (ع). وقيل: معناه أنها تخنس بالنهار فتختفي ولا ترى، وتكنس في وقت غروبها، فهذا خنوسها وكنوسها. وقيل: هي بقر الوحش، عن ابن مسعود. وقيل: هي الظباء، عن ابن جبير. (والليل إذا عسعس) أي إذا أدبر بظلامه، عن علي (ع) وابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل: أقبل بظلامه، عن الحسن. وقيل: أظلم، عن الجبائي. (والصبح إذا تنفس) أي إذا أسفر وأضاء، والمعنى: امتد ضوؤه حتى يصير نهارا (إنه لقول رسول كريم) هذا جواب القسم أي إن القرآن قول رسول كريم على ربه، وهو جبرائيل، وهو كلام الله تعالى، أنزله على لسانه أي سمعه محمد من جبرائيل، ولم يقله من قبل نفسه، عن الحسن وقتادة. وقيل: إنما أضافه إلى جبرائيل، لأن الله تعالى قال لجبرائيل: أئت محمدا (ص) وقل له كذا. ثم وصف جبرائيل (ع) فقال: (ذي قوة) أي فيما كلف وأمر به من العلم والعمل، وتبليغ الرسالة. وقيل: ذي قدرة في نفسه، ومن قوته قلعه ديار قوم لوط بقوادم جناحه، حتى بلغ بها السماء، ثم قلبها. (عند ذي العرش مكين) معناه. متمكن عند الله صاحب العرش وخالقه، رفيع المنزلة، عظيم القدر عنده، كما يقال. فلان مكين عند السلطان. والمكانة: القرب (مطاع ثم) أي في السماء
[ 281 ]
تطيعه ملائكة السماء. قالوا: ومن طاعة الملائكة لجبرائيل أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج، حتى فتح لمحمد (ص) أبوابها، فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن النار ففتح له عنها، حتى نظر إليها. (أمين) أي على وحي الله ورسالاته إلى أنبيائه. وفي الحديث: (إن رسول الله (ص) قال لجبرائيل (ع): ما أحسن ما أثنى عليك ربك: (ذي قوة عند العرش مكين مطاع ثم أمين) فما كانت قوتك، وما كانت أمانتك ؟ فقال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهن من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج، ونباح الكلاب، ثم هويت بهن، فقلبتهن. وأما أمانتي فإني لم أؤمر بشئ فعدوته إلى غيره. ثم خاطب سبحانه جماعة الكفار فقال: (وما صاحبكم) الذي يدعوكم إلى الله، وإخلاص طاعته (بمجنون) والمجنون المغطى على عقله، حتى لا يدرك الأمور على ما هي عليه للآفة الغامرة له، وبغمور الآفة يتميز من النائم، لأن النوم ليس بآفة، وهذا أيضا من جواب القسم. أقسم الله عز اسمه إن القرآن نزل به جبرائيل، وإن محمدا (ص) ليس على ما يرميه به أهل مكة من الجنون. (ولقد رآه بالأفق المبين) أي رأى محمدا (ص) جبرائيل (ع) على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، حيث تطلع الشمس، وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق، عن قتادة ومجاهد والحسن. (وما هو على الغيب بضنين) أي ليس هو على وحي الله تعالى، وما يخبر به من الأخبار، بمتهم، فإن أحواله ناطقة بالصدق والأمانة، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، والضحاك. ومن قرأ بالضاد فالمعنى: إنه ليس ببخيل فيما يؤدي عن الله أن يعلمه كما علمه الله (وما هو بقول شيطان رجيم) رجمه الله باللعنة، عن الحسن. وقيل: رجم بالشهب طردا من السماء، والمعنى: وليس القرآن بقول شيطان رجيم م ألقاه إليه، كما قال المشركون: إن الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة. ثم بكتهم الله سبحانه فقال: (فأين تذهبون) أي: فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم، عن الزجاج. وقيل: معناه فأين تعدلون عن هذا القرآن، وهو الشفاء والهدى (إن هو إلا ذكر للعالمين) معناه: ما القرآن إلا عظة،
[ 282 ]
وتذكرة للخلق، يمكنهم أن يتوصلوا به إلى الحق، والذكر هو ضد السهو، والذاكر لا يخلو من أن يكون عالما، أو جاهلا، أو مقلدا، أو شاكا، ولا يصح شئ من ذلك مع السهو الذي يضاد الذكر. (لمن شاء منكم أن يستقيم) على أمر الله وطاعته. ذكر سبحانه أنه ذكر لجميع الخلق على العموم، ثم خص المستقيم لأن المنفعة راجعة إليهم، كما قال. (إنما تنذز من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب). (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فيه أقوال أحدها: إن معناه وما تشاؤون الإستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك من حيث خلقكم لها، وكلفكم بها، فمشيئته بين يدي مشيئتكم، عن الجبائي وثانيها: إنه خطاب للكفار، والمراد: لا تشاؤون الإسلام إلأ أن يشاء الله أن يجبركم عليه، ويلجئكم إليه. ولكنه لا يفعل، لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقوا الثواب، ولا يريد أن يحملكم عليه، عن أبي مسلم. وثالثها: إن المراد وما تشاؤون الإسلام إلا أن يشاء الله أن يلطف لكم في الإستقامة، لما في الكلام من معنى النعمة.
[ 283 ]
82 - سورة الانفطار مكية وآياتها تسع عشرة فضلها: أبي بن كعب قال: قال النبي (ص): (ومن قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل قبر حسنة، وبعدد كل قطرة مائة حسنة، وأصلح الله شأنه يوم القيامة). وروى الحسن بن أبي العلا، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ هاتين السورتين (إذا السماء انفطرت) (وإذا السماء انشقت) وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من الله حجاب، ولم يحجزه من الله حاجز، ولم يزل ينظر إلى الله، وينظر الله إليه، حتى يفرغ من حساب الناس. تفسيرها: لما كانت السورة المتقدمة في ذكر أهوال يوم القيامة، إفتتح سبحانه هذه السورة بمثل ذلك، ليتصل بها اتصال النظير بالنظير، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا البحار فجرت (3) وإذا القبور بعثرت (4) علمت نفس ما قدمت وأخرت (5) يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم (6) الذي خلقك فسواك فعدلك (7) في أي صورة ما شاء ركبك (8) كلا بل تكذبون بالدين (9) وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون (12) إن الأبرار لفى نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14) يصلونها يوم الدين (15) وما هم عنها بغائبين (16) وما أدراك ما يوم الدين (17) ثم ما أدراك ما يوم الدين (18) يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله (19)
[ 284 ]
القراءة: قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر: (فعدلك) خفيفة. والباقون بالتشديد. وقرأ أبو جعفر: بل يكذبون بالياء. والباقون بالتاء، وقرأ ابن كثير، وأهل البصرة: (يوم لا تملك) بالرفع. والباقون بالنصب. وفي الشواذ قراءة سعيد بن جبير: (ما أغرك بربك). الحجة: أما (عدلك) بالتشديد فمعناه: عدل خلقك فأخرجك في أحسن تقويم. وأما (عدلك) بالتخفيف فمعناه: عدل بعضك ببعض، فكنت معتدل الخلقة متناسبها، فلا تفاوت فيها. وقوله: (يكذبون) بالياء يكون إخبارا عن الكفار. وبالتاء على خطابهم. وأما وجه الرفع في قوله. (يوم لا تملك نفس) أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو يوم لا تملك. والمعنى يوم الدين يوم لا تملك نفس. وأما النصب: فإنه لما قال (وما أدراك ما يوم الدين) فجرى ذكر الدين، وهو الجزاء قال. (يوم لا تملك) يعني الجزاء يوم لا تملك نفس، فصار (يوم لا تملك) خبر الجزاء المضمر، لأنه حدث. وتكون أسماء الزمان أخبارا عن الحدث. ويجوز النصب على وجه آخر وهو أن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا، ترك على ما كان يكون عليه في أكثر أمره. والدليل على ذلك ما اجتمع عليه القراء والعرب في قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك) ومما يقوي النصب في ذلك قوله: (وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس). وقوله: (يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون) فالنصب في (يوم لا تملك نفس) مثل هذا ونحوه. قال أبو الحسن: ولو رفع ذلك كله كان جيدا، إلا أنا نختار ما عليه الناس. وأما من قرأ (ما أغرك). فيجوز أن يكون معناه: ما الذي دعاك إلى الإغترار به. ويجوز أن يكون تعجبا. وقد قيل في قوله (فما أصبرهم على النار) هذان الوجهان. وأغرك يجوز أن يكون من الغر والغرارة، فيكون معناه: ما أجهلك وما أغفلك، عما يراد بك. ويجوز أن يكون من الغرور على غير القياس كما قيل في المثل: (أشغل من ذات النحيين) (1). (1) النحي: زق السمن. وذات النحيين: هي امرأة من بني تيم، كانت تبيع السمن في الجاهلية، فأتاها خوات بن جبير، يبتاع منها سمنا، فلم ير عندها أحدا، وساومها. فحلت نحيا فنظر إليه، ثم قال: أمسكيه حتى أنظر إلى غيره فقالت: حل نحيا آخر. ففعل فنظر إليه. فقال: اريد غير هذا فأمسكيه، ففعلت. فلما شغل يديها، أتى خلفها وهي منحنية، فرفع ثوبها، وأدخل فيها، فلم تقدر على دفعه، حتى قضى ما أراد وهرب. ثم أسلم خوات، فقال له = (*)
[ 285 ]
اللغة: الإنفطار والإنشقاق والإنصداع نظائر. والإنتشار: تساقط الشئ من الجهات. والتفجير: خرق بعض مواضع الماء إلى بعض على التكثير، ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب. ومنه الفجر لانفجاره بالضياء. وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا جعلت أسفله أعلاه. والبعثرة والبحثرة إثارة الشئ بقلب باطنه إلى ظاهره، والغرور: ظهور أمر يتوهم به جهلا الأمان من المحذور، يقال: غره غرورا واغتره اغترارا. قال الحرث بن حلزة: لم يغروكم غرورا، ولكن * رفع الآل جمعهم، والضحاء (1) الاعراب: قوله (في أي صورة ما شاء) يجوز أن تكون (ما) مزيدة مؤكدة، والمعنى: في أي صورة شاء ركبك، إما طويلا، وإما قصيرا، وإما كذا وكذا يكون (ركبك) عطفا على (عدلك) فحذف الواو. ويجوز أن يكون ما في معنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك، ولا يكون على هذا قوله (في أي صورة) من صلة (ركبك)، لأن سيبويه قال: إن تضرب زيدا أضرب عمرا، ولا يجوز تقديم عمرو على (إن)، فوجب أن يكون قوله (في أي صورة من صلة مضمر، ولا يكون من صلة عدلك، لأنه استفهام، فلا يعمل فيه ما قبله. (يصلونها): في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع، فيكون خبرا لأنه خبر بعد خبر، والتقدير: إن الفجار في جحيم صالون. المعنى: (إذا السماء انفطرت) أي انشقت وتقطعت، ومثله: (يوم تشقق السماء بالغمام) الآية. (وإذا الكواكب انتثرت) أي تساقطت وتهافتت. قال ابن عباس: سقطت سودا لا ضوء لها (وإذا البحار فجرت) أي: فتح بعضها في بعض، عذبها في ملحها، وملحها في عذبها، فصارت بحرا واحدا، عن قتادة والجبائي. وقيل: معناه ذهب ماؤها، عن الحسن. (وإذا القبور بعثرت) أي قلب ترابها، وبعث الموتى الذين فيها. وقيل: معناه بحثت عن الموتى، فأخرجوا منها يريد عند البعث، عن ابن عباس ومقاتل. (علمت نفس ما قدمت وأخرت) وهذا كقوله = رسول الله (ص): كيف شراؤك ياخوات ؟ وتبسم ! (1) البيت من (المعلقات). والآل: السراب. أي: لم يأتوكم بغتة، وأنتم ترونهم في ضحى النهار، وخلال السراب. (*).
[ 286 ]
سبحانه: (ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) وقد مر ذكره. عن عبد الله بن مسعود قال: ما قدمت من خير أو شر، وما أخرت من سنة حسنة استن بها بعده، فله أجر من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ، أو سنة سيئة عمل بها بعده، فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شئ. ويؤيد هذا القول ما جاء في الحديث: إن سائلا قام على عهد النبي (ص) فسأل فسكت القوم. ثم إن رجلا أعطاه فأعطاه القوم. فقال النبي (ص): (من استن خيرا فاستن به، فله أجره، ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من اجورهم، ومن استن شرا فاستن به، فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه، غير منتقص من أوزارهم). قال فتلا حذيفة بن اليمان (علمت نفس ما قدمت وأخرت). (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) أي: أي شئ غرك بخالقك، وخدعك، وسول لك الباطل حتى عصيته وخالفته، وروي أن النبي (ص) لما تلا هذه الآية قال: (غره جهله). واختلف في معنى الكريم فقيل: هو المنعم الذي كل أفعاله إحسان وإنعام، لا يجر به نفعا، ولا يدفع به ضررا. وقيل: هو الذي يعطي ما عليه، وما ليس عليه، ولا يطلب ما له. وقيل: هو الذي يقبل اليسير، ويعطي الكثير. وقيل: إن من كرمه سبحانه أنه لم يرض بالعفو عن السيئات حتى بدلها بالحسنات. وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه، فقال: ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول له ؟ قال: أقول غرني ستورك المرخاة، وقال يحيى بن معاذ: لوأقامني الله بين يديه، فقال: ما غرك بي ؟ قلت: غرني بك برك بي سالفا وآنفا. وعن بعضهم قال: غرني حلمك، وعن أبي بكر الوراق: غرني كرم الكريم، وإنما قال سبحانه الكريم، دون سائر أسمائه وصفاته، لأنه كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرني كرم الكريم. وقال عبد الله بن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول: يا بن آدم ما غرك بي يا بن آدم، ماذا عملت فيما عملت يا بن آدم. ماذا أجبت المرسلين. وقال أمير المؤمنين (ع): كم مغرور بالستر عليه، ومستدرج بالإحسان إليه. (الذي خلقك) من نطفة، ولم تك شيئا (فسواك) إنسانا تسمع وتبصر (فعدلك) أي جعلك معتدلا. وقيل: معناه عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين، عن مقاتل. والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان، لا تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل
[ 287 ]
(في أي صورة ما شاء ركبك) أي: في أي شبه من أب، أو أم، أو خال، أو عم، عن مجاهد. وروي عن الرضا (ع) عن آبائه عن النبي (ص) أنه قال لرجل: ما ولد لك ؟ قال: يا رسول الله ! وما عسى أن يولد لي، إما غلام، وأما جارية. قال. فمن يشبه ؟ قال: يشبه أمه وأباه. فقال (ص): لا تقل هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم. أما قرأت هذه الاية (في أي صورة ما شاء ركبك) أي: فيما بينك وبين آدم. وقيل: في أي صورة ما شاء من صور الخلق ركبك، إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، عن عكرمة، وأبي صالح. وقال الصادق (ع): لو شاء ركبك على غير هذه الصورة. والمعنى أنه سبحانه يقدر على جعلك كيف شاء، ولكنه خلقك في أحسن تقويم حتى صرت على صورتك التي أنت عليها، لا يشبهك شئ من الحيوان. وقيل: في أي صورة شاء من ذكر أو أنثى، أو جسيم أو نحيف، حسن أو دميم، طويل أو قصير. (كلا) أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا حساب، وليس هنا موضع الإنكار للبعث مع وضوح الأمر فيه، وقيام الدلالة عليه. (بل تكذبون) معاشر الكفار (بالدين) الذي هو الجزاء لإنكاركم البعث والنشور، عن مجاهد وقتادة. وقيل. تكذبون بالدين الذي جاء به محمد (ص) وهو الإسلام، عن الجبائي (وإن عليكم لحافظين) من الملائكة يحفظون عليكم ما تعملونه من الطاعات والمعاصي. ثم وصف الحفظة فقال: (كراما) على ربهم (كاتبين) يكتبون أعمال بني آدم (يعلمون ما تفعلون) من خير وشر، فيكتبونه عليكم لا يخفى عليهم من ذلك شئ. وقيل: إن الملائكة تعلم ما يفعله العبد إما باضطرار، وإما باستدلال. وقيل: معناه يعلمون ما تفعلون من الله دون الباطن. وفي هذا دلالة على أن أفعال العبد حادثة من جهتهم، وأنهم المحدثون لها دونه تعالى، وإلا فلا يصح قوله تفعلون. (إن الأبرار لفي نعيم) وهو الجنة. والأبرار: أولياء الله المطيعون في الدنيا (وإن الفجار لفي جحيم) وهو العظيم من النار. والمراد بالفجار هنا الكفار المكذبون للنبي (ص) لقوله: (يصلونها يوم الدين) أي يلزمونها بكونهم فيها (وما هم عنها بغائبين) أي لا يكونون غائبين عنها بل يكونون مؤبدين فيها. وقد دل الدليل
[ 288 ]
على أن أهل الكبيرة من المسلمين، لا يخلدون في النار، ولأنه سبحانه قد ذكر المكذبين بالدين فيما قبل هذه الأية. فالأولى أن تكون لفظة الفجار مخصوصة بهم. وأيضا فإذا احتمل الكلام ذلك بطل تعلق أهل الوعيد بعموم اللفظ. ثم عظم سبحانه يوم القيامة فقال: (وما أدراك ما يوم الدين) تعظيما له لشدته، وتنبيها على عظم حاله، وكثرة أهواله (ثم ما أدراك ما يوم الدين) كرره تأكيدا لذلك. وقيل: أراد ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم لأهل الجنة، وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب لأهل النار، عن الجبائي. (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) أي لا يملك أحد الدفاع عن غيره ممن يستحق العقاب، كما يملك كثير من الناس في دار الدنيا ذلك. (والأمر يومئذ لله) وحده أي: الحكم له في الجزاء والثواب، والعفو والإنتقام. وروى عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (ع) أنه قال: إن الأمر يومئذ واليوم كله لله. يا جابر ! إذا كان يوم القيامة بادت الحكام، فلم يبق حاكم إلا الله. وقيل: معناه يوم لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة، عن مقاتل. والمعنى الصحيح في الآية أن الله سبحانه قد ملك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا وأحكاما، وفي القيامة لا أمر لسواه ولا حكم (1). ومتى قيل: فيجب أن لا يصح على هذا شفاعة النبي (ص). فالجواب: إن ذلك لا يكون إلا بأمره تعالى، وبإذنه، وهو من تدابيره. (1): وقد مر نظير هذا الكلام في قوله تعالى: (مالك يوم الدين) في سورة الفاتحة فراجع. (*).
[ 289 ]
83 - سورة المطففين مكية وآيتها ست وثلاثون وتسمى سورة التطفيف مكية، وقال المعدل: مدنية، عن الحسن والضحاك وعكرمة قال: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثماني آيات منها وهي: (إن الذين أجرموا) إلى آخر السورة. عدد آيها: ست وثلاثون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب قال: قال النبي (ص): (ومن قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم، يوم القيامة). وروى صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (ع) قال: (من كانت قراءته في الفريضة ويل للمطففين) أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار، ولا تراه ولا يراها، ولا يمر على جسر جهنم، ولا يحاسب يوم القيامة. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة، وما أعد فيها للأبرار والفجار، وبين في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة، فقال. (بسم الله الرحمن الرحيم ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالو على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون (4) ليوم عظيم (5) يوم يقوم الناس لرب العالمين (6) كلا إن كتاب الفجار لفى سجين (7) وما أدراك ما سجين (8) كتاب مرقوم (9) ويل يومئذ للمكذبين (10) الذين يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم (12) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (13) كلا بل ران على قلوبهم ما
[ 290 ]
كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون (17) القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم، إلا يحيى: (ران) بكسر الراء. والباقون بفتحها. اللغة: التطفيف: نقص المكيال والميزان. والطفيف: الشئ النزر القليل، مأخوذ من طف الشئ، وهو جانبه. وفي الحديث: (كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه فليس لأحد فضل إلا بالتقوى) وطف الصاع: قريب من ملئه أي بعضكم قريب من بعض. وإناء طفان إذا لم يكن ملآن. والاكتيال: الأخذ بالكيل. ونظيره الإتزان وهو الأخذ بالوزن. (وإذا كالوهم أو وزنوهم) كان عيسى بن عمر يجعل (هم) فصلا في موضعع رفع، أو تأكيدا للضمير في كالوا أو وزنوا، والباقون: يجعلونها ضمير المنصوب، وهو الصحيح. وأهل الحجاز يقولون: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، وعليه جاء التنزيل. وغيرهم يقول: وزنت لك، وكلت لك. ويقال: أخسرت الميزان وخسرته أي نقصت في الوزن. والسجين. فعيل من السجن. قال ابن مقبل: (ضربا تواصى به الأبطال سجينا)، (1) أي شديدا. وقيل: السجين هو السجن على التخليد فيه، لأن هذا الوزن للمبالغة. قالوا: شريب وسكير وشرير. والرقم: طبع الخط بما فيه علامة الأمر، يقال: رقمت الثوب أرقمه رقما، والرين أصله الغلبة. ران على قلبه أي غلب عليه. والخمر ترين على قلب السكران. والموت يرين على الميت فيذهب به. وفي حديث عمر بن الخطاب أنه قال في أسيفع جهينة لما ركبه الدين: ادان معرضا (2) فأصبح قد رين به أي أحاط الدين بماله حتى غلبه. الاعراب: (يوم يقوم الناس): منصوب بقوله (مبعوثون) أي: ألا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة. وقيل في أصل كلا قولان أحدهما: إنها كلمة واحدة من غير تركيب وضعت للردع والزجر، وجرت مجرى الأصوات نحو صه ومه ونحوهما. والثاني: أن يكون الكاف للتشبيه دخلت على لا، وشددت للمبالغة في الزجر، مع الإيذان بتركيب اللفظ. (1) وقبله: (ورجلة يضربون الهام عن عرض). (2) أي أستدان معرضا عن الأداء. وقيل: استدان معترضا عن الأداء. وقيل: استدان معترضا عن كل من يقرضه. (*).
[ 291 ]
النزول: قيل: لما قدم رسول الله (ص) المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله، عز وجل: (ويل للمطففين) فأحسنوا الكيل بعد ذلك، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقيل: إنه (ص) قدم المدينة، وبها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر. فنزلت الآيات، عن السدي. المعنى: (ويل للمطففين) وهم الذين ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس حقوقهم في الكيل والوزن. قال الزجاج: وإنما قيل له مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشئ اليسير الطفيف. ثم فسر المطففين فقال: (الذين إذا اكتالوا على الناس) أي إذا كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم (يستوفون) عليهم الكيل، ولم يذكر اتزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر. (وإذا كالوهم أو وزنوهم) أي كالوا لهم، أو وزنوا لهم (يخسرون) أي ينقصون. والمعنى أنهم إذا كالوا، أو وزنوا لغيرهم، نقصوا. تقول: كلتك. وكلت لك، كما تقول نصحتك، ونصحت لك. ويروى عن ابن مسعود أنه قال: الصلاة مكيال فمن وفى وفى الله، ومن طفف قد سمعتم ما قال الله في المطففين. ثم عجب الله خلقه من غفلة هؤلاء حيث فارقوا أمر الله، وطريقة العدل فقال. (ألا يظن) أي ألا يعلم (أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم) وهو يوم القيامة يريد: ألا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث محاسب، عن ابن عباس. ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) والمعنى يوم يقوم الناس من قبورهم لأمر رب العالمين، ولجزائه، أو حسابه. وجاء في الحديث أنهم يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم. وفي حديث آخر: يقومون حتى يبلغ الرشح إلى أطراف آذانهم. ويحتمل أن يكون المراد أيضا ألا يحسب أولئك، لأن من ظن الجزاء والبعث وقوي ذلك في نفسه، وإن لم يكن عالما به، فإنه يجب عليه أن يتحرز خوفا من العقاب الذي يجوزه ويظنه، كما أن من ظن العطب في سلوك طريق، فواجب عليه أن يتجنب سلوكه. وفي الحديث عن سليم بن عامر، عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد، حتى تكون الشمس بقدر ميل أو ميلين). قال سليم: فلا أدري أمسافة الأرض أم الميل الذي تكحل به العين. ثم قال: (صهرتهم الشمس فيكونون
[ 292 ]
في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يلجمه إلجاما. قال: فرأيت رسول الله (ص) يشير بيده إلى فيه قال: يلجمه إلجاما أورده مسلم في الصحيح. وروي أن ابن عمر قرأ (ويل للمطففين) حتى بلغ (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فبكى حتى خر، وامتنع من القراءة. (كلا) هو ردع وزجر أي: ارتدعوا وانزجروا عن المعاصي، فليس الأمر على ما أنتم عليه تم الكلام ههنا. وعند أبي حاتم وسهل (كلا) ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا (إن كتاب الفجار لفي سجين) يعني كتابهم الذي فيه ثبت أعمالهم من الفجور والمعاصي، عن الحسن. وقيل: معناه أنه كتب في كتابهم أنهم يكونون في سجين، وهي في الأرض السابعة السفلى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله (ص): (سجين أسفل سبع أرضين). وقال شمربن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله تعالى (إن كتاب الفجار لفي سجين) قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس. والمعنى في الآية: إن كتاب عملهم يوضع هناك. وقيل: إن سجين جب في جهنم مفتوح. والفلق: جب في جهنم مغطى. رواه أبو هريرة عن النبي (ص). وقيل: السجين اسم لكتابهم، وهو ظاهر التلاوة أي: ما كتبه الله على الكفار بمعنى أوجبه عليهم من الجزاء في هذا الكتاب المسمى سجينا، ويكون لفظه من السجن الذي هو الشدة، عن أبي مسلم. والذي يدل على أن العرب ما كانت تعرفه هو قوله: (وما أدراك ما سجين) أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك، عن الزجاج. ثم قال مفسرا لذلك: (كتاب مرقوم) أي كتاب معلوم كتب فيه ما يسوؤهم، ويسخن أعينهم. وقيل: مرقوم معناه رقم لهم بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها الكافر. والوجه الصحيح: إن قوله (كتاب مرقوم) ليس تفسيرا لسجين، لأنه ليس السجين من الكتاب المرقرم في شئ، وإنما هو تفسير للكتاب المذكور في قوله (إن كتاب الفجار) على تقدير وهو كتاب مرقوم، أي مكتوب قد تبينت حروفه. (ويل يومئذ للمكذبين) وهذا تهديد لمن كذب بالجزاء والبعث، ولم يصدق. وذكر صاحب
[ 293 ]
النظم أن هذا منتظم بقوله (يوم يقوم الناس) وان قوله (كلا إن كتاب الفجار) وما اتصل به، اعتراض بينهما. ثم فسر سبحانه المكذبين فقال: (الذين يكذبون بيوم الدين) أي يوم الجزاء. فإن من كذب بالباطل لا يتوجه إليه الوعيد، بل هو ممدوح. ثم قال: (وما يكذب به) أي لا يكذب بيوم الجزاء (إلا كل معتد) أي متجاوز للحق إلى الباطل (أثيم) كثير الإثم، مبالغ في ارتكابه. ثم وصف المعتدي الأثيم بقوله: (إذا تتلى عليه آياتنا) وهي القرآن (قال أساطير الأولين) أي أباطيل الأولين. والتقدير: قال هذا أساطير الأولين أي ما سطره الأولون وكتبوه، مما لا أصل له. (كلا) لا يؤمنون. وقيل: ليس الأمر على ما قالوه: ثم استأنف، فقال: (بل ران على قلوبهم) أي غلب عليها (ما كانوا يكسبون) والمعنى غلب ذنوبهم على قلوبهم. وقيل: إن معنى الرين هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب، عن الحسن وقتادة. وقال الفراء: كثرت المعاصي منهم والذنوب وأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها، وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فتنكت نكتة أخرى، حتى يصير قلبه على لون الشاة السوداء. وروى العياشي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، وهو قول الله تعالى (كلا بل ران على قلوبهم) الآية. وقال أبو عبد الله (ع): يصدأ القلب فإذا ذكرته بآلاء الله انجلى عنه. وقال أبو مسلم: إن اعتيادهم الكفر، وإلفتهم له، وغفلتهم، صار غطاء على قلوبهم، فلا يعقلون ما ينفعهم، لأن ترك النظر في العواقب، وكثرة المعاصي، والإنهماك في الفسق، يقوي الدواعي في الإعراض عن التوبة، والإيلاع بالذنوب، فصار ذلك كالغالب على القلوب الرائن عليها. وقال أبو القاسم البلخي: وفي الآية دلالة على صحة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع على القلوب، والختم عليها والإضلال لأنه تعالى - أخبر أن أعمالهم السيئة، وما كانوا يكسبونه من القبيح ران على قلوبهم. (كلا) يريد لا يصدقون، عن ابن عباس. ثم استأنف (إنهم عن ربهم يومئذ
[ 294 ]
لمحجوبون) يعني أن هؤلاء الذين وصفهم بالكفر والفجور، محجوبون يوم القيامة عن رحمة ربهم، وإحسانه وكرامته، عن الحسن وقتادة. وقيل: ممنوعون من رحمته، مدفوعون عن ثوابه، غير مقبولين، ولا مرضيين، عن أبي مسلم. وقيل: محرومون عن ثوابه وكرامته، عن علي (ع). (ثم إنهم) بعد أن منعوا من الثواب والكرامة (لصالوا الجحيم) أي لازمو الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها. وقال أبو مسلم. لصائرون صلاها أي وقودها (ثم يقال) لهم توبيخا وتبكيتا (هذا الذي) فعل بكم من العذاب والعقاب (الذي كنتم به تكذبون) في دار التكليف، ويسمى مثل هذا الخطاب تقريعا، لأنه خبر بما يقرع بشدة الغم على وجه الذم. (كلا إن كتاب الأبرار لفى عليين (18) وما أدراك ماعليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إن الأبرار لفي نعيم (22) على الأرائك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها المقربون (28) إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (29) وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبو إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا عليهم حافظين (33) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (34) على الأرائك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانو يفعلون (36) القراءة: قرأ أبو جعفر ويعقوب: (تعرف) بضم التاء، وفتح الراء: (نضرة) بالرفع. والباقون: (تعرف) بفتح التاء، وكسر الراء: (نضرة) بالنصب. وقرأ الكسائي وحده: (خاتمه) وهي قراءة علي (ع) وعلقمة. والباقون: (ختامه). وقرأ أبو جعفر وحفص: (فكهين) بغير ألف. والباقون: (فاكهين). وقرأ حمزة والكسائي: (هثوب الكفار) بإدغام اللام في الثاء. وقد روي نحوه عن أبي عمرو. والباقون بالإظهار. الحجة: (تعرف في وجوههم): على الخطاب، والمعنى في القراءتين
[ 295 ]
سواء. وقال أبو عبيدة: ختامه أي عاقبته. قال ابن مقبل: ممايفتق في الحانوت، باطنها * بالفلفل الجون، والرمان، مختوم (1) قال أبو علي: ختامه مسك: والمراد به لذاذة المقطع، وذكاء الرائحة وأرجها، مع طيب الطعم، وهذا كقوله: (كان مزاجها كافورا)، و (كان مزاجها زنجبيلا) أي: يحذي اللسان. وأما قول الكسائي (خاتمه) فإن معناه آخره، كما كان خاتم النبيين معناه آخرهم. فالختام: المصدر، والخاتم. اسم الفاعل، كالطابع، والتابل. والعرب تقول: خاتم بالفتح، وخاتم، وخاتام، وخيتام. قال سيبويه: أدغم أبو عمرو (هثوب الكفار)، وإدغامها فيها حسن، وإن كان دون إدغام اللام في الراء في الحسن، لتقاربهما. وجاز إدغامها فيها، لأنه قد أدغم في الشين فيما قد أنشده من قوله: (هشئ بكفيك لائق) يريد: هل شئ. اللغة: عليون: علو على علو مضاعف، ولهذا جمع الواو والنون تفخيما لشأنه، وتشبيها بما يعقل في عظم الشأن، وهي مراتب عالية محفوفة بالجلالة. قال الشاعر: فأصبحت المذاهب قد أذاعت * به الاعصار بعد الوابلينا (2) يريد: قطرا بعد قطر غير محدود العدد، وكذلك تفخيم شأن العدد الذي ليس على الواحد، نحو: ثلاثون وأربعون إلى التسعين. وجرت العشرون عليه. وقان الزجاج: عليون إسم لأعلى الأمكنة، وإعرابه كإعراب الجمع، لأنه على لفظ الجمع، كما تقول: هذا قنسرون، ورأيت قنسرين. والأرائك: الأسرة في الحجال. والرحيق: الشراب الذي لا غش فيه. قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم * بردى تصفق بالرحيق السلسل (3) قال الخليل: هي أفضل الخمر وأجودها. والتنافس: تمني كل واحد من (1) الجون: الأسود المشرب حمرة. (2) المذاهب: المسالك والطرق. وأذاعت به أي ذهبت وغيرته. والإعصار: الريح الشديدة. (3) البريص: نهر بدمشق. وبردى: نهر آخر بدمشق. وقوله بردى أي: ماء بردى. ويصفق أي يمزج. والسلسل: اللينة السهلة الدخول في الحلق. (*)
[ 296 ]
النفسين مثل الشئ النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له. تنافسوا في الشئ تنافسا، ونافسه فيه منافسة. ونفس عليه بالشئ ينفس نفاسة إذا ضن به، لجلالة قدره عنده، وذلك الشئ الذي ينفس به نفيس. والمزج: خلط مائع بمائع على خلاف صفته، كمزج الشراب بالماء. والتسنيم: عين ماء يجري من علو إلى أسفل، يتسنم عليهم من الغرف، واشتقاقه من السنام. وسنمت العين تسنيما إذا أجريتها عليهم من فوقهم. والتغامز: إشارة بعضهم إلى بعض بالأعين استهزاء، وطلبا للعيب. يقال: غمز بجفنه إذا أشار. والفاكهون: اللاهون. والفكهون: المرحون الأشرون. والفكاهة: المزاح. وأصل الثواب من الرجوع، كأنه يرجع على العامل بعمله. وثاب عليه عقله إذا رجيم. الاعراب: (عينا يشرب بها المقربون) يجوز أن تكون منصوبة مفعولة لتسنيم أي: مزاجه من ماء متسنم عينا، كقوله تعالى: (أو إطعام يتيما). ويجوز أن تكون منصوبة على تقدير ويسقون من عين. ويجوز أن تكون منصوبة على الحال، ويكون تسنيم معرفة، وعينا نكرة. المعنى: لما تقدم ذكر حال الفجار، عقبه سبحانه بذكر حال الأبرار، فقال: (كلا) أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. فعلى هذا يتصل بما قبله. وقيل: معناه حقا. ويتصل بما بعده (إن كتاب الأبرار) أي المطيعين لله (لفي عليين) أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة. وقيل: في السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، عن قتادة ومجاهد والضحاك وكعب. وقيل: في سدرة المنتهى، وهي التي ينتهي إليها كل شئ من أمر الله تعالى، عن الضحاك في رواية أخرى. وقيل. العليون الجنة، عن ابن عباس. قال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع، لا غاية له. وقيل: هو لوح من زبرجدة خضراء، معلق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيها، عن ابن عباس في رواية أخرى. وعن البراء بن عازب، عن النبي (ص) قال: في عليين في السماء السابعة، تحت العرش. (وما أدراك ما عليون) وهذا تعظيم لشأن هذه المنزلة، وتفخيم لأمرها، وتنبيه على أن تفصيل تفضيله لا يمكن العلم به إلا بالمشاهدة. ثم قال: (كتاب مرقوم) أي هو كتاب مكتوب فيه جميع طاعاتهم، وما تقر به أعينهم، ويوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار، لأن فيه ما يسوؤهم، وينوؤهم، ويسخن عيونهم. قال
[ 297 ]
مقاتل: مرقوم مكتوب لهم بالخيرات في ساق العرش. ويدل عليه قوله (يشهده المقربون) يعني الملائكة الذين هم في عليين، يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب، إذا صعد به إلى عليين. والمقربون هم الذين قربوا إلى كرامة الله في أجل المراتب. وقال عبد الله بن عمر: إن أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل منهم أشرقت الجنة، وقالوا: قد اطلع علينا رجل من أهل عليين. (إن الأبرار لفي نعيم) أي يحصلون في ملاذ وأنواع من النعمة في الجنة (على الأرائك) قال الحسن: ما كنا نعرف ما الأرائك، حتى قدم إلينا رجل من أهل اليمن، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير. (ينظرون) إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة. وقيل: ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون، عن مقاتل (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة. قال عطاء: وذلك أن الله تعالى قد زاد في جمالهم وألوانهم، ما لا يصفه واصف (يسقون من رحيق) أي خمر صافية خالصة من كل غش (مختوم) وهو الذي له ختام أي عاقبة. وقيل: مختوم في الآنية بالمسك وهو غير الخمر التي تجري في الأنهار. وقيل: مختوم أي ممنوع من أن تمسه يد حتى يفك ختمه للأبرار. ثم فسر المختوم بقوله: (ختامه مسك) أي آخر طعمه ريح المسك، إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا، عن مجاهد وابن زيد. قال مجاهد: طينه مسك. وعن أبي الدرداء قال: هو شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم، ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه، ثم أخرجه لم يبق ذو روح إلا ونال طيبها. ثم رغب فيها فقال: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، ومثله قوله سبحانه: (لمثل هذا فليعمل العاملون). وقيل: فليتنازع المتنازعون، عن مقاتل. وقيل: فليتشاح المتشاحون، عن زيد بن أسلم. وفي الحديث: (من صام لله في يوم صائف، سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم). وفي وصية النبي (ص) لأمير المؤمنين (ع). (ومن ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم).
[ 298 ]
(ومزاجه من تسنيم) أي ومزاج ذلك الشراب الذي وصفناه، وهو ما يمزج به، من تسنيم، وهو عين في الجنة، وهو أشرف شراب في الجنة. قال مسروق: يشربها المقربون صرفا، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين، فيطيب. وروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال: هذا مما يقول الله، عز وجل: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)، ونحو هذا قول الحسن: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. وقيل: هو شراب ينصب عليهم من علو انصبابا، عن مقاتل. وقيل: هو نهر يجري في الهواء، فينصب في أواني أهل الجنة بحسب الحاجة، عن قتادة. ثم فسره سبحانه فقال: (عينا يشرب بها المقربون) أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة، عن ابن مسعود، وابن عباس. (إن الذين أجرموا) يعني كفار قريش ومترفيهم، كأبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأصحابهم. (كانوا من الذين آمنوا) يعني أصحاب النبي (ص) مثل عمار وخباب وبلال وغيرهم (يضحكون) على وجه السخرية بهم والإستهزاء في دار الدنيا. ويحتمل أن يكون ضحكوا من جدهم في عبادتهم، وكثرة صلاتهم وصيامهم، لإنكارهم الجزاء والبعث. ويجوز أن يكون كان ضحكهم إنكارا وتعجبا من قولهم بالإعادة، وإحياء العظام الرميمة. ويحتمل أن يكون ذلك لغلوهم في كفرهم، وجهلهم، ولإيهام العوام أنهم على حق، وأن المسلمين على باطل، فكانوا يضحكون. (وإذا مروا بهم) يعني: وإذا مر المؤمنون بهؤلاء المشركين (يتغامزون) بأن يشير بعضهم إلى بعض بالأعين والحواجب، استهزإء بهم أي: يقول هؤلاء إنهم على حق، وإن محمدا (ص) أنزل عليه الوحي، وإنه رسول، وإنا نبعث، ونحو ذلك. وقيل: نزلت في علي بن أبي طالب (ع)، وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النبي (ص)، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه ! فنزلت الآية قبل أن يصل علي (ع) واصحابه إلى النبي (ص)، عن مقاتل والكلبي. وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: إن الذين أجرموا منافقو قريش، والذين آمنوا علي بن أبي طالب (ع) وأصحابه. (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) يعني: وإذا رجع هؤلاء الكفار إلى
[ 299 ]
أهلهم، رجعوا معجبين بما هم فيه، يتفكهون بذكرهم (وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون) عن طريق الحق والصواب، تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة له، خدعهم به محمد (ص) ثم قال سبحانه: (وما أرسلوا عليهم حافظين) أي ولم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه، وما كلفوا حفظ أعمالهم، فكيف يطغون عليهم. ولو اشتغلوا بما كلفوه كان ذلك أولى بهم. وقيل: معناه وما أرسلوا عليهم شاهدين، لأن شهادة الكفار لا تقبل على المؤمنين أي: ليسوا شهداء عليهم، بل المؤمنون شهداء على الكفار، يشهدون عليهم يوم القيامة، عن أبي مسلم. (فاليوم) يعني يوم القيامة الذي يجازي الله كل أحد على عمله (الذين آمنوا من الكفار يضحكون) كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، وذلك أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة، ويقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك منهم المؤمنون، عن أبي صالح. وقيل: يضحكون من الكفار، إذا رأوهم في العذاب، وأنفسهم في النعيم. وقيل: إن الوجه في ضحك أهل الجنة من أهل النار، انهم لما كانوا أعداء لله، وأعداء لهم، جعل الله سبحانه لهم سرورا في تعذيبهم، ولو كان العفو قد وقع عليهم، لم يجز أن يجعل السرور في ذلك، لأنه مضمن بالعداوة، وقد زالت بالعفو. (على الأرائك ينظرون) يعني المؤمنين ينظرون إلى عذاب أعدائهم الكفار على سرر في الحجال. ثم قال سبحانه: (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) أي هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكره على ما كانوا يفعلونه من السخرية بالمؤمنين في الدنيا ؟ وهو استفهام يراد به التقرير. وثوب بمعنى أثيب. وقيل: معناه يتصل بما قبله، ويكون التقدير: إن الذين آمنوا ينظرون هل جوزي الكفار بأعمالهم. ويكون الجملة متعلقة بينظرون. وعلى القول الأول يكون استئناف كلام لا موضع له من الإعراب. وإنما قال: هل ثوب الكفار ؟ فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة، لأن الثواب في أصل اللغة، الجزاء الذي يرجع إلى العامل بعمله، وإن كان في العرف اختص الجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة، فاستعمل هنا على أصله. وقيل: لأنه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين أي: هل ثوب الكفار كما ثوب المؤمنون ؟ وهذا القول يكون من قبل الله تعالى، أو تقوله الملائكة للمؤمنين، تنبيها لهم على أن الكفار جوزوا على كفرهم، واستهزائهم بالمؤمنين، ما استحقوه من أليم
[ 300 ]
العذاب، ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم. ويحتمل أن يكون ذلك يقوله المؤمنون بعضهم لبعض، سرورا بما ينزل بالكفار. وكل هذه الوجوه إنما تتجه على القول الأول، إذا كانت الجملة كلاما مستأنفا، لا تعلق له بما قبله.
[ 301 ]
84 - سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون عدد آيها: ثلاث وعشرون آية بصري شامي وخمس في الباقين. اختلافها: آيتان كتابه بيمينه وراء ظهره كلاهما حجازي كوفي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأ سورة انشقت، أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره). تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر أحوال القيامة، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك، فاتصلت بها اتصال النظير بالنظير، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الأرض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6) فأما من أوتي كتابه بيمينه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله مسرورا (9) وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13) إنه ظن أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به بصيرا (15) فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرءان لا يسجدون (21) بل الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23)
[ 302 ]
فبشرهم بعذاب أليم (24) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (25) القراءة: قرأ أبو جعفر، وأهل العراق، غير الكسائي: (يصلى) بالتخفيف بفتح الياء والباقون: (يصلى) بضم الياء والتشديد. وقرأ ابن كثير، وأهل الكوفة، غير عاصم: (لتركبن) بفتح الباء والباقون بضم الباء. الحجة: قال أبو علي: حجة (يصلى) مشددة اللام (ثم الجحيم صلوه). وحجة يصلى: (وسيصلون سعيرا) (اصلوها اليوم). وهذا كثير في التنزيل. وحجة (لتركبن) قول ابن عباس: لتركبن السماء حالا بعد حال، مرة كالمهل، ومرة كالدهان. وابن مسعود: لتركبن يا محمد طبقا عن طبق. ومجاهد: لتركبن أمرا بعد أمر. والحسن أي: حالا عن حال، ومنزلا عن منزل. أبو عبيدة. لتركبن سنة من كان قبلكم. أبو علي: من فتح الباء أراد النبي (ص)، ومن ضم الباء أراد النبي (ص) وغيره. والضم يأتي على معنى المفتوحة، وفسروا طبقا عن طبق: حالا بعد حال. ومثل ما فسروا من أن معنى (عن) معنى (بعد) قول الأعشى: ساد، وألفى رهطه شادة، * وكابرا، سادوك عن كابر المعنى كابرا بعد كابر. فعن متعلق بسادوك. ولا يكون متعلقا بكابر. وقد بينوا ذلك في قول النابغة: بقية قدر من قدور تورثت * لآل الجلاح كابرا بعد كابر وقالوا: عرق عن الحمى أي بعدها. اللغة: الإنشقاق: افتراق امتداد عن التئام، فكل انشقاق افتراق، وليس كل افتراق انشقاقا. والأذن: الإستماع. تقول العرب: أذن لك هذا الأمر أذنا بمعنى استمع لك. قال عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له، * وحديث مثل ماذي مشار (1) وقال أيضا: (() الماذي: العسل الأبيض. والمشار بمعنى المجني. (*)
[ 303 ]
أيها القلب تعلل بددن * إن همي في سماع وأذن (1) وقال آخر: (وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا) (2) والكدح: السعي الشديد في الأمر والدأب في العمل، ويقال: كدح الإنسان في عمله يكدح. وثور فيه كدوح أي آثار من شدة السعي. قال ابن ممبل: وما الدهر إلا تارتان، فمنهما * أموت، وأخرى أبتغي العيش أكدح والحور: الرجوع. حار يحور إذا رجع. وكلمته فما حار جوابا أي ما رد جوابا. ونعوذ بالله من الحور بعد الكور أي: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة والتمام. وحوره إذا رده إلى البياض. والمحور: البكرة تدور حتى ترجع إلى مكانها. والشفق هو الحمرة بين المغرب والعشاء الاخرة، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي أبي يوسف ومحمد، وهو قول الخليل، وهو المروي عن أئمة الهدى عليهم السلام.. وقال ثعلب: هو البياض، وهو قول أبي حنيفة. قال الفراء: سمعت بعض العرب تقول: الثوب أحمر كأنه الشفق. وقال الشاعر: (أحمر اللون كمحمر الشفق). وقال آخر: قم يا غلام أعني غيرمحتشم، * على الزمان، بكأس حشوها شفق وأصل الشفق الرقة. ومثله التشفيق. وهو الرقة على خلل فيه. وأشفق على كذا إذا رق عليه، وخاف هلاكه. وثوب شفق رقيق. فالشفق هر الحمرة الرقيقة في المغرب بعد مغيب الشمس. والوسق: الجمع وسقته أسقه: إذا جمعته. وطعام موسوق أي مجموع. والوسق: الطعام المجتمع الكثير مما يكال أو يوزن، ومقداره ستون صاعا. والإتساق: الإجتماع على تمام افتعال من الوسق. وأصل الطبق: الحال. والعرب تسمي الدواهي: أم طبق، وبنات طبق. قال: (قد طرقت ببكرها أم طبق) (3). وقال في أن الطبق الحال: الصبر أحمد، والدنيا مفجعة * من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا (4) (1) الددن: اللهو. (2) هذا عجز بيت قاله قعنب بن أم صاحب، وصدره: (صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به)، (3) قاله خلف الأحمر لما نعى إليه المنصور وبعده: فدمروها وهمة صخم العنق * موت الامام فلقة من الفلق) وطرقت المرأة واناقة: نشب ولدها في بطنها، ولم يسهل خروجه. (4) الرنق مصدر قولك: رنق الماء إذا كدر. (*)
[ 304 ]
إذا صفا لك من مسرورها طبق، * أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا وقال آخر: إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره، * وساقني طبق منه إلى طبق فلست أصبو إلى خل يفارقني، * ولا تقبض أحشائي من الفرق الاعراب: قال الزجاج: جواب (إذا) يدل عليه قوله (فملاقيه) والمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله. والهاء في قوله (فملاقيه) يجوز أن يكون تقديره فملاق ربك، ويجوز أن يكون فملاق كدحك أي عملك وسعيك. وقوله (كادح إلى ربك كدحا) قيل: إن إلى هنا بمعنى اللام، والوجه الصحيح فيه أن يكون محمولا على المعنى، لأن معناه ساع إلى ربك سعيا. على أنه يحتمل أن يكون إلى متعلقة بمحذوف، ويكون التقدير: إنك كادح لنفسك، صائر إلى ربك، كما أن قوله (وتبتل إليه) يكون على معنى تبتل من الخلق، راجعا إلى الله تعالى، أو راغبا إليه. وقوله (يدعو ثبورا) معناه أنه يقول يا ثبورا، فكأنه يدعوه، ويقول يا ثبور تعال فهذا أوانك، مثل ما قيل في (يا حسرتى) فعلى هذا يكون (ثبورا) مفعولا به (أن لن يحور): تقديره: إنه لن يحور فهي مخففة من الثقيلة، ولا يجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، لأنه لا يجوز أن يجتمع عاملان على كلمة واحدة، وقوله (فما لهم) مبتدأ وخبر. (لا يؤمنون): جملة منصوبة الموضع على الحال والتقدير: أي شئ استقر لهم غير مؤمنين. المعنى: (إذا السماء انشقت) أي تصدعت وانفرجت. وانشقاقها من علامات القيامة، وذكر ذلك في مواضمع من القرآن (وأذنت لربها) أي سمعت وأطاعت في الإنشقاق، عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وهذا توسع أي كأنها سمعت وانقادت لتدبير الله (وحقت) أي وحق لها أن تأذن بالإنقياد لأمر ربها الذي خلقها، وتطيع له (وإذا الأرض مدت) أي بسطت باندكاك جبالها وآكامها، حتى تصير كالصحيفة الملساء. وقيل: إنها تمد مد الأديم العكاظي، وتزاد في سعتها، عن ابن عباس. وقيل: سويت فلا بناء ولا جبل إلا دخل فيها، عن مقاتل. (وألقت ما فيها) من الموتى والكنوز مثل: (وأخرجت الأرض أثقالها) عن قتادة ومجاهد. (وتخلت) أي خلت فلم يبق في بطنها شئ. وقيل: معناه ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها، وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. (وأذنت لربها
[ 305 ]
وحقت) ليس هذا بتكرار، لأن الأول في صفة السماء، والثاني في صفة الأرض، وهذا كله من أشراط الساعة، وجلائل الأمور التي تكون فيها، والتقدير: إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرناها وعددناها، رأى الإنسان ما قدم من خير أو شر، ويدل على هذا المحذوف قوله: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا)) أي ساع إليه في عملك. وقوله: يا أيها الإنسان) خطاب لجميع المكلفين من ولد آدم، يقول الله لهم سبحانه، ولكل واحد منهم: (يا أيها الإنسان إنك عامل عملا في مشقة لتحمله إلى الله، وتوصله إليه. (فملاقيه) أي ملاق جزاءه، جعل لقاء جزاء العمل لقاء له، تفخيما لشأنه. وقيل: معناه ملاق ربك أي صائر إلى حكمه، حيث لا حكم إلا حكمه. وقال ابن الأنباري والبلخي: جواب إذا قوله (أذنت لربها وحقت) والواو زائدة كقوله (حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها) وهذا ضعيف، والأول هو الوجه. ثم قسم سبحانه أحوال الخلق يوم القيامة فقال: (فأما من أوتي كتابه بيمينه) أي من أعطي كتابه الذي ثبت فيه أعماله، من طاعة أو معصيه، بيده اليمنى. (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) يريد أنه لا يناقش في الحساب، ولا يواقف على ما عمل من الحسنات، وما له عليها من الثواب، وما حط عنه من الأوزار، إما بالتوبة أو بالعفو. وقيل: الحساب اليسير التجاوز عن السيئات، والإثابة على الحسنات. ومن نوقش الحساب عذب في خبر مرفوع. وفي رواية أخرى، يعرف عمله ثم يتجاوز عنه. وفي حديث آخر: (ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا، وأدخله الجنة برحمته). قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: (تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك). (وينقلب) بعد الفراغ من الحساب (إلى أهله مسرورا) بما أوتي من الخير والكرامة. والمراد بالأهل هنا ما اعد له من الحور العين. وقيل: أهله أزواجه وأولاده وعشائره، وقد سبقوه إلى الجنة. والسرور هو الإعتقاد والعلم بوصول نفع إليه، أو دفع ضرر عنه في المستقبل. وقال قوم: هو معنى في القلب يلتذ لأجله بنيل المشتهى. يقال: سر بكذا من مال، أو ولد، أو بلوغ أمر، فهو مسرور (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وتكون يده اليسرى خلف ظهره، عن الكلبي. وقيل: تخلع يده اليسرى خلف ظهره، عن مقاتل. والوجه في ذلك أن
[ 306 ]
يكون إعطاء الكتاب باليمين، إمارة للملائكة والمؤمنين، لكون صاحبه من أهل الجنة، ولطفا للخلق في الإخبارية، وكناية عن قبول أعماله، وإعطاؤه على الوجه الآخر، إمارة لهم على أن صاحبه من أهل النار، وعلامة المناقشة في الحساب، وسوء المآب. ثم حكى سبحانه ما يحل به، فقال: (فسوف يدعو ثبورا) أي هلاكا إذا قرأ كتابه، وهو أن يقول: واثبوراه، واهلاكاه (ويصلى سعيرا) أي يدخل النار، ويعذب بها، عن الجبائي. وقيل: يصير صلاء النار المسعرة. وقيل: يلزم النار معذبا على وجه التأبيد. (إنه كان في أهله مسرورا) في الدنيا، ناعما لا يهمه أمر الاخرة، ولا يتحمل مشقة العبادة، فأبدله الله بسروره غما باقيا لا ينقطع، وكان المؤمن مهتما بامر الاخرة، فأبدله الله بهمه سرورا لا يزول، ولا يبيد. وقيل: كان مسرورا بمعاصي الله تعالى، لا يندم عليها، عن الجبائي. وقيل: إن من عصى وسر بمعصية الله، فقد ظن أنه لا يرجع إلى البعث، ولو كان موقنا بالبعث والجزاء، لكان بعيدا عن السرور بالمعاصي. (إنه ظن أن لن يحور) أي ظن في دار التكليف أنه لن يرجع إلى حال الحياة في الاخرة للجزاء، فارتكب المآثم، وانتهك المحارم. وقال مقاتل: حسب أن لا يرجع إلى الله فقال سبحانه: (بلى) ليحورن وليبعثن، وليس الأمر على ما ظنه (إن ربه كان به بصيرا) من يوم خلقه إلى أن يبعثه. قال الزجاج: كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إليه. ثم أقسم سبحانه فقال: (فلا أقسم)، سبق بيانه في سورة القيامة (بالشفق) أي بالحمرة التي تبقى عند المغرب في الأفق. وقيل: البياض (والليل وما وسق) أي وما جمع وضم مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه، وذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شئ الى مأواه، عن عكرمة وغيره. وقيل: وما ساق لأن ظلمة الليل تسوق كل شئ إلى مسكنه، عن الضحاك ومقاتل. وقيل: وما وسق أي طرد من الكواكب، فإنها تظهر بالليل، وتخفى بالنهار. وأضاف ذلك إلى الليل لأن ظهورها فيه مطرد، عن أبي مسلم. (والقمر إذا اتسق) أي إذا استوى واجتمع وتكامل وتم. قال الفراء: اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه، لثلاث عشرة إلى ست عشرة (لتركبن طبقا عن طبق) هذا جواب القسم أي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، تصعد فيها، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والشعبي والكلبي. ويجوز أن يريد درجة بعد درجة،
[ 307 ]
ورتبة بعد رتبة في المقربة من الله، ورفعة المنزلة عنده. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لتركبن) بفتح الباء طبقا عن طبق. قال: يعني نبيكم حالا بعد حال. رواه البخاري في الصحيح. ومن قرأ بالضم فالخطاب للناس أي. لتركبن حالا بعد حال، ومنزلا بعد منزل، وأمرا بعد أمر، يعني في الآخرة والمراد أن الأحوال تتقلب بهم، فيصيرون على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وعن بمعنى بعد، كما قال سبحانه: (عما قليل ليصبحن نادمين) أي بعد قليل. وقال الشاعر: قربا مربط النعامة مني * لقحت حرب وائل عن حيال (1) أي بعد حيال. وقيل: معناه شدة بعد شدة. حياة، ثم موت، ثم بعث، ثم جزاء. وروي ذلك مرفوعا. وقيل: أمرا بعد أمر: رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وفقرا بعد غنى، وغنى بعد فقر، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة، عن عطا. وقيل: حالا بعد حال. نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم خلقا آخر، ثم جنينا، ثم وليدا، ثم رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعا، ثم ناشئا، ثم مترعرعا، ثم حزورا، ثم مراهقا، ثم محتلما، ثم بالغا، ثم أمرد، ثم طارا، ثم باقلا، ثم مسيطرا، ثم مطرخما، ثم مختطا، ثم صملا، ثم ملتحيا، ثم مستويا، ثم مصعدا، ثم مجتمعا، والشاب يجمع ذلك كله، ثم ملهوزا، ثم كهلا، ثم أشمط، ثم شيخا، ثم أشيب، ثم حوقلا، ثم صفتانا، ثم هما (2)، ثم هرما، ثم ميتا. فيشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يموت على سبعة وثلاثين إسما. وقيل: معناه لتحدثن أمرا لم تكونوا عليه في كل عشرين سنة، عن مكحول. وقيل: معناه لتركبن منزلة عن منزلة، وطبقة عن طبقة، وذلك أن من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه، ومن كان إلى فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شئ يجر إلى شكله. وقيل: لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين، وأحوالهم، عن أبي عبيدة، وروي ذلك عن الصادق (ع). والمعنى: إنه يكون فيكم ما كان فيهم، ويجري (1) المربط: اسم مكان من الربط. والنعامة: اسم فرسه. والحيال: أن لا تحمل الناقة، أو الفرس. يعني أن الحرب لقمت بعد أن كانت لا تحمل. ولهذا البيت قصة ذكرها المبرد في (الكامل ج 2: 231 ط مصر) فراجع إن شئت. (2) الحزور: الغلام إذا اشتد وقوي. والباقل: الذي خرج شعره. والمطرخم: الشاب التام الحسن. واختط الغلام: نبت عذاره. الصمل: الشديد الخلق. والملهوز: الرجل خالطه الشيب. والحوقل: الشيخ المسن. والصفتان: القوي الجافي. والهم: الشيخ الفاني. (*).
[ 308 ]
عليكم ما جرى عليهم، حذو القذة بالقذة. (1). ثم تال سبحانه على وجه التقريع لهم والتبكيت. (فما لهم) يعني كفار قريش (لا يؤمنون) بمحمد (ص) والقرآن والمعنى: أي شئ لهم إذا لم يؤمنوا، وهو استفهام إنكار أي: لا شئ لهم من النعيم والكرامة، إذا لم يؤمنوا. وقيل: معناه فما وجه الإرتياب الذي يصرفهم عن الإيمان، وهو تعجب منهم في تركهم الإيمان، والمراد: أي مانع لهم، وأي عذر لهم في ترك الإيمان، مع وضوح الدلائل. (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) عطف على قوله (فما لهم لا يؤمنون) أي ما الذي يصرفهم عن الإيمان وعن السجود لله تعالى، إذا تلي عليهم القرآن. وقيل: معنى لا يسجدون لا يصلون لله تعالى، عن عطا والكلبي. وفي خبر مرفوع عن أبي هريرة قال: قرأ رسول لله (ص) (إذا السماء انشقت) فسجد. ثم قال سبحانه: (بل الذين كفروا يكذبون) أي لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان، أو لانقطاع من البرهان، لكنهم قلدوا أسلافهم ورؤساءهم في التكذيب بالرسول والقرآن (والله أعلم بما يوعون) أي يجمعون في صدورهم، ويضمرون في قلوبهم من التكذيب والشرك، عن ابن عباس وقتادة ومقاتل. وقيل: بما يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة، عن ابن زيد. قال الفراء: أصل الإيعاء جعل الشئ في وعاء، والقلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل. وفي كلام أمير المؤمنين (ع): إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، ثم قال: (فبشرهم) يا محمد (بعذاب أليم) أي اجعل ذلك لهم بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة. ثم استثنى سبحانه المؤمنين من جملة المخاطبين فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) أي غير منقوص، ولا مقطوع، لأن نعيم الاخرة غير منقطع، عن ابن عباس. وقيل غير منقص، ولا مكدر بالمن، عن الجبائي، وروي ذلك عن الحسن. وقيل: له من وله منة، وإنما قيل له من ومنة، لأنه يقطع عن شكر النعمة، وأصل المن القطع. يقال: مننت الحبل إذا قطعته. قال لبيد: (1) القذة: ريش السهم، يضرب مثلا للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان. (*)
[ 309 ]
لمعفر قهد تنازع شلوه * عبس كواسب ما يمن طعامها (1) وقيل: ليس لأحد عليها منة فيما يكسب. وفي قوله سبحانه: (فما لهم لا يؤمنون ولا يسجدون) دلالة على أن الإيمان والسجود فعلهم، لأن الحكيم لا يقول ما لك لا تؤمن، ولا تسجد، لمن يعلم أنه لا يقدر على الإيمان والسجود، ولو وجد ذلك لم يكن من فعله، ويدل قوله لا يسجدون على أن الكفار مخاطبون بالعبادات. النظم: وجه اتصال قوله (إن ربه كان به بصيرا) بما قبله أنه سبحانه لما أخبر عن ظن الكافر أن لن يحور، عقبه بالإخبار بأنه يحور والقطع عليه وذكر أنه بصير به، وقيل إن تقديره بلى سيرجع إلى الآخرة وربه بصير بأحواله فسيجازيه بأعماله. (1) البيت من المعلقة، والمعفر: الملقى على التراب والقهد: الأبيض. والشلو: العضو. والغبسة: لون كلون الرماد والكسب: الصيد. والمعنى: إن البقرة الوحشثية تجد في الطلب لفقدها ولدا ألقي على الأرض وافترسه ذئاب صوائد اعتادت الصياد (*)
[ 310 ]
85 - سورة البروج مكية وأياتها اثنتان وعشرون مكية اثنتان وعشرون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (ومن قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل يوم جمعة، وكل يوم عرفة، يكون في دار الدنيا، عشر حسنات). يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ (والسماء ذات البروج) في فرائضه، فإنها سورة النبيين، كان محشره وموقفه مع النبيين والمرسلين. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر المؤمنين، وافتتح هذه السورة أيضا بذكر المؤمنين من أصحاب الأخدود، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم والسماء ذات البروج (1) واليوم الموعود (2) وشاهد ومشهود (3) قتل أصحاب الأخذود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شئ شهيد (9) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات (1) ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير (11) إن بطش ربك لشديد (12) إنه هو يبدئ ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد (16) هل أتاك حديث الجنود (17) فرعون وثمود (18) بل الذين كفروا في تكذيب (19)
[ 311 ]
والله من ورائهم محيط (20) بل هو قرءان مجيد (21) في لوح محفوظ (22) القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم وقتيبة: (المجيد) بالجر. والباقون بالرفع. وقرأ نافع: (في لوح محفوظ) بالرفع. والباقون بالجر. الحجة: قال أبو علي: من رفع المجيد كان متبعا قوله (ذو العرش). ومن جر فمن النحويين من جعله وصفا لقوله (ربك) في (إن بطش ربك) قال: ولا أجعله وصفا للعرش. ومنهم من قال: صفة للعرش. قال أبو زيد: يقال مجدت الإبل تمجد مجودا إذا رعت في أرض مكلئة، وشبعت وأمجدت الإبل إذا أشبعتها. وقالوا في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار (1) أي: صار ماجدا في إيرائه النار. وقيل: استمجد العفار إذا كثرت ناره، وصفت. وحجة نافع في قراءته (محفوظ) أن القرآن وصف بالحفظ في قوله: (وإنا له لحافظون) ومعنى حفظ القرآن أنه يؤمن من تحريفه وتبديله وتغييره، فلا يلحقه شئ من ذلك. وحجة من جر محفوظا جعله وصفا للوح فإنهم يقولون: اللوح المحفوظ. اللغة: الأخدود: الشق العظيم في الأرض، ومنه ما روي في معجز النبي (ص) أنه دعا الشجرة فجعلت تخد الأرض خدا حتى أتته. ومنه الخد لمجاري الدموع. وتخدد لحمه إذا صار فيه طرائق كالشقوق. والوقود: ما تشتعل به النار من الحطب وغيره بفتح الواو. والوقود بالضم: الإيقاد. يقال: فتنت الشي الشئ أحرقته. والفتين: حجارة سود كأنها محرقة. وأصل الفتنة الإمتحان، ثم يستعمل في العذاب. الاعراب: قال الفراء (قتل أصحاب الأخدود) جواب القسم كما كان جواب (والشمس وضحاها): (قد أفلح من زكاها). وقيل: إن جواب القسم محذوف وتقديره: إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال. وقيل: جواب القسم قوله: (إن الذين فتنوا المؤمنين) الأية. وقيل: جواب القسم قوله: (إن بطش ربك لشديد)،. (النار) بدل من (الأخدود) وهو بدل الإشتمال لأن الأخدود يشتمل على ما فيه من النار أي النار منه. (وذات الوقود): صفة للنار. ويسئل على هذا فيقال: كيف (1) المرخ والعفار: شجران يقتدح من خشبتهما نار، شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد، يضرب في تفضيل بعض الشئ على بعض. (*)
[ 312 ]
خصت هذه النار بذات وقود، وكل نار لها وقود ؟ وأجيب عنها بجوابين أحدهما: إنه قد يكون نار ليست بذات وقود، كنار الحجر، ونار الكبد. والاخر: إن الوقود معرف فصار مخصوصا كأنه وقود بعينه، كما قال: (وقودها النار والحجارة) فكأن الوقود هنا أبدان الناس. (إذ هم عليها قعود): إذ مضاف إلى الجملة وهي ظرف لقوله (قتل أصحاب الأخدود) إذا كان إخبارا لا دعاء. و (أن يؤمنوا): في موضع نصب بقوله (نقموا) والتقدير: وما نقموا إلا إيمانهم. (فرعون وثمود): في موضع جر بدل من الجنود. ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل، كأنه قال: أعني فرعون وثمود. قصة أصحاب الأخدود روى مسلم في الصحيح عن هدية بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن رسول الله (ص) قال: كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر، فلما مرض الساحر، قال: إني قد حضر أجلي، فادفع إلي غلاما أعلمه السحر. فدفع إليه غلاما، وكان يختلف إليه. وبين الساحر والملك راهب. فمر الغلام بالراهب فاعجبه كلامه وأمره، فكان يطيل عنده القعود، فإذا أبطأ عن الساحر ضربه، وإذا أبطأ عن أهله ضربوه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: يا بني إذا استبطأك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا استبطأك أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد حبستهم دابة عظيمة فظيعة. فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أفضل، أم أمر الراهب فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فاقتل هذه الدابة. فرمى فقتلها، ومضى الناس. فاخبر بذلك الراهب فقال: أي بني إنك ستبتلى، وإذا ابتليت فلا تدل علي. قال: وجعل يداوي الناس، فيبرئ الأكمه والأبرص. فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك، فأتاه وحمل إليه مالا كثيرا، فقال: اشفني ولك ما ههنا. فقال: إني لا أشفي أحدا، ولكن الله يشفي، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك. قال: فآمن. فدعا الله له فشفاه، فذهب فجلس إلى الملك، فقال: يا فلان من شفاك ؟ قال: ربي. قال: أنا. قال: لا ربي وربك الله. قال: أو إن لك ربا غيري ؟ قال: نعم ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل به حتى دله على الغلام.
[ 313 ]
فبعث إلى الغلام فقال: لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه والأبرص. قال: ما أشفي أحدا، ولكن الله ربي يشفي. قال: أو إن لك ربا غيري ؟ قال: نعم ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل به حتى دله على الراهب. فوضع المنشار عليه فنشره حتى وقع شقين، وقال للغلام: إرجع عن دينك فأبى. فأرسل معه نفرا. وقال: إصعدوا به جبل كذا وكذا، فإن رجع عن دينه، وإلا فدهدهوه منه. قال: فعلوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. قال: فرجف بهم الجبل فتدهدهوا أجمعون، وجاء إلى الملك فقال: ما صنع أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله. فأرسل به مرة أخرى، قال: انطلقوا به فلججوه في البحر، فإن رجع وإلا فغرقوه. فانطلقوا به في قرقور (1) فلما توسطوا به البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت. قال: فانكفأت بهم السفينة، وجاء حتى قام بين يدي الملك. فقال: ما صنع أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله. ثم قال: إنك لست بقاتلي، حتى تفعل ما آمرك به، إجمع الناس، ثم اصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضعه على كبد القوس، ثم قل: باسم رب الغلام، فإنك ستقتلني. قال: فجمع الناس، وصلبه، ثم أخذ سهما من كنانته، فوضعه على كبد القوس، وقال: باسم رب الغلام، ورمى فوقع السهم في صدغه، ومات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل له: أرأيت ما كنت تخاف قد نزل والله بك، آمن الناس. فأمر بالأخدود فخددت على أفواه السكك، ثم أضرمها نارا. فقال: من رجع عن دينه فدعوه، ومن أبى فاقحموه فيها، فجعلوا يقتحمونها. وجاءت امرأة بابن لها، فقال لها: يا أمه إصبري فإنك على الحق. وقال ابن المسيب: كنا عند عمر بن الخطاب إذ ورد عليه أنهم احتفروا، فوجدوا ذلك الغلام، وهو واضع يده على صدغه، فكلما مدت يده عادت إلى صدغه، فكتب عمر: واروه حيث وجدتموه، وروى سعيد بن جبير، قال: لما انهزم أهل اسفندهان، قال عمر بن الخطاب: ما هم يهود، ولا نصارى، ولا لهم كتاب، وكانوا مجوسا. فقال علي بن أبي طالب (ع): بل قد كان لهم كتاب، ولكنه رفع، وذلك أن ملكا لهم سكر، فوقع على ابنته، أو قال: على أخته، فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه ؟ قالت: تجمع أهل مملكتك، وتخبرهم أنك ترى نكاح (1) القرقور: السفينة الطويلة. وقيل: العظيمة. (*).
[ 314 ]
البنات، وتأمرهم أن يحلوه. فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه، فخد لهم أخدودا في الأرض، وأوقد فيه النيران، وعرضهم عليها، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، ومن أجاب خلى سبيله. وقال الحسن: كان النبي (ص) إذا ذكر أمامه أصحاب الأخدود، تعوذ بالله من جهد البلاء. وروى العياشي بإسناده، عن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: أرسل علي (ع) الى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود، فأخبره بشئ، فقال (ع): ليس كما ذكرت، ولكن سأخبرك عنهم: إن الله بعث رجلا حبشيا نبيا، وهم حبشة، فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه، وأسروه وأسروا أصحابه، ثم بنوا له حثيرا (1) ثم ملأوه نارا، ثم جمعوا الناس، فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء، فليرم نفسه في النار معه، فجعل أصحابه يتهافتون في النار، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر، فلما هجمت على النار، هابت ورقت على ابنها. فناداها الصبي: لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار، فإن هذا والله في الله قليل ! فرمت بنفسها في النار، وصبيها، وكان ممن تكلم في المهد. وبإسناده عن ميثم التمار قال: سمعت أمير المؤمنين (ع)، وذكر أصحاب الأخدود فقال: كانوا عشرة، وعلى مثالهم عشرة، يقتلون في هذا السوق. وقال مقاتل: كان أصحاب الأخدود ثلاثة واحد بنجران، والأخر بالشام، والاخر بفارس، حرقوا بالنار. أما الذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي، وأما الذي بفارس فهو بخت نصر، وأما الذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأما من كان بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا، وأنزل في الذي كان بنجران، وذلك أن رجلين مسلمين ممن يقرأون الإنجيل أحداهما بأرض تهامة، والآخر بنجران اليمن، أجر أحدهما نفسه في عمل يعمله، فجعل يقرأ الإنجيل. فرأت ابنة المستأجر النور يضئ من قراءة الإنجيل، فذكرت لأبيها، فرمق (2) حتى رآه، فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام، فتابعه مع سبعة وثمانين إنسانا، من رجل وامرأة. وهذا بعدما رفع عيسى إلى السماء، فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع الحميري، فخد لهم في الأرض، وأوقد فيها، فعرضهم على الكفر. فمن أبى قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف فيها. وإذا امرأة جاءت ومعها ولد (1) الحثير: شبه الحظيرة، (2) رمقه: أطال النظر إليه. (*).
[ 315 ]
صغير، لا يتكلم، فلما قامت على شفير الخندق، نظرت إلى ابنها، فرجعت فقال لها: يا أماه: إني أرى أمامك نارا لا تطفى، فلما سمعت من ابنها ذلك، قذفها في النار، فجعلها الله وابنها في الجنة. وقذف في النار سبعة وسبعون إنسانا. قال ابن عباس: من أبى أن يقع في النار، ضرب بالسياط، فأدخل الله أرواحهم في الجنة، قبل أن تصل أجسامهم إلى النار. المعنى: إن الله سبحانه قسم بالسماء فقال: (والسماء ذات البروج) فالبروج: المنازل العالية. والمراد هنا منازل الشمس والقمر والكواكب، وهي إثنا عشر برجا، يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاث، وتسير الشمس في كل برج شهرا (واليوم الموعود) يعني يوم القيامة في قول جميع المفسرين، وهو اليوم الذي يجازى فيه الخلائق، ويفصل فيه القضاء. (وشاهد ومشهود) فيه أقوال أحدها: إن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، عن ابن عباس وقتادة، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وروي ذلك عن النبي (ص)، وسمي يوم الجمعة شاهدا، لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه. وفي الحديث: (ما طلعت الشمس على يوم، ولا غربت على يوم، أفضل منه، وفيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها الله بخير إلا استجاب له. ولا استعاذ من شر إلا أعاذه منه). ويوم عرفة مشهود، يشهد الناس فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. وثانيها: إن الشاهد يوم النحر، والمشهود يوم عرفة، عن إبراهيم وثالثها: إن الشاهد محمد (ص)، والمشهود يوم القيامة، عن ابن عباس في رواية أخرى، وسعيد بن المسيب، وهو المروي عن الحسن بن علي. وروي أن رجلا دخل مسجد رسول (ص)، فإذا رجل يحدث عن رسول الله (ص) قال: فسألته عن الشاهد والمشهود، فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (ص) فسألته عن ذلك فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم النحر. فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار، وهو يحدث عن رسول الله (ص) فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود ؟ فقال: أما الشاهد محمد (ص)، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته سبحانه يقول: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) وقال: (ذلك يوم مجموع له الناس ذلك يوم مشهود). فسألت عن الأول فقالوا: ابن عباس. وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمر. وسألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي (ع).
[ 316 ]
ورابعها: إن الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم القيامة. وعن أبي الدرداء، عن النبي (ص) قال: (أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته، حتى يفرغ منها. قال: فقلت وبعد الموت ؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق) وخامسها: إن الشاهد الملك، يشهد على بني آدم، والمشهود يوم القيامة، عن عكرمة، وتلا هاتين الآيتين: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) وذلك يوم مشهود) وقد قيل في ذلك أقوال أخر، كقول الجبائي: الشاهد الذين يشهدون على الناس، والمشهود هم الذين يشهد عليهم. وقول الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم، لقوله (لتكونوا شهداء على الناس) وقيل: الشاهد أعضاء بني آدم، والمشهود هم لقوله (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) الآية. وقيل: الشاهد الحجر الأسود، والمشهود الحاج. وقيل: الشاهد الأيام والليالي، والمشهود بنو آدم. وينشد للحسين بن علي (ع): مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا، * وخلفت في يوم، عليك شهيد فإن أنت بالأمس اقترفت إساءة، * فقيد بإحسان، وأنت حميد ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد، * لعل غدا يأتي، وأنت فقيد وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود محمد (ص) بيانه (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) إلى قوله: (فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). وقيل: الشاهد الله، والمشهود لا إله إلا الله. بيانه قوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) الآية. وقيل: الشاهد الخلق، والمشهود الحق. وإليه أشار الشاعر بقوله: أيا عجبا كيف يعصى الإله * أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة، * وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد فهذه ثمانية أقوال أخر (قتل أصحاب الأخدود) أي لعنوا بتحريقهم الناس في الدنيا قبل الاخرة، والمراد به الكافرون الذين حفروا الأخدود، وعذبوا المؤمنين بالنار. ويحتمل أن يكون إخبارا عن المسلمين الذين عذبوا بالنار في الأخدود، والمعنى أنهم قتلوا بالإحراق في النار. ذكرهم الله سبحانه، وأثنى عليهم بحسن بصيرتهم، وصبرهم على دينهم، حتى أحرقوا بالنار لا يعطون التقية بالرجوع عن
[ 317 ]
الإيمان. (النار ذات الوقود) أي أصحاب النار الذين أوقدوها بإحراق المؤمنين. وقوله: (ذات الوقود) إشارة إلى كثرة حطب هذه النار، وتعظيم لأمرها، فإن النار لا تخلو عن وقود. (إذ هم عليها قعود) يعني الكفار، إذ هم على أطراف هذه النار جلوس يعذبون المؤمنين عن ابن عباس. وقيل: يعني هم عندها قعود، يعرضونهم على الكفر، عن مقاتل. قال مجاهد: كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود، وهو قوله (وهم) يعني الملك وأصحابه الذين خدوا الأخدود (على ما يفعلون بالمؤمنين) من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم (شهود) أي حضور. قال الزجاج: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم، وحقيقة إيمانهم، إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله. وقال الربيع بن أنس: لما ألقوا في النار، نجى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسهم النار، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار، فأحرقتهم. وقيل: إنهم كانوا فرقتين: فرقة تعذب المؤمنين، وفرقة تشاهد الحال، لم يتولوا تعذيبهم، لكنهم قعود، رضوا بفعل أولئك، وكانت الفرقة القاعدة مؤمنة لكنهم لم ينكروا على الكفار صنيعهم، فلعنهم الله جميعا، عن أبي مسلم. والقعود: جمع القاعد وكذلك الشهود جمع الشاهد. وهم كل حاضر على ما شاهدوه إما بسمع أو بصر. (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله) أي ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا، عن ابن عباس. وقيل: ما أنكروا عليهم دينا، وما عابوا منهم شيئا، إلا إيمانهم. وهذا كقوله: (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) عن الزجاج ومقاتل. وقال الجبائي: ما فعلوا بهم ذلك العذاب إلا بإيمانهم (العزيز) القادر الذي لا يمتنع عليه شئ، القاهر الذي لا يقهر (الحميد) المحمود في جميع أفعاله (الذي له ملك السماوات والأرض) أي له التصرف في السماوات والأرض، لا اعتراض لأحد عليه (والله على كل شئ شهيد) أي شاهد عليهم، لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين، فإنه يجازيهم، وينتصف للمؤمنين منهم (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي الذين أحرقوهم، وعذبوهم بالنار، عن ابن عباس وقتادة والضحاك، ومثله (يوم هم على النار يفتنون) (ثم لم يتوبوا) من فعلهم ذلك، ومن الشرك الذي كانوا عليه. وإنما شرط عدم التوبة، لأنهم لو تابوا لما توجه إليهم الوعيد (فلهم عذاب جهنم) بكفرهم (ولهم
[ 318 ]
عذاب الحريق) بما أحرقوا المؤمنين. يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم وعذاب الحريق وهما واحد ؟ أجيب عن ذلك بان المراد: لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق، مثل الزقوم والغسلين والمقامع، ولهم مع ذلك الإحراق بالنار. وقيل. لهم عذاب جهنم في الاخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود فاحرقتهم، عن الربيع بن أنس، وهو قول الكلبي. وقال الفراء: ارتفعت النار عليهم فاحرقتهم فوق الأخاديد، ونجا المؤمنون. ثم ذكر سبحانه ما أعده للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار، فقال: (إن الذين آمنوا) أي صدقوا بتوحيد الله (وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير) النجاح العظيم، والنفع الخالص. وإنما وصفه بالكبير، لأن نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنة، لما في ذلك من الإجلال والاكرام، والتبجيل والإعظام. ثم قال سبحانه متوعدا للكفار والعصاة: (إن بطش ربك) يا محمد (لشديد) يعني: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة والجبابرة، أليم شديد. وإذا وصف البطش وهو الأخذ عنفا بالشدة، فقد تضاعف مكروهه، وتزايد إيلامه (إنه هو يبدئ) الخلق يخلقهم أولا في الدنيا (ويعيد) هم أحياء بعد الموت للحساب والجزاء، فليس إمهاله لمن يعصيه لإهماله إياه. وقيل: إنه يبدئ بالعذاب في الدنيا، ويعيده في الاخرة، عن ابن عباس. وذلك لأن ما قبله يقتضيه. (وهو الغفور) لذنوب المؤمنين من أهل طاعته، ومعناه: كثير الغفران عادته مغفرة الذنوب (الودود) يود أولياءه ويحبهم، عن مجاهد. قال الأزهري في تفسير أسماء الله: يجوز أن يكون ودود فعولا بمعنى مفعول، كركوب وحلوب، ومعناه: إن عباده الصالحين يودونه، ويحبونه، لما عرفوا من فضله وكرمه، ولما أسبغ من آلائه ونعمه. قال: وكلتا الصفتين مدح، لأنه سبحانه إن أحب عباده المطيعين فهو فضل منه، وإن أحبوه فلما عرفوه من فضله وإحسانه. (ذو العرش المجيد) أكثر القراءة في (المجيد) الرفع، لأن الله سبحانه هو الموصوف بالمجد، ولأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى، وإن سمع الماجد. ومن كسر المجيد جعله من صفة العرش. وروي عن ابن عباس أنه قال: يريد العرش وحسنه، ويؤيده أن العرش وصف بالكرم في قوله (رب العرش الكريم) فجاز أيضا أن يوصف بالمجد، لأن
[ 319 ]
معناه الكمال والعلو والرفعة، والعرش أكمل كل شئ وأعلاه، وأجمعه لصفات الحسن. (فعال لما يريد) لا يعجزه شئ طلبه، ولا يمتنع منه شئ أراده، عن عطاء. وقيل: لما يريد من الإبداء والإعادة. ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال: (هل أتاك حديث الجنود) الذين تجندوا على أنبياء الله أي: هل بلغك أخبارهم. وقيل: أراد قد أتاك. ثم بين سبحانه أصحاب الجنود فقال: (فرعون وثمود) والمعنى تذكر يا محمد حديثهم، تذكر معتبر، كيف كذبوا أنبياء الله، وكيف نزل بهم العذاب، وكيف صبر الأنبياء، وكيف نصروا، فاصبر كما صبر أولئك، ليأتيك النصر كما أتاهم. وهذا من الإيجاز البديع، والتلويح الفصيح الذي لا يقوم مقامه التصريح. (بل الذين كفروا) يعني مشركي قريش (في تكذيب) لك وللقرآن قد أعرضوا عما يوجبه الإعتبار، وأقبلوا على ما يوجبه الكفر والطغيان. (والله من ورائهم محيط) معناه أنهم في قبضة الله وسلطانه، لا يفوتونه كالمحاصر المحاط به من جوانبه، لا يمكنه الفوات والهرب، وهذا من بلاغة القرآن (بل هو قرآن مجيد) أي كريم، لأنه كلام الرب، عن ابن عباس، أي ليس هو كما يقولون من أنه شعر، أو كهانة وسحر، بل هو قرآن كريم، عظيم الكرم، فيما يعطي من الخير، جليل الخطر والقدر. وقيل: هو قرآن كريم لما يعطي من المعاني الجليلة، والدلائل النفيسة، ولأن جميعه حكم، والحكم على ثلاثة أوجه لا رابع لها: معنى يعمل عليه فيما يخشى أو يتقى، وموعظة تلين القلب للعمل بالحق، وحجة تؤدي إلى تمييز الحق من الباطل في علم دين أو دنيا، وعلم الدين أشرفهما. وجميع ذلك موجود في القرآن. (في لوح محفوظ) من التغيير والتبديل، والنقصان والزيادة، وهذا على قراءة من رفعه فجعله من صفة قرآن. ومن جره فجعله صفة للوح، فالمعنى: إنه محفوظ لا يطلع عليه غير الملائكة. وقيل: محفوظ عند الله، وهو أم الكتاب، ومنه نسخ القرآن والكتب. وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ، وهو من درة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: ان اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل، عن أنس. وقيل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش، عن مقاتل.
[ 320 ]
86 - سورة الطارق مكية وآياتها سبع عشرة مكية سبع عشرة اية. فضلها: أبي بن كعب عن النبي (ص) قال: (من قرأها أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات) عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (ع) قال: من كانت قراءته في الفريضة بالسماء والطارق، كان له يوم القيامة عند الله جاه ومنزلة، وكان من رفقاء النبيين، وأصحابهم في الجنة. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بالوعيد، وافتتح هذه السورة بمثله، وأكد ذلك بأن أعمال الخلق محفوظة، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) إن كل نفس لما عليها حافظ (4) فلينظر الانسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) والسماء ذات الرجع (11) والأرض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (17) القراءة: قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة: (لما عليها) بتشديد الميم. والباقون بالتخفيف. وفي الشواذ قراءة ابن عباس: (مهلهم رويدا) بغير ألف. الحجة: قال أبو علي: من خفف (لما) كانت (إن) عنده المخففة من
[ 321 ]
الثقيلة، واللام معها هي اللام التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من أن النافية. وما صلة كالتي في قوله (فبما رحمة من الله)، و (عما قليل). وتكون إن متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة. ومن ثقل (لقا) كانت (إن) عنده النافية كالتي في قوله (فيما إن مكناكم فيه) ولما في معنى إلا، وهي متلقية للقسم كما يتلقاه (ما). قال أبو الحسن: الثقيلة في معنى إلا، والعرب لا تكاد تعرف ذا. وقال الكسائي: لا أعرف وجه التثقيل. وعن أبن عوف قال: قرأت عند ابن سيرين (إن كل نفس لما) بالتشديد، فأنكره. قال الزجاج: استعملت لما في موضع إلا في موضعين أحدهما هذا والآخر في باب القسم تقول: سألتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت. اللغة: طرقني فلان: إذا أتاني ليلا. وأصل الطرق الدق. ومنه المطرقة لأنها يدق بها. والطريق لأن المارة تدقه. والطارق: الآتي ليلا يحتاج إلى الدق للتنبيه. ونهى رسول الله (ص) أن يطرق الرجل أهله ليلا، حتى تستحد المغيبة (1)، وتمشط الشعثة. وقالت هند بنت عتبة: (نحن بنات طارق * نمشي على النمارق) (2) تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوه. وقال الشاعر:. يا راقد الليل مسرورا بأوله، * إن الحوادث قد يطرقن أسحارا لا تأمنن بليل طاب أوله، * فرب آخر ليل أجج النارا والنجم: الكواكب الطالعة في السماء، يقال لكل طالع ناجم تشبيها به: نجم النبت، ونجم السن والقرن، والثاقب: المضئ النير. وثقوبه: توقده بنوره. والثاقب: العالي الشديد العلو. والدفق: صب الماء الكثير باعتماد قوي، ومثله الدفع. فالماء الذي يكون منه الولد يكون دافقا، وهو القاطر المصب وهي النطفة التي يخلق الله منها الولد. وقيل: ماء دافق معناه مدفوق، ومثله سر كاتم، وعيشة راضية. والترائب: نواحي الصدر، واحدتها تريبة، وهو مأخوذ من تذليل حركتها، كالتراب. قال المثقب: ومن ذهب يسن على تريب * كلون العاج ليس بذي غضون (1) (1) أي: نحلق عانتها. (2) النمارق جمع النمرقة: الوسادة. (3) يسن أي يلمع. والغضون: مكاسر الجلد. (*)
[ 322 ]
وقال آخر: والزعفران على ترائبها * شرقا به اللبات والصدر (1) والرجع: أصله الرجوع، وهو الماء الكثير تردده الرياح تمر عليه. قال المنخل في صفة السيف: أبيض كالرجع رسوب، إذا * ما ثاخ في محتفل يختلي (2) قال الزجاج: الرجع المطر، لأنه يجئ ويرجع ويتكرر. والصدع: الشق. فصدع الأرض: انشقاقها بالنبات وضروب الزروع والاشجار. الاعراب: (ما الطارق) ما: استفهام. والجملة مبتدأ وخبر، وهي معلقة بأدراك في موضع المفعول الثاني والثالث. وقوله: (يوم تبلى السرائر) العامل فيه فعل مضمر يدل عليه قوله (على رجعه لقادر) والتقدير: يرجعه يوم بلاء السرائر، ولا يجوز أن يعمل فيه المصدر، لأنه يكون من صلته. وقد فرق بينه وبينه بقوله (لقادر). ويجوز أن يكون العامل فيه قوله (لقادر). و (رويدا): صفة لمصدر محذوف وتقديره إمهالا رويدا. المعنى: أقسم الله سبحانه فقال: (والسماء) أي بالسماء. وقيل: برب السماء. وقد بينا القول في ذلك. (والطارق) وهو الذي يجئ ليلا (وما أدراك ما الطارق) وذلك أن هذا الإسم يقع على كل ما طرق ليلا، ولم يكن النبي (ص) يدري ما المراد، لو لم يبينه، ثم بينه بقوله: (النجم الثاقب) أي: هو الكوكب المضئ، ويريد به العموم، وهو جماع النجوم، عن الحسن. وقيل: هو زحل. والثاقب: العالي على النجوم، عن ابن زيد. وقيل: أراد به الثريا، والعرب تسميه النجم. وقيل: هو القمر، لأنه يطلع بالليل، عن الفراء. وجواب القسم قوله: (إن كل نفس لما عليها حافظ) أي ما كل نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها وقولها وفعلها، ويحصي ما يكتسبه من خير وشر. ومن قرأ (لما) بالتخفيف فالمعنى: إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها. وقال قتادة: حافظ من الملائكة يحفظ (1) اللبات جمع اللبة: موضع النحر. (2) سيف رسوب: ماض يغيب في الضريبة. وثاخ: أنغمس. والمحتفل: أعظم موضع في الجسد. ويختلي: يقطع. (*).
[ 323 ]
عملها ورزقها وأجلها. ثم نبه سبحانه على البعث بقوله (فلينظر الإنسان) يعني المكذب بالبعث، عن مقاتل (مم خلق) أي فلينظر نظر التفكر والإستدلال من أي شئ خلقه الله، وكيف خلقه وأنشأه، حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة، قادر على إعادته. ثم ذكر من أي شئ خلقه فقال: (خلق من ماء دافق) أي من ماء مهراق في رحم المرأة، يعني المني الذي يكون منه الولد، عن ابن عباس. قال الفراء: وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم، نحو سر كاتم، وهم ناصب، وليل نائم وقد ذكرناه قبل. ثم وصف سبحانه ذلك الماء فقال: (يخرج من بين الصلب والترائب) وهو موضع القلادة من الصدر، عن ابن عباس. قال عطاء: يريد صلب الرجل، وترائب المرأة. والولد لا يكون إلا من الماءين. وقيل: الترائب اليدان والرجلان والعينان، عن الضحاك. وسئل عكرمة عن الترائب فقال: هذه - ووضع يده على صدره بين ثدييه - وقيل: ما بين المنكبين والصدر، عن مجاهد. والمشهور في كلام العرب أنها عظام الصدر، والنحر. (إنه على رجعه لقادر) يعني أن الذي خلقه ابتداء من هذا الماء، يقدر على أن يرجعه حيا بعد الموت، عن الحسن وقتادة والجبائي. وقيل: معناه أنه تعالى على رد الماء في الصلب لقادر، عن عكرمة ومجاهد. وقيل: إنه على رد الإنسان ماء كما كان، قادر، عن الضحاك. وقال مقاتل بن حيان: يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبى، ومن الصبى إلى النطفة. والأصح القول الأول لقوله: (يوم تبلى السرائر) أي: إنه قادر على بعثه يوم القيامة. ومعنى الرجع: رد الشئ إلى أول حاله. والسرائر: أعمال بني آدم، والفرائض التي اوجبت عليه، وهي سرائر بين الله والعبد. وتبلى أي تختبر تلك السرائر يوم القيامة، حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها. روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله (ص): (ضمن الله لخلقه أربع خصال: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي قال الله يوم تبلى السرائر،. وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (ص): وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة ؟ فقال: (سرائركم هي أعمالكم من الصلاة، والصيام، والزكاة،
[ 324 ]
والوضوء، والغسل من الجنابة، وكل مفروض، لأن الأعمال كلها سرائر خفية، فإن شاء قال الرجل: صليت، ولم يصل، وإن شاء قال: توضأت ولم يتوضأ، فذلك قوله (يوم تبلى السرائر) وقيل: يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة، حتى يعلموا على أي شئ أثابه، ويكون فيه زيادة سرور له، وإن يكن من أهل العقوبة، يظهر عمله ليعلموا على أي شئ عاقبه، ويكون ذلك زيادة غم له. والسرائر: ما أسره من خير أو شر، وما أضمره من إيمان أو كفر. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: يبدي الله يوم القيامة كل سر، ويكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. (فما له) أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث والحشر (من قوة) يمتنع بها من عذاب الله (ولا ناصر) ينصره من الله. والقوة هي القدرة. ثم ذكر سبحانه قسما آخر تأكيدا لأمر القيامة، فقال: (والسماء ذات الرجع) أي ذات المطر عن أكثر المفسرين. وقيل: يعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها، تغيب ثم تطلع، عن ابن زيد. وقيل: رجع السماء إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال، على مرور الأزمان، فترجع بالغيث، وأرزاق العباد، وغير ذلك. (والأرض ذات الصدع) تتصدع بالنبات أي تنشق فيخرج منها النبات والأشجار. (إنه لقول فصل) هذا جواب القسم يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما. وروي ذلك عن الصادق (ع). وقيل: معناه أن الوعد بالبعث والإحياء بعد الموت، قول فصل أي مقطوع به، لا خلاف ولا ريب فيه (وما هو بالهزل) أي هو الجد وليس باللعب. وقيل: إن القرآن لم ينزل باللعب. ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال: (إنهم يكيدون كيدا) أي يحتالون في الإيقاع بك، وبمن معك، ويريدون إطفاء نورك. (وأكيد كيدا) أي أريد أمرا آخر على ضد ما يريدون، وأدبر ما ينقض تدابيرهم ومكايدهم، فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى ذلك عليهم. (فمهل الكافرين) أي انتظر بهم يا محمد، ولا تعاجلهم، وارض بتدبير الله فيهم (أمهلهم رويدا) أي إمهالا قليلا، عن قتادة. وإنما قلل الإمهال، لأن ما هو كائن آت لا محالة، فهو قليل، والمراد به يوم القيامة. وقيل: أراد يوم بدر، والمعنى: لا تعجل علي في طلب هلاكهم، بل اصبر عليهم قليلا، فإن الله مجزيهم لا محالة، اما بالقتل والذل في الدنيا، أو بالعذاب في الآخرة. قال ابن جني: قوله
[ 325 ]
فمهل الكافرين أمهلهم، غير اللفظ لأنه آثر التأكيد، وكره التكرير. فلما تجشم إعادة اللفظ، أنحرف عنه بعض الإنحراف بتغييره المثال، وانتقل عن لفظ فعل إلى لفظ أفعل، فقال: (أمهلهم) ولما تجشم التثليث جاء بالمعنى، وترك اللفظ البتة. فقال: (رويد)..
[ 326 ]
87 - سورة الأعلى مكية وآياتها تسع عشرة مكية عن أبن عباس، مدنية عن الضحاك، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف. فضلها: أبي بن كعب قال. قال النبي (ص): (من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد (ص) وروي عن علي بن أبي طالب (ع) قال: كان رسول الله (ص) يحب هذه السورة (سبح اسم ربك الأعلى) وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل. وعن ابن عباس كان النبي (ص) إذا قرأ (سبح اسم ربك الأعلى) قال: سبحان ربي الأعلى. وكذلك روي عن علي (ع)، وابن عمر، وابن الزبير، أنهم كانوا يفعلون ذلك. وروى جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك، وكان يقول: من قرأها فليفعل ذلك. وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ (سبح اسم ربك الأعلى) في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: أدخل من أي أبواب الجنة شئت. وروي العياشي بإسناده عن أبي حميصة، عن علي (ع) قال: صليت خلفه عشرين ليلة. فليس يقرأ إلا (سبح اسم ربك). وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كل يوم عشرين مرة. إن من قرأها فكأنما قرأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفى. وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال رسول الله (ص): (أجعلوها في ركوعكم). ولما نزلت (سبح اسم ربك الأعلى) قال: (اجعلوها في سجودكم). تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر الوعيد والتهديد للكفار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى، وقدرته على ما يشاء، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم
[ 327 ]
سبح اسم ربك الإعلى (1) الذى خلق فسوى (2) والذى قدر فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4) فجعله غثاء أحوى (5) سنقرئك فلا تنسى (96 إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) فذكر إن نفعت الذكرى (9) سيذكر من يخشى (10) ويتجنبها الأشقى (11) الذى يصلى النار الكبرى (12) ثم لا يموت فيها ولا يحيى (13) قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى 190). القراءة: قرأ الكسائي: (قدر) بالتخفيف، وهو قراءة علي (ع). والباقون: (قدر) بالتشديد. وقرأ أبو عمرو وروح وزيد وقتيبة. (يؤثرون) بالياء. والباقون بالتاء. الحجة: قد تقدم أن قدر في معنى قدر، فكلا الوجهين حسن. وتؤثرون بالتاء على الخطاب، بل أنتم تؤثرون. والياء على أنه يريد الأشقين. وروي أن ابن مسعود والحسن قرأه. اللغة: الأعلى. نظير الأكبر، ومعناه: العالي بسلطانه وقدرته، وكل من دونه في سلطانه لا يقتضي ذلك المكان. قال الفرزدق: إن الذي سمك السماء، بنى لنا * بيتا، دعائمه أعز، وأطول والغثاء: ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات. وأصله الأخلاط من أجناس شتى. والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء. والأحوى: الأسود، والحوة: السوإد. قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس، * وفي اللثات، وفي أنيابها شنب (1) وقال: (1) اللمى: سمرة في الشفة. والحوة: حمرة في الشفتين تضرب إلى السواد، وكذلك اللعس. والشنب: برد الاسنان. (*)
[ 328 ]
قرحاء، حواء، أشراطية وكفت * فيها الذهاب، وحفتها البراعيم (1) والإقراء أخذ القراءة على القارئ بالإستمتاع لتقويم الزلل، والقارئ: التالي وأصله الجمع، لأنه يجمع الحروف. والنسيان: ذهاب المعنى عن النفس، ونظيره السهو. ونقيضه الذكر، وهو ذهاب العلم الضروري بما جرت به العادة أن يعلمه، وليس بمعنى. وقال أبو علي الجبائي: وهو معنى من فعل الله تعالى. الاعراب: الأعلى: يحتمل أن يكون جرا صفة لرب، وأن يكون نصبا صفة لإسم. أحوى، نصب على الحال من المرعى. والتقدير أخرج المرعى أحوى أي أسود لشدة خضرته. فجعله غثاء أي جففه حتى صار جافا كالغثاء، ويجوز أن يكون نعتا لغثاء، والتقدير فجعله غثاء أسود. الأول أوجه، وهو قول الزجاج. (ما شاء الله): في موضع نصب على الإستثناء، والتقدير: سنقرؤك القرآن فلا تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه برفع حكمه وتلاوته، هو قول الحسن وقتادة. (إن نفعت الذكرى). شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله (فذكر) والتقدير: إن نفعت الذكرى فذكرهم. المعنى: (سبح اسم ربك الأعلى) أي قل سبحان ربي الأعلى، عن ابن عباس وقتادة. وقيل. معناه نزه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة، والأفعال القبيحة، لأن التسبيح هو التنزيه لله عما لا يليق به. يجوز أن تقول لا إله إلا هو، فتنفي ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته، مع الأقرار بأنه الواحد في إلهيته. وأراد بالإسم المسمى. وقيل: إنه ذكر الإسم والمراد به تعظيم المسمى، كما قال لبيد: (إلى الحول ثم أسم السلام عليكما). ويحسن بالقارئ إذا قرأ هذه الآية أن يقول. (سبحان ربي الأعلى) وإن كان في الصلاة. قال الباقر (ع): إذا قرأت (سبح أسم ربك الأعلى) فقل: سبحان ربي الأعلى وإن كان فيما بينك وبين نفسك. والأعلى: معناه القادر الذي لا قادر أقدر منه، القاهر لكل أحد. وقيل: الأعلى صفة الإسم والمعنى سبح الله بذكر اسمه الأعلى، وأسماؤه الحسنى كلها أعلى. وقيل: معناه صل باسم ربك الأعلى عن ابن عباس. (1) يصف روضة. وقرحاء: للتي في وسطها نور أبيض وروضة أشراطية: مطرت بنوء الشرطين وهما نجمان من برج الحمل، يقال لهما قرن الحمل. وذهاب جمع الذهبة. المطرة الضعيفة: البرعبم: زهرة الشجر ونور النبت قبل أن يتفتح. (*).
[ 329 ]
(الذي خلق) الخلق (فسوى) بينهم في باب الإحكام والإتقان. وقيل: خلق كل ذي روح فسوى يديه وعينيه ورجليه، عن الكلبي. وقيل: خلق الإنسان فعدل قامته، عن الزجاج. يعني أنه لم يجعله منكوسا كالبهائم والدواب. وقيل: خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته، فسوى صنعها لتشهد على وحدانيته (والذي قدر فهدى) أي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات، ثم هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل: معناه قدر أقواتهم، وهداهم لطلبها. وقيل: قدرهم على ما اقتضته حكمته فهدى أي: أرشد كل حيوان إلى ما فيه منفعته ومضرته، حتي إنه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمه، وهدى الفرخ حتى طلب الزق (1) من أبيه وامه، والدواب والطيور حتى فزع كل منهم إلى أمه، وطلب المعيشة من جهته سبحانه وتعالى. وقيل: قدرهم ذكورا وإناثا، وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى، عن مقاتل والكلبي. وقيل: هدى إلى سبيل الخير والشر، عن مجاهد. وقيل: قدر الولد في البطن تسعة أشهر، أو أقل، أو أكثر، وهدى للخروج منه للتمام، عن السدي. وقيل: قدر المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لاستخراجها منه، فجعل بعضها غذاء، وبعضها دواء، وبعضها سما وهدى إلى ما يحتاج إلى استخراجها من الجبال والمعادن، كيف تستخرج، وكيف تستعمل. (والذي أخرج المرعى) أي أنبت الحشيش من الأرض لمنافع جميع الحيوان، وأقواتهم (فجعله) بعد الخضرة (غثاء) أي هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق السيل (أحوى) أي أسود بعد الخضرة، وذلك أن الكلأ إذا يبس أسود. وقيل: معناه أخرج العشب وما ترعاه النعم. (أحوى) أي شديد الخضرة يضرب إلى السواد، من شدة خضرته، فجعله غثاء أي يابسا بعد ما كان رطبا، وهو قوت البهائم في الحالين. فسبحان من دبر هذا التدبير، وقدر هذا التقدير. وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها. (سنقرئك فلا تنسى) أي سنأخذ عليك قراءة القرآن، فلا تنسى ذلك. وقيل: معناه سيقرأ عليك جبرائيل القرآن بأمرنا، فتحفظه ولا تنساه. قال ابن عباس: كان النبي (ص) إذا نزل عليه جبرائيل (عليه السلام بالوحي، يقرأه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل (ع) من آخر الوحي حتى يتكلم هو (1) الزق: إطعام الطائر فرخه بمنقاره. (*)
[ 330 ]
بأوله. فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا. (إلا ما شاء الله) أن ينسيكه بنسخه من رفع حكمه وتلاوته، عن الحسن وقتادة. وعلى هذا فالإنشاء نوع من النسخ، وقد مر بيانه في سورة البقرة عند قوله (ما ننسخ من آية أو ننسها) الآية. وقيل: معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك، فلا تقرأه. وقيل: إلا ما شاء الله كالإستثناء في الإيمان، وإن لم يقع منه مشيئة النسيان. قال الفراء: لم يشأ الله أن ينسى (ص) شيئا، فهو كقوله (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ولا يشاء) وكقول القائل: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك. والنية أن لا يمنعه، ومثله الإستثناء في الإيمان. ففي الآية بيان لفضيلة النبي (ص) وإخبار أنه مع كونه (ص) أميا، كان يحفظ القرآن، وأن جبرأئيل (ع) كان يقرأ عليه سورة طويلة، فيحفظه بمرة واحدة، ثم لا ينساه. وهذه دلالة على الإعجاز الدال على نبوته. (إنه يعلم الجهر وما يخفى) معناه أن الله سبحانه يعلم العلانية والسر. والجهر: رفع الصوت. ونقيضه الهمس. والمعنى: إنه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به، وما أخفيته مما تريد أن تعيه (ونيسرك لليسري) اليسرى هي الفعلى من اليسر، وهو سهولة عمل الخير. والمعنى: نوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية، ونهون عليك الوحي، ونسهله حتى تحفظه ولا تنساه، وتعمل به ولا تخالفه. وقيل: معناه نسهل لك من الإلطاف والتأييد، ما يثبتك على أمرك، ويسهل عليك المستصعب من تبليغ الرسالة، والصبر عليه، عن أبي مسلم. وهذا أحسن ما قيل فيه، فإنه يتصل بقوله: (سنقرؤك فلا تنسى) فكأنه سبحانه أمره بالتبليغ، ووعده النصر، وأمره بالصبر. وقيل: إن اليسرى عبارة عن الجنة، فهي اليسرى الكبرى أي: نيسر لك دخول الجنة، عن الجبائي. فذكر أمر النبي (ص) أن يذكر الخلق ويعظهم. (إن نفعت الذكرى) وإنما قال ذلك، وذكراه تنفع لا محالة في عمل الإيمان، والإمتناع من العصيان، لأنه ليس بشرط حقيقة، وإنما هو إخبار عن أنه ينفع لا محالة في زيادة الطاعة، والإنتهاء عن المعصية، كما يقال: سله إن نفع السؤال. وقيل: معناه عظهم إن نفعت الموعظة، أو لم تنفع، لأنه (ص) بعث للإعذار والإنذار، فعليه التذكير في كل حال، نفع أو لم ينفع. ولم يذكر الحالة الثانية كقوله (سرابيل
[ 331 ]
تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم). وقد نبه الله سبحانه على تفصيل الحالتين بقوله: (سيذكر من يخشى) أي سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى، ويخاف عقابه. (ويتجنبها) أي يتجنب الذكرى والموعظة (الأشقى) أي أشقى العصاة فإن للعاصين درجات في الشقاوة، فأعظمهم درجة فيها الذي كفر بالله وتوحيده، وعبد غيره. وقيل: الأشقى من الإثنين من يخشى ومن يتجنب، عن أبي مسلم. (الذي يصلى النار الكبرى) أي يلزم أكبر النيران، وهي نار جهنم. والنار الصغرى: نار الدنيا، عن الحسن. وقيل: إن النار الكبرى هي الطبقة السفلى من جهنم، عن الفراء. (ثم لا يموت فيها) فيستريح (ولا يحيى) حياة ينتفع بها، بل صارت حياته وبالا عليه، يتمنى زوالها، لما هو معها من فنون العقاب، وألوان العذاب. وقيل: ولا يحيى أي ولا يجد روح الحياة. (قد أفلح من تزكى) أي قد فاز من تطهر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله، عن عطاء وعكرمة. وقيل: معناه قد ظفر بالبغية من صار زاكيا بالأعمال الصالحة والورع، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: زكى أي: أعطى زكاة ماله، عن ابن مسعود. وكان يقول: قد رحم الله امرأ تصدق، ثم صلى، ويقرأ هذه الأية. وقيل: أراد صدقة الفطرة، وصلاة العيد، عن أبي عمرو وأبي العالية وعكرمة وابن سيرين. وروي ذلك مرفوعا عن أبي عبد الله (ع). ومتى قيل على هذا القول: كيف يصح ذلك والسورة مكية، ولم يكن هناك صلاة عيد، ولا زكاة، ولا فطرة ؟ قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكة، وختمت بالمدينة. (وذكر اسم ربه فصلى) أي وحد الله، عن ابن عباس. وقيل: ذكر الله بقلبه عند صلاته فرجا ثوابه، وخاف عقابه، فإن الخشوع في الصلاة بحسب الخوف والرجاء. وقيل: ذكر اسم ربه بلسانه عند دخوله في الصلاة، فصلى بذلك الإسم أي قال: الله أكبر، لأن الصلاة لا تنعقد إلا به. وقيل: هو أن يفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ويصلي الصلوات الخمس المكتوبة. ثم قال سبحانه مخاطبا للكفار: (بل تؤثرون) أي تختارون (الحياة الدنيا) على الآخرة، فتعملون لها، وتعمرونها، ولا تتفكرون في أمر الآخرة. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر بناء على الأعم الأغلب في أمر الناس. قال عبد الله بن مسعود: إن الدنيا اخضرت لنا، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذتها وبهجتها.
[ 332 ]
وإن الأخرة نعتت لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل، وتركنا الآجل. ثم رغب سبحانه في الآخرة فقال: (والأخرة) أي والدار الأخرة، وهي الجنة (خير) أي أفضل (وأبقى) وأدوم من الدنيا. وفي الحديث: (من أحب آخرته أضر بدنياه، ومن أحب دنياه أضر بآخرته، (إن هذا لفي الصحف الأولى) يعني: إن هذا الذي ذكر من قوله: (قد أفلح) إلى أربع آيات، لفي الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن. ذكر فيها فلاح المصلي، والمتزكي، وإيثار الخلق الدنيا على الأخرة، وأن الاخرة خير. وقيل: معناه أن من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى، فهو ممدوح في الصحف الأولى كما هو ممدوح في القرآن. ثم بين سبحانه أن الصحف الأولي ما هي، فقال: (صحف إبراهيم وموسى) وفي هذا دلالة على أن إبراهيم كان قد انزل عليه الكتاب، خلافا لمن يزعم أنه لم ينزل عليه كتاب. وواحدة الصحف: صحيفة. وروي عن أبي ذر أنه قال: قلت يا رسول الله ! كم الأنبياء ؟ فقال: مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا. قلت: يا رسول الله ! كم المرسلون منهم ؟ قال: ثلاثمائة وثلاتة عشر، وبقيتهم أنبياء. قلت: كان آدم (ص) نبيا ؟ قال: نعم كلمه الله، وخلقه بيده. يا أبا ذر ! أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك. قلت: يا رسول الله ! كم أنزل الله من كتاب ؟ قال: (مائة وأربعة كتب، أنزل الله منها على آدم (ع) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان). وفي الحديث أنه كان في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه. وقيل: إن كتب الله كلها انزلت في شهر رمضان.
[ 333 ]
88 - سورة الغاشية مكية وآياتها ست وعشرون مكية ست وعشرون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا). أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أدمن قراءة (هل أتاك حديث الغاشية) في فرائضه، أو نوافله، غشاه الله برحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بالترغيب في الآخرة، وأنها خير من الدنيا، وافتتح هذه أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم (هل أتاك حديث الغاشية (1) وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين ءانية (5) ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغنى من جوع (7) وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية (10) لا تسمع فيها لغية (11) فيها عين جارية (12) فيها سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24) إن إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا
[ 334 ]
حسابهم (26)). القراءة: قرأ أهل البصرة، غير سهل، وأبو بكر (تصلى) بضم التاء. والباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير، وأهل البصرة، غير سهل: (لا يسمع) بضم الياء (لاغية) بالرفع. وقرأ نافع: (لا تسمع) بضم التاء (لاغية) بالرفع. وقرأ الباقون: (لا تسمع) بفتح التاء (لاغية) بالنصب. وقرأ أبو جعفر: (إيابهم) بتشديد الياء. والباقون بالتخفيف. وروي عن علي عليه السلام: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) بفتح أوائل هذه الحروف كلها، وضم التاء. وعن ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وزيد بن علي: (ألا من تولى) بالتخفيف. الحجة: حجة من قال (تصلى) قوله: (سيصلى نارا ذات لهب) وقوله: (إلا من هو صال الجحيم). وحجة من قال (تصلى) قوله (ثم الجحيم صلوه) وصلوه مثل أصلوه. واللاغية: مصدر بمنزلة العاقبة والعافية. ويجوز أن تكون صفة نحو أن تقول لا تسمع فيها كلمة لاغية. والأول أوجه لقوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا). ولا تسمع على بناء الفعل للمفعول به حسن، لأن الخطاب ليس بمصروف إلى واحد بعينه، وبناء الفعل للفاعل أيضا حسن على الشياع في الخطاب، وإن كان لواحد. وعلى هذا (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما). ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل واحد من التاء والياء في تسمع ويسمع حسن على اللفظ، وعلى المعنى. وأما قوله (إيابهم) على التشديد فقال أبو الفتح أنكر أبو حاتم هذه القراءة، لأنه حملها على نحو كذبوا كذابا. قال: وهذا لا يجوز لأنه كان يجب أوابا، لأنه فعال فيصح لاحتمال التغيير بالإدغام كقولهم: اجلوذ اجلواذا قال أبو الفتح: يجوز أن يكونوا قلبوا الواو ياء من أواب، وإن كانت متحصنة بالإدغام، استحسانا للتخفيف، لا وجوبا كما قالوا ديمت السماء في دومت. قال: هو الجواد ابن الجواد ابن سبل * إن ديموا جاد، وإن جادوا وبل (1) يريد دوموا. وقال: ويجوز أن يكون بني من آب فيعلت وأصله أيوبت. والمصدر إيواب فقلبت الواو ياء، لوقوع الياء ساكنة قبلها. ويجوز أن يكون أوبت (1) دومت السماء: استمر مطرها. والجواد أشد منه. والوبل: أشد. (*)
[ 335 ]
فوعلت، والمصدر على الفيعال كالحيقال من حوقلت. أنشد الأصمعي: يا قوم قد حوقلت، أودنوت * وبعد حيقال الرجال الموت فصار إيوابا فقلبت الوار ياء، فصار إيابا، وأما قراءة علي عليه السلام، فالمفعول في جميعها محذوف لدلالة المعنى عليه أي كيف خلقتها، وكيف رفعتها، وكيف نصبتها وسطحتها. ومن قرأ (ألا من تولى) فألا افتتاح كلام، ومن شرط، وجوابه (فيعذبه الله) أي فهو يعذبه الله. وقد تقدم القول فيه في مواضع. اللغة: الغاشية. المجللة لجميع الجملة غشيه يغشاه غشيانا، وأغشاه غيره إذا جعله يغشى. وغشاه بمعناه. ونصب الرجل ينصب نصبا، فهو نصب وناصب إذا تعب في العمل. والآنية: البالغة النهاية في شدة الحر. والضريع: نبت تأكله الإبل، يضر ولا ينفع. وإنما سمي ضريعا لأنه يشتبه عليها أمره فتظنه كغيره من النبت. والأصل من المضارعة والمشابهة. والنمارق: واحدتها نمرقة. والزرابي: البسط الفاخرة واحدتها زربية. والمصيطر: المتسلط على غيره بالقهر له، يقال: تصيطر فلان على فلان وصيطر إذا تسلط. وقال أبو عبيدة: مصيطر ومبيطر، لا ثالث لهما في كلام العرب. الاعراب: كيف خلقت يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من خلقت، ويجوز أن يكون على المصدر، وتكون الجملة التي هي (كيف خلقت) معلقة بينظرون، لأن النظر مؤد إلى العلم (إلا من تولى): هو استثناء منقطع، وسيبويه يقدر الإستثناء المنقطع بلكن. والفراء يقدره بسوى. المعنى: (هل أتاك حديث الغاشية) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد: قد أتاك حديث يوم القيامة، لأنها تغشى الناس بأهوالها بغتة، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: الغاشية النار تغشي وجوه الكفار بالعذاب، وهذا كقوله (تغشى وجوههم النار)، عن محمد بن كعب، وسعيد بن جبير. (وجوه يومئذ خاشعة) أي ذليلة بالعذاب الذي يغشاها، والشدائد التي تشاهدها. والمراد بذلك أرباب الوجوه. وإنما ذكر الوجوه لأن الذل والخضوع يظهر فيها. وقيل: المراد بالوجوه الكبراء، تقول: جاءني وجوه بني تميم أي ساداتهم. وقيل: عنى به وجوه الكفار كلهم، لأنها تكبرت عن عبادة الله تعالى، عن مقاتل.
[ 336 ]
(عاملة ناصبة) فيه وجوه أحدها: إن المعنى عاملة في النار، ناصبة فيها، عن الحسن وقتادة قالا: لم يعمل لله سبحانه في الدنيا، فأعلمها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال. قال الضحاك: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار وثانيها: إن المراد عاملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في النار يوم القيامة، عن عكرمة والسدي. وثالثها: عاملة ناصبة في الدنيا، يعملون وينصبون ويتعبون، على خلاف ما أمرهم الله تعالى به، وهم الرهبان وأصحاب الصوامع، وأهل البدع والآراء الباطلة، لا يقبل الله أعمالهم في البدعة والضلالة، وتصير هباء لا يثابون عليها، عن سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبي الضحاك، عن ابن عباس. وقال أبو عبد الله عليه السلام: كل ناصب لنا، وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية (عاملة ناصبة). (تصلى نارا حامية) قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله. وقيل. المعنى أن هؤلاء يلزمون الإحراق بالنار التي في غاية الحرارة (تسقى من عين آنية) أي وتسقى أيضا من عين حارة قد بلغت إناها، وانتهت حرارتها. قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا هذا شرابهم. ثم ذكر طعامهم فقال: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) وهو نوع من الشوك يقال له الشبرق، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، وهو أخبث طعام وأبشعه، لا ترعاه دابة. وعن الضحاك، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الضريع شئ يكون في النار، يشبه الشوك، أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا من النار، سماه الله الضريع). وقال أبو الدرداء والحسن: إن الله يرسل على أهل النار الجوع، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستقون، فيعطشهم الله سبحانه ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية، شربة لا هنيئة ولا مريئة، كلما أدنوه إلى وجوههم سلخ جلود وجوههم، وشواها. فإذا وصل إلى بطونهم قطعها. فذلك قوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم). ولما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك، لأن الإبل لا ترعاه. فقال الله سبحانه تكذيبا لهم. (لا يسمن ولا يغني من جوع) أي لا يدفع جوعا، ولا يسمن أحدا. قال
[ 337 ]
الحسن: لا أدري ما الضريع، لم أسمع من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فيه. وقيل: هو سم، عن مجاهد وقتادة. وقيل: ضريع بمعنى مضرع أي يضرعهم ويذلهم. وقيل: يسمى ضريعا، لأن آكله يضرع في الإعفاء منه لخشونته، وشدة كراهته، عن كيسان. وقيل: هو الحجارة، عن سعيد بن جبير. ثم وصف سبحانه أهل الجنة فقال: (وجوه يومئذ ناعمة) أي منعمة في أنواع اللذات ظاهر عليها أثر النعمة والسرور، ومضيئة مشرقة (لسعيها) في الدنيا (راضية) حين أعطيت الجنة بعملها. والمعنى: لثواب سعيها وعملها من الطاعات راضية. يريد أنه لما ظهر نفع أعمالهم، وجزاء عباداتهم، رضوه وحمدوه. وهذا كما يقال: (عند الصباح يحمد القوم السرى). (في جنة عالية) أي مرتفعة القصور والدرجات. وقيل: إن علو الجنة على وجهين: علو الشرف والجلالة، وعلو المكان والمنزلة، بمعنى أنها مشرفة على غيرها، وهي أنزه ما تكون. والجنة درجات بعضها فوق بعض، كما أن النار دركات. (لا تسمع فيها لاغية) أي كلمة ساقطة، لا فائدة فيها. وقيل: لاغية ذات لغو، كقولهم نابل ودارع أي: ذو نبل ودرع. قال الحطيئة: (وغررتني، وزعمت أنك لابن بالصيف تامر). (فيها) أي في تلك الجنة (عين جارية) قيل: إنه اسم جنس. ولكل إنسان في قصره من الجنة عين جارية من كل شراب يشتهيه. وفي العيون الجارية من الحسن واللذة والمنفعة، ما لا يكون في الواقفة، ولذلك وصف بها عيون أهل الجنة. وقيل: إن عيون أهل الجنة تجري في غير أخدود، وتجري كما يريد صاحبها. (فيها) أي في تلك الجنة (سرر مرفوعة) قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها. والسرر: جمع سرير، وهو مجلس السرور. وقيل: إنما رفعت ليرى المؤمنون بجلوسهم عليها، جميع ما حولهم من الملك. (وأكواب موضوعة) على حافات العيون الجارية، كلما أراد المؤمن شربها، وجدها مملوءة، وهي الأباريق ليس لها خراطيم، ولا عرى، تتخذ للشراب. وقيل: هي أواني الشراب من الذهب والفضة والجواهر بين أيديهم، ويشربون بها ما يشتهونه من الأشربة، ويتمتعون بالنظر إليها لحسنها (ونمارق مصفوفة) أي وسائد يتصل
[ 338 ]
بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك في الدنيا (وزرابي مبثوثة) وهي البسط الفاخرة، والطنافس المخملة، والمبثوثة المبسوطة المنشورة. ويجوز أن يكون المعنى أنها مفرقة في المجالس. وعن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام أنه ذكر أهل الجنة فقال: يجيئون فيدخلون، فإذا أسس بيوتهم من جندل اللؤلؤ، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة. ولولا أن الله تعالى قدرها لهم، لالتمعت أبصارهم بما يرون، ويعانقون الأزواج، ويقعدون على السرر ويقولون: الحمد لله الذي هدانا لهذا. قال قتادة: ولما نعت الله الجنة، وما فيها، عجب من ذلك أهل الضلال، فأنزل الله سبحانه: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) وكانت عيشا من عيشهم. فيقول: أفلا يتفكرون فيها، وما يخرج الله من ضروعها من بين فرث ودم لبنا خالصا، سائغا للشاربين، يقول: كما صنعت هذا لهم، فكذلك أصنع لأهل الجنة في الجنة. وقيل: معناه أفلا يعتبرون بنظرهم إلى الإبل، وما في ركبه الله عليه من عجيب الخلق، فإنه مع عظمته وقوته يذلله الصغير، فينقاد له بتسخير الله إياه لعباده، فيبركه، ويحمل عليه، ثم يقوم. وليس ذلك في غيره من ذوات الأربع، فلا يحمل على شئ منها، إلا وهو قائم. فأراهم الله سبحانه هذه الآية فيه، ليستدلوا على توحيده بذلك، عن أبي عمرو بن العلاء والزجاج. وسأل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم من الإبل في الأعجوبة. فقال: أما الفيل فالعرب بعيدو العهد بها ثم هو خنزير لا يركب ظهرها، ولا يؤكل لحمها، ولا يحلب درها. والإبل من أعز مال العرب وأنفسه، تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها. ويحكى أن فأرة أخذت بزمام ناقة، فأخذت تجرها، وهي تتبعها حتى دخلت الجحر، فجرت الزمام فبركت الناقة، فجرت، فقربت فمها من جحر الفأر. (وإلى السماء كيف رفعت) أي كيف رفعها الله فوق الأرض، وجعل بينهما هذا الفضاء الذي به قوام الخلق وحياتهم. ثم إلى ما خلقه فيها من بدائع الخلق، من الشمس والقمر والكواكب، وعلق بها منافع الخلق، وأسباب معايشهم. (وإلى الجبال كيف نصبت) أي: أولا يتفكرون في خلق الله سبحانه، الجبال، أوتادا للأرض ومسكنة لها، وأنه لولاها لمادت الأرض بأهلها (وإلى الأرض كيف سطحت)
[ 339 ]
أي كيف بسطها الله ووسعها، ولولا ذلك لما صح الإستقرار عليها، والإنتفاع بها، وهذه من نعم الله سبحانه على عباده، لا توازيها نعمة منعم. وفيها دلائل على توحيده، ولو تفكروا فيها لعلموا أن لهم صانعا صنعهم، وموجدا أوجدهم. ولما ذكر سبحانه الأدلة، أمر نبيه بالتذكير بها فقال: (فذكر) يا محمد. والتذكير التعريف للذكر بالبيان الذي يقع به الفهم. والنفع بالتذكير عظيم، لأنه طريق للعلم بالأمور التي يحتاج إليها. (إنما أنت مذكر) لهم بنعم الله تعالى عندهم، وبما يجب عليهم في مقابلتها من الشكر والعبادة. وقد أوضح الله تعالى طريق الحجج في الدين، وأكده غاية التأكيد بما لا يسع فيه التقليد بقوله: (إنما أنت مذكر) وقوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، وقوله (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون)، و (لقوم يذكرون)، و (يتفكرون). وقيل: إن المراد فذكرهم بهذه الأدلة، وائمرهم بالإستدلال بها، ونبههم عليها، عن الجبائي، وأبي مسلم. (لست عليهم بمصيطر) معناه: لست عليهم بمتسلط تسليطا، يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم، وتجبرهم عليه. وإنما الواجب عليك الإنذار، فاصبر على الإنذار والتبليغ والدعوة إلى الحق. وقيل: معناه لست عليهم بمتسلط الآن حتى تقاتلهم إن خالفوك، وكان هذا قبل نزول آية الجهاد. ثم نسخ بالأمر بالقتال. والوجه الصحيح أنه لا نسخ فيه لأن الجهاد ليس بأكره للقلوب. والمراد: إنك إنما بعثت للتذكير، وليس عليك من ترك قبولهم شئ. (إلا من تولى وكفر) أي أعرض عن الذكر، ولم يقبل منك، وكفر بالله، وبما جئت به، فكل أمره إلى الله، عن الحسن. وقيل: معناه إلا من تولى وكفر، فلست له بمذكر، لأنه لا يقبل منك، فكأنك لست تذكره. (فيعذبه الله العذاب الأكبر) وهو الخلود في النار، ولا عذاب أعظم منه. ثم ذكر سبحانه أن مرجعهم إليه فقال: (إن إلينا إيابهم) أي مرجعهم ومصيرهم بعد الموت (ثم إن علينا حسابهم) أي جزاءهم على أعمالهم. فهذا جامع بين الوعد والوعيد ومعناه: لا يهمنك أمرهم، فإنهم وإن عاندوك وآذوك، فمصير جميعهم إلى حكمنا، لا يفوتوننا، ومجازاتهم علينا، وعن قريب تقر عينك بما تراه في أعدائك. النظم: يسأل كيف يتصل ذكر الإبل وما بعدها، بذكر وصف الجنان ونعيمها ؟ (والجواب): إنه يتصل بأول السورة، والضمير في قوله (ينظرون) عائد إلى الذين وصفهم بقوله (عاملة ناصبة). وإنه لما ذكر عقابهم، وثواب المؤمنين، عاد عليهم
[ 340 ]
بالإحتجاج بالإبل والسماء والأرض والجبال، وكيفية دلالتها على وجود الصانع الحكيم، يريد: هلا نظر هؤلاء في صنائع الله فيعرفونه، ويعبدونه، عن أبي مسلم. وقيل: إنه لما ذكر سرر الجنة وارتفاعها، تعجبوا من ذلك، وقالوا: كيف يصعد عليها ؟ فأراهم الله سبحانه الإبل، وانه كيف سخرت لبني آدم مع عظمها، حتى أنيخت للحمل عليها، وتقوم بعد ذلك. وكيف أحكم الله خلق السماوات والأرض والجبال، ردا على أولئك القوم. وإنما خص سبحانه هذه الأشياء بالذكر، لاستواء الناس كلهم في معرفتها.
[ 341 ]
89 - سورة الفجر مكية وآياتها ثلاثون مكية اثنتان وثلالون آية حجازي، وثلاثون كوفي شامي، وتسع وعشرون بصري. اختلافها: أربع آيات ونعمه فقدر عليه رزقه كلتاهما حجازي بجهنم حجازي شامي في عبادي كوفي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأها في ليال عشر، غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيام، كانت له نورا يوم القيامة) وروى داود بن فرقد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال. اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنها سورة الحسين بن علي عليه السلام. من قرأها كان مع الحسين بن علي عليه السلام، يوم القيامة في درجته من الجنة. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بأن إياب الخلق إليه، وحسابهم عليه، وافتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى، حين أقسم أنه بالمرصاد، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا يسر (4) هل في ذلك قسم لذي حجر (5) ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التى لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الذين طغوا في البلد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) إن ربك لبالمرصاد (14) فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه
[ 342 ]
فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما (20) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا (21) وجاء ربك والملك صفا صفا (22) وجيئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى (23) يقول يا ليتني قدمت لحياتي (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25) ولا يوثق وثاقه أحد (26) يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبدي (29) وادخلي جنتي (30)). القراءة: قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (والوتر) بكسر الواو. والباقون بالفتح. وقرأ أبو جعفر وابن عامر: (فقدر) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ (لا يكرمون) بالياء. وكذلك ما بعده أهل البصرة. والباقون بالتاء. وقرأ (لا تحاضون) أهل الكوفة وأبو جعفر، وقرأ لا يعذب ولا يوثق بالفتح الكسائي ويعقوب وسهل. والباقون: لا يعذب ولا يوثق. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي: (والليل إذا يسري) بإثبات الياء في الوصل، وحذفها في الوقف. وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. والباقون بالحذف فيهما. وقرأ القواس والبزي ويعقوب: (بالوادي) بإثبات الياء في الوصل والوقف. وورش بإثباتها في الوصل، وحذفها في الوقف. والباقون بحذفها في الوصل والوقف. وقرأ أهل المدينة: أكرمني، وأهانني بإثبات الياء في الوصل، وحذفها في الوقف. والقواس والبزي ويعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. وأبو عمرو لا يبالي كيف قرأ بالياء وغير الياء. وروى العياشي عنه بحذف الياء من غير تخيير. والباقون بحذف الياء في الحرفين في الوصل والوقف. وفي الشواذ قراءة ابن عباس: (بعاد أرم ذات العماد) وروي ذلك عن الضحاك أيضا. وقرءة ابن عباس وعكرمة والضحاك وابن السميقع: (فادخلي في عبدي). الحجة: قال أبو علي: حدثنا محمد بن السري أن الأصمعي قال: لكل فرد
[ 343 ]
وتر، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد، ويكسرون الوتر في الذحل (1)، وقيس وتميم يسوونهما في الكسر، ويقولون في الوتر الذي هو الإفراد: أوترت وأنا أوتر إيتارا أي: جعلت أمري وترا. وفي الذحل وترته أتره وترا وترة. قال أبو بكر: وترته في الذحل، إنما هو أفردته من أهله وماله. ومن قرأ يكرمون وما بعده بالياء، فلما تقدم من ذكر الإنسان، والمراد به الجنس والكثرة على لفظ الغيبة. ولا يمتنع في هذه الأشياء الدالة على الكثرة، أن يحمل على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى. ومن قرأ بالتاء، فعلى معنى قل لهم ذلك، ومعنى لا تحضون على طعام المسكين، لا تأمرون به، ولا تبعثون عليه، ولا تحاضون تتفاعلون منه. وقوله: (ولا يعذب عذابه أحد) معناه: لا يعذب تعذيبه فوضع العذاب موضع التعذيب، كما وضع العطاء موضع الإعطاء في قوله: (وبعد عطائك المائة الرتاعا) (2). فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى المفعول به، مثل دعاء الخير. والمفعول به الإنسان المتقدم ذكره في قوله (يوم يتذكر الإنسان) والوثاق أيضا موضع الإيثاق. فأما من قرأ (لا يعذب) فقد قيل: إن المعنى فيه أنه لا يتولى عذاب الله تعالى يومئذ أحد، والأمر يومئذ أمره، ولا أمر لغيره. هذا قول. وقد قيل أيضا: لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة، وكأن الذي حمل قائل هذا القول على أن قاله، أنه إن حمله على ظاهره، كان المعنى لا يعذب أحد في الآخرة مثل عذاب الله، ومعلوم أنه لا يعذب أحد في الآخرة، مثل عذاب الله. إنما المعذب الله تعالى. فعدل عن الظاهر لذلك. ولو قيل: إن المعنى فيومئذ لا يعذب أحد أحدا تعذيبا مثل تعذيب الكافر المتقدم ذكره، فأضيف المصدر إلى المفعول به كما أضيف إليه في القراءة الأولى، ولم يذكر الفاعل كما لم يذكره في مثل قوله تعالى (من دعاء الخير) لكان المعنى في القراءتين سواء، والذي يرد بأحد الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار، ويكون ذلك كقوله (يوم يسحبون في النار على وجوههم) وقوله (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) وقوله. (ولهم مقامع من حديد) لا شبهة أن يكون هذا القول أولى، والفاعل له هم الملائكة. (1) الذحل: الثأر. (2) هذا (عجز بيت للقطامي من قصيدة طويلة يمدح فيها زفر بن الحارث الكلابي، وكان القطامي قد اسر في بعض الحروب فأطلقه زفر، ووهب له مأة من الإبل. وصدره: (أكفر بعد رد الموت عني). والرتاع: التي تستام وترتع وترعى ولا من يردها، وذلك مما يورثها سمنا. (*)
[ 344 ]
قال: ووجه قول من قال (يسري) بالياء، وصل أو وقف أن الفعل لا يحذف منه في الوقف، كما يحذف من الأسماء، نحو: قاض وغاز، فتقول: هو يقضي، وأنا أقضي، فتثبت الياء، ولا تحذف، كما تحذف من الإسم نحو هذا قاض. وليس إثبات الياء بالأحسن في الوقف من الحذف، وذلك أنها فاصلة، وجميع ما لا يحذف في الكلام، وما يختار فيه أن لا يحذف، نحو القاضي بالألف واللام يحذف إذا كان في قافية، أو فاصلة، قال سيبويه: والفاصلة نحو: (والليل إذا يسر)، و (يوم التناد)، و (الكبير المتعال). فإذا كان شئ من ذلك في كلام تام شبه بالفاصلة، فحسن حذفها نحو قوله. (ذلك ما كنا نبغ). فإن قلت: كيف كان الإختيار فيه أن يحذف إذا كان في فاصلة أو قافية، وهذه الحروف من أنفس الكلم، وهلا لم يستحسن حذفها، كما أثبت سائر الحروف، ولم يحذف ؟ والقول في ذلك: إن الفواصل والقوافي في مواضع الوقف، والوقف موضع تغير. فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة، غيرت فيه هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف. ألا ترى أن النداء لما كان في موضع حذف بالترخيم، والحذف للحروف الصحيحة ألزموا الحذف في أكثر الكلام، للحرف المتغير، وهو تاء التأنيث، فكذلك ألزم الحذف في الوقف لهذه الحروف المتغيرة، فجعل تغييرها الحذف، ولما يراع فيها ما روعي في الحروف الصحيحة، فسووا بينها وبين الزائد في الحذف للجزم نحو لم يغز، ولم يرم، ولم يخش، وأجروها مجرى الزائد في الإطلاق نحو: (وبعض القوم يخلق ثم لا يفري) (1). وما يمر، وما يحلو، كما قالوا: (أقوين من حجج ومن دهر) (2). فلذلك اختير فيها الحذف في الفواصل والقوافي، وكذلك قوله: (جابوا الصخر (1) هذا جزء بيت لزهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان تمامه: (ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري) والخلق: التقدير. يقول: أنت إذا عزمت أمرا قطعته، وأنفذته، وغيرك يعزم، ولا يفعل. (2) هذا عجز بيت لزهير من تلك القصيدة أيضا. وقد ينسب إلى حماد الراوية على خلاف ذكره في (شرح الأشموني) وصدره (لمن الديار بقنة الحجر) ويروى: (مذ حجج ومذ دهر) والقنة: أعلى الجبل. والحجر: موضع بناحية الشام. وأقوين: بمعنى أقفرن وخلون من السكان. والحجج: جمع حجة بمعنى السنة، يصف شدة خراب هذه الديار حتى كأنها لا تعرف، ولا يعرف سكانها. (*)
[ 345 ]
بالواد) الأوجه فيه الحذف، إذا كانت فاصلة، وإن كان الأحسن إذا لم تكن فاصلة الإثبات. ومن قرأ في الوصل (يسري) بالياء، وفي الوقف بغير ياء، فإنه ذهب إلى أنه إذا لم يقف عليها، صار بمنزلة غيرها من المواضع التي لا يوقف عليها، فلم تحذف من الفاصلة، إذا لم يقف عليها، كما لم يحذف من غيرها، وحذفها إذا وقف عليها من أجل الوقف. ومن قرأ أكرمن وأهانن بغير ياء في وصل، ولا وقف، فهو كمن قرأ (يسر) في الوصل والوقف، لأن ما قبلها كسرة في فاصلة. ومن قرأهما بياء في الوصل، كمثل من قرأ (يسري) في الوصل بإثبات الياء وبحذفها في الوقف. ورواية سيبويه عن أبي عمرو أنه قرأ: ربي أكرمن وربي أهانن على الوقف. ومن قرأ (أرم ذات العماد) فالمعنى: جعلها رميما رمت هي واسترمت وأرمها غيرها. قال ابن جني: وأما القراءة بعاد إرم، فعلى أنه أراد أهل إرم هذه المدينة، فحذف المضاف وهو يريده كقوله تعالى: (بزينة الكواكب) أي بزينة الكواكب قال: وقوله (في عبدي) لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع أي: عبادي وذلك أنه جعل عبادي كالواحد أي: لا خلاف بينهم في عبوديته، كما لا يخالف الإنسان فيصير كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وهم يد على من سواهم). وقال غيره معناه: فادخلي في جسم عبدي. اللغة: الفجر: شق عمود الصبح، فجره الله لعباده فجرا إذا أظهره في أفق المشرق مبشرا بإدبار الليل المظلم، وإقبال النهار المضئ، وهما فجران أحدهما: الفجر المستطيل وهو الذي يصعد طولا كذنب السرحان، ولا حكم له في الشرع والآخر: هو المستطير المنتشر في أفق السماء، وهو الذي يحرم عنده الأكل والشرب، لمن أراد أن يصوم في شهر رمضان، وهو ابتداء اليوم. والحجر: العقل، وأصله المنع، يقال: حجر القاضي على فلان ماله أي منعه من التصرف فيه. فالعقل يمنع من المقبحات، ويزجر عن فعلها. والعماد: جمعه عمد، وهو ما تبنى به الأبنية، ويستعمل في القوة والشرف. يقال: فلان رفيع العماد. قال: ونحن إذا عماد البيت خرت * على الأخفاض، نمنع من يلينا والجواب: القطع. قال النابغة: أتاك أبو ليلى تجوب به الدجى، * دجى الليل، جواب الفلاة، غشمشم
[ 346 ]
والغشمشم: الطويل. والسوط معروف. قال الفراء السوط إسم للعذاب، وإن لم يكن ثم ضرب بسوط. وأصل السوط خلط الشئ بعضه ببعض، فكأن السوط قسط عذاب يخالط اللحوم والدماء، كما يخالطهما السوط. قال الشاعر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا، * تزايلن حتى لا يمس دم دما والمرصاد: الطريق، مفعال من رصده يرصده رصدا إذا راعى ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه. واللم: الجمع. ولممت ما على الخوان ألمه لما إذا أكلته أجمع، كأنه يأكل ما ألم به، ولا يميز شيئا من شئ. والجم: الكثير العظيم. وجمة الماء: معظمه. وجم الماء في الحوض إذا اجتمع وكثر. قال زهير: فلما وردن الماء زرقا جمامه، * وضعن عصي الحاضر المتخيم (1) والدك: حط المرتفع بالبسط، يقال: اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وناقة دكاء إذا كانت كذلك، ومنه الدكان لاستوائه، قال: ليت الجبال تداعت عند مصرعها * دكا، فلم يبق من أحجارها حجر والوثاق: الشد. وأوثقته: شددته. الاعراب: جواب القسم قوله (إن ربك لبالمرصاد) وقيل: جوابه محذوف تقديره ليقبضن على كل ظالم، أو لينتصفن كل مظلوم من ظالمه. أما رأيت كيف فعلنا بعاد، وفرعون وثمود، لما ظلموا، وأجري إرم على عاد عطف بيان، أو على البدل. ولا يجوز أن يكون صفة لأنه غير مشتق، وإنما لا ينصرف إرم للتعريف والتأنيث. ألا ترى إلى قوله (ذات العماد) ومن أضاف فقال بعاد إرم في الشواذ، فإنه عنده بمنزلة قولهم زيد بطة، لأنه لقب، فيضاف إليه الإسم. وثمود: في موضع جر أي وبثمود، لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة. (على طعام المسكين): تقديره على إطعام طعام المسكين، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون طعام إسما أقيم مقام الإطعام، كقول لبيد: (1) البيت من المعلقة. والزرق: شدة الصفاء ووضع العصي كناية عن النزول بالمكان، يقال: فلما وردن النساء الظعائن الماء، ورأين صفاء ما اجتمع منه في الحياض، عزمن على الإقامة كالحاضر المقيم بالخيمة. (*)
[ 347 ]
باكرت حاجتها الدجاج بسحرة * لأعل منها حين هب نيامها (1) أي لاحتياجي إليها. فهو مفعول له. والتراث: أصله الوارث من ورثت، ولكن التاء تبدل من الواو، ومثله تجاه أصله وجاه من واجهه. وجواب إذا في قوله (إذا دكت الأرض) قوله (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد). وقوله: (صفا صفا) مصدر وضع موضع الحال أي مصطفين. المعنى: (والفجر) أقسم الله سبحانه بفجر النهار، وهو انفجار الصبح كل يوم، عن عكرمة والحسن والجبائي. ورواه أبو صالح، عن ابن عباس. وقيل: هو فجر ذي الحجة، لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال: (وليال عشر) وهي عشر ذي الحجة، عن مجاهد والضحاك. وقيل: فجر أول المحرم، لأنه تتجدد عنده السنة، عن قتادة. وقيل: يريد فجر يوم النحر، لأنه يقع فيه القربان، ويتصل بالليالي العشر، عن أبي مسلم. وقيل: أراد بالفجر النهار كله، عن ابن عباس. (وليال عشر): يعني العشر من ذي الحجة، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي. وروي ذلك مرفوعا شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير. وقيل: هي العشر الأواخر من شهر رمضان في رواية أخرى، عن ابن عباس. وقيل: إنها عشر موسى للثلاثين ليلة التي أتمها الله بها. (والشفع والوتر) يعني الزوج والفرد من العدد كله، عن الحسن. قال أبو مسلم: هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع، والنعم بما يضبط به من المقادير. وقيل: الشفع والوتر كل ما خلقه الله تعالى، لأن جميع الأشياء إما زوج وإما فرد، عن ابن زيد والجبائي. وقيل: الشفع الخلق لأنه قال (وخلقناكم أزواجا) والوتر: الله تعالى، عن عطية العوفي وأبي صالح وابن عباس ومجاهد، وهي رواية أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: الشفع والوتر الصلاة، ومنها شفع ومنها وتر، وهي رواية ابن حصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، عن ابن عباس وعكرمة والضحاك، وهي رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده، وينفرد يوم عرفة (1) هذا البيت من المعلقات أيضا. وباكرت الدجاج أي: سابقت الديوك. والسحرة والسحر بمعنى. يقول: سابقت صياح الديك، لأسقى من الخمر سقيا متتابعا. (*)
[ 348 ]
بالموقف. وقيل: الشفع يوم التروية، والوتر يوم عرفة، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. وقيل: إن الشفع والوتر في قول الله، عز وجل: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) فالشفع: النفر الأول، والوتر: يوم النفر الأخير، وهو الثالث. وأما الليالي العشر فالثماني من ذي الحجة، وعرفة، والنحر، عن ابن الزبير. وقيل: الوتر آدم شفع بزوجته، عن ابن عباس. وقيل: الشفع الأيام والليالي، والوتر اليوم الذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة، عن مقاتل بن حيان. وقيل: الشفع صفات المخلوقين، وتضادها العز والذل، والوجود والعدم، والقدرة والعجز، والعلم والجهل، والحياة والموت. والوتر صفة الله تعالى إذ هو الموجود لا يجوز عليه العدم، والقادر لا يجوز عليه العجز، والعالم لا يجوز عليه الجهل، والحي لا يجوز عليه الموت. وقيل: الشفع علي وفاطمة عليهما السلام، والوتر محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: الشفع الصفا والمروة، والوتر البيت الحرام. (والليل إذا يسر) اختلفوا في المراد به على وجهين أحدهما: إنه أراد جنس الليالي، كما قال (والليل إذ أدبر) أقسم بالليل إذ يمضي بظلامه، فيذهب حتى ينقضي بالضياء المبتدئ، ففي سيره على المقادير المرتبة، ومجيئه بالضياء عند تقضيه، أدل دلالة على أن فاعله يختص بالعز والجلال، ويتعالى عن الأشباه والأمثال. وقيل: إنه إنما أضاف السير إليه لأن الليل يسير بمسير الشمس في الفلك، وانتقالها من أفق إلى أفق. وقيل: إذا يسري إذا جاء وأقبل إلينا، ويريد كل ليلة، عن قتادة والجبائي. والوجه الآخر: إن المراد به ليلة بعينها، تمييزا لها من بين الليالي. ثم قيل: إنها ليلة المزدلفة لاختصاصها باجتماع الناس فيها بطاعة الله تعالى، وفيها يسري الحاج من عرفة إلى المزدلفة، ثم يصلي الغداة بها، ويغدو منها إلى منى، عن مجاهد وعكرمة والكلبي. (هل في ذلك قسم لذي حجر) أي. هل فيما ذكر من الأقسام مقنع لذي عقل ولب، يعقل القسم والمقسم به. وهذا تأكيد وتعظيم لما وقع القسم به، والمعنى: إن من كان ذا لب، علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه، وبدائع حكمته. ثم اعترض بين القسم وجوابه بقوله: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتنبيه للكفار على ما فعله سبحانه بالأمم السالفة، لما كفرت بالله
[ 349 ]
وبأنبيائه، وكانت أطول أعمارا، وأشد قوة، وعاد قوم هود. واختلفوا في إرم على أقوال: أحدها: إنه اسم لقبيلة. قال أبو عبيدة: هما عادان فالأولى هي إرم، وهي التي قال الله تعالى فيهم (وإنه أهلك عادا الأولى) وقيل: هو جد عاد، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، عن محمد بن إسحاق. وقيل: هو سام بن نوح نسب عاد إليه، عن الكلبي. وقيل: إرم قبيلة من قوم عاد، كان فيهم الملك، وكانوا بمهرة. وكان عاد أباهم، عن مقاتل وقتادة وثانيها: إن إرم إسم بلد. ثم قيل: هو دمشق، عن ابن سعيد المقري، وسعيد بن المسيب، وعكرمة. وقيل: هو مدينة الإسكندرية، عن محمد بن كعب القرظي. وقيل: هو مدينة بناها شداد بن عاد، فلما أتمها وأراد أن يدخلها، أهلكه الله بصيحة نزلت من السماء وثالثها: إنه ليس بقبيلة ولا بلد، بل هو لقب لعاد، وكان عاد يعرف به، عن الجبائي. وروي عن الحسن أنه قرأ بعاد إرم على الإضافة. وقيل: هو إسم آخر لعاد، وكان له اسمان. ومن جعله بلدا فالتقدير في الآية بعاد صاحب إرم. وقوله: (ذات العماد) يعني أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم، عن ابن عباس في رواية عطاء والكلبي عن قتادة. وقيل: معناه ذات الطول والشدة، عن ابن عباس ومجاهد، من قول العرب. رجل معمد للطويل، ورجل طويل العماد أي القامة. ثم وصفهم سبحانه فقال. (التي لم يخلق مثلها في البلاد) أي لم يخلق في البلاد مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة، وعظم الأجسام، وهم الذين قالوا: (من أشد منا قوة). وروي أن الرجل منهم كان يأتي بالصخرة، فيحملها على الحي، فيهلكهم. وقيل: ذات العماد أي ذات الأبنية العظام المرتفعة، عن الحسن. وقال ابن زيد: ذات العماد في أحكام البنيان التي لم يخلق مثلها أي مثل أبنيتها في البلاد. قصة إرم ذات العماد قال وهب بن منبه: خرج عبد الله بن قلابة في طلب إبل له، شردت، فبينا هو في صحارى عدن، إذ هو قد وقع في مدينة في تلك الفلوات، عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة، وأعلام طوال. فلما دنا منها، ظن أن فيها أحدا يسأله عن
[ 350 ]
إبله. فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه، ودخل من باب الحصن. فلما دخل الحصن، فإذا هو ببابين عظيمين، لم ير أعظم منهما. والبابان مرصعان بالياقوت الأبيض والأحمر. فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا هو قصور كل قصر فوقه غرفة، وفوق الغرف غرف، مبنية بالذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة، يقابل بعضها بعضا، مفروشة كلها باللآلئ وبنادق من مسك وزعفران. فلما رأى الرجل ما رأى، ولم ير فيها أحدا، هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزقة، فإذا هو بشجر في كل زقاق منها، قد أثمرت تلك الأشجار، وتحت الأشجار أنهار مطردة، يجري ماؤها من قنوات من فضة، كل قناة أشد بياضا من الشمس، فقال الرجل: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، ما خلق الله مثل هذه في الدنيا، وإن هذه هي الجنة التي وصفها الله تعالى في كتابه. فحمل معه من لؤلئها ومن بنادق المسك والزعفران، ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ومن ياقوتها شيئا، وخرج. ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، وعلم الناس أمره، فلم يزل ينمو أمره حتى بلغ معاوية خبره، فأرسل في طلبه، حتى قدم عليه، فقص عليه القصة، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال: يا أبا إسحاق ! هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة ؟ قال: نعم أخبرك بها، وبمن بناها. إنما بناها شداد بن عاد. فأما المدينة فإرم ذات العماد، التي وصفها الله تعالى في كتابه، وهي (التي لم يخلق مثلها في البلاد). قال معاوية: فحدثني حديثها. فقال: إن عادا الأولى ليس بعاد قوم هود، وإنما هود وقوم هود ولد ذلك، وكان عاد له إبنان: شداد وشديد. فهلك عاد فبقيا وملكا. فقهرا البلاد وأخذاها عنوة. ثم هلك شديد وبقي شداد فملك وحده، ودانت له ملوك الأرض، فدعته نفسه إلى بناء مثل الجنة عتوا على الله سبحانه، فأمر بصنعة تلك المدينة إرم ذات العماد، وأمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى كل ملك في الدنيا، أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر، وكان هؤلاء القهارمة أقاموا في بنيانها مدة طويلة. فلما فرغوا منها، جعلوا عليها حصنا، وحول الحصن ألف قصر، ثم سار الملك إليها في جنده ووزرائه. فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله، عزوجل، عليه وعلى من معه
[ 351 ]
صيحة من السماء، فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له في تلك الصحارى، والرجل عند معاوية. فالتفت كعب إليه وقال: هذا والله ذلك الرجل. ثم قال سبحانه: (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) أي وكيف فعل بثمود الذين قطعوا الصخر ونقبوها بالوادي الذي كانوا ينزلونه، يعني وادي القرى. قال ابن عباس: كانوا ينحتون الجبال فيجعلون منها بيوتا، كما قال الله تعالى (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين). (وفرعون) أي وكيف فعل فرعون الذي أرسل إليه موسى (ذي الأوتاد) أي ذي الجنود الذين كانوا يشيدون أمره، عن ابن عباس، وسماهم أوتادا، لأنهم قواد عسكره الذين بهم قوام أمره. وقيل: كان يشد الرجل بأربعة أوتاد على الأرض، إذا أراد تعذيبه، ويتركه حتى يموت، عن مجاهد. وعن ابن مسعود قال: وتد امرأته بأربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة، حتى ماتت. وقد مر بيانه في سورة ص. (الذين طغوا في البلاد) يعني عادا وثمود وفرعون، طغوا أي تجبروا في البلاد على أنبياء الله، وعملوا فيها بمعصية الله (فأكثروا فيها) أي في الأرض، أو في البلاد (الفساد) أي القتل والمعصية، عن الكلبي. ثم بين سبحانه ما فعله بهم عاجلا بأن قال: (فصب عليهم ربك سوط عذاب) أي فجعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، عن الزجاج. وقيل: معناه صب عليهم قسط عذاب، كالعذاب بالسوط الذي يعرف. أراد ما عذبوا به. وقيل. إن كل شئ عذب الله به فهو سوط، فأجرى على العذاب اسم السوط مجازا، عن قتادة. شبه سبحانه العذاب الذي أحله بهم، وألقاه عليهم بانصباب السوط وتواتره على المضروب حتى يهلكه. (إن ربك لبالمرصاد) أي عليه طريق العباد، فلا يفوته أحد، عن الكلبي والحسن وعكرمة. والمعنى: إنه لا يفوته شئ من أعمالهم، لأنه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم، كما لا يفوت من هو بالمرصاد. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: معناه أن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم. وعن الصادق عليه السلام أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد. وقال عطاء: يعني يجازي كل واحد، وينتصف من الظالم للمظلوم. وقيل لأعرابي: أين ربك ؟ قال:
[ 352 ]
بالمرصاد. وليس يريد به المكان. فقد سئل علي عليه السلام أين كان ربنا قبل أن خلق السماوات والأرض ؟ فقال: أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان. وروي عن ابن عباس في هذه الآية قال: إن على جسر جهنم سبع محابس، يسأل العبد عندها: أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة. ثم قسم سبحانه أحوال البشر فقال: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) أي اختبره وامتحنه بالنعمة (فأكرمه) بالمال (ونعمه) بما وسع عليه من أنواع الإفضال (فيقول ربي أكرمن) فيفرح بذلك ويسر، ويقول ربي أعطاني هذا لكرامتي عنده، ومنزلتي لديه أي يحسب أنه كريم على ربه، حيث وسع الدنيا عليه. (وأما إذا ما ابتلاه) بالفقر والفاقة (فقدر) أي فضيق وقتر (عليه رزقه) وجعله على قدر البلغة (فيقول ربي أهانن) أي فيظن أن ذلك هوان من الله، ويقول: ربي أذلني بالفقر. ثم قال (كلا) أي ليس كما ظن، فإني لا أغني المرء لكرامته علي، ولا أفقره لمهانته عندي، ولكني أوسع على من أشاء، وأضيق على من أشاء، بحسب ما توجبه الحكمة، ويقتضيه الصلاح، ابتلاء بالشكر والصبر، وإنما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة، والإهانة تكون بالمعصية. ثم بين سبحانه ما يستحق به الهوان، فقال: بل إنما أهنت من أهنت، لأنهم عصوني. ثم فصل العصيان فقال: (بل لا تكرمون اليتيم) وهو الطفل الذي لا أب له أي: لا تعطونهم مما أعطاكم الله حتى تغنوهم عن ذل السؤال، وخص اليتيم لأنهم لا كافل لهم يقوم بأمرهم. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة). وأشار بالسبابة والوسط. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون في حجر أمية بن خلف يتيما، وكان يدفعه عن حقه. فعلى هذا فإنه يحتمل معنيين أحدهما. إنكم لا تحسنون إليه والآخر: إنكم لا تعطونه حقه من الميراث، على ما جرت به عادة الكفار من حرمان اليتيم ما كان له من الميراث.
[ 353 ]
(ولا تحضون على طعام المسكين) أي ولا تحثون على إطعامه، ولا تأمرون بالتصدق عليه. ومن قرأ (لا تحاضون) أراد لا يحض بعضكم بعضا على ذلك. والمعنى: إن الإهانة ما فعلتموه من ترك إكرام اليتيم، ومنع الصدقة من الفقير، لا ما توهمتموه. وقيل: إن المراد إنما أعطيتكم المال لذلك، فإذا لم تفعلوه، فذلك يوجب إهانتكم. (وتأكلون التراث) أي الميراث. وقيل: أموال اليتامى، عن أبي مسلم، قال: ولم يرد الميراث الحلال، لأنه لا يلام آكله عليه. قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أموالهم. وقيل: يأكلون الميراث فيما يشتهون، ولا يتفكرون في إخراج ما أوجب الله عليهم من الحقوق فيه. (أكلا لما) شديدا تلمون جميعه في الأكل. وقيل: هو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره، عن الحسن. وقيل: هو أن يأكل ما يجده، ولا يفكر فيما يأكله من خبيث وطيب، عن ابن زيد. (وتحبون المال حبا جما) أي كثيرا شديدا، عن ابن عباس، ومجاهد. والمعنى: تحبون جمع المال، وتولعون به، فلا تنفقونه في خير. وقيل: يحبون كثرة المال من فرط حرصهم، فيجمعونه من غير وجهه، ويصرفونه في غير وجهه، ولا يتفكرون في العاقبة. ثم قال سبحانه: (كلا) أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا. وقال مقاتل: معناه لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم والمسكين. وقيل: كلا زجر تقديره لا تفعلوا هكذا. ثم خوفهم فقال. (إذا دكت الأرض دكا دكا) أي كسر كل شئ على ظهرها من جبل، أو بناء، أو شجر، حتى زلزلت، فلم يبق عليها شئ، يفعل ذلك مرة بعد مرة. وقيل. دكت الأرض أي مدت يوم القيامة مد الأديم، عن ابن عباس. وقيل: دقت جبالها وأنشازها حتى استوت، عن ابن قتيبة. والمعنى: استوت في انفراشها، وذهاب دورها وقصورها وسائر أبنيتها، حتى تصير كالصحراء الملساء. (وجاء ربك) أي أمر ربك وقضاؤه ومحاسبته، عن الحسن والجبائي. وقيل: جاء أمره الذي لا أمر معه، بخلاف حال الدنيا، عن أبي مسلم. وقيل: جاء جلائل آياته، فجعل مجيئها مجيئه تفخيما لأمرها. وقال بعض المحققين: المعنى وجاء ظهور ربك لضرورة المعرفة به، لأن ظهور المعرفة بالشئ، يقوم مقام ظهوره ورؤيته. ولما صارت المعارف بالله في ذلك اليوم ضرورية، صار ذلك كظهوره
[ 354 ]
وتجليه للخلق. فقيل: جاء ربك أي زالت الشبهة، وارتفع الشك، كما يرتفع عند مجئ الشئ الذي كان يشك فيه، جل وتقدس عن المجئ والذهاب، لقيام البراهين القاهرة، والدلائل الباهرة، على أنه سبحانه ليس بجسم (والملك) أي وتجئ الملائكة (صفا صفا) يريد صفوف الملائكة، وأهل كل سماء صف على حدة، عن عطاء. وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا زلزلوا يوم القيامة، كانوا صفا محيطين بالأرض، وبمن فيها، فيكون سبع صفوف، فذلك قوله (صفا صفا). وقيل: معناه مصطفين كصفوف الناس في الصلاة، يأتي الصف الأول، ثم الصف الثاني، ثم الصف الثالث، ثم على هذا الترتيب، لأن ذلك أشبه بحال الإستواء من التشويش، فالتعديل والتقويم أولى. (وجئ يومئذ بجهنم) أي وأحضرت في ذلك اليوم جهنم ليعاقب بها المستحقون لها، ويرى أهل الموقف هولها وعظم منظرها. وروي مرفوعا عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه ما رأوا من حاله، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا علي ! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. فجاء علي عليه السلام فاحتضنه من خلفه، وقبل بين عاتقيه، ثم قال: يا نبي الله ! بأبي أنت وأمي، ما الذي حدث اليوم ؟ قال: جاء جبرائيل عليه السلام فأقرأني (وجئ يومئذ بجهنم) قال فقلت: كيف يجاء بها ؟ قال: يجئ بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم فتقول: ما لي ولك يا محمد، فقد حرم الله لحمك علي. فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي، وإن محمدا يقول رب أمتي أمتي. ثم قال سبحانه: (يومئذ) يعني يوم يجاء بجهنم (يتذكر الإنسان) أي: يتعظ ويتوب الكافر (وأنى له الذكرى) أي ومن أين له التوبة، عن الزجاج. وقيل: معناه يتذكر الإنسان ما قصر وفرط، إذ يعلم يقينا ما قد توعد به، فكيف ينفعه التذكر. أثبت له التذكر، ثم نفاه بمعنى أنه لا ينتفع به، فكأنه لم يكن، وكان ينبغي له أن يتذكر في وقت ينفعه ذلك فيه. ثم حكى سبحانه ما يقول الكافر والمفرط الجاني على نفسه، ويتمناه بقوله: (يقول يا ليتني قدمت لحياتي) أي يتمنى أن يكون قد كان عمل الطاعات والحسنات، لحياته بعد موته، أو عملها للحياة التي تدوم له، بقوله
[ 355 ]
(يا ليتني قدمت لحياتي) العمل الصالح لآخرتي التي لا موت فيها. ثم قال سبحانه: (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد) أي لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق (ولا يوثق وثاقه أحد) أي وثاق الله أحد من الخلق. فالمعنى: لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق أحد في الدنيا بمثل وثاق الله الكافر يومئذ، وأما القراءة بفتح العين في (يعذب)، و (يوثق): فقد وردت الرواية عن أبي قلابة قال: أقرأني من أقرأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد) والمعنى: لا يعذب أحد تعذيب هذا الكافر، إن قلنا إنه كافر بعينه، أو تعذيب هذا الصنف من الكفار، وهم الذين ذكروا في قوله (لا يكرمون اليتيم) الآيات. وهذا وإن أطلق فالأولى أن يكون المراد التقييد، لأنا نعلم أن إبليس أشد عذابا ووثاقا منه. وقيل: معناه لا يؤاخذ بذنبه غيره، والتقدير: لا يعذب أحد بعذابه، لأنه المستحق بعذابه، ولا يؤاخذ الله أحدا بجرم غيره. (يا أيتها النفس المطمئنة) بالإيمان المؤمنة الموقنة المصدقة بالثواب والبعث، والطمأنينة: حقيقة الإيمان، عن الحسن ومجاهد. وقيل المطمئنة: الآمنة بالبشارة بالجنة عند الموت، ويوم البعث، عن ابن زيد. وقيل النفس المطمئنة: التي يبيض وجهها ويعطى كتابها بيمينها، فحينئذ تطمئن، عن الكلبي وأبي روق. (إرجعي إلى ربك) أي يقال لها عند الموت، عن أبي صالح. وقيل: عند البعث، عن عكرمة، والضحاك: إرجعي إلى ثواب ربك، وما أعده لك من النعيم، عن الحسن. وقيل: إرجعي إلى الموضع الذي يختص الله سبحانه بالأمر والنهي فيه دون خلقه. وقيل: إن المراد إرجعي إلى صاحبك وجسدك، فيكون الخطاب للروح أن ترجع إلى الجسد، عن ابن عباس. (راضية) بثواب الله (مرضية) أعمالها التي عملتها. وقيل: راضية عن الله بما أعد الله لها، مرضية رضي عنها ربها بما عملت من طاعته. وقيل: راضية بقضاء الله في الدنيا، حتى رضي الله عنها، ورضي بأفعالها واعتقادها. (فادخلي في عبادي) أي في زمرة عبادي الصالحين المصطفين الذين رضيت عنهم. وهذه نسبة تشريف وتعظيم (وادخلي جنتي) التي وعدتكم بها، وأعددت نعيمكم فيها. النظم: وجه اتصال قوله (فأما الإنسان) الآية بما قبله فيه قولان أحدهما: إنه يتصل بقوله (إن ربك لبالمرصاد) أي هو بالمرصاد لأعهالهم، لا يخفى عليه شئ
[ 356 ]
من مصالحهم، فإذا أكرم أحدا منهم بنوع من النعم التي هي الصحة والسلام، والمال والبنون، امتحانا واختبارا، ظن ذلك واجبا، وإذا قتر عليه رزقه، ظن ذلك إهانة له. وإنما يفعل سبحانه جميع ذلك للمصالح، عن أبي مسلم. والثاني: إن المعنى بالمرصاد لهم، يتعبدهم بما هو الأصلح لهم، وأنهم يظنون أنه يبتدئ عباده بالإكرام والإهانة، وليس كذلك بل هما مستحقان، ولا يدخل العباد تحت الإستحقاق إلا بعد التكليف. وأما قوله (بل لا تكرمون اليتيم) فوجه اتصاله بما قبله أنه رد عليهم ظنهم أنه ضيق عليهم أرزاقهم على وجه الإهانة، فبين سبحانه أن الإهانة لما ذكره، لا لما قالوه.
[ 357 ]
90 - سورة البلد مكية وآياتها عشرون مكية عشرون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة). أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من كان قراءته في الفريضة (لا أقسم بهذا البلد) كان في الدنيا معروفا أنه من الصالحين، وكان في الآخرة معروفا أن له من الله مكانا، وكان من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين. تفسيرها: لما ختم تلك السورة بذكر النفس المطمئنة، بين في هذه السورة وجه الإطمئنان، وأنه النظر في طريق معرفة الله، وأكد ذلك بالقسم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد وما ولد (3) لقد خلقنا الإنسان في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين (10) فلا اقتحم العقبة (11) وما أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعام في يوم ذى مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18) والذين كفروا بآيتنا هم أصحب المشئمة (19) عليهم نار مؤصدة (20)). القراءة: قرأ أبو جعفر: (لبدا) بالتشديد. والباقون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير
[ 358 ]
وأبو عمرو والكسائي: (فك رقبة أو أطعم) والباقون: (فك رقبة) بالرفع والإضافة (أو إطعام) بالتنوين. وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة غير عاصم: (مؤصدة) بالهمزة. والباقون: بغير همزة، ويعقوب مختلف عنه. وفي الشواذ قراءة الحسن: (في يوم ذا مسغبة). الحجة: لبد: يجوز أن يكون واحدا على وزن زمل وجبأ (1). ويجوز أن يكون جمعا، فيكون جمع لابد. وأما قوله (فك رقبة أو إطعام) فقد قال أبو علي: المعنى فيه، وما أدراك ما اقتحام العقبة، فك رقبة، أو إطعام أي اقتحامها أحد هذين، أو هذا الضرب من فعل القرب. فلو لم تقدره، وتركت الكلام على ظاهره، كان المعنى العقبة فك رقبة، ولا تكون العقبة الفك لأنه عين، والفك حدث. والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى. ومثل هذا قوله (وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة) أي الحطمة نار الله. ومثله: (وما أدراك ما هي نار حامية) وكذلك قوله: (وما أدراك ما القارعة) (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) والمعنى: القارعة يوم يكون الناس، لأن القارعة مصدر، فيكون إسم الزمان خبرا عنه. فهذه الجمل من الإبتداء والخبر تفسير لهذه الأشياء المتقدم ذكرها من اقتحام العقبة، والحطمة، والقارعة، كما أن قوله تعالى: (لهم مغفرة وأجر عظيم) تفسير للوعد. وقوله: (فلا اقتحم العقبة) معناه: فلم يقتحم. وإذا كانت لا بمعنى لم، لم يلزم تكريرها، كما لا يلزم التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو: (فلا صدق ولا صلى) فهو كتكرير لم في قوله (لم يسرفوا ولم يقتروا) وقوله: (ثم كان من الذين آمنوا) أي كان مقتحم العقبة، وفكاك الرقبة، من الذين آمنوا. فإنه إذا لم يكن منهم، لم ينفعه قربه. وجاز وصف اليوم بقوله: (ذي مسغبة) كما جاز أن يقال ليله نائم، ونهاره صائم ونحو ذلك. ومن قرأ (فك رقبة أو أطعم) فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل، تفسيرا لاقتحام العقبة. فإن قلت: إن هذا الضرب لم يفسر بالفعل، وإنما فسر بالإبتداء والخبر كقوله: (نار الله الموقدة) وقوله (نار حامية) فهلا رجحت القراءة الأخرى ؟ قيل: إنه قد يمكن أن يكون (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) تفسيرا لقوله: (وما أدراك ما القارعة) على المعنى. وقد جاء (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) وفسر المثل بقوله: (خلقه من تراب). وزعموا أن أبا (1) الجبأ: الجبان. (*)
[ 359 ]
عمرو احتج بقوله (ثم كان من الذين آمنوا) لقراءة فك رقبة، كأنه لما كان فعلا، وجب أن يكون المعطوف عليه مثله. وقد يجوز أن يكون ذلك كالقطع من الأول والإستئناف كأنه أعلم أن فكاك الرقبة من الرق، بأن كان من الذين آمنوا، لأنه بالإيمان يحرز ثواب ذلك ويحوزه. فإذا لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها، لم ينفع ذلك. والتقدير: ثم كونه من الذين آمنوا. فجاء هذا مجئ قوله سبحانه: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا) يريد. وان شهدوا. وأوصدت الباب وأصدته لغتان. فمن لم يهمز موصدة احتمل أمرين أحدهما أن يكون على لغة من قال: أوصدت والوجه الآخر أن يكون من آصدت، ثم خففت الهمزة، فقلبت واوا، كما جاء في جونة وتووي. ومن همز مؤصدة، فهو من أصدت. وأبو عمرو يترك الهمزة الساكنة، ويبدلها واوا إذا انضم ما قبلها، نحو: يؤمنون، ومؤمنين. ويبدلها ألفا إذا انفتح ما قبلها، وياء إذا انكسر ما قبلها ولا يبدلها في نحو قوله مؤصدة، بل يهمزها لأن مؤصدة بالهمز هي لغة من قال آصدت الباب. والباب مؤصد. وأبو عمرو على هذه اللغة، فلا يترك الهمز إذا احتاج أن يترك لغته، وينتقل عنها إلى لغة أخرى. وكذلك لا يترك الهمز في قوله تؤوي إليك، لأنه لو أبدلها واوا، وبعدها واو، اجتمع واوان، واجتماعهما أثقل من الهمزة. وكذلك إذا كان الفعل مجزوما، ولامها همزة بقاها على حالها، ولا يبدلها بتة نحو قوله: (إن تمسكم حسنة تسؤهم) لأنه لو أبدلها واوا، وجب حذفها بالجزم، كما تقول في يغزو: لم يغز. كذلك (إن يشأ يذهبكم) لا يبدلها ألفا لهذا المعنى أيضا. وكذلك قوله (أثاثا ورئيا) لا يقلبها ياء لأنه يشتبه بالري من روي من الماء. فهذه أربعة أحوال لا يترك الهمز فيها، إذا احتاج إلى ترك لغته، وأن ينتقل إلى لغة أخرى، وإذا كان الهمز في موضع الجزم، وإذا اشتبه المعنى في الكلمة بكلمة أخرى، وإذا كان ترك الهمزة يؤدي إلى اجتماع الواوين، فافهم ذلك. ومن قرأ (ذا مسغبة) جعله مفعول إطعام. ويتيما: بدل منه. ويجوز أن يكون يتيما وصفا لذا مسغبة، كقولك: رأيت كريما عاقلا، وجاز وصف الصفة الذي هو كريم، لأنه لما لم يجر على الإسم الموصوف أشبه الإسم. اللغة: الحل: الحال وهو الساكن. والحل: الحلال. ورجل حل وحلال أي: محل. والكبد في اللغة: شدة الأمر، ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد. ومنه
[ 360 ]
الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد، وتكبد الدم إذا صار كالكبد. قال لبيد: عين هلا بكيت أربد إذ * قمنا، وقام الخصوم، في كبد (1) واللبد: الكثير. مأخوذ من تلبد الشئ إذا تراكب بعضه على بعض. ومنه اللبد يقال ما له سبد ولا لبد (2). وأصل النجد: العلو، وسمي نجد نجدا لعلوه عن انخفاض تهامة. وكل عال من الأرض نجد، والجمع نجود. قال امرؤ القيس: غداة غدوا، فسالك بطن نخلة * وآخر منهم جازع نجد كبكب (3) أراد طريقه في ارتفاع. وكبكب: جبل. وفي المثل: (أنجد من رأى حضنا) (4) ورجل نجد بين النجدة إذا كان جلدا قويا لاستعلائه على قرنه، واستنجدت فلانا فأنجدني أي استعنته للإستعلاء على قرني، فأعانني. وشبه طريق الخير والشر بالطريقين العاليين، لظهور ما فيهما. والإقتحام: الدخول على الشدة بالضيق، يقال: أقتحم وتقحم وأقحمه وقحمه غيره. والعقبة: الطريقة التي ترتقى على صعوبة، ويحتاج فيها إلى معاقبة الشدة بالضيق والمخاطرة. وقيل: العقبة الثنية الضيقة في رأس الجبل، يتعاقبها الناس، فشبهت النفقة في وجوه البر بها، وعاقب الرجل صاحبه إذا صار في موضعه بدلا منه. والفك: فرق يزيد المنع، ويمكن معه أمر لم يكن متمكنا كفك القيد والغل، لأنه يزول به المنع، ويمكن به تصرف لم يمكن قبل، ففك الرقبة فرق بينها وبين حال الرق، بإيجاب الحرية، وإبطال العبودية. والمسغبة: المجاعة. سغب يسغب سغبا فهو ساغب إذا جاع. قال جرير: تعلل وهي ساغبة بنيها * بأنفاس من الشبم القراح (5) (1) يرثي أخاه أربد، وقد هلك على دين الجاهلية. أي: يا عين هلا بكيت.. (اه). (2) السبد: القليل من الشعر. واللبد: الصوف أي لا شعر ولا صوف. يقال لمن لا شئ له. (3) بطن نخلة، ونجد كبكب: موضعان. (4) أنجد أي: بلغ نجدا من رأى هذا الجبل، يضرب في الدليل على الشئ أي: قد ظهر حصول المراد وقربه، (5) علله بطعام وغيره: شغله به. وعللت المرأة صبيها بشئ من المرق ونحوه ليجزأ به عن اللبن، والنفس - محركة - الجرعة، والجمع أنفاس. والشبم: البارد. ويروى أن جريرا لما أنشد عبد الملك هذا البيت قال له: لا أروى الله عيمتها. (*)
[ 361 ]
والمقربة: القرابة. ولا يقال فلان قرابتي، وإنما يقال: ذو قرابتي، لأنه مصدر كما قال الشاعر: يبكي الغريب عليه، ليس يعرفه * وذو قرابته في الحي، مسرور والمتربة: الحاجة الشديدة من قولهم: ترب الرجل إذا افتقر. المعنى: (لا أقسم بهذا البلد) أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة. وقد تقدم بيان قوله (لا أقسم) في سورة القيامة. (وأنت حل بهذا البلد) أي وأنت يا محمد مقيم به، وهو محلك. وهذا تنبيه على شرف البلد، بشرف من حل به من الرسول الداعي إلى توحيده، وإخلاص عبادته، وبيان أن تعظيمه له، وقسمه به، لأجله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكونه حالا فيه، كما سميت المدينة طيبة، لأنها طابت به حيا وميتا. وقيل: معناه وأنت محل بهذا البلد، وهو ضد المحرم. والمراد: وأنت حلال لك قتل من رأيت به من الكفار، وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة، فأحلها الله له صلى الله عليه وآله وسلم حتى قاتل وقتل. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لأحد قبلي، ولا يحل لأحد من بعدي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء. وهذا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يحل له مكة حتى يقاتل فيها، ويفتحها على يده، ويكون بها حلا، يصنع بها ما يريد من القتل والأسر. وقد فعل سبحانه ذلك، فدخلها غلبة وكرها، وقتل ابن أخطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن سبابة وغيرهما. وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حل فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تحترم، فلم يبن للبلد حرمة، حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن عبد الله عليه السلام قال: كانت قريش تعظم البلد، وتستحل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فقال: لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد، يريد أنهم استحلوك فيه، فكذبوك وشتموك، وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه، ويتقلدون لحاء شجر الحرم، فيأمنون بتقليدهم إياه، فاستحلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يستحلوا من غيره، فعاب الله ذلك عليهم. ثم عطف على القسم فقال: (ووالد وما ولد) يعني آدم عليه السلام وذريته، عن الحسن ومجاهد وقتادة. وذلك أنهم خليقة أعجب من هذه الخليقة وهم عمار الدنيا. وقيل: آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء، وأتباعهم، عن أبي عبد الله عليه السلام.
[ 362 ]
وقيل: يريد إبراهيم عليه السلام وولده، عن ابن أبي عمران الجوني. لما أقسم بالبلد أقسم بإبراهيم، فإنه بانيه، وبأولاده العرب إذ هم المخصصون بالبلد. وقيل: يعني كل والد وولده، عن ابن عباس والجبائي. وقيل: ووالد من يولد له، وما ولد يعني العاقر، عن ابن جبير. فيكون ما نفيا، وهو بعيد لأنه يكون تقديره: وما ما ولد فحذف ما الأولى التي تكون موصولة، أو موصوفة. (لقد خلقنا الإنسان في كبد) أي في نصب وشدة، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن قال: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال: ابن آدم لا يزال يكابد أمرا حتى يفارق الدنيا. وقيل: في شدة خلق من حمله وولادته ورضاعه وفطامه ومعاشه وحياته وموته. ثم إنه سبحانه لم يخلق خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو أضعف الخلق. وقيل: في كبد أي قائما على قدميه منتصبا، وكل شئ خلق، فإنه يمشي مكبا، إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا. فالكبد: الإستواء والإستقامة، وهو رواية مقسم، عن ابن عباس، وهو قول مجاهد وأبي صالح وعكرمة، وقيل: يريد شدة الأمر والنهي أي: خلقناه ليعبدنا بالعبادات الشاقة مثل الإغتسال من الجنابة في البرد، والقيام إلى الصلاة من النوم، فينبغي له أن يعلم أن الدنيا دار كبد ومشقة، والجنة دار الراحة والنعمة. (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) معناه: أيظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى، وركب القبائح، فبئس الظن ذلك، وهذا استفهام إنكار أي: لا يظنن ذلك. وقيل: معناه أيحسب هذا المغتر بماله، أن لا يقدر عليه أحد يأخذ ماله، عن الحسن. وقيل: أيحسب أن لا يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه، وفي ماذا أنفقه، عن قتادة. وقيل: إنه يعني أبا الأسد بن كلدة، وهو رجل من جمح، كان قويا شديد الخلق، بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة من تحته، فينقطع، ولا يبرح من مكانه، عن الكلبي. ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال: (يقول أهلكت مالا لبدا) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتخر بذلك. وقيل: هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد، عن مقاتل. (أيحسب أن لم يره أحد) فيطالبه من أين اكتسبه، وفي ماذا أنفقه، عن
[ 363 ]
قتادة، وسعيد بن جبير. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه، وفي ماذا أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن حبنا أهل البيت). وقيل: إنه كان كاذبا لم ينفق ما قاله، فقال الله سبحانه: أيظن أن الله تعالى لم ير ذلك، فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق، عن الكلبي. ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه، ليستدل بها على توحيده، فقال: (ألم نجعل له عينين) ليبصر بهما آثار حكمته (ولسانا وشفتين) لينطق بهما، فيبين باللسان، ويستعين بالشفتين على البيان. قال قتادة: نعم الله عليك متظاهرة فقررك بها كيما تشكر. وروى عبد الحميد المدائني، عن أبي حازم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله تعالى يقول يا بن آدم ! إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين، فأطبق. وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق. وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق). (وهديناه النجدين) أي سبيل الخير، وسبيل الشر، عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: معناه أرشدناه للثديين، عن سعيد بن المسيب والضحاك. وفي رواية أخرى عن ابن عباس. روي أنه قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: إن ناسا يقولون في قوله (وهديناه النجدين) أنهما الثديان ؟ فقال: لا هما الخير والشر. وقال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أيها الناس ! هما نجدان نجد الخير، ونجد الشر. فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير). ولو قيل: كيف يكون نجد الشر مرتفعا كنجد الخير، ومعلوم أنه لا رفعة في الشر ؟ (والجواب): إن الطريقين جميعا ظاهران باديان للمكلفين، فسمى سبحانه كلاهما نجدا لظهوره وبروزه. ويجوز أن يكون سمى طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه الرفعة والشرف، كما يحصل ذلك في طريق الخير. وقيل أيضا إنه على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا على بعض الوجوه، فيجري لفظ أحدهما على الآخر، كقولهم القمرين في الشمس والقمر. قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها، والنجوم الطوالع
[ 364 ]
ونظائره كثيرة (فلا اقتحم العقبة) فيه أقوال أحدها: إن المعنى فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة، ولا جاوزها. وأكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة (لا) كما قال سبحانه. (فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق، ولم يصل. وكما قال الحطيئة: وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها، * وإن أنعموا لا كدروها، ولا كدوا وقد جاء من غير تكرار في نحو قوله: إن تغفر اللهم تغفر جما، * وأي عبد لك، لا ألما (1) أي لم يلم بذنب. والآخر: أن يكون على وجه الدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة كما يقال: لا غفر الله له، ولا نجا، ولا سلم. والمعنى: لا نجا من العقبة، ولا جاوزها والثالث: إن المعنى فهلا اقتحم العقبة، أو أفلا اقتحم العقبة، عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم، قالوا: ويدل على ذلك قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام. قال المرتضى، قدس الله روحه: هذا الوجه ضعيف جدا، لأن الكلام خال من لفظ الإستفهام، وقبيح حذف حرف الإستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله. ثم قالوا: تحبها. قلت: بهرا * عدد الرمل، والحصى، والتراب (2) وأما قولهم: لو أريد النفي لم يتصل الكلام، فليس بشئ، لأن المعنى فلا اقتحم العقبة ثم كان من الذين آمنوا أي: لم يقتحم، ولم يؤمن. وأما المراد بالعقبة ففيه وجوه أحدها: إنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان، في أعمال الخير والبر، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود، فكأنه قال لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهو قوله: (وما أدراك ما العقبة) أي ما اقتحام العقبة. ثم ذكره فقال: (فك رقبة) وهو تخليصها من أسار الرق إلى آخره وثانيها: إنها عقبة حقيقية. قال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار، دون الجسر، (1) ألم: باشر اللمم أي: صغار الذنوب. (2) بهرا أي: بهرني بهرا بمعنى غلبني غلبة. وقيل: بمعنى عجبا. (*)
[ 365 ]
فاقتحموها بطاعة الله، عز وجل. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون، وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة). وعن ابن عباس أنه قال: هي النار نفسها. وروي عنه أيضا أنها عقبة في النار وثالثها: ما روي عن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط يضرب على جهنم، كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف، سهلا وصعودا وهبوطا، وإن في جنبيه كلاليب وخطاطيف (1)، كأنها شوك السعدان، فمن بين مسلم وناج، ومخدوش في النار، منكوس، فمن الناس من يمر عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر عليه كالريح العاصف، ومنهم من يمر عليه كالفارس، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو، ومنهم من يمر عليه كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم الزالون والزالات، ومنهم من يكردس في النار (2)، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقال سفيان بن عيينة: كل شئ قاله سبحانه (وما أدراك) فإنه أخبره به، وكل شئ قال فيه (وما يدريك) فإنه لم يخبره به. وروي مرفوعا عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ! علمني عملا يدخلني الجنة. قال: (إن كنت أقصرت الخطبة، لقد عرضت المسألة. أعتق النسمة، وفك الرقبة. فقال: أو ليسا واحدا ؟ قال: لا. عتق النسمة أن تنفرد بعتقها. وفك الرقبة أن تعين في ثمنها. والفئ على ذي الرحم الظالم، فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وائمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير). وقيل: إن معنى فك رقبة أن يفك رقبة من الذنوب بالتوبة، عن عكرمة. وقيل: أراد فك نفسه من العقاب بتحمل الطاعات عن الجبائي. (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي ذي مجاعة. قال ابن عباس: يريد بالمسغبة الجوع. وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أشبع جائعا في يوم سغب، أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة، لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل). وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من (1) الخطاطيف جمع الخطاف: حديدة معوجة اختطف بها الشئ. والكلاليب جمع الكلوب وهو بمعناه أيضا. (2) رجل مكردس: جمعت يداه ورجلاه، فشدت فألقي إلى موضع. (*)
[ 366 ]
موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان). وروي عن محمد بن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي ابنا شديد العلة، قال: مره يتصدق بالقبضة من الطعام بعد القبضة، فإن الله تعالى يقول (فلا اقتحم العقبة) وقرأ الآيات. (يتيما ذا مقربة) أي ذا قربى من قرابة النسب والرحم. وهذا حث على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام والإنعام. (أو مسكينا) أي فقيرا (ذا متربة) قد لصق بالتراب من شدة فقره وضره. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: هو المطروح في التراب، لا يقيه شئ. وهذا مثل قولهم: فقير مدقع، مأخوذ من الدقعاء وهو التراب. ثم بين سبحانه أن هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال: (ثم كان من الذين آمنوا) أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم. (وتواصوا بالصبر) على فرائض الله، والصبر عن معصية الله أي وصى بعضهم بعضا بذلك. (وتواصوا بالمرحمة) أي وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة على أهل الفقر، وذوي المسكنة والفاقة. وقيل: تواصوا بالمرحمة فيما بينهم، فرحموا الناس كلهم. (أولئك أصحاب الميمنة) يؤخذ بهم ناحية اليمين، ويأخذون كتبهم بأيمانهم، عن الجبائي. وقيل: هم أصحاب اليمن والبركة على أنفسهم، عن الحسن وأبي مسلم. (والذين كفروا بآياتنا) أي بحججنا ودلالاتنا، وكذبوا أنبياءنا (هم أصحاب المشئمة) أي يأخذون كتبهم بشمالهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وقيل: إنهم أصحاب الشؤم على أنفسهم (عليهم نار مؤصدة) أي مطبقة، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: يعني أن أبوابها عليهم مطبقة، فلا يفتح لهم باب، ولا يخرج عنها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد، عن مقاتل. النظم: وجه اتصال قوله سبحانه (ألم نجعل له عينين) بما قبله أن المعنى كيف يحسب هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه، وهو الذي خلقه، وجعل له عينين وكذا وكذا. وقيل: إنه اتصل بقوله (لقد خلقنا الإنسان في كبد) أي اختبرناه حيث كلفناه. ثم أزحنا علته بأن جعلنا له عينين. وقيل: إنه يتصل بقوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) والمعنى: كيف يظن ذلك، وقد خلقناه، وخلقنا أعضاءه التي يبصر الدلائل بها، ويتكلم بها.
[ 367 ]
91 - سورة الشمس مكية وآياتها خمس عشرة عدد آياتها: ست عشرة آية مكي والمدني الأول، وخمس عشرة في الباقين. اختلافها: آية فعقروها مكي والمدني الأول. فضلها: أبي بن كعب، عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأها فكأنما تصدق بكل شئ طلعت عليه الشمس والقمر). معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أكثر قراءة (والشمس وضحاها)، (والليل إذا يغشى)، والضحى، وألم نشرح في يومه أو في ليلته، لم يبق شئ بحضرته إلا شهد له يوم القيامة حتى شعره وبشره ولحمه ودمه وعروقه وعصبه وعظامه، وجميع ما أقلت الأرض منه، ويقول الرب تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، وأجزتها له، انطلقوا به إلى جناني، حتى يتخير منها حيث أحب، فأعطوه إياها من غير من مني، ولكن رحمة وفضلا مني عليه، فهنيئا هنيئا لعبدي. تفسيرها: لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر النار المؤصدة، بين في هذه السورة أن النجاة منها لمن زكى نفسه، وأكده بأن أقسم عليه، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم (والشمس وضحاها (1) والقمر إذا تلاها (2) والنهار إذا جلاها (3) والليل إذا يغشاها (4) والسماء وما بناها (5) والأرض وما طحاها (6) ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10) كذبت ثمود بطغواها (11) إذ انبعث أشقاها (12) فقال لهم رسول الله ناقة
[ 368 ]
الله وسقاها (13) فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها (14) ولا يخاف عقبيها (15)). القراءة: قرأ أهل المدينة، وابن عامر: (فلا يخاف) بالفاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. والباقون: (ولا يخاف) بالواو، وكذلك هو في مصاحفهم. الحجة: قال أبو علي: الواو يجوز أن يكون في موضع حال أي: فسواها غير خائف عقباها، يعني غير خائف أن يتعقب عليه في شئ مما فعله، وفاعل (يخاف) الضمير العائد إلى قوله (ربهم). وقيل: إن الضمير يعود إلى صالح النبي الذي أرسل إليهم. وقيل: إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها أي لا يخاف من إقدامه على ما أتاه مما نهي عنه. ففاعل (يخاف) العاقر على هذا، والفاء للعطف على قوله (فكذبوه فعقروها) فلا يخاف كأنه يتبع تكذيبهم وعقرهم إن لم يخوفوا. اللغة: ضحى الشمس: صدر وقت طلوعها. وضحى النهار: صدر وقت كونه. وأضحى يفعل كذا إذا فعله في وقت الضحى. وضحى بكبش أو غيره إذا ذبحه في وقت الضحى من أيام الأضحى، ثم كثر ذلك حتى لو ذبح في غير ذلك الوقت لقيل ضحى. والطحو والدحو بمعنى. يقال: طحا بك همك يطحو طحوا إذا انبسط بك إلى مذهب بعيد. قال علقمة: (طحا بك قلب في الحسان ظروب) (1) يقال: طحا القوم بعضهم بعضا عن الشئ: إذا دفعوا دفعا شديد الإنبساط. والطواحي: النسور تنبسط حول القتلى. وأصل الطحو البسط الواسع، يقال: دسا فلان يدسو دسوا، فهو داس، نقيض زكا يزكو زكا فهو زاك. وقيل: إن أصل دسا دس، فأبدل من أحد السينين ياء، كما قالوا تظنيت بمعنى تظننت، ومثله: (تقضي البازي إذا البازي كسر) (2) بمعنى تقضض. وإنما يفعلون ذلك كراهية التضعيف. والطغوى والطغيان: مجاوزة الحد في الفساد، وبلوغ غايته. وفي قراءة الحسن وحماد بن مسلمة: (بطغواها) بضم الطاء. وعلى هذا فيكون مصدرا على فعلى كالرجعى (1) هذا صدر بيت، وبعده: (بعيد الشباب عصر حان مشيب). (2) هذا عجز بيت للعجاج، وصدره: (إذا الكرام ابتدروا الباع بدر) وقد مر في الكتاب أيضا وقوله: (كسر) أي: كسر جناحيه لشدة طيرانه. (*)
[ 369 ]
والحسنى. وبعث: مطاوع انبعث يقال: بعثته على الأمر فانبعث له. والسقيا: الحظ من الماء والنصيب منه. والعقر: قطع اللحم بما يسيل الدم، وهو من عقر الحوض أي أصله. والعقر: نقص شئ من أصل بنية الحيوان. والدمدمة: ترديد الحال المستكره، وهي مضاعفة ما فيه الشقة. وقال مؤرج: الدمدمة هلاك باستئصال. قال ابن الأعرابي: دمدم أي عذب عذابا تاما. الاعراب: (والشمس) هذه الواو الأولى هي التي للقسم، وسائر الواوات فيما بعدها عطف عليها، إلى قوله (قد أفلح من زكاها)، وهو جواب القسم، والتقدير: لقد أفلح. وقوله وما بناها وما طحاها وما سواها ما: ههنا مصدرية، وتقديره والسماء وبنائها، والأرض وطحواها، ونفس وتسويتها. وقيل: إن (ما) في هذه المواضع بمعنى من أي والذي بناها. ويحكى عن أهل الحجاز أنهم يقولون إذا سمعوا صوت الرعد: سبحان ما سبحت له أي: سبحان الذي سبحت له، ومن سبحت له. وقوله (ناقة الله وسقياها). منصوب بفعل مضمر أي: احذروا ناقة الله، وذروا سقياها. المعنى: (والشمس وضحاها) قد تقدم أن لله سبحانه أن يقسم بما يشاء من خلقه تنبيها على عظيم قدره، وكثرة الإنتفاع به. ولما كان قوام العالم من الحيوان والنبات، بطلوع الشمس وغروبها، أقسم الله سبحانه بها وبضحاها، وهو امتداد ضوئها وانبساطه، عن مجاهد والكلبي. وقيل: هو النهار كله، عن قتادة. وقيل: حرها، عن مقاتل، كقوله تعالى في طه (ولا تضحى) أي لا يؤذيك حرها. (والقمر إذا تلاها) أي إذا اتبعها فأخذ من ضوئها، وسار خلفها، قالوا: وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة، وخلفها في النور. وقيل: تلاها ليلة الهلال، وهي أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس، رؤي القمر عند غيبوبتها، عن الحسن. وقيل: في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس. وقيل: في الشهر كله فهو في النصف الأول يتلوها، وتكون أمامه وهو وراؤها. وفي النصف الأخير يتلو غروبها بالطلوع. (والنهار إذا جلاها) أي جلى الظلمة، وكشفها وجازت الكناية عن الظلمة، ولم تذكر، لأن المعنى معروف غير ملتبس. وقيل: إن معناه والنهار إذا أظهر الشمس، وأبرزها. سمي النهار مجليا لها لظهور جرمها فيه. (والليل إذا يغشاها)
[ 370 ]
أي يغشى الشمس حتى تغيب، فتظلم الآفاق، ويلبسها سواده. (والسماء وما بناها) أي: ومن بناها، عن مجاهد والكلبي. وقيل: والذي بناها، عن عطاء. وقيل: معناه والسماء وبنائها مع إحكامها واتساقها وانتظامها. (والأرض وما طحاها) في ما وجهان كما ذكرناه أي وطحوها وتسطيحها، وبسطها، ليمكن الخلق التصرف عليها. (ونفس وما سواها) هو كما ذكرناه. وسواها: عدل خلقها، وسوى أعضاءها. وقيل سواها بالعقل الذي فضل به سائر الحيوان. ثم قالوا: يريد جميع ما خلق من الجن والإنس، عن عطاء. وقيل: يريد بالنفس آدم، ومن سواها الله تعالى، عن الحسن. (فألهمها فجورها وتقواها) أي عرفها طريق الفجور والتقوى، وزهدها في الفجور، ورغبها في التقوى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: علمها الطاعة والمعصية لتفعل الطاعة، وتذر المعصية، وتجتني الخير، وتجتنب الشر (قد أفلح من زكاها) على هذا وقع القسم أي: قد أفلح من زكى نفسه، عن الحسن وقتادة. أي طهرها وأصلحها بطاعة الله، وصالح الأعمال. (وقد خاب من دساها) بالعمل الطالح أي: أخملها وأخفى محلها. وقيل: أضلها وأهلكها، عن ابن عباس. وقيل: أفجرها، عن قتادة. وقيل: معناه قد أفلحت نفس زكاها الله، وخابت نفس دساها الله أي: جعلها قليلة خسيسة. وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال: كان رسول الله إذا قرأ هذه الآية (قد أفلح من زكاها) وقف ثم قال: (اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وزكها وأنت خير من زكاها). وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام في قوله (فألهمها فجورها وتقواها) قال: بين لها ما تأتي، وما تترك. وفي قوله (قد أفلح من زكاها) قال: قد أفلح من أطاع (وقد خاب من دساها) قال: قد خاب من عصى. وقال ثعلب: قد أفلح من زكى نفسه بالصدقة والخير، وخاب من دس نفسه في أهل الخير، وليس منهم. ثم أخبر سبحانه عن ثمود وقوم صالح فقال (كذبت ثمود بطغواها) أي: بطغيانها ومعصيتها، عن مجاهد وابن زيد، يعني أن الطغيان حملهم على التكذيب. فالطغوى اسم من الطغيان، كما أن الدعوى من الدعاء. وقيل: إن الطغوى إسم العذاب الذي نزل بهم. فالمعنى: كذبت ثمود بعذابها عن ابن عباس. وهذا كما
[ 371 ]
قال: فأهلكوا بالطاغية. والمراد كذبت بعذابها الطاغية، فأتاها ما كذبت به (إذ انبعث أشقاها) أي كان تكذيبها حين انبعث أشقى ثمود للعقر. ومعنى انبعث: انتدب وقام، والأشقى: عاقر الناقة، وهو أشقى الأولين على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واسمه قدار بن سالف. قال الشاعر، وهو عدي بن زيد: فمن يهدي أخا لذناب لو * فأرشوه فإن الله جار ولكن أهلكت لو كثيرا، * وقبل اليوم عالجها قدار يعني حين نزل بها العذاب فقال: لو فعلت. وقد صحت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام: من أشقى الأولين ؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين ؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه - وأشار إلى يافوخه -. وعن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب عليه السلام في غزوة العسرة نائمين في صور (1) من النخل، ودقعاء من التراب، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فقال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك بالسيف يا علي على هذه - ووضع يده على قرنه - حتى تبل منها هذه - وأخذ بلحيته - وقيل: إن عاقر الناقة كان أشقر أزرق قصيرا ملتزق الحلق. (فقال لهم رسول الله) صالح (ناقة الله) قال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير فهو نصب والتقدير، احذروا ناقة الله، فلا تعقروها، عن الكلبي ومقاتل. كما يقال الأسد الأسد أي إحذروه (وسقياها) أي وشربها من الماء، أو ما يسقيها أي: فلا تزاحموها فيه، كما قال سبحانه: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم). (فكذبوه) أي فكذب قوم صالح صالحا، ولم يلتفتوا إلى قوله وتحذيره إياهم بالعذاب بعقرها، (فعقروها) أي فقتلوا الناقة (فدمدم عليهم ربهم) أي فدمر عليهم ربهم، عن عطاء ومقاتل. وقيل: أطبق عليهم بالعذاب وأهلكهم (بذنبهم) لأنهم رضوا جميعا به، وحثوا عليه، وكانوا قد اقترحوا تلك الآية، فاستحقوا بما ارتكبوه من العصيان والطغيان عذاب الإستئصال. (1) الصور: المجتمع من النخل. والدقعاء: التراب الدقيق على وجه الأرض. (*)
[ 372 ]
(فسواها) أي فسوى الدمدمة عليهم، وعمهم بها، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم، ولم يفلت منها أحد منهم. وقيل: معناه سوى الأمة أي: أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها، فسوى بينها فيه، عن الفراء. وقيل: جعل بعضها على مقدار بعض في الإندكاك واللصوق بالأرض، فالتسوية تصيير الشئ على مقدار غيره. وقيل: سوى أرضهم عليهم (ولا يخاف عقباها) أي لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والجبائي والمعنى: لا يخاف أن يتعقب عليه في شئ من فعله، فلا يخاف عقبى ما فعل بهم، من الدمدمة عليهم، لأن أحدا لا يقدر على معارضته، والإنتقام منه. وهذا كقوله: (لا يسأل عما يفعل) وقيل: معناه لا يخاف الذي عقرها عقباها، عن الضحاك والسدي والكلبي. أي لا يخاف عقبى ما صنع بها، لأنه كان مكذبا بصالح. وقيل: معناه ولا يخاف صالح عاقبة ما خوفهم به من العقوبات، لأنه كان على ثقة من نجاته.
[ 373 ]
92 - سورة الليل مكية وآياتها إحدى وعشرون مكية، إحدى وعشرون آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأها أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر، ويسر له اليسر). تفسيرها: لما قدم في تلك السورة بيان حال المؤمن والكافر، عقبه سبحانه بمثل ذلك في هذه السورة، فاتصلت بها اتصال النظير بالنظر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (واليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق الذكر والأنثى (3) إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغنى عنه ماله إذا تردى (11) إن علينا للهدى (12) وإن لنا للأخرة والأولى (13) فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصلاها إلا الأشقى (15) الذى كذب وتولى (16) وسيجنبها الأتقى (17) الذى يؤتى ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21)). القراءة: في الشواذ قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة علي بن أبي طالب عليه السلام، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وابن عباس: (والنهار إذا تجلى وخلق الذكر والأنثى) بغير ما. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
[ 374 ]
الحجة: قال ابن جني: في هذه القراءة شاهد لما أخبرنا به أبو بكر، عن أبي العباس أحمد بن يحيى قراءة بعضهم (وما خلق الذكر والأنثى) بالجر، وذلك أنه جره لكونه بدلا من (ما) فقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد بصحة ذلك. اللغة: شتى أي: متفرق على تباعد ما بين الشيئين جدا، ومنه شتان أي: بعد ما بينهما كبعد ما بين الثرى والثريا. وتشتت أمر القوم، وشتتهم رب الزمان. واليسرى: تأنيث الأيسر. والعسرى: تأنيث الأعسر من اليسر والعسر. والتلظي: تلهب النار بشدة الإيقاد. وتلظت النار تتلظى. فحذف إحدى التاءين تخفيفا. وقرأ ابن كثير: تلظى بتشديد التاء أدغم إحدى التاءين في الأخرى. والتجنب: تصيير الشئ في جانب من غيره. الاعراب: (وما خلق الذكر والأنثى): إن جعلت (ما) مصدرية فهو في موضع الجر والتقدير: وخلق الذكر أي: وخلقه الذكر والأنثى. وإن جعلتها بمعنى من فكذلك. و (الحسنى): صفة حذف موصوفها أي: وصدق بالخصلة الحسنى. وكذا اليسرى والعسرى. التقدير فيهما للطريقة اليسرى وللطريقة العسرى. و (يتزكى): في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون منصوب الموضع، أو مرفوعا على تقدير حذف أن أي: لأن يتزكى، فحذف اللام فصار أن يتزكى. ثم حذف أن أيضا كما في قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري، أحضر الوغى، * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (1) روي أحضر بالرفع والنصب (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) من نعمة: الجار والمجرور في موضع رفع، ومن مزيدة لتأكيد النفي، وإفادة العموم. و (تجزى): جملة مجرورة الموضع لكونها صفة لنعمة، والتقدير: من نعمة مجزية. وإن شئت كانت مرفوعة الموضع على محل كونه (من نعمة) والتقدير: وما لأحد عنده نعمة مجزية. و (ابتغاء): منصوب لأنه مفعول له، والعامل فيه (يؤتي) أي: وما يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه أي لطلب ثواب ربه، ولم يفعل ذلك مجازاة ليد قد أسديت إليه. المعنى: (والليل إذا يغشى) أقسم الله سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار. (1) الوغى: الحرب. وقد مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 375 ]
وقيل: إذا يغشى بظلمته الأفق، وجميع ما بين السماء والأرض. والمعنى: إذا أظلم، وادلهم، وأغشى الأنام بالظلام، لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالإستعظام. (والنهار إذا تجلى) أي: بان وظهر من بين الظلمة، وفيه أعظم النعم إذ لو كان الدهر كله ظلاما، لما أمكن الخلق طلب معايشهم، ولو كان ذلك كله ضياء، لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم، فلذلك كرر سبحانه ذكر الليل والنهار في السورتين، لعظم قدرهما في باب الدلالة على مواقع حكمته (وما خلق الذكر والأنثى) أي والذي خلق، عن الحسن والكلبي. وعلى هذا يكون (ما) بمعنى من. وقيل: معناه خلق الذكر والأنثى، عن مقاتل. قال مقاتل والكلبي: الذكر والأنثى آدم وحواء عليهما السلام. وقيل: أراد كل ذكر وأنثى من الناس وغيرهم. (إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم، والمعنى: إن أعمالكم لمختلفة، فعمل للجنة، وعمل للنار، عن ابن عباس. وقيل: إن سعيكم لمتفرق، فساع في فكاك رقبته، وساع في هلاكه، وساع للدنيا، وساع للعقبى. وروى الواحدي بالإسناد المتصل المرفوع عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا كانت له نخلة، فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار، وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة، حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في في أحدهم، أدخل أصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذهب. ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب النخلة فقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة، فقال له الرجل: إن لي نخلا كثيرا، وما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل. فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها ؟ قال: نعم. فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، فساومها منه، فقال له: أشعرت أن محمدا أعطاني بها نخلة في الجنة، فقلت له: يعجبني تمرتها، وإن لي نخلا كثيرا، فما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها ؟ فقال: لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطي. قال: فما مناك ؟ قال أربعون نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ؟ ! ثم سكت عنه. فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة.
[ 376 ]
فقال له: أشهد إن كنت صادقا. فمر إلى أناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ! إن النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك ولعيالك. فأنزل الله تعالى (والليل إذا يغشى) السورة. وعن عطاء قال اسم الرجل أبو الدحداح. (فأما من أعطى واتقى) هو أبو الدحداح وأما من بخل واستغنى، وهو صاحب النخلة. وقوله: (لا يصلاها إلا الأشقى) وهو صاحب النخلة، وسيجنبها الأتقى هو أبو الدحداح، ولسوف يرضى إذا دخل الجنة. قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر بذلك الحش (1) وعذوقه دانية، فيقول: عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة. وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبي بكر، لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة، وغيرهما، وأعتقهم. والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها، في كل من يعطي حق الله من ماله، وكل من يمنع حقه سبحانه. وروى العياشي ذلك بإسناده عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السلام قال: فأما من أعطى مما آتاه الله، واتقي، وصدق بالحسنى أي بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى كثير من ذلك. وفي رواية أخرى إلى مائة ألف، فما زاد. فسنيسره لليسرى. قال: لا يريد شيئا من الخير إلا يسره الله له. وأما من بخل بما آتاه الله، واستغنى، وكذب بالحسنى بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى أكثر من ذلك، وفي رواية أخرى إلى مائة ألف، فما زاد، فسنيسره للعسرى. قال: لا يريد شيئا من الشر إلا يسره الله له. قال: ثم قال أبو جعفر عليه السلام. وما يغني عنه ماله إذا تردى. أما والله ما تردى من جبل، ولا تردى من حائط، ولا تردى في بئر، ولكن تردى في نار جهنم. فعلى هذا يكون قوله: (وصدق بالحسنى) معناه بالعدة الحسنى. وهو قول ابن عباس وقتادة وعكرمة. وقيل: بالجنة التي هي ثواب المحسنين، عن الحسن ومجاهد والجبائي. وقوله (فسنيسره لليسرى) معناه: فسنهون عليه الطاعة مرة بعد مرة. وقيل: معناه سنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى أي: سنسهل عليه فعل الطاعة حتى يقوم إليها بجد وطيب نفس. وقيل: معناه سنيسره للخصلة اليسرى، والحالة (1) الحش: النخل الناقص القصير. (*)
[ 377 ]
اليسرى، وهو دخول الجنة، واستقبال الملائكة إياه بالتحية والبشرى. وقوله: (وأما من بخل) أي ضن بماله الذي لا يبقى له، وبخل بحق الله فيه. (واستغنى) أي التمس الغنى بذلك المنع لنفسه. وقيل: معناه أنه عمل عمل من هو مستغن عن الله، وعن رحمته (وكذب بالحسنى) أي بالجنة والثواب وبالوعد والخلف (فسنيسره للعسرى) هو على مزاوجة الكلام، والمراد به التمكين أي: نخلي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة. (وما يغني عنه ماله إذا تردى) أي سقط في النار، عن قتادة وأبي صالح. وقيل: إذا مات وهلك، عن مجاهد. وقيل للحسن: إن فلانا جمع مالا. فقال: هل جمع لذلك عمرا ؟ قالوا: لا. قال: فما تصنع الموتى بالأموال. (إن علينا للهدى) معناه: إن علينا لبيان الهدى بالدلالة عليه. فأما الإهتداء فإليكم. أخبر سبحانه أن الهدى واجب عليه، ولو جاز الإضلال عليه لما وجب الهداية. قال قتادة: معناه إن علينا بيان الطاعة والمعصية. (وإن لنا للآخرة والأولى) وإن لنا ملك الآخرة، وملك الأولى. فلا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى، ولا ينقص منه عصيان من عصى، ولو نشاء لمنعناهم عن ذلك قسرا وجبرا، ولكن التكليف اقتضى أن نمنعهم بيانا وأمرا وزجرا. ثم خوف سبحانه العادل عن الهدى فقال: (فأنذرتكم نارا تلظى) أي خوفتكم نارا تتلهب، وتتوهج وتتوقد (لا يصلاها) أي لا يدخل تلك النار، ولا يلزمها (إلا الأشقى) وهو الكافر بالله (الذي كذب) بآيات الله ورسله (وتولى) أي: أعرض عن الإيمان (وسيجنبها) أي سيجنب النار، ويجعل منها على جانب (الأتقى) المبالغ في التقوى (الذي يؤتي ماله) أي ينفقه في سبيل الله (يتزكى) يطلب أن يكون عند الله زكيا، لا يطلب بذلك رياء، ولا سمعة. قال القاضي: قوله (لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى) لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر على ما يقوله الخوارج، وبعض المرجئة، وذلك لأنه نكر النار المذكورة، ولم يعرفها. فالمراد بذلك أن نارا من جملة النيران، لا يصلاها إلا من هذه حاله. والنيران دركات على ما بينه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين، فمن أين عرف أن غير هذه النار لا يصلاها قوم آخرون. وبعد فإن الظاهر من الآية، يوجب أن لا يدخل النار إلا من كذب وتولى، وجمع بين الأمرين، فلا بد للقوم من القول بخلافه، لأنهم يوجبون النار، لمن يتولى عن كثير من الواجبات، وإن لم يكذب. وقيل: إن الأتقى
[ 378 ]
والأشقى المراد بهما التقي والشقي، كما قال طرفة: تمنى رجال أن أموت، وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد أراد بواحد، ثم وصف سبحانه الأتقى فقال: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) أي ولم يفعل الأتقى ما فعله من إيتاء المال، وإنفاقه في سبيل الله، ليد أسديت إليه يكافئ عليها، ولا ليد يتخذها عند أحد من الخلق. (إلا ابتغاه وجه ربه الأعلى) أي ولكنه فعل ما فعل، يبتغي به وجه الله ورضاه وثوابه. وإنما ذكر الوجه طلبا لشرف الذكر. والمعنى: إلا الله، ولابتغاء ثواب الله (ولسوف يرضى) أي: ولسوف يعطيه الله من الجزاء والثواب، ما يرضى به، فإنه يعطيه كل ما تمنى، ولم يخطر بباله، فيرضى به لا محالة.
[ 379 ]
93 - سورة الضحى مكية وآياتها إحدى عشرة إحدى عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. (ومن قرأها كان ممن يرضاه الله، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع له، وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل). تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بأن الأتقى يعطيه من الثواب ما به يرضى، وافتتح هذه السورة بأنه يرضي نبيه، بما يؤتيه يوم القيامة، من الكرامة والزلفى فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) وللأخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5) ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8) فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث (11)). القراءة: في الشواذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعروة بن الزبير: (ما ودعك) بالتخفيف. والقراءة المشهورة بالتشديد. وعن أشهب العقيلي: (فأوى) بغير مد. وعن ابن أبي السميقع: (عيلا) بالتشديد. وعن النخعي والشعبي: (فلا تكهر) بالكاف. وكذلك هو في مصحف عبد الله. الحجة: قال ابن جني: ودع بالتخفيف يقل استعماله. وقال سيبويه: استغنوا عن وذر وودع بقولهم ترك، وأنشد أبو علي ذلك في شعر أبي الأسود قوله:
[ 380 ]
ليت شعري عن خليلي ما الذي * غاله في الحب حتى ودعه وأما قوله (فأوى) فإنه من أويته أي رحمته. وأما (عيلا) فإنه فيعل من العيلة، وهي الفقر، وهو مثل العائل، ومعناهما ذو العيلة من غير جدة، يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا كثر عياله وافتقر. قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه، * وما يدري الغني متى يعيل أي متى يفتقر. وأما (الكهر) فهو مثل القهر. والعرب قد تعاقب بين القاف والكاف. وفي حديث معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة قال: ما كهرني، ولا ضربني. اللغة: السجو: السكون، يقال: سجى يسجو إذا هدئ وسكن. وطرف ساج، وبحر ساج. قال الأعشى: فما ذنبنا إذ جاشع بحر ابن عمكم، 8 وبحرك ساج لا يواري الدعامصا (1) وقال الآخر: يا حبذا القمراء، والليل الساج، * وطرق مثل ملاء النساج (2) والقلى: البغض، إذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحت مددت. قال: عليك سلام لا مللت قريبة * ومالك عندي إن نأيت قلاء ونهره وانتهره بمعنى، وهو أن يصيح في وجه السائل الطالب للرفد. الاعراب: (وما قلى) أي وما قلاك، وكذلك قوله (فآوى) فأغنى تقديره فآواك فأغناك فالمفعول في هذه الآي محذوف. وقال (ولسوف يعطيك) ولم يقل ويعطينك، وإن كان جواب القسم لأن النون إنما تدخل لتؤذن بأن اللام لام القسم، لا لام الإبتداء. وقد حصل ههنا العلم بأن هذه اللام للقسم، لا للإبتداء لدخوله على سوف، ولام الإبتداء لا تدخل على سوف، لأن سوف تختص بالأفعال، ولام الإبتداء (1) جاش البحر: هاج فلم يستطع ركوبه. والدعامص: جمع الدعموص، وهي دويبة تغوص في الماء. والبيت من قصيدة علقمة بن علاثة في قصة طويلة. وأراد بابن عمه: عامر بن الطفيل. (2) ليلة قمراء: مقمرة مضيئة. والملاء: الريطة. يريد التي ليس فيها ارتفاع وانخفاض. (*)
[ 381 ]
إنما تدخل على الأسماء. (فأما اليتيم فلا تقهر) تقديره فمهما يكن من شئ، فلا تقهر اليتيم. ثم أقيم أما مقام الشرط، فحصل أما فلا تقهر اليتيم، ثم قدم المفعول على الفاء، كراهة لأن تكون الفاء التي من شأنها أن تكون متبعة شيئا فشيئا في أول الكلام، وإن كثر تجتمع في اللفظ مع أما، فتكون على خلاف أصول كلامهم، وكذلك (أما بنعمة ربك فحدث). النزول: قال ابن عباس: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوما، فقال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة. وقيل: إنما احتبس الوحي اثني عشر يوما، عن ابن جريج. وقيل: أربعين يوما، عن مقاتل. وقيل: إن المسلمين قالوا: ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله ؟ فقال: وكيف ينزل علي الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم (1)، ولا تقلمون أظفاركم ؟ ولما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبرائيل عليه السلام: ما جئت حتى اشتقت إليك ! فقال جبرائيل عليه السلام: وأنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور، وما نتنزل إلا بأمر ربك. وقيل: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعن الروح فقال: سأخبركم غدا. ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام، فاغتم لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسلية لقلبه. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمي بحجر في إصبعه، فقال: (هل أنت إلا إصبع رميت، وفي سبيل الله ما لقيت) فمكث ليلتين، أو ثلاثا لا يوحى إليه. فقالت له أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب: يا محمد ! ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين، أو ثلاث ! فنزلت السورة. المعنى: (والضحى) أقسم سبحانه بنور النهار كله من قولهم ضحى فلان للشمس إذا ظهر لها. ويدل عليه قوله في مقابلته: (والليل إذا سجى) أي سكن واستقر ظلامه. وقيل: إن المراد بالضحى أول ساعة من النهار. وقيل: صدر النهار، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار في الحر والبرد في الشتاء والصيف. وقيل: معناه ورب الضحى، ورب الليل إذا سجى، عن الجبائي. وقيل: إذا سجى أي غطى بالظلمة كل شئ، عن عطاء والضحاك. وقيل: إذا أقبل (1) البراجم: العقد التي تكون في ظهور الأصابع، يجتمع فيها الوسخ. (*)
[ 382 ]
ظلامه، عن الحسن (ما ودعك ربك وما قلى) هذا جواب القسم ومعناه: وما تركك يا محمد ربك، وما قطع عنك الوحي توديعا لك، وما قلاك أي: ما أبغضك منذ اصطفاك. (وللآخرة خير لك من الأولى) يعني أن ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها، خير لك من الدنيا الفانية، والكون فيها. وقيل: إن له صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة ألف ألف قصر من اللؤلؤ، ترابه من المسك، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم، وما يشتهي على أتم الوصف، عن ابن عباس. وقيل: معناه ولآخر عمرك الذي بقي، خير لك من أوله، لما يكون فيه من الفتوح والنصرة. (ولسوف يعطيك ربك فترضى) معناه: وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض، وسائر أنواع الكرامة فيك، وفي أمتك، ما ترضى به، وروى حرب بن شريح، عن محمد بن علي بن الحنفية أنه قال: يا أهل العراق ! تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز وجل (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الآية، وإنا أهل البيت عليهم السلام نقول: أرجى آية في كتاب الله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وهي والله الشفاعة، ليعطينها في أهل لا إله إلا الله، حتى يقول: رب رضيت. وعن الصادق عليه السلام قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام، وعليها كساء من ثلة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أبصرها، فقال: يا بنتاه ! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله علي: (ولسوف يعطيك ربك فترضى). وقال زيد بن علي: إن من رضا رسول الله أن يدخل أهل بيته الجنة. وقال الصادق عليه السلام: رضا جدي أن لا يبقى في النار موحد. ثم عدد سبحانه عليه نعمه في دار الدنيا فقال: (ألم يجدك يتيما فآوى) قيل في معناه قولان أحدهما: إنه تقرير لنعمة الله عليه حين مات أبوه، وبقي يتيما فآواه الله بأن سخر له أولا عبد المطلب، ثم لما مات عبد المطلب قيض له (1) أبا طالب، وسخره للإشفاق عليه، وحببه إليه حتى كان أحب إليه من أولاده، فكفله ورباه. واليتيم من لا أب له، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات أبوه، وهو في بطن أمه. وقيل: إنه مات بعد ولادته بمدة قليلة، وماتت أمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن سنتين، ومات جده وهو ابن (1) قيض الله فلانا لفلان: جاءه به وأتاحه له. (*)
[ 383 ]
ثماني سنين، فسلمه إلى أبي طالب عليه السلام، لأنه كان أخا عبد الله لأمه، فأحسن تربيته. وسئل الصادق عليه السلام: لم أوتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبويه، فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق والآخر: أن يكون المعنى ألم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك وفضلك، فآواك إلى نفسه، واختصك برسالته من قولهم: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل. قال: لا، ولا درة يتيمة بحر * تتلألأ في جؤبة البياع (1) وقيل: فآواك أي جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما، وكفيلا للأنام بعد أن كنت مكفولا، عن الماوردي. ثم ذكر نعمة أخرى فقال (ووجدك ضالا فهدى) قيل في معناه أقوال أحدها: وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من النبوة والشريعة أي: كنت غافلا عنهما، فهداك إليهما، عن الحسن والضحاك والجبائي. ونظيره (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وقوله: (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). وثانيها: إن المعنى وجدك متحيرا لا تعرف وجوه معاشك، فهداك إلى وجوه معاشك، فإن الرجل إذا لم يهتد طريق مكسبه، ووجه معيشته يقال إنه ضال لا يدري إلى أين يذهب، ومن أي وجه يكتسب، عن أبي مسلم. وفي الحديث: (نصرت بالرعب، وجعل رزقي في ظل رمحي) يعني الجهاد. وثالثها: إن المعنى وجدك لا تعرف الحق، فهداك إليه بإتمام العقل، ونصب الأدلة، والإلطاف حتى عرفت الله بصفاته بين قوم ضلال مشركين، وذلك من نعم الله سبحانه عليك رابعها: وجدك ضالا في شعاب مكة، فهداك إلى جدك عبد المطلب، فروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم ضل في شعاب مكة، وهو صغير، فرآه أبو جهل، ورده إلى جده عبد المطلب، فمن الله سبحانه بذلك عليه، إذ رده إلى جده على يد عدوه، عن ابن عباس. وخامسها: ما روي أن حليمة بنت أبي ذؤيب، لما أرضعته مدة، وقضت حق الرضاع، ثم أرادت رده على جده، جاءت به حتى قربت من مكة، فضل في الطريق، فطلبته جزعة، وكانت تقول: إن لم أره لأرمين نفسي من شاهق، وجعلت (1) الجؤبة: سلة مستديرة مغشاة أدما يجعل فيها الطيب والثياب. (*)
[ 384 ]
تصيح: وامحمداه ! قالت: فدخلت مكة على تلك الحال، فرأيت شيخا متوكئا على عصا، فسألني عن حالي، فأخبرته فقال: لا تبكين فأنا أدلك على من يرده عليك. فأشار إلى هبل صنمهم الأكبر، ودخل البيت فطاف بهبل، وقبل رأسه، وقال: يا سيداه لم تزل منتك جسيمة، رد محمدا على هذه السعدية، قال: فتساقطت الأصنام لما تفوه باسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسمع صوت: إن هلاكنا على يدي محمد. فخرج وأسنانه تصطك وخرجت إلى عبد المطلب، وأخبرته بالحال. فخرج فطاف بالبيت، ودعا الله سبحانه، فنودي وأشعر بمكانه. فأقبل عبد المطلب، وتلقاه ورقة بن نوفل في الطريق، فبينما هما يسيران إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم تحت شجرة، يجذب الأغصان، ويلعب بالورق. فقال عبد المطلب: فداك نفسي وحمله ورده إلى مكة عن كعب. وسادسها: ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء، جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبرائيل عليه السلام فنفخ إبليس نفخة، رفع بها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمن الله عليه بذلك، عن سعيد بن المسيب. وسابعها: إن المعنى وجدك مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقك، فهداهم إلى معرفتك، وأرشدهم إلى فضلك، والإعتراف بصدقك، والمراد: إنك كنت خاملا لا تذكر، ولا تعرف، فعرفك الله الناس حتى عرفوك وعظموك. (ووجدك عائلا) أي فقيرا لا مال لك (فأغنى) أي فأغناك بمال خديجة، والغنائم. وقيل: فأغناك بالقناعة، ورضاك بما أعطاك، عن مقاتل، واختاره الفراء، قال: لم يكن غنيا عن كثرة المال، لكن الله سبحانه أرضاه بما آتاه من الرزق، وذلك حقيقة الغنى. وروى العياشي بإسناده، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، في قوله (ألم يجدك يتيما فآوى) قال: فردا لا مثل لك في المخلوقين، فآوى الناس إليك، ووجدك ضالا أي: ضالة في قوم لا يعرفون فضلك، فهداهم إليك، ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم، فأغناهم بك. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من علي ربي، وهو أهل المن). وقد طعن بعض الملحدين فقال: كيف يحسن الإمتنان بالإنعام، وهل يكون هذا من فعل الكرام ؟ والجواب: إن المن إنما يقبح من المنعم إذا أراد به الغض من المنعم عليه والأذى له. فأما من أراد التذكير لشكر نعمته، والترغيب فيه، ليستحق الشاكر المزيد، فإنه في غاية الحسن. ولأن من كمال الجواد، وتمام
[ 385 ]
الكرم، تعريف المنعم عليه. أنه إنما أنعم عليه ليسأل جميع ما يحتاج إليه، فيعطى. ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال: (فأما اليتيم فلا تقهر) أي فلا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى، عن الفراء والزجاج. وقيل: معناه لا تحتقر اليتيم، فقد كنت يتيما، عن مجاهد. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحسن إلى اليتامى ويبرهم ويوصي بهم. وجاء في الحديث عن أبي أوفى قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه غلام فقال: غلام يتيم، وأخت لي يتيمة، وأم لي أرملة، أطعمنا مما أطعمك الله، أعطاك الله مما عنده حتى ترضى. قال: ما أحسن ما قلت يا غلام، إذهب يا بلال فائتنا بما كان عندنا. فجاء بواحدة وعشرين تمرة فقال: سبع لك، وسبع لأختك، وسبع لأمك. فقام إليه معاذ بن جبل، فمسح رأسه وقال: جبر الله يتمك، وجعلك خلفا من أبيك، وكان من أبناء المهاجرين. فقال رسول الله صلى اللع عليه وآله وسلم: (رأيتك يا معاذ وما صنعت. قال: رحمته. قال: لا يلي أحد منكم يتيما، فيحسن ولايته، ووضع يده على رأسه، إلا كتب الله له بكل شعرة حسنة، ومحا عنه بكل شعرة سيئة، ورفع له بكل شعرة درجة). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مسح على رأس يتيم، كان له لكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل) - وأشار بالسبابة والوسطى -. وعن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي ! من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب ؟ فتقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي ! فإني أشهدكم أن لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة). وكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه، وأعطاه شيئا. (وأما السائل فلا تنهر) أي لا تنهر السائل، ولا ترده إذا أتاك يسألك، فقد كنت فقيرا، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردا لينا. وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتاك سائل على فرس، باسط كفيه، فقد وجب له الحق، ولو بشق تمرة). قال أبو مسلم: يريد كما أعطاك الله ورحمك، وأنت عائل، فاعط سائلك وارحمه. وقال الجبائي: المراد بها جميع المكلفين، وإن كان
[ 386 ]
الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: إن المراد بالسائل طالب العلم، وهو متصل بقوله (ووجدك ضالا فهدى) عن الحسن، والمعنى: علم من يسألك كما علمك الله الشرائع، وكنت بها غير عالم. (وأما بنعمة ربك فحدث) معناه: اذكر نعمة الله وأظهرها، وحدث بها. وفي الحديث: (من لم يشكر الناس، لم يشكر الله، ومن لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، والتحدث بنعمة الله لشكر وتركه كفر). وقيل: يريد بالنعمة القرآن، عن الكلبي قال: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرأه. وقيل: بالنبوة التي أعطاك ربك، عن مجاهد، واختاره الزجاج قال: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاكها الله، وهي أجل النعم. وقيل: معناه اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة. قال الصادق عليه السلام معناه: فحدث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك. النظم: وجه اتصال قوله (وللآخرة خير لك من الأولى) بما قبله أن في قوله: (ما ودعك ربك وما قلى) إثباتا لمحبته سبحانه إياه، وإنعامه عليه، فاتصل هذا أيضا به. والتقدير ليس الأمر كما قالوه، بل الوحي يأتيك ما عمرت، وتدوم محبتي لك، وما أعطيتك في الآخرة من الشرف، ورفعة المنزلة، خير مما أعطيتك اليوم، فإذا حسدوك على ذا، فكيف بهم إذا رأوا ذلك. وأما اتصال قوله (ألم يجدك) بما قبله، فوجهه أنه اتصال ذكر النعم بذكر المنعم، والتقدير: إنه سبحانه سينعم عليك في مستقبل أمرك، كما أنعم عليك في الماضي من أمرك.
[ 387 ]
94 - سورة الشرح مكية وآياتها ثمان مكية وهي ثماني آيات بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مغتما ففرج عنه). وروى أصحابنا أن الضحى، وألم نشرح، سورة واحدة لتعلق إحداهما بالأخرى، ولم يفصلوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وجمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة، وكذلك القول في سورة ألم تر كيف ولإيلاف قريش. والسياق يدل على ذلك لأنه قال (ألم يجدك يتيما فآوى) إلى آخرها. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم (ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذى أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)). اللغة: الشرح: فتح الشئ بإذهاب ما يصد عن إدراكه. وأصل الشرح: التوسعة ويعبر عن السرور بسعة القلب وشرحه، وعن الهم بضيق القلب، لأنه يورث ذلك. والوزر: الثقل في اللغة، ومنه اشتق اسم الوزير، لتحمله أثقال الملك، وإنما سميت الذنوب أوزارا، لما يستحق عليها من العقاب العظيم. والأنقاض: الأثقال التي كان ينتقض بها ما حمل عليه. والنقض والهدم واحد. ونقض المذهب: إبطاله بما يفسده. وبعير نقض سفر: إذا أثقله السفر. والنصب: التعب. وأنصبه الهم: فهو منصب. قال الشاعر: (تعناك هم من أميمة منصب)، وهم ناصب ذو
[ 388 ]
نصب. قال النابغة: (كليني لهم يا أميمة ناصب) (1). المعنى: ثم أتم سبحانه تعداد نعمه على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ألم نشرح لك صدرك) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أساله. قلت: أي رب ! إنه قد كان أنبياء قبلي، منهم من سخرت له الريح، ومنهم من كان يحي الموتى. قال فقال: (ألم أجدك يتيما فآويتك) قال: قلت بلى. قال: ألم أجدك ضالا فهديتك قال: (قلت بلى، أي رب). قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك قال: قلت بلى أي رب. والمعنى ألم نفتح لك صدرك، ونوسع قلبك بالنبوة والعلم، حتى قمت بأداء الرسالة، وصبرت على المكاره، واحتمال الأذى، واطمأننت إلى الإيمان، فلم تضق به ذرعا، ومنه تشريح اللحم، لأنه فتحه بترقيقه، فشرح سبحانه صدره بأن ملأه علما وحكمة، ورزقه حفظ القرآن، وشرائع الإسلام، ومن عليه بالصبر والإحتمال. وقيل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان قد ضاق صدره بمعاداة الجن والإنس إياه، ومناصبتهم له، فآتاه من الآيات ما اتسع به صدره، بكل ما حمله الله إياه، وأمره به، وذلك من أعظم النعم، عن البلخي. وقيل: معناه ألم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق. وعن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل: يا رسول الله أينشرح الصدر ؟ قال: نعم. قالوا: يا رسول الله ! وهل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الموت. ومعنى الإستفهام في الآية التقرير أي: قد فعلنا ذلك، ويدل عليه قوله في العطف عليه: (ووضعنا عنك وزرك) أي وحططنا عنك وزرك. (الذي أنقض ظهرك) أي أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت، عن الزجاج قال: وهذا مثل معناه أنه لو كان حملا لسمع نقيض ظهره. وقيل: إن المراد به تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها، سهل الله ذلك عليه، حتى تيسر له، ومن عليه بذلك، عن أبي عبيدة، وعبد العزيز بن يحيى. وقيل: معناه وأزلنا عنك همومك التي أثقلتك من أذى الكفار، فشبه الهموم بالحمل، والعرب (1) وعجزه: (وليل اقاسيه بطئ الكواكب) والشعر في (جامع الشواهد). (*)
[ 389 ]
تجعل الهم ثقلا، عن أبي مسلم. وقيل: معناه وعصمناك عن احتمال الوزر، فإن المقصود من الوضع أن لا يكون عليه ثقل، فإذا عصم كان أبلغ في أن لا يكون. قال المرتضى، قدس الله روحه: إنما سميت الذنوب بأنها أوزار، لأنها تثقل كاسبها وحاملها، فكل شئ أثقل الإنسان وغمه وكده، جاز أن يسمى وزرا، فلا يمتنع أن يكون الوزر في الآية إنما أراد به غمه صلى الله عليه وآله وسلم بما كان عليه قومه من الشرك، وأنه وأصحابه بينهم مقهور مستضعف. فلما أعلى الله كلمته، وشرح صدره، وبسط يده، خاطبه بهذا الخطاب، تذكيرا له بمواقع النعمة، ليقابله بالشكر. ويؤيده ما بعده من الآيات، فإن اليسر بإزالة الهموم أشبه، والعسر بإزالة الشدائد والغموم أشبه. فإن قيل: إن السورة مكية، نزلت قبل أن يعلي الله كلمة الإسلام، فلا وجه لقولكم ؟ قلنا: إنه سبحانه لما بشره بأن يعلي دينه على الدين كله، ويظهره على أعدائه، كان بذلك واضعا عنه ثقل غمه، بما كان يلحقه من أذى قومه، ومبدلا عسره يسرا، فإنه يثق بأن وعد الله حق. ويجوز أيضا أن يكون اللفظ، وإن كان ماضيا، فالمراد به الإستقبال كقوله (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار)، (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) ولهذا نظائر كثيرة. (ورفعنا لك ذكرك) أي قرنا ذكرك بذكرنا، حتى لا أذكر إلا وتذكر معي يعني، في الأذان والإقامة، والتشهد والخطبة على المنابر، عن الحسن وغيره. قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة، إلا وينادي بأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية قال: قال لي جبرائيل: قال الله عز وجل. إذا ذكرت ذكرت معي) وفي هذا يقول حسان بن ثابت، يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهور يلوح، ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد وشق له من إسمه ليجله * فذو العرش محمود، وهذا محمد ثم وعد سبحانه اليسر والرخاء بعد الشدة، وذلك أنه كان بمكة في شدة قال: (فإن مع العسر يسرا) أي مع الفقر سعة، عن الكلبي. وقيل: معناه إن مع الشدة التي أنت فيها من مزاولة المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك الله عليهم، حتى ينقادوا
[ 390 ]
للحق الذي جئتهم به، طوعا أو كرها، ثم كرر ذلك فقال: (إن مع العسر يسرا) روى عطاء عن ابن عباس قال: يقول الله تعالى: (خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، فلن يغلب عسر يسرين). وعن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما مسرورا فرحا، وهو يضحك، ويقول: (لن يغلب عسر يسرين): (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا). قال الفراء: إن العرب تقول: إذا ذكرت نكرة، ثم أعدتها نكرة مثلها، صارتا اثنتين، كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما، فالثاني غير الأول، فإذا أعدتها معرفة فهي هي كقولك إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول، ونحو هذا ما قال الزجاج: إنه ذكر العسر مع الألف واللام، ثم ثنى ذكره، فصار المعنى إن مع العسر يسرين. وقال صاحب كتاب النظم في تفسير هذه الآية إن الله بعث نبيه، وهو مقل مخف، وكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له: إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى، جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة. فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وظن أن قومه إنما يكذبوه لفقره، فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه بذلك، عما خامره من الهم، فقال: (فإن مع العسر يسرا) وتأويله: لا يحزنك ما يقولون، وما أنت فيه من الإقلال، فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا. ثم أنجز ما وعده فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز. وما والاها من القرى العربية، وعامة بلاد اليمن. فكان يعطي المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنته. ثم ابتدأ فصلا آخر فقال: (إن مع العسر يسرا) والدليل على ابتدائه تعريه من فاء وواو، وهو وعد لجميع المؤمنين، لأنه يعني بذلك أن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران: يسر الدنيا، وهو ما ذكر في الآية الأولى، ويسر الآخرة، وهو ما ذكر في الآية الثانية. فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لن يغلب عسر يسرين أي: يسر الدنيا والآخرة. فالعسر بين يسرين إما فرج الدنيا، وإما ثواب الآخرة. وهذا الذي ذكره الجرجاني، يؤيد ما ذهب إليه المرتضى، قدس الله روحه، من أن القائل إذا قال شيئا، ثم كرره، فإن الظاهر من تغاير الكلامين، تغاير مقتضاهما، حتى يكون كل واحد منهما، مفيدا لما لا يفيده الآخر، فيجب مع الإطلاق حمل الثاني على غير مقتضى الأول، إلا إذا كان بين المتخاطبين عهد أو دلالة يعلم المخاطب بذلك، أن المخاطب أراد بكلامه الثاني الأول، فيحمله على ذلك، وأنشد أبو بكر الأنباري:
[ 391 ]
إذا بلغ العسر مجهوده، * فثق عند ذاك بيسر سريع ألم تر نحس الشتاء الفظي * ع، يتلوه سعد الربيع البديع وأنشد إسحاق بن بهلول القاضي: فلا تيأس، وإن أعسرت يوما، * فقد أيسرت في دهر طويل ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالجميل فإن العسر يتبعه يسار، * وقول الله أصدق كل قيل (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) معناه: فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة يعطك، عن مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل والكلبي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام. ومعنى انصب. من النصب وهو التعب أي: لا تشتغل بالراحة. وقال الزهري: إذا فرغت من الفرائض، فادع بعد التشهد بكل حاجتك. وقال الصادق عليه السلام: هو الدعاء في دبر الصلاة، وأنت جالس. وقيل: معناه فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، عن ابن مسعود. وقيل: معناه فإذا فرغت من دنياك، فانصب في عبادة ربك وصل، عن مجاهد والجبائي. وقيل: فإذا فرغت من الفرائض فانصب فيما رغبك الله فيه من الأعمال، وصل عن ابن عباس. وقيل: إذا فرغت من جهاد أعدائك، فانصب بالعبادة لله، عن الحسن وابن زيد. وقيل: فإذا فرغت من جهاد الأعداء، فانصب بجهاد نفسك. وقيل: إذا فرغت من أداء الرسالة، فانصب لطلب الشفاعة. وسئل علي بن طلحة عن هذه الآية فقال: القول فيه كثير، وقد سمعنا أنه يقال: إذا صححت فاجعل صحتك وفراغك نصبا في العبادة. ويدل على هذا ما روي أن شريحا مر برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، إنما قال الله سبحانه (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) أي فارفع حوائجك إلى ربك، ولا ترفعها إلى أحد من خلقه. وقال عطاء: يريد تضرع إليه راهبا من النار، وراغبا إلى الجنة.
[ 392 ]
95 - سورة التين مكية وآياتها ثمان مكية المعدل عن ابن عباس مدنية ثماني آيات بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأها أعطاه الله خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم). وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب والتين والزيتون فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه. رواه أبو مسلم في الصحيح. وروى شعيب العقر قوفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ والتين في فرائضه ونوافله، أعطي من الجنة حيث يرضى. تفسيرها: أمر الله سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة تلك السورة، وافتتح هذه السورة بذكر أنه الخالق المستحق للعبادة، بعد أن أقسم عليه، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) لقد خلقنا الإنسن في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (6) فما يكذبك بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم الحكمين (8)). اللغة: التقويم: تصيير الشئ على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل، يقال قومه فاستقام وتقوم. المعنى: (والتين والزيتون) أقسم الله سبحانه بالتين الذي يؤكل، والزيتون
[ 393 ]
الذي يعصر منه الزيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة، وهو الظاهر. وإنما أقسم بالتين، لأنه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص، وفيه أعظم عبرة، لأنه عز اسمه جعلها على مقدار اللقمة، وهيأها على تلك الصفة، إنعاما على عباده بها. وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في التين: (لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة، لقلت هذه هي لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس). وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة، وهو أدام. والتين طعام فيه منافع كثيرة. وقيل: التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، عن قتادة. وقال عكرمة: هما جبلان، وإنما سميا بهما لأنهما ينبتان بهما. وقيل: التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس، عن كعب الأحبار، وعبد الرحمن بن غنيم، وابن زيد. وقيل: التين مسجد نوح الذي بني على الجودي، والزيتون بيت المقدس، عن ابن عباس. وقيل: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، عن الضحاك. (وطور سينين) يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى، عن الحسن، وسينين وسيناء واحد. وقيل: إن سينين معناه المبارك الحسن، وكأنه قيل جبل الخير الكثير، لأنه إضافة تعريف، عن مجاهد وقتادة. وقيل: معناه كثير النبات والشجر، عن عكرمة. وقيل: إن كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء بلغة النبط، عن مقاتل. قال عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب: والتين والزيتون، وطور سيناء. قال: فظننت أنه إنما قرأها ليعلم حرمة البلد، وروي ذلك عن موسى بن جعفر عليه السلام أيضا. (وهذا البلد الأمين) يعني مكة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام، فالأمين يعني المؤمن من يدخله. وقيل بمعنى الأمن، ويؤيده قوله: (إنا جعلنا حرما آمنا) قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم، ويحك، أنني * حلفت يمينا لا أخون أميني (1) يريد آمني (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) هذا جواب القسم وأراد جنس الإنسان، وهو آدم وذريته، خلقهم الله في أحسن صورة، عن إبراهيم ومجاهد وقتادة. وقيل: في أحسن تقويم أي: منتصب القامة، وسائر الحيوان مكب على (1) قوله: يا أسم، مرخم يا أسماء. (*)
[ 394 ]
وجهه إلا الإنسان، عن ابن عباس وقيل: أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم، واعتدال في جوارحهم، وأبانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير، إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان. وفي ذلك إشارة أيضا إلى حال الشباب. (ثم رددناه أسفل سافلين) يريد إلى الخرف، وأرذل العمر، والهرم، ونقصان العقل. والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا، عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة. وقيل: معناه ثم رددناه إلى النار، عن الحسن ومجاهد وابن زيد والجبائي. والمعنى إلى أسفل الأسفلين، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض، وعلى هذا فالمراد به الكفار أي: خلقناهم في أحسن خلقة أحرارا عقلاء مكلفين، فكفروا فرددناهم إلى النار في أقبح صورة. ثم استثنى فقال: (إلا الذين آمنوا) أي صدقوا بالله. (وعملوا الصالحات) أي أخلصوا العبادة لله، وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة، فإن هؤلاء لا يردون إلى النار. ومن قال بالقول الأول قال: إن المؤمن لا يرد إلى الخرف، وإن عمر عمرا طويلا. قال إبراهيم: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه عن العمل، كتب له ما كان يعمل، وهو قوله: (فلهم أجر غير ممنون) وقال عكرمة: من رد منهم إلى أرذل العمر، كتب له صالح ما كان يعمل في شبابه، وذلك أجر غير ممنون، وعن ابن عباس قال: ومن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، وذلك قوله: (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال إلا الذين قرأوا القرآن. وفي الحديث عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه، ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة إليه فيما يجب، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكان اسمه أسير الله في الأرض، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا، كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحته من الخير، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه). وأقول: إن صح الخبر، فإنما لا تكتب عليه السيئة لزوال عقله، ونقصان
[ 395 ]
تمييزه في ذلك الوقت، وقوله (غير ممنون) أي غير منقوص. وقيل: غير مقطوع، عن أبي مسلم. وقيل: غير محسوب، عن مجاهد. وقيل: غير مكدر بما يؤذي ويغم، عن الجبائي. (فما يكذبك بعد بالدين) معناه: أي شئ يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء والحساب، عن الحسن وعكرمة وأبي مسلم. والمراد: ما يحملك على أن لا تتفكر في صوتك، وشبابك، وهرمك، فتعتبر وتقول: إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ويجازيني بعملي، فيكون قوله (فما يكذبك) يعني به: ما الذي يجعلك تكذب. وقيل: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الإسلام، عن مجاهد وقتادة، أي لا شئ يكذبك (أليس الله بأحكم الحكمين) هذا تقرير للإنسان على الإعتراف بأنه تعالى أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله، وانه لا خلل في شئ منها، ولا اضطراب، فكيف يترك هذه الخلائق، ويهملهم فلا يجازيهم. وقيل: معناه أليس الله بأقضى القاضين، فيحكم بينك يا محمد، وبين أهل التكذيب بك، عن مقاتل. وقال قتادة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ختم هذه السورة قال: (بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين). النظم: اتصل قوله (أليس الله بأحكم الحاكمين) بما قبله من ذكر الدين والجزاء على سبيل التنبيه على الإعادة. فإن الحكيم إذا كلف وأمر ونهى، وخلى بين الظالم والمظلوم، فلا بد من المجازاة والإنصاف والانتصاف. فإذا لم يكن ذلك في الدنيا، فلا بد من البعث، فإن أحكم الحاكمين لا يجوز عليه الإخلال بما ذكرناه.
[ 396 ]
96 - سورة العلق مكية وآياتها تسع عشرة عدد آيها: عشرون آية حجازي وتسع عشرة عراقي وثماني عشرة شامي. اختلافها: آيتان الذي ينهى غير الشامي، لئن لم ينته حجازي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأها فكأنما قرأ المفصل كله). محمد بن حسان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ في يومه أو في ليلته (إقرأ باسم ربك) ثم مات في يومه، أو في ليلته، مات شهيدا، وبعثه الله شهيدا، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر اسمه، وافتتح هذه السورة باسمه أيضا فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (اقرأ باسم ربك الذى خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذى علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رأه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8) أرأيت الذى ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16) فليدع نادية (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)). اللغة: العلق: جمع علقة، وهي القطعة الجامدة من الدم التي تعلق لرطوبتها
[ 397 ]
بما تمر به، فإذا جفت لا تسمى علقة. والعلق: ضرب من الدود أسود، لأنه يعلق على العضو فيمتص منه الدم. والرجعى الرجوع والمرجع واحد. والسفع: الجذب الشديد، يقال: سفعت بالشئ إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. وسفعته النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تشويه. ومنه الحديث. (ليصيبن أقواما سفع من النار) أي تشويه خلقة. والناصية: شعر مقدم الرأس، سميت بذلك لأنها متصلة بالرأس من قولهم ناصى يناصي مناصاة إذا وصل. قال الراجز: (قي تناصيها بلاد قي) (1). النادي: مجلس أهل النادي، ثم كثر فسمي كل مجلس ناديا، وواحد الزبانية: زبينة، عن أبي عبيدة، وزبنى، عن الكسائي، وزابن، عن الأخفش. أخذ من الزبن وهو الدفع. والناقة تزبن الحالب أي تركضه برجلها. قال الشاعر: ومستعجب مما يرى من أنائنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم (2) الاعراب: (خلق الإنسان من علق). تخصيص بعد تعميم، ألا ترى أن قوله خلق الإنسان بعد قوله (خلق) خصوص بعد عموم، فهو مثل قوله (يؤمنون بالغيب)، ثم قال: (وبالآخرة هم يوقنون) فخصص الآخرة بعد ذكر الغيب الذي هو عام لكل ما غاب عنا، وعكسه قول لبيد: وهم العشيرة أن يبطئ حاسد * أو أن يلوم بحاجة لوامها (3) ألا ترى أن اللوم أعم من التبطئة، لأن التبطئة نسبة قوم إلى البطء، فهذا بعض اللوم. وقوله: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) الضمير المستكن في رآه، عائد إلى الضمير المستكن في يطغى. والهاء في رآه عائد إلى الضمير المستكن فيه. وإنما جاز أن يعود الضمير المنصوب إلى ضمير الفاعل في باب علمت وأخواتها، من غير ذكر النفس لدخول هذه الأفعال على المبتدأ والخبر. والخبر هو نفس المبتدأ، فتقول علمتني وحسبتني أفعل كذا. ولا يجوز في غيرها إلا بواسطة النفس، تقول: ضربت نفسي، ولا تقول ضربتني. و (أن رآه): في محل نصب لأنه مفعول له. (1) هذا عجز بيت للعجاج، وصدره: (وبلدة نياطها نطي). والقي: القفر. (2) ترمرم: حرك فاه بالكلام. (3) البيت من معلقته الشهيرة، وقوله: (أن يبطئ) أي: كراهية أن يبطئ، وكذا قوله (وأن يلوم) وفي رواية الزوزني (أو أن يعمل مع العدو لئامها). (*)
[ 398 ]
و (استغنى): جملة في موضع النصب لكونها مفعولة ثانية لرآه. والتقدير لأن رآه مستغنيا. (ناصية) بدل من الناصية أي بناصية كاذبة خاطئة، ومعناه: بناصية صاحبها كاذب خاطئ، يقال: فلان نهاره صائم، وليله قائم، أي هو صائم في نهاره، وقائم في ليله. (فليدع ناديه) أي أهل ناديه، فحذف المضاف. والنون في (لنسفعن). نون التأكيد الخفيفة والإختيار عند البصريين أن تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. واختار الكوفيون أن تكتب بالنون، لأنها نون في الحقيقة. المعنى: (إقرأ باسم ربك) هذا أمر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ باسم ربه، وأن يدعوه بأسمائه الحسنى، وفي تعظيم الإسم تعظيم المسمى، لأن الإسم ذكر المسمى بما يخصه فلا سبيل إلى تعظيمه إلا بمعناه. ولهذا لا يعظم اسم الله حق تعظيمه إلا من هو عارف به، ومعتقد عبادته، ولهذا قال سبحانه: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)، وقال: (سبح اسم ربك الأعلى) فالباء هنا زائدة، والتقدير: اقرأ اسم ربك. وأكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وأول يوم نزل جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قائم على حراء، علمه خمس آيات من أول هذه السورة. وقيل: أول ما نزل من القرآن قوله: (يا أيها المدثر) وقد مر ذكره. وقيل: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب. رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت: ما يفعل الله بك إلا خيرا. فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهو ابن عم خديجة، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه يا محمد ! قل له ذلك. فقال له: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني) يعني ورقة. وروي أن ورقة قال في ذلك:
[ 399 ]
فإن يك حقا يا خديجة، فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه، وميكال معهما * من الله وحي، يشرح الصدر منزل يفوز به من فاز عزا لدينه، * ويشقى به الغاوي الشقي المضلل فريقان: منهم فرقة في جنانه، * وأخرى بأغلال الجحيم تغلغل ثم وصف سبحانه ربه، وبينه بفعله الدال عليه فقال: (الذي خلق) أي خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته، وأخرجه من العدم إلى الوجود بكمال قدرته، ثم خص الإنسان بالذكر تشريفا له، وتنبيها على إبانته إياه عن سائر الحيوان فقال: (خلق الإنسان من علق) أراد به جنس بني آدم أي: خلقهم من دم جامد بعد النطفة. وقيل: معناه خلق آدم من طين يعلق باليد، والأول أصح. وفي هذا إشارة إلى بيان النعمة بأن خلقه من الأصل الذي هو في الغاية القصوى من المهانة. ثم بلغ به مبالغ الكمال، حتى صار بشرا سويا مهيئا للنطق والتمييز، مفرغا في قالب الإعتدال، وأنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال، حتى استكمل، كذلك ينقلك من الجهالة إلى درجة النبوة والرسالة، حتى تستكمل شرف محلها. ثم أكد الأمر بالإعادة فقال: (إقرأ) وقيل: أمره في الأول بالقراءة لنفسه، وفي الثاني بالقراءة للتبليغ، وليس بتكرار، عن الجبائي، ومعناه إقرأ القرآن (وربك الأكرم) أي الأعظم كرما، فلا يبلغه كرم كريم، لأنه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره، فكل نعمة توجد من جهته تعالى إما بأن اخترعها، وإما سببها، وسهل الطريق إليها، وقيل: معناه بلغ قومك وربك الأكرم الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه، ويقويك ويعينك على حفظ القرآن (الذي علم بالقلم) أي علم الكاتب أن يكتب بالقلم، أو علم الإنسان البيان بالقلم، أو علم الكتابة بالقلم. امتن سبحانه على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم، لما في ذلك من كثرة الإنتفاع فيما يتعلق بالدين والدنيا. قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة، لولاه لم يقم دين، ولم يصلح عيش. وقال بعضهم في وصفه: لعاب الأفاعي القاتلات، لعابه * وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (1) (1) الأري: العسل. اشتارته: استخرجته. وعواسل جمع عاسلة. والعاسل: مستخرج العسل. والبيت لأبي تمام الطائي يصف القلم من قصيدة يمدح بها ابن الزيات. قال الشريف المرتضى (ره) في أماليه: وأجمع العلماء أن هذه الأبيات أحسن وأفخم من جميع ما قيل في = (*)
[ 400 ]
وقيل: أراد سبحانه آدم، لأنه أول من كتب عن كعب. وقيل: أول من كتب إدريس، عن الضحاك. وقيل: أراد كل نبي كتب بالقلم، لأنه ما علمه إلا بتعليم الله إياه. (علم الإنسان ما لم يعلم) من أنواع الهدى والبيان، وأمور الدين والشرائع والأحكام. فجميع ما يعلمه الإنسان من جهته سبحانه، إما بأن اضطره إليه، وإما بأن نصب الدليل عليه في عقله، وإما بأن بينه له على ألسنة ملائكته ورسله، فكل العلوم على هذا مضاف إليه. وفي هذا دلالة على أنه سبحانه عالم، لأن العلم لا يقع إلا من عالم (كلا) أي حقا (إن الإنسان ليطغى) أي يتجاوز حده، ويستكبر على ربه، ويعدو طوره (أن رآه استغنى) أي لأن رآه نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته وأمواله وقوته، كأنه قال: إنما يطغى من رأى أنه مستغن عن ربه، لا من كان غنيا. قال قتادة: كان إذا أصاب مالا، زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه، فذلك طغيانه. وقيل: إنها نزلت في أبي جهل هشام من هنا إلى آخر السورة. (إن إلى ربك الرجعى) أي إلى الله مرجع كل أحد أي: فهذا الطاغي كيف يطغى بماله، ويعصي ربه، ورجوعه إليه، وهو قادر على إهلاكه، وعلى مجازاته إذا رجع إليه. (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) هذا تقرير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلام له بما يفعله بمن ينهاه عن الصلاة. فقد جاء في الحديث أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فقيل له: ها هو ذلك يصلي. فانطلق ليطأ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقالوا: مالك يا أبا الحكم ؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة. وقال نبي الله: (والذي نفسي بيده، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا). فأنزل الله سبحانه: (أرأيت الذي ينهى) إلى آخرة السورة. رواه مسلم في الصحيح. ومعنى الآية: أرأيت يا محمد من منع من الصلاة، ونهى من يصلي عنها، ماذا يكون جزاؤه، وما يكون حاله عند الله تعالى، وما الذي يستحقه من العذاب. فحذف لدلالة الكلام عليه، والآية عامة في كل من ينهى عن الصلاة والخير. وروي عن علي عليه السلام أنه خرج في يوم عيد، فرأى ناسا يصلون فقال: يا أيها الناس ! قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم، فلم يكن أحد يصلي قبل العيد، أو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا تنهى = القلم، ثم ذكرها في (ج 1: 536 - 537 من الأمالي). (*)
[ 401 ]
أن يصلوا قبل خروج الإمام ؟ فقال: لا أريد أن أنهى عبدا إذا صلى، ولكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو كما قال. ومعنى أرأيت ههنا تعجيب للمخاطب. ثم كرر هذه اللفظة تأكيدا في التعجيب فقال: (أرأيت إن كان على الهدى) يعني العبد المنهي، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أو أمر بالتقوى) يعني بالإخلاص والتوحيد، ومخافة الله تعالى. وههنا حذف أيضا تقديره كيف يكون حال من ينهاه عن الصلاة، ويزجره عنها. ثم قال: (أرأيت إن كذب) أبو جهل (وتولى) عن الإيمان، وأعرض عن قبوله والإصغاء إليه (ألم يعلم بأن الله يرى) ما يفعله، ويعلم ما يصنعه، والتقدير: أرأيت الذي فعل هذا الفعل ما الذي يستحق بذلك من الله تعالى من العقاب. وقيل: إن تقدير نظم الآية: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى، وهو على الهدى، آمر بالتقوى. والناهي كاذب مكذب متول عن الإيمان، فما أعجب هذا. ثم هدده بقوله: ألم يعلم هذا المكذب فإن لم يعلم فليعلم بأن الله يرى هذا الصنيع الشنيع، فيؤاخذه به. وفي هذا إشارة إلى فعل الطاعة، وترك المعصية. ثم قال سبحانه: (كلا) أي لا يعلم ذلك (لئن لم ينته) يعني إن لم يمتنع أبو جهل عن تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائه (لنسفعن بالناصية) أي لنجرن بناصيته إلى النار. وهذا كقوله (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) ومعناه لنذلنه ونقيمنه مقام الأذلة ففي الأخذ بالناصية إهانة واستخفاف. وقيل: معناه لنغيرن وجهه، ونسودنه بالنار يوم القيامة، لأن السفع أثر الإحراق بالنار. ثم أخبر سبحانه عنه بأنه فاجر خاطئ، بأن قال: (ناصية كاذبة خاطئة) وصفها بالكذب والخطأ بمعنى أن صاحبها كاذب في أقواله، خاطئ في أفعاله. لما ذكر الجر بها أضاف الفعل إليها. قال ابن عباس: لما أتى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو جهل: أتنتهرني يا محمد، فو الله لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني. فأنزل الله سبحانه (فليدع ناديه). وهذا وعيد أي: فليدع أهل ناديه أي أهل مجلسه يعني عشيرته، فليستنصر بهم إذا حل عقاب الله به، والنادي: الفناء. قال: (وتأتون في ناديكم المنكر). ثم قال: (سندع الزبانية) يعني الملائكة الموكلين بالنار وهم الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته زبانية النار من ساعته معاينة وقيل إنه إخبار بأنه يدعو إليه الزبانية دعا ناديه أم لم يدع وصدق سبحانه ذلك فقتل أبو جهل يوم بدر ثم قال (كلا) أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل (لا تطعه) في النهي عن الصلاة
[ 402 ]
(واسجد) له عز اسمه (واقترب) من ثوابه وقيل معناه وتقرب إليه بطاعته وقيل معناه اسجد يا محمد للتقرب منه فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد له. وقيل واسجد أي وصل لله واقترب من الله. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا) وقيل المراد به السجود لقراءة هذه السورة، والسجود هنا فرض وهو من العزائم. وروي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العزائم الم تنزيل وحم السجدة والنجم إذا هوى واقرأ باسم ربك وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.
[ 403 ]
97 - سورة القدر مكية وآياتها خمس مكية وقيل مدنية. عدد آيها: ست آيات مكي وشامي وخمس في الباقين. اختلافها: آية ليلة القدر الثالث مكي شامي. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (من قرأها أعطي من الأجر، كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر). الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ (إنا أنزلناه) في فريضة من الفرائض، نادى مناد: يا عبد الله ! قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل. سيف بن عميرة، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ (إنا أنزلناه) بجهر، كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرا، كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرات، مرت على نحو ألف ذنب من ذنوبه. تفسيرها: أمر سبحانه بالسجود، والتقرب إليه، في خاتمة تلك السورة، وافتتح هذه السورة بذكر ليلة القدر، وان التقرب فيها إلى الله يزيد على التقرب إليه من سائر الليالي والأيام، فكأنه قال: اقترب إليه في سائر الأوقات، خصوصا في ليلة القدر. وقال أبو مسلم: لما أمره بقراءة القرآن في تلك السورة، بين في هذه السورة أن إنزاله في ليلة القدر فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أنزلنه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملئكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي
[ 404 ]
حتى مطلع الفجر (5)). القراءة: قرأ الكسائي، وخلف: (مطلع) بكسر اللام والباقون بفتح اللام وفي الشواذ قراءة ابن عباس وعكرمة والكلبي من كل امرئ. الحجة: قال أبو علي: مطلع هنا مصدر بدلالة أن المعنى سلام هي حتى وقت طلوعه، وإلى وقت طلوعه، نحو مقدم الحاج، وخفوق النجم، المصدر فيه زمانا على تقدير حذف المضاف. فالقياس أن يفتح اللام، كما أن مصادر سائر ما كان من فعل يفعل مفتوح العين نحو المخرج والمدخل. وأما الكسر، فلأن المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل، ما قد كسر، كقولهم: علاه المكبر والمعجزة. وقوله (من كل امرئ) قال ابن جني: أنكر أبو حاتم هذه القراءة. على أنه حكي عن ابن عباس أنه قال: يعني الملائكة. قال: ولا أدري ما هذا، وإنما هو تنزل الملائكة فيها من كل أمر كقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم) أمرا من عندنا ومن كل أمر، فتم الكلام. ثم استأنف فقال: سلام أي هي سلام إلى أن يطلع الفجر. وقال قطرب: معناه هي سلام من كل أمر وامرئ. ويلزم على قول قطرب أن يقال: فكيف جاز تقديم معمول المصدر الذي هو سلام عليه، وقد عرفنا امتناع جواز تقديم صلة الموصل، أو شئ منها عليه ؟ والجواب: إن سلاما في الأصل كعمرى، مصدر. فأما هنا فإنه موضوع موضع إسم الفاعل الذي هو سالمة هي أو مسلمة، فكأنه قال: من كل أمر سالمة أو مسلمة هي، أي هي سالمة أو مسلمة منه. اللغة: القدر: كون الشئ مساويا لغيره من غير زيادة ولا نقصان. وقدر الله هذا الأمر يقدره قدرا إذا جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. والشهر في الشرع: عبارة عما بين هلالين من الأيام. وإنما سمي شهرا لاشتهاره بالهلال، وقد يكون الشهر ثلاثين، ويكون تسعة وعشرين، إذا كان هلاليا، فإن لم يكن هلاليا، فهو ثلاثون. الاعراب: (خير من ألف شهر): تقديره خير من ألف شهر لا ليلة قدر فيه، فحذف الصفة. وقوله (سلام هي): هي مبتدأ، وسلام: خبر مقدم عليه، وهو بمعنى الفاعل، لأنه إذا حمل على المصدر لم يجز تعليق حتى به، لأنه لا يفصل بين الصلة والموصول. ومثله قول الشاعر:
[ 405 ]
فهلا سعيتم سعي عصبة مازن * وهل كفلائي في الوفاء سواء سواء: بمعنى مستو. والتقدير: فهل كفلائي مستوون في الوفاء، لا بد من هذا التقدير، لأن سواء لو كانت مصدرا، لما تقدم عليه ما في صلته. ويجوز تعليق حتى بقوله (تنزل الملائكة) ولا يجوز أن يكون هي مبتدأ، وتكون حتى نكرة في موضع الخبر، لأنه لا فائدة فيه، إذ كل ليلة بهذه الصفة، و (مطلع): مجرور بحتى، وهو في معنى إلى. المعنى: (إنا أنزلناه) الهاء كناية عن القرآن، وإن لم يجر له ذكر، لأنه لا يشتبه الحال فيه (في ليلة القدر) قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم كان ينزله جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نجوما وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة، وقال الشعبي: معناه إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقال مقاتل: أنزله من اللوح المحفوظ إلى السفرة، وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا، وكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة كلها إلى مثلها من القابل، والكلام في ليلة القدر على ضروب: فالأول: اختلاف العلماء في معنى هذا الإسم ومأخذه، فقيل: سميت ليلة القدر لأنها الليلة التي يحكم الله فيها، ويقضي بما يكون في السنة بأجمعها، من كل أمر، عن الحسن ومجاهد، وهي الليلة المباركة في قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وروى أبو الضحى، عن ابن عباس، أنه كان يقضي القضايا في ليلة النصف من شعبان، ثم يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: ليلة القدر أي ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن، من قولهم: رجل له قدر عند الناس أي منزلة وشرف. ومنه: (ما قدروا الله) أي ما عظموه حق عظمته، عن الزهري. قال أبو بكر الوراق: لأن من لم يكن ذا قدر إذا أحياها، صار ذا قدر. وقال غيره: لأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. وقيل: سميت ليلة القدر، لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر إلى رسول ذي قدر، لأجل أمة ذات قدر، على يدي ملك ذي قدر. وقيل: هي ليلة التقدير، لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن. وقيل: سميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، من قوله: (ومن قدر عليه رزقه)، عن الخليل بن أحمد.
[ 406 ]
الضرب الثاني: اختلافهم في أنها أية ليلة. فذهب قوم إلى أنها إنما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رفعت. وجاءت الرواية عن أبي ذر أنه قال: قلت يا رسول الله ! ليلة القدر هي شئ تكون على عهد الأنبياء، ينزل فيها، فإذا قبضوا رفعت. قال: لا بل هي إلى يوم القيامة. وقيل: إنها في ليالي السنة كلها، ومن علق طلاق امرأته على ليلة القدر، لم يقع إلى مضي السنة، وهو مذهب أبي حنيفة. وفي بعض الروايات، عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول كله يصبها، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، أما إنه علم أنها في شهر رمضان، ولكنه أراد أن لا يتكل الناس. وجمهور العلماء، على أنها في شهر رمضان، في كل سنة. ثم اختلفوا في أي ليلة هي منه فقيل: هي أول ليلة منه، عن ابن زيد العقيلي. وقيل: هي ليلة سبع عشرة منه، عن الحسن. وروي أنها ليلة الفرقان، وفي صبيحتها التقى الجمعان. والصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وهو مذهب الشافعي. وروي مرفوعا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (التمسوها في العشر الأواخر). وعن علي عليه السلام أن النبي كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان، قال: وكان إذا دخل العشر الأواخر، دأب وأدأب أهله. وروى أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر، شد المئزر، واجتنب النساء، وأحيا الليل، وتفرغ للعبادة. ثم اختلفوا في أنها أية ليلة من العشر، فقيل: إنها ليلة إحدى وعشرين، وهو مذهب أبي سعيد الخدري، واختيار الشافعي. قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر) قال: فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين، من صبيحة إحدى وعشرين. أورده البخاري في الصحيح. وقيل: هي ليلة ثلاث وعشرين منه، عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول [ الله ] (1) إني رأيت في النوم، كأن ليلة القدر هي ليلة سابعة، تبقى. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث (1) نقص في الأصل والصواب ما أضفناه. (*)
[ 407 ]
وعشرين، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا، فليقم ليلة ثلاث وعشرين). قال معمر: كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس طيبا. وسأل عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في ليلة القدر: (اطلبوها في العشر الأواخر وترا) ففي أي الوتر ترون ؟ فأكثر القوم في الوتر. قال ابن عباس: فقال: ما لك. لا تتكلم يا بن عباس. فقلت: رأيت الله أكثر ذكر السبع في القرآن، فذكر السماوات سبعا، والأرضين سبعا، والطواف سبعا، والجمار سبعا، وما شاء الله من ذلك: خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه في سبعة فقال: كل ما ذكرت عرفت، فما قولك خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه في سبعة ؟ فقلت: (خلق الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله (خلقا آخر). قرأت: (إنا صببنا الماء صبا) إلى قوله (وفاكهة وأبا) فما أراها إلا ليلة ثلاث وعشرين، لسبع بقين. فقال عمر: عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه. قال: وقال عمر وافق رأيي رأيك. ثم ضرب منكبي فقال: ما أنت بأقل القوم علما. وروى العياشي بإسناده عن زرارة، عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن ليلة القدر قال: في ليلتين: ليلة ثلاث وعشرين، وإحدى وعشرين. فقلت: أفرد لي إحداهما. فقال: وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما ؟ وعن شهاب ابن عبد ربه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني بليلة القدر ؟ فقال: ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. وعن حماد بن عثمان، عن حسان بن أبي علي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه: عن علي بن حمزة قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ! الليلة التي يرجى فيها ما يرجى أي ليلة هي ؟ فقال: هي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. قال: فإن لم أقو على كلتيهما ؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب ! قال قلت: فربما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك، في أرض أخرى. فقال: ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها. قلت: جعلت فداك ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني (1) قال: إن ذلك ليقال. قلت: جعلت فداك إن (1) جهني: اسم رجل صحابي ستأتي قصته. (*)
[ 408 ]
سليمان بن خالد روى أن في تسع عشرة يكتب وفد الحاج. فقال: يا أبا محمد ! وفد الحاج يكتب في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق، ما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى وثلاث، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة، وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما. قال قلت: فإن لم أقدر على ذلك، وأنا قائم ؟ قال: فصل وأنت جالس. قلت: فإن لم أستطع ؟ قال: فعلى فراشك. قلت: فإن لم أستطع ؟ فقال: لا، عليك أن تكتحل أول الليل بشئ من النوم، إن أبواب السماء تفتح في شهر رمضان، وتصفد الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين، نعم الشهر شهر رمضان، كان يسمى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرزوق. وفي رواية عبد الله بن بكير، عن زرارة عن أحدهما قال: سألته عن الليالي التي يستحب فيها الغسل في شهر رمضان، فقال: ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. وقال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني. وحديثه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن منزلي نأى عن (المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها. فأمره بليلة ثلاث وعشرين. قال الشيخ أبو جعفر (ره): واسم الجهني عبد الله بن أنيس الأنصاري. وقيل: إنها ليلة سبع وعشرين، عن أبي بن كعب وعائشة. وروي أن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تحروها ليلة سبع وعشرين)، وعن زر بن حبيش قال: قلت لأبي يا أبا المنذر ! من أين علمت أنها ليلة سبع وعشرين ؟ قال: بالآية التي أنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تطلع الشمس غداتئذ، كأنها طست ليس لها شعاع. وقال بعضهم: إن الله قسم كلمات السورة على ليالي شهر رمضان، فلما بلغ السابعة والعشرين، أشار إليها فقال: هي. وقيل: إنها ليلة تسع وعشرين. وروي عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة، والفائدة في إخفاء هذه الليلة، أن يجتهد الناس في العبادة، ويحيوا جميع ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أن الله سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة. والضرب الثالث: ذكر بعض ما ورد في فضل هذه الليلة. روى ابن عباس عن النبي أنه قال: (إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى،
[ 409 ]
ومنهم جبرائيل، فينزل جبرائيل عليه السلام ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمنا، ولا مؤمنة، إلا سلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمخ بالزعفران) (1). عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال. (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة، حتى يضئ فجرها، ولا يستطيع فيها على أحد بخبل، أو داء، أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر). وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في ليلة القدر: (إنها ليلة سمحة، لا حارة، ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها، ليس لها شعاع). ثم قال الله سبحانه تعظيما لشأن هذه الليلة، وتنبيها لعظم قدرها، وشرف محلها (وما أدراك ما ليلة القدر) فكأنه قال: وما أدراك يا محمد ما خطر ليلة القدر، وما حرمتها. وهذا حث على العبادة فيها. ثم فسر سبحانه تعظيمه وحرمته فقال: (ليلة القدر خير من ألف شهر) أي قيام ليلة القدر والعمل فيها خير من قيام ألف شهر، ليس فيه ليلة القدر وصيامه، عن مقاتل وقتادة. وذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض، بما يكون فيها من الخير ومن النفع، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة القدر، كانت خيرا من ألف شهر، لا يكون فيها من الخير والبركة، ما يكون في هذه الليلة. ذكر عطاء عن ابن عباس قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من بني إسرائيل، أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله تعالى ألف شهر، فعجب من ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عجبا شديدا، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: يا رب ! جعلت أمتي أقصر الناس أعمارا، وأقلها أعمالا، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: ليلة القدر خير من ألف شهر الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله، لك ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان. ثم أخبر سبحانه بما يكون في تلك الليلة فقال (تنزل الملائكة) أي تتنزل الملائكة (والروح) يعني جبرائيل (فيها) أي في ليلة القدر إلى الأرض، ليسمعوا الثناء على الله، وقراءة القرآن. وغيرها من الأذكار. وقيل: ليسلموا على المسلمين بإذن الله أي بأمر الله. وقيل: ينزلون بكل أمر إلى (1) التضمخ: التلطخ بالطيب وغيره والاكثار منه. (*)
[ 410 ]
السماء الدنيا حتى يعلم ذلك أهل السماء الدنيا، فيكون لطفا لهم. وقال كعب، ومقاتل بن حيان: الروح طائفة من الملائكة، لا تراهم الملائكة، إلا تلك الليلة، ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقيل: الروح هو الوحي، كما قال: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) أي تنزل الملائكة، ومعهم الوحي بتقدير الخيرات والمنافع. (بإذن ربهم) أي بأمر ربهم، كما قال: (وما نتنزل إلا بأمر ربك) وقيل: بعلم ربهم، كما قال (أنزله بعلمه). (من كل أمر) أي بكل أمر من الخير والبركة، كقوله: (يحفظونه من أمر الله) أي بأمر الله. وقيل: بكل أمر من أجل ورزق إلى مثلها من العام القابل. فعلى هذا يكون الوقف هنا تاما. ثم قال: (سلام هي حتى مطلع الفجر) أي هذه ليلة إلى آخرها سلامة من الشرور والبلايا وآفات الشيطان، وهو تأويل قوله (في ليلة مباركة)، عن قتادة. وقال مجاهد: يعني أن ليلة القدر سالمة عن أن يحدث فيها سوء، أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها. وقيل: معناه سلام على أولياء الله، وأهل طاعته فكلما لقيهم الملائكة في هذه الليلة، سلموا عليهم من الله تعالى، عن عطاء والكلبي. وقيل: إن تمام الكلام عند قوله: (بإذن ربهم) ثم ابتدأ فقال: (من كل أمر سلام) أي بكل أمر فيه سلامة ومنفعة وخير وبركة، لأن الله يقدر في تلك الليلة كل ما فيه خير وبركة. ثم قال: (هي حتى مطلع الفجر) أي السلامة والبركة والفضيلة، تمتد إلى وقت طلوع الفجر، ولا يكون في ساعة منها فحسب، بل يكون في جميعها، والله أعلم بالصواب.
[ 411 ]
98 - سورة البينة مدنية وآياتها ثمان وتسمى سورة البرية، وسورة القيمة، مدنية وقيل: مكية. عدد آيها: تسع آيات بصري، ثمان في الباقين. اختلافها: آية مخلصين له الدين بصري. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ومن قرأها كان يوم القيامة مع خير البرية مسافرا ومقيما). وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يعلم الناس ما في لم يكن لعطلوا الأهل والمال، وتعلموها). فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله ؟ فقال: (لا يقرأها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شك في الله، عز وجل. والله إن الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض، لا يفترون عن قراءتها، وما من عبد يقرؤها بليل، إلا بعث الله ملائكة، يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب، مثل ما أضاء عليه النهار، وأظلم عليه الليل). فقال رجل من قيس عيلان: زدنا يا رسول الله من هذا الحديث فداك أبي وأمي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعلموا (عم يتساءلون)، وتعلموا (ق والقرآن المجيد)، وتعلموا (والسماء ذات البروج)، وتعلموا (والسماء والطارق)، فإنكم لو تعلمون ما فيهن، لعطلتم ما أنتم فيه، وتعلمتموهن، وتقربتم إلى الله بهن، وإن الله يغفر بهن كل ذنب إلا الشرك بالله. واعلموا أن (تبارك الذي بيده الملك) تجادل عن صاحبها يوم القيامة، وتستغفر له من الذنوب). أبو بكر الحضرمي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ سورة (لم يكن) كان بريئا من الشرك، وأدخل في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثه الله مؤمنا، وحاسبه الله حسابا يسيرا. تفسيرها: بين الله سبحانه في سورة القدر أن القرآن حجة، ثم بين في هذه
[ 412 ]
السورة أن الكفار قبله لم يخلوا قط من حجة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة (2) فيها كتب قيمة (3) وما تفرق الذين أوتوا الكتب إلا من بعد ما جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة (5) إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خلدين فيها أولئك هم شر البرية (6) إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية (7) جزاؤهم عند ربهم جنت عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه (8). القراءة: قرأ نافع، وابن ذكوان (البريئة) مهموزة. والباقون بغير همزة. الحجة: قال أبو علي: البريئة من برأ الله الخلق، فالقياس فيه الهمز، إلا أنه مما ترك همزه، كقولهم النبي والذرية والخابية، فالهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الإستعمال، كما أن همز النبي كذلك، وترك الهمز أجود، لأنه لما ترك فيه الهمز، صار كرده إلى الأصول المرفوضة، مثل ظننوا. وهمز من همز البريئة، يدل على فساد قول من قال إنه من البري الذي هو التراب. اللغة: الإنفكاك: الإنفصال عن شدة اتصال. قال ذو الرمة: قلائص ما تنفك إلا مناخة * على الخسف، أو نرمي بها بلدا قفرا (1) (1) هذا البيت من قصيدة طويلة لذي الرمة، يقال لها أحجية العرب. والقلائص جمع القلوص: الناقة الشابة. وفي رواية جامع الشواهد، وشرح الأشموني: (حراجيج) بدل (قلائص). ومر في الكتاب بلفظ (حراجيج) أيضا في ج 3، وهو جمع حرجوج: الناقة الضامرة الشديدة. وأناخ البعير: أبركه. والخسف: الجوع. (*)
[ 413 ]
وأكثر ما يستعمل ذلك في النفي، مثل ما زال تقول ما انفك من هذا الأمر أي: ما انفصل منه لشدة ملابسته له. والبينة الحجة الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل، وأصلها من البينونة وفصل الشئ من غيره، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة وبينة. وإقامة الشهادة العادلة بينة، وكل برهان ودلالة بينة. والقيمة: المستمرة في جهة الصواب. والحنيف: المائل إلى الصواب والحق، والحنيفية: الشريعة المائلة إلى الحق، وأصله الميل. ومن ذلك الأحنف: المائل القدم إلى جهة القدم الأخرى. وقيل: أصله الإستقامة. وإنما قيل للمائل القدم أحنف على وجه التفاؤل. الاعراب: (رسول من الله): بدل من (البينة) قبله. وقال الفراء: هو مستأنف تقديره هو رسول دين القيمة، تقديره: دين لملة القيمة، لأنه إذا لم يقدر ذلك، كان إضافة الشئ إلى صفته، وذلك غير جائز، لأنه بمنزلة إضافة الشئ إلى نفسه (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن) أي دخول جنات عدن (خالدين فيها): حال من مضمر أي يجزونها خالدين فيها. المعنى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) يعني اليهود والنصارى. (والمشركين) أي ومن المشركين الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، وهم الذين ليس لهم كتاب (منفكين) أي منفصلين وزائلين. وقيل: لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله، وعبادتهم غير الله، عن ابن عباس في رواية عطاء والكلبي (حتى تأتيهم) اللفظ لفظ الإستقبال، ومعناه المضي، كقوله (ما تتلو الشياطين) أي ما تلت. وقوله (البينة) يريد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن عباس ومقاتل. بين سبحانه لهم ضلالهم وشركهم. وهذا إخبار من الله تعالى عن الكفار، أنهم لم ينتهوا عن كفرهم، وشركهم بالله، حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبين لهم ضلالهم عن الحق، ودعاهم إلى الإيمان. وقيل: معناه لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله، حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها الحجة عليهم. وقوله: (رسول من الله) بيان للبينة، وتفسير لها أي: رسول من قبل الله (يتلو) عليهم (صحفا مطهرة) يعني مطهرة في السماء، لا يمسها إلا الملائكة المطهرون، ومن الأنجاس، عن الحسن، والجبائي. وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم أتاهم بالقرآن، ودعاهم إلى التوحيد والإيمان (فيها) أي في تلك الصحف (كتب قيمة) أي مستقيمة عادلة، غير ذات عوج، تبين الحق من الباطل. وقيل: مطهرة عن
[ 414 ]
الباطل والكذب والزور، يريد القرآن، عن قتادة. ويعني بالصحف ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب. وقيل: معناه رسول من الملائكة، يتلو صحفا من اللوح المحفوظ، عن أبي مسلم. وقيل: (فيها كتب قيمة) معناه: في هذه الصحف التي هي القرآن، كتب قيمة أي أن القرآن يشتمل على معاني الكتب المتقدمة، فتاليها تالي الكتب القيمة، كما قال (مصدقا لما بين يديه)، فإذا كان مصدقا لها كان تاليا لها. وقيل: معناه في القرآن كتب قيمة، بمعنى أنه يشتمل على أنواع من العلوم، كل نوع كتاب. قال السدي: فيها فرائض الله العادلة. (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) يعني وما اختلف هؤلاء في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إلا من بعد ما جاءتهم البشارة به في كتبهم، وعلى ألسنة رسلهم، فكانت الحجة قائمة عليهم، فكذلك لا يترك المشركون من غير حجة تقوم عليهم. وقيل: معناه ولم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بعثه الله. فلما بعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فآمن به بعضهم، وكفر آخرون. ثم ذكر سبحانه ما أمروا به في كتبهم، فقال: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) أي لم يأمرهم الله تعالى، إلا لأن يعبدوا الله وحده، لا يشركون بعبادته. فهذا ما لا تختلف فيه ملة، ولا يقع فيه تبدل (مخلصين له الدين) لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه (حنفاء) مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، مسلمين مؤمنين بالرسل كلهم. قال عطية: إذا اجتمع الحنيف والمسلم، كان معنى الحنيف الحاج. وإذا انفرد كان معناه المسلم، وهو قول ابن عباس لأنه قال: حنفاء أي حجاجا. وقال ابن جبير: لا تسمي العرب حنيفا، إلا من حج واختتن. قال قتادة: الحنيفية الختان، وتحريم البنات والأمهات والأخوات والعمات والخالات، وإقامة المناسك. (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة) أي ويداوموا على إقامة الصلاة، ويخرجوا ما فرض عليهم في أموالهم من الزكاة (وذلك) يعني الدين الذي قدم ذكره (دين القيمة) أي دين الكتب القيمة التي تقدم ذكرها. وقيل: دين الملة القيمة، والشريعة القيمة. قال النضر بن شميل: سألت الخليل عن هذا فقال: القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. فالمراد: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد. وفي هذه الآية دلالة
[ 415 ]
على بطلان مذهب أهل الجبر، لأن فيها تصريحا بأنه سبحانه إنما خلق الخلق ليعبدوه. واستدل بهذه الآية أيضا على وجوب النية في الطهارة، إذ أمر سبحانه بالعبادة على وجه الإخلاص، ولا يمكن الإخلاص إلا بالنية والقربة. والطهارة عبادة فلا تجزي بغير نية. ثم ذكر سبحانه حال الفريقين فقال: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) يعني من جحد توحيد الله، وأنكر نبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أشرك معه إلها آخر في العبادة (في نار جهنم خالدين فيها) لا يفنى عقابهم (أولئك هم شر البرية) أي شر الخليقة. ثم أخبر عن حال المؤمنين فقال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) أي خير الخليقة (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) مر معناه (خالدين فيها أبدا) أي مؤبدين فيها دائما (رضي الله عنهم) بما قدموه من الطاعات (ورضوا عنه) بما جازاهم من الثواب. وقيل: رضي الله عنهم إذ وحدوه ونزهوه عما لا يليق به، وأطاعوه ورضوا عنه إذ فعل بهم ما رجوا من رحمته وفضله (ذلك) الرضا والثواب (لمن خشي ربه) فترك معاصيه، وفعل طاعاته. وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني (ره) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري، كاتب علي عليه السلام قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مسنده إلى صدري، فقال: (يا علي ! ألم تسمع قول الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) هم شيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب، يدعون غرا محجلين) وفيه: عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله (هم خير البرية) قال: نزلت في علي عليه السلام، وأهل بيته.
[ 416 ]
99 - سورة الزلزلة مدنية وآياتها ثمان مدنية عن ابن عباس وقتادة، مكية عن الضحاك وعطاء. عدد آيها: ثماني آيات كوفي والمدني الأول، تسع في الباقين. اختلافها: آية أشتاتا غير الكوفي والمدني الأول. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأها فكأنما قرأ البقرة وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن). وعن أنس بن مالك قال: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أصحابه فقال: (يا فلان هل تزوجت ؟ قال: لا وليس عندي ما أتزوج به. قال: أليس معك (قل هو الله أحد) قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك (قل يا أيها الكافرون) قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك (إذا زلزلت) قال: بلى. قال: ربع القرآن. ثم قال: تزوج، تزوج، تزوج). وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت) فإن من كانت قراءته في نوافله، لم يصبه الله بزلزلة أبدا، ولم يمت بها، ولا بصاعقة، ولا بآفة من آفات الدنيا، وإذا مات أمر به إلى الجنة، فيقول الله سبحانه: عبدي أبحتك جنتي، فاسكن منها حيث شئت وهويت، لا ممنوع، ولا مدفوع عنه. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة ببيان حال المؤمنين والكافرين، وافتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) وأخرجت الأرض أثقالها (2) وقال الإنسان مالها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5)
[ 417 ]
يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعملهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)). القراءة: في بعض الروايات عن الكسائي: (خيرا يره وشرا يره) بضم الياء فيهما، وهي رواية أبان عن عاصم أيضا، وهي قراءة علي عليه السلام. والباقون: (يره) بفتح الياء في الموضعين إلا أن أبا جعفر وروحا ورويسا قرأوا بضم الهاء ضمة مختلسة غيرمشبعة. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (يره) جعل الفعل منقولا من رأيت زيدا إذا أدركته ببصرك، وأريته عمرا. وبنى الفعل للمفعول. ومن قرأ (يره) فالتقدير: ير جزاءه وإثبات الواو في يرهو بعد الهاء هو الوجه كما تقول: أكرمهو، لأن هذه الهاء يتبعها حرف اللين الواو، والياء إذا كان قبلها كسرة أو ياء نحو: بهي وعليهي. وقد جاء في الشعر نحوه قوله: (ونضواي مشتاقان له أرقان) (1). اللغة: الزلزلة: شدة الإضطراب. والزلزال بكسر الزاي. المصدر، وبفتحها الإسم. وزلزلت ورجفت ورجت بمعنى واحد. والأثقال: جمع الثقل، وسمى سبحانه الموتى أثقالا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن، لأن الحمل سمي ثقلا، كما قال سبحانه: (فلما أثقلت) وتقول العرب: إن للسيد الشجاع ثقلا على الأرض، فإذا مات سقط عنها بموته ثقل. قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا: أبعد ابن عمرو من آل الشريد * حلت به الأرض أثقالها عنت بذلك أنه حل عن الأرض ثقل بموته لسؤدده وعزه. وقيل: معناه زينت موتاها به من الحلية. وقال الشمردل اليربوعي يرثي أخاه: وحلت به أثقالها الأرض، وانتهى * لمثواه منها، وهو عف شمائله وذكر ابن السائب أن زهير بن أبي سلمى قال بيتا ثم أكدى (2)، فمر به النابغة الذبياني فقال له يا أبا أمامة أجز. قال: ماذا. قال: (1) النضو: البعير المهزول. وقبله: (فظلت لدى البيت العتيق أخيله). وقد مر في ما سبق وغيره بلفظ: (ومطواي) بدل (ونضواي). (2) أكدى: بمعنى قطع. (*)
[ 418 ]
تزال الأرض إما مت خفا * وتحيا ما حييت بها ثقيلا نزلت بمستقر العز منها فماذا قال ؟ فأكدى والله النابغة الذبياني. وأقبل كعب بن زهير، وهو غلام. فقال له أبوه: أجز يا بني. قال: ماذا ؟ فأنشده، فقال كعب: (فتمنع جانبيها أن تزولا) فقال له زهير: أنت والله ابني. وأوحى ووحى بمعنى واحد. قال العجاج: (وحى القرار فاستقرت) (1). الاعراب: العامل في إذا قوله (فمن يعمل مثقال ذرة). وقوله (خيرا): منصوب على التمييز وقيل: إن العامل في إذا قوله (تحدث أخبارها) ويكون (يومئذ) تكرارا أي: إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها. وقيل: إن التقدير: وقال الإنسان يومئذ مالها يومئذ تحدث أخبارها. فقيل: ذلك بأن ربك أوحى لها. وتحدث: يجوز أن يكون على الخطاب أي: تحدث أنت، ويجوز أن يكون على تحدث هي. المعنى: خوف الله سبحانه عباده أهوال يوم القيامة، فقال: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي إذا حركت الأرض تحريكا شديدا، لقيام الساعة، زلزالها الذي كتب عليها. ويمكن أن يكون إنما أضافها إلى الأرض، لأنها تعم جميع الأرض بخلاف الزلازل المعهودة التي تختص ببعض الأرض، فيكون في قوله (زلزالها) تنبيها على شدتها. (وأخرجت الأرض أثقالها) أي: أخرجت موتاها المدفونة فيها، تخرجها أحياء للجزاء، عن ابن عباس ومجاهد والجبائي. وقيل: معناه لفظت ما فيها من كنوزها ومعادنها، فتلقيها على ظهرها ليراها أهل الموقف، وتكون الفائدة في ذلك أن يتحسر العصاة إذا نظروا إليها، لأنهم عصوا الله فيها، ثم تركوها لا تغني عنهم شيئا. وأيضا فإنه تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. (وقال الإنسان مالها) أي ويقول الإنسان متعجبا: ما للأرض تتزلزل، يعني: ما لها، حدث فيها ما لم يعرف منها، عن أبي مسلم. وقيل: إن المراد بالإنسان الكافر، لأن المؤمن معترف بها، لا يسأل عنها أي: يقول الكافر الذي لم يؤمن بالبعث: أي شئ زلزلها، وأصارها إلى هذه الحالة (يومئذ تحدث أخبارها) أي (1) وعجزه: (وشدها بالراسيات الثبت) وقد مر في الكتاب مرارا. (*)
[ 419 ]
تخبر بما عمل عليها. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد، وأنه بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، وهذا أخبارها). وعلى هذا فيجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها، وإنما نسبه إليها توسعا ومجازا. ويجوز أن يقلبها حيوانا يقدر على النطق. ويجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقام الكلام، فعبر عنه بالكلام كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك. وكقول الشاعر: (وقالت له العينان سمعا وطاعة) (1) وقد مر أمثاله. وقوله (بأن ربك أوحى لها) معناه: إن الأرض تحدث بها، فتقول: إن ربك يا محمد أوحى لها أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها. وقيل: بأن تلقي الكنوز والأموات على ظهرها، يقال: أوحى له وإليه أي ألقى إليه من جهة تخفى. قال الفراء: تحدث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. وقال ابن عباس: أذن لها لتخبر بما عمل عليها. وروى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى ربيعة الحرشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (حافظوا على الوضوء، وخير أعمالكم الصلاة، وتحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وليس فيها أحد يعمل خيرا وشرا، إلا وهي مخبرة). وقال أبو سعيد الخدري: إذا كنت بالبوادي، فارفع صوتك بالأذان، فإني سمعت رسول الله يقول: (لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلا يشهد له). (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) أي يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين: أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وهذا كقوله: (يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) وقوله (يومئذ يصدعون). (ليروا أعمالهم) أي ليروا جزاء أعمالهم، عن ابن عباس. والمعنى: إنهم يرجعون عن الموقف فرقا، لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. وقيل: معنى الرؤية هنا المعرفة بالأعمال عند تلك الحال، وهي رؤية القلب. ويجوز أن يكون التأويل على رؤية العين بمعنى: ليروا صحائف أعمالهم فيقرؤون ما فيها، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) أي فمن يعمل وزن ذرة من الخير ير ثوابه وجزاءه (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) أي ير ما يستحق عليه من العقاب. (1) مر البيت بتمامه في هذا الجزء. (*)
[ 420 ]
ويمكن أن يستدل بها على بطلان الإحباط، لأن الظاهر يدل على أنه لا يفعل أحد شيئا من طاعة أو معصية، إلا ويجازى عليها. وما يقع محبطا لا يجازى عليه. وليس لهم أن يقولوا: إن الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة، وذلك لأن الآية مخصوصة بالإجماع، فإن التائب معفو عنه بلا خلاف، وعندهم أن من شرط المعصية التي يؤاخذ بها، أن لا تكون صغيرة. فجاز لنا أيضا أن نشرط فيها أن لا يكون مما يعفو الله عنه. وقال محمد بن كعب: معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا، وهو كافر، ير ثوابه في الدنيا، في نفسه وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله خير. ومن يعمل مثقال ذرة شرا، وهو مؤمن، ير عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر. وقال مقاتل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه، فيفرح به. وكذلك من الشر يراه في كتابه، فيسوؤه ذلك. قال: وكان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير ويقول: إنما نوجر على ما نعطي ونحن نحبه، وليس اليسير مما يحب. ويتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنما وعد الله الكفار النار على الكبائر. فأنزل الله هذه الآية، يرغبهم في القليل من الخير، ويحذرهم اليسير من الشر. وعن أبي عثمان المازني، عن أبي عبيدة قال: قدم صعصعة بن ناجية، جد الفرزدق، على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني تميم، فقال: بأبي أنت يا رسول الله أوصني خيرا. فقال: أوصيك بأمك وأبيك وأدانيك. قال: زدني يا رسول الله. قال: إحفظ ما بين لحييك ورجليك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما شئ بلغني عنك فعلته ؟ فقال: يا رسول الله ! رأيت الناس يمرجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن الله، عز وجل، لم يأمرهم بذلك. فلم أتركهم يئدون، وفديت ما قدرت. وفي رواية أخرى: إنه سمع (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فقال: حسبي ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غير هذا. وقال عبد الله بن مسعود: أحكم آية في القرآن (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) إلى آخر السورة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسميها الجامعة. وتصدق سعد بن أبي وقاص بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال سعد: ويحك، يقبل الله منا مثقال الذرة والخردلة، وكان فيها مثاقيل.
[ 421 ]
100 - سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة مدنية عن ابن عباس وقتادة. وقيل: مكية. عدد آياتها: إحدى عشرة آية بالإجماع. فضلها: أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة، وشهد جمعا). سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ومن قرأ (والعاديات) وأدمن قراءتها، بعثه الله مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم القيامة خاصة، وكان في حجره ورفقائه. النظم: اتصلت هذه السورة بما قبلها، لما فيها من ذكر القيامة والجزاء، اتصال النظير بالنظير، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3) فأثرن به نقعا (4) فوسطن به جمعا (5) إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7) وإنه لحب الخير لشديد (8) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11)). القراءة: في الشواذ قراءة أبي حياة (فأثرن) بتشديد الثاء، وقراءة علي عليه السلام وقتادة وابن أبي ليلى (فوسطن) بتشديد السين. الحجة: قال ابن جني: فأثرن مثل أبدين وأرين نقعا، كما يؤثر الإنسان النقش وغيره مما يبديه للناظر، وهو من التأثير. فالهمزة فاء الفعل، وأثرن بالتخفيف من
[ 422 ]
الإثارة، فالهمزة مزيدة. وقوله (فوسطن) بالتشديد معناه: ميزن به جمعا أي: جعلنه شطرين قسمين وشقين، ومعنى (وسطنه) بالتخفيف: صرن في وسطه. اللغة: الضبح في الخيل: الحمحمة عند العدو. وقيل: هو شدة النفس عند العدو. وضبحت الخيل تضبح ضبحا وضباحا. وقيل: ضبح وضبع بمعنى. وهو أن يمد ضبعه في السير حتى لا يجد مزيدا. وأورى القادح النار يوري إيراء: إذا قدح قدحا، وتسمى تلك النار نار الحباحب لضعفها، قال النابغة: يقد السلوقي المضاعف نسجه، * ويوقدن بالصفاح نار الحباحب (1) وهو اسم رجل كان بخيلا، وكانت ناره ضعيفة، لئلا يراها الأضياف، فضربوا المثل بناره، وشبهوا نار الحوافر بها لقلتها. والنقع: الغبار. يغوص فيه صاحبه، كما يغوص في الماء. والكنود: الكفور، ومنه الأرض الكنود: وهي التي لا تنبت شيئا. والأصل فيه منع الحق والخير. قال الأعشى: أحدث لها تحدث لوصلك، إنها * كند لوصل الزائر المعتاد وقيل: إنما سميت كندة لقطعها إياها. النزول: قيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى حي من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، أحد النقباء، فتأخر رجوعهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعا. فأخبر الله تعالى عنها بقوله (والعاديات ضبحا)، عن مقاتل. وقيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة، فرجع كل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل قال: وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنه أسر منهم، وقتل وسبى، وشد أسراهم في الحبال مكتفين، كأنهم في السلاسل. ولما نزلت السورة، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، فصلى بهم الغداة، وقرأ فيها (والعاديات). فلما فرغ من صلاته، قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم إن عليا ظفر بأعداء الله، وبشرني بذلك جبرائيل عليه السلام في هذه الليلة). فقدم علي عليه السلام بعد أيام بالغنائم والأسارى. (1) مر البيت بمعناه في ما سبق بلفظ (تجذ) بدل (تقد) فراجع. (*)
[ 423 ]
المعنى: (والعاديات ضبحا) قيل: هي الخيل في الغزو تعدو في سبيل الله، عن ابن عباس وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وقتادة والربيع، قالوا: أقسم الله بالخيل العادية لغزو الكفار، وهي تضبح ضبحا. وضبحها: صوت أجوافها إذا عدت، ليس بصهيل، ولا حمحمة، ولكنه صوت نفس. وقيل: هي الإبل حين ذهبت إلى غزوة بدر، تمد أعناقها في السير، فهي تضبح أي تضبع. روي ذلك عن علي عليه السلام، وابن مسعود والسدي. وروي أيضا أنها إبل الحاج تعدو من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قالت صفية بنت عبد المطلب: ألا والعاديات غداة جمع * بأيديها إذا سطع الغبار واختلفت الروايات فيه فروي عن أبي صالح أنه قال: قاولت فيه عكرمة، فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل في القتال. فقلت أنا: قال علي عليه السلام: هي الإبل في الحج، وقلت: مولاي أعلم من مولاك. وفي رواية أخرى أن ابن عباس قال: هي الخيل، ألا تراه يقول: (فأثرن به نقعا) فهل تثيره إلا بحوافرها، وهل تضبح الإبل ؟ إنما تضبح الخيل. قال علي عليه السلام: ليس كما قلت. لقد رأيتنا يوم بدر، وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد بن الأسود. وفي رواية أخرى لمرثد بن أبي مرثد الغنوي وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: بينما أنا في الحجرة جالس، إذ أتاني رجل، فسأل عن العاديات ضبحا، فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، وذهب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو تحت سقاية زمزم. فسأله عن العاديات ضبحا فقال: سألت عنها أحدا قبلي ؟ قال: نعم. سألت عنها ابن عباس. فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله. قال: فاذهب فادعه لي. فلما وقف على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كانت معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل ؟ بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى. قال ابن عباس: فرغبت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي عليه السلام. (فالموريات قدحا) هي الخيل توري النار بحوافرها إذا صارت في الحجارة، والأرض المحصبة، عن عكرمة والضحاك. وقال مقاتل: يقدحن بحوافرهن النار في الحجارة. قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل، فأورت منه النار مثل
[ 424 ]
الزناد إذا قدح. وقال مجاهد: يريد مكر الرجال في الحروب، تقول العرب إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: أما والله لأورين لك بزند وار، ولأقدحن لك. وخالف المصدر فيها صدر الكلام، ومجازه فالقادحات قدحا. وقيل: هي النيران بجمع، عن محمد بن كعب. وقيل: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، عن عكرمة. (فالمغيرات صبحا) يريد الخيل تغير بفرسانها على العدو، وقت الصبح. وإنما ذكر وقت الصبح، لأنهم كانوا يسيرون إلى العدو ليلا، فيأتونهم صبحا، هذا قول الأكثرين. وقيل: يريد الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى مني. والسنة أن لا ترتفع بركبانها حتى تصبح. والإغارة: سرعة السير، ومنه قوله: (أشرق ثبير كيما نغير) (1) عن محمد بن كعب. (فأثرن به نقعا) يقال: ثار الغبار والدخان، وأثرته أي: هيجته. والهاء في (به) عائد إلى معلوم يعني بالمكان، أو بالوادي. المعنى: فهيجن بمكان عدوهن غبارا. (فوسطن به جمعا) أي صرن بعدوهن، أو بذلك المكان، وسط جمع العدو، وهم الكتيبة. وقال محمد بن كعب: يريد جمع منى. (إن الإنسان لربه لكنود) هذا جواب القسم. والكنود: الكفور الجحود لنعم الله، عن ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد. وقيل: هو بلسان كندة وحضرموت: العاصي. وبلسان مضر وربيعة وقضاعة: الكفور، عن الكلبي. وقيل: هو الذي يعد المصائب، وينسى النعم، عن الحسن، وأخذه بعض الشعراء، فقال: يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت، وحتى متى تشكو المصيبات، وتنسى النعم وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أتدرون من الكنود ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (الكنود الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده). وقيل: الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه، عن عطاء. وقيل: هو القليل (1) كانوا لا يفيضون من المشعر حتى تطلع الشمس. وثبير: جبل بمكة، ومعناه على ما في (اللسان): ادخل أيها الجبل في الشروق، وهو ضوء الشمس، كيما نسرع. وفي بعض النسخ: (كما يغير). (*)
[ 425 ]
الخير، عن أبي عبيدة (وإنه على ذلك لشهيد) معناه: وإن الله على كفره لشهيد، عن ابن عباس وقتادة وعطاء. وقيل: إن الهاء تعود إلى الإنسان، والمعنى أن الإنسان شاهد على نفسه يوم القيامة بكنوده، أو في الدنيا، فإنك لو سألته عن النعمة، لم يذكر أكثرها، ويذكر جميع مصائبه، وهو معنى قول الحسن (وإنه) يعني الإنسان (لحب الخير لشديد) أي: لأجل حب الخير الذي هو المال أي من أجله لبخيل شحيح، يمنع منه حق الله تعالى، عن الحسن. يقال للبخيل: شديد ومتشدد. قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام، ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد (1) وقيل: معناه وإنه لشديد الحب للخير أي المال، عن الفراء. وقال ابن زيد: سمى الله سبحانه المال خيرا، وعسى أن يكون خبيثا وحراما، ولكن لأن الناس يعدونه خيرا، فكذلك سمي الجهاد سوءا، فقال: (لم يمسسهم) سوء أي قتال. وليس هو عند الله بسوء، لأن الناس يسمونه سوءا. وقال سبحانه على وجه التذكير والوعيد: (أفلا يعلم) هذا الإنسان الذي وصفناه (إذا بعثر ما في القبور) أي بعث الموتى ونشروا وأخرجوا، ومثله بحثر (وحصل ما في الصدور) أي ميزوا بين ما فيها من الخير والشر. وقيل: معناه وأظهر ما أخفته الصدور ليجازي على السر كما يجازي على العلانية. (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) قال الزجاج: الله سبحانه خبير بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى أن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، وليس يجازيهم إلا بعلمه بأحوالهم وأعمالهم، ومثله قوله (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) ومعناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم. وفي هذا إشارة إلى الزجر والوعيد، فإن الإنسان متى علم أن خالقه يرى جميع أعماله، ويعلم سائر أفعاله، ويحقق ذلك، لا بد أن ينزجر عن المعاصي. (1) إعتام الشئ: اختاره. والعقيلة: الخيار من كل شئ. يقول: أرى الموت يختار كرام الناس، وصفوة مال البخلاء أي أنه يأخذ النفيس الذي يضن به، كما يأخذ الحقير، فلا يترك شيئا. (*)
[ 426 ]
101 - سورة القارعة مكية وآياتها إحدى عشرة عدد آيها: إحدى عشرة آية كوفي حجازي، ثمان بصري شامي. اختلافها: ثلاث آيات القارعة الأولى كوفي، ثقلت موازينه وخفت موازينه كلتاهما حجازي كوفي. فضلها: في حديث أبي: من قرأها ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة. عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قرأ القارعة أمنه الله من فتنة الدجال أن يؤمن به، ومن قيح جهنم يوم القيامة. تفسيرها: اتصلت هذه السورة بما قبلها، اتصال النظير بالنظير، فإن كلتيهما في ذكر القيامة، فقال سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم (القارعة (1) ما القارعة (2) وما أدراك ما القارعة (3) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث (4) وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5) فأما من ثقلت موزينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت موزينه (8) فأمه هاوية (9) وما أدريك ماهيه (10) نار حامية (11)). القراءة: روي عن أبي عمرو أنه أمال القارعة. وقرأ حمزة ويعقوب (ما هي) في الوصل. والباقون: (ما هيه) بإثبات الهاء، ولم يختلفوا في الوقف أنها بالهاء. الحجة: قال أبو علي: إمالة القارعة، وإن كان المستعلى فيه مفتوحا،
[ 427 ]
جائزة، وذلك أن كسرة الراء غلبت عليها فأمالتها. وقد أمالت ما تباعد عنها نحو: قادر. وزعم سيبويه أن ذلك لغة قوم ترضى عربيتهم، وكذلك طارد وغارم وطاهر، وكل ذلك تجوز إمالته إذا كانت الراء مكسورة. وقال سيبويه: وينشد أصحاب هذه اللغة: عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر * بمنهمر، جون الرباب، سكوب (1) وأما قوله (ماهيه) فيوقف عندها، لأنها فاصلة. والفواصل مواضع وقوف، كما أن أواخر الأبيات كذلك، وهذا مما يقوي حذف الياء من يسر، وما أشبهه. ألا ترى أنهم حذفوا الياء من نحو قوله: ولأنت تفري ما خلقت، وبع * ض القوم يخلق، ثم لا يفري (2) اللغة: القارعة: البلية التي تقرع القلب بشدة المخافة. والقرع: الضرب بشدة الإعتماد. قرع يقرع قرعا، ومنه المقرعة. وتقارع القوم في القتال إذا تضاربوا بالسيوف. والقرعة كالضرب بالفال. وقوارع الدهر: دواهيه. والفراش: الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضا، وهو غوغاء الجراد، عن الفراء. والمبثوث: المتفرق في الجهات، كأنه محمول على الذهاب فيها. والبث: التفريق. وأبثثته الحديث إذا ألقيته إليه، كأنك فرقته بأن جعلته عند اثنين. والعهن: الصوف ذو الألوان، يقال: عهن وعهنة، وعيشة راضية مرضية، بمعنى المفعول. وقيل: معناه ذات رضى كقولهم فلان نابل أي: ذو نبل، قال: وغررتني، وزعمت أنك * لابن بالصيف تامر أي: ذو لبن وتمر. وقال النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (3) (1) البيت منسوب إلى سماعة بن أشمول. وانهمر الماء: سال. والجون: الأبيض. والرباب: السحاب الأبيض. وسكب الماء: صب. (2) هذا البيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني، يمدح بها هرم بن سنان، ومطلعها: (لمن الديار بقنة الحجر * أقوين مذ حجج ومذ دهر) وقد مر بمعناه في هذا الجزء. (3) مضى البيت في هذا الجزء. (*)
[ 428 ]
أي: ذي نصب. والهاوية من أسماء جهنم، وهي المهواة التي لا يدرك قعرها. الاعراب: (القارعة) مبتدأ. و (ما): مبتدأ ثان. وما بعده خبره. وكان حقه القارعة ما هي، لكنه سبحانه كرر تفخيما لشأنها، ومثله قوله: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) والجملة خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون قوله (القارعة) مبتدأ ويكون (الناس) خبره، بمعنى أن القارعة تحدث في هذا اليوم، فيكون قوله: (ما القارعة وما أدراك ما القارعة) اعتراضا. ويجوز أن يكون التقدير: هذا الأمر يقع يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. المعنى: (القارعة) اسم من أسماء يوم القيامة، لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب (ما القارعة) هذا تعظيم لشأنها، وتهويل لأمرها، ومعناه: وأى شئ القارعة. ثم عجب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (وما أدراك ما القارعة) يقول: إنك يا محمد لا تعلم حقيقة أمرها، وكنه وصفها على التفصيل، وإنما تعلمها على سبيل الإجمال. ثم بين سبحانه أنها متى تكون فقال: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) شبه الناس عند البعث بما يتهافت في النار. وقال قتادة: هذا هو الطائر الذي يتساقط في النار والسراج. وقال أبو عبيدة: هو طير ينفرش ليس بذباب، ولا بعوض، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم إلى بعض. فالفراش إذا ثار، لم يتجه إلى جهة واحدة، فدل ذلك على أنهم يفزعون عند البعث، فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة. وهذا مثل قوله: (كأنهم جراد منتشر). (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وهو الصوف المصبوغ المندوف، والمعنى أن الجبال تزول عن أماكنها، وتصير خفيفة السير. ثم ذكر سبحانه أحوال الناس، فقال: (فأما من ثقلت موازينه) أي رجحت حسناته، وكثرت خيراته (فهو في عيشة راضية) أي معيشة ذات رضى يرضاها صاحبها (وأما من خفت موازينه) أي خفت فيما سبق من الكتاب. وقد ذكر سبحانه الحسنات في الموضعين، ولم يذكر وزن السيئات، لأن الوزن عبارة عن القدر والخطر، والسيئة لا خطر لها، ولا قدر، وإنما الخطر والقدر للحسنات. فكأن المعنى: فأما من عظم قدره عند الله لكثرة حسناته، ومن خف قدره عند الله لخفة حسناته (فأمه هاوية) أي فمأواه جهنم، ومسكنه النار. وإنما سماها أمه، لأنه يأوي إليها، كما يأوي الولد إلى أمه، ولأن الأصل السكون
[ 429 ]
إلى الأمهات. قال قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد، قيل: هوت أمه. وقيل: إنما قال فأمه هاوية، لأن العاصي يهوي إلى أم رأسه في النار، عن أبي صالح. وقيل: إنه يهوي فيها، وهي المهواة، لا يدرك قعرها. ثم قال سبحانه: (وما أدراك ما هيه) هذا تعظيم وتفخيم لأمرها، يريد إنك لا تعلم تفصيلها، وأنواع ما فيها من العقاب، وإن كنت تعلمها على طريق الجملة. والهاء في (هيه) للوقف. ثم فسرها فقال: (نار حامية) أي نار حارة، شديدة الحرارة.
[ 430 ]
102 - سورة التكاثر مكية وآياتها ثمان مدنية وقيل مكية ثماني آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: ومن قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر، كأنما قرأ ألف آية. شعيب العقر قوفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ سورة (ألهاكم التكاثر) في فريضة، كتب له ثواب وأجر مائة شهيد. ومن قرأها في نافلة، كان له ثواب خمسين شهيدا، وصلى معه في فريضته أربعون صفا من الملائكة. وعن درست، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من قرأ (ألهاكم التكاثر) عند النوم وقي فتنة القبر). تفسيرها: أخبر الله سبحانه في تلك السورة، عن صفة القيامة، وذكر في هذه السورة من ألهاه عنها التكاثر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) كلا سوف تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم اليقين (5) لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم (8)). القراءة: قرأ ابن عامر والكسائي: (لترون) بضم التاء. وروي ذلك عن علي عليه السلام. والباقون: (لترون) بالفتح. الحجة: قال أبو علي: من قال (لترون) بضم التاء فإن رأى فعل يتعدى إلى مفعول واحد. تقول: رأيت الهلال، كما تقول: لبست ثوبك. فإذا نقلت الفعل بالهمزة، زاد مفعول آخر، تقول: أريت زيدا الهلال، فإذا بنيت هذا الفعل للمفعول
[ 431 ]
قلت: أري زيد الهلال، وكذلك (لترون الجحيم). اللغة: الإلهاء: الصرف إلى اللهو. واللهو: الإنصراف إلى ما يدعو إليه الهوى. يقال: لها يلهو لهوا. ولهى عن الشئ يلهى. ومنه قولهم: فإذا استأثر الله بشئ فاله عنه. والتكاثر: التفاخر بكثرة المناقب. يقال: تكاثر القوم إذا تعادوا ما لهم من المناقب. والزيارة: إتيان الموضع كإتيان المألوف على غير إقامة زاره يزوره زيارة، ومنه زور تزويرا: إذا شبه الخط بما يوهم أنه خط فلان وليس به. والمزورة من ذلك اشتقت. والفرق بين النعيم والنعمة أن النعمة كالإنعام في التضمين لمعنى منعم، أنعم إنعاما ونعمة، وكلاهما موجب للشكر. والنعيم ليس كذلك. لأنه من نعم نعيما. فلو عمل ذلك بنفسه لكان نعيما لا يوجب شكرا. وأما النعمة بفتح النون، فمن نعم بضم العين إذا لان. الاعراب: (كلا) حرف، وليس بإسم، وتضمنه معنى ارتدع لا يدل على أنه كصه بمعنى أسكت، ومه بمعنى أكفف. ألا ترى أن أما تتضمن معنى مهما يكن من شئ، وهو حرف. فكذا (كلا) ينبغي أن يكون حرفا. (كلا لو تعلمون): جواب (لو) محذوف، وتقديره لما ألهاكم التكاثر. و (علم اليقين): مصدر. وقيل: هو قسم، والتقدير: وعلم اليقين لترون الجحيم أي: عذاب الجحيم، فحذف لأن رؤيتها ليس بوعيد، وإن الوعيد برؤية عذابها، وتقديره في الإعراب: علم الخبر اليقين، فحذف المضاف، ومثله حب الحصيد. ولا يجوز الهمز في واو (لترون ولترونها) على قياس أثوب في أثوب وأعد في وعد، لأن الضمة هنا عارضة لالتقاء الساكنين، وليست بلازمة. وأما (عين اليقين) فانتصابه انتصاب المصدر أيضا، كما تقول: رأيته حقا، وتبينته يقينا. والرؤية هنا بمعنى المشاهدة، كما قال سبحانه: (وإن منكم إلا واردها). النزول: قيل: نزلت السورة في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا، عن قتادة. وقيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا، عن أبي بريدة. وقيل: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، تكاثروا، وعدوا أشرافهم، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم وقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية، عن
[ 432 ]
مقاتل والكلبي. المعنى: (ألهاكم التكاثر) أي شغلكم عن طاعة الله، وعن ذكر الآخرة، التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بكثرتهما (حتى زرتم المقابر) أي حتى أدرككم الموت على تلك الحال، عن الحسن وقتادة. وقال الجبائي: حتى متم على ذلك، ولم تتوبوا. وقيل: ألهاكم التباهي بكثرة المال والعدد، عن تدبر أمر الله، حتى عددتم الأموات في القبور. وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير، عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول (ألهاكم التكاثر) السورة. قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) أورده مسلم في الصحيح. ثم رد الله تعالى عليهم هذا فقال: (كلا) أي ليس الأمر الذي ينبغي أن تكونوا عليه التكاثر. ثم أوعدهم فقال: (سوف تعلمون) ثم أكد ذلك وكرره فقال: (ثم كلا سوف تعلمون) قال الحسن ومقاتل: هو وعيد بعد وعيد، والمعنى: سوف تعلمون عاقبة تباهيكم وتكاثركم، إذا نزل بكم الموت. وقيل: معناه سوف تعلمون في القبر، ثم سوف تعلمون في الحشر. رواه زر بن حبيش، عن علي عليه السلام قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: (ألهاكم التكاثر) إلى قوله: (كلا سوف تعلمون) يريد في القبر. (ثم كلا سوف تعلمون) بعد البعث. وقيل إن المعنى: كلا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الأبرار، ثم كلا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الفجار. والعرب تؤكد بكلا وحقا. (كلا لو تعلمون علم اليقين) هذا كلام آخر يقول: لو تعلمون الأمر علما يقينا، لشغلكم ما تعلمون عن التفاخر، والتباهي بالعز والكثرة. وعلم اليقين هو العلم الذي يثلج به الصدر بعد اضطراب الشك فيه، ولهذا لا يوصف الله بأنه متيقن. ثم استأنف سبحانه وعيدا آخر فقال: (لترون الجحيم) على نية القسم، عن مقاتل. يعني حين تبرز الجحيم في القيامة، قبل دخولهم إليها (ثم لترونها) يعني بعد الدخول إليها (عين اليقين) كما يقال حق اليقين، ومحض اليقين، ومعناه: ثم لترونها بالمشاهدة إذا دخلتموها، وعذبتم بها. (ثم لتسئلن يومثذ عن النعيم) قال مقاتل: يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسئلون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، إذ لم يشكروا رب
[ 433 ]
النعيم، حيث عبدوا غيره، وأشركوا به، ثم يعذبون على ترك الشكر، وهذا قول الحسن قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال الأكثرون: إن المعنى ثم لتسئلن يا معشر المكلفين عن النعيم. قال قتادة: إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه. وقيل: عن النعيم في المأكل، والمشرب، وغيرهما من الملاذ، عن سعيد بن جبير. وقيل: النعيم الصحة والفراغ، عن عكرمة. وبعضده ما رواه ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس. الصحة والفراغ). وقيل: هو الأمن والصحة، عن عبد الله بن مسعود ومجاهد. وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام. وقيل: يسأل عن كل نعيم إلا ما خصه الحديث، وهو قوله: ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسد بها جوعته، أو بيت يكنه من الحر والبرد، وروي أن بعض الصحابة أضاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا، وماء باردا، فأكلوا. فلما خرجوا قال: هذا من النعيم الذي تسألون عنه. وروى العياشي بإسناده في حديث طويل، قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان ؟ قال: القوت من الطعام، والماء البارد. فقال: لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه، حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها، وشربة شربتها، ليطولن وقوفك بين يديه ! قال: فما النعيم جعلت فداك ؟ قال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم، وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته.
[ 434 ]
103 - سورة العصر مكية وآياتها ثلاث مكية ثلاث آيات بالإجماع. اختلافها: آيتان والعصر غير المكي والمدني الأخير بالحق مكي والمدني الأخير. فضلها: في حديث أبي: ومن قرأها ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة. الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ (والعصر) في نوافله، بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنه، قريرة عينه، حتى يدخل الجنة. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بوعيد من ألهاه التكاثر، وافتتح هذه السورة بمثل ذلك، وهو أن الإنسان لفي خسر إلا المؤمن الصالح، فقال سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم (والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)). اللغة: أصل العصر: عصر الثوب ونحوه، وهو فتله لإخراج مائه. ومنه عصر الدهر، فإنه الوقت الذي يمكن فيه فتل الأمور، كما يفتل الثوب. والعصر: العشي. قال: يروح بنا عمرو، وقد قصر العصر * وفي الروحة الأولى الغنيمة، والأجر والعصران: الغداة والعشي. والعصران: الليل والنهار. قال: ولن يلبث العصران يوم، وليلة، * إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
[ 435 ]
الاعراب: أراد بالإنسان الجمع دون المفرد بدلالة أنه استثنى منه (الذين آمنوا) وروى بعضهم عن أبي عمرو (وتواصوا بالصبر) على لغة من قال: مررت ببكر. المعنى: (والعصر) أقسم سبحانه بالدهر لأن فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار، وهو قول ابن عباس والكلبي والجبائي. وقيل: هو وقت العشي، عن الحسن، وقتادة. فعلى هذا أقسم سبحانه بالطرف الأخير من النهار، لما في ذلك من الدلالة على وحدانية الله تعالى، بإدبار النهار، وإقبال الليل، وذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، وهو الطرف الأول من النهار، لما فيه من حدوث سلطان الشمس، وإقبال النهار. وأهل الملتين يعظمون هذين الوقتين. وقيل: أقسم بصلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، عن مقاتل. وقيل: هو الليل والنهار، ويقال لهما العصران، عن ابن كيسان. (إن الإنسان لفي خسر) هذا جواب القسم. والإنسان، اسم الجنس. والمعنى: إنه لفي نقصان، لأنه ينقص عمره كل يوم، وهو رأس ماله، فإذا ذهب رأس ماله، ولم يكتسب به الطاعة، يكون على نقصان طول دهره وخسران، إذ لا خسران أعظم من استحقاق العقاب الدائم. وقيل: لفي خسر أي في هلكة، عن الأخفش. (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) استثنى من جملة الناس المؤمنين المصدقين بتوحيد الله، العاملين بطاعة الله (وتواصوا بالحق) أي وصى بعضهم بعضا باتباع الحق، واجتناب الباطل. وقيل: الحق القرآن، عن الحسن وقتادة. وقيل: هو الإيمان والتوحيد، عن مقاتل. وقيل: هو أن يقولوا عند الموت لمخلفيهم لا تموتن إلا وأنتم مسلمون. (وتواصوا بالصبر) أي وصى بعضهم بعضا بالصبر على تحمل المشاق في طاعة الله، عن الحسن وقتادة. وبالصبر عن معاصي الله أي: فإن هؤلاء ليسوا في خسر، بل هم في أعظم ربح وزيادة، يربحون الثواب باكتساب الطاعات، وإنفاق العمر فيها، فكأن رأس مالهم باق، كما أن التاجر إذا خرج رأس المال من يده، وربح عليه، لم يعد ذلك ذهابا. وقيل: لفي خسر معناه: لفي عقوبة وغبن من فوت أهله ومنزله في الجنة. وقيل: المراد بالإنسان الكافر خاصة، وهو أبو جهل، والوليد بن المغيرة. وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنها مع قلة حروفها، تدل على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين، علما وعملا. وفي
[ 436 ]
وجوب التواصي بالحق والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء إلى التوحيد والعدل، وأداء الواجبات، والإجتناب عن المقبحات. وقيل: إن في قراءة ابن مسعود: والعصر. إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر، وروي ذلك عن علي عليه السلام.
[ 437 ]
104 - سورة الهمزة مكية وآياتها تسع مكية وهي تسع آيات بالإجماع. فضلها: وفي حديث أبي: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ (ويل لكل همزة) في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر، وجلبت عليه الرزق، وتدفع عنه ميتة السوء. تفسيرها: أجمل سبحانه في تلك السورة أن الإنسان لفي خسر، وفصل في هذه السورة تلك الجملة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم (ويل لكل همزة لمزة (1) الذي جمع مالا وعدده (2) يحسب أن ما له أخلده (3) كلا لينبذن في الحطمة (4) وما أدراك ما الحطمة (5) نار الله الموقدة (6) التي تطلع على الأفئدة (7) إنها عليهم مؤصدة (8) في عمد ممددة (9)). القراءة: قرأ أهل البصرة وابن كثير ونافع وعاصم: (جمع) بالتخفيف. والباقون: (جمع) بالتشديد. (مؤصدة) وذكرناه في سورة البلد. وقرأ أهل الكوفة غير حفص: (في عمد) بضمتين. والباقون: (في عمد) بفتح العين والميم. الحجة: قال أبو الحسن: المثقلة أكثر، تقول فلان يجمع المال من هنا، ومن هنا. قال أبو عمرو: وجمع خفيفة إذا أكثر، وإذا ثقل، فإنما هو شئ بعد شئ.
[ 438 ]
قال أبو علي: وقد يجوزأن يكون جمع لما يجمع فيما قرب من الوقت، ولم يجمع شيئا بعد شئ. قال سبحانه (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) وقال الأعشى: ولمثل الذي جمعت لريب الد * هر لا مسند، ولا زمال (1) والأشبه أن تكون أداة الحرب لا تجمع في وقت واحد، وإنما هو شئ بعد شئ. فيجوز على هذا أن يكون شيئا بعد شئ في قول من خفف، كما تقول ذلك في قول من ثقل. ومن قرأ (عمد) جعله جمعا لعمود، مثل قدوم وقدم، وزبور وزبر. ومن قال (عمد) فإنه جمع عمود أيضا كما قالوا أفق، وأدم، وأهب، في جمع أفيق، وأديم، وأهاب. وهذا اسم من أسماء الجمع غير مستمر. وقد قالوا: حارس وحرس، وغائب وغيب، وخادم وخدم، ورائح وروح، وهو في أنه غير مطرد مثل عمد. اللغة: الهمزة: الكثير الطعن على غيره بغير حق، العائب له بما ليس بعيب. وأصل الهمز الكسر، فكأن العائب بعيبه إياه، وطعنه فيه، يكسره ويهمزه. وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة ؟ قال: السنور تهمزها. وكأن الهمز في الكلام نبرة كالطعنة بقوة اعتمادها. واللمز: العيب أيضا. والهمزة واللمزة بمعنى. وقد قيل بينهما فرق، فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب. واللمزة: الذي يعيبك في وجهك، عن الليث. وقيل: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه، ويومئ بعينه، ويقال: لمزه يلمزه ويلمزه بكسر الميم وضمها. ورجل لماز ولمزة، وهماز وهمزة. قال زياد الأعجم: تدلي بودي إذا لاقيتني، كذبا، * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة والحطمة: الكثير الحطم أي الأكل. ورجل حطمة: أكول. وحطم الشئ إذا كسره وأذهبه قال: قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل، ولا غنم (2) وفعلة بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل، ويصير عادة له، تقول: رجل (1) المسند: الدعي. والزمال: الجبان. (2) مضى البيت في ما سبق. (*)
[ 439 ]
نكحة كثير النكاح، وضحكة كثير الضحك، وكذا همزة ولمزة. وفعلة ساكنة العين، يكون للمفعول به. الاعراب: (الذي جمع): في موضع جر على البدل من (همزة). ولا يجوز أن يكون صفة لأنه معرفة. ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني. وفي موضع رفع على إضمار هو. وفي حرف عبد الله: ويل للهمزة اللمزة. فعلى هذا الوجه يكون صفة. (لينبذن): يعني الجامع للمال. وروي في الشواذ عن الحسن (لينبذان) يعني الجامع والمال. و (نار الله): تقديره هي نار الله. المعنى: (ويل لكل همزة لمزة) هذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتاب غياب، مشاء بالنميمة، مفرق بين الأحبة، عن ابن عباس. وعنه أيضا قال: الهمزة: الطعان. واللمزة: المغتاب. وقيل: الهمزة المغتاب. واللمزة الطعان، عن سعيد بن جبير، وقتادة. وقيل: الهمزة الذي يطعن في الوجه بالعيب. واللمزة: الذي يغتاب عند الغيبة، عن الحسن، وأبي العالية، وعطاء بن أبي رباح. وقيل: الهمزة الذي يهمز الناس بيده، ويضربهم. واللمزة. الذي يلمزهم بلسانه وبعينه، عن ابن زيد. (الذي جمع مالا وعدده) أي أحصاه، عن الفراء. وقيل: عدده للدهور، فيكون من العدة، عن الزجاج. يقال: أعددت الشئ وعددته إذا أمسكته. وقيل: جمع مالا من غير حله، ومنعه من حقه، وأعده ذخرا لنوائب دهره، عن الجبائي. وقيل: إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه، عن مقاتل. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وكان يلمز الناس ويغتابهم، عن الكلبي. ثم ذكر سبحانه طول أمله، فقال: (يحسب أن ماله أخلده) أي يظن أن ماله الذي جمعه يخلده في الدنيا، ويمنعه من الموت. فأخلده في معنى يخلده، لأن قوله (يحسب) يدل عليه. وإنما قال ذلك، وإن كان الموت معلوما عند جميع الناس، لأنه يعمل عمل من يتمنى ذلك. وقيل: أخلده بمعنى أوجب إخلاده، وهذا كما يقال: هلك فلان إذا حدث به سبب الهلاك، وإن لم يقع هلاكه بعد. ثم قال سبحانه: (كلا) أي لا يخلده ماله، ولا يبقى له. وقيل: معناه ليس الأمر كما حسب. وقيل: معناه حقا (لينبذن في الحطمة) أي ليقذفن ويطرحن من وصفناه في الحطمة، وهي اسم من أسماء جهنم. قال مقاتل: وهي تحطم العظام، وتأكل
[ 440 ]
اللحوم حتى تهجم على القلوب. ثم قال سبحانه: (وما أدراك ما الحطمة) تفخيما لأمرها. ثم فسرها بقوله: (نار الله الموقدة) أي المؤججة. أضافها سبحانه إلى نفسه ليعلم أنها ليست كسائر النيران. ثم وصفها بالإيقاد على الدوام (التي تطلع على الأفئدة) أي تشرف على القلوب فيبلغها ألمها وحريقها. وقيل: معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر، بخلاف نيران الدنيا (إنها عليهم مؤصدة) يعني أنها على أهلها مطبقة، يطبق أبوابها عليهم، تأكيدا للإياس عن الخروج (في عمد ممددة) وهي جمع عمود. وقال أبو عبيدة: كلاهما جمع عماد. قال: وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد من نار، حتى يرجع إليهم غمها وحرها، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح. وقال الحسن: يعني عمد السرادق في قوله: (وأحاط بهم سرادقها) فإذا مدت تلك العمد، أطبقت جهنم على أهلها، نعوذ بالله منها. وقال الكلبي: في عمد مثل السواري، ممددة مطولة، تمد عليهم. وقال ابن عباس: هم في عمد أي في أغلال في أعناقهم، يعذبون بها. وروى العياشي بإسناده، عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الكفار والمشركين، يعيرون أهل التوحيد في النار، ويقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، وما نحن وأنتم إلا سواء ! قال: فيأنف لهم الرب تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول للنبيين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله. ويقول الله. أنا أرحم الراحمين، اخرجوا برحمتي كما يخرج الفراش. قال: ثم قال أبو جعفر عليه السلام: ثم مدت العمد، وأوصدت عليهم، وكان والله الخلود !.
[ 441 ]
105 - سورة الفيل مكية وآياتها خمس مكية خمس آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: من قرأها عافاه الله أيام حياته في الدنيا من المسخ والقذف. أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قرأ في الفريضة (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنه كان من المصلين، وينادي يوم القيامة مناد. صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له، أو عليه. أدخلوا عبدي الجنة، ولا تحاسبوه، فإنه ممن أحبه، وأحب عمله. ومن أكثر قراءة (لإيلاف قريش) بعثه الله يوم القيامة على مركب من مراكب الجنة، حتى يقعد على موائد النور يوم القيامة. تفسيرها: ذكر الله سبحانه في تلك السورة، ما أعده من العذاب لمن عاب الناس واغتابهم، وركن إلى الدنيا، وبين في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل، قال: بسم الله الرحمن الرحيم (ألم تر كيف ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول (5)). القراءة: في الشواذ قراءة أبي عبد الرحمن: (ألم تر) بسكون الراء. الحجة: قال ابن جني: إن هذا السكون بابه الشعر دون القرآن، لما فيه من
[ 442 ]
استهلاك الحرف والحركة قبله، يعني الألف والفتحة من (ترى) أنشد أبو زيد: (قالت سليمى اشتر لنا سويقا) (1) يريد إشتر. وأنشد: قد حج في ذا العام من كان رجا * فاكتر لنا كري صدق فالنجا واحذر، فلا تكتر كريا أعرجا، * علجا، إذا سار بنا عفنججا (2) فحذف كسرة إكتر في الموضعين (3). اللغة: أبابيل: جماعات في تفرقة زمرة زمرة. ولا واحد لها في قول أبي عبيدة والفراء كعباديد. وقال الكسائي: واحدها أبول مثل عجول. وزعم أبو جعفر الرواسي أنه سمع في واحدها: إبالة. الاعراب: (كيف فعل ربك): منصوب بفعل على المصدر، أو على الحال من الرب، والتقدير: ألم تر أي فعل فعل ربك، أو أمنتقما فعل ربك بهم، أم مجازيا، ونحو ذلك. والجملة التي هي (كيف فعل ربك) سدت مسد مفعولي (ترى). قصة أصحاب الفيل أجمعت الرواة على أن ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة، هو أبرهة بن الصباح الأشرم. وقيل: إن كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب النجاشي جد النجاشي الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال محمد بن يسار: أقبل تبع حتى نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا يدعى اليوم بئر الملك. قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود الأوس والخزرج، فقاتلوه وجعلوا يقاتلونه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة، فاستحيا وأراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس، يقال له: أحيحة بن جلاح، وخرج إليه من اليهود بنيامين القرظي. فقال أحيحة: أيها الملك ! نحن قومك. وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها، ولو جهدت. قال: ولم ؟ قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء، يبعثه الله من قريش. قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان من مكة على ليلتين، بعث الله عليه ريحا، (1) هذا صدر بيت لرؤبة بن العجاج على ما قيل. (2) الكري: المكاري. والنجا أي: أسرع. والعلج: الرجل الضخم الجافي الضعيف العقل. (3) يعني في (فاكتر) (وفلا تكتر). (*)
[ 443 ]
فقصفت يديه ورجليه، وشنجت جسده. فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ! ما الذي أصابني ؟ قالوا: حدثت نفسك بشئ ؟ قال: نعم، وذكر ما أجمع عليه من هدم البيت، وإصابة ما فيه. قالوا: ذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك. قال: ويحكم ! وما المخرج مما دخلت فيه ؟ قالوا: تحدث نفسك بأن تطوف به، وتكسوه، وتهدي له. فحدث نفسه بذلك، فأطلقه الله. ثم سار حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكسا البيت. وذكر الحديث في نحره بمكة، وإطعامه الناس، ثم رجوعه إلى اليمن، وقتله، وخروج ابنه إلى قيصر، واستغاثته به فيما فعل قومه بأبيه. وأن قيصر كتب له إلى النجاشي ملك الحبشة، وأن النجاشي بعث له ستين ألفا، واستعمل عليهم روزبه، حتى قاتلوا حمير قتلة أبيه، ودخلوا صنعاء، فملكوها، وملكوا اليمن. وكان في أصحاب روزبه رجل يقال له أبرهة، وهو أبو يكسوم. فقال لروزبه: إني أولى بهذا الأمر منك، وقتله مكرا، وأرضى النجاشي. ثم إنه بنى كعبة باليمن، وجعل فيها قبابا من ذهب، فأمر أهل مملكته بالحج إليها، يضاهي بذلك البيت الحرام. وإن رجلا من بني كنانة خرج حتى قدم اليمن، فنظر إليها، ثم قعد فيها يعني لحاجة الإنسان، فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ علي بهذا، ونصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا. ودعا بالفيل، وأذن قومه بالخروج، ومن اتبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من اتبعه منهم عك والأشعرون وخثعم. قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه، بعث رجلا من بني سليم، ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه، فتلقاه أيضا رجل من الحمس، من بني كنانة، فقتله. فازداد بذلك حنقا، وحث السير والإنطلاق، وطلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له نفيل. فخرج بهم يهديهم حتى إذا كانوا بالمغمس، نزلوه وهو من مكة على ستة أميال، فبعثوا مقدماتهم إلى مكة، فخرجت قريش عباديد في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء، ولم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم، أقام على سقايته، وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب، ثم يقول:
[ 444 ]
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك * لا يغلبوا بصليبهم ومحالهم عدوا محالك (1) لا يدخلوا البلد الحرام إذا فأمر ما بدا لك ثم إن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، فلما بلغه ذلك، خرج حتى أتى القوم، وكان حاجب أبرهة رجلا من الأشعرين، وكانت له بعبد المطلب معرفة. فاستأذن له على الملك، وقال له: أيها الملك ! جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحي، ووحشها في الجبل ! فقال له: ائذن له. وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا. فلما رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره، فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطلب معه. ثم قال: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك. فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثم تكلمت فزهدت فيك ! فقال: ولم أيها الملك ؟ قال: لأني جئت إلى بيت عزكم، ومنعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وشرفكم عليهم، ودينكم الذي تعبدون، فجئت لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلمتني في إبلك، ولم تطلب إلي في بيتكم ؟ فقال له عبد المطلب: أيها الملك ! أنا أكلمك في مالي، ولهذا البيت رب هو يمنعه، لست أنا منه في شئ. فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر برد إبل عبد المطلب عليه ثم رجع. وأمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها، كأنها تكلمهم كلاما، لاقترابها منهم، فأحست نفوسهم بالعذاب، وخرج دليلهم حتى دخل الحرم وتركهم. وقام الأشعرون وخثعم، فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرأوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت. فباتوا كذلك بأخبث ليلة. ثم أدلجوا بسحر، فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا بمكة، فوجهوه إلى مكة، فربض. فضربوه فتمرغ. فلم يزالوا كذلك حتى كادوا أن يصبحوا. ثم إنهم أقبلوا على الفيل، فقالوا: لك الله أن لا نوجهك إلى مكة ! فانبعث، فوجهوه إلى اليمن راجعا، فتوجه يهرول. فعطفوه حين رأوه منطلقا حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول ربض. فلما رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتى إذا كان مع طلوع الشمس، طلعت عليهم الطير، معها الحجارة، (1) الحلال: القوم الحالون في المكان. والمحال: التدبير والقوة. (*)
[ 445 ]
فجعلت ترميهم، وكل طائر في منقاره حجر، وفي رجليه حجران. وإذا رمت بذلك مضت، وطلعت أخرى. فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه، ولا عظم إلا أوهاه وثقبه، وتاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها أرب، حتى إذا انتهى إلى اليمن، لم يبق شئ إلا باده. فلما قدمها تصدع صدره، وانشق بطنه فهلك، ولم يصب من الأشعرين وخثعم أحد. قال: وكان عبد المطلب يرتجز، ويدعو على الحبشة، يقول: يا رب لا أرجو لهم سواكا * يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا 8 إنهم لم يقهروا قواكا (1) قال: ولم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل القوم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق. وقال نفيل في ذلك: ردينة لو رأيت ولن ترينه * لدى جنب المحصب ما رأينا (2) حمدت الله إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن على للحبشان دينا وقال مقاتل بن سليمان: السبب الذي جر أصحاب الفيل إلى مكة، هو أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر، وفي حقف من أحقافها بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل، ويسميها النجاشي وأهل أرضه ماسرخشان فنزل القوم فجمعوا حطبا، ثم أججوا نارا، واشتروا لحما. فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فذهبت الرياح بالنار، فاضطرم الهيكل نارا. فغضب النجاشي لذلك، فبعث أبرهة لهدم الكعبة. وروى العياشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف ونحوه، في منقاره حجر مثل العدسة، فكان يحاذي برأس الرجل، فيرميه بالحجارة، فيخرج من دبره. فلم تزل بهم حتى أتت عليهم. قال: فأفلت رجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصة. فبينا هو يخبرهم (1) وفي تفسير الطبري وغيره: (امنعهم أن يخربوا قراكا). (2) ردينة: اسم امرأة والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى. (*)
[ 446 ]
إذ أبصر طيرا، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه، فخرج من دبره. وقال عبيد بن عمير الليثي: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل، فبعث عليهم طيرا نشأت من البحر، كأنها الخطاطيف، كل طير منها معه ثلالة أحجار. ثم جاءت حتى صفت على رؤوسهم. ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها. فما من حجر وقع منها على رجل، إلا خرج من الجانب الآخر. وإن وقع على رأسه خرج من دبره. وإن وقع على شئ من جسده خرج من الجانب الآخر. وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: دعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا، عليها الطين. فلما حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلا أخذته الحكة، وكان لا يحك الإنسان منهم جلدا إلا تساقط لحمه. قال: وكانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور، ورؤوس السباع، لم تر قبل ذلك، ولا بعده. المعنى: خاطب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تنبيها على عظم الآية التي أظهرها، والمعجزة التي فعلها، فقال: (ألم تر) أي ألم تعلم يا محمد، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ذلك. وقيل: معناه ألم تخبر، عن الفراء. (كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) الذين قصدوا تخريب الكعبة، وكان معهم فيل واحد اسمه محمود، عن مقاتل. وقيل: ثمانية أفيال، عن الضحاك. وقيل: إثنا عشر فيلا، عن الواقدي. وإنما وحد لأنه أراد الجنس. وكان ذلك في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه أكثر العلماء. وقيل: كان أمر الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث وعشرين سنة، عن الكلبي. وقيل: كان قبل مولده بأربعين سنة، عن مقاتل. والصحيح الأول. ويدل عليه ما ذكر أن عبد الملك بن مروان قال لعتاب بن أشيم الكناني الليثي: يا عتاب ! أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال عتاب: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه. ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، ووقعت على روث الفيل. وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل، وسائقه بمكة، أعميين مقعدين، يستطعمان. (ألم يجعل كيدهم في تضليل) معناه: ألم يجعل إرادتهم السوء، واحتيالهم في تخريب البيت الحرام، وقتل أهله وسبيهم واستباحتهم، في تضليل عما قصدوا إليه. ضل سعيهم حتى لم يصلوا إلى ما أرادوه بكيدهم. وقيل: في تضليل أي في ذهاب وبطلان (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) أي أقاطيع يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة. قال الأعشى:
[ 447 ]
طريق، وجبار، رواء أصوله * عليه أبابيل من الطير تنعب (1) وقال امرؤ القيس: تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم * أبابيل طير تحت داجن مدجن (2) وكانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، عن ابن عباس. وقيل: لها أنياب كأنياب السباع، عن الربيع. وقيل: طير خضر لها مناقير صفر، عن سعيد بن جبير. وقيل: طير سود بحرية، تحمل في مناقيرها وأكفها الحجارة، عن عبيد الله بن عمير وقتادة. ويمكن أن يكون بعضها خضرا، وبعضها سودا (ترميهم بحجارة من سجيل) أي تقذفهم بحجارة صلبة شديدة، ليست من جنس الحجارة. وقد فسرنا السجيل في سورة هود، وما جاء من الأقوال فيه، فلا معنى لإعادته. وقال موسى بن عائشة: كانت الحجارة أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة. وقال عبد الله بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحا، فضربت الحجارة فزادتها شدة، فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر. فإن وقع على رأسه خرج من دبره. (فجعلهم كعصف مأكول) أي كزرع وتبن قد أكلته الدواب. ثم راثته فديست وتفرقت أجزاؤه. شبه الله تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث. قال الحسن: كنا ونحن غلمان بالمدينة، نأكل الشعير إذا قصب، وكان يسمى العصف. وقال أبو عبيدة: العصف ورق الزرع. قال الزجاج: أي جعلهم كورق الزرع الذي جز وأكل أي وقع فيه الأكال. وكان هذا من أعظم المعجزات القاهرات، والآيات الباهرات، في ذلك الزمان، أظهره الله تعالى ليدل على وجوب معرفته. وفيه إرهاص لنبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه ولد في ذلك العام. وقال قوم من المعتزلة: إنه كان معجزة لنبي من الأنبياء في ذلك الزمان، وربما قالوا: هو خالد بن سنان. ونحن لا نحتاج إلى ذلك، لأنا نجوز إظهار المعجزات على غير الأنبياء من الأئمة والأولياء. وفيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات، فإنه لا يمكن نسبة شئ مما ذكره الله تعالى من أمر أصحاب الفيل إلى طبع وغيره، كما (1) الجبار من النخل: ما طال وفات يد المتناول. والنعب: صوت الطائر. (2) الدجن: المطر الكثير. وأدجن المطر: دام. (*)
[ 448 ]
نسبوا الصيحة، والريح العقيم، والخسف، وغيرهما مما أهلك الله تعالى به الأمم الخالية، إلى ذلك، إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجار معدة مهيأة لهلاك أقوام معينين، قاصدات إياهم دون من سواهم، فترميهم بها حتى تهلكهم، وتدمر عليهم، حتى لا يتعدى ذلك إلى غيرهم، ولا يشك من له مسكة من عقل ولب، أن هذا لا يكون إلا من فعل الله تعالى، مسبب الأسباب، ومذلل الصعاب. وليس لأحد أن ينكر هذا، لأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لما قرأ هذه السورة على أهل مكة، لم ينكروا ذلك، بل أقروا به، وصدقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه، واعتنائهم بالرد عليه. وكانوا قريبي العهد بأصحاب الفيل، فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة وأصل، لأنكروه وجحدوه، وكيف وأنهم قد أرخوا بذلك كما أرخوا ببناء الكعبة، وموت قصي بن كعب، وغير ذلك. وقد أكثر الشعراء ذكر الفيل، ونظموه، ونقلته الرواة عنهم. فمن ذلك ما قاله أمية بن أبي الصلت: إن آيات ربنا بينات * ما يماري فيهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى * ظل يحبو كأنه معقور (1) وقال عبد الله بن عمرو بن مخزوم: أنت الجليل ربنا لم تدنس * أنت حبست الفيل بالمغمس من بعد ما هم بشئ مبلس * حبسته في هيئة المكركس أي المنكس. قال ابن الرقيات في قصيدة: واستهلت عليهم الطير بال * جندل حتى كأنه مرجوم (1) المغمس: موضع من مكة. والمعقور: الذي قطعت قوائمه. وفي رواية ابن هشام في السيرة: (نافيات). (*)
[ 449 ]
106 - سورة قريش مكية وآياتها أربع مكية خمس آيات حجازي أربع آيات عند غيرهم. اختلافها: آية من جوع حجازي. فضلها: في حديث أبي: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من طاف بالكعبة، واعتكف بها. وروى العياشي بإسناده، عن المفضل بن صالح، عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى وألم نشرح وألم تر كيف ولإيلاف قريش. وعن أبي العباس، عن أحدهما (ع) قال: ألم تر كيف فعل ربك. ولإيلاف قريش سورة واحدة. وروي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه. وقال عمرو بن ميمون الأزدي: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب، وقرأ في الأولى (والتين) وفي الثانية (ألم تر كيف ولإيلاف قريش). تفسيرها: ولما ذكر سبحانه عظيم نعمته على أهل مكة، بما صنعه بأصحاب الفيل، قال عقيب ذلك: (بسم الله الرحمن الرحيم) لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4). القراءة: قرأ أبو جعفر: (ليلاف قريش) بغير همز (إلا فهم) مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء. وقرأ ابن عامر: (لئلاف قريش) مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء (إيلافهم) مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. وقرأ ابن فليح: (لإيلاف قريش
[ 450 ]
إلفهم) ساكنة اللام ليس بعدها ياء. وقرأ الآخرون: (لإيلاف قريش إيلافهم) مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. الحجة: قال أبو علي: قال أبو عبيدة ألفته وآلفته لغتان. أنشد أبو زيد: من المؤلفات الرمل أدماء حرة * شعاع الضحى في جيدها يتوضح (1) وأنشد غيره: ألف الصفون فلا يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسيرا (2) وقال آخر: زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم إلف، وليس لكم إلاف والألف والآلاف: مصدر ألف. والإيلاف: مصدر آلف. اللغة: الإيلاف: إيجاب الألف بحسن التدبير والتلطف. يقال: ألف يألف إلفا وآلفه يؤلفه إيلافا إذا جعله يألف. فالإيلاف: نقيض الإيحاش. ونظيره الإيناس. وإلف الشئ: لزومه على عادة في سكون النفس إليه. والرحلة: حال السير على الراحلة، وهي الناقة القوية على السير. ومنه الحديث المروي: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ". والرحل: متاع السفر. والإرتحال: احتمال الرحل للسير في السفر. الاعراب: قال أبو الحسن الأخفش اللام في قوله (لإيلاف قريش) يتعلق بقوله (كعصف مأكول) أي: فعلنا ذلك بهم لتأتلف قريش رحلتها. وقال الزجاج: معناه أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. قال أبو علي: إعترض معترض فقال: إنما جعلوا كعصف مأكول لكفرهم، ولم يجعلوا كذلك لتألف قريش. قال: وليس هذا الإعتراض بشئ، لأنه يجوز أن يكون المعنى أهلكوا لكفرهم، ولما أدى إهلاكهم إلى أن تألف قريش، جاز كقوله تعالى: (1) قائله: ذو الرمة. شبه امرأة بالظباء التي ألفت الرمل. والأدماء من الظباء: البيضاء التي يعلوها جدد. والحرة: أرض ذات حجارة. (2) يصف فرسا. وصفنت الدابة: قامت على ثلاث، وثنت سنبك يدها الرابع. *
[ 451 ]
(ليكون لهم عدوا وحزنا) وهم لم يلتقطوه لذلك. فلما آل الأمر إليه، حسن أن يجعله علة الإلتقاط. وقال الخليل وسيبويه: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي: ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة، واعترافا بها. وقيل: هو على (ألم تر كيف فعل ربك) لإيلاف قريش، عن الفراء، لأنه سبحانه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم، فيما صنع بالحبشة. المعنى: (لإيلاف قريش) أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش، مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف. فكأنه قال: نعمة إلى نعمة. فتكون اللام مؤدية معنى إلى، وهو قول الفراء. وقيل: معناه فعلنا ذلك لتألف قريش بمكة، ويمكنهم المقام بها. أو لتؤلف قريشا، فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها، وهربوا منه، فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة، ويألفوا بها، ويولد محمد (ص)، فيبعث إلى الناس بشيرا ونذيرا. وقوله: (إيلافهم) ترجمة عن الأول، وبدل منه (رحلة الشتاء والصيف) منصوبة بوقوع إيلافهم عليها، وتحقيقه: إن قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه، وأن يعرض لهم أحد بالسوء إذا خرجت منه لتجارتها. والحرم واد جديب، إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، لأنها بلاد حامية. ورحلة في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة. ولولا هاتان الرحلتان، لم يمكنهم به مقام. ولولا الأمن لم يقدروا على التصرف. فلما قصد أصحاب الفيل مكة، أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم، ومقامهم بمكة. وقيل: إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام، ولكن رحلة الشتاء في البحر وايلة طلبا للدف ء ورحلة الصيف إلى بصرى وأذرعات طلبا للهواء. وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة. فكل من ولده النضر فهو قرشي. ومن لم يلده النضر فليس بقرشي. واختلف في تسميتهم بهذا الاسم، فقيل: سموا قريشا للتجارة، وطلب المال، وجمعه. وكانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب ضرع، ولا زرع. والقرش: المكسب. يقال: هو يقرش لعياله أي يكتسب لهم. وذكر أنه قيل لابن عباس: لم سميت قريش قريشا ؟ فقال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه، يقال لها القريش، لا تمر بشئ من الغث والسمين إلا أكلته. قيل: أفتنشد في ذلك شيئا ؟ فأنشد قول الجمحي.
[ 452 ]
وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا تأكل الغث، والسمين، ولا * تترك فيه لدى الحناجر ريشا وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم. وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء. وكانوا يقولون قريش سكان حرم الله، وولاة بيته. قال الكلبي: وكان أول من حمل الميرة من الشام، ورحل إليها الإبل، هاشم بن عبد مناف، ويصدقه قول الشاعر: تحمل هاشم ما ضاق عنه * وأعيا أن يقوم به ابن بيض أتاهم بالغرائر متأقات * من أرض الشام بالبر النفيض فوسع أهل مكة من هشيم، * وشاب البر باللحم الغريض (1) وقال سعيد بن جبير: مر رسول الله (ص) ومعه أبو بكر بملأ، وهم ينشدون: يا ذا الذي طلب السماحة، والندى، * هلا مررت بآل عبد الدار لو أن مررت بهم تريد قراهم * منعوك من جهد، ومن إقتار فقال لأبي بكر: أهكذا قال الشاعر ؟ فقال: لا والذي بعثك بالحق، بل قال: يا ذا الذي طلب السماحة، والندى، * هلا مررت بآل عبد مناف لو أن مررت بهم تريد قراهم * منعوك من جهد، ومن إيجاف (2) الرائشين، وليس يوجد رائش، * والقائلين هلم للأضياف (3) والخالطين غنيهم بفقيرهم، * حتى يصير فقيرهم كالكافي والقائلين بكل وعد صادق، * ورجال مكة مسنتين عجاف (4) (1) حكي عن الأصمعي أنه قال: ابن بيض: هو رجل كان في الزمن الأول، عفر ناقته على تثنية فسد بها الطريق، ومنع الناس من سلوكها. وقال بسامة بن حزن: (كثوب ابن بيض وقاهم به * فسد على السالكين السبيلا) والغرائر: الجوالق العظام. وأتأقت الإناء: ملأته. والنفيض: الزائل عنه الغبار، والهشيم: الثريد، وشاب الشئ بالشئ: خلطه. والغريض: الطري. (2) الإيجاف: سرعة السير. (3) راشه: أعانه وأغناه. (4) كذا في النسخ. لكن في السيرة وغيره هكذا: (عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتين عجاف) = (*)
[ 453 ]
سفرين سنهما له، ولقومه، * سفر الشتاء، ورحلة الأصياف (فليعبدوا رب هذا البيت) هذا أمر من الله سبحانه أي: فليوجهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة، ويوحدوه، وهو الله سبحانه (الذي أطعمهم من جوع) بما سبب لهم من الأرزاق في رحلة الشتاء والصيف، وأعطاهم من الأموال (وآمنهم من خوف) فلا يتعرض لهم، وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب، فيقال: هو حرمي، فيخلى عنه، وعن ماله، تعظيما للحرم. وكان غيرهم إذا خرج أغير عليه. وقيل: أطعمهم من جوع أي: من بعد جوع، كما يقال: كسوتك من بعد عري. يعني: ما كانوا فيه من الجوع. قال ابن عباس: كانوا في ضر ومجاعة، حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فلم يكن بنو أب أكثر مالا، ولا أعز من قريش. = وهو الأصح. والمستنون: الذين أصابتهم السنة وهي الجوع، والقحط. والعجاف من العجف: وهو الهزال، والضعف. (*)
[ 454 ]
107 - سورة الماعون مكية وآياتها سبع. وتسمى سورة الماعون مكية. وقال الضحاك: مدنية. وقيل: بعضها مكي، وبعضها مدني. عدد آياتها: سبع عراقي، وست في الباقين. اختلافها: آية يراؤون عراقي. فضلها: في حديث أبي: من قرأها غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا. وعمرو بن ثابت عن أبي جعفر (ع) قال: من قرأ (أرأيت الذي يكذب بالدين) في فرائضه ونوافله، قبل الله صلاته وصيامه، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا. تفسيرها: ذكر سبحانه نعمه على قريش، ثم عجب سبحانه في هذه السورة من تكذيبهم، مع عظيم النعمة عليهم، فقال: (بسم الله الرحمن الحيم) (أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3) فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراءون (6) ويمنعون الماعون (7). القراءة: في الشواذ قراءة أبي رجاء العطاردي: (يدع اليتيم) بفتح الدال خفيفة. الحجة: ومعناه يتركه، ويعرض عنه، فهو صائر إلى معنى القراءة المشهورة (يدع اليتيم) أي يدفعه، ويجفو عليه.
[ 455 ]
اللغة: الدع: الدفع بشدة، ومنه الدعدعة: تحريكك المكيال ليستوعب الشئ، كأنك تدفعه. والدعدعة أيضا: زجر المعز. والحض والحث والتحريض بمعنى واحد. والماعون: كل ما فيه منفعة. قال الأعشى: بأجود منه بماعونه * إذا ما سماؤهم لم تغم (1) وقال الراعي: قوم على الإسلام لما يمنعوا * ماعونهم، ويضيعوا التهليلا وقال أعرابي في ناقة له: (كيما أنها تعطيك الماعون) أي تنقاد لك وتطيعك. وأصله القلة من المعن وهو القليل. قال الشاعر: (فإن هلاك مالك غير معن) (2) أي غير قليل. ويقال: ما له ممعن ولا معن (3). فالماعون: القليل القيمة مما فيه منفعة. ويقال: معن الوادي إذا جرت مياهه قليلا قليلا. الاعراب: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) اعتمد هنا في الخبر على ما جرى في صلة الموصول الذي هو وصف المجرور باللام المتعلق بالخبر. ألا ترى أن قوله (فويل للمصلين) غير محمول على الظاهر، والإعتماد على السهو في صلة الذين. وقوله (الذين هم يراؤون) يجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمصلين. ويجوز أن يكون منصوبا على إضمار أعني. وأن يكون مرفوعا على إضمار هم. المعنى: خاطب الله تعالى نبيه (ص) فقال: (أرأيت) يا محمد (الذي يكذب بالدين) أي هذا الكافر الذي يكذب بالجزاء والحساب، وينكر البعث مع وضوح الأمر في ذلك، وقيام الحجج على صحته. وإنما ذكره سبحانه بلفظ الإستفهام إرادة للمبالغة في الإفهام أن التكذيب بالجزاء، من أضر شئ على صاحبه، لأنه يعدم بذلك أكثر الدواعي إلى الخير، والصوارف عن الشر، فهو يتهالك (1) البيت من قصيدة يمدح بها قيس بن معديكرب. يقول: ليس الفرات إذا أزبد وتلاطمت أمواجه بأجود منه في وقت الجدب حين تصحو السماء، وينقطع المطر. (2) هذا عجز بيت لنمر بن تولب وصدره: " ولا ضيعته فألام فيه ". (3) أي: لا كثير، ولا قليل. (*)
[ 456 ]
في الإسراع إلى الشر الذي يدعوه إليه طبعه، إذ لا يخاف عواقب الضرر فيه قال الكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، عن السدي ومقاتل بن حيان. وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان ينحر في كل أسبوع جزورين، فأتاه يتيم فسأله شيئا، فقرعه بعصاه، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في رجل من المنافقين، عن عطاء، عن ابن عباس. (فذلك الذي يدع اليتيم) بين سبحانه أن من صفة هذا الذي يكذب بالدين، أنه يدفع اليتيم عنفا به، لأنه لا يؤمن بالجزاء عليه، فليس له رادع عنه. وقيل: يدع اليتيم أي يدفعه عن حقه بجفوة وعنف، ويقهره، عن ابن عباس، ومجاهد (ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه، يعني لا يفعله إذا قدر، ولا يحض عليه إذا عجز، لأنه يكذب بالجزاء. (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وهم الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، عن ابن عباس ومسروق. وروي ذلك مرفوعا. وقيل: يريد المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو قوله (الذين هم يراؤون) عن علي (ع) وابن عباس. وقال أنس: الحمد لله الذي قال: (عن صلاتهم)، ولم يقل في صلاتهم. يريد بذلك أن السهو الذي يقع للإنسان في صلاته من غير عمد، لا يعاقب عليه. وقيل: ساهون عنها لا يبالون، صلوا أم لم يصلوا، عن قتادة. وقيل: هم الذين يتركون الصلاة، عن الضحاك. وقيل: الذين إن صلوها صلوها رياء، وإن فاتتهم لم يندموا، عن الحسن. وقيل: هم الذين لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها، ولا سجودها، عن أبي العالية. وعنه أيضا قال: هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا. وروى العياشي بالإسناد عن يونس بن عمار، عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قوله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أهي وسوسة الشيطان ؟ فقال: لا كل أحد يصيبه هذا، ولكن أن يغفلها، ويدع أن يصلي في أول وقتها. وعن أبي أسامة زيد الشحام، قال: سالت أبا عبد الله (ع) عن قول الله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال: هو الترك لها، والتواني عنها. وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (ع) قال: هو التضييع لها. وقيل هم الذين يراؤون الناس في جميع
[ 457 ]
أعمالهم، لم يقصدوا بها الإخلاص لله تعالى. (ويمنعون الماعون) اختلف فيه فقيل: هي الزكاة المفروضة، عن علي وابن عمر والحسن وقتادة والضحاك، وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع). وقيل: هو ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو والفأس والقدر، وما لا يمنع كالماء والملح، عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وروي ذلك مرفوعا. وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: هو القرض تقرضه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تعيره، ومنه الزكاة. قال: فقلت إن لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه، أفعلينا جناح أن نمنعهم ؟ فقال: لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك. وقيل: هو المعروف كله، عن الكلبي.
[ 458 ]
108 - سورة الكوثر مكية وآياتها ثلاث مكية، عن ابن عباس والكلبي. مدنية، عن عكرمة والضحاك، وهي ثلاث آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين. أبو بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ (إنا أعطيناك الكوثر) في فرائضه ونوافله، سقاه الله يوم القيامة من الكوثر، وكان محدثه عند محمد (ص). تفسيرها: ذم سبحانه في تلك السورة تاركي الصلاة، ومانعي الزكاة، وذكر في هذه السورة أنهم إن فعلوا ذلك وكذبوه، فإنه يعطيه الخير الكثير، وأمره بالصلاة فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (إنا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر (3). اللغة: الكوثر: فوعل من الكثرة، وهو الشئ الذي من شأنه الكثرة. والكوثر: الخير الكثير. والإعطاء على وجهين: إعطاء تمليك، وإعطاء غير تمليك. وإعطاء الكوثر إعطاء تمليك كإعطاء الأجر، وأصله من عطا يعطو إذا تناول. والشانئ: المبغض. والأبتر: أصله من الحمار الأبتر، وهو المقطوع الذنب. وفي حديث زياد: إنه خطب خطبته البتراء، لأنه لم يحمد الله فيها، ولم يصل على النبي (ص). الاعراب: (وانحر) مفعوله محذوف أي: وانحر أضحيتك كما حذف لبيد من
[ 459 ]
قوله: " وهم العشيرة أن يبطئ حاسد " (1) أي أن يبطأهم حاسد أي: أن ينسبهم إلى البطوء. وقوله (إن شانئك هو الأبتر) لا أنت هذا. تقديره: أي هو مبتور لا أنت، لأن ذكرك مرفوع مهما ذكرت ذكرت معي، وهو فصل. و (الأبتر): خبر إن. النزول: قيل: نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه رأى رسول الله (ص) يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل العاص قالوا: من الذي كنت تتحدث معه ؟ قال: ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله (ص)، وهو من خديجة. وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر. فسمته قريش عند موت أبنه أبتر، وصنبورا، عن ابن عباس. المعنى: خاطب سبحانه نبيه (ص) على وجه التعداد لنعمه عليه، فقال: (إنا أعطيناك الكوثر) اختلفوا في تفسير الكوثر فقيل: هو نهر في الجنة، عن عاثشة وابن عمر. قال ابن عباس: لما نزلت (إنا أعطيناك الكوثر) صعد رسول الله (ص) المنبر، فقرأها على الناس. فلما نزل قالوا: يا رسول الله ! ما هذا الذي أعطاك الله ؟ قال: نهر في الجنة، أشد بياضا من اللبن، وأشد استقامة من القدح، حافتاه قباب الدر والياقوت، ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت. قالوا: يا رسول الله ! ما أنعم تلك الطير ! قال: أفلا أخبركم بأنعم منها ؟ قالوا: بلى. قال: من أكل الطائر، وشرب الماء، وفاز برضوان الله. وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: نهر في الجنة أعطاه الله نبيه (ص) عوضا من ابنه. وقيل: هو حوض النبي (ص) الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة، عن عطاء. وقال أنس: بينا رسول الله (ص) ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاء، ثم رفع رأسه مبتسما. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة. فقرأ سورة الكوثر، ثم قال: أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيرا كثيرا، هو حوضي، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم، فأقول: " يا رب إنهم من أمتي ! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " أورده مسلم في الصحيح. وقيل: (1) هذا صدر بيت من المعلقة، وعجزه: " أو أن يميل مع العدو لئامها " وقد مر. (*)
[ 460 ]
الكوثر الخير الكثير، عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد. وقيل: هو النبوة والكتاب، عن عكرمة. وقيل: هو القرآن، عن الحسن. وقيل: هو كثرة الأصحاب والأشياع، عن أبي بكر بن عياش. وقيل: هو كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (ع)، حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم. وقيل: هو الشفاعة رووه عن الصادق (ع). واللفظ يحتمل للكل، فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال. فقد أعطاه الله، سبحانه وتعالى، الخير الكثير في الدنيا، ووعده الخير الكثير في الآخرة، وجميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين. (فصل لربك وانحر) أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة، بأن قال: فصل صلاة العيد، لأنه عقبها بالنحر أي: وانحر هديك وأضحيتك، عن عطاء وعكرمة وقتادة. وقال أنس بن مالك: كان النبي (ص) ينحر قبل أن يصلي، فأمر أن يصلي، ثم ينحر. وقيل: معناه فصل لربك صلاة الغداة المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنى، عن سعيد بن جبير ومجاهد. وقال محمد بن كعب: إن أناسا كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله تعالى نبيه (ص) أن يكون صلاته ونحره للبدن، تقربا إليه، وخالصا له. وقيل: معناه صل لربك الصلاة المكتوبة، واستقبل القبلة بنحرك، وتقول العرب: منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا، يعني يستقبله. وأنشد: أبا حكم هل أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر أي ينحر بعضه بعضا، وهذا قول الفراء. وأما ما رووه عن علي (ع) أن معناه: ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة، فمما لا يصح عنه، لأن جميع عترته الطاهرة (ع) قد رووه بخلاف ذلك، وهو أن معناه: ارفع يديك إلى النحر في الصلاة. وعن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في قوله (فصل لربك وانحر) هو رفع يديك حذاء وجهك. وروى عنه عبد الله بن سنان مثله. وعن جميل قال: قلت لأبي عبد الله (ع) (فصل لربك وانحر) فقال بيده هكذا - يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة - وعن حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله (ع) ما النحر ؟ فرفع يده إلى صدره، فقال: هكذا. ثم رفعها فوق ذلك، فقال: هكذا، يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة.
[ 461 ]
وروي عن مقاتل بن حيان، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (ع) قال: لما نزلت هذه السورة قال النبي (ص) لجبريل (ع): ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ قال: ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنه صلاتنا، وصلاة الملائكة في السماوات السبع، فإن لكل شئ زينة، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة. قال النبي (ص): رفع الأيدي من الإستكانة. قلت: وما الإستكانة ؟ قال: ألا تقرأ هذه الآية (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون). أورده الثعلبي والواحدي في تفسيرهما. (إن شانئك هو الأبتر) معناه: إن مبغضك هو المنقطع عن الخير، وهو العاص بن وائل. وقيل: معناه أنه الأقل الأذل بانقطاعه عن كل خير، عن قتادة. وقيل: معناه أنه لا ولد له على الحقيقة، وأن من ينسب إليه ليس بولد له. قال مجاهد: الأبتر الذي لا عقب له، وهو جواب لقول قريش: إن محمدا (ص) لا عقب له، يموت فنستريح منه، ويدرس دينه، إذ لا يقوم مقامه من يدعو إليه، فينقطع أمره. وفي هذه السورة دلالات على صدق نبينا (ص) وصحة نبوته أحدها: إنه أخبر عما في نفوس أعدائه، وما جرى على ألسنتهم، ولم يكن بلغه ذلك، فكان على ما أخبر. وثانيها: إنه قال (أعطيناك الكوثر) فانظر كيف انتشر دينه، وعلا أمره، وكثرت ذريته، حتى صار نسبه أكثر من كل نسب، ولم يكن شئ من ذلك في تلك الحال وثالثها: إن جميع فصحاء العرب والعجم، قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها مع تحديه إياهم بذلك، وحرصهم على بطلان أمره، منذ بعث النبي (ص) إلى يومنا هذا. وهذا غاية الإعجاز ورابعها: إنه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه، وأخبره بسقوط أمرهم، وانقطاع دينهم، أو عقبهم، فكان المخبر على ما أخبر به. هذا وفي هذه السورة الموجزة من تشاكل المقاطع للفواصل، وسهولة مخارج الحروف، بحسن التأليف، والتقابل لكل من معانيها، بما هو أولى به، ما لا يخفى على من عرف مجاري كلام العرب.
[ 462 ]
109 - سورة الكافرون مكية وآياتها ست مكية وعن ابن عباس وقتادة مدنية، وهي ست آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: ومن قرأ (يا أيها الكافرون) فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر. وعن جبير بن مطعم قال: قال لي رسول الله (ص): أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة، وأكثرهم زادا ؟ قلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فاقرأ هذه السور الخمس: (قل يا أيها الكافرون)، و (إذا جاء نصر الله والفتح)، و (قل هو الله أحد)، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم. قال جبير: وكنت غير كثير المال، وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج، فأكون أكثرهم همة، وأمثلهم زادا، حتى أرجع من سفري ذلك. وعن فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه أنه أتى النبي (ص) فقال: جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي. قال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ (قل يا أيها الكافرون) ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك. شعيب الحداد، عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أبي يقول (قل يا أيها الكافرون) ربع القرآن، وكان إذا فرغ منها قال: أعبد الله وحده. أعبد الله وحده. وعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قلت (لا أعبد ما تعبدون) فقل: ولكني أعبد الله مخلصا له ديني، فإذا فرغت منها، فقل ديني الإسلام ثلاث مرات. وعن الحسين بن أبي العلاء قال: من قرأ (قل يا أيها الكافرون)، و (قل هو الله أحد) في فريضة من الفرائض، غفر الله له ولوالديه وما ولدا، وإن كان شقيا محي من ديوان الأشقياء، وكتب في ديوان السعداء، وأحياه الله سعيدا، وأماته شهيدا، وبعثه شهيدا.
[ 463 ]
تفسيرها: ذكر سبحانه في تلك السورة أن أعداءه عابوه بأنه أبتر، فرد ذلك عليهم، وذكر في هذه السورة أنهم سألوه المداهنة، فأمره بالبراءة منهم، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عابدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5) لكم دينكم ولي دين (6) القراءة: قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم: (لي دين) بفتح الياء. والباقون بسكون الياء. الحجة: إسكان الياء من (ولي) وفتحها جميعا حسنان سائغان. الاعراب: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) كان الوجه (من أعبد) ولكنه جاء بما ليطابق ما قبله وما بعده. وقيل: إن ما ههنا بمعنى من، والعائد من الصلة إلى الموصول في الجميع محذوف، والتقدير ما تعبدونه، وما أعبده، وما عبدتموه. النزول: نزلت السورة في نفر من قريش، منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف، قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا، نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فقال (ص): معاذ الله أن أشرك به غيره. قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك، ونعبد إلهك. فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي. فنزل (قل يا أيها الكافرون) السورة. فعدل رسول الله (ص) إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم، حتى فرغ من السورة. فأيسوا عند ذلك، فآذوه، وآذوا أصحابه. قال ابن عباس: وفيهم نزل قوله (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون).
[ 464 ]
المعنى: خاطب سبحانه النبي (ص) فقال: (قل) يا محمد (يا أيها الكافرون) يريد قوما معينين لأن الألف واللام للعهد (لا أعبد ما تعبدون) أي: لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها اليوم وفي هذه الحال (ولا أنتم عابدرن ما أعبد) أي إلهي الذي أعبده اليوم، وفي هذه الحال أيضا. (ولا أنا عابد ما عبدتم) فيما بعد اليوم. (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فيما بعد اليوم من الأوقات المستقبلة، عن ابن عباس ومقاتل. قال الزجاج: نفى رسول الله (ص) بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال، وفيما يستقبل. ونفى عنهم عبادة الله في الحال، وفيما يستقبل. وهذا في قوم أعلمه الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، كقوله سبحانه في قصة نوح (ع) (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن). وقيل أيضا في وجه التكرار: إن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب. بلى، بلى. ويقول الممتنع: لا، لا، عن الفراء، قال: ومثله قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون) وأنشد: وكائن، وكم عندي لهم من صنيعة، * أيادي ثنوها علي، وأوجبوا وأنشد: كم نعمة كانت لكم * كم، كم، كم، كم، كم، وكم وقال آخر: نعق الغراب ببين ليلى غدوة * كم كم وكم بفراق ليلى ينعق (1) وقال آخر: " هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا " وقال آخر: أردت لنفسي بعض الأمور * فأولى لنفسي أولى لها وقال: وهذا أولى المواضع بالتأكيد، لأن الكافرين أبدوا في ذلك، وأعادوا. فكرر سبحانه ليؤكد إياسهم وحسم أطماعهم بالتكرير. وقيل أيضا في ذلك: إن (1) وفي أمالي الشريف (قده): " لبنى " بدل " ليلى " في الموضعين. (*)
[ 465 ]
المعنى لا أعبد الأصنام التي تعبدونها، ولا أنتم عابدون الله الذي أنا عابده، إذا أشركتم به، واتخذتم الأصنام وغيرها تعبدونها من دونه. وإنما يعبد الله من أخلص العبادة له، ولا أنا عابد ما عبدتم أي: لا أعبد عبادتكم فيكون ما مصدرية. ولا أنتم عابدون ما أعبد أي: وما تعبدون عبادتي على نحو ما ذكرناه. فأراد في الأول المعبود، وفي الثاني العبادة. فإن قيل: أما اختلاف المعبودين فمعلوم، فما معنى اختلاف العبادة ؟ قلنا: إنه يعبد الله على وجه الإخلاص، وهم يشركون به في عبادته، فاختلفت العبادتان. ولأنه كان يتقرب بعبادته إلى معبوده بالأفعال المشروعة الواقعة على وجه العبادة، وهم لا يفعلون ذلك، وإنما يتقربون إليه بأفعال يعتقدونها قربة جهلا من غير شرع. (لكم دينكم ولي دين) ذكر فيه وجوه أحدها: إن معناه لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه وثانيها: إن المعنى لكم كفركم بالله، ولي دين التوحيد والإخلاص. وهذا وإن كان ظاهره إباحة، فإنه وعيد وتهديد، ومبالغة في النهي والزجر، كقوله: اعملوا ما شئتم وثالثها: إن الدين الجزاء، ومعناه: لكم جزاؤكم، ولي جزائي. قال الشاعر: إذا ما لقونا لقيناهم * ودناهم مثل ما يقرضونا وقد تضمنت السورة معجزة لنبينا (ص) من جهة الإخبار بما يكون في الأوقات المستقبلة، مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي من قبل الله سبحانه، العالم بالغيوب. فكان ما أخبر به كما أخبر. وفيها دلالة على ذم المداهنة في الدين، ووجوب مخالفة الكفار والمبطلين، والبراءة منهم. وروى داود بن الحصين، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قرأت (قل يا أيها الكافرون) فقل: أيها الكافرون. وإذا قلت (لا أعبد ما تعبدون) فقل: أعبد الله وحده. وإذا قلت (لكم دينكم ولي دين) فقل: ربي الله، وديني الإسلام.
[ 466 ]
110 - سورة النصر مدنية وآياتها ثلاث مدنية وهي ثلاث آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: من قرأها فكأنما شهد مع رسول الله (ص) فتح مكة. وروى كرام الخثعمي، عن أبي عبد الله (ع) قال: من قرأ (إذا جاء نصر الله والفتح) في نافلة، أو فريضة، نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حر جهنم، ومن النار، ومن زفير جهنم، يسمعه بأذنيه، فلا يمر على شئ يوم القيامة إلا بشره، وأخبره بكل خير، حتى يدخل الجنة. تفسيرها: ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر الدين، وافتتح هذه السورة بظهور الدين، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3). الاعراب: مفعول (جاء) محذوف والتقدير: إذا جاءك نصر الله. وجواب (إذا) محذوف والتقدير: إذا جاء نصر الله حضر أجلك. وقيل: جوابه الفاء في قوله (فسبح). و (أفواجا): منصوب على الحال. المعنى: (إذا جاء) يا محمد (نصر الله) على من عاداك، وهم قريش (والفتح) فتح مكة. وهذه بشارة من الله سبحانه لنبيه (ص) بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) أي: جماعة بعد جماعة، وزمرة
[ 467 ]
بعد زمرة، والمراد بالدين الإسلام، والتزام أحكامه، واعتقاد صحته، وتوطين النفس على العمل به. قال الحسن: لما فتح رسول الله (ص) مكة، قالت العرب: أما إذا ظفر محمد (ص) بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان أي: طاقة. فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا، أو اثنين. فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. وقيل في دين الله أي: في طاعة الله وطاعتك، وأصل الدين الجزاء. ثم يعبر به عن الطاعة التي يستحق بها الجزاء، كما قال سبحانه (في دين الملك) أي: في طاعته. (فسبح بحمد ربك واستغفره) هذا أمر من الله سبحانه بأن ينزهه عما لا يليق به من صفات النقص، وأن يستغفره. ووجه وجوب ذلك بالنصر والفتح أن النعمة تقتضي القيام بحقها، وهو شكر المنعم، وتعظيمه، والإئتمار بأوامره، والإنتهاء عن معاصيه. فكأنه قال: قد حدث أمر يقتضي الشكر والإستغفار، وإن لم يكن ثم ذنب، فإن الإستغفار قد يكون عند ذكر المعصية بما ينافي الإصرار. وقد يكون على وجه التسبيح، والإنقطاع إلى الله، عز وجل. (إنه كان توابا) يقبل توبة من بقي، كما قبل توبة من مضى. قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها (ص) على أصحابه ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى. فقال (ص): ما يبكيك يا عم ؟ فقال: أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله. فقال: إنه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكا مستبشرا. قال: وهذه السورة تسمى سورة التوديع وقال ابن عباس: لما نزلت (إذا جاء نصر الله) قال: نعيت إلي نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة. واختلف في أنهم من أي وجه علموا ذلك، وليس في ظاهره نعي، فقيل: لأن التقدير فسبح بحمد ربك فإنك حينئذ لاحق بالله، وذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل، وعند الكمال يرقب الزوال، كما قيل: إذا تم أمر، بدا نقصه، * توقع زوالا إذا قيل: تم وقيل: لأنه سبحانه أمره بتجديد التوحيد، واستدراك الفائت بالإستغفار، وذلك مما يلزم عند الإنتقال من هذه الدار إلى دار الأبرار. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت السورة كان النبي (ص) يقول كثيرا: " سبحانك اللهم وبحمدك. اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم ". وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله (ص) بالآخرة لا
[ 468 ]
يقوم، ولا يقعد، ولا يجئ، ولا يذهب، إلا قال: " سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه " فسألناه عن ذلك فقال (ص): " إني أمرت بها ". ثم قرأ: (إذا جاء نصر الله والفتح). وفي رواية عائشة أنه كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ". حديث فتح مكة لما صالح رسول الله (ص) قريشا، عام الحديبية، كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله (ص) أدخل فيه، فدخلت خزاعة في عقد رسول الله (ص)، ودخلت بنو بكر في عقد قريش، وكان بين القبيلتين شر قديم. ثم وقعت فيما بعد بين بني بكر وخزاعة مقاتلة، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا. وكان ممن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه، عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو. فركب عمرو بن سالم الخزاعي، حتى قدم على رسول الله (ص) المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو في المسجد، بين ظهراني القوم، فقال: لا هم إني ناشد محمدا * حلف أبينا، وأبيه، الأتلدا (1) إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله: حسبك يا عمرو. ثم قام فدخل دار ميمونة، وقال: اسكبي لي ماء. فجعل يغتسل، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، وهم رهط عمرو بن سالم. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله (ص) فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بني بكر عليهم. ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان (ص) قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة، وسيلقى بديل بن ورقاء. فلقوا أبا سفيان بعسفان، وقد بعثته قريش إلى النبي (ص) ليشدد العقد. فلما لقي أبو سفيان بديلا قال. من أين أقبلت يا بديل ؟ قال: سرت في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي. قال: ما أتيت محمدا ؟ قال: لا. * (هامش) (1) الناشد: الطالب، والمذكر. والأتلد: القديم. (*)
[ 469 ]
فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة، لقد علف بها النوى. فعمد إلى مبرك ناقته، وأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى. فقال: أحلف بالله تعالى، لقد جاء بديل محمدا ! ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله (ص) فقال: يا محمد أحقن دم قومك. وأجر بين قريش، وزدنا في المدة. فقال (ص) أغدرتم يا أبا سفيان ؟ قال: لا. قال (ص): فنحن على ما كنا عليه. فخرج فلقي أبا بكر، فقال: أجر بين قريش. قال: ويحك وأحد يجير على رسول الله (ص). ثم لقي عمر بن الخطاب، فقال له مثل ذلك. ثم خرج فدخل على أم حبيبة، فذهب ليجلس على الفراش، فأهوت إلى الفراش فطوته. فقال: يا بنية ! أرغبت بهذا الفراش عني ؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول الله (ص)، ما كنت لتجلس عليه، وأنت رجس مشرك. ثم خرج فدخل على فاطمة (ع)، فقال: يا بنت سيد العرب، تجيرين بين قريش، وتزيدين في المدة، فتكونين أكرم سيدة في الناس ؟ فقالت: جواري جوار رسول الله (ص) قال: أتأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس ؟ قالت: والله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس ! وما يجير على رسول الله (ص) أحد. فقال: يا أبا الحسن ! إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني. فقال علي (ع): إنك شيخ قريش، فقم على باب المسجد، وأجر بين قريش، ثم الحق بأرضك. قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال: لا والله ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها الناس ! إني قد أجرت بين قريش. ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراك ؟ فأخبرهم بالقصة. فقالوا: والله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. قال: فأمر رسول الله (ص) بالجهاز لحرب مكة وأمر الناس بالتهيئة، وقال: اللهم خذ العيون، والأخبار عن قريش، حتى نبغتها (1) في بلادها. وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فأتى رسول الله (ص) الخبر من السماء، فبعث عليا (ع) والزبير حتى أخذا كتابه من المرأة، وقد مضت هذه القصة في سورة الممتحنة. ثم استخلف رسول الله (ص) أبا ذر الغفاري، وخرج عامدا إلى مكة، لعشر (1) من البغتة. (*)
[ 470 ]
مضين من شهر رمضان، سنة ثمان، في عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن المغيرة، قد لقيا رسول الله (ص) بنيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فلم يأذن لهما. فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله ! ابن عمك وابن عمتك، وصهرك. قال: لا حاجة لي فيهما. أما ابن عمي فهتك عرضي. وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال. فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله (ص) رق لهما، فأذن لهما، فدخلا عليه فأسلما. فلما نزل رسول الله (مر الظهران) وقد غمت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم عن رسول الله (ص) خبر، خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتجسسون الأخبار، وقد قال العباس ليلتئذ: يا سوء صباح قريش ! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها، فدخل مكة عنوة، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ! فخرج على بغلة رسول الله، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا، أو صاحب لبن، أو داخلا يدخل مكة، فنخبرهم بمكان رسول الله، فيأتونه فيستأمنونه. قال العباس فوالله إني لأطوف في الأراك، ألتمس ما خرجت له، إذ سمعت صوت أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وسمعت أبا سفيان يقول: والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا. فقال بديل: هذه نيران خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك. قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة يعني أبا سفيان. فقال: أبو الفضل ؟ فقلت: نعم. قال: لبيك فداك أبي وأمي، ما وراك ؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين ! قال: فما تأمرني ؟ فقلت. تركب عجز هذه البغلة، فأستامن لك رسول الله (ص) فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول الله، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: هذا عم رسول الله (ص) على بغلة رسول الله، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال يعني عمر: يا أبا سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير
[ 471 ]
عهد، ولا عقد. ثم اشتد نحو رسول الله (ص)، وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة، وسبقت عمر بما يسبق به الدابة البطيئة، الرجل البطئ. فدخل عمر فقال: يا رسول الله ! هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه، بغير عهد، ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم إني جلست إلى رسول الله (ص)، وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر ! فوالله ما يصنع هذا الرجل إلا أنه رجل من آل بني عبد مناف، ولو كان من عدي بن كعب، ما قلت هذا. قال: مهلا يا عباس ! فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال (ص): إذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي في الغداة. قال: فلما أصبح غدوت به على رسول الله (ص)، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك ! والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر، ويوم أحد. فقال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي. أما هذه فإن في النفس منها شيئا. قال العباس: فقلت له ويحك ! إشهد بشهادة الحق، قبل أن يضرب عنقك. فتشهد. فقال (ص) للعباس. انصرف يا عباس، فاحبسه عند مضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله. قال: فحبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي. ومر عليه القبائل قبيلة قبيلة، وهو يقول: من هؤلاء ؟ وأقول: أسلم، وجهينة، وفلان، حتى مر رسول الله (ص) في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ قلت: هذا رسول الله (ص) في المهاجرين والأنصار. فقال: يا أبا الفضل ! لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ! فقلت: ويحك إنها النبوة. فقال: نعم إذا. وجاء حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، رسول الله (ص)، وأسلما وبايعاه. فلما بايعاه، بعثهما رسول الله (ص) بين يديه إلى قريش، يدعوانهم إلى الإسلام. وقال: من دخل دار أبي سفيان، وهي بأعلى مكة، فهو آمن، ومن دخل دار حكيم، وهي بأسفل مكة، فهو آمن. ومن أغلق بابه وكف يده، فهو آمن. ولما خرج أبو سفيان وحكيم من عند رسول الله (ص)، عامدين إلى مكة،
[ 472 ]
بعث في أثرهما الزبير بن العوام، وأمره على خيل المهاجرين، وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون. وقال له: لا تبرح حتى آتيك. ثم دخل رسول الله (ص) مكة، وضربت هناك خيمته، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار، في مقدمته. وبعث خالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم، وأمره أن يدخل أسفل مكة، ويغرز رايته دون البيوت. وأمرهم رسول الله (ص) جميعا أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحويرث بن نفيل، وابن خطل، ومقبس بن ضبابة. وأمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله (ص) وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ! فقتل علي (ع) الحويرث بن نفيل، وإحدى القينتين وأفلتت الأخرى. وقتل مقبس بن ضبابة في السوق. وأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا، فقتله. قال: وسعى أبو سفيان إلى رسول الله (ص)، وأخذ غرزه أي ركابه فقبله. ثم قال: بأبي أنت وأمي. أما تسمع ما يقول سعد ؟ إنه يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة. فقال (ص) لعلي (ع): أدركه فخذ الراية منه، وكن أنت الذي يدخل بها، وأدخلها إدخالا رفيقا. فأخذها علي (ع)، وأدخلها كما أمر. ولما دخل رسول الله (ع) مكة، دخل صناديد قريش الكعبة، وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم. وأتى رسول الله، ووقف قائما على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مال أو مأثرة ودم تدعى، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة الكعبة، وسقاية الحاج، فإنهما مردودتان إلى أهليهما. ألا إن مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وهي محرمة إلى أن تقوم الساعة. لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم فكأنما أنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وكان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، فكانوا له فيئا، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء. وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله (ص) وأسلم وقال:
[ 473 ]
يا رسول الإله إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور (1) إذ أباري الشيطان في سنن ال * غي، ومن مال ميله مثبور (2) آمن اللحم والعظام لربي * ثم نفسي الشهيد أنت النذير وعن ابن مسعود قال: دخل النبي (ص) يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد، جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وعن ابن عباس قال: لما قدم النبي (ص) إلى مكة، أبى أن يدخل البيت، وفيه الآلهة. فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل (ع)، وفي أيديهما الأزلام فقال (ص): " قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " !. (1) رجل بور: هالك. (2) قوله أباري أي أجاري وأعارض. والسنن: وسط الطريق. ومثبور: هالك. (*)
[ 474 ]
111 - سورة المسد مكية وآياتها خمس وتسمى أيضا سورة أبي لهب، وتسمى سورة المسد مكية. عدد آياتها: خمس آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة. عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قرأتم (تبت) فادعوا على أبي لهب، فإنه كان من المكذبين بالنبي (ص)، وبما جاء به من عند الله. تفسيرها: ذكر سبحانه في تلك السورة وعده بالنصر والفتح، ثم بين في هذه السورة ما كفاه الله من أمر أبي لهب، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5). القراءة: قرأ ابن كثير: (أبي لهب) ساكنة الهاء. والباقي بفتحها. واتفقوا في (ذات لهب) أنها مفتوحة الهاء لوفاق الفواصل. وقرأ عاصم: (حمالة الحطب) بالنصب. والباقون بالرفع. وروي عن البرجمي: (سيصلى) بضم الياء، وهي قراءة أشهب العقيلي، وأبي رجاء. وفي الشواذ قراءة ابن مسعود: (ومريئته حمالة للحطب في جيدها حبل من مسد). الحجة: قال أبو علي: يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين، كالشمع والشمع،
[ 475 ]
والنهر والنهر. واتفاقهم في الثانية على الفتح، يدل على أنه أوجه من الإسكان، وكذلك قوله: ولا يغني من اللهب. وأما حمالة الحطب، فمن رفع جعله وصفا لقوله (وامرأته)، ويدل على أن الفعل قد وقع كقولك: مررت برجل ضارب عمرا أمس. فهذا لا يكون إلا معرفة، ولا يقدر فيه إلا الإنفصال كما يقدر في هذا النحو، إذا لم يكن الفعل واقعا. وأما ارتفاع (امرأته) فيحتمل وجهين أحدهما: العطف على فاعل (سيصلى) التقدير: سيصلى نارا هو وامرأته، إلا أن الأحسن أن لا يؤكد لما جرى من الفصل بينهما، ويكون (حمالة الحطب) على هذا وصفا لها. ويجوز في قوله: (في جيدها) أن يكون في موضع حال. وفيها ذكر منها، ويتعلق بمحذوف. ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يرتفع (امرأته) بالإبتداء. و (حمالة) وصف لها. و (في جيدها) خبر المبتدأ. وأما النصب في (حمالة الحطب)، فعلى الذم لها، كأنها كانت اشتهرت بذلك، فجرت الصفة عليها للذم، لا للتخصيص والتخليص من موصوف غيرها. وقوله (حبل) معناه غليظ. رجل حبل الوجه، وحبل الرأس. اللغة: التب والتباب: الخسران المؤدي إلى الهلاك. والمسد: الحبل من الليف، وجمعه أمساد قال: ومسد أمر من أيانق * ليس بأنياب، ولا حقائق (1) النزول: سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صعد رسول الله (ص) ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه ! فاقبلت إليه قريش، فقالوا له: ما لك ؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك ! لهذا دعوتنا جميعا ؟ فأنزل الله هذه السورة. أورده البخاري في الصحيح. المعنى: (تبت يدا أي لهب وتب) أي خسرت يداه، وخسر هو، عن مقاتل. وإنما قال: خسرت يداه، لأن أكثر العمل يكون باليد. والمراد: خسر عمله، وخسرت نفسه بالوقوع في النار. وقيل: إن اليد هنا صلة كقولهم: يد (1) قائله عمارة بن طارق. وأيانق جمع أينق: وأينق جمع ناقة. والأنياب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل. والحقائق: جمع حقة - بالكسر - وهي التي دخلت في السنة الرابعة، وليس جلدها بالقوي. يريد: ليس جلدها من الصغير، ولا الكبير. (*)
[ 476 ]
الدهر، ويد السنة. قال: " وأيدي الرزايا بالذخائر مولع " وقيل: معناه صفرت يداه من كل خير. قال الفراء: الأول دعاء، والثاني خبر، فكأنه قال: أهلكه الله وقد هلك. وفي حرف عبد الله وأبي: وقد تب. وقيل: إن الأول أيضا خبر، ومعناه أنه لم تكتسب يداه خيرا قط، وخسر مع ذلك هو نفسه أي تب على كل حال. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي (ص)، وكان شديد المعاداة والمناصبة له. قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز، إذا أنا بشاب يقول: أيها الناس ! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وإذا برجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيها الناس ! إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا ؟ فقالوا: هو محمد، يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب، يزعم أنه كذاب. وإنما ذكر سبحانه كنيته، دون اسمه، لأنها كانت أغلب عليه. وقيل: لأن اسمه عبد العزى، فكره الله سبحانه أن ينسبه إلى العزى، وأنه ليس بعبد لها، وإنما هو عبد الله. وقيل: بل اسمه كنيته، وإنما سمي بذلك لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان، عن مقاتل. (ما أغنى عنه ماله وما كسب) أي ما نفعه، ولا دفع عنه عذاب الله ماله، وما كسبه. ويكون (ما) في قوله (وما كسب) موصولة، والضمير العائد من الصلة محذوف. وقيل: معناه أي شئ أغنى عنه ماله، وما كسب يعني ولده، لأن ولد الرجل من كسبه، وذلك أنه قال لما أنذره النبي (ص) بالنار: إن كان ما تقول حقا، فإني أفتدي بمالي وولدي. ثم أنذره سبحانه بالنار، فقال: (سيصلى نارا ذات لهب) أي سيدخل نارا ذات قوة واشتعال، تلتهب عليه، وهي نار جهنم، وفي هذا دلالة على صدق النبي (ص)، وصحة نبوته، لأنه أخبر أن أبا لهب يموت على كفره، وكان كما قال. (وامرأته) وهي أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان (حمالة الحطب) كانت تحمل الشوك والعضاة، فتطرحه في طريق رسول الله (ص) إذا خرج إلى الصلاة ليعقره، عن ابن عباس. وفي رواية الضحاك: قال الربيع بن أنس: كانت تبث وتنشر الشوك على طريق الرسول، فيطؤه كما يطأ أحدكم الحرير. وقيل: إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس، فتلقي بينهم العداوة، وتوقد نارها بالتهييج، كما توقد النار الحطب، فسمى النميمة حطبا، عن ابن عباس في رواية أخرى، وقتادة ومجاهد وعكرمة والسدي. قالت العرب. فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به،
[ 477 ]
قال: " ولم يمش بين الحي بالحطب الرطب " أي لم يمش بالنميمة. وقيل: حمالة الحطب معناه. حمالة الخطايا، عن سعيد بن جبير وأبي مسلم. ونظيره قوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم). (في جيدها حبل من مسد) أي في عنقها حبل من ليف، وإنما وصفها بهذه الصفة تخسيسا لها وتحقيرا. وقيل: حبل يكون له خشونة الليف، وحرارة النار، وثقل الحديد، يجعل في عنقها زيادة في عذابها. وقيل: في عنقها سلسلة من حديد، طولها سبعون ذراعا، تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، وتدار على عنقها في النار، عن ابن عباس، وعروة بن الزبير. وسميت السلسلة مسدا بمعنى أنها ممسودة أي مفتولة. وقيل: إنها كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت:. لأنفقنها في عداوة محمد ! فيكون عذابا يوم القيامة في عنقها، عن سعيد بن المسيب. ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت هذه السورة، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة وفي يدها فهر (1)، وهي تقول: " مذمما أبينا، ودينه قلينا (2)، وأمره عصينا " والنبي (ص) جالس في المسجد، ومعه أبو بكر. فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله ! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، قال رسول الله (ص): إنها لن تراني. وقرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله (ص) فقالت: يا أبا بكر ! أخبرت أن صاحبك هجاني. فقال: لا ورب البيت ما هجاك. فولت وهي تقول " قريش تعلم أني بنت سيدها ". وروي أن النبي (ص) قال: صرف الله سبحانه عني أنهم يذمون مذمما وأنا محمد. ومتى قيل: كيف يجوز أن لا ترى النبي (ص) وقد رأت غيره ؟ فالجواب: يجوزأن يكون الله قد عكس شعاع عينيها، أو صلب الهواء، فلم ينفذ فيه الشعاع، أو فرق الشعاع فلم يتصل بالنبي (ص). وروي أن النبي (ص) قال: " ما زال ملك يسترني عنها ". وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الإيمان، ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه، بانه سيصلى نارا ذات (1) الفهر: حجرعلى مقدارمل ء الكف. (2) كانت قريش تسمي رسول الله (ص) مذمما. وقلينا أي: أبغضنا. (*)
[ 478 ]
لهب ؟ فالجواب: إن الإيمان يلزمه، لأن تكليف الإيمان ثابت عليه. وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله سبحانه في قصة فرعون: (الآن وقد عصيت قبل) وفي هذا دلالة على أنه لو تاب قبل وقت اليأس، لكان يقبل منه. ولهذا خص رد التوبة عليه بذلك الوقت. وأيضا فلو قدرنا أن أبا لهب سأل النبي (ص) قال: لو آمنت هل أدخل النار ؟ لكان (ص) يقول له: لا، وذلك لعدم الشرط.
[ 479 ]
112 - سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع مكية وقيل: مدنية. وسميت سورة التوحيد، لأنه ليس فيها إلا التوحيد، وكلمة التوحيد تسمى كلمة الإخلاص. وقيل: إنما سميت بذلك لأن من تمسك بما فيها اعتقادا وإقرارا، كان مؤمنا مخلصا. وقيل: لأن من قرأها على سبيل التعظيم، أخلصه الله من النار أي أنجاه منها. وتسمى أيضا سورة الصمد، وتسمى أيضا بفاتحتها. وتسمى أيضا نسبة الرب. وروي في الحديث لكل شئ نسبة، ونسبة الرب سورة الإخلاص. وفي الحديث أيضا أنه كان يقول لسورتي (قل يا أيها الكافررن) و (قل هو الله أحد) المقشقشتان، سميتا بذلك لأنهما يبرئان من الشرك والنفاق. يقال: تقشقش المريض من علته إذا أفاق وبرئ. وقشقشه: أبرأه، كما يقشقش الهناء الجرب. عدد آياتها: خمس آيات مكي شامي، أربع في الباقين. اختلافها: آية لم يلد مكي شامي. فضلها: في حديث أبي: من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. وعن أبي الدرداء، عن النبي (ص) قال: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ قلت: يا رسول الله ! ومن يطيق ذلك ؟ قال: اقرأوا (قل هو الله أحد). وعن أنس، عن النبي (ص) قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) مرة، بورك عليه. فإن قرأها مرتين بورك عليه، وعلى أهله، فإن قرأها ثلاث مرات، بورك عليه وعلى أهله وعلى جميع جيرانه. فإن قرأها اثنتي عشرة مرة، بني له اثنا عشر قصرا في الجنة، فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا. فإن قرأها مائة مرة، كفر عنه ذنوب خمس وعشرين سنة، ما خلا الدماء والأموال. فإن قرأها أربعمائة كفر عنه ذنوب أربعمائة
[ 480 ]
سنة. فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه من الجنة، أو يرى له ". وعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فشكا إليه الفقر، وضيق المعاش. فقال له رسول الله (ص): " إذا دخلت بيتك، فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد، فسلم واقرأ (قل هو الله أحد) مرة واحدة،. ففعل الرجل، فأفاض الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه. السكوني، عن أبي عبد الله (ع): إن رسول الله (ص) صلى على سعد بن معاذ، فلما صلى عليه قال (ص): لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك، وفيهم جبرائيل (ع)، يصلون عليه. فقلت: يا جبرأئيل ! بم استحق صلاتكم عليه ؟ قال: بقراءة قل هو الله أحد قاعدا وقائما وراكبا وماشيا وذاهبا وجائيا. منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (ع) قال: من مضى به يوم واحد، فصلى فيه الخمس صلوات، ولم يقرأ فيها بقل هو الله أحد، قيل له: يا عبد الله لست من المصلين. إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (ع) قال: من مضت عليه جمعة، ولم يقرأ فيها بقل هو الله أحد، ثم مات، مات على دين أبي لهب. هارون بن خارجة عنه (ص) قال: " من أصابه مرض، أو شدة، فلم يقرأ في مرضه أو شدته، بقل هو الله أحد، ثم مات في مرضه، أو في تلك الشدة التي نزلت به، فهو من أهل النار ". أبو بكر الحضرمي عنه (ص) قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بقل هو الله أحد، فإنه من قرأها جمع له خير الدنيا والاخرة، وغفر الله له ولوالديه، وما ولدا ". عبد الله بن حجر قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول: من قرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، وأرغم أنف الشيطان. إبراهيم بن مهزم عمن سمع أبا الحسن (ع) يقول: من قدم (قل هو الله أحد) بينه وبين كل جبار، منعه الله منه، يقرؤها بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه الله خيره، ومنعه شره. وقال: إذا خفت أمرا، فاقرأ مائة آية من القرآن، حيث شئت، ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء - ثلاث مرات -. عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): " من قرأ (قل هو الله أحد " مائة مرة، حين يأخذ مضجعه، غفر الله له ذنوب خمسين سنة ". تفسيرها: لما ذم سبحانه أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدمة، ذكر في
[ 481 ]
هذه السورة بيان التوحيد، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4). القراءة: قرأ أبو عمرو: (أحد الله الصمد) بغير تنوين الدال من (أحد). وروي عنه (ع) أنه كان يقول (قل هو الله أحد) ثم يقف، فإن وصل قال أحد الله. وزعم أن العرب لم تكن تصل مثل هذا. والباقون: (أحد الله) بالتنوين. وقرأ اسماعيل عن نافع وحمزة وخلف ورويس: (كفؤا) ساكنة الفاء مهموزة. وقرأ حفص: (كفوا) مضمومة الفاء، مفتوحة الواو، وغير مهموزة. وقرأ الباقون: (كفؤا) بالهمزة، وضم الفاء. الحجة: قال أبو علي: من قرأ (أحد الله): فوجهه بين، وذلك أن التنوين من أحد ساكن، ولام المعرفة من الإسم ساكن. فلما التقى الساكنان حرك الأول منهما بالكسر، كما تقول: إذهب اذهب. ومن قال (أحد الله) فحذف النون، فإن النون قد شابهت حروف اللين في الآخر في أنها تزاد كما يزدن، وفي أنها تدغم فيهن كما يدغم كل واحد من الواو والياء في الآخر، وفي أنها قد أبدلت منها الألف في الأسماء المنصوبة، وفي الخفيفة. فلما شابهت حروف اللين، أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين، كما حذف الألف والواو والياء لذلك في نحو: رمى القوم، ويغزو الجيش، ويرمي القوم. ومن ثم حذفت ساكنة في الفعل في نحو: لم يك، ولا تك في مرية. فحذفت في (أحد الله) لالتقاء الساكنين، كما حذفت هذه الحروف في نحو: هذا زيد بن عمرو، حتى استمر ذلك في الكلام. وأنشد أبو زيد. فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا وقال الشاعر: كيف نومي على الفراش، ولما * تشمل الشام غازة شعواء
[ 482 ]
تذهل الشيخ عن بنيه، وتبدي * عن خدام العقيلة العذراء (1) أما كفوا وكفوا: فأصله الضم، فخفف مثل طنب وطنب، وعنق وعنق. اللغة: أحد: أصله وحد، فقلبت الواو همزة، ومثله: أناة وأصله وناة، وهو على ضربين أحدهما: أن يكون إسما والآخر: أن يكون صفة. فالإسم نحو أحد وعشرون يريد به الواحد، والصفة كما في قول النابغة: كأن رحلي، وقد زال النهار بنا * بذي الجليل على مستأنس وحد (2) وكذلك قولهم واحد يكون إسما كالكاهل والغارب، ومنه قولهم: واحد، اثنان، ثلاثة، وتكون صفة كما في قول الشاعر: " فقد رجعوا كحي واحدينا " وقد جمعوا أحدا الذي هو الصفة على أحدان قالوا: أحد وأحدان، شبهوه بسلق وسلقان، ونحوه قول الشاعر: يحمي الصريمة أحدان الرجال له * صيد، ومجترئ بالليل هماس (3) فهذا جمع لأحد الذي يراد به الرفع من الموصوف والتعظيم له، وأنه متفرد عن الشبه والمثل. وقالوا: هو أحد الأحد إذا رفع منه وعظم. وقالوا: أحد الأحدين، وواحد الآحاد. وحقيقة الواحد: شئ لا ينقسم في نفسه، أو في معنى صفته، فإذا أطلق واحد من غير تقدم موصوف، فهو واحد في نفسه. وإذا أجري على موصوف، فهو واحد في معنى صفته. فإذا قيل الجزء الذي لا يتجزأ واحد أريد أنه واحد في نفسه. وإذا قيل: هذا الرجل إنسان واحد، فهو واحد في معنى صفته. وإذا وصف الله تعالى بأنه واحد، فمعناه أنه المختص بصفات لا يشاركه فيها أحد غيره، نحو كونه قادرا لنفسه، عالما حيا موجودا كذلك. والصمد: السيد المعظم الذي يصمد (1) البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيات. وغارة شعواء: متفرقة. والخدام: الخلخال: وخدام ههنا في نية عن خدامها والعقيلة: الكريمة. (2) البيت من قصيدة يمدح بها النعمان بن منذر، وقد عدها بعض الأدباء من (المعلقات). وذو الجليل: واد قرب مكة. وأراد من المستأنس: الثور الوحشي الذي أحس بما رابه، فهو يستأنس أي: يتبصر ويلتفت، هل يرى أحدا، فذلك أجد في عدوه وفراره. والوحد: الوحيد المنفرد. (3) الصريمة: القطعة من النخل، ومن الإبل أيضا. وأسد هماس: شديد الغمز بضرسه. *
[ 483 ]
إليه في الحوائج أي يقصد. وقيل: هو السيد الذي ينتهي إليه السؤدد. قال الأسدي: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد * بعمرو بن مسعود، وبالسيد الصمد وقال الزبرقان: " ولا رهينة إلا السيد الصمد " وقال: رجل مصمد أي مقصود. وكذلك بيت مصمد. قال طرفة: وإن يلتقي الحي الجميع، تلاقني * إلى ذروة البيت الرفيع المصمد (1) والكفو والكفئ والكفاء واحد، وهو المثل والنظير. قال النابغة: لا تقذفني بركن لا كفاء له * ولو تأثفك الأعداء بالرفد (2) وقال حسان: وجبريل رسول الله منا * وروح القدس ليس له كفاء وقال آخر في الكفئ: أما كان عباد كفيئا لدارم * بلى ولأبيات بها الحجرات الاعراب: قال أبو علي: (قل هو الله أحد) يجوز في إعراب (الله) ضربان أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ، وذلك على قول من ذهب إلى أن هو كناية عن اسم الله تعالى. ثم يجوز في قوله (أحد) ما يجوز في قولك زيد أخوك قائم. والآخر: على قول من ذهب إلى أن هو كناية عن القصة والحديث، فيكون اسم الله عنده مرتفعا بالإبتداء، وأحد خبره. ومثله قوله تعالى: (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) إلا أن هي جاءت على التأنيث، لأن في التفسير اسما مؤنثا. وعلى هذا جاء: (فإنها لا تعمى الأبصار). وإذا لم يكن في التفسير مؤنث، لم يؤنث ضمير القصة. * (هامش) (*) (1) البيت من المعلقة يقول: إن اجتمع الحي للإفتخار، كنت في أعلى الشرف. (2) هذا البيت من قصيدة يمدح بها النعمان، ويعتذر إليه مما وشى له به المنخل من شأن امرأته. يقول: لا ترميني بركن أي: بجانب لا أقوى وأمر لا أطيق، ولا يقوم له أحد. وتأثفك الأعداء أي: احتوشوك فصاروا حولك كالأثافي من القدر. والرفد: أن يرفد بعضهم بعضا في السعي بي عندك. (*)
[ 484 ]
وقوله (الله الصمد) الله مبتدأ، والصمد خبره. ويجوز أن يكون (الصمد) صفة الله. والله خبر مبتدأ محذوف أي: هو الله الصمد. ويجوز أن يكون (الله الصمد) خبرا بعد خبر على قول من جعل هو ضمير الأمر والحديث. (ولم يكن له كفوا أحد) قال: إن له ظرف غير مستقر، وهو متعلق بكان. وكفوا: منتصب بأنه خبر متقدم، كما كان قوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) كذلك. وزعموا أن من البغداديين من يقول: إن في (يكن) من قوله (ولم يكن له كفوا أحد) ضميرا مجهولا. وقوله (كفوا) ينتصب على الحال، والعامل فيها له. وهذا إذا أفردته عن (يكن) كان معناه: له أحد كفوا. وإذا حمل على هذا لم يسغ. ووجه ذلك أنه محمول على معنى النفي، فكأنه لم يكن أحد له كفوا، كما كان قولهم: ليس الطيب إلا المسك، محمولا على معنى النفي، ولولا حمله على المعنى لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت: زيد إلا منطلق، لم يكن كلاما. فكما أن هذا محمول على المعنى، كذلك (له كفوا أحد) محمول على المعنى. وعلى هذا جاز أن يكون (أحد) فيه الذي يقع لعموم النفي. ولولا ذلك لم يجز أن يقع (أحد) هذا في الإيجاب. فإن قلت: أيجوز أن يكون قوله تعالى له عندكم حالا على أن يكون المعنى ولم يكن كفوا له أحد، فيكون له صفة للنكرة. فلما قدم صار في موضع الحال كقوله: (لعزة موحشا طلل قديم) (1) فإن سيبويه قال: إن ذلك يقل في الكلام، وإن كثر في الشعر، فإن حملته على هذا على استكراه، كان غير ممتنع. والعامل في قوله له إذا كان حالا، يجوز أن يكون أحد شيئين أحدهما: يكن والاخر: أن يكون ما في معنى كفوا من معنى المماثلة. فإن قلت: إن العامل في الحال إذا كان معنى، لم يتقدم الحال عليه، فإن (له) لما كان على لفظ الظرف، والظرف يعمل فيه المعنى، وإن تقدم عليه، كقولك: كل يوم لك ثوب، كذلك يجوز في هذا الظرف، وذلك من حيث كان ظرفا، وفيه ضمير في الوجهين يعود إلى ذي الحال، وهو (كفوا). * (هامش) (*) (1) هذا صدر بيت لكثير عزة، وعجزه: (عفاه كل أسحم مستديم). وعزة: اسم امرأة، وبها قيل له كثير عزة. وموحشا من أوحش المنزل إذا أقفر وخلا من الأنيس، وأصبح مسكنا للوحش. والطلل: ما شخص من آثار الديار. والشاهد في مجئ الحال الذي هو (موحشا) من النكرة التي هي (طلل) وتقدمه عليه دليل على أنه حال لا صفة. (*)
[ 485 ]
النزول: قيل: إن المشركين قالوا لرسول الله (ص): أنسب لنا ربك. فنزلت السورة، عن أبي بن كعب وجابر. وقيل: أتى عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخو لبيد، النبي (ص)، وقال عامر: إلى ما تدعونا يا محمد ؟ فقال: إلى الله. فقال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب ؟ فنزلت السورة. وأرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته، وطعن عامر في خنصره فمات، عن ابن عباس. وقيل: جاء أناس من أحبار اليهود إلى النبي (ص) فقالوا: يا محمد ! صف لنا ربك، لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة. فنزلت السورة، وهي نسبة الله خاصة، عن الضحاك وقتادة ومقاتل. وروى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (ع) قال: إن اليهود سألوا النبي (ص) فقالوا: أنسب لنا ربك. فمكث ثلاثا لا يجيبهم، ثم نزلت السورة. وقريب منه ما ذكره القاضي في تفسيره أن عبد الله بن سلام انطلق إلى رسول الله (ص) وهو بمكة، فقال له رسول الله (ص): أنشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله ؟ فقال: إنعت لنا ربك. فنزلت هذه السورة فقرأها النبي (ص)، فكانت سبب إسلامه، إلا أنه كان يكتم ذلك إلى أن هاجر النبي (ص) إلى المدينة، ثم أظهر الإسلام. المعنى: (قل هو الله أحد) هذا أمر من الله، عز اسمه، لنبيه (ص) أن يقول لجميع المكلفين: هو الله الذي تحق له العبادة. قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله، عز وجل، ومعناه الذي سألتم تبيين نسبته هو الله أحد أي: واحد. ويجوز أن يكون المعنى الأمر الله أحد، لا شريك له، ولا نظير. وقيل: معناه واحد ليس كمثله شئ، عن ابن عباس. وقيل: واحد في الإلهية والقدم. وقيل: واحد في صفة ذاته، لا يشركه في وجوب صفاته أحد، فإنه يجب أن يكون موجودا عالما قادرا حيا، ولا يكون ذلك واجبا لغيره. وقيل: واحد في أفعاله، لأن أفعاله كلها إحسان، لم يفعلها لجر نفع، ولا لدفع ضرر، فاختص بالوحدة من هذا الوجه، إذ لا يشركه فيه سواه، واحد في أنه لا يستحق العبادة سواه، لأنه القادر على أصول النعم من الحياة والقدرة والشهوة، وغير ذلك مما لا تكون النعمة نعمة إلا به، ولا يقدر على شئ من ذلك غيره، فهو أحد من هذه الوجوه الثلاثة، وقيل: إنما قال أحد، ولم يقل واحد، لأن الواحد يدخل في الحساب، ويضم إليه آخر. وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ، ولا ينقسم في ذاته، ولا في معنى
[ 486 ]
صفاته. ويجوز أن يجعل للواحد ثانيا، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا، لأن الأحد يستوعب جنسه بخلاف الواحد. ألا ترى أنك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان. ولما قلت لا يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه إثنان، ولا أكثر، فهو أبلغ. وقال أبو جعفر الباقر (ع) في معنى (قل هو الله أحد) أي: قل أظهر ما أوحينا إليك، وما نبأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها عليك، ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد، وهو اسم مكنى مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أن قولك هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس، وذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة بالأبصار، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو إليه، حتى نراه وندركه، ولا نأله فيه. فانزل الله سبحانه: (قل هو الله أحد) فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار، ولمس الحواس، وأنه يتعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار، ومبدع الحواس. وحدثني أبي عن أبيه، عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: رأيت الخضر في المنام، قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئا أنتصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو ! يا من لا هو إلا هو ! فلما أصبحت قصصت على رسول الله (ص) فقال: يا علي ! علمت الإسم الأعظم. فكان على لساني يوم بدر. قال وقرأ (ع) يوم بدر (قل هو الله أحد) فلما فرغ، قال: يا هو ! يا من لا هو إلا هو ! إغفر لي، وانصرني على القوم الكافرين. وكان يقول ذلك يوم صفين، وهو يطارد. فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ! ما هذه الكنايات ؟ قال: اسم الله الأعظم، وعماد التوحيد الله، لا إله إلا هو. ثم قرأ: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) وآخر الحشر. ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال. قال: وقال أمير المؤمنين (ع) الله معناه: المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه. الله المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات. وقال الباقر (ع): الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته، والإحاطة بكيفيته. وتقول العرب: أله الرجل إذا تحير في الشئ، فلم يحط به علما. ووله إذا فزع إلى شئ. قال: والأحد الفرد المتفرد، والأحد، والواحد، بمعنى واحد وهو المتفرد
[ 487 ]
الذي لا نظير له. والتوحيد: الإقرار بالوحدة، وهو الإنفراد، والواحد: المباين الذي لا ينبعث من شئ، ولا يتحد بشئ. ومن ثم قالوا: إن بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد، لأن العدد لا يقع على الواحد، بل يقع على الإثنين. فمعنى قوله (الله أحد) أي: المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه، والإحاطة بكيفيته، فرد بإلهيته، متعال عن صفات خلقه. (الله الصمد) قال الباقر (ع): حدثني أبي زين العابدين (ع)، عن أبيه الحسين بن علي (ع)، أنه قال: الصمد الذي قد انتهى سؤدده، والصمد الدائم الذي لم يزل، ولا يزال. والصمد الذي لا جوف له. والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد الذي لا ينام. وأقول: إن المعنى في هذه الثلاثة أنه سبحانه الحي الذي لا يحتاج إلى الطعام والشراب والنوم. قال الباقر (ع): والصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه. قال: وكان محمد بن الحنفية يقول: الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره. وقال غيره: الصمد المتعالي عن الكون والفساد. والصمد الذي لا يوصف بالنظائر. قال: وسئل علي بن الحسين زين العابدين (ع) عن الصمد، فقال: الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شئ، ولا يعزب عنه شئ. وقال أبو البختري، وهب بن وهب القرشي: قال زيد بن علي (ع): الصمد الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. والصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأصنافا وأشكالا وأزواجا، وتفرد بالوحدة بلا ضد، ولا شكل، ولا مثل، ولا ند. قال وهب بن وهب: وحدثني الصادق جعفر بن محمد (ع)، عن أبيه الباقر (ع) أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونه عن الصمد، فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النارا وإن الله قد فسر سبحانه الصمد فقال: (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوأ أحد). (لم يلد) لم يخرج منه شئ كثيف، كالولد، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شئ لطيف كالنفس، ولا ينبعث منه البدوات كالسنة والنوم، والخطرة والغم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسآمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شئ، وأن يتولد منه شئ
[ 488 ]
كثيف أو لطيف. (ولم يولد) أي ولم يتولد من شئ، ولم يخرج من شئ، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشئ من الشئ، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار. ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، والنار من الحجر. لا بل هو الله الصمد الذي لا من شئ، ولا في شئ، ولا على شئ، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الله الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال. (ولم يكن له كفوا أحد) قال وهب بن وهب: سمعت الصادق (ع) يقول: قدم وفد من فلسطين على الباقر (ع) فسألوه عن مسائل، فأجابهم عنها، ثم سألوه عن الصمد فقال: تفسيره فيه الصمد خمسة أحرف (فالألف): دليل على أنيته، وهو قوله عز وجل (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس (واللام): دليل على إلهيته، بانه هو الله. والألف واللام مدغمان لا يظهران على اللسان، ولا يقعان في السمع، ويظهران في الكتابة، دليلان على أن إلهيته بلطفه خافية، لا يدرك بالحواس، ولا يقع في لسان واصف، ولا أذن سامع، لأن تفسير الإله هو الله الذي أله الخلق عن درك ماهيته وكيفيته، بحس أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام، وخالق الحواس، وإنما يظهر ذلك عند الكتابة، فهو دليل على أن الله سبحانه أظهر ربوبيته في إبداع الخلق، وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة. وإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أن لام الصمد لا يتبين، ولا يدخل في حاسة من حواسه الخمس. فلما نظر إلى الكتابة، ظهر له ما خفي ولطف. فمتى تفكر العبد في ماهية الباري وكيفيته، أله وتحير، ولم تحط فكرته بشئ يتصور له، لأنه تعالى خالق الصور. وإذا نظر إلى خلقه، ثبت له أنه، عز وجل، خالقهم، ومركب أرواحهم في أجسادهم. وأما (الصاد) فدليل على أنه سبحانه صادق وقوله صدق، وكلامه صدق، ودعا عباده إلى اتباع الصدق بالصدق، ووعدنا بالصدق، وأراد الصدق. وأما (الميم)
[ 489 ]
فدليل على ملكه، وأنه الملك الحق المبين، لم يزل، ولا يزال، ولا يزول ملكه. وأما (الدال) فدليل على دوام ملكه، وأنه دائم، تعالى عن الكون والزوال، بل هو الله، عز وجل، مكون الكائنات الذي كان بتكوينه كل كائن. ثم قال (ع): لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة، لنشرت التوحيد والإسلام، والدين والشرائع، من الصمد، وكيف لي بذلك، ولم يجد جدي أمير المؤمنين (ع) حملة لعلمه، حتى كان يتنفس على الصعداء، أو يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين الجوانح مني علما جما. هاه ! هاه ! ألا لا أجد من يحمله، ألا وإن عليكم من الله الحجة البالغة، فلا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الاخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور. وعن عبد خير قال: سأل رجل عليا (ع) عن تفسير هذه السورة، فقال: قل هو الله أحد بلا تأويل عدد، الصمد بلا تبعيض بدد، لم يلد فيكون موروثا هالكا، ولم يولد فيكون إلها مشاركا، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد. وقال ابن عباس: لم يلد فيكون والدا، ولم يولد فيكون ولدا. وقيل: لم يلد ولدا فيرث عنه ملكه، ولم يولد فيكون قد ورث الملك عن غيره. وقيل: لم يلد فيدل على حاجته، فإن الإنسان يشتهي الولد لحاجته إليه، ولم يولد فيدل على حدوثه، وذلك من صفة الأجسام. وفي هذا رد على القائلين إن عزيرا والمسيح ابن الله، وإن الملائكة بنات الله، ولم يكن له كفوا أحد أي: لم يكن له أحد كفوا أي: عديلا ونظيرا يماثله. وفي هذا رد على من أثبت له مثلا في القدم، وغيره من الصفات. وقيل: معناه ولم تكن له صاحبة وزوجة فتلد منه، لأن الولد يكون من الزوجة، فكنى عنها بالكفوء، لأن الزوجة تكون كفوا لزوجها. وقيل: إنه سبحانه بين التوحيد بقوله (الله أحد)، وبين العدل بقوله (الله الصمد)، وبين ما يستحيل عليه من الوالد والولد بقوله (لم يلد ولم يولد)، وبين ما لا يجوز عليه من الصفات بقوله (ولم يكن له كفوا أحد) وفيه دلالة على أنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا هو في مكان، ولا جهة، وقال بعض أرباب اللسان: وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص، والتقلب، والكثرة، والعدد، وكونه علة أو معلولا، والأشكال، والأضداد. فنفى الله سبحانه عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله: (قل هو الله أحد) ونفى
[ 490 ]
التقلب والنقص بقوله (الله الصمد). ونفى العلة والمعلول بقوله: (لم يلد ولم يولد) ونفى الأشكال والأضداد بقوله: (ولم يكن له كفوا أحد) فحصلت الوحدانية البحت. وروى عمران بن الحصين أن النبي (ص) بعث سرية، واستعمل عليها عليا (ع)، فلما رجعوا سألهم عن علي (ع)، فقالوا: كل خير، غير أنه كان يقرأ في أثناء كل صلاة بقل هو الله أحد. فقال: لم فعلت يا علي هذا ؟ فقال: لحبي قل هو الله أحد. فقال النبي (ص).: ما أحببتها حتى أحبك الله، عز وجل. ويروى أن النبي (ص) كان يقف عند آخر كل آية من هذه السورة. وروى الفضيل بن يسار قال: أمرني أبو جعفر أن أقرأ قل هو الله أحد، وأقول إذا فرغت منها. " كذلك الله ربي " ثلاثا.
[ 491 ]
113 - سورة الفلق مكية وآياتها خمس مدنية في أكثر الأقاويل. وقيل: مكية. عدد أياتها: خمس آيات بالإجماع. فضلها: في حديث أبي: ومن قرأ (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (ص): " أنزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان " أورده مسلم في الصحيح. وعنه عن النبي (ص) قال: " يا عقبة ! ألا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن ؟ قلت: بلى يا رسول الله، فعلمني المعوذتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي: اقرأهما كلما قمت ونمت ". أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (ع) قال: من أوتر بالمعوذتين، وقل هو الله أحد، قيل له: يا عبد الله ! أبشر فقد قبل الله وترك. تفسيرها: ذم سبحانه أعداء الرسول (ص) في سورة تبت، ثم ذكر التوحيد في سورة الإخلاص، ثم ذكر سبحانه الإستعاذة في السورتين، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (قل أعوذ برب الفلق (1) من شرما خلق (2) ومن شرغاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5). اللغة: أصل الفلق: الفرق الواسع من قولهم: فلق رأسه بالسيف يفلقه فلقا.
[ 492 ]
ويقال: أبين من فلق الصبح، وفرق الصبح، لأن عموده ينفلق بالضياء عن الظلام. والغاسق في اللغة: الهاجم بضرره، وهو ههنا الليل، لأنه يخرج السباع من آجامها، والهوام من مكامنها فيه. يقال: غسقت القرحة إذا جرى صديدها، ومنه الغساق: صديد أهل النار لسيلانه بالعذاب. وغسقت عينه: سال دمعها. التقوب: الدخول وقب يقب. ومنه الوقبة: النقرة، لأنه يدخل فيها. النفث شبيهة بالنفخ. وأما التفل فنفخ بريق. فهذا الفرق بين النفث والتفل. قال الفرزدق: هما نفثا في في من فمويهما * على النافث الغاوي أشد رجام والحاسد: الذي يتمنى زوال النعمة عن صاحبها، وإن لم يردها لنفسه. فالحسد مذموم. والغبطة محمودة، وهي أن يريد من النعمة لنفسه مثل ما لصاحبه، ولم يرد زوالها عنه. النزول: قالوا: إن لبيد بن أعصم اليهودي سحر رسول الله (ص)، ثم دس ذلك في بئر لبني زريق. فمرض رسول الله (ص). فبينا هو نائم إذ أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والاخر عند رجليه، فأخبراه بذلك، وأنه في بئر ذروان في جف طلعة، تحت راعوفة. والجف: قشر الطلع. والراعوفة: حجر في أسفل البئر، يقوم عليها الماتح. فانتبه رسول الله (ص)، وبعث عليا (ع) والزبير وعمار. فنزحوا ماء تلك البئر، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأس، وأسنان من مشطه، وإذا فيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالأبر، فنزلت هاتان السورتان. فجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله (ص) خفة، فقام فكأنما أنشط من عقال، وجعل جبرائيل (ع) يقول: باسم الله أرقيك من شر كل شئ يؤذيك، من حاسد وعين والله تعالى يشفيك. ورووا ذلك عن عائشة، وابن عباس. وهذا لا يجوز لأن من وصف بأن مسحور فكأنه قد خبل عقله، وقد أبى الله سبحانه ذلك في قوله: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا) ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك، فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيه (ص) على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج، وكان ذلك دلالة على صدقه. وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه، وقتلوا كثيرا من المؤمنين، مع شدة عداوتهم له.
[ 493 ]
المعنى: (قل أعوذ برب الفلق) هذا أمر من الله سبحانه لنبيه (ص)، والمراد جميع أمته، ومعناه قل يا محمد أعتصم وأمتنع برب الصبح وخالقه، ومدبره ومطلعه متى شاء على ما يرى من الصلاح فيه (من شر ما خلق) من الجن والإنس، وسائر الحيوانات. وإنما سمي الصبح فلقا، لانفلاق عموده بالضياء عن الظلام، كما قيل له فجر لانفجاره بذهاب ظلامه. وهذا قول ابن عباس وجابر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقيل: الفلق المواليد لأنهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، كما ينفلق الحب من النبات. وقيل: الفلق جب في جهنم، يتعوذ أهل جهنم من شدة حره، عن السدي. ورواه أبو حمزة الثمالي، وعلي بن إبراهيم في تفسيريهما. وقوله (ما خلق) عام في جميع ما خلقه الله تعالى، ممن يجوز أن يحصل منه الشر، وتقديره من شر الأشياء التي خلقها الله تعالى، مثل السباع والهوام والشياطين وغيرها. (ومن شر غاسق إذا وقب) أي ومن شر الليل إذا دخل بظلامه، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وعلى هذا فيكون المراد من شر ما يحدث في الليل من الشر والمكروه، كما يقال: أعوذ من شر هذه البلدة. وإنما اختصر الليل بالذكر، لأن الغالب أن الفساق يقدمون على الفساد بالليل، وكذلك الهوام والسباع تؤذي فيه أكثر. وأصل الغسق: الجريان بالضرر. وقيل: إن معنى الغاسق، كل هاجم بضرره، كائنا ما كان (ومن شر النفاثات في العقد) معناه: ومن شر النساء الساحرات اللاتي ينفثن في العقد، عن الحسن وقتادة. وإنما أمر بالتعوذ من شر السحرة لإيهامهم أنهم يمرضون، ويصحون، ويفعلون شيئا من النفع والضرر، والخير والشر. وعامة الناس يصدقونهم، فيعظم بذلك الضرر في الدين، ولأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن، ويعلمون الغيب، وذلك فساد في الدين ظاهر. فلأجل هذا الضرر أمر بالتعوذ من شرهم. وقال أبو مسلم: النفاثات النساء اللاتي يملن آراء الرجال، ويصرفنهم عن مرادهم، ويردونهم إلى آرائهن، لأن العزم والرأي يعبر عنهما بالعقد. فعبر عن حلها بالنفث، فإن العادة جرت أن من حل عقدة نفث فيها. (ومن شر حاسد إذا حسد) فإنه يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فأمر بالتعوذ من شره. وقيل: إنه أراد من شر نفس الحاسد، ومن شر عينه، فإنه ربما أصاب بهما فعاب وضر. وقد جاء في الحديث أن العين حق. وقد مضى الكلام
[ 494 ]
فيه (1). وروي أن العضباء ناقة النبي (ص)، لم تكن تسبق، فجاء أعرابي على قعود (2) له، فسابق بها، فسبقها، فشق ذلك على الصحابة، فقال النبي (ص): حق على الله، عز وجل، ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه. وروى أنس أن النبي (ص) قال: " من رأى شيئا يعجبه فقال الله الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم يضر شيئا ". وروي أن النبي (ص) كان كثيرا ما يعوذ الحسن والحسين (ع) بهاتين السورتين. وقال بعضهم: إن الله سبحانه جمع الشرور في هذه السورة، وختمها بالحسد، ليعلم أنه أخس الطبائع، نعوذ بالله منه. (1) أي في سورة يوسف فراجع. (2) القعود: البكر من الإبل حين يركب أي: يمكن ظهره من الركوب. (*)
[ 495 ]
114 - سورة الناس مكية وآياتها ست مدنية، وهي مثل سورة الفلق، لأنها إحدى المعوذتين، وهي ست آيات. فضلها: الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إن رسول الله (ص) اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعا شديدا، فأتاه جبرائيل وميكائيل (ع)، فقعد جبرائيل (ع) عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فعوذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق، وعوذه ميكائيل بقل أعوذ برب الناس. أبو خديجة، عن أبي عبد الله (ع) قال: جاء جبرائيل إلى النبي (ص)، وهو شاك، فرقاه بالمعوذتين، وقل هو الله أحد، وقال: باسم الله أرقيك، والله يشفيك، من كل داء يؤذيك، خذها فلتهنيك. فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) (قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3) من شر الوسواس الخناس (4) الذى يوسوس في صدور الناس (5) من الجنة والناس (6). القراءة: قرأ أبو عمرو الدوري، عن الكسائي بميل (الناس) في موضع الجر، ولا يميل في الرفع والنصب. والباقون لا يميلون. اللغة: الوسواس: حديس النفس بما هو كالصوت الخفي، وأصله الصوت الخفي، من قول الأعشى: تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريح عشرق زجل (1) (1) البيت من معلقته الشهيرة. والوسواس: جرس الحلى. وإذا انصرفت أي إذا انقلبت إلى = (*)
[ 496 ]
قال رؤبة: وسوس يدعو مخلصا رب الفلق * سرا، وقد أون تأوين العقق (1) والوسوسة كالهمهمة، ومنه قولهم: فلان موسوس إذا غلب عليه ما يعتريه من المرة. يقال: وسوس وسواسا ووسوسة وتوسوس. والخنوس: الإختفاء بعد الظهور، خنس يخنس، ومنه الخنس في الأنف لخفائه بانخفاضه عندما يظهر بنتوة. وأصل الناس الأناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء ويدلك على ذلك الأنس والأناس. وأما قولهم في تحقيره: نويس، فإن الألف لما كانت ثانية زائدة أشبهت ألف فاعل، فقلبت واوا. الاعراب: قيل: إن قوله (من الجنة) بدل من قوله (من شر الوسواس) فكأنه قال: أعوذ بالله من شر الجنة والناس. وقيل: إن من تبيين للوسواس. والتقدير: من شر ذي الوسواس الخناس، من الجنة والناس أي: صاحب الوسواس الذي من الجنة والناس، فيكون الناس معطوفا على الوسواس الذي هو في معنى ذي الوسواس. وإن شئت لم تحذف المضاف، فيكون التقدير: من شر الوسواس، الواقع من الجنة التي توسوسه في صدور الناس. فيكون فاعل يوسوس ضمير الجنة. وإنما ذكر لأن الجنة والجن واحد. وجازت الكناية عنه، وإن كان متأخرا، لأنه في نية التقديم. فجرى مجرى قوله (فأوجس في نفسه خيفة موسى) وحذف العائد من الصلة إلى الموصوف، كما في قوله: (أهذا الذي بعث الله رسولا) أي بعثه الله رسولا. المعنى: (قل) يا محمد (أعوذ برب الناس) أي خالقهم ومدبرهم ومنشئهم (ملك الناس) أي سيدهم، والقادر عليهم. ولم يجز هنا إلا ملك، وجاز في فاتحة الكتاب ملك ومالك. وذلك لأن صفة ملك، تدل على تدبير من يشعر بالتدبير، وليس كذلك مالك، وذلك لأنه يجوز أن يقال مالك الثوب، ولا يجوز ملك الثوب. = فراشها. والعشرق شجرة مقدار ذراع لها أكمام فيها حب صغار إذا جفت فمرت بها الريح تحرك الحب. والزجل: الصوت. شبهه صوت الحلى بخشخشة العشرق. (1) هذا بيت من الرجز المشطور من أرجوزة طويلة، يصف فيها حمار الوحش، بقول: إن الصياد لما أحس بالصيد، وأراد رميه، وسوس نفسه بالدعاء حذر الخيبة، وقد أون أي: شرب الحمار الماء حتى انتفخ بطنه كالأتان العقوق، وهي التي تكامل حملها، وقرب ولادها. وقد مر البيتان في ما سبق. (*)
[ 497 ]
فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء، وجرت في هذه السورة على ملك تدبير من يعقل التدبير، فكان لفظ ملك أولى هنا وأحسن. ومعناه: ملك الناس كلهم، وإليه مفزعهم في الحوائج. (إله الناس) معناه الذي يجب على الناس أن يعبدوه، لأنه الذي تحق له العبادة دون غيره. وإنما خص سبحانه الناس، وإن كان سبحانه ربا لجميع الخلائق، لأن في الناس عظماء، فأخبر بأنه ربهم، وإن عظموا. ولأنه سبحانه أمر بالإستعاذة من شرهم، فأخبر بذكرهم أنه الذي يعيذه منهم. وفي الناس ملوك فذكر أنه ملكهم. وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه هو المستحق للعبادة دون غيره. قال جامع العلوم النحوي: وليس قوله الناس تكرارا، لأن المراد بالأول الأجنة، ولهذا قال برب الناس، لأنه يربيهم. والمراد بالثاني الأطفال، ولذلك قال: ملك الناس، لأنه يملكهم. والمراد بالثالث البالغون المكلفون، ولذلك قال: إله الناس، لأنهم يعبدونه. والمراد بالرابع العلماء، لأن الشيطان يوسوس إليهم، ولا يريد الجهال، لأن الجاهل يضل بجهله، وإنما تقع الوسوسة في قلب العالم، كما قال: (فوسوس إليه الشيطان). وقوله (من شر الوسواس الخناس) فيه أقوال أحدها: إن معناه من شر الوسوسة الواقعة من الجنة، وقد مر بيانه وثانيها: إن معناه من شر ذي الوسواس، وهو الشيطان كما جاء في الأثر: " إنه يوسوس، فإذا ذكر العبد ربه خنس ". ثم وصفه الله تعالى بقوله (الذي يوسوس في صدور الناس) أي بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع. ثم ذكر أن هذا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس (من الجنة)، وهم الشياطين، كما قال سبحانه: (إلا ابليس كان من الجن). ثم عطف بقوله (والناس) على الوسواس، والمعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس، كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس. وثالثها: إن معناه من شر ذي الوسواس الخناس. ثم فسره بقوله (من الجنة والناس) كما يقال: نعوذ بالله من شر كل مارد من الجن والإنس. وعلى هذا فيكون وسواس الجنة، هو وسواس الشيطان، على ما مضى. وفي وسواس الإنس وجهان أحدهما: إنه وسوسة الإنسان من نفسه والثاني: إغواء من يغويه من الناس. ويدل عليه قوله (شياطين الإنس
[ 498 ]
والجن) فشيطان الجن يوسوس، وشيطان الإنس يأتي علانية، ويري أنه ينصح وقصده الشر. قال مجاهد: الخناس: الشيطان إذا ذكر اسم الله سبحانه خنس وانقبض، وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب. ويؤيده ما روي عن انس بن مالك أنه قال: قال رسول الله (ص): " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس ". وقيل: الخناس معناه الكثير الإختفاء بعد الظهور، وهو المستتر المختفي من أعين الناس، لأنه يوسوس من حيث لا يرى بالعين. وقال إبراهيم التيمي: أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء. وقيل: إن معنى قوله يوسوس في صدور الناس، يلقي الشغل في قلوبهم بوسواسه، والمراد أن له رفقاء به يوصل الوسواس إلى الصدر، وهو أقرب من خلوصه بنفسه إلى صدره. وفي هذا إشارة إلى أن الضرر يلحق من جهة هؤلاء، وأنهم قادرون على ذلك، ولولاه لما حسن الأمر بالإستعاذة منهم. وفيه دلالة على أنه لا ضرر ممن يتعوذ به، وإنما الضرر كله ممن يتعوذ منه. ولو كان سبحانه خالقا للقبائح، لكان الضرر كله منه، جل وعز. وفيه إشارة أيضا إلى أنه سبحانه يراعي حال من يتعوذ به، فيكفيه شرورهم، ولولا ذلك لما دعاه إلى التعوذ به من شرورهم. ولما وصف سبحانه نفسه بأنه الرب الإله الغني عن الخلق، فإن من احتاج إلى غيره، لا يكون إلها. ومن كان غنيا عالما لغناه، لا يختار فعل القبيح، ولهذا حسنت الإستعاذة به من شر غيره. وروى عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قرأت (قل أعوذ برب الفلق) فقل في نفسك: أعوذ برب الفلق. وإذا قرأت (قل أعوذ برب الناس قل في نفسك: أعوذ برب الناس. وروى العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد قال: قال رسول الله (ص): (ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان: أذن ينفث فيها الملك، وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس، فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه (وأيدهم بروح منه).
[ 499 ]
حكاية خط المصنف رحمه الله وهي: الحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا على تسهيله وتقدر الفراغ منه لمصنفه يوم الخميس منتصف ذي القعدة من سنة ست وثلاثين وخمسمائة. اللهم لك الحمد على توفيقك وتأييدك، وإرشادك وتسديدك، حمدا أستوجب به المزيد من نعمك، وأستحق به لطائف كرمك. اللهم اجعل جدي واجتهادي في جميع ما شذ من تفسير كتابك العزيز، وكدي وانكماشي في ضم ما انتشر من معانيه باللفظ الوجيز، ذريعة إلى إدراك رضوانك، وصلة إلى الإتصال بأوليائك وأصفيائك في جنانك، وقابل تقربي بذلك إليك، وتوسلي إلى الأطهار الأخيار محمد (ص) وعترته الأبرار، بالقبول التام، واعممني وولدي، وأهل حزانتي بالإنعام العام، وأتمم يا رب هذه النعمة الجسيمة التي أنعمت علي بها، وجعلتني أهلا لها، بالمد في العمر، والإمداد بالتوفيق واليسر، لإفادة من يطلبه من أهل الدين والخير، والبث لما يتضمنه من العلوم والنشر، إحرازا لجميل الذكر، وجزيل الذخر والأجر، واعتصاما بعروتك الوثقى، واغتناما لشفاعة نبيك، صلواتك عليه وآله، يوم الزلفى، إنك ولي الإنعام، ذو الجلال والإكرام، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله أجمعين، الطيبين الطاهرين. تم الجزء العاشر من كتاب مجمع البيان في علوم القرآن.