تفسير جوامع الجامع
الشيخ الطبرسي ج 1
[ 1 ]
تفسير جوامع الجامع للمفسر الكبير والمحقق النحرير الشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره من أعلام القرن السادس الهجري الجزء الاول تحقيق مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
[ 2 ]
شابك 5 - 158 - 470 - 964 5 - 158 - 470 - 964 ISBN جوامع الجامع (ج 1) تأليف: المفسر الكبير الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي الموضوع: تفسير عدد الاجزاء: 3 أجزاء الطبعة: الاولى المطبوع: 2000 نسخة التاريخ: 1418 ه. القيمة: 1560 تومان مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير من بعثه بالرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) الطيبين الطاهرين. وبعد، لا شك أن للقرآن دور بارز وفعال في حياة المسلمين، إذ به اندكت قلاع الضلال وهدمت بيع المضلين، وبه اهتدت الإنسانية إلى سبيلها الذي رسمته السماء، ودعا إليه الأنبياء، فكان من الطبيعي أن تبرز اهتمامات المسلمين له، وتميل توجهاتهم إليه، وأن يبالغوا في اهتمامهم به بحيث يقل مثيله في الديانات الاخر، وينقطع نظيره في الكتب السماوية الاول. ومن أبرز اهتمامات المسلمين للقرآن هو خوض علمائهم الأعلام في ميدان التفسير، لما لمسوا في كلماته من أسرار خفية، وحقائق ثمينة تستحق أن تستجلى وتكشف للآخرين، فطفق بعض يبحث في معاني سوره وآياته، واعتكف آخرون يستجلي حقائقه من كلماته، وانطلق ثالث يستخرج مفاهيمه وموضوعاته، ثم عرضها على الناس بأوضح تعبير وأجلى بيان، بالتدريس تارة وبالتصنيف اخرى، فخلفوا خزانة ضخمة ضمت بين مطاويها ثروة علمية فخمة، أغنت المكتبة الإسلامية عن حاجتها الى غيرها. ومن هؤلاء الأعلام أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي المفسر الذائع الصيت، صاحب المؤلفات الفائقة، والمصنفات الرائقة كما حكاه عنه الفاضل النوري، ومن جملتها هذا الكتاب - الماثل بين يديك عزيزنا القارئ - الذي لا يقل
[ 4 ]
شهرة عن تفسيره الكبير " مجمع البيان " والصغير " الكاف الشاف " والذي جعله وسطا جامعا بينهما، وأضاف إليه كل ذي فائدة وجدها في كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري بعد اطلاعه عليه، فخرج كتابا جامعا بين فوائد هذه الكتب على وجه الاختصار كما صرح هو به في مقدمته. ونظرا لأهمية هذا الكتاب وما امتاز به، وعدم وجود طبعة محققة وموثقة منه، أقدمت مؤسستنا - كعادتها - على إخراجه بحلة جديدة، وطبعه بطبعة أنيقة، حاوية على موارد تفيد طلاب العلم وتنفع الباحثين، ويمكن أن تكون موضع استفادة للمؤسسات والمراكز المعنية بهذا الفن. ونحن إذ نفخر أن نقدم هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة بأجزائها يهمنا أن نؤكد أننا بصدد الاهتمام بامهات كتب التراث الإسلامي، والعمل على إخراجها ونشرها تباعا، بلا كلل أو ملل، خدمة للعلم والدين. وبالوقت الذي تقدم مؤسستنا هذا السفر القرآني الشريف الى هذه الامة تود أن تقدم شكرها وتقديرها لجميع الاخوة الأعزاء الذين بذلوا قصارى جهدهم في إنجاز هذا المشروع القيم، فجزاهم الله تعالى خير جزاء المحسنين، كما تدعو شبابنا الى الاهتمام به والتمسك بجوانبه في ظروف اشتدت الحاجة الى العودة الى الينابيع الصافية: القرآن الكريم، والسنة الشريفة الصحيحة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وخلفائه الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وصحبه المنتجبين ومن تابعهم على ذلك بإحسان، من أجل إعلاء كلمة الحق دوما ودحض كلمة المبطلين. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
[ 5 ]
مقدمة التحقيق مقدمة التحقيق مقدمة التحقيق: بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الله عز وجل على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء ". الحسين بن علي (عليه السلام) الحمد لله الذي أنزل على عبده القرآن، وجعله كتابا ساطعا فيه تبيانا لكل شئ، والصلاة والسلام على النبي الامي المكتوب اسمه في التوراة والانجيل أبي القاسم محمد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبعد، فقد مرت على الإنسانية حين من الدهر وهي تتخبط في الضلال وفوضى الأخلاق وتنازع الأهواء، ثم أراد الله سبحانه لهذه الإنسانية التائهة أن ترقى بروح منه، وتسعد بوحي من لدنه، فبعث رسولا صادقا أمينا من عنده، لا ينطق عن الهوى بل عن وحي يوحى، فكانت البداية من غار بعيد عن مكة، حيث لم يكن يسمع فيه غير جلال الصمت وهيبة التأمل، ومن خلال هذا الصمت انصدع نداء " إقرأ "، ومن ثنايا هذا التأمل ارتفع النور وانتشر، ومن بطن هذا الغار كان إيذان فجر القرآن الحكيم. فالقرآن كتاب الله لجميع البشرية، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، والخالد عبر العصور والأزمان، إذ أن فيه نور لا يخمد، ومواهب لا تنكد، وعطايا
[ 6 ]
لا تنفد، فكما أنه الكتاب الرابط بين الخالق وخلقه، فكان مبشرا للمؤمنين ومنذرا للكافرين، كذلك هو المبين لأحكام الله وشرائعه، فكان ذا بطون عديدة وتأويلات مختلفة، ثم حث الناس على اقتفاء أثر هذه البطون واستجلاء حقائقها وبيانها للناس، فقال عز من قائل: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها) * (1)، وقال عز اسمه: * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا) * (2). ثم جاءت السنة النبوية الشريفة لتقرر هذا الحث وتدعو له، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع " (3). وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا: " إن أردتم عيش السعداء، وموت الشهداء، والنجاة يوم الحسرة، والظل يوم الحرور، والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن، فإنه كلام الرحمن، وحرز من الشيطان، ورجحان في الميزان " (4). إهتمام المسلمين بالقرآن: ولهذا اهتم المسلمون بالقرآن اهتماما بالغا منذ صدوره من المشرع الحكيم الى رسوله الكريم، واستمر بعد وفاته قرنا بعد قرن وحتى عصرنا الحاضر، بحيث لم يشهد تاريخ الديانات والشرائع لها مثيلا ولا نظيرا، ذلك أنه ما حظي كتاب في تاريخ البشرية بمثل ما حظي به القرآن العظيم عناية ورعاية من حيث: جمعه وحفظه، وكتابة آياته، وإعراب كلماته وضبط قراءاته، وشرح مفرداته، وتفسير آياته، وبيان بديعه، وإظهار إعجازه، واستخراج موضوعاته، وترجمة آياته وكلماته، وبيان أحكامه، وتفصيل محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه،... الى غير ذلك. (1) محمد: 24. (2) النساء: 82. (3) جامع الأخبار للسبزواري: ص 114، مستدرك الحاكم: ج 1 ص 555. (4) أمالي الطوسي: ج 1 ص 5، جامع الأخبار للسبزواري: ص 115. (*)
[ 7 ]
ومن أهم ما حظي به القرآن الكريم هو تفسير آياته، فقد استقطب هذا الفن قسطا وافرا من اهتمام علماء المسلمين، نظرا لدوره الكبير في مساعدته على فهم معاني القرآن الدقيقة ومفاهيمه العميقة وبسطها للناس وبالتالي تطبيقها على مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، ولهذا اندفع كل من اوتي حظا من الثقافة والفكر القرآني من المسلمين إلى خوض هذا الميدان الشريف بهمة وإلاخلاص، مشمرين عن ساعد الجد لاستجلاء حقائقه واستخراج جواهره، بالتدريس تارة وبالتأليف اخرى، فطلعوا على الناس بمكتبة قرآنية عامرة لا تقدر بثمن. اهتمام الإمامية بالتفسير: ولم يكن اهتمام الإمامية يقل عن اهتمام جمهور المسلمين في القرآن وتفسيره، فقد خاض علماؤهم وفضلاؤهم في هذا الميدان بجد وإقدام ومنذ صدور الإسلام، فقاموا بتأليف كتب التفسير، وما زالوا حتى عصرنا الحاضر، بل كثير منهم لم يكتف بتأليف تفسير واحد حتى ضم إليه آخر (1)، فطلعوا على الجمهور بمكتبة قرآنية زاخرة أثارت دهشة الباحثين، واستجلبت ثناء المتتبعين، ذلك لأنهم قد أخذوا علوم القرآن وتبيين معانيه عن أئمتهم (عليهم السلام) وكتبوا على هداهم. والمتتبع لهذه المؤلفات يجد أن اهتمام الإمامية بتفسير القرآن مضى على شكلين: الأول: التفسير بالأثر والرواية، وكأنهم كانوا يجتنبون عن تفسير القرآن تفسيرا تحليليا احترازا من وصمة التفسير بالرأي التي جاءت بعض الأخبار في لعنه (2)، ومن نماذجه: (1) تفسير علي بن ابراهيم القمي (2) تفسير محمد بن مسعود العياشي (3) تفسير البرهان (4) تفسير نور الثقلين (5) تفسير كنز الدقائق. الثاني: التفسير العلمي التحليلي، منضما إليه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (1) ذكر أسماء بعض هؤلاء الأعلام الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة: ج 4 ص 233 - 234 فراجع. (2) انظر ميزان الحكمة: ج 8 ص 95 - 96. (*)
[ 8 ]
الأطهار (عليهم السلام)، ولعل الباعث الى ظهور هذا الشكل من التفسير هو الإحساس بالحاجة إليه، نظرا للتطور الفكري الحاصل، وحاجة الناس الى معان ومفاهيم جديدة تتناسب ومتطلبات الوضع الثقافي الجديد، كل ذلك بسبب احتكاكهم بالامم الاخرى من جهة، وبروز ضرورات اجتماعية وفكرية جديدة الذي كان لها الأثر الفاعل في تنمية الذوق العام من جهة اخرى. ولعل أول من خاض هذا المضمار السيد الشريف الرضي، فألف كتابه " حقائق التأويل " في عشرين جزءا، ثم أخوه الشريف علم الهدى في أماليه وسماه ب " الغرر والدرر " في جزئين، ثم من بعدهما الشيخ الطوسي فألف " التبيان " (1)، ثم صار من بعد ذلك منهجا متبعا وشائعا في كتب التفسير. إضافة الى ذلك، فإن هذا التطور الفكري والثقافي الحاصل عند المسلمين كان له الأثر الذي دعا علماء الإمامية الى إضافة مناهج جديدة الى تفاسيرهم، فأدخلوا فيها: القراءات، والإعراب، وشرح المفردات، وأسباب النزول، وتفصيل القصص، وبيان الأحكام، ورد مطاعن المبطلين، والاستدلال للمذهب، وغير ذلك. وفيما يلي نذكر بعض أعلام المفسرين من الإمامية، ممن ذاع في الأمصار صيته وشاع عند المسلمين اسمه، على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فسنحتاج الى مجلدات ضخمة: 1 - سعيد بن جبير التابعي الشهيد للتشيع، قتله الحجاج الثقفي عام 95 ه، وقصته معروفة، ذكر تفسيره ابن النديم في " الفهرست " والشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 2 - عطية بن سعيد (أو سعد) العوفي الجدلي الكوفي، عده البرقي والشيخ من أصحاب الباقر (عليه السلام)، له تفسير في خمسة أجزاء، ينقل عنه أبان بن تغلب وزياد بن المنذر كما ذكره النجاشي في ترجمتهما، توفي عام 111 ه. (1) وقد قامت مؤسستنا بتحقيقه وطبعه في حلة قشيبة، خرج بعض أجزائه الى النور. (*)
[ 9 ]
3 - السدي الكبير اسماعيل بن عبد الرحمن القرشي التابعي الكوفي، من أصحاب السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام)، ذكره الشيخ في رجاله قائلا: المفسر الكوفي. وقال السيوطي في الإتقان: إن تفسير إسماعيل السدي من أمثل التفاسير. توفي عام 127 ه. 4 - جابر بن يزيد الجعفي، لقي الباقر والصادق (عليهما السلام)، ذكره الشيخ في " الفهرست ": أن له كتاب التفسير. توفي عام 128 ه. 5 - زيد بن أسلم العدوي، عده البرقي والشيخ في رجاله أيضا من أصحاب السجاد والصادق (عليهما السلام)، وذكر ابن النديم: أن له كتاب التفسير. توفي عام 119 ه، وقيل: 124 ه. 6 - أبان بن تغلب بن رباح البكري الجريري، لقي السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) وروى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقدر، ذكر النجاشي: أن له كتبا، منها تفسير " غريب القرآن ". توفي عام 141 ه. 7 - محمد بن السائب الكلبي، من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام)، وهو والد أبي المنذر هشام الكلبي النسابة المعروف، ترجمه ابن النديم وذكر تفسيره وقال: هو تفسير كبير. توفي عام 146 ه. 8 - أبو حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية، لقي السجاد والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) وروى عنهم، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم، ذكر النجاشي: أن له كتاب تفسير القرآن. توفي عام 150 ه. 9 - زياد بن المنذر، أبو الجارود الهمداني، من أصحاب الباقر (عليه السلام)، وروى عن الصادق (عليه السلام)، ذكر الشيخ في " الفهرست ": أن له كتاب تفسير عن الباقر (عليه السلام). توفي بعد عام 150 ه. 10 - الحسن بن واقد، عده الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام)، ذكر ابن النديم في " الفهرست ": أن له كتاب التفسير. 11 - أبو جنادة الحصين بن المخارق السلولي، عده الشيخ من أصحاب
[ 10 ]
الصادق والكاظم (عليهما السلام)، ذكر النجاشي: أن له كتاب التفسير والقراءات وقال: هو كتاب كبير. 12 - وهيب بن حفص، أبو علي الجريري، روى عن الصادق والكاظم (عليهما السلام)، وكان ثقة، ذكر النجاشي: أن له كتبا، منها كتاب تفسير القرآن. 13 - عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني، ترجمه الذهبي وأطرى عليه ووثقه وقال: ونقموا عليه التشيع. عده الشيخ من أصحاب الصادق (عليه السلام)، له مصنفات، منها كتاب التفسير، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة " وقال: إن تفسيره هذا من أقدم تفاسيرنا الموجودة في العالم، ويعد من مفاخر الشيعة وآثارها الخالدة الباقية حتى اليوم، فإن سائر التفاسير المؤلفة لأصحابنا قبل هذا التفسير، كتفسير سعيد بن جبير، وتفسير السدي، وتفسير محمد بن السائب الكلبي، وتفسير أبي بصير، وتفسير أبي الجارود، وتفسير جابر بن يزيد الجعفي، وتفسير أبي حمزة الثمالي، وغيرها من تفاسير الأصحاب السابقة عليه كلها مما لم نطلع على وجود عينها في عصرنا هذا. 14 - الحسن بن محبوب الكوفي، روى عن الرضا (عليه السلام)، وكان جليل القدر، ذكر ابن النديم: أن له كتاب التفسير. توفي عام 224 ه. 15 - الحسن بن علي بن فضال الكوفي، عده الشيخ والبرقي من أصحاب الرضا (عليه السلام) خصيصا به، وكان جليل القدر، ذكر ابن النديم: أن له كتاب التفسير. توفي عام 224 ه. 16 - الحسن بن سعيد الأهوازي، عده الشيخ من أصحاب الرضا (عليه السلام)، شارك أخاه الحسين في الكتب الثلاثين المصنفة، منها كتاب تفسير القرآن، ذكره النجاشي في رجاله. 17 - محمد بن خالد البرقي الكوفي، عده الشيخ من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام)، ذكر النجاشي: أن له كتبا منها كتاب التفسير. 18 - عبد العزيز بن يحيى بن أحمد الجلودي البصري، شيخ البصرة، ذكره
[ 11 ]
النجاشي من أصحاب الباقر (عليه السلام) وقال: وله كتب منها كتاب التفسير، وكتاب القراءات، وكتاب ما نزل فيه من القرآن. قيل: توفي عام 232 ه. 19 - محمد بن العباس بن عيسى، عده الشيخ في رجاله في من لم يرو عن الأئمة (عليهم السلام)، وذكره النجاشي وقال: له كتب، منها كتاب التفسير. 20 - علي بن الحسن بن فضال، كان فقيه أصحابنا بالكوفة وثقتهم ووجههم، وكان كثير العلم، عده الشيخ من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام)، ذكر النجاشي في رجاله والشيخ في " الفهرست ": أن له كتبا كثيرة، منها كتاب التفسير. توفي عام 224 ه. 21 - أحمد بن محمد بن خالد البرقي، صاحب " المحاسن " وهو مشتمل على عدة كتب، منها كتاب التفسير والتأويل، عده الشيخ في رجاله من أصحاب الجواد والهادي (عليهما السلام)، وذكر في " الفهرست ": أنه صنف كتبا، منها كتاب التفسير. توفي عام 274 ه، وقيل: 280 ه. 22 - محمد بن أورمة القمي، عده الشيخ في من لم يرو عن الأئمة (عليهم السلام)، ذكره النجاشي في رجاله وقال: له كتب، منها كتاب تفسير القرآن. 23 - علي بن ابراهيم بن هاشم القمي، استاذ الكليني، عاصر الإمام العسكري (عليه السلام)، وكان ثقة ثبتا معتمدا، ذكر الشيخ في " الفهرست " والنجاشي في رجاله: أن له كتبا، منها كتاب التفسير. وكان قد بقي حيا الى عام 307 ه. 24 - علي بن الحسين بن بابويه القمي، فقيه، جليل، ثقة، ذكره الشيخ في باب من لم يرو عن الأئمة، وذكره في " الفهرست " والنجاشي في رجاله: أن له كتبا كثيرة، منها كتاب التفسير. توفي عام 329 ه. 25 - محمد بن مسعود السمرقندي العياشي، من مشايخ الكشي، ثقة وعين من عيون هذه الطائفة، قال الشيخ في " الفهرست ": إن له كتبا كثيرة تزيد على مائتي مصنف، منها كتاب التفسير. 26 - محمد بن ابراهيم الكاتب النعماني، من تلامذة الكليني، شيخ من
[ 12 ]
أصحابنا، عظيم القدر، ذكره الحر العاملي في " أمل الآمل " وقال: من مؤلفاته تفسير القرآن، رأيت قطعة منه. 27 - محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد شيخ القميين وفقيههم ووجههم، ذكر النجاشي: أن له كتبا، منها كتاب تفسير القرآن. 28 - محمد بن أحمد بن ابراهيم الصابوني، من قدماء أصحابنا وفقهائهم، كان زيديا ثم عاد إلينا، عده الشيخ من أصحاب الهادي (عليه السلام)، ذكر النجاشي كتبه وعد منها تفسير معاني القرآن. 29 - أبو منصور الصرام، من جلة المتكلمين من أهل نيسابور، وكان رئيسا مقدما، له كتب كثيرة، منها كتاب تفسير القرآن، ذكره الشيخ في " الفهرست " وقال: وهو تفسير كبير حسن. 30 - محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، نزيل الري، من وجوه الطائفة وفقهائها، كان جليل القدر، ناقدا للأخبار، ذكر الشيخ في " الفهرست ": أن له كتبا كثيرة نحو من ثلاثمائة مصنفا، وعد منها كتاب التفسير، وقد ذكر النجاشي فهرس كتبه. توفي عام 381 ه. 31 - الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية، صنف كتبا عديدة، منها في علوم القرآن، ذكرها تلميذه النجاشي في رجاله. توفي عام 413 ه. 32 - الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى، نقيب العلويين ببغداد، له كتب عدها النجاشي في رجاله، وله معاني القرآن ذكرها ابن شهر آشوب في " معالم العلماء " وقال: يتعذر وجود مثله. توفي عام 406 ه. 33 - السيد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين بن موسى، حاز من العلوم ما لم يحز أحد في زمانه، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، وهو من المكثرين في التأليف حول القرآن وتفسيره، ذكرها النجاشي في رجاله. توفي عام 436 ه. 34 - الشيخ الطوسي محمد بن الحسن شيخ الطائفة، جليل القدر، عظيم
[ 13 ]
المنزلة، أشهر من أن يعرف، له " التبيان " في تفسير القرآن. توفي عام 460 ه. 35 - اسماعيل بن علي بن الحسين السمان، المعاصر للسيد المرتضى، مفسر، ثقة، له " البستان في تفسير القرآن " في عشر مجلدات، ذكره الشيخ منتجب الدين في " الفهرست ". 36 - محمد بن علي الفتال النيسابوري، ثقة، ذكره الشيخ منتجب الدين بصاحب التفسير. 37 - محمد بن الحسن الفتال النيسابوري، ذكره ابن شهر آشوب في " معالم العلماء "، صاحب " روضة الواعظين " و " التنوير في معاني التفسير ". 38 - الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي - مؤلف هذا الكتاب - من أكابر علماء الإمامية ومفسريهم، وفضله أشهر من أن يوصف. توفي عام 548 ه. 39 - فضل الله بن علي الراوندي الحسني، علامة زمانه، جمع مع علو النسب كمال الفضل والحسب، له كتاب تفسير، ذكره الشيخ منتجب الدين في " الفهرست " وقال: شاهدته وقرأت بعضه عليه. وفي " تذكرة المتبحرين ": من مؤلفاته " الكافي في التفسير " ذكره العلامة في إجازته لبني زهرة. 40 - أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد الخزاعي الرازي، عالم، واعظ، مفسر، له تصانيف، منها تفسيره المسمى ب " روض الجنان في تفسير القرآن " في عشرين مجلدا، ذكره الشيخ منتجب الدين في " الفهرست "، وابن شهر آشوب في " معالم العلماء ". 41 - قطب الدين سعيد بن هبة الراوندي، فقيه، عين، ثقة، له تصانيف عديدة، منها " خلاصة التفاسير " في عشر مجلدات، وتفسير القرآن في مجلدين، و " فقه القرآن في بيان آيات الأحكام " أيضا في مجلدين. توفي عام 573 ه. 42 - محمد بن هارون المعروف والده بالكال، فاضل، جليل، فقيه، له كتب منها: " مختصر التبيان في تفسير القرآن " و " متشابه القرآن " و " اللحن الخفي واللحن الجلي "، ذكره الحر العاملي في " أمل الآمل ". توفي عام 597 ه.
[ 14 ]
43 - محمد بن منصور بن إدريس العجلي الحلي، فاضل، فقيه، شيخ الفقهاء في الحلة، صاحب " السرائر " وغيرها، له " مختصر التبيان " ذكره الخوانساري في " روضات الجنات "، والقمي في " الكنى والألقاب ". توفي عام 598 ه. 44 - محمد بن أبي الخير الحمداني، عالم، مفسر، واعظ، له كتب، منها: " مفتاح التفسير " و " دلائل القرآن " وغيرهما، ذكره الشيخ منتجب الدين في " الفهرست ". 45 - علي بن موسى بن طاووس الحسني الحلي، عالم، فاضل، زاهد، فقيه، وهو أشهر من أن يذكر، له مصنفات كثيرة، منها " سعد السعود " في تفسير آيات الذكر، ذكره الحر العاملي في " أمل الآمل ". توفي عام 664 ه. 46 - أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلي، من مشايخ العلامة وابن داود، فاضل، مجتهد، ورع، له مصنفات، منها " شواهد القرآن " مجلدان، ذكره ابن داود في رجاله. توفي عام 673 ه. 47 - العلامة الحلي الحسن بن يوسف مطهر، وهو أظهر من أن يعرف، صاحب المصنفات الكثيرة والمختلفة، وله في مجال التفسير مؤلفات عديدة، منها " نهج الإيمان في تفسير القرآن " وهو ملخص الكشاف والتبيان وغيرهما، و " القول الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " كما ذكره هو (قدس سره) في خلاصته. توفي عام 726 ه. 48 - عبد الرزاق أحمد الكاشي، فاضل، عارف، حكيم، معاصر للعلامة، له مصنفات عديدة، منها " السراج الوهاج في تفسير القرآن " و " تأويلات القرآن "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 730 ه، وقيل: 735 ه. 49 - محمد بن محمد الرازي البويهي، تلميذ العلامة، واستاذ الشهيد الأول، فاضل، عالم، مفسر، له تفسيران: " تحفة الأشراف " وهو تفسير كبير، و " بحر الأصداف ". توفي عام 766 ه. 50 - حيدر بن علي بن حيدر الحسيني الآملي، صاحب تفسير " المحيط
[ 15 ]
الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة " وقال: رأيته في الخزانة الغروية، ثم ذكر: أن له ثلاث تفاسير اخر: " التأويلات " و " جامع الأسرار " و " منتخب التأويل ". 51 - أبو الفضل بن يوسف الديملي الجيلاني، فاضل، عالم، مفسر، له تصانيف، منها تفسير القرآن في مجلدين ضخمين، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 52 - الفاضل المقداد بن عبد الله السيوري الحلي، تلميذ الشهيد الأول، عالم، فقيه، محقق، مفسر، له مصنفات عديدة، منها تفسير " مغمضات القرآن "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 826 ه. 53 - الحسن بن محمد بن الحسين الاسترآبادي، تلميذ الفاضل المقداد، فاضل، عالم، له كتب، منها " معارج السؤول ومدارج المأمول " في تفسير آيات الأحكام، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الضياء اللامع ". 54 - الشيخ عفيف الدين طيفور بن سراج الدين جنيد، واعظ، مفسر، له تفسير اقتصر على الأحاديث المروية عن الأئمة (عليهم السلام)، قد فرغ منه عام 876 ه، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 55 - المولى حسين بن علي الواعظ الكاشفي، صاحب " جواهر التفسير لتحفة الأمير " ويقال له: " العروس " أيضا، و " المواهب العلية ". توفي عام 910 ه. 56 - المولى حسين بن الخواجة شرف الدين الأردبيلي المعروف بالالهي، فاضل، عالم، متبحر، له تفسير كبير لتمام القرآن الكريم في مجلدين، يسمى ب " تفسير الالهي "، وقد يسمى ب " تفسير الأردبيلي "، ذكره الأفندي في " رياض العلماء "، والشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 950 ه. 57 - علم النجفي ابن سيف بن منصور الحلي، فاضل، عالم، صاحب " كنز الفوائد " وهو المنتخب من كتاب " تأويل الآيات الباهرة "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " إحياء الداثر ". 58 - أبو المحاسن الحسين بن الحسن الجرجاني، محدث، مفسر، من مشاهير
[ 16 ]
الإمامية في القرن العاشر، صاحب " جلاء الأذهان في تفسير القرآن "، ذكره الأفندي في " رياض العلماء " وقال: هو كبير حسن الفوائد. 59 - المقدس الأردبيلي أحمد بن محمد النجفي، عالم، فاضل، فقيه، ثقة، جليل القدر، له مؤلفات جيدة، منها " زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن "، ذكره الحر العاملي في " أمل الآمل " والسيد التفريشي في رجاله. توفي عام 993 ه. 60 - غياث الدين الزواري، المعاصر للمحقق الكركي، فاضل، مفسر، ينسب إليه تفسير " گازر " المعروف. ذكره الشيخ آقا بزرك في كتبه. 61 - الأمير أبو الفتح بن محمد الحسيني الجرجاني، فاضل، شاعر، مفسر، صاحب " تفسير شاهي " وهو تفسير لآيات الأحكام في مجلد ضخم، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 976 ه. 62 - محمد بن علي بن ابراهيم الاسترآبادي، عالم، فاضل، ثقة، محقق في الرجال والرواية والتفسير، ذكره السيد التفريشي في رجاله وقال: له كتب جيدة، منها كتاب شرح آيات الأحكام. توفي عام 1036 ه. 63 - بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، عالم، ثقة، جليل القدر، عديم النظير في زمانه في الفقه والحديث والمعاني والبيان، صاحب المصنفات، منها " العروة الوثقى في تفسير القرآن " و " عين الحياة " وغيرهما، ذكره الأفندي في " رياض العلماء ". توفي عام 1030 ه، وقيل: 1035 ه. 64 - الشيخ جواد بن سعيد بن جواد الكاظمي، تلميذ الشيخ البهائي، فاضل، عالم، جليل القدر، له كتب، منها " مسالك الأفهام في شرح آيات الأحكام "، ذكره الأفندي في " رياض العلماء ". 65 - صدر المتألهين محمد بن ابراهيم الشيرازي، وهو أشهر من أن يوصف، صاحب المصنفات، منها التفاسير العديدة، ذكره الأفندي في " رياض العلماء ". توفي عام 1050 ه.
[ 17 ]
66 - المولى محمد رضا بن عبد الحسين النصيري الطوسي، محدث، مفسر مشهور، صاحب " تفسير الأئمة لهداية الامة " في ثلاثين مجلدا، و " كشف الآيات " وغيرهما، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 67 - المولى عبد الوحيد بن نعمة الله الواعظ الاسترآبادي، تلميذ الشيخ البهائي، فاضل، عالم، فقيه، مفسر، صاحب المؤلفات الكثيرة، منها كتاب " أسرار القرآن في تفسير الفرقان "، ذكره صاحب " رياض العلماء ". 68 - الشيخ فخر الدين بن محمد بن علي بن طريح الرماحي النجفي المعروف بالطريحي، فاضل، عالم، جليل، صاحب المصنفات العديدة، منها " كشف غوامض القرآن " و " غريب القرآن "، ذكرها صاحب " رياض العلماء ". توفي عام 1085 ه. 69 - المولى تاج الدين الحسن بن محمد الإصفهاني، والد الفاضل الهندي صاحب " كشف اللثام "، فاضل، عالم، له " البحر المواج في تفسير القرآن "، ذكره صاحب الروضات، والشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 1085 ه. 70 - المولى محمد بن مرتضى المشهور بالفيض الكاشاني، محدث، فاضل، فقيه، صاحب الكتب العديدة، منها التفاسير الثلاثة المشهورة: " الصافي " و " المصفى " و " الأصفى "، ذكرها الحر العاملي في " أمل الآمل " والأفندي في " رياض العلماء ". توفي عام 1091 ه. 71 - الشيخ عبد علي الحويزي، استاذ المحدث الجزائري، عالم، محدث، له كتب، منها تفسير القرآن على هدى روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من المجامع الكبيرة للتفسير بالأثر، ذكره الشيخ الحر العاملي في " أمل الآمل ". 72 - السيد هاشم بن سليمان الحسيني البحراني، فاضل، عالم، عارف بالتفسير والعربية والرجال، صاحب المؤلفات الغزيرة والمصنفات الكثيرة، منها " البرهان في تفسير القرآن " مشتمل على أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، و " كتاب الهادي ومصباح النادي في تفسير القرآن " وهو كبير أيضا، ذكره الحر العاملي في " أمل
[ 18 ]
الآمل "، والأفندي في " رياض العلماء ". توفي عام 1107 ه أو 1109 ه. 73 - السيد نعمة الله بن عبد الله الحسيني الموسوي الجزائري، فقيه، محدث، أديب، له كتب عديدة، منها " العقود والمرجان في تفسير القرآن " في ثلاث مجلدات، وله أيضا تفسير للقرآن كتبه على هامش القرآن يقرب من سبعين ألف بيت، ذكره الأفندي في " رياض العلماء "، والشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 1112 ه. 74 - محمد اسماعيل بن محمد باقر الإصفهاني الخاتون آبادي، فاضل، مفسر، كان مدرسا في الجامع العباسي بإصفهان، له كتاب تفسير كبير من أربعة عشر مجلدا، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة " عن " تذكرة القبور " للجزي. توفي عام 1116 ه. 75 - محمد بن محمد رضا بن اسماعيل المشهدي، فاضل، عالم، فقيه، مفسر، صاحب " كنز الدقائق " في تفسير القرآن، ذكره الخوانساري في " روضات الجنات " وقال: كتاب كبير في التفسير بأحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام). توفي عام 1125 ه. 76 - علي بن الحسين العاملي، فاضل، نحوي، مفسر، له كتب، منها " الوجيز في تفسير القرآن العزيز "، وهو تفسير مزجي نافع كاف في معرفة ما يتوقف عليه فهم المعنى من وجوه الإعراب واختلاف القراءات، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 77 - أحمد بن الحسن بن علي الحر العاملي، أخو الشيخ الحر العاملي المعروف، فاضل، عارف بالتواريخ، له كتاب تفسير القرآن، ذكره أخوه في " أمل الآمل ". 78 - المولى أبو الحسن بن الشيخ محمد طاهر الفتوني النباطي العاملي، من أجداد صاحب " الجواهر " من طرف امه، فاضل، عالم، مفسر، له " مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار في تفسير القرآن " وقد يقال: " مشكاة الأنوار "، ذكره الشيخ آقا
[ 19 ]
بزرك في " الذريعة " وقال: هو تفسير جليل. 79 - عبد الله الأفندي ابن عيسى التبريزي، جليل القدر، رفيع المنزلة عند السلطان العثماني آنذاك، وكان يخاطبه الملك تعظيما وتكريما له بالأفندي، فاشتهر به من بعد، صاحب " رياض العلماء " و " الأمان من النيران في تفسير القرآن "، ذكره الخوانساري في " روضات الجنات "، والشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 80 - المولى محمد بن علي النجار التستري، من تلاميذ المحدث الجزائري، عالم، محدث، مفسر، خطيب، صاحب التفسير الكبير المسمى ب " تفسير ابن النجار " أو ب " مجمع التفاسير "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 1140 ه. 81 - الشيخ عبد النبي الطسوجي، تلميذ المقدس الجيلاني المشهدي، من مشايخ صاحب " الحدائق "، عالم، فاضل، مفسر، له تفسير كبير ويحوي على نكات بديعة، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 1160 ه. 82 - السيد عبد الله بن محمد رضا الحسيني الكاظمي، الشهير بشبر، من أعيان فضلاء المتأخرين ومحدثيهم، فقيه، متتبع، صاحب المؤلفات الكثيرة في التفسير والحديث والفقه والاصول وغيرها، له تفاسير ثلاثة للقرآن المجيد: كبير ووسيط وصغير، ذكره الخوانساري في " روضات الجنات ". توفي عام 1242 ه. 83 - المولى محمد جعفر الاسترآبادي المعروف بشريعتمدار، فاضل، عالم، مفسر، له كتب، منها تفسيره المسمى ب " تفسير محمد جعفر الاسترآبادي "، ذكره الخوانساري في " روضات الجنات "، والشيخ آقا بزرك في " الذريعة " وقال: والظاهر أنه غير تفسيره الموسوم ب " مظاهر الأسرار ". توفي عام 1263 ه. 84 - السيد محمد مهدي بن محمد جعفر الموسوي التنكابني، فاضل، محدث، مفسر، له كتب، منها " خلاصة التفاسير "، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". 85 - الشيخ صالح بن محمد البرقاني القزويني، عالم، فاضل، مفسر، متبحر، صاحب التفاسير: الكبير المسمى ب " بحر العرفان " في سبعة عشر مجلدا، والوسيط
[ 20 ]
في تسعة مجلدات، والصغير في مجلد واحد، ذكرها الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي عام 1275 ه. 86 - السيد حسين بن رضا الحسيني البروجردي، فاضل، عالم بالرجال، صاحب " نخبة المقال " المشهور، له كتاب تفسير، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة " وقال: خرج منه مجلد كبير. توفي عام 1277 ه. 87 - الشيخ محمد حسين بن باقر البروجردي، فاضل، عابد، صاحب " النص الجلي "، له تفسير كبير، وآخر يسمى ب " أسرار التنزيل " اختاره من تفسيره، ذكره الشيخ آقا بزرك في " الذريعة ". توفي في نيف وثلثمائة بعد الألف. 88 - العلامة السيد نور الدين العراقي، له " القرآن والعقل " في ثلاثة أجزاء. توفي عام 1341 ه. 89 - العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، له " آلاء الرحمن في تفسير القرآن ". توفي عام 1352 ه. 90 - السيد علي بن الحسين الحائري، من تلاميذ المجدد الشيرازي، له " مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر " في اثني عشر مجلدا. توفي عام 1353 ه. 91 - العلامة السيد محمد مولانا، له " التفسير الوجيز ". توفي عام 1363 ه. 92 - العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، المفسر الكبير، له " الميزان في تفسير القرآن " في عشرين مجلدا. توفي عام 1402 ه. 93 - العلامة الشيخ محمد جواد مغنية، الكاتب الكبير، له " الكاشف في تفسير القرآن " وغيره. توفي عام 1400 ه. 94 - المحقق الكبير السيد آية الله أبو القاسم الخوئي، له " البيان في تفسير القرآن " خرج منه جزء واحد. توفي عام 1413 ه. وغيرهم الكثير. ترجمة المؤلف: هو أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي السبزواري الرضوي أو
[ 21 ]
المشهدي، أمين الدين أو أمين الاسلام. والطبرسي نسبة الى طبرستان، فعن رياض العلماء: هي بلاد مازندران بعينها، وقد يعم بلاد جيلان لاشتراكهم في حمل الطبر (1). قال ياقوت الحموي: الطبر - بالتحريك - هو الذي يشقق به الأحطاب وما شاكله بلغة الفرس، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه يقول: ناحية الطبر (2). ثم ذكر سبب تسميتها بذلك فقال: سببه أن أكثر أهل تلك الجبال كثيرو الحروب، وأكثر أسلحتهم بل كلها الأطبار، حتى أنك قل: إن ترى صعلوكا أو غنيا إلا وبيده الطبر صغيرهم وكبيرهم، فكأنها لكثرتها فيهم سميت بذلك، ومعنى طبرستان من غير تعريب: موضع الأطباء (3). والرضوي والمشهدي نسبة الى مشهد الرضا (عليه السلام)، لأنه (قدس سره) قد سكن فيها، ثم انتقل الى سبزوار سنة 523 ه، ومن ثم توفي فيها ليلة النحر سنة 548 ه، وحمل نعشه الى المشهد المقدس الرضوي، ودفن هناك في المقبرة بجانب الحرم الرضوي الشريف. إطراء العلماء عليه: كان (قدس سره) من جملة العلماء الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان من العامة والخاصة: فعن نقد الرجال للميرزا مصطفى التفريشي: أبو علي الطبرسي ثقة، فاضل، دين، من أجلاء هذه الطائفة (4). وعن فهرست الشيخ منتجب الدين بعد وصفه بالإمام: ثقة، فاضل، دين، عين (5). وفي الوجيزة للمجلسي: ثقة جليل (6). (1) رياض العلماء: ج 4 ص 357. (2) معجم البلدان: ج 3 ص 501. (3) نفس المصدر. (4) نقد الرجال: ص 266. (5) الفهرست: ص 144 رقم 336. (6) الوجيزة: ص 266. (*)
[ 22 ]
وفي مستدرك الوسائل للمحدث النوري: فخر العلماء الأعلام وأمين الملة والإسلام، المفسر الفقيه الجليل الكامل النبيل (1). وعن صاحب رياض العلماء أنه قال بعد مدحه بعبارات الثناء: كان (قدس سره) وولده رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل صاحب كتاب " مكارم الأخلاق "، وسبطه أبو الفضل علي بن الحسن صاحب " مشكاة الأنوار "، وسائر سلسلته وأقربائه من أكابر العلماء (2). وفي الروضات: الفاضل العالم المفسر الفقيه المحدث الجليل الثقة الكامل النبيل (3). وعن صاحب المقابس عند ذكر ألقاب العلماء: ومنها أمين الإسلام الشيخ الأجل الأوحد والأكمل الأسعد قدوة المفسرين وعمدة الفضلاء المتبحرين، أمين الدين أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي الطوسي السبزواري الرضوي، قدس الله نفسه الزكية، وأفاض على تربته المراحم السرمدية (4). وعن لؤلؤة البحرين: وكان هذا الشيخ عالما فاضلا ثقة جليل القدر في أصحابنا (5). وفي مجالس المؤمنين ما ترجمته: عمدة المفسرين أمين الدين ثقة الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، كان من نحارير علماء التفسير (6). وفي كتاب " النقض " لعبد الجليل الرازي أنه قال في معرض ذكره المفسرين من علماء الشيعة: عالم وأمين ومعتمد (7). وعن تاريخ بيهق لأبي الحسن علي بن زيد: الإمام الطبرسي، كان فريد عصره.... الخ، وقال: ولقد أنشأ في مرحلة شبابه الكثير من الأشعار، وقد أورد في (1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 3 ص 486. (2) رياض العلماء: ج 4 ص 341. (3) روضات الجنات: ج 5 ص 357. (4) مقابس الأنوار: ص 10. (5) لؤلؤة البحرين: ص 346. (6) مجالس المؤمنين: ج 1 ص 490. (7) النقض: ص 304. (*)
[ 23 ]
كتاب " الوشاح " بعضا منها. ثم قال: وكان يشار إليه في علوم الحساب والجبر والمقابلة (1). وفي الأعلام للزركلي: أمين الدين أبو علي، مفسر، محقق، لغوي، من أجلاء الإمامية (2). ثم إن هذا الرجل الذي خاض في ميدان التفسير وأحسن، وطلع على المسلمين بمجموعته التفسيرية الفاخرة التي شهد لها العامة والخاصة، وغاص في بحار هذا القرآن - الذي يتضمن على الاصول والمباني الفقهية للشريعة، ويشتمل على القوانين الأساسية للإسلام، ويحتوي على آيات فيها العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه - لابد أن يكون متضلعا بالعلوم الشرعية الأصلية منها والفرعية، ومتمكنا في الفصل بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين المجمل والمتشابه...، ومتبحرا في رد الفروع الى الاصول أو استنباط الفروع من الاصول كما يظهر من بعض سطوره عند تفسيره آيات الأحكام، وهذا ما لا يخفى على من اطلع على مصنفاته. وصف قلمه الشريف: اتصف قلمه الشريف بمواصفات قلما اتصفت به أقلام المصنفين المتقدمين منهم والمتأخرين، مما كان لها الدور الكبير في بروزه على معاصريه، وانطلاقه في عداد الممدوحين من الفريقين، فقد اتصف قلمه بالإنصاف والانحياد في ذكر الآراء أو رد الأقوال، وعدم التفريق بين أصحابها، سواء كان مخالفا أو موافقا، طالما كان صائبا ولا يخالف الحق والحقيقة، فتراه يأخذه بعين الاعتبار وليس له أي دافع أو مصلحة في تقديم أو تأخير أي من الأقوال. فالزمخشري عالم يذهب في الاصول الى المعتزلة ومبتنياتها، وفي الفروع الى الحنفية واستحساناتها، تراه (قدس سره) يذكره مع التبجيل والتعظيم لقلمه وكلامه، قال (1) تاريخ بيهق: ص 242. (2) الأعلام: ج 5 ص 148. (*)
[ 24 ]
في مقدمته لهذا الكتاب - جوامع الجامع -: ومما حداني إليه وحثني وبعثني عليه أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل القي في روعي محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجد ورونق الحداثة... الخ. مشايخه: لا يخفى على كل متتبع لأحوال أي عالم أو علم من أعلام أصحابنا بعد ملاحظة آثاره القيمة وكتبه وأبحاثه العلمية يجعله يحدس أن هذا العلم كان قد ترعرع في أحضان أساتذة عظام، مما يدفعه قلمه إلى ذكر هؤلاء العظام، فمن أساتذة المترجم له ومشايخه ممن يروي عنهم: 1 - الشيخ الأجل الفقيه الثقة أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، ابن شيخ الطائفة، المعروف بالمفيد الثاني. 2 - الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن عبد الله بن علي المقري الرازي، الملقب بالمفيد الرازي. 3 - الشيخ الأجل الثقة الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي الرازي، جد الشيخ منتجب الدين. 4 - الشيخ الفقيه الثقة موفق الدين الحسن بن الفتح الواعظ البكر آبادي الجرجاني. 5 - السيد أبو طالب محمد بن حسين الحسيني الجرجاني. 6 - الشيخ أبو الفتح عبد الله بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، روى عنه صحيفة الرضا (عليه السلام) المعروفة. 7 - الشيخ الفاضل المحدث أبو الحسن عبيد الله محمد بن حسين البيهقي. 8 - الشيخ جعفر بن محمد الدوريستي، أحد تلاميذ الشيخ المفيد. تلامذته: ثم إن من تتبع أحوال هذا العلم ومشايخه لابد أن يتعرض الى من استقى من
[ 25 ]
علمه، وتتلمذ عليه، وارتفع في دنيا العلم والدين، حتى أصبح من نحارير الأصحاب وعلمائهم، فمن تلامذته: 1 - ولده الشيخ رضي الدين أبو نصر الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي، صاحب " مكارم الأخلاق ". 2 - الشيخ رشيد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب السروي، صاحب " مناقب آل أبي طالب ". 3 - الشيخ منتجب الدين أبو الحسن علي بن عبيد الله بن حسن بن حسين بن بابويه القمي، صاحب " فهرست الرجال ". 4 - السيد ضياء الدين فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسني الراوندي الكاشاني، صاحب " قصص الأنبياء ". 5 - الشيخ الفقيه والمفسر المحدث قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي، المعروف بقطب الدين الراوندي، صاحب " الخرائج والجرائح ". 6 - السيد الفاضل الأديب العالم شرف شاه بن محمد الحسيني الأفطسي النيشابوري. 7 - الشيخ الثقة أبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد الدوريستي. 8 - الشيخ الجليل الثقة الفقيه أبو الفضل شاذان بن جبريل بن اسماعيل القمي. مصنفاته: لقد خلف الشيخ المصنف (قدس سره) ثروة علمية تنبو على براعته في العلم والأدب والفن والنحو، وتفوقه على أقرانه من أهل النظر والتحقيق، حتى عدت آثاره الخالدة درة ناصعة في جبين التاريخ، كما حكى عنه الفاضل النوري (1) بأن له (1) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 487. (*)
[ 26 ]
مؤلفات فائقة رائقة. هذا بالأضافة الى ما امتازت به - أي مصنفاته - من صفة التنوع، إذ أنه (قدس سره) لم يغفل عن الكتابة والتحقيق في حقل العقائد والنحو والأدب والأخلاق والدعاء والسيرة والفلسفة طول مدة حياته. فمن مصنفاته: 1 - الآداب الدينية للخزانة المعينية، وهو كتاب فخم في الأخلاق والآداب. 2 - أسرار الإمامة، نسبه إليه بعض الأعلام، واستظهر صاحب الروضات أنه لولده الحسن بن الفضل. 3 - إعلام الورى بأعلام الهدى، في فضائل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأحوالهم وآثارهم. 4 - تاج المواليد. 5 - جوامع الجامع، وهو الكتاب الماثل بين يديك. 6 - الجواهر في النحو. 7 - رسالة حقائق الامور في الأخبار. 8 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، كما ذكره هو بنفسه في مجمع البيان ذيل آية: * (يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) * (1). 9 - عدة السفر وعمدة الحضر. 10 - العمدة في اصول الدين والفرائض والنوافل. 11 - غنية العابد ومنية الزاهد. 12 - الفائق. 13 - كنوز النجاح في الأدعية المأثورة. 14 - الكاف الشاف من كتاب الكشاف، وهو تفسير مختصر. 15 - مجمع البيان لعلوم القرآن، في عشر مجلدات. (1) الآية: 67 من سورة المائدة. (*)
[ 27 ]
16 - مشكاة الأنوار في الأخبار. قال صاحب الروضات: الظاهر أنه غير " مشكاة الأنوار في غرر الأخبار " التي هي لسبطه الشيخ أبي الفضل علي بن الحسن بن الفضل، وهو كتاب ظريف يشتمل على أخبار غريبة. 17 - معارج السؤال. 18 - نثر اللآلي، وهي رسالة مختصرة مجموعة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) مرتبة على حروف المعجم. 19 - النور المبين. 20 - الوافي في تفسير القرآن على ما نسب إليه. 21 - رواية صحيفة الرضا (عليه السلام). جوامع الجوامع: هذا الكتاب - الذي بين يديك - هو من أشهر مؤلفات الشيخ الطبرسي (قدس سره) بعد كتاب " مجمع البيان "، وقد سمى العلامة المجلسي في مقدمة بحار الأنوار (1) هذا الكتاب ب " جامع الجوامع "، وهكذا ذكره الأفندي في رياض العلماء (2) عند تعرضه لترجمة الطبرسي، لكن النسخ المعتمدة ذكرت أن اسمه " جوامع الجامع ". ثم إنه قد وقع الخلاف بين أصحاب التراجم في أن هذا الكتاب هل هو " الكاف الشاف " أم غيره ؟ أو هل هو " الوسيط " أم غيره ؟ فقد ذكر ابن شهر آشوب في " معالم العلماء " (3) بأن تفسير مجمع البيان والكلام الشاف من كتاب الكشاف فقط، وأما " جوامع الجامع " و " الوسيط " و " الوجيز " فلم يتعرض لذكرها، ويمكن أن يقال: إنه ذكر " الكلام الشاف " بدل " الكاف الشاف ". (1) بحار الأنوار: ج 1 ص 6 الطبعة الحجرية. (2) رياض العلماء: ج 2 باب الفاء، الفضل بن الحسن الطبعة الحجرية. (3) معالم العلماء: ص 123 رقم 893. (*)
[ 28 ]
وقال الشيخ منتجب الدين في " الفهرست ": له تصانيف، منها: مجمع البيان في تفسير القرآن عشر مجلدات، الوسيط في التفسير أربع مجلدات، الوجيز مجلدة (1). ولم يذكر " جوامع الجامع " ولا " الكاف الشاف ". وأما القاضي نور الله في " مجالس المؤمنين " (2) فلم يتطرق لذكر التفسير الكبير ولا الجوامع، لكنه أشار الى تفسير ثالث مختصر ولم يذكر اسمه. وقال السيد مصطفى التفريشي في " نقد الرجال ": إن كتاب " مجمع البيان في تفسير القرآن " عشر مجلدات، و " الوسيط في التفسير " أربع مجلدات، و " الوجيز " مجلدة (3). وقال الأفندي في " رياض العلماء ": ولعل المراد بالوسيط في التفسير هو تفسير " جامع الجوامع " المشهور، وبالوجيز " الكاف الشاف "، ويحتمل المغايرة، وقد يتوهم أن " الكاف الشاف عن الكشاف " هو بعينه كتاب " جامع الجوامع " حيث قال في أوله: إنه ملخص من الكشاف، ولكن الحق أنه غيره (4). وينبغي الإشارة الى أن الشيخ المصنف (قدس سره) لم يذكر في طيات كتابه " جوامع الجامع " أن هذا الكتاب هو تلخيص من الكشاف، وإنما ذكر في بداية مقدمته عبارة حول " الكاف الشاف "، ومضمونها: أن تفسير " الكاف الشاف " خلاصة من تفسير الكشاف، وليس تفسير " جوامع الجامع ". وحول تفسير " جوامع الجامع " قال: " ومما حداني إليه وحثني وبعثني عليه أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل القي في روعي محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة، مقتصرا فيه على إيراد المعنى البحت، والإشارة الى مواضع النكت بالعبارات الموجزة والايماءات المعجزة مما يناسب الحق والحقيقة ويطابق الطريقة المستقيمة... " فلا يستفاد بأي (1) الفهرست: ص 144 رقم 336. (2) مجالس المؤمنين: ج 1 ص 490. (3) نقد الرجال للتفريشي: ص 266. (4) رياض العلماء: ج 4 ص 342 الطبعة الحديثة. (*)
[ 29 ]
وجه من هذه العبارة بأن تفسير " جوامع الجامع " هو تلخيص لتفسير الكشاف. وقال صاحب ريحانة الأدب: إن تفسير " الكاف الشاف " قد الف بعد التفسيرين: " مجمع البيان " و " جوامع الجامع " وذلك بطلب من ولده الشيخ حسن بن فضل وقد انتخبه منهما، أو بالعكس، أي أن تفسير " جوامع الجامع " قد الف بعد التفسيرين: " مجمع البيان " و " الكاف الشاف " وقد انتخبه منهما كما هو الظاهر، بل صريح كلام كتاب الذريعة (1). والتحقيق في هذا نقول: إن الظاهر من كلام الطبرسي نفسه - من بعض القرائن - أنه لم يؤلف أكثر من ثلاثة تفاسير: " مجمع البيان "، و " الكاف الشاف " أو " الوجيز "، و " جوامع الجامع " أو " الوسيط ". ومما لا شك فيه أنه (قدس سره) لم يشرع بتأليف أي تفسير قبل " مجمع البيان "، حيث قال في مقدمته: وقد كنت في عهد ريعان الشباب حداثة السن وريان العيش ونضارة الغصن كثير النزاع، قلق التشوق، شديد التشوف الى جمع كتاب في التفسير... إلى أن قال: وهلم جرا الى الآن وقد ذرف سني على الستين... الى أن قال: فحداني على تصميم هذه العزيمة ما رأيت من عناية مولانا الأمير السيد الأجل... أبي منصور محمد بن يحيى بن هبة الله الحسيني... بهذا العلم وصدق رغبته في معرفة هذا العلم (2). فيفهم ممن كلامه (قدس سره) أنه قبل سن الستين لم يكتب أي تفسير، وفي هذه السن بدأ بتأليف " مجمع البيان ". وأما التفسير الثاني له فهو " الكاف الشاف "، وهو خلاصة لتفسير الزمخشري الموسوم ب " الكشاف "، وكان تأليفه بعد " مجمع البيان " وقبل " جوامع الجامع "، وهذا ما يفهم من كلامه في مقدمة " جوامع الجامع " حيث قال: فإني لما فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم ب " مجمع البيان لعلوم القرآن " ثم عثرت من بعد (1) ريحانة الأدب: ج 4 ص 20. (2) مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 10. (*)
[ 30 ]
بالكتاب " الكشاف لحقائق التنزيل " لجار الله العلامة، واستصلحت من بدائع معانيه وروائع ألفاظه ومبانيه ما لا يلقى مثله في كتاب مجتمع الأطراف، ورأيت أن أسمه واسميه ب " الكاف الشاف "، فخرج الكتابان الى الوجود. وأما التفسير الثالث له فهو هذا الكتاب " جوامع الجامع " وكان بطلب من ولده، حيث اختاره من التفسيرين المتقدمين، فقد قال في مقدمته: اقترح علي من حل مني محل السواد من البصر والفؤاد ولدي أبو نصر الحسن - أحسن الله نصره وأرشد أمري وأمره - أن اجرد من الكتابين كتابا ثالثا يكون مجمع بينهما ومحجر عينهما، يأخذ بأطرافها ويتصف بأوصافهما، ويزيد بأبكار طرائف وبواكير لطائف عليهما. لكنه استعفاه أول الأمر، لأن عمره جاوز السبعين وقد أخذه من الكبر عتيا، لكن أمام إلحاح الابن أجاب مطلبه ونفذه بقوله: فلم أجد بدا من صرف وجه الهمة إليه، والإقبال بكل العزيمة عليه، وهممت أن أضع يدي فيه، ثم استخرت الله تعالى وتقدس في الابتداء منه بمجموع مجمع جامع للكلم الجوامع، اسميه كتاب " جوامع الجامع "، ولا شك أنه اسم وفق للمسمى ولفظ طبق للمعنى. ثم إنه عاد وسماه بالوسيط في قوله: وأرجو أن يكون بتوفيق الله وعونه وفيض فضله ومنه كتابا وسيطا خفيف الحجم كثير الغنم، لا يصعب حمله ويسهل حفظه ويكثر معناه وإن قل لفظه. وعلى ضوء ما تقدم يمكن أن يقال: إنه (قدس سره) لم يؤلف أكثر من هذه التفاسير الثلاثة المذكورة، وقد صرح بكبر الأول وباختصار الثاني وأوسطية الثالث، وإنه بسبب كبر سنه وعجزه وضعفه بقوله في مقدمة هذا الكتاب: فاستعفيته مرة بعد اخرى، لما كنت أجده في نفسي من ضعف المنة ووهن القوة، فلقد ذرفت على السبعين سنيا، وبلغت من الكبر عتيا، وصرت كالحنية حنيا، واشتعل الرأس شيبا، وقاربت شمس العمر مغيبا، فأبى إلا المراجعة فيه... الخ، فإنه (قدس سره) بسبب كبره وشدة ضعفه لم يستطع تأليف أي تفسير آخر لكي يضع له أي اسم آخر. ومن هنا يمكن الجزم أن التفسير الكبير هو " مجمع البيان "، والتفسير
[ 31 ]
المختصر هو " الكاف الشاف "، والتفسير الوسيط هو " جوامع الجامع " ولا غيرها. سبب تأليفه: ثم إنه (قدس سره) قد ذكر سبب تأليف هذا الكتاب والباعث على تصنيفه من جراء إصرار ولده وإلحاحه عليه فيه، لكنه مضافا إليه كان هناك مشجعا آخر إليه، حيث يقول في مقدمته: ومما حداني إليه وحثني وبعثني عليه أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل القي في روعي محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه... الخ. مزايا هذا الكتاب: لقد امتاز هذا التفسير بعدة مزايا كان لها الأثر في انتخابه ككتاب درسي يستفاد منه في الحوزات الدينية الشيعية بل وغير الشيعية، ويمكن اختصارها بعدة نقاط: 1 - أنه تفسير وجيز، جمع فيه الشمولية من غير إطناب ممل والاختصار من غير اقتصار مخل. 2 - أنه وسيط، خفيف الحجم كثير الغنم، لا يصعب حمله ويسهل حفظه، كما ذكره هو نفسه (قدس سره) في ثنايا مقدمته. 3 - أنه جمع الى التفسير اللغة والإعراب والنحو وبيان النظم وسبب النزول والقراءة. 4 - أنه جمع فيه آراء الصحابة والتابعين بالإضافة الى مرويات أهل البيت (عليهم السلام). 5 - أنه بين فيه مواضع الخلاف مع ما ذهب إليه العامة من جهة، ومع ما ذهب إليه الزمخشري من حيث اعتزاله من جهة اخرى. وأما من ناحية امتيازه عن الكشاف فيمكن تلخيصها ما يلي:
[ 32 ]
1 - الاختصار في كلامه، وحذف الموارد الزائدة والمواضع غير الضرورية فيه، إذ كثير من الموارد قد أطنب فيه صاحب الكشاف وأطال، فسعى الشيخ المصنف الى اختصار هذا الإطناب خدمة للموضوع الذي يرى فيه موضع فائدة للقراء. 2 - في موارد اختلاف آراء الإمامية مع المعتزلة في تفسير الآية، فإنه (قدس سره) يعدل عن رأي صاحب الكشاف ويثبت ما يعتقده الحق. 3 - إيراده بعض الروايات من طرق الخاصة والتي لا توافق مذهب صاحب الكشاف، بل كثير منها مخالف له. منهج هذا الكتاب: ولا يخفى أن هذا التفسير لم يرتب على منهج " مجمع البيان " في تبويبه وترتيبه، وإنما وضع على منهج الكشاف في تسلسله الموضوعي، إذ تذكر في بداية المقال الآيات التى تتعلق بالموضوع المدرج، ثم يؤتى بها مجزأة ويتخللها الشرح لمعاني المفردات أو لمعنى الآية مجملة، ثم يذكر الأوجه الأدبية لتلك المعاني من الصرف والإعراب واللغة والاشتقاق والبلاغة والبيان...، وأحيانا الفقه والكلام، ثم ينقل الأقوال من دون تقسيم أو تنظيم، وهكذا حتى يأتي على آخر الآيات. منهجية التحقيق: لا يخفى على ذوي الخبرة في ميدان تحقيق الكتب والآثار القديمة بما يواجهه المحقق من مصاعب شتى في مسيرة عمله التحقيقي، من الحصول على النسخ المعتمدة تارة، ومطابقة هذه النسخ ومقابلتها مع بعضها من أجل تثبيت موارد الاختلاف والمواضع المضطربة أو المشوهة أو الممزقة في بعضها تارة اخرى، فالحصول على نسخة مشتملة على كافة الشرائط التي تجعل منها " معتمدة " والتي يمكن أن تجرى عليها باقي مراحل العمل التحقيقي ليس بالأمر
[ 33 ]
السهل، وخصوصا في الكتب التفسيرية التي تعتمد في بنى أساسها على اللغة والإعراب والصرف والنحو والأدب والشعر، مما يضع المحقق في دوامة اللغة واشتقاقاتها ومترادفاتها، سيما وأن الكتاب درسي، لأنه سوف يغطي مقدارا واسعا من القراء المثقفين، طلبة كانوا أم أساتذة، مما يعطي مساحة كبيرة من المتابعة والتمحيص، وقوة أكبر من الدقة والانتباه لابتغاء المطلوب الذي جهدت اللجنة المكلفة بكل ما وهبها الله سبحانه من قوة على تحقيقه. فقد حاولت هذه اللجنة أن لا تدخر جهدا ممكنا إلا وظفته لخدمة هذا الكتاب الشريف، ولا سعيا مقدورا إلا يسرته لإتمام هذا المشروع المبارك الذي عزمت هذه المؤسسة على إخراجه الى النور خدمة للعلم وطلبته، فبادرت هذه اللجنة بتشكيل برنامج للعمل وعلى النحو الملخص التالي: 1 - إحضار النسخ الخطية منها والمطبوعة المتوفرة باختلافاتها، ورصد تلك الاختلافات باجراء عملية مقابلة دقيقة، ثم تثبيت الضروري منها والمفيد على نسخة ملفقة ومصححة، كانت هي الأساس الذي جرت عليها مراحل العمل المتلاحقة. ولا يفوتنا ذكر ما استفدناه في هذه المرحلة من النسخة التي قام بتصحيحها الاستاذ أبو القاسم الگرجي. 2 - قيام المجموعة باستخراج الموارد التالية: (أ) الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المستشهد بها في المتن. (ب) الأقوال الواردة، سواء المصرح فيها اسم القائل أو ذكرت بعنوان القيل، ونسب هذه الأقوال الى قائليها حسب تسلسل السلم التاريخي، ابتداء بالصحابة والتابعين ومرورا بالذين كتبوا في مصنفاتهم التفسيرية، فأدرجوا فيها أقوالهم تارة ومختارهم اخرى، وانتهاء بالذين خاضوا هذا المضمار من اللغويين وما أدرجوا في كتبهم من آراء ومختارات. (ج) الأشعار والأرجاز المستشهدة بها في المتن، ونسبها الى قائلها إن عثرنا على مصدر يؤيد ذلك، مع الإشارة الى ذلك المصدر أو المصادر المعتمدة، وبيان
[ 34 ]
معناها ملخصا. (د) أسامي الأعلام المشهورين المذكورين في المتن، وترجمة حياتهم ترجمة مختصرة، وقد أشرنا في الأثناء الى مصادر الترجمة. (ه) أسامي الأمكنة والبقاع المندرجة في ثنايا المتن، والعمل على ترجمتها باختصار غير مخل مع الإشارة الى المصادر التي اعتمدت في ترجمتها. (و) الكلمات المبهمة والغامضة التي تحتاج الى توضيح، والسعي الى بيان معناها مع الإشارة الى المصادر. 3 - إجراء تقويم للمتن وفق الحركات الإعرابية اللازمة، سواء للنصوص القرآنية أو الأحاديث الشريفة أو للشرح المتخلل، وتقطيع المقاطع اللازمة والضرورية من أجل بيان التسلسل الموضوعي المدرج في الكلام. 4 - كتابة النص القرآني طبقا لرسم المصحف الشريف المطبوع في هذه المؤسسة، وهو على قراءة عاصم برواية حفص. 5 - إجراء تنضيد حروف الكتاب - وفق الحروف الكمپيوترية - وحركاتها الإعرابية، وخاصة نصوص القرآن الكريم، مع الالتزام برسم المصحف الشريف كما هو، حفاظا على نهج القرآن وقداسة رسمه عبر الأجيال. 6 - قيام مجموعتين من ضمن اللجنة المكلفة بعهدة المقابلة بين المطبوع والأصل المعتمد وعلى مرحلتين: الاولى: مقابلة المتن المشروح، وهو تارة متابعة كلماته وحروفه، واخرى حركاته الإعرابية، ابتغاء أكبر قدر ممكن من الدقة والضبط الصحيح. الثانية: مقابلة النصوص القرآنية الواردة في متن الكتاب بكامل رسمها وحركاتها وسكناتها مع نسخة المصحف الشريف. 7 - القيام بمهمة النظرة الأخيرة على الكتاب، وذلك على نحوين: (أ) ويشمل: متابعة المنصوص والمشروح من زاوية نظر أوسع، والإمعان في سياقها وتراكيبها الجملية، ومتابعة الامور الفنية المتعلقة بالطبع والطبعة، حرصا
[ 35 ]
على إخراجه بحلة قشيبة باهرة. (ب) الإشراف على وضع اللمسات الأخيرة، وتدوين الملاحظات الهامة. ولا يفوتنا ذكر ما استفدناه من خبرة وتجربة الاستاذ المحقق الألمعي الشيخ محمد مهدي نجف دامت توفيقاته، وما أبدى من توجيهات في جميع مراحل العمل في هذا السفر القرآني، جزاه الله خيرا. وصف المخطوطات: وقد اعتمدنا في تحقيقنا في هذه الطبعة على النسخ التالية: 1 - النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الوطنية " ملي " بطهران تحت رقم 62482 مجهولة الناسخ والتاريخ، لتأكل بعض أوراقها وفقدان أجزائها، لكن في خاتمة الجلد الأول منها ذكر الناسخ تاريخ فراغه من نسخه، وصورته: " تم الجلد الأول من الجوامع بعون الله وحسن توفيقه يوم الاثنين رابع عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبعمائة "، إذا قد كتبت هذه النسخة في القرن الثامن الهجري، وبالتحديد في النصف الثاني منه، أي أن تاريخ كتابة هذه النسخة متأخر عن تاريخ تأليف الكتاب بحوالي 221 سنة. وعدد صفحاتها 632 صفحة، ومن القطع الرحلي، وخطها ردئ، وتحوي على حواش قد كتبت بخط غير خط الناسخ. 2 - النسخة المحفوظة في خزانة مكتبة كلية الإلهيات والعلوم الدينية تحت رقم 56، وهي واحدة من مجموعة ما وقفه المرحوم آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي (قدس سره) لهذه المكتبة، وكاتب هذه النسخة هو محمد سميع الخاوري، وفرغ منها يوم عيد الغدير من سنة 1111 ه، وعدد صفحاتها 374 صفحة، في كل صفحة 23 سطرا، ومن القطع الرحلي. 3 - النسخة المحفوظة أيضا في خزانة مكتبة كلية الإلهيات والعلوم الدينية تحت رقم 81، وهي واحدة من مجموعة ما وقفته عائلة آل آقا، وكاتب النسخة هو محمد حسن بن درويش علي أبردمي المشهدي، وقد فرغ منها في العاشر من
[ 36 ]
جمادي الثانية من سنة 1119 ه في المدرسة السميعية بخراسان، وعدد صفحاتها 505 صفحة، في كل صفحة 21 سطرا. 4 - النسخة المطبوعة على الحجر والتي قام بتحريرها محمد حسين الگلپايگاني بطلب من الحاج محمد حسين الكاشاني، وقد أشرف على تصحيحها جمع من علماء قم، وذلك في طهران سنة 1321 ه. والنسخة من القطع الرحلي. 5 - نسخة كتبت بخط الحاج طاهر خوشنويس، وبنفقة المرحوم الحاج آقا بالاكلاهي، وقد قام بتصحيحها وتحقيقها العالم الشهيد السيد محمد علي القاضي الطباطبائي بمساعدة بعض الفضلاء في شهر رجب سنة 1379 ه، وتم الفراغ منها في شعبان سنة 1383 ه، وقد طبعت في مطبعة مصباحي بطريقة الافست. ويذكر أن المحقق قد كتب مقدمة مفيدة في 21 صفحة في خصوص القرآن وتفسيره، وحول كتاب " جوامع الجامع " والطبعات المتقدمة له، وترجمة حول المؤلف ومصنفاته. بلغ عدد صفحات هذه النسخة 558 صفحة، وفي كل صفحة 32 - 34 سطرا. اللهم إجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويهتدي بضوء صباحه، ويستصبح بمصباحه، ولا يلتمس الهدى في غيره، بحق محمد وآله الطاهرين.
[ 37 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الاول من النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الوطنية " ملي " بطهران تحت رقم 62482
[ 38 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الثاني من النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الوطنية " ملي " بطهران تحت رقم 62482
[ 39 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الاول من النسخة المحفوظة في خزانة مكتبة كلية الالهيات والعلوم الدينية تحت رقم 56
[ 40 ]
نموذج من الصفحة الاولى للمجلد الثاني من النسخة المحفوظة في خزانة مكتبة كلية الالهيات والعلوم الدينية تحت رقم 81
[ 41 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الثاني من النسخة المحفوظة في خزانة مكتبة كلية الالهيات والعلوم الدينية تحت رقم 81
[ 42 ]
نموذج من الصفحة الاولى للمجلد الاول من النسخة المطبوعة على الحجر والتي قام بتحريرها محمد حسين الگلپايگاني
[ 43 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الثاني من النسخة المطبوعة على الحجر والتي قام بتحريرها محمد حسين الگلپايگاني
[ 44 ]
نموذج من الصفحة الاولى للمجلد الاول من النسخة المكتوبة بخط الحاج طاهر خوشنويس
[ 45 ]
نموذج من الصفحة الاخيرة للمجلد الثاني من النسخة المكتوبة بخط الحاج طاهر خوشنويس
[ 47 ]
مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أكرمنا بكتابه الكريم، ومن علينا بالسبع المثاني (1) والقرآن العظيم، وما ضمنه من الآيات والذكر الحكيم، فهو النور الساطع برهانه، والفرقان الصادع (2) تبيانه، والمعجز الباقي على مر الدهور، والحجة الثابتة سجيس (3) العصور، يهدي إلى صالح القول والعمل، ويثبت من الميل والزلل، لا تمجه (4) الأسماع، ولا تمله الطباع، معدن كل علم ومنبع كل حكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، نزل به الروح الأمين على خاتم النبيين ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. ثم الصلاة والسلام على الرسول الأمين والنبي المكين، محمد خير البشر، وسيد البشر (5)، وأكرم النذر، المنتجب من أشرف المناصب، المنتخب من أعلى (1) وهي من أسماء سورة الفاتحة، سميت بالسبع لأنها سبع آيات بالاتفاق بين قراء الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام وفقهائها، وبالمثاني لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة فرض ونفل، ففي تفسير العياشي: ج 1 ص 19 ح 3 باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: * (ولقد ءاتينك سبعا من المثانى) * قال: " هي سورة الحمد وهي سبع آيات... وإنما سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين ". (2) الصادع: الفارق بين الحق والباطل، أو المظهر. (القاموس المحيط: مادة صدع). (3) سجيس: أي أبدا. (القاموس المحيط: مادة سجس). (4) تمجه: أي ترميه وتقذفه وتستكرهه. (القاموس المحيط والصحاح: مادة مجج). (5) البشر - بضمتين -: جمع البشير. (لسان العرب: مادة بشر). (*)
[ 48 ]
المناسب، الذي سما بسمو انتسابه اسم عدنان (1) ومضر (2)، وبعلو قدره علا كعب كعب وكبر (3)، وبنضرة جاهه وجه النضر نضر (4)، وبرفعة أمره استمر أمر مرة وأمر، فأسرته خير الأسر، وشجرته أكرم الشجر، وعترته أفضل العتر، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أما بعد، فإني لما فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم ب " مجمع البيان لعلوم القرآن "، ثم عثرت من بعد بالكتاب الكشاف لحقائق التنزيل لجار الله (5) (1) هو أحد من تقف عندهم أنساب العرب، والمؤرخون متفقون على أنه من أبناء إسماعيل بن إبراهيم، والى عدنان ينتسب معظم أهل الحجاز. ولد له معد، وولد لمعد نزار، ومن نزار ربيعة ومضر، وكثرت بطون هذين، فكان من ربيعة: بنو أسد وعبد القيس وعنزة وبكر وتغلب ووائل والأراقم والدؤل وغيرهم كثيرين، وتشعبت قبائل مضر شعبتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وإلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: غطفان وسليم، ومن غطفان: بغيض وعبس وذبيان وما يتفرع منهم، ومن سليم: بهثة وهوازن. وأما إلياس فمن بنيه: تميم وهذيل وأسد وبطون كنانة، ومن كنانة: قريش، وانقسمت قريش فكان منها: جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وعبد الدار وأسد بن عبد العزى وعبد مناف، وكان من عبد مناف: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم، ومن هاشم: رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعباسيون، ومن عبد شمس: بنو امية. وانتشرت بطون عدنان في أنحاء الحجاز وتهامة ونجد والعراق ثم اليمن. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك، ويقول: كذب النسابون، فلا يتجاوزه. (طرق الأصحاب: ص 14، وتاريخ الطبري: ج 2 ص 191، وجمهرة الأنساب: ص 8 وبعدها). (2) مضر بن نزار بن معد بن عدنان، من سلسلة النسب النبوي، من أهل الحجاز، قيل: إنه أول من سن الحداء للإبل في العرب، وكان من أحسن الناس صوتا، أما بنوه فهم أهل الكثرة والغلبة في الحجاز، من دون سائر بني عدنان، كانت الرياسة لهم بمكة والحرم. (سبائك الذهب: ص 18، وتاريخ الطبري: ج 2 ص 189، والكامل لابن الأثير: ج 2 ص 10، ومعجم قبائل العرب: ص 1107). (3) كبر - بضم الباء -: ضد صغر، وبفتحها: زاد. (القاموس المحيط: مادة كبر). (4) نضر: حسن ونعم. (القاموس المحيط: مادة نضر). (5) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الحنفي المعتزلي، وجار الله لقب لقب به، لأنه سافر إلى مكة وجاور بها زمانا حتى عرف بهذا اللقب واشتهر به، وصار كأنه علم عليه، ولد في رجب سنة 467 ه بزمخشر، وهي قرية من قرى خوارزم، وقدم = (*)
[ 49 ]
العلامة، واستخلصت (1) من بدائع معانيه وروائع ألفاظه ومبانيه مالا يلفى مثله في كتاب مجتمع الأطراف، ورأيت أن أسمه وأسميه بالكاف الشاف، فخرج الكتابان إلى الوجود، وقد ملكا أزمة القلوب، إذ أحرزا من فنون العلم غاية المطلوب، وجادت جدواهما، وتراءت ناراهما، وبعد في استجماع جواهر الألفاظ وزواهر المعاني مداهما، فسارا (2) في الأمصار مسير الأمثال، وسريا في الأقطار مسرى الخيال، اقترح علي من حل مني محل السواد من البصر والسويداء من الفؤاد، ولدي أبو نصر الحسن - أحسن الله نصره وأرشد أمري وأمره - أن أجرد من الكتابين كتابا ثالثا يكون مجمع بينهما ومحجر (3) عينهما، يأخذ بأطرافهما ويتصف بأوصافهما، ويزيد بأبكار الطرائف وبواكير (4) اللطائف عليهما، فيتحقق ما قيل: إن الثالث خير، فإن الكتب الكبار قد يشق على الشادي (5) حملها ويثقل على الناقل نقلها، فأكثر أبناء الزمان تقصر هممهم عن احتمال أعباء (6) العلوم الثقيلة والإجراء في حلباته (7) المديدة الطويلة، فاستعفيته من ذلك مرة بعد أخرى لما كنت أجده في نفسي من ضعف المنة (8) ووهن القوة، فلقد ذرفت (9) على السبعين سنيا، وبلغت من الكبر عتيا، وصرت كالحنية حنيا (10)، واشتعل الرأس = بغداد ولقي الكبار وأخذ عنهم، كانت وفاته ليلة عرفة سنة 538 ه بجرجانية خوار بعد رجوعه من مكة. (وفيات الأعيان: ج 4 ص 254، وشذرات الذهب: ج 4 ص 121، وطبقات المفسرين للسيوطي: ص 41). (1) في نسخة: استصلحت. (2) في نسخة: فصارا. (3) المحجر من العين: ما دار بها وتحرك. (القاموس المحيط: مادة حجر). (4) الباكورة: أول ما يدرك من الفاكهة أو أول كل شئ. (القاموس المحيط: مادة بكر). (5) الشادي: الآخذ بطرف من الأدب أو العلم. (القاموس المحيط: مادة شدى). (6) الأعباء: الأثقال والأحمال. (القاموس المحيط: مادة عبأ). (7) الحلبة: الدفعة من الخيل في الرهان، وخيل تجتمع للسباق. (لسان العرب: مادة حلب). (8) المنة: القوة. (لسان العرب: مادة منن). (9) ذرف - بالتشديد -: زاد. (القاموس المحيط: مادة ذرف). (10) حناه: عطفه، والحنية: القوس. (القاموس المحيط: مادة حنى). (*)
[ 50 ]
شيبا، وقاربت شمس العمر مغيبا، فأبى إلا المراجعة فيه، والعود والاستشفاع بمن لم أستجز (1) له الرد فلم أجد بدا من صرف وجه الهمة إليه والإقبال بكل العزيمة عليه، وهممت أن أضع يدي فيه، ثم استخرت الله تعالى وتقدس في الابتداء منه بمجموع مجمع جامع للكلم الجوامع، أسميه كتاب " جوامع الجامع "، ولاشك أنه اسم وفق للمسمى ولفظ طبق للمعنى، وأرجو أن يكون بتوفيق الله وعونه وفيض فضله ومنه كتابا وسيطا خفيف الحجم، كثير الغنم، لا يصعب حمله، ويسهل حفظه، ويكثر معناه وإن قل لفظه، يروع (2) موضوعه، ويروق مسموعه، ينظم وسائط القلائد، ويحوي بسائط الفوائد، ويستضئ العلماء بغرره ودرره، ويفتقر الفضلاء إلى فقره، فيكتب (3) على وجه الدهر، ويعلق في كعبة المجد والفخر. ومما حداني إليه وحثني وبعثني عليه، أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل ألقي في روعي (4) محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة، مقتصرا فيه على إيراد المعنى البحت، والإشارة إلى مواضع النكت، بالعبارات الموجزة والإيماءات المعجزة، مما يناسب الحق والحقيقة ويطابق الطريقة المستقيمة. وإذا ورد في أثناء الآيات شئ قد تقدم الكلام في نظيره، أعول في أكثره على المذكور قبل، إيثارا للإيجاز والاختصار. وأنا أسأل الله الكريم المنان مستشفعا إليه بمحمد المصطفى وآله مصابيح الإيمان ومفاتيح الجنان، عليه وعليهم الصلاة والسلام ما اختلف الضياء والظلام، أن يجعل وكدي (5) وكدي في تأليفه مع تخاذل الأعضاء وتواكل الأجزاء موجبا لغفرانه، ومؤديا إلى رضوانه، ويمن بالتسهيل والتيسير، فإن تيسير العسير عليه جلت قدرته يسير، وهو على ما يشاء قدير، نعم المولى ونعم النصير. (1) في نسخة: استحسن. (2) يروع: يعجب. (لسان العرب: مادة روع). (3) في نسخة: فليكتب. (4) الروع: القلب. (القاموس المحيط: مادة روع). (5) الوكد بالضم: الفعل، وبالفتح: المراد والهم والقصد. (القاموس المحيط: مادة وكد). (*)
[ 51 ]
سورة الفاتحة / 2 سورة الفاتحة مكية سبع آيات بلا خلاف، إلا أن أهل مكة والكوفة عدوا * (بسم الله الرحمن الرحيم) * آية من الفاتحة، وغيرهم عدوا * (أنعمت عليهم) * آية. وروي عن ابن عباس (1) أنه قال: من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى (2). وعن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: * (سبعا من المثانى) * (3)، فقال (عليه السلام): " هي سورة الحمد، وهي سبع آيات منها بسم الله الرحمن الرحيم " (4). (1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن مناف الهاشمي المكي، ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله)، ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، وسمع النبي (صلى الله عليه وآله) وروى عن جماعة من الصحابة، روى عنه: سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وجماعة من التابعين، وروي أنه دعا له الرسول (صلى الله عليه وآله): " اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين ". توفي بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل: تسع وستين. (طبقات المفسرين للداودي: ج 1 ص 232، وتاريخ بغداد: ج 1 ص 173، وطبقات القراء: ج 1 ص 426، وتذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 40، وتاريخ التراث العربي: مج 1 ج 1 ص 63). (2) رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 1. (3) الحجر: 87. (4) تفسير العياشي: ج 1 ص 19 ح 3، وعنه تفسير البرهان: ج 1 ص 42 ح 14. (*)
[ 52 ]
وعن أبي بن كعب (1) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة " (2). وعن جابر بن عبد الله (3) عنه (عليه السلام) قال: " هي شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت " (4). * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (1) (5) أصل الاسم: سمو، لأن جمعه أسماء وتصغيره سمي * (الله) * أصله: إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: " يا الله " بقطع الهمزة، كما يقال: " يا إله ". ومعناه: أنه الذي يحق له العبادة، وإنما حقت له العبادة لقدرته على أصول النعم، فهذا الاسم مختص بالمعبود بالحق لا يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه فتقول: " إله واحد " ولا تصف به، فلا تقول: شئ (1) هو ابي بن كعب بن قيس، يكنى أبا الطفيل، وأبا المنذر، كتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، شهد العقبة الثانية، وبالغ النبي (صلى الله عليه وآله) فيها، وشهد بدرا، وكان أحد فقهاء الصحابة، مات على أرجح الأقوال في خلافة عمر بن الخطاب سنة تسع عشرة، وقيل: اثنتين وعشرين. (الاستيعاب: ج 1 ص 65). (2) أورده في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 17. (3) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، روى الكثير عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وروى عن أبي بكر وعمر ومعاذ وغيرهم. قال ابن سعد: شهد العقبة مع السبعين وكان أصغرهم، وشهد الحديبية فهو من أهل بيعة الرضوان، توفي سنة ثمان وسبعين، وقيل: سبع وسبعين، وقيل: إنه عاش أربعا وتسعين سنة. (تاريخ الاسلام: ج 5 ص 377، وطبقات ابن سعد: ج 3 ص 574، والثقات لابن حبان: ص 52، والمعارف لابن قتيبة: ص 162 و 307 و 557، وتذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 43). (4) تفسير العياشي: ج 1 ص 20 ح 9، وعنه تفسير البرهان: ج 1 ص 42 ح 20، وتفسير الصافي: ج 1 ص 56. (5) قال الشيخ الطوسي: عندنا آية من الحمد ومن كل سورة. التبيان: ج 1 ص 24. (*)
[ 53 ]
إله، و * (الرحمن) * فعلان من رحم كغضبان، و * (الرحيم) * فعيل منه كعليم، وفي * (الرحمن) * من المبالغة ما ليس في * (الرحيم) *، ولذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة (1). ورووا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (2). وتعلقت الباء في * (بسم الله) * بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ، ليختص اسم الله بالابتداء به (3)، كما يقال للمعرس: " باليمن والبركة " بمعنى: أعرست، وإنما قدر المحذوف متأخرا لأنهم يبتدئون بالأهم عندهم، ويدل على ذلك قوله: * (بسم الله مجريها ومرسيهآ) * (4). * (الحمد لله رب العلمين) * (2) * (الحمد) * والمدح أخوان، وهو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة، والحمد باللسان وحده، والشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، ومنه قوله (عليه السلام): " الحمد رأس الشكر " (5)، والمعنى في كونه رأس الشكر: أن الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدل على مكان النعمة وأشيع للثناء على موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح، ونقيض الحمد الذم، ونقيض الشكر الكفران. (1) وهو المروي عن الصادق (عليه السلام)، رواه عنه الصدوق باسناده في كتاب التوحيد: ص 230 ح 3، وأخرجه الطبري في تفسيره: ج 1 ص 84 وعزاه الى العرزمي. (2) أورده في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 21. (3) في نسخة: بالابتدائية. (4) هود: 41. (5) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير: ج 1 ص 152، وفي الدر المنثور: ج 1 ص 30 وعزاه لعبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الاصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس والثعلبي في تفسيره والزبيدي في اتحاف المتقين: ج 9 ص 49. (*)
[ 54 ]
وإنما عدل بالحمد عن النصب الذي هو الأصل في كلامهم على أنه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: شكرا وعجبا... ونحو ذلك إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره، دون تجدده وحدوثه في نحو قولك: أحمد الله حمدا. ومعناه: الثناء الحسن الجميل والمدح (1) الكامل الجزيل للمعبود المنعم بجلائل النعم، المنشئ للخلائق والامم (2). سورة الفاتحة / 3 - 5 والرب: السيد المالك، ومنه قول صفوان لأبي سفيان (3): لان يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن (4). يقال: ربه يربه فهو رب، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، ويقيد في غيره فيقال: رب الدار، ورب الضيعة. والعالم: اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين، وقيل: هو اسم لما يعلم به الصانع من الجواهر والأجسام والأعراض، وجمع بالواو والنون وإن كان اسما غير صفة لدلالته على معنى العلم، وليشمل كل جنس مما سمي به (5). (1) في نسخة: الحمد. (2) في بعض النسخ: النعم. (3) هو صخر بن حرب بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف، من سادات قريش في الجاهلية، وهو والد معاوية رأس الدولة الأموية، ولد سنة 57 ق ه، كان من المؤلفة، وكان قبل ذلك رأس المشركين في حرب الاسلام عند ظهوره، حيث قاد قريشا وكنانة يوم احد ويوم الخندق لقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقيل: أسلم يوم فتح مكة سنة 8 ه، وروى ابن حجر قال: لما رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسده، فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل، فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صدره ثم قال: إذا يخزيك الله. ثم قال: ومن طريق أبي إسحاق السبيعي نحوه وزاد: ما أيقنت أنك رسول الله حتى الساعة. مات سنة 31 ه بالمدينة، وقيل: بالشام. (الأغاني: ج 6 ص 89، والإصابة لابن حجر: ج 2 ص 178 ت 4046، وتاريخ ابن عساكر: ج 6 ص 388، والبدء والتاريخ: ج 5 ص 107، والأعلام للزركلي: ج 3 ص 201). (4) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 10. (5) ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 10 - 11، والهمداني في الفريد: ج 1 ص 165. (*)
[ 55 ]
* (الرحمن الرحيم) * (3) مر معناهما (1). * (ملك يوم الدين) * (4) من قرأ: " ملك " (2) فلأن الملك يعم والملك يخص، ولقوله سبحانه: * (ملك الناس) * (3)، ومن قرأ: * (ملك) * بالألف فهو إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع، أجري الظرف مجرى المفعول به والمعنى على الظرفية، والمراد: مالك الأمر كله في يوم الدين، وهو يوم الجزاء من قولهم: كما تدين تدان. وهذه الأوصاف التي هي كونه سبحانه ربا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شئ من ملكوته وربوبيته، وكونه منعما بالنعم المتوافرة (4) الباطنة والظاهرة، وكونه مالكا للأمر كله في الدار الآخرة بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: * (الحمد لله) * فيها دلالة باهرة على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء. * (إياك نعبد وإياك نستعين) * (5) " إيا " ضمير منفصل للمنصوب، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في " إياك وإياه وإياي " لبيان (5) الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، إذ هي حروف عند المحققين وليست بأسماء مضمرة كما قال بعضهم (6). وتقديم المفعول (1) مر في ص 12، فراجع. (2) قرأه ابن عباس وابن عمر وأبو الدرداء ومجاهد وابن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جريج والجحدري وابن محيصن وابن جندب وأبو عبيد وزيد ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 104، والتيسير في القراءات للداني: ص 18، والإملاء للعكبري: ج 1 ص 3، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 20. (3) الناس: 2. (4) في نسخة زيادة: المتواترة. (5) في نسخة: بلسان. (6) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 163، وعنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 = (*)
[ 56 ]
إنما هو لقصد الاختصاص، والمعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه وكيفيته، وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لا تحسن إلا لله سبحانه الذي هو مولى أعظم النعم، فهو حقيق بغاية الشكر. وإنما عدل فيه عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب على عادة العرب في تفننهم في محاوراتهم، ويسمى هذا التفاتا، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم كقوله سبحانه: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (1)، وقوله: * (والله الذى أرسل الريح فتثير سحابا فسقنه) * (2). وأما الفائدة المختصة به في هذا الموضع فهو أن المعبود الحقيق بالحمد والثناء لما أجري عليه صفاته العلى تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة والاستعانة به في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، وقيل: إياك - يامن هذه صفاته - نخص بالعبادة والاستعانة، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك المتميز (3) الذي لا تحق العبادة إلا له (4). سورة الفاتحة / 6 و 7 وقرنت الاستعانة بالعبادة ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها، وأطلقت الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه. والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، فيكون قوله: * (اهدنا) * بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم ؟ فقالوا: = ص 13، وبه قال الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 1 ص 167. (1) يونس: 22. (2) فاطر: 9. (3) في بعض النسخ: التميز. (4) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 14. (*)
[ 57 ]
* (اهدنا الصرا ط المستقيم) * (6) أصل " هدى " أن يتعدى باللام أو ب " إلى "، كقوله تعالى: * (يهدى للتى هي أقوم) * (1)، و * (إنك لتهدى إلى صرا ط مستقيم) * (2)، فعومل معاملة " اختار " في قوله تعالى: * (واختار موسى قومه) * (3). و " السراط " بالسين الجادة، من سرط الشئ إذا ابتلعه، لأنه يسرط المارة إذا سلكوه كما سمي لقما (4) لأنه يلتقم السابلة، وبالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء، وهي اللغة الفصحى (5) (6)، و * (الصرا ط المستقيم) * هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من العباد غيره، وإنما سمي الدين صراطا لأنه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنة كما أن الصراط يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده، وعلى هذا فمعنى قوله: * (اهدنا) * زدنا هدى بمنح الألطاف، كقوله سبحانه: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (7)، ورووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن معناه: ثبتنا (8). وروي في بعض الأخبار: أن الصادق (عليه السلام) قرأ: " اهدنا صراط المستقيم " بإضافة " صراط " الى " المستقيم " (9). * (صرا ط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * (7) هو بدل من * (الصرا ط المستقيم) *، وهو في حكم تكرير العامل، فكأنه قال: (1) الاسراء: 9. (2) الشورى: 52. (3) الأعراف: 155. (4) في نسخة: لقيما. (5) في نسخة: لغة الفصحاء. (6) راجع تفصيله في الكشاف: ج 1 ص 15، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 172. (7) محمد: 17. (8) رواه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 15. (9) تفسير العياشي: ج 1 ص 24 ح 26، وعنه البرهان: ج 1 ص 52 ح 35. (*)
[ 58 ]
اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وفائدة البدل التوكيد، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط من خصهم الله تعالى بعصمته، وأمدهم (1) بخواص نعمته، واحتج بهم على بريته، وفضلهم على كثير من خليقته، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس فلان ؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم ؟ لأنك بينت كرمه مجملا أولا ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا للأكرم، فجعلته علما في الكرم، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان، فهو المعين لذلك غير مدافع فيه، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام. وروي عن أهل البيت (عليهم السلام): " صراط من أنعمت عليهم " وعن عمر بن الخطاب وعمرو بن الزبير (2) (3)، والصحيح هو المشهور. * (غير المغضوب عليهم) * بدل من * (الذين أنعمت عليهم) * على معنى: أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى: أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة العصمة وبين السلامة من غضب الله والضلالة. ويجوز أن يكون * (غير) * هاهنا صفة وإن كان " غير " لا يقع صفة للمعرفة ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، لأن * (الذين أنعمت عليهم) * لا توقيت فيه، فهو كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثمة قلت لا يعنيني (4) (1) في نسخة: أيدهم. (2) في نسخة: وابن الزبير. (3) انظر تفسير القمي: ج 1 ص 29، والتبيان: ج 1 ص 43، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 60. (4) البيت منسوب لرجل من بني سلول، وقيل: هو شمر بن عمرو الحنفي، ومعناه لا يحتاج إلى بيان. راجع مغني اللبيب: ص 102 و 429 و 645، والكشاف: ج 1 ص 16، ومعاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 323، والأصمعيات: ص 126، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 173. (*)
[ 59 ]
ولأن * (المغضوب عليهم) * و * (الضالين) * خلاف المنعم عليهم، فليس في * (غير) * إذا الإبهام الذي يأبى له أن يتعرف، وقيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى: * (من لعنه الله وغضب عليه) * (1) والضالين هم النصارى، لقوله تعالى: * (قد ضلوا من قبل) * (2) (3). ومعنى غضب الله إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب (4) بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده، ومحل * (عليهم) * الأولى نصب على المفعولية، ومحل * (عليهم) * الثانية رفع على الفاعلية (5). وأصل الضلال الهلاك، ومنه قوله: * (وأضل أعملهم) * (6) أي: أهلكها (7)، والضلال في الدين هو الذهاب عن الحق. (1) المائدة: 60. (2) المائدة: 77. (3) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 2، وفي التبيان: ج 1 ص 45 قال: وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله). (4) في نسخة: العذاب. (5) انظر الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 17، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 178. (6) محمد: 8. (7) في نسخة: أهلكتهم. (*)
[ 60 ]
سورة البقرة / 1 سورة البقرة مدنية (1) (2)، وهي مائتان وست وثمانون آية كوفي، وسبع بصري * (الم) * و * (تتفكرون) * (3) كوفي، * (إلا خائفين) * (4) و * (قولا معروفا) * (5) و * (الحى القيوم) * (6) بصري. عن أبي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " من قرأ سورة البقرة فصلوات الله عليه ورحمته، (1) في نسخة زيادة: إلا آية وهو قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * الآية: 281 فانها نزلت بمنى في حجة الوداع. (2) قال الشيخ الطوسي في تبيانه: ج 1 ص 47: وهي مائتان وست وثمانون آية في الكوفي وسبع بصري وخمس مدني، وروي أن قوله: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * نزلت في حجة الوداع. ونحوه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 63. وقال ابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 34: والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وهي من أوائل ما نزل بها، لكن قوله تعالى فيه: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * الآية يقال: إنها آخر ما نزل من القرآن، ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر والف أمر وألف نهي، وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف. (3) آية: 219. (4) آية: 114. (5) آية: 235. (6) آية: 255. (*)
[ 61 ]
وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته "، وقال لي: " يا أبي، مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة "، قلت: يا رسول الله من البطلة ؟ قال: " السحرة " (1). وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة يظلان (2) على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيايتين " (3) (4). * (بسم الله الرحمن الرحيم الم) * (1) اختلف في هذه الفواتح المفتتح بها السور، فورد عن أئمتنا (عليهم السلام): أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، ولا يعلم تأويلها غيره (5). وعن الشعبي (6) قال: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن حروف التهجي في أوائل السور (7). وقال الأكثرون في ذلك وجوها: منها: أنها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به. ومنها: أنها أقسام أقسم الله تعالى بها لكونها مباني كتبه، ومعاني أسمائه وصفاته، وأصول كلام الأمم كلها. ومنها: أنها مأخوذة من صفات الله (1) أورده في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 32، وتفسير الكشاف: ج 1 ص 334. (2) في نسخة: يظلانه. (3) في بعض النسخ: الغيابتين، وفي اخرى: الغبابتين. وما أثبتناه لما في الصحاح من أن الغياية (بيائين) كل شئ أظل الانسان فوق رأسه، مثل: السحابة والغبرة والظلمة ونحو ذلك. (الصحاح: مادة غيي). (4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 130. (5) معاني الأخبار للصدوق: ص 24، رسائل المرتضى: ج 3 ص 301. (6) هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل الكوفي الشعبي، كان فقيها ومن كبار التابعين، روى عن مائة وخمسين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن لا يخفى أنه عند علماء الشيعة مذموم مطعون، وقد روى عنه أشياء ردية. مات بالكوفة سنة 104 ه. (الكنى والألقاب للقمي: ج 2 ص 361، ووفيات الأعيان لابن خلكان: ج 2 ص 227). (7) حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 1 ص 154. (*)
[ 62 ]
عزوجل، كقول ابن عباس في * (كهيعص) *: إن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، و * (الم) * معناه: أنا الله أعلم (1). ومنها: أن كل حرف منها يدل على مدة قوم وآجال آخرين، إلى غير ذلك من الوجوه (2). على أن هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ التي يتهجى بها عند المحققين أسماء مسمياتها حروف الهجاء (3) التي ركبت منها الكلم، وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد، تقول: ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أعربت، فقيل: هذه الف، وكتبت لاما، ونظرت إلى ميم. قال الشاعر: إذا اجتمعوا على ألف وياء * وواو هاج بينهم جدال (4) * (ذا لك الكتب لاريب فيه هدى للمتقين) * (2) سورة البقرة / 2 إن جعلت * (الم) * اسما للسورة، ففيه وجوه: أحدها: أن يكون * (الم) * مبتدأ، و * (ذا لك) * مبتدأ ثانيا، و * (الكتب) * خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، فيكون المعنى: إن ذلك هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كأن ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه، كما تقول: هو الرجل، أي: الكامل في الرجولية. والثاني: أن يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى: هو * (ذا لك الكتب) * (1) تفسير ابن عباس: ص 3 و 253، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 44. (2) انظر تفصيل الأقوال ومن ذهب إليها في التبيان: ج 1 ص 47 - 49، وتفسير البغوي: ج 1 ص 44، وتفسير ابن كثير: ج 1 ص 34. (3) في نسخة زيادة: المبسوطة. (4) البيت ليزيد بن الحكم كما نسبه إليه الزجاج وابن الأنباري والقالي، وروى الحريري في درة الغواص عن الأصمعي قال: أنشدني عيسى بن عمر بيتا هجا به النحويين، وذكر البيت. انظر معاني القرآن واعرابه: ج 1 ص 61، وخزانة الأدب: ج 1 ص 110 - 112، والمقتضب: ج 1 ص 236 وفيه: " قتال " بدل " جدال ". (*)
[ 63 ]
الموعود. والثالث: أن يكون التقدير: " هذه الم " فتكون جملة، و * (ذا لك الكتب) * جملة أخرى. وإن جعلت * (الم) * بمنزلة الصوت كان * (ذا لك) * مبتدأ و * (الكتب) * خبره، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف، أي: هو - يعني المؤلف من هذه الحروف - ذلك الكتاب. والريب: مصدر رابه يريبه إذا حصل فيه الريبة، وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، وفي الحديث: " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " (1) والمعنى أنه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، إذ لا مجال للريبة فيه. والمشهور الوقف على * (فيه) *، وبعض القراء يقف على * (لاريب) *، ولابد لمن يقف عليه أن ينوي خبرا، ونظيره قوله: لا ضير، والتقدير: " لا ريب فيه، فيه هدى "، والهدى: مصدر على فعل كالسرى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقد وضع المصدر الذي هو * (هدى) * موضع الوصف الذي هو " هاد "، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقاب من فعل أو ترك، وسماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين، كقول النبي (صلى الله عليه وآله): " من قتل قتيلا فله سلبه " (2) وقوله تعالى: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (3) أي: صائرا إلى الفجور والكفر، فكأنه قال: هدى للصائرين إلى التقى، ولم يقل: " هدى للضالين " لأن الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة وفريق علم مصيرهم إلى الهدى، فلا يكون هدى (1) مسند أحمد: ج 3 ص 153، ومستدرك الحاكم: ج 2 ص 13. (2) المصنف لابن أبي شيبة: ج 12 ص 369 و 372، وج 14 ص 524، طبقات ابن سعد: ج 3 ص 364، نصب الراية للزيلعي: ج 3 ص 428 و 429 و 430 و 434، بداية النهاية: ج 4 ص 348. (3) نوح: 27. (*)
[ 64 ]
لجميعهم، وأيضا: فقد صدرت السورة التي هي أولى الزهراوين (1) وسنام القرآن وأول المثاني بذكر المرتضين من عباد الله وهم المتقون. * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة) * الموصول: إما أن يكون مجرورا بأنه صفة للمتقين أو منصوبا أو مرفوعا على المدح على تقدير: أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما أن يكون منقطعا عما قبله مرفوعا على الابتداء وخبره * (أولئك على هدى) *، والإيمان إفعال من الأمن يقال: أمنت شيئا وآمنت غيري، ثم يقال: آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة، وعدي بالباء فقيل: آمن به، لأنه ضمن معنى: أقر واعترف، ويجوز أن يكون على قياس فعلته فأفعل، فيكون " آمن " بمعنى صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق. وحقيقة الإيمان في الشرع هو المعرفة بالله وصفاته وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله، وكل عارف بشئ فهو مصدق به. سورة البقرة / 3 و 4 ولما ذكر سبحانه الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه التصديق لله تعالى فيما أخبر به رسوله مما غاب عن العباد علمه: من ذكر القيامة والجنة والنار وغير ذلك، ويجوز أن يكون * (بالغيب) * في موضع الحال، ولا يكون صلة ل * (يؤمنون) *، أي: يؤمنون غائبين عن مرأى الناس، وحقيقته متلبسين (2) بالغيب، كقوله: * (يخشون ربهم بالغيب) * (3) فيكون الغيب بمعنى: الغيبة والخفاء، وعلى المعنى الأول يكون الغيب بمعنى: الغائب، من قولك: غاب الشئ غيبا، فيكون مصدرا سمي به. (1) الزهراوان: سورتا البقرة وآل عمران كما في الحديث. انظر مستدرك الحاكم: ج 1 ص 560. (2) في بعض النسخ: ملتبسين. (3) الأنبياء: 49. (*)
[ 65 ]
ثم عطف - سبحانه - على الإيمان بذكر الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية، فقال: * (ويقيمون الصلوة) * أي: يحافظون عليها ويتشمرون لأدائها، من قولهم: قام بالأمر، أو (1) يؤدونها، فعبر عن الأداء بالإقامة، أو يعدلون أركانها، من قولهم: أقام العود إذا قومه. * (ومما رزقنهم ينفقون) * (3) ثم عطف على ذلك بالعبادة المالية التي هي الإنفاق، فقال: * (ومما رزقنهم) * أسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم * (ينفقون) * الحلال الطلق الذي يستأهل أن يسمى رزقا من الله، و " من " للتبعيض، فكأنه يقول: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة لاقترانه بالصلاة، وأن تراد هي وغيرها من الصدقات والنفقات في وجوه البر لمجيئه مطلقا، وعن الصادق (عليه السلام): " ومما علمناهم يبثون " (2). * (والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون) * (4) يحتمل أن يراد بهولاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام (3) وغيره، فيكون (1) في نسخة: أي. (2) كذا ذكره المصنف هنا وفي مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 39 بلفظ " يبثون "، لكن في تفسير العياشي: ج 1 ص 26 ح 1، والبحار: ج 21 ص 21، والبرهان: ج 1 ص 53، والصافي: ج 1 ص 58 و 59 بلفظ " ينبئون ". (3) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الاسرائيلي أبو يوسف، حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة، قيل: كان اسمه الحصين فسماه النبي (صلى الله عليه وآله) عبد الله وشهد له بالجنة. روى عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعنه ابناه، شهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. (الاستيعاب: ج 3 ص 921). (*)
[ 66 ]
المعطوف غير المعطوف عليه، ويحتمل أن يراد وصف الأولين، فيكون المعنى: أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. وقوله: * (هم يوقنون) * تعريض بأهل الكتاب، وأنهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته، ولا يصدر قولهم عن إيقان، و " الآخرة " تأنيث الآخر وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: * (تلك الدار الاخرة) * (1) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا. والإيقان واليقين: هو العلم الحاصل بعد استدلال ونظر، ولذلك لا يطلق " الموقن " على الله تعالى لاستواء الأشياء في الجلاء عنده. * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (5) الجملة في محل (2) الرفع إن كان * (الذين يؤمنون بالغيب) * مبتدأ وإلا فلا محل لها، وفي اسم الإشارة الذي هو * (أولئك) * إيذان بأن ما يرد عقيبه، فالمذكورون قبله أهل له من أجل الخصال التي عددت لهم، ومعنى الاستعلاء في قوله: * (على هدى) * مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه، شبهت حالهم بحال من اعتلى شيئا وركبه، ومعنى * (من ربهم) *: منحوه وأعطوه من عنده، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البر. ونكر * (هدى) * ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه، كأنه قيل: على أي هدى، وفي تكرير * (أولئك) * تنبيه على أنهم تميزوا بكل واحدة من الأثرتين اللتين هما الهدى والفلاح عن غيرهم. سورة البقرة / 5 و * (هم) * سماه البصريون فصلا، والكوفيون عمادا، وفائدته الدلالة على أن المذكور بعده خبر لا صفة وتوكيد، وإيجاب أن فائدة الخبر ثابتة للمخبر عنه دون (1) القصص: 83. (2) في نسخة: موضع. (*)
[ 67 ]
غيره، ويجوز أن يكون * (هم) * مبتدأ و * (المفلحون) * خبره، والجملة خبر * (أولئك) *. و " المفلح ": الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر. و " المفلج " بالجيم مثله (1). وقوله: * (على هدى من ربهم) * أدغمت بغنة وغير غنة، والغنة: صوت خفي يخرج من الخيشوم، والنون الساكنة والتنوين لهما ثلاثة أحوال مع الحروف في جميع القرآن: الإظهار وذلك مع حروف الحلق، والإدغام و (2) ذلك مع الميم، نحو * (هدى من ربهم) * و * (على أمم ممن معك) * (3) لا يجوز إلا الإدغام هنا لاشتراك النون والميم في الغنة، والإخفاء وذلك مع سائر الحروف، نحو * (من دابة) * (4) و * (بمن فيها) * (5). وهذا عند جميع القراء إلا أبا عمرو (6) وحمزة (7) والكسائي (8) فإنهم يدغمونهما في اللام والراء نحو: * (هدى للمتقين) * و * (من (1) انظر لسان العرب: مادة فلج. (2) في نسخة زيادة: يجوز. (3) هود: 48. (4) الانعام: 38. (5) العنكبوت: 32. (6) أبو عمرو، هو زبان بن العلاء البصري، أحد القراء السبعة، سمع أنس بن مالك، وعنه أحمد الليثي وأحمد اللؤلؤي، عالم بالعربية والشعر، توفي عام 154 ه. (فهرست ابن النديم: ص 48، وطبقات الشعراء: ج 1 ص 288، وتاريخ التراث العربي: مج 1 ج 1 ص 153). (7) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن الزبان التميمي، أحد القراء السبعة، ولد بالكوفة سنة 80 ه، أخذ القراءة عرضا عن الأعمش وحمران بن أعين وغيرهما، كان عالما بالقراءات، بصيرا بالفرائض، إليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصم، توفي سنة 156 ه. (المعارف لابن قتيبة: ص 263، وفهرست ابن النديم: ص 29، وغاية النهاية للجزري: ج 1 ص 261 - 263، وأعيان الشيعة: ج 6 ص 238). (8) هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي بالولاء الكوفي المعروف بالكسائي، أحد القراء السبعة، كان إماما في النحو واللغة والقراءات، قرأ على يد حمزة، كان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، توفي بالري وكان قد خرج إليها بصحبة هارون الرشيد وذلك سنة 189 ه. (وفيات الأعيان: ج 2 ص 457، والكنى والألقاب: ج 3 ص 112). (*)
[ 68 ]
ربهم) *، ويدغمهما حمزة والكسائي في الياء نحو: * (من يقول) * (1)، ويدغمهما حمزة في الواو، نحو: * (ظلمت ورعد وبرق) * (2) فاللام والراء والواو والياء عندهم بمنزلة الميم، ويقال لها: حروف يرملون، لأنها أيضا تدغم في النون نحو: * (منى) * (3) و * (منا) * (4) (5). * (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (6) سورة البقرة / 7 لما قدم سبحانه ذكر الأتقياء عقبه بذكر الأشقياء وهم الكفار الذين لا ينفعهم اللطف، و * (سوآء عليهم) * وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وترك إنذاره، و * (سوآء) * اسم بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر، وهو خبر * (إن) *، و * (أنذرتهم أم لم تنذرهم) * في موضع الرفع بالفاعلية، كأنه (6) قيل: مستو عليهم إنذارك وعدمه، كما تقول: إن زيدا مختصم أخوه (7) وابن عمه، أو يكون * (ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) * في موضع الابتداء و * (سوآء) * خبرا مقدما بمعنى سواء * (عليهم) * إنذارك وعدمه، والجملة خبر ل * (إن) *، كذا ذكره جار الله العلامة (8) لله دره، وما أوردناه في مجمع البيان (9) فهو من كلام أبي علي الفارسي (رحمه الله) (10) (11). والإنذار: التخويف من عقاب الله. وقوله: * (لا يؤمنون) * جملة (1) البقرة: 200. (2) البقرة: 19. (3) القصص: 34. (4) الأنبياء: 101. (5) راجع تفصيل ذلك في كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 128 - 129، وتفسير البغوي: ج 1 ص 45. (6) في نسخة: كما. (7) في نسخة: أبوه. (8) في الكشاف: ج 1 ص 47. (9) مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 42. (10) وأبو علي هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفسوي النحوي، فارس ميدان العلم والأدب، وإمام وقته في علم النحو، أقام بحلب وصنف كتبا لم يسبق الى مثلها، ولد بمدينة " فسا " سنة 288 ه، وتوفي ببغداد سنة 377 ه. (الكنى والألقاب: ج 3 ص 4). (11) في الحجة في علل القراءات: ج 1 ص 201. (*)
[ 69 ]
مؤكدة للجملة قبلها، أو خبر ل * (إن) * والجملة قبلها اعتراض. قيل: نزلت هذه الآية والتي بعدها في أبي جهل وأضرابه (1)، وعلى هذا فيكون التعريف في * (الذين كفروا) * للعهد، وقيل: هي في جميع من صمم على كفره على العموم، فيكون التعريف للجنس (2). * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم) * (7) الختم والكتم أخوان، والغشاوة فعالة من غشاه: إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشئ كالعمامة. والختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار من باب المجاز، وهو نوعان: استعارة وتمثيل، ويحتمل هنا كلا النوعين: أما الاستعارة، فأن (3) يجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها لإعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله، وأسماعهم لأنها تنبو عن استماعه (4) كأنهما (5) مختوم عليهما، وأبصارهم كأنما (6) غطي عليها وحيل بينها وبين الإدراك. وأما التمثيل، فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الانتفاع بها بالختم والتغطية. وأما إسناد الختم إلى الله، فللتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها كالشئ الخلقي غير العرضي، كما يقال: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه، يريدون أنه مبالغ في الثبات عليه. ووجه آخر: وهو أنهم لما علم الله سبحانه أنه لا طريق لهم (1) راجع التبيان: ج 1 ص 377. وأبو جهل هو عمرو بن هشام بن مغيرة المخزومي، كان من أشد الناس عداوة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقتل كافرا يوم بدر. (2) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 47. (3) في بعض النسخ: فبأن. (4) في نسخة: سماعه. (5) في نسخة: كأنها. (6) في بعض النسخ: كأنها. (*)
[ 70 ]
إلى أن يؤمنوا طوعا واختيارا فلم يبق إلا القسر والإلجاء، ولم يقسرهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف، عبر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم، إشعارا بأنهم قد بلغوا الغاية القصوى في لجاجهم واستشرائهم في الغي والضلال. ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع، ولأنهم قالوا: كلوا في بعض بطنكم (1) تعفوا، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس، وإذا لم يؤمن (2) لم يفعلوا، لا تقول: ثوبهم وغلامهم وأنت تريد الجمع. والبصر: نور العين وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمل. والعذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول: أعذب عن الشئ إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا، أي: عقابا يرتدع به الجاني. والعظيم: نقيض الحقير، كما أن الكبير نقيض الصغير، فالعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا، تقول: رجل عظيم وكبير جثته أو خطره. * (ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الاخر وماهم بمؤمنين) * (8) سورة البقرة / 9 افتتح سبحانه بذكر الذين آمنوا بالله سرا وعلانية، ثم ثنى بالذين كفروا قلوبا وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين أبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم أخبث (3) الكفار وأمقتهم عنده، ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، وقصتهم معطوفة على قصتهم كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل " ناس " أناس فحذفت همزته تخفيفا، وحذفها مع لام التعريف (1) في نسخة: بطن بعضكم. (2) في نسخة: يؤمنوا. (3) في نسخة زيادة: من. (*)
[ 71 ]
كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، ويشهد لأصله إنسان وإنس، وسموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي: يبصرون كما سمي الجن جنا لاجتنانهم، و " من " في * (من يقول) * موصوفة، كأنه يقول: * (ومن الناس) * ناس يقولون كذا، كقوله: * (من المؤمنين رجال) * (1)، هذا إن جعلت اللام للجنس، وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: * (ومنهم الذين يؤذون النبي) * (2). وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة، وفي قوله: * (وماهم بمؤمنين) * من التوكيد والمبالغة ما ليس في قولك: وما آمنوا، لأن فيه إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكون (3) طائفة من طوائف المؤمنين، فقد انطوى تحته نفي ما ادعوه لأنفسهم من الإيمان على القطع. * (يخدعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) * (9) المعنى: أن هؤلاء المنافقين صنعوا صنع الخادعين حيث تظاهروا بالإيمان وهم كافرون، وصنع الله معهم صنع الخادع حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فإن حقيقة الخدع أن يوهم الرجل صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. ويجوز أن يريد: * (يخدعون) * رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، كما يقال: قال الملك كذا، وإنما القائل وزيره أو (4) خاصته الذين قولهم قوله * (وما يخدعون إلا أنفسهم) * لأن ضررها يلحقهم ولا (1) الأحزاب: 23. (2) التوبة: 61. (3) كذا في جميع النسخ لكن الظاهر أن الصحيح: يكونوا. (4) في نسخة زيادة: بعض. (*)
[ 72 ]
يعدوهم إلى غيرهم، ومن قرأ: " يخادعون " (1) أتى به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس: ذات الشئ وحقيقته، ثم قيل للقلب: نفس، لأن النفس به نفس (2)، قالوا: المرء بأصغريه، أي بقلبه ولسانه. وقيل أيضا للروح: نفس، وللدم: نفس، لأن قوامها بالدم، وللماء: نفس لفرط حاجتها إليه، ونفس الرجل أي: عين، وحقيقته: أصيبت نفسه، كما قيل: صدر الرجل وفئد، وقالوا: فلان يؤامر نفسه، إذا تردد في الأمر واتجه له رأيان لا يدري على أيهما يعول، كأنهم أرادوا داعي النفس، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم. والشعور: علم الإنسان بالشئ علم حس، ومشاعر الإنسان: حواسه. * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * (10) سورة البقرة / 11 استعير المرض لأعراض القلب، كسوء الاعتقاد والغل والحسد وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك، والمراد به هاهنا ما * (في قلوبهم) * من الكفر أو من الغل والحنق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين * (فزادهم الله مرضا) * بما ينزل على رسوله من الوحي، فيكفرون به ويزدادون كفرا إلى كفرهم، فكأنه سبحانه زادهم ما ازدادوه، وأسند الفعل إلى المسبب (3) كما أسنده إلى السورة في قوله: * (فزادتهم رجسا إلى (1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والأعرج وابن جندب وشيبة ومجاهد وشبل وابن محيصن والزيدي. راجع التبيان: ج 1 ص 68، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 139، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 309، والاملاء للعكبري: ج 1 ص 10، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 87، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 57. (2) في نسخة: لأن قوام النفس به. (3) في بعض النسخ: السبب. (*)
[ 73 ]
رجسهم) * (1) لكونها سببا، أو أراد: كلما زاد رسوله نصرة وتمكنا في البلاد والعباد ازدادوا غلا وحسدا، و (2) ازدادت قلوبهم ضعفا وجبنا وخورا (3). وألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع (4) وهذا على طريقة قولهم: " جد جده ". والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، و * (بما كانوا يكذبون) * أي: بكذبهم، وفي هذا إشارة إلى قبح الكذب وأن لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم، وقرئ: " يكذبون " (5) من كذبه الذي هو نقيض صدقه، أو من كذب الذي هو مبالغة في كذب، أو بمعنى الكثرة. * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون) * (11) هذا معطوف على * (يكذبون) *، ويجوز أن يكون معطوفا على * (يقول ءامنا) * لأنك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا، صح الكلام، والفساد: خروج الشئ عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح، وكان فساد (1) التوبة: 125. (2) في نسخة: أو. (3) الخور - بالتحريك -: الضعف. (القاموس المحيط والصحاح: مادة خور). (4) وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل. والبيت منسوب لعمرو بن معد يكرب ضمن قصيدة بعث بها الى دريد بن الصمة عندما التمس منه زواج اخته ريحانة فأجابه ومطله. انظر الكشاف: ج 2 ص 60، وخزانة الأدب: ج 9 ص 257، والمقتضب: ج 2 ص 413، والخصائص: ج 1 ص 368. (5) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر، والأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد وشبل وأبو رجاء وأبو حاتم. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 141 والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 227 - 229، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 88، والتيسير في القراءات: ص 72، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 60. (*)
[ 74 ]
المنافقين بميلهم إلى الكفار، وإفشاء أسرار المسلمين (1) إليهم وإغرائهم عليهم، ومعنى * (إنما نحن مصلحون) *: أن صفة المصلحين تمحضت لهم وخلصت من غير شائبة قادحة فيها (2) من وجوه الفساد. * (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) * (12) * (ألا) * مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله: * (أليس ذلك بقدر) * (3)، رد الله سبحانه دعواهم أنهم المصلحون أبلغ رد بما في كلتا الكلمتين: " ألا " و " إن " من التأكيد، وبتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله: * (لا يشعرون) *. * (وإذا قيل لهم ءامنوا كمآ ءامن الناس قالوا أنؤمن كمآ ءامن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون) * (13) السفه: خفة الحلم وسخافة العقل، والمعنى: إذا نصحوا أو بصروا طريق الرشد بأن قيل لهم: صدقوا رسول الله كما صدقه الناس، واللام في * (الناس) * للعهد، أي: كما آمن أصحاب رسول الله وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأضرابه، أي: كما آمن أصحابكم وإخوانكم، أو للجنس، أي: كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، والاستفهام في * (أنؤمن) * للإنكار، واللام في * (السفهآء) * مشار بها إلى الناس. سورة البقرة / 14 و 15 وفصلت هذه الآية ب * (لا يعلمون) * والتي قبلها ب * (لا يشعرون) * لأن أمر (1) في نسخة: المؤمنين. (2) في بعض النسخ زيادة: بوجه. (3) القيامة: 40. (*)
[ 75 ]
الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يعلم، وأما النفاق وما فيه من الفساد فأمر دنيوي، فهو كالمحسوس المشاهد، ولأنه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن. * (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلوا إلى شيطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) * (14) هذا بيان ما كانوا يعملونه مع المؤمنين، أي: إذا لقوهم أوهموهم أنهم معهم، وإذا فارقوهم إلى رؤسائهم من الكفار أو اليهود الذين أمروهم بالتكذيب قالوا: إنا على دينكم وصدقوهم ما في قلوبهم. وخلوت بفلان وخلوت إليه بمعنى انفردت معه، و * (إنا معكم) * أي: إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم، وقولهم: * (إنما نحن مستهزءون) * توكيد لقولهم: * (إنا معكم) *، لأن المعنى في * (إنا معكم) * الثبات على اليهودية، وقولهم: * (إنما نحن مستهزءون) * رد للإسلام ودفع له، لأن المستهزئ بالشئ - وهو المستخف به - منكر له ودافع، ويجوز أن يكون بدلا منه أو استئنافا. * (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغينهم يعمهون) * (15) معنى استهزاء الله تعالى بهم إنزال الهوان والحقارة بهم، أو إجراء أحكام المسلمين عليهم عاجلا وقد أعد لهم أليم العقاب آجلا، وسمي جزاء الاستهزاء باسمه، كقوله: * (وجزا ؤا سيئة سيئة مثلها) * (1). وفي استئناف قوله: * (الله يستهزئ) * من غير حرف عطف أن الله تعالى هو الذي يتولى الاستهزاء * (بهم) * انتقاما للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم بذلك، وقوله: (1) الشورى: 40. (*)
[ 76 ]
* (ويمدهم) * من مد الجيش وأمده إذا زاده، والمعنى: أنه يمنعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين ويخذلهم بسبب كفرهم، فتبقى قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها كما يتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين. وأسند ذلك التزايد إلى الله سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وعن الحسن (1) قال: في ضلالتهم يتمادون (2) والطغيان: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، وفي إضافة الطغيان إليهم ما يدل على أن الطغيان والتمادي في الضلال مما اقترفته نفوسهم، والعمه مثل العمى إلا أن العمه في الرأي خاصة، وهو التحير والتردد، لا يدري أين يتوجه. * (أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجرتهم وما كانوا مهتدين) * (16) سورة البقرة / 17 معنى اشتراء * (الضللة بالهدى) * اختيارها عليه واستبدالها به على سبيل الاستعارة، لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر، والضلالة: الجور عن القصد، وفي المثل: " ضل دريص نفقه " (3)، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين، والربح: الفضل على رأس المال، وأسند الخسران إلى التجارة مجازا، والمعنى: أن المطلوب في التجارة سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا (1) هو الحسن بن أبي الحسن بن يسار، أبو سعيد البصري، مولى الأنصار، كان فصيحا زاهدا، وكان حافظا واعظا بارعا في وعظه، وكان راويا عن كثير من الصحابة، ولد لسنتين بقينا من خلافة عمر، ونشأ بوادي القرى، وتوفي سنة 110 ه وهو ابن ثمان وثمانين. (تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2 ص 263 - 270، وميزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 254، وحلية الأولياء لأبي نعيم: ج 2 ص 131، وأمالي السيد المرتضى: ج 1 ص 106). (2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 68. (3) الدرص: ولد الفأرة واليربوع والهرة وأشباهها، ونفقه: جحره، والمثل يضرب لمن يعني بأمره ويعد حجة لخصمه فينسى عند الحاجة. راجع مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 432، والقاموس المحيط: مادة (درص). (*)
[ 77 ]
الطلبتين (1) معا، لأن رأس المال كان هو الهدى فلم يبق لهم، ولم يصيبوا الربح لأن الضال خاسر. * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون) * (17) ثم زاد سبحانه في الكشف عن حالهم بضرب المثل، فقال: * (مثلهم) * أي: حالهم كحال * (الذى استوقد نارا) *، وضع " الذي " موضع " الذين "، كقوله سبحانه: * (وخضتم كالذى خاضوا) * (2)، أو قصد جنس المستوقدين، أو أراد الجمع الذي استوقد نارا، على أن المنافقين لم تشبه ذواتهم بذات المستوقد، بل شبهت قصتهم بقصة المستوقد، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد، واستوقد: طلب الوقود، والوقود: سطوع النار وارتفاع لهبها، والإضاءة: فرط الإنارة، وهي متعدية في الآية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى * (ما حوله) * والتأنيث للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أشياء وأماكن. وجواب " لما ": * (ذهب الله بنورهم) *، ويجوز أن يكون محذوفا، لطول الكلام وأمن الالتباس، كأنه قيل: * (فلمآ أضاءت ما حوله) * خمدت فبقوا متحيرين متحسرين على فوت الضوء، وعلى هذا فيكون * (ذهب الله بنورهم) * كلاما مستأ نفا، كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد اعترض سائل فقال: ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له: * (ذهب الله بنورهم) *، ويجوز أن يكون قوله: * (ذهب الله بنورهم) * بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان. (1) الطلبة - بكسر اللام -: ما طلبته. (القاموس المحيط: مادة طلب). (2) التوبة: 69. (*)
[ 78 ]
والفرق بين أذهبه وذهب به: أن معنى " أذهبه ": أزاله وجعله ذاهبا، و " ذهب به ": استصحبه ومضى به معه، قال: * (فلما ذهبوا به) * (1)، فالمعنى: أخذ الله نورهم وأمسكه، وما يمسك الله فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب، و " ترك " بمعنى طرح وخلى، قالوا: تركه ترك الظبي ظله، فإذا ضمن معنى " صير " تعدى إلى مفعولين وجرى مجرى أفعال القلوب، نحو قول عنترة (2): فتركته جزر السباع ينشنه * يقضمن حسن بنانه والمعصم (3) والمراد بالإضاءة انتفاع المنافقين بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الذي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله والعقاب الدائم، ويجوز أن يكون قد شبه اطلاع الله على أسرارهم بذهاب الله بنورهم. ووجه آخر: وهو أنهم لما وصفوا باشتراء الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم. سورة البقرة / 19 * (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) * (18) كانت حواسهم صحيحة لكنهم لما أبوا أن يصيخوا (4) مسامعهم إلى الحق، وأن (1) يوسف: 15. (2) هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي، أشهر فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الاولى، من أهل نجد، امه حبشية اسمها: زبيدة، سرى إليه السواد منها، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة، اجتمع في شبابه بامرئ القيس الشاعر، وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا، قتل نحو سنة 22 قبل الهجرة. (الشعر والشعراء لابن قتيبة: ص 130، والأغاني: ج 8 ص 240، وخزانة الأدب: ج 1 ص 62، وشرح الشواهد: ص 164، وآداب اللغة: ج 1 ص 117). (3) راجع ديوانه: ص 64، وخزانة الأدب: ج 9 ص 165. أي: فتركته قتيلا تنهشه السباع والوحوش وتقتضم أصابعه وزنديه. (4) أصاخ له: استمع. (القاموس المحيط: مادة صاخ). (*
[ 79 ]
ينطقوا ألسنتهم بالحق، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم، جعلوا كأنهم انتقضت بنى مشاعرهم التي هي أصل الإحساس والإدراك كقوله: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (1) و * (لا يرجعون) * معناه: لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، أو بقوا متحيرين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، فكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه ؟ * (أو كصيب من السماء فيه ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصبعهم فئ اذانهم من الصوا عق حذر الموت والله محيط بالكفرين) * (19) الصيب: المطر الذي يصوب، أي: ينزل ويقع، ويقال للسحاب: صيب أيضا (2). هذا تمثيل آخر لحال المنافقين، ليكون كشفا لها بعد كشف، والمعنى: أو كمثل ذوي صيب، أي: كمثل قوم أخذهم المطر على هذه الصفة فلقوا منها مالقوا. قالوا: شبه دين الإسلام بالمطر، لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأرض بالمطر، وشبه ما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق. وقيل: شبه القرآن بالمطر، وما فيه من الابتلاء والزجر بالظلمات والرعد، وما فيه من البيان بالبرق، وما فيه من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا بالصواعق (3). وجاءت هذه الأشياء (1) البيت لقعنب بن ام صاحب الغطفاني كما في شرح درة الغواص: ص 130، وراجع لباب الآداب: ص 403 مادة " اذن ". وأذنوا: أي استمعوا، ومعناه لا يحتاج الى بيان. (2) انظر لسان العرب: مادة (صوب). (3) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 5، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 82، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 79. (*)
[ 80 ]
منكرة، لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل: في الصيب ظلمات داجية (1)، ورعد قاصف، وبرق خاطف. والضمير في * (يجعلون) * يرجع إلى أصحاب الصيب المضاف، مع كونه محذوفا وقيام الصيب مقامه، و * (يجعلون) * استئناف لا محل له، و * (من الصوا عق) * يتعلق ب * (يجعلون) * أي: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، وصعقته الصاعقة: أهلكته، فصعق أي مات: إما بشدة الصوت أو بالإحراق، و * (حذر الموت) * مفعول له، ومعنى إحاطة الله بالكافرين: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، وهذه الجملة اعتراض. * (يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم إن الله على كل شئ قدير) * (20) سورة البقرة / 21 الخطف: الأخذ بسرعة، لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول، فكأن قائلا قال: كيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقيل: * (يكاد البرق يخطف أبصرهم) *، فهذه جملة مستأنفة أيضا لا محل لها، و * (كلما أضاء لهم) * استئناف ثالث، كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في حالتي خفوق (2) البرق وخفوته (3) ؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون به ويذرون، إذا خفق البرق مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة (4)، فخطوا خطوات يسيرة، (1) داجية: مظلمة، ومنه دجا الليل إذا أظلم. (القاموس المحيط: مادة دجا). (2) خفقت الراية: اضطربت. (الصحاح: مادة خفق). (3) خفت الريح: أي سكن. (الصحاح: مادة خفت). (4) في نسخة: فرضا. (*)
[ 81 ]
فإذا خفي بقوا واقفين متحيرين * (ولو شآء الله) * لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، و (1) في بريق البرق فأعماهم، و * (أضاء) * إما متعد والمفعول محذوف، بمعنى: كلما نور لهم مسلكا أخذوه، وإما غير متعد بمعنى: كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره، ومعنى * (قاموا) * وقفوا وثبتوا في مكانهم، والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما، وقد كثر هذا الحذف في " شاء " و " أراد "، ولم يبرزوا المفعول إلا في النادر، كقوله: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذنه من لدنآ) * (2) والشئ ما يصح (3) أن يعلم ويخبر عنه. * (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (21) ولما عدد سبحانه فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات الذي تقدم ذكره، وهو فن من الكلام فيه هز وتحريك من السامع، وتنبيه واستدعاء لإصغائه إلى الحديث، و * (يا) * حرف وضع في أصله لنداء البعيد، و " أي " و " الهمزة " لنداء القريب، و " أي " وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أن " ذو " و " الذي " وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم يحتاج إلى ما يوضحه، فلابد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح (4) المقصود بالنداء، والذي عمل فيه حرف النداء " أي " والاسم التابع له صفته، وقد كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة، لاستقلاله بأوجه من التأكيد في التدرج من الإبهام إلى التوضيح، وكلمة التنبيه المقحمة بين " أي " وصفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد (1) في بعض النسخ: أو. (2) الأنبياء: 17. (3) في بعض النسخ: يصلح. (4) في بعض النسخ: يصح. (*)
[ 82 ]
معناه، وتكون عوضا مما يستحقه من الإضافة، وكل ما نادى الله لأجله عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وغير ذلك أمور عظام ومعان جليلة عليهم أن يتيقظوا لها، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. * (الذى خلقكم) * صفة ل * (ربكم) * جرت عليه على سبيل المدح والثناء، أي: * (اعبدوا ربكم) * على الحقيقة. والخلق: إيجاد الشئ على تقدير واستواء، و " لعل " للترجي أو الإشفاق، وقد جاء في مواضع من القرآن على سبيل الإطماع، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، جرى إطماعه مجرى وعده المحتوم وفاؤه به، و " لعل " في الآية ليس مما ذكرته في شئ بل هو واقع موقع المجاز، لأنه سبحانه خلق عباده ليكلفهم، وأزاح عللهم في التكليف من الإقدار والتمكين، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا، لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والمعصية، كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (1)، وإنما يبلو ويختبر من يخفى عليه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار. * (الذى جعل لكم الارض فرا شا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرا ت رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * (22) سورة البقرة / 22 قدم سبحانه من موجبات عبادته خلقهم أحياء قادرين أولا، ثم خلق الأرض التي هي مستقرهم الذي لابد لهم منه ومفترشهم، ثم خلق السماء التي هي كالقبة (1) الملك: 2. (*)
[ 83 ]
المضروبة على هذا المستقر، ثم ما سواه سبحانه من شبه عقد النكاح بينهما بإنزال الماء من المظلة منهما على المقلة (1)، والإخراج به من بطنها أشباه النسل من ألوان الثمار * (رزقا) * لبني آدم، ليقابلوا هذه النعمة العظيمة بواجب الشكر، ويتفكروا في خلق أنفسهم وخلق مافوقهم وما تحتهم، فيعلموا أنه لابد لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات * (أندادا) * له وهم يعلمون أنها لا تقدر على بعض ما هو عليه قادر. ومعنى جعل الأرض فراشا وبساطا ومهادا للناس: أنهم يتقلبون عليها كما يتقلب على الفراش والبساط والمهاد. والبناء مصدر سمي به المبني، وأبنية العرب أخبيتهم (2)، ومنه " بنى على امرأته ". و " من " في * (من الثمرا ت) * للتبعيض، كأنه قال: أنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ولا جعل الرزق كله في الثمرات. ويجوز أن يكون " من " للبيان، كما تقول: أنفقت من الدراهم ألفا. وإذا كان " من " للتبعيض كان قوله: * (رزقا) * منصوبا بأنه مفعول له، وإذا كان للبيان كان * (رزقا) * مفعولا به ل " أخرج ". والند: المثل، ولا يقال: الند إلا للمثل المخالف المناوئ أي: هو الذي حفكم (3) بهذه الدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء * (وأنتم) * أهل المعرفة والتمييز، أو أنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو أنتم تعلمون أنه لا يماثل. (1) أراد بالمقلة: الأرض الحاملة للمخلوقات عليها، وبالمظلة: السماء التي تغطيها كالقبة. (2) الأخبية جمع خباء، وهو من الأبنية ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر. (القاموس المحيط: مادة خبا). (3) في نسخة: خصكم. (*)
[ 84 ]
* (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صدقين) * (23) لما احتج سبحانه على الناس للتوحيد وعلم الطريق إلى تصحيحه، عطف على ذلك الحجة على نبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) فقال: إن ارتبتم فيما نزلنا، أتى بلفظ التنزيل، لأن المراد النزول على سبيل التدريج نجوما سورة بعد سورة وآيات بعد آيات على حسب النوازل والحوادث * (على عبدنا) * ورسولنا محمد (صلى الله عليه وآله)، فهاتوا أنتم سورة من أصغر السور. سورة البقرة / 24 و 25 والسورة إن كانت واوها أصلا: فإما أن سميت بسور المدينة لأنها طائفة من القرآن محدودة، أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها، وإما أن سميت بالسورة التي هي الرتبة، لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب، و (1) لرفعة شأنها في الدين. وإن كانت واوها منقلبة عن همزة، فلأنها قطعة من القرآن، كالسؤرة (2) التي هي البقية من الشئ * (من مثله) * متعلق ب " سورة " صفة لها، أي * (بسورة) * كائنة * (من مثله) *، والضمير لما نزلنا أو لعبدنا، ويجوز أن يتعلق بقوله: * (فأتوا) * والضمير للعبد، والمعنى: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وحسن النظم، أو هاتوا ممن هو على حاله من كونه بشرا عربيا أو أميا لم يأخذ من العلماء ولم يقرأ الكتب، ورد الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله: * (بسورة مثله) * (3) وقوله: * (لا يأتون بمثله) * (4)، ولأن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه، فمن حقه أن لا يرد الضمير إلى غيره، لأن المعنى: وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذا مما يماثله ويجانسه، وإن (1) في نسخة: أو. (2) في بعض النسخ: السؤر. (3) يونس: 38. (4) الاسراء: 88. (*)
[ 85 ]
كان الضمير مردودا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالمعنى: وإن ارتبتم في أن محمدا (صلى الله عليه وآله) منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله، و " الشهداء " جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، والمعنى: ادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى فإنه القادر على أن يأتي بمثله دون كل شاهد. * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكفرين) * (24) لما أرشدهم سبحانه إلى الوجه الذي منه يعرفون صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم: فإذا لم تعارضوه بسورة مثله، ولم يتيسر لكم ذلك، وبان لكم أنه معجز، فآمنوا واتقوا النار المعدة لمن كذب، وفيه دليلان على إثبات نبوته (صلى الله عليه وآله): صحة كون القرآن معجزا، والإخبار بأنهم لن يفعلوا أبدا، وهو غيب لا يعلمه إلا الله. والوقود: ما يوقد به النار وهو الحطب، والمعنى في قوله: * (وقودها الناس والحجارة) * أنها نار ممتازة عن النيران الأخر، بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وقرن الناس بالحجارة، لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما، وجعلوها لله أندادا، وعبدوها من دونه، قال سبحانه: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * (1)، ومعنى * (أعدت) *: هيئت وجعلت عدة لعذابهم. * (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصلحت أن لهم جنت تجرى من تحتها الانهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوا ج مطهرة وهم فيها خلدون) * (25) ثم ذكر سبحانه الترغيب بعد الترهيب، وشفع الإنذار بالبشارة، فبشر عباده الذين جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال بعد أن أنذر الكفار وأوعدهم بالعذاب (1) الأنبياء: 98. (*)
[ 86 ]
والنكال، والبشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به، والجنة: البستان من النخل والشجر، وأصلها من الستر، فكأنها لتكاثفها والتفاف أغصان أشجارها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره، ولولا أن الماء الجاري من أعظم النعم وأكبر (1) اللذات لما جاء الله سبحانه بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها في قرن واحد، كالشيئين لابد لأحدهما من صاحبه، وإسناد الجري إلى الأنهار إسناد مجازي، كقولهم: بنو فلان يطأهم الطريق. وإنما نكرت " الجنات " لأن دار الثواب تشتمل على جنات (2) كثيرة مرتبة على حسب استحقاق كل طبقة من أهلها، وعرفت " الأنهار " لإرادة الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والعنب والفواكه، أو يراد الأنهار المذكورة في قوله تعالى: * (فيها أنهر من ماء غير ءاسن) * الآية (3). * (كلما رزقوا) * إما أن يكون صفة ثانية ل * (جنت) *، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة، والمعنى: أنهم كلما رزقوا من أشجار الجنات نوعا من أنواع الثمار * (رزقا قالوا هذا) * مثل * (الذى رزقنا من قبل) * وشبهه، بدليل قوله: * (وأتوا به متشبها) *، وهذا كقولك: أبو يوسف: أبو حنيفة، تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته، والضمير في قوله: * (وأتوا به) * يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا، لأن قوله: * (هذا الذى رزقنا من قبل) * انطوى تحته ذكر مارزقوه في الدارين، ويجوز أن يرجع الضمير في * (وأتوا به) * إلى الرزق كما أن سورة البقرة / 26 * (هذا) * إشارة إليه، فيكون المعنى: أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يوتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم (1) في نسخة: أكرم. (2) في نسخة: جنان. (3) محمد: 15. (*)
[ 87 ]
يؤتى بالأخرى، فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف (1). * (ولهم فيها أزوا ج مطهرة) * طهرن مما يختص بالنساء من المحيض، وما لا يختص بهن من الأقذار والأدناس، ويدخل تحت ذلك الطهر من دنس الطباع وسائر العيوب. والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع. * (إن الله لا يستحى ى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين) * (26) لما ضرب الله تعالى المثلين للمنافقين قبل هذه الآية، قالوا: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت (2) الآية لبيان أن ما استنكروه من أن يكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع للاستنكار، لأن في التمثيل كشف المعنى ورفع الحجاب عن المطلوب، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك، ووصف القديم سبحانه بالحياء في مثل قوله (عليه السلام): " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " (3) جار مجرى التمثيل، لأن الحياء تغير وانكسار يعتري (1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 109. (2) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 27 في أحوال نزول هذه الآية. (3) أخرجه في جامع الاصول: ج 5 ص 11 ح 2119 عن سلمان الفارسي، ورواه أيضا في كنز العمال: ج 2 ص 87 ح 3266 و 3267 و 3268 عن علي (عليه السلام) وابن عمر، وفي المستدرك للحاكم: ج 1 ص 497 عن أنس، وفي الترغيب والترهيب للمنذري: ج 2 ص 480 - 481 وقال: ورواه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجة وابن حبان في صحيحه = (*)
[ 88 ]
الإنسان من لحوق (1) ما يعاب به ويذم، واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسي وحشي وشظي الفرس: إذا اعتلت منه هذه الأعضاء، وجعل الحيي لما يعتريه من الانكسار منتقص الحياة، فمثل تركه سبحانه تخييب العبد لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه، وكذلك المعنى في الآية: أن الله تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها. و * (ما) * هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعا، تقول: أعطني شيئا ما، أو هي صلة زيدت للتأكيد نحو التي في قوله: * (فبما رحمة) * (2)، والمعنى: أن الله لا يستحيي ولا يترك أن يتمثل للأنداد بما لا شئ أصغر منه وأقل، وانتصب * (بعوضة) * بأنها عطف بيان أو مفعول ل * (يضرب) *، و * (مثلا) * حال عن النكرة مقدمة عليه، أو انتصبا مفعولين ل * (يضرب) *، لأنه أجري مجرى جعل. * (فما فوقها) * فيه معنيان: أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة، والآخر: فما زاد عليها في الحجم، و * (الحق) *: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يقال: حق الأمر إذا ثبت ووجب، و * (ماذآ) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون " ذا " اسما موصولا بمعنى " الذي " فتكون كلمتين، والآخر: أن يكون " ذا " مركبة مع " ما " فتكون كلمة واحدة، والضمير في * (أنه الحق) * للمثل أو ل * (أن يضرب) * و * (مثلا) * نصب على التمييز. سورة البقرة / 27 وقوله: * (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا) * جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المتقدمتين، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى، وأن الجهل = والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. (1) في بعض النسخ: تخوف. (2) آل عمران: 159. (*)
[ 89 ]
بحسن مورده من باب الضلالة، وإسناد الإضلال إلى الله سبحانه إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالتهم (1) وهديهم، والفسق: الخروج عن طاعة الله. * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخسرون) * (27) النقض: الفسخ، وشاع (2) استعمال النقض في إبطال العهد من جهة أنهم سموا العهد بالحبل على الاستعارة، ومنه قول ابن التيهان في بيعة العقبة: يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا، ونحن قاطعوها، فنخشى إن الله أعزك وأظهرك أن ترجع الى قومك (3)، و * (عهد الله) * هو ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، أو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد (صلى الله عليه وآله)، أو ما أخذ عليهم من الميثاق بأنه إذا بعث إليهم رسول مؤيد بالمعجزات صدقوه واتبعوه. والضمير في * (ميثقه) * للعهد، ويجوز أن يكون الميثاق بمعنى: التوثقة، كما أن الميعاد والميلاد بمعنى: الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله، أي: من بعد توثقته عليهم. ومعنى قطعهم * (مآ أمر الله به أن يوصل) *: قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين، وقيل: قطعهم ما بين الأنبياء من الاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض (4). والأمر: طلب الفعل ممن هو دونك، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه شبه بأمر يأمر به * (هم الخسرون) * لأنهم (1) في بعض النسخ: بسبب إضلالهم. (2) في بعض النسخ: ساغ. (3) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 119. (4) رواه الضحاك وعطاء عن ابن عباس كما في تفسير السمرقندي: ج 1 ص 105. (*)
[ 90 ]
استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح. * (كيف تكفرون بالله وكنتم أموا تا فأحيكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * (28) معنى الهمزة التي في * (كيف) * مثله في قولك: أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب، والواو في قوله: * (وكنتم أموا تا) * للحال، أي وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا: نطفا في أصلاب آبائكم * (فأحيكم) * فجعلكم أحياء * (ثم يميتكم) * بعد هذه الحياة * (ثم يحييكم) * بعد الموت، وهذا الإحياء الثاني يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، وبقوله: * (ثم إليه ترجعون) * الحشر والنشور، ويجوز أن يراد بالإحياء النشور وبالرجوع المصير إلى الحساب والجزاء، وعطف الأول بالفاء، لأن الإحياء الأول يعقب الموت بغير تراخ، وعطف الآخرين " ب " ثم، لأن الموت قد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني متراخ عن الموت، إن أريد به النشور أو الإحياء في القبر، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. * (هو الذى خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسوبهن سبع سموا ت وهو بكل شئ عليم) * (29) سورة البقرة / 30 * (لكم) * أي: لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم بأن تتمتعوا منه بفنون المطاعم والمناكح والمراكب والمناظر البهيجة، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمنه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وفي هذا دلالة على أن أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي، وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها، و * (جميعا) * نصب على الحال من قوله: * (ما في الارض) *،
[ 91 ]
والاستواء: الاعتدال والاستقامة، يقال: استوى العود، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصد قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شئ، ومنه استعير قوله: * (ثم استوى إلى السماء) * أي: قصد إليها بإرادته ومشيته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شئ آخر، والمراد بالسماء جهات العلو، كأنه قال: ثم استوى إلى فوق، والضمير في * (فسوبهن) * ضمير مبهم، و * (سبع سموا ت) * تفسيره، كقولهم: ربه رجلا، وقيل: الضمير راجع إلى السماء (1)، والسماء في معنى الجنس (2)، ومعنى * (فسوبهن) *: عدل خلقهن وأتمه وقومه * (وهو بكل شئ عليم) * فلذلك خلق السماوات والأرض خلقا محكما متقنا من غير تفاوت على حسب ما اقتضته الحكمة. * (وإذ قال ربك للملئكة إنى جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم مالا تعلمون) * (30) لما ذكر سبحانه إنعامه علينا بخلق السماء والأرض وما فيهما، ذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم (عليه السلام ب * (قالوا) *، و * (جاعل) * من جعل الذي له مفعولان، والمعنى مصير * (في الارض خليفة) *، والخليفة: من يخلف غيره، والمعنى: خليفة منكم، لأن الملائكة كانوا سكان الأرض فخلفهم آدم فيها وذريته، واستغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: ربيعة ومضر (3)، أو يريد من يخلفكم، أو خلقا (1) قاله الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 1 ص 262. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 107، والأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 217 وعنه في التبيان: ج 1 ص 126. (3) في نسخة زيادة: وهاشم. (*)
[ 92 ]
يخلفكم فوحد لذلك، ويجوز أن يريد خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وهو الصحيح، لقوله: * (يداوود إنا جعلنك خليفة في الارض) * (1). * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) * إنما عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه من جهة اللوح، أو عرفوه بإخبار الله تعالى * (ونحن نسبح) * الواو للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان، والتسبيح: تبعيد الله من السوء، و * (بحمدك) * في موضع الحال، أي: نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك * (قال إنى أعلم) * من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ولا تعلمونه، ولم يبين لهم تلك المصالح، لأن العباد يكفيهم أن يعلموا أن أفعال الله تعالى كلها حسنة وإن خفي عليهم وجه الحكمة، على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله: * (وعلم ءادم الاسماء) * الآية. * (وعلم ءادم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبونى بأسمآء هؤلاء إن كنتم صدقين) * (31) أي: أسماء المسميات كلها، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لابد له من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: * (واشتعل الرأس شيبا) * (2)، وليس التقدير: وعلم آدم مسميات الأسماء، فيكون حذفا للمضاف، لأن التعليم يتعلق بالأسماء لا بالمسميات، لقوله: * (أنبونى بأسمآء هؤلاء) *، ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية * (ثم عرضهم) * أي: عرض المسميات * (على الملئكة) * وإنما ذكر لأن سورة البقرة / 32 و 33 في المسميات العقلاء فغلبهم * (فقال) * للملائكة: * (أنبونى بأسمآء هؤلاء) * (1) ص: 26. (2) مريم: 4. (*)
[ 93 ]
استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت * (إن كنتم صدقين) * أي: في زعمكم أني أستخلف في الأرض من يفسد فيها إرادة للرد عليهم، وليبين أن في من يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا، فبين لهم بذلك بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله: * (إنى أعلم ما لا تعلمون) * (1). * (قالوا سبحنك لاعلم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم) * (32) قالت الملائكة: * (سبحنك) * تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك، أو تعظيما لك عن أن يعترض عليك في حكمك * (لاعلم لنآ إلا ما علمتنآ) * وليس هذا في ما علمتنا * (إنك أنت العليم) * بجميع المعلومات، وهو صيغة مبالغة للعالم * (الحكيم) * المحكم لأفعاله. * (قال يادم أنبهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموا ت والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * (33) * (أنبهم) * أي: أخبر الملائكة * (بأسمآئهم) * علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات، فلم يقل: أنبئهم بهم، لما قلناه من أن التعليم يتعلق بالأسماء * (فلمآ أنبأهم) * آدم أخبر الملائكة * (بأسمائهم) * أي: باسم كل شئ ومنافعه ومضاره وخواصه * (قال) * سبحانه للملائكة: * (ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموا ت والارض) * أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه كما أعلم ماحضركم (1) البقرة: 30. (*)
[ 94 ]
فشاهدتموه * (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * أي: ما تعلنونه وما تضمرونه، وفي هذا أن تعليمه سبحانه الأسماء كلها بما فيها من المعاني وفتق لسانه بذلك معجزة أقامها الله تعالى للملائكة دالة على نبوته وجلالة قدره وتفضيله عليهم. * (وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكفرين) * (34) * (إلا إبليس) * استثناء متصل عند من ذهب إلى أن إبليس من الجن، وكان (1) بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، ثم استثني منهم استثناء واحد منهم، ويجوز أن يكون منقطعا * (أبى) * أي: امتنع مما أمر به * (واستكبر) * عنه * (وكان من) * جنس كافري الجن وشياطينهم، ولاشك أن الاستثناء متصل عند من ذهب إلى أنه من الملائكة. وفي الآية دلالة على فضل آدم على جميع الملائكة، لانه قدمه على الملائكة إذ أمرهم بالسجود له، ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل، ولو لم يكن سجود الملائكة له على وجه التعظيم لشأنه و (2) تقديمه عليهم لم يكن لامتناع إبليس عن السجود له، وقوله: * (أرءيتك هذا الذى كرمت على) * (3) وقوله: * (أنا خير منه) * (4) وجه، ولكان يجب على الله تعالى أن يعلمه أنه لم يأمره بالسجود له على وجه تعظيمه وتفضيله عليه، ولما جاز أن يفعل ذلك إذا كان ذلك سبب معصية إبليس، فعلمنا أنه لم يكن ذلك إلا على وجه التفضيل له عليهم. سورة البقرة / 35 و 36 * (وقلنا يادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث (1) في نسخة زيادة: واحدا. (2) في نسخة زيادة: في. (3) الاسراء: 62. (4) الأعراف: 12. (*)
[ 95 ]
شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين) * (35) * (أنت) * تأكيد للضمير المستكن في * (اسكن) * ليصح العطف عليه، و * (رغدا) * وصف للمصدر، أي: أكلا رغدا واسعا رافها، و * (حيث) * للمكان المبهم، أي: أي مكان من الجنة * (شئتما) * والمعنى: اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى * (وكلا منها) * أي: من الجنة كثيرا واسعا * (حيث شئتما) * من بقاع الجنة * (ولا تقربا هذه الشجرة) * أي: لاتأكلا منها، والمعنى: لاتقرباها بالأكل، وهو نهي تنزيه عندنا لا نهي تحريم، وكانا بالتناول منها تاركين نفلا وفضلا (1) * (فتكونا من الظلمين) * أي: الباخسين الثواب لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه. * (فأزلهما الشيطن عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتع إلى حين) * (36) * (فأزلهما) * أي: حملهما على الزلة * (الشيطن) * يعني: إبليس، نسب الزلة إلى الشيطان لما وقعت بدعائه ووسوسته * (عنها) * عن الجنة * (فأخرجهما مما كانا فيه) * من المنزلة والنعمة والدعة، وأضاف الإخراج إلى الشيطان لأنه كان السبب فيه، وإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض وابتلاءه بالتكليف وسلبه ثياب الجنة، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد (1) قال في التبيان: ج 1 ص 159 ما لفظه: وقوله: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * صيغته صيغة النهي، والمراد به الندب عندنا، لأنه دل الدليل على أن النهي لا يكون نهيا إلا بكراهته للمنهي عنه، والله تعالى لا يكره إلا القبيح. وفي تفسير الميزان قال (قدس سره): فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة، على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل موردهما، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا الى ما كانا فيه من الجنة، ولولا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية، لاستلزام قبول التوبة رجوعهما الى ما كانا فيه من مقام القرب. انظر تفسير الميزان: ج 1 ص 131. (*)
[ 96 ]
الإغناء والإماتة بعد الإحياء، ومن قرأ: " فأزالهما " (1) فالمعنى: فأزالهما مما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة * (وقلنا اهبطوا) * خطاب لآدم وحواء، والمراد: هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم، ويدل عليه قوله في موضع آخر: * (اهبطا منها جميعا) * (2)، * (بعضكم لبعض عدو) * والمعنى فيه: ما عليه الناس من التعادي والمخالفة وتضليل بعضهم لبعض، والهبوط: النزول إلى الأرض، والمستقر: موضع الاستقرار أو الاستقرار (3)، * (ومتع) * أي: تمتع سورة البقرة / 37 و 38 بالعيش * (إلى حين) * إلى يوم القيامة، وقيل: إلى الموت (4). قال السراج (5): لو قيل: * (ولكم في الارض مستقر ومتع) * لظن أن ذلك غير منقطع، فقيل: * (إلى حين) * أي: إلى حين انقطاعه (6). (1) وهي قراءة حمزة والأعمش والحسن والأعرج وطلحة وأبي رجاء. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 153، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 236، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 312، والحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 10، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 161. (2) طه: 123. (3) في نسخة ليس فيها: " أو الاستقرار ". (4) قاله ابن عباس والسدي. راجع تفسير ابن عباس: ص 7، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 108. (5) محمد بن السري بن سهل البغدادي المعروف بابن السراج، أبو بكر، أديب، نحوي، لغوي، صحب المبرد وقرأ عليه كتاب سيبويه في النحو، ثم اشتغل بالموسيقى، ثم رجع الى كتاب سيبويه ونظر في دقائقه وعول على مسائل الأخفش والكوفيين، وخالف اصول البصريين في مسائل كثيرة، وأخذ عنه عبد الرحمن الزجاجي وأبو سعيد السيرافي وأبو علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني وتوفي كهلا، من تصانيفه: شرح كتاب سيبويه في النحو، احتجاج القراء في القراءة، جمل الاصول، الاشتقاق، الشعر والشعراء. (سير النبلاء: ج 9 ص 266، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 5 ص 319 - 320، ووفيات الأعيان لابن خلكان: ج 1 ص 636 - 637، ومعجم الأدباء: ج 18 ص 197 - 201، والكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 8 ص 6 و 62). (6) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 1 ص 165. (*)
[ 97 ]
* (فتلقئ ادم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) * (37) معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، أي: أخذها * (من ربه) * على سبيل الطاعة، ورغب إلى الله بها، أو سأله بحقها * (فتاب) * الله * (عليه) *. ومن قرأ: " فتلقى آدم " بالنصب " كلمات " بالرفع (1)، فالمعنى: أن الكلمات استقبلت آدم (عليه السلام) بأن بلغته، والكلمات هي قوله: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين) * (2)، وقيل: هي قوله: " لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " (3)، وفي رواية أهل البيت (عليهم السلام): أن الكلمات هي أسماء أصحاب الكساء (عليهم السلام) (4). واكتفى بذكر توبة آدم عن ذكر توبة حواء لأنها كانت تبعا له، و * (التواب) *: الكثير القبول للتوبة، وهو في صفة العباد: الكثير التوبة. * (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (38) كرر سبحانه * (قلنا اهبطوا) * للتأكيد ولما تبعه من قوله: * (فإما يأتينكم منى هدى) * أي: فإن يأتكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم * (فمن تبع هداى) * بأن يقتدي برسولي ويؤمن به وبكتابه * (فلا خوف عليهم) * من العقاب (1) قرأه ابن عباس ومجاهد وابن كثير. راجع التبيان: ج 1 ص 166، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 153، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 312، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 165. (2) الأعراف: 23. (3) نسبه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 128 - 129 الى ابن مسعود، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 109 الى مجاهد. (4) راجع الخصال للصدوق: ج 1 ص 270 ح 8، ومعاني الأخبار أيضا: ص 125 ح 1. (*
[ 98 ]
* (ولا هم يحزنون) * على فوت الثواب، وجواب الشرط الأول الشرط الثاني مع جوابه، كقولك: إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك. * (والذين كفروا وكذبوا بايتنا أولئك أصحب النار هم فيها خلدون) * (39) * (والذين) * جحدوا رسلنا * (وكذبوا) * بدلائلنا (1) ف * (أولئك) * الملازمون للنار * (هم فيها خلدون) * أي: دائمون مؤبدون. * (يبنى إسرا ءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيى فارهبون) * (40) لما عم سبحانه جميع خلقه بالخطاب، وذكر لهم الحجج على توحيده، وعدد عليهم صنوف نعمائه خص بني إسرائيل عقيب ذلك بذكر ما أسداه إليهم من النعم، فقال: * (يبنى إسرا ءيل) * وإسرائيل هو يعقوب لقب له، ومعناه في لسانهم: صفوة الله، وقيل: عبد الله (2) * (اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم) * أي: لا تخلوا بشكرها واستعظموها، وأراد بالنعمة ما أنعم به على آبائهم من كثرة الأنبياء فيهم، وإنجائهم من فرعون، وغير ذلك مما عدده سبحانه عليهم * (وأوفوا بعهدي) * أي: بما سورة البقرة / 41 و 42 عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي * (أوف بعهدكم) * أي: بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب، وقيل: أوفوا بعهدي في محمد (صلى الله عليه وآله) أن من آمن به كان له أجران، ومن كفر به تكاملت أوزاره، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة (3). * (وإيى فارهبون) * أي: فلا تنقضوا عهدي، وهو من قولك: زيدا رهبته، و * (وإيى) * (1) في بعض النسخ: بدلالاتنا. (2) وهو قول ابن عباس على ما في تفسير الماوردي: ج 1 ص 110. (3) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 8، وحكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 1 ص 183. (*)
[ 99 ]
منصوب بفعل مضمر يفسره " ارهبون ". * (وءامنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بايتى ثمنا قليلا وإيى فاتقون) * (41) أي: وصدقوا بما أنزلته على محمد (صلى الله عليه وآله) من القرآن * (مصدقا لما معكم) * من التوراة * (ولا تكونوا أول كافر به) * أي: أول من كفر به، أو أول فريق كافر به، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به، كما يقال: كسانا الأمير حلة، أي: كسا كل واحد منا حلة، وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكون اليهود أول من يؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا يبشرون الناس بزمانه، ويستفتحون على الذين كفروا، وكانوا يقولون: إنا نتبعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس، كقوله: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * (1)، وقيل: الضمير في * (به) * لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه فقد كفروا به (2) * (ولا تشتروا بايتى ثمنا قليلا) * الاشتراء استعارة للاستبدال، كما في قوله: * (اشتروا الضللة بالهدى) * (3) أي: لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا، وإلا فالثمن هو المشترى به، والثمن القليل: الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا فوتها باتباعه فاستبدلوها بآيات الله. * (ولا تلبسوا الحق بالبطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) * (42) الباء في قوله: * (بالبطل) * يجوز أن يكون مثل ما في قولك: لبست الشئ بالشئ: خلطته به، فيكون المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط * (الحق بالبطل) *، ويجوز أن تكون باء الاستعانة كما في قولك: كتبت بالقلم، (1) البقرة: 89. (2) وهو قول الزجاج. راجع التبيان: ج 1 ص 187. (3) البقرة: 16. (*)
[ 100 ]
فيكون المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه، * (وتكتموا) * جزم معطوف على * (تلبسوا) * بمعنى: ولا تكتموا، أو منصوب بإضمار " أن " أي: ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن * (وأنتم تعلمون) * أنه حق وتجحدون ما تعلمون. * (وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واركعوا مع الرا كعين) * (43). أي: وأدوا الصلاة بأركانها، وأعطوا ما فرض الله عليكم من الزكاة * (واركعوا مع الرا كعين) * من المسلمين، لأن اليهود لا ركوع لهم في صلاتهم، وقيل: إن المراد به صلاة الجماعة (1). * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب أفلا تعقلون) * (44) الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم، و " البر ": سعة الخير، ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير، ومنه قولهم: صدقت وبررت، وكانوا يأمرون أقاربهم في السر باتباع محمد (صلى الله عليه وآله) ولا يتبعونه * (وتنسون أنفسكم) * تتركونها من البر * (وأنتم تتلون الكتب) * تبكيت مثل قوله: * (وأنتم تعلمون) * (2)، يعني: تتلون التوراة وفيها صفة محمد (صلى الله عليه وآله) * (أفلا تعقلون) * توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون بقبح ما تقدمون عليه، فيصدكم استقباحه عن ارتكابه فكأنكم قد سلبت عقولكم. * (واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخشعين (45) الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه را جعون) * (46) سورة البقرة / 45 و 46 * (واستعينوا) * في حوائجكم إلى الله * (ب) * الجمع بين * (الصبر والصلوة) *، (1) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 8. (2) البقرة: 22. (*)
[ 101 ]
وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس، أو واستعينوا على البلايا بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة، وقيل: الصبر: الصوم (1)، ومنه قيل لشهر رمضان: شهر الصبر (2)، * (وإنها) * الضمير للصلاة أو للاستعانة * (لكبيرة) * أي: شاقة ثقيلة * (إلا على الخشعين) * لأنهم الذين يتوقعون ما ادخر للصابرين على مشاقها فتهون عليهم، والخشوع: التطأمن والإخبات والخضوع واللين والانقياد * (الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم) * أي: يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده، وفي مصحف عبد الله (3) " يعلمون " (4)، ولذلك فسر * (يظنون) * ب " يتيقنون "، وكان النبي (عليه السلام) يقول: " يا بلال روحنا " (5)، وقال (عليه السلام): " وجعلت قرة عيني في الصلاة " (6). (1) قاله مجاهد كما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 68. (2) انظر تفسير الماوردي: ج 1 ص 115، وتفسير البغوي: ج 1 ص 68، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 134. (3) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من أكابر الصحابة وهو من أهل مكة، ومن المقربين من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن السابقين الى الاسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن الكريم بمكة، وكان خادم رسول الله الأمين، يدخل عليه كل وقت، وكان له مصحف يعرف باسمه، ويقال: إنه نظر إليه عمر يوما وقال: وعاء ملئ علما، ولي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بيت مال الكوفة، ثم قدم المدينة في خلافة عثمان، فتوفي فيها عن نحو ستين عاما، وكان قصيرا جدا، يكاد الجلوس يوارونه، وكان يحب الإكثار من التطيب، فإذا خرج من بيته عرف جيران الطريق أنه مر، من طيب رائحته. (الإصابة: ت 4955، وغاية النهاية: ج 1 ص 458، والبدء والتاريخ: ج 5 ص 97، وصفة الصفوة: ج 1 ص 154، وحلية الأولياء: ج 1 ص 124). (4) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 134. (5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 134 مرفوعا. (6) فتح الباري لابن حجر: ج 11 ص 345، المعجم الصغير للطبراني: ج 1 ص 262، مسند أبي حنيفة: ص 54، جامع مسانيد الامام أبي حنيفة: ج 1 ص 406، البداية والنهاية لابن كثير: ج 6 ص 30، تفسير القرطبي: ج 10 ص 167. (*)
[ 102 ]
* (يبنى إسرا ءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين (47) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيا ولا يقبل منها شفعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * (48) * (وأنى فضلتكم) * في موضع نصب عطف على * (نعمتي) * أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم * (على العلمين) * على الجم الغفير من الناس، كقوله: * (بركنا فيها للعلمين) * (1)، يقال: رأيت عالما من الناس يراد به الكثرة، أو تفضيلي إياكم في أشياء مخصوصة كإنزال المن والسلوى، والآيات الكثيرة كفلق البحر وتغريق فرعون، وكثرة الرسل فيكم (2) * (واتقوا يوما) * يريد يوم القيامة * (لا تجزى) * أي: لا تقضي * (نفس عن نفس شيا) * حقا وجب عليها لله أو لغيره، كقوله: * (لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيا) * (3) وهذه الجملة منصوبة الموضع صفة ل * (يوما) * والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره: لا تجزي فيه، حذف الجار ثم حذف الضمير، ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئا من الأشياء * (ولا يقبل منها شفعة) * هذا مختص باليهود، فإنهم (4) قالوا: " آباؤنا يشفعون لنا " فأويسوا، لأن الأمة مجتمعة على أن لنبينا صلوات الله عليه وآله شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها، وإجماعها حجة * (ولا يؤخذ منها عدل) * أي: فدية، لأنها معادلة للمفدي * (ولا هم ينصرون) * يعني: مادلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة، والتذكير بمعنى العباد والأناسي كما قالوا: ثلاثة أنفس. سورة البقرة / 49 و 50 * (وإذ نجينكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون (1) الأنبياء: 71. (2) في نسخة: منكم. (3) لقمان: 33. (4) في بعض النسخ: لأنهم. (*)
[ 103 ]
أبنائكم ويستحيون نساءكم وفى ذا لكم بلاء من ربكم عظيم) * (49) أصل * (ءال) * أهل، ولذلك صغر بأهيل، فأبدلت هاؤه ألفا، وخص استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم (1)، و * (فرعون) * علم لمن ملك العمالقة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس * (يسومونكم) * من سامه خسفا إذا أولاه ظلما، وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم * (سوء العذاب) * ويريدونكم عليه، و " السوء " مصدر السيئ، وسوء الفعل قبحه، و * (يذبحون) * بيان ل * (يسومونكم) *، ولذلك ترك العاطف، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه كما أنذر نمرود، فلم يغن عنهما تحفظهما وكان ما شاء الله أن يكون، والبلاء: المحنة إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء. * (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) * (50) * (فرقنا بكم البحر) * فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم، يقال: فرق بين الشيئين وفرق - بالتشديد - بين الأشياء، والمعنى في * (بكم) * أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنما فرق بهم، ويجوز أن يراد بسببكم وبسبب إنجائكم، ويجوز أن يكون في موضع الحال بمعنى: فرقناه متلبسا بكم. وروي: أن بني إسرائيل قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم ؟ فقال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فقال: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا، فصارت فيها كواء فتراءوا (1) راجع تفصيله في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 288. (*)
[ 104 ]
وسمع بعضهم كلام بعض (1) * (وأنتم تنظرون) * إلى ذلك وتشاهدونهم لا تشكون فيه. * (وإذ وا عدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون) * (51) أي: وعدنا موسى أن ننزل عليه التوراة، وضربنا له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وقيل: أربعين ليلة، لأن الشهور عددها بالليالي (2)، ومن قرأ * (وا عدنا) * فلأن الله تعالى وعده الوحي، ووعد هو المجئ للميقات إلى الطور * (ثم اتخذتم العجل من بعده) * أي: من بعد مضيه إلى الطور * (وأنتم ظلمون) * باتخاذكم العجل إلها. * (ثم عفونا عنكم من بعد ذا لك لعلكم تشكرون (52) وإذ ءاتينا موسى الكتب والفرقان لعلكم تهتدون) * (53) سورة البقرة / 54 * (من بعد ذا لك) * أي: من بعد ارتكابكم الأمر العظيم * (لعلكم تشكرون) * النعمة في العفو عنكم * (و) * اذكروا * (إذ) * أعطينا * (موسى الكتب والفرقان) * أي: الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا فارقا بين الحق والباطل يعني التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، أي: الرجل الجامع بين الجود والجرأة، ونحوه قوله: * (ولقد ءاتينا موسى وهرون الفرقان وضيآء وذكرا) * (3) أي: الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا، ويجوز أن يريد ب * (الكتب) *: التوراة * (و) * ب * (الفرقان) *: البرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من (1) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 139، وابن الأثير في الكامل: ج 1 ص 187. (2) وهو قول الأخفش، ونسبه الطبري الى بعض نحويي البصرة. راجع معاني القرآن: ج 1 ص 264، وتفسير الطبري: ج 1 ص 319. (3) الأنبياء: 48. (*)
[ 105 ]
الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو انفراق البحر، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه، كقوله: * (يوم الفرقان) * (1) يريد يوم بدر. * (وإذ قال موسى لقومه يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذا لكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) * (54) * (و) * اذكروا * (إذ قال موسى) * لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه إليهم: * (يقوم إنكم) * أضررتم * (أنفسكم باتخاذكم العجل) * معبودا، والبارئ: الذي برأ (2) الخلق بريئا من التفاوت ومتميزا بعضهم من بعض بالصور والأشكال المختلفة * (فتوبوا إلى) * خالقكم ومنشئكم * (فاقتلوا أنفسكم) * أي: ليقتل بعضكم بعضا، أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده. روي: أن الرجل كان يبصر ولده وقريبه فلم يمكنهم إمضاء أمر الله سبحانه، فأرسل الله عليهم ضبابة (3) لا يتراءون تحتها، وأمروا أن يحتبوا (4) بأفنية بيوتهم، وأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهارون، وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت الضبابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم وكانت القتلى سبعين ألفا (5). * (ذا لكم) * إشارة إلى التوبة مع القتل * (خير لكم عند بارئكم) * من إيثار الحياة (1) الأنفال: 41. (2) في نسخة: خلق. (3) الضبابة: السحابة، الغيمة. (لسان العرب: مادة ضبب). 4) احتبى بالثوب: اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. (القاموس المحيط: مادة حبا). (5) رواها عن ابن عباس الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 122 - 123، وعن أبي صالح السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 120. (*)
[ 106 ]
الفانية، وكرر ذكر بارئكم تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم * (فتاب عليكم) * تقديره: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم * (إنه هو التواب الرحيم) * القابل للتوبة عن عباده، الرحيم بهم. * (وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصعقة وأنتم تنظرون) * (55) قيل: إن القائلين هذا القول هم السبعون الذين صعقوا (1)، أي: لن نصدقك في قولك * (حتى نرى الله) * عيانا، وهي مصدر من قولك: جهر بالقراءة، كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقلب مخافت بها، وانتصابها على المصدر، لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء (2) بفعل الجلوس، أو على الحال بمعنى ذوي جهرة، و * (الصعقة) * نار وقعت من السماء فأحرقتهم، وقيل: صيحة جاءت من السماء (3)، والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه فخروا صعقين ميتين. * (ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * (56) ثم أحييناكم * (من بعد موتكم) * لاستكمال آجالكم * (لعلكم تشكرون) * نعمة الله بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة، أو لعلكم تشكرون نعمة البعث بعد الموت. سورة البقرة / 57 و 58 * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من (1) قاله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 123، والبغوي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 74. (2) القرفصاء: أن يجلس الرجل على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبي بالثوب. (الصحاح: مادة حبا). (3) نسب هذا القول الطبري في تفسيره: ج 1 ص 329 الى الربيع. (*)
[ 107 ]
طيبت ما رزقنكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (57) وجعلنا * (الغمام) * يظلكم، وكان ذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه * (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * كان ينزل عليهم الترنجبين مثل الثلج، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه * (كلوا من طيبت ما رزقنكم) * على إرادة القول * (وما ظلمونا) * يعني: فظلموا بأن كفروا هذه النعمة وما ظلمونا، فاختصر لدلالة وما ظلمونا عليه. * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطيكم وسنزيد المحسنين) * (58) * (القرية) * بيت المقدس، وقيل: أريحا من قرى الشام (1)، أمروا بدخولها بعد التيه، و * (الباب) * باب القرية، وقيل: هو باب القبة التي كانوا يصلون إليها (2)، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا، وقيل: السجود أن ينحنوا داخلين ليكون دخولهم بخشوع (3)، وقيل: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها (4) * (وقولوا حطة) * هي فعلة من الحط كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة، والأصل النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، فرفع ليعطي معنى الثبات، كقوله: * (فصبر جميل) * (5). (1) قاله ابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 125. (2) قاله عكرمة عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير: ج 1 ص 94. (3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 9، وعنه الطبري في تفسيره: ج 1 ص 339 - 340. (4) ذكره السيوطي في الدر المنثور: ج 1 ص 173 باسناده عن مجاهد وعكرمة. (5) يوسف: 18 و 83. (*)
[ 108 ]
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " نحن باب حطتكم " (1). * (وسنزيد المحسنين) * أي: ومن كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا يغفر له ويصفح عن ذنوبه. * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) * (59) أي: فخالف الذين عصوا ووضعوا مكان * (حطة) *، * (قولا غير الذى قيل لهم) * أي: ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله، وقيل: إنهم قالوا مكان " حطة ": " حنطة " (2)، وقيل: قالوا: حطا سمقاثا (3)، أي: حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم (4)، وفي تكرير * (الذين ظلموا) * زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذان بأن إنزال العذاب عليهم لظلمهم، و " الرجز " العذاب، وروي: أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم (5). * (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين) * (60) سورة البقرة / 61 عطشوا في التيه فاستسقى موسى لهم ودعا لهم بالسقيا * (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) * واللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم، فقد روي: أنه حجر حمله (1) العياشي: ج 1 ص 45 ح 47، وعنه البحار: ج 7 ص 46. (2) قاله عكرمة عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 1 ص 343 - 345. (3) في نسخة: سمقاتا. (4) قاله ابن عباس وابن مسعود. راجع تفسير ابن عباس: ص 9، وتفسير الطبري: ج 1 ص 344 ح 1030. (5) حكاها الشيخ في التبيان: ج 1 ص 268 عن ابن زيد. (*)
[ 109 ]
معه من الطور، وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي هي له (1)، وإما للجنس، أي: اضرب الشئ الذي يقال له: الحجر، فقد روي عن الحسن: أنه لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة (2)، * (فانفجرت) * أي: ضرب فانفجرت * (منه اثنتا عشرة عينا) * لكل سبط عين * (قد علم كل أناس) * يريد كل سبط * (مشربهم) * عينهم التي يشربون منها * (كلوا) * على إرادة القول * (واشربوا من رزق الله) * مما رزقكم الله من الطعام والشراب وهو المن والسلوى وماء العيون، وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار فهو رزق يؤكل منه ويشرب (3)، * (ولا تعثوا) * العثي: أشد الفساد، أي: لا تتمادوا في الفساد * (مفسدين) * أي: في حال إفسادكم. * (وإذ قلتم يموسى لن نصبر على طعام وا حد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبآءو بغضب من الله ذا لك بأنهم كانوا يكفرون بايت الله ويقتلون النبين بغير الحق ذا لك بما عصوا وكانوا يعتدون) * (61) * (وإذ قلتم) * نسب قول أسلافهم إليهم * (يموسى لن نصبر على طعام وا حد) * أرادوا بالواحد مالا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة (1) حكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 77 عن ابن عباس وعطاء. (2) ذكره عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 144. (3) حكاه في الكشاف: ج 1 ص 144. (*)
[ 110 ]
يداوم عليها كل يوم لا يبدلها جاز أن يقال: لا يأكل فلان إلاطعاما واحدا، ويراد بالوحدة: نفي التبدل والاختلاف * (فادع لنا) * أي: لأجلنا * (ربك يخرج لنا) * أي: يظهر لنا ويوجد لنا * (مما تنبت الارض من بقلها) * البقل: ما أنبتته الأرض من الخضر، والفوم: الحنطة، ومنه فوموا لنا أي: اختبزوا، وقيل: هو الثوم (1). قيل: إنهم كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى أصلهم، ولم يريدوا إلا ما ألفوه وضروا به (2) من الأشياء المتفاوتة، كالبقول والحبوب ونحو ذلك (3). سورة البقرة / 62 - 64 * (قال أتستبدلون الذى هو أدنى) * أي: هو أقرب منزلة وأدون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار، فيقال: هو أدنى (4) المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالبعد عن عكس ذلك، فيقال: بعيد المحل وبعيد الهمة، يريدون الرفعة والعلو * (اهبطوا مصرا) * أي: انحدروا إليه من التيه، ويمكن أن يريد الاسم العلم، وصرفه مع اجتماع السببين: العلم والتأنيث لسكون وسطه، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد * (وضربت عليهم الذلة) * أي: جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما أن من ضربت عليه القبة يكون فيها، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة: إما على الحقيقة، وإما لتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية * (وبآءو بغضب من الله) * أي: صاروا أحقاء بغضبه من قولهم: باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له * (ذا لك) * إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة (1) نسبه الشيخ في تبيانه: ج 1 ص 275، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 129 الى الربيع بن أنس والكسائي. (2) ضروا به: تعودوه. (الصحاح: مادة ضرا). (3) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 145 وقال: ويدل عليه قراءة ابن مسعود: " وثومها ". (4) في بعض النسخ: داني. (*)
[ 111 ]
وكونهم أهل غضبه * (بأنهم كانوا يكفرون) * أي: بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء قتلوا زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم * (بغير الحق) * معناه: أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا * (ذا لك) * تكرار للإشارة * (بما عصوا) * بسبب معصيتهم واعتدائهم حدود الله في كل شئ. * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصرى والصبين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صلحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (62) * (إن الذين ءامنوا) * بألسنتهم وهم المنافقون * (والذين هادوا) * تهودوا، يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، وهو هائد والجمع هود * (والنصرى) * جمع نصران، يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، والنصراني الياء فيه للمبالغة كالتي في أحمري، لأنهم نصروا المسيح * (والصبين) * من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة أو (1) النجوم * (من ءامن) * من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا * (وعمل صلحا فلهم أجرهم) * الذي يستوجبونه بإيمانهم وأعمالهم، ومحل * (من ءامن) * رفع بالابتداء، وخبره: * (فلهم أجرهم) *، لتضمن * (من) * معنى الشرط، والجملة خبر * (إن) *، أو نصب بدل من اسم * (إن) * والمعطوف عليه، وخبر * (إن) *: * (فلهم أجرهم) *. * (وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذا لك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخسرين) * (64) (1) في نسخة: و. (*)
[ 112 ]
* (و) * اذكروا * (إذ أخذنا ميثقكم) * بالعمل على ما في التوراة * (ورفعنا فوقكم الطور) * حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق، وذلك أن موسى (عليه السلام) جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة فأبوا قبولها، فأمر جبرئيل فقلع الطور من أصله ورفعه فوقهم، وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم، حتى قبلوا وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم * (خذوا) * على إرادة القول، أي: قلنا: * (خذوا مآ ءاتينكم) * من الكتاب * (بقوة) * أي: بجد ويقين وعزيمة * (واذكروا ما فيه) * وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه * (لعلكم تتقون) * رجاء منكم أن تكونوا متقين * (ثم توليتم) * ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به * (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) * وتوفيقه للتوبة * (لكنتم من الخسرين) * لخسرتم. * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خسين (65) فجعلنها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) * (66) سورة البقرة / 67 و 68 * (السبت) * مصدر سبتت (1) اليهود إذا عظمت يوم السبت، المعنى: * (ولقد) * عرفتم * (الذين اعتدوا منكم) * أي: جاوزوا ماحد لهم في السبت من تعظيمه واشتغلوا بالصيد، وذلك أن الله ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا ظهر يوم السبت، فإذا مضى تفرقت، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، * (فقلنا لهم كونوا قردة خسين) * أي: كونوا جامعين بين القردية (1) في نسخة: سبت. (*)
[ 113 ]
والخسوء * (فجعلنها) * يعني: المسخة * (نكلا) * عبرة تنكل من اعتبرها، أي: تمنعه * (لما بين يديها) * لما قبلها * (وما خلفها) * وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من الأمم * (وموعظة للمتقين) * الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متق. * (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ماهى قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذا لك فافعلوا ما تؤمرون) * (68) كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتله قرابة له ليرثوه، فطرحوه على طريق سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاءوا يطلبون بدمه، فأمرهم الله أن يذبحوا * (بقرة) * ويضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله * (قالوا أتتخذنا هزوا) * أتجعلنا أهل هزؤ أو مهزوءا بنا أو الهزؤ نفسه * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجهلين) * أي: من المستهزئين، ليدل على أن الاستهزاء لا يصدر إلا عن الجاهل، وقرئ: " هزؤا " (1) و: " هزءا " (2) مثل كفؤا وكفؤا، وبالضمتين والواو فيهما * (قالوا ادع لنا ربك) * أي: سل لنا ربك، وكذا هو في قراءة عبد الله (3) * (ماهى) * سؤال عن حالها (1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وشعبة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 157، والتبيان: ج 1 ص 293، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 247، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 250. (2) قرأه حمزة وإسماعيل والمفضل وعبد الوارث. انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 157، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 315، والبحر المحيط: ج 1 ص 250. (3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 148. (*)
[ 114 ]
وصفتها، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى، فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن * (قال) * موسى * (إنه) * سبحانه * (يقول إنها بقرة) * لامسنة ولافتية، فرضت البقرة فروضا أي: أسنت * (عوان بين ذا لك) * أي: نصف وسط بين الصغيرة والكبيرة، وجاز دخول * (بين) * على * (ذا لك) *، لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر، وجاز أن يشار به إلى مؤنثين لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم * (فافعلوا ما تؤمرون) * أي: ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، ويجوز أن يكون بمعنى أمركم أي: مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير. * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر النظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ماهى إن البقر تشبه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لاذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) * (71) سورة البقرة / 70 و 71 * (فاقع) * توكيد ل * (صفراء) * (1)، ولم يقع خبرا عن " اللون "، و * (لونها) * فاعله، لأن اللون من سبب الصفراء ومتلبس بها، فلا فرق بين أن يقول: صفراء فاقع لونها وصفراء فاقعة، وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها (2). والسرور: لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه، وقولهم: * (ماهى) * مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها ليزدادوا بيانا لوصفها. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، (1) في نسخة زيادة: كما يقال: أسود هالك. (2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 148. (*)
[ 115 ]
ولكن شددوا فشدد الله عليهم، والاستقصاء شؤم " (1). * (إن البقر تشبه علينا) * أي: إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح * (وإنآ إن شآء الله لمهتدون) * إلى البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل. وفي الحديث: " لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " (2) أي: لو لم يقولوا: * (إن شآء الله) *. * (لاذلول) * لم تذلل للكراب (3) وإثارة الأرض * (ولا) * هي من النواضح، ف * (تسقى الحرث) * و * (لا) * الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير (4) وتسقي، على أن الفعلين صفتان ل " ذلول "، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية * (مسلمة) * سلمها الله تعالى من العيوب، أو معفاة من العمل سلمها أهلها منه، أو مخلصة اللون من سلم له كذا إذا خلص له * (لاشية فيها) * لم يشب صفرتها شئ من الألوان، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر وشاه وشيا وشية: إذا خلط بلونه لونا آخر، ومنه ثور موشي القوائم * (قالوا الن جئت بالحق) * أي: بحقيقة وصف البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها * (فذبحوها) *، وقوله: * (وما كادوا يفعلون) * استبطاء لهم واستثقال لاستقصائهم، أي: ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وقيل: وما كادوا (1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 151، ونحوه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 128 - 129. (2) رواه الطبري في تفسيره: ج 1 ص 390، وعنه السيوطي في الدر المنثور: ج 1 ص 190، ونحوه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 129، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 452. (3) الكراب: حرث الأرض للزرع. (القاموس المحيط: مادة كرب). (4) في نسخة زيادة: الأرض. (*)
[ 116 ]
يذبحونها لغلاء ثمنها (1)، وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل (2). فأما اختلاف العلماء في أن تكليفهم كان واحدا وهو ذبح البقرة المخصوصة باللون والصفات أو كان متغايرا وكلما راجعوا تغيرت مصلحتهم إلى تكليف آخر فمذكور في كتاب مجمع البيان (3)، فمن أراد ذلك فليقف عليه هناك. والنسخ قبل الفعل جائز، وقبل وقت الفعل غير جائز، لأنه يؤدي إلى البداء. * (وإذ قتلتم نفسا فاداراتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذا لك يحى الله الموتى ويريكم ءايته لعلكم تعقلون) * (73) سورة البقرة / 74 خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم * (فاداراتم) * أي: اختلفتم * (فيها) * واختصمتم في أمرها، لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي: يدفعه، أو تدافعتم بأن طرح بعضكم قتلها على بعض فدفع المطروح عليه الطارح، أو دفع بعضكم بعضا عن البراءة واتهمه * (والله مخرج) * أي: مظهر * (ما كنتم تكتمون) * - ه من أمر القتل (4) ولا يتركه مكتوما، وهذه جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وهما " ادارأتم " و " قلنا "، والضمير في * (اضربوه) * إما أن يرجع إلى النفس على تأويل الشخص، أو إلى القتيل لما دل عليه قوله: * (ما كنتم تكتمون) *، * (ببعضها) * ببعض البقرة، والتقدير: فضربوه فحيي * (كذا لك يحى الله الموتى) * فحذف لأن ما أبقي يدل على ما ألقي، روي: أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما، وقال: قتلني فلان، فقتل ولم يورث قاتل بعد ذلك (5) * (ويريكم ءايته) * دلائله (1) قائل ذلك ابن عباس. راجع تفسيره: ص 11، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 141. (2) نسبه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 142 الى وهب. (3) في ج 1 - 2 ص 136 فراجع. (4) في نسخة: القتيل. (5) رواها الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 153. (*)
[ 117 ]
على أنه قادر على كل شئ * (لعلكم تعقلون) * أي: تعملون (1) على قضية عقولكم في أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء النفوس كلها، لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتل (2) مع تقدمه، لأن الغرض ذكر قصتين كل واحدة منهما تختص بنوع من التقريع، فلو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة وذهب الغرض في ذلك. * (ثم قست قلوبكم من بعد ذا لك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهر وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغفل عما تعملون) * (74) * (ثم قست قلوبكم من بعد ذا لك) * المعنى في * (ثم) * استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها من إحياء القتيل وغير ذلك من الآيات * (فهى) * في قسوتها مثل الحجارة * (أو أشد قسوة) * منها، والمعنى: أن من عرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة، أو من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها * (وإن من الحجارة) * بيان لفضل قسوة قلوبهم على الحجارة، والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة، والمعنى: أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير * (وإن منها لما يشقق) * أي: يتشقق، أدغم التاء في الشين، أي: ينشق طولا أو عرضا فينبع منه الماء * (وإن منها لما يهبط) * أي: يتردى من أعلى الجبل، والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل (3) ما أمرت به * (وما الله بغفل عما تعملون) * أيها المكذبون، (1) في نسخة: تعلمون. (2) في نسخة: القتيل. (3) في نسخة: تعقل، وفي اخرى: تقبل. (*)
[ 118 ]
ومن قرأ بالياء (1) فالمراد: عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون. * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) * (75) الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين، أي: * (أفتطمعون أن يؤمنوا) * لأجل دعوتكم فيستجيبوا * (لكم) * كما قال: * (فامن له لوط) * (2)، * (وقد كان فريق منهم) * أي: طائفة من أسلاف اليهود * (يسمعون كلم الله) * في التوراة * (ثم يحرفونه) * كما حرفوا صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآية الرجم * (من بعد ما عقلوه) * أي: فهموه وضبطوه ولم يبق لهم شبهة في صحته * (وهم يعلمون) * أنهم كاذبون، يعني: إن حرف هؤلاء فلهم سابقة في ذلك. * (وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * (77) سورة البقرة / 78 * (وإذا لقوا الذين ءامنوا) * يعني: اليهود * (قالوا ءامنا) * بأنكم على الحق، وبأن محمدا (صلى الله عليه وآله) هو النبي المبشر به في التوراة * (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * أي: صاروا في الموضع الذي ليس فيه غيرهم * (قالوا) * أي: قال بعضهم لبعض * (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) * بما بين لكم في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله) * (ليحاجوكم به عند ربكم) * ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم به وقولهم: هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله، كما يقال: هو عند الله (1) وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. راجع كتاب السبعة في القراءات لان مجاهد: ص 160، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 248، وتفسير البغوي: ج 1 ص 87، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 267. (2) العنكبوت: 26. (*)
[ 119 ]
هكذا، أو هو في كتاب الله هكذا بمعنى واحد، أو يكون المراد ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في إيمانهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) إذ كنتم مخبرين بصحة أمره من كتابكم * (أفلا تعقلون) * أن ذلك حجة عليكم * (أولا) * يعلم هؤلاء اليهود * (أن الله يعلم ما يسرون) * من الكفر * (وما يعلنون) * من الإيمان. * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون) * (78) * (أميون) * لا يحسنون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها * (لا يعلمون الكتب) * أي: التوراة * (إلا أمانى) * إلا ماهم عليه من أمانيهم: أن الله يعفو عنهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل: إلا أكاذيب مختلقة (1) من علمائهم فيقبلونها على التقليد (2)، كما قال أحدهم: هذا شئ رويته أم تمنيته، أي: اختلقته، وقيل: إلا مايقرؤون (3)، من قول الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليله (4) وهذا من الاستثناء المنقطع كقوله: * (مالهم به من علم إلا اتباع الظن) * (5)، * (وإن هم) * أي: وماهم * (إلا يظنون) * أي: يشكون وهم متمكنون من العلم بالحق. * (فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله (1) في بعض النسخ: مختلفة. (2) نسبه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 150 وابن كثير أيضا في تفسيره: ج 1 ص 111 الى ابن عباس ومجاهد. (3) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 49، وأورده في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 145 ونسبه الى الكسائي والفراء. (4) البيت غير منسوب لأحد، وعجزه: وآخره لاقى حمام المقادر. انظر العين للفراهيدي: ج 8 ص 390، ولسان العرب: مادة " مني "، والكشاف: ج 1 ص 157. (5) النساء: 157. (*)
[ 120 ]
ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) * (79) * (فويل للذين يكتبون الكتب) * المحرف * (بأيديهم) * تأكيد، كما تقول: رآه بعينه وسمعه بأذنه، والويل: كلمة التحسر والتفجع وهو في الآية العذاب * (ليشتروا به ثمنا قليلا) * أي: ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامهم من الأموال، وصفه بالقلة لأن متاع الدنيا قليل، وقوله: * (مما يكسبون) * أي: من الرشى. * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * (80) وقالت اليهود: * (لن تمسنا النار) * أي: لن تصيبنا النار * (إلا أياما معدودة) * أي: قلائل أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل، وعن مجاهد: قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما (1)، * (فلن يخلف الله عهده) * متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهدا فلن يخلف الله عهده، و * (أم) * إما أن تكون معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى: أي الأمرين كائن على سبيل التقرير، لأن العلم واقع بكون أحدهما، وإما أن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون. * (بلى من كسب سيئة وأحطت به خطيته فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (81) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون) * (82) سورة البقرة / 83 * (بلى) * إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: * (لن تمسنا النار) * أي: بلى تمسكم النار على سبيل الخلود بدلالة قوله: * (هم فيها خلدون) *، والسيئة هنا: (1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 152 - 153. (*)
[ 121 ]
الشرك، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة (1) وغيرهم (2) وهو الصحيح، لأن ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا (3) * (وأحطت به خطيته) * أي: أحدقت به من كل جانب كقوله: * (وإن جهنم لمحيطة بالكفرين) * (4)، أو أهلكته كقوله: * (إلا أن يحاط بكم) * (5) و * (أحيط بثمره) * (6)، والمراد: سدت عليه طريق النجاة، وقيل: المراد بذلك الإصرار على الذنب (7). وفي قوله: * (والذين ءامنوا) * الآية وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب (8) الدائم كما أوعد قبله أهل الجحود والإصرار على الكبائر الموبقة بالعقاب الدائم. * (وإذ أخذنا ميثق بنى إسرا ءيل لا تعبدون إلا الله وبالوا لدين إحسانا وذى القربى واليتمى والمسكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) * (83) * (لا تعبدون) * إخبار في معنى النهي، كما يقال: تذهب إلى فلان تقول له كذا وكذا، يراد به الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنه قد سورع إلى امتثاله فأخبر عنه، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي: " لا تعبدوا " (9)، ولابد من إرادة (1) هو قتادة بن دعامة بن وائل السروسي البصري التابعي، ولد أعمى، سمع أنس بن مالك وغيره من التابعين، وروى عنه جماعة من التابعين، توفي سنة 117 ه، وقيل: 118 ه وهو ابن ست وخمسين، وقيل: ابن خمس وخمسين. (تهذيب الأسماء واللغات: ج 2 ص 157). (2) ذكره البغوي في تفسيره: ج 1 ص 89 وزاد: عطاء والضحاك والربيع وأبا العالية. (3) انظر التفسير المنسوب الى الإمام العسكري (عليه السلام): ص 304 - 305 ح 147، والتبيان: ج 1 ص 325، وتفسير الميزان: ج 1 ص 216. (4) التوبة: 49. (5) يوسف: 66. (6) الكهف: 42. (7) قاله عكرمة والربيع بن خيثم على ما حكاه عنهما البغوي في تفسيره: ج 1 ص 89، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 ص 148 ونسبه الى عكرمة ومقاتل. (8) في نسخة: بالصواب. (9) حكاه عنهما الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 159، وأبو حيان في بحره: ج 1 ص 282. (*)
[ 122 ]
القول، ويدل عليه قوله: * (وقولوا) *، وتقدير قوله: * (وبالوالدين إحسانا) *: وتحسنون بالوالدين إحسانا أو أحسنوا، وقيل: إن قوله: * (لا تعبدون) * جواب القسم، لأن أخذ الميثاق في معنى القسم، كأنه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون (1)، وقيل: معناه أن لا تعبدوا فلما حذف " أن " رفع (2)، كقوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى (3) سورة البقرة / 84 و 85 * (وذى القربى) * أي: وبذي القربى أن تصلوا قرابته، وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالشفقة والرأفة، وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم * (وقولوا للناس حسنا) * أي: قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه، وقرئ: " حسنا " (4) و " حسنى " (5) على المصدر كبشرى، وعن الباقر (عليه السلام): " قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم " (6) * (وأقيموا الصلوة) * أي: أدوها بحدودها وأركانها * (وءاتوا الزكوة) * أعطوها أهلها * (ثم توليتم) * هذا على طريق الالتفات، أي: توليتم عن الميثاق وتركتموه * (إلا قليلا منكم) * وهم الذين أسلموا منهم * (وأنتم معرضون) * عادتكم الإعراض عن المواثيق. (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 162، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 159. (2) راجع معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 1 ص 162، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 90. (3) البيت لطرفة بن العبد، وعجزه: وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي ؟ راجع ديوانه: ص 31، وخزانة الأدب: ج 1 ص 119 و 463، وج 8 ص 507 و 579. (4) بفتح الحاء والسين وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب والمفضل وخلف والأعمش. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 162، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 250، والتيسير في القراءات للداني: ص 74، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 316، وتفسير البغوي: ج 1 ص 90، والبحر المحيط: ج 1 ص 284. (5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع والحسن وابي وطلحة بن مصرف. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 162، والبحر المحيط: ج 1 ص 285. (6) الكافي: ج 2 ص 165 ح 10. (*)
[ 123 ]
* (وإذ أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من ديركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) * (84) * (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم) * أي: لا يفعل ذلك بعضكم ببعض، جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا، وقيل: المعنى فيه أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه (1) * (ثم أقررتم) * بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه * (وأنتم تشهدون) * عليها، وقيل: أنتم تشهدون اليوم يا معاشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق (2). * (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم والعدوا ن وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذا لك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغفل عما تعملون) * (85) * (ثم أنتم هؤلاء) * استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم، يعني: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني: أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به، وقوله: * (تقتلون) * بيان لقوله: * (ثم أنتم هؤلاء) *، وقيل: * (هؤلاء) * موصول بمعنى " الذين " (3). وقرئ: (1) ذكره الرازي في تفسيره: ج 3 ص 171. (2) حكاه الزمخشري في تفسيره: ج 1 ص 160، والبغوي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 90. (3) قاله الزمخشري في تفسيره: ج 1 ص 160، والرازي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 172. (*)
[ 124 ]
* (تظهرون) * بحذف التاء (1) و " تظاهرون " بإدغامها (2)، والأصل تتظاهرون، أي: تتعاونون عليهم * (وإن يأتوكم أسرى) * وقرئ: " أسرى " (3) * (تفدوهم) * أي: وأنتم مع قتلكم من تقتلون منهم إذا وجدتموه (4) أسيرا في أيدي غيركم فديتموهم، وقتلكم وإخراجكم إياهم من ديارهم حرام عليكم كما أن تركهم أسارى في أيدي غيركم حرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم ؟ ! وقرئ: * (تفدوهم) * لأن الفعل بين اثنين، و * (هو) * ضمير الشأن و * (محرم عليكم إخراجهم) * خبره، ويجوز أن يكون مبهما تفسيره * (إخراجهم) *، * (أفتؤمنون ببعض الكتب) * أي: بالفداء * (وتكفرون ببعض) * أي: بالقتال والإجلاء، وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا حلفاء الخزرج، فكان كل فريق منهم يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خربوا ديارهم سورة البقرة / 86 و 87 وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين فدوه. والخزي: قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: الجزية (5) * (ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب) * الذي أعده الله لأعدائه، وقرئ: " تردون " (6) و " يعملون " بالتاء والياء (7). (1) قرأه الكوفيون. راجع التذكرة في القراءات السبعة لابن غلبون: ج 2 ص 317، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 163، والبحر المحيط: ج 1 ص 291. (2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. راجع التبيان: ج 1 ص 334، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 163، والبحر المحيط: ج 1 ص 291. (3) قرأه حمزة والحسن وابن وثاب وطلحة وابن أبي اسحاق وعيسى والأعمش والنخعي. انظر الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 109، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 317، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 291. (4) في نسخة: وجدتموهم. (5) حكاه الرازي في تفسيره: ج 3 ص 174 عن الحسن. (6) وهي قراءة عبد الرحمن السلمي كما نسبه إليه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 15، وزاد في البحر المحيط: ج 1 ص 294: ابن هرمز. (7) قرأه الحرميان وأبو بكر والمفضل ويعقوب وخلف. راجع التذكرة في القراءات لابن = (*)
[ 125 ]
* (أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) * (86) أي: رضوا ب * (الحيوة الدنيا) * عوضا من نعيم الآخرة * (فلا يخفف عنهم) * عذاب الدنيا بنقصان الجزية وكذلك عذاب الآخرة * (ولا هم ينصرون) * أي: لا ينصرهم أحد بالدفع عنهم. * (ولقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * (87) * (الكتب) * التوراة، آتاه إياها جملة واحدة * (وقفينا) * أي: أتبعنا، من القفا، وقفاه به: أتبعه إياه، أي: أرسلنا على إثره كثيرا من الرسل، كقوله: * (ثم أرسلنا رسلنا تترا) * (1)، و * (عيسى) * بالسريانية: أيشوع، و * (مريم) * بمعنى الخادم * (البينت) * المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والإخبار بالمغيبات * (وأيدنه بروح القدس) * بالروح المقدسة، كما يقال: حاتم الجود، لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل: بجبرئيل (2)، وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره (3). = غلبون: ج 2 ص 317، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 252 - 253، والبحر المحيط: ج 1 ص 294. (1) المؤمنون: 44. (2) وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي والضحاك. راجع تفسير ابن عباس: ص 13، وتفسير الحسن البصري: ج 1 ص 107، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 156، والتبيان: ج 1 ص 340 وقال: وهو أقوى الأقوال. (3) قاله الضحاك عن ابن عباس كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 1 ص 340، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 156. (*)
[ 126 ]
والمعنى: * (ولقد ءاتينا) * يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم * (أفكلما جاءكم رسول) * منهم بالحق * (استكبرتم) * عن الإيمان به، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم، ثم وبخهم على ذلك، ودخول الفاء لعطفه على المقدر، ولم يقل: وفريقا قتلتم لأنه أريد الحال الماضية، لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب. * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) * (88) * (قلوبنا غلف) * جمع أغلف، أي: هي خلقت مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) ولا تفقهه (1)، مستعار من الأغلف الذي لم يختن، كقولهم: * (قلوبنا في أكنة) * (2)، ثم رد الله عليهم بقوله: * (بل لعنهم الله بكفرهم) * أي: ليس ذلك كما زعموا: أن قلوبهم خلقت كذلك، لأنها خلقت على الفطرة، لكن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم من رحمته * (فقليلا ما يؤمنون) * فإيمانا قليلا يؤمنون، و * (ما) * مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب، ويجوز أن يكون القلة بمعنى العدم. * (ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكفرين) * (89) سورة البقرة / 90 و 91 * (كتب من عند الله) * هو القرآن * (مصدق لما معهم) * من الكتب المنزلة: التوراة والإنجيل وغيرهما، لا يخالفها، وجواب * (لما) * محذوف وهو نحو كذبوا (1) في نسخة: تفهمه. (2) فصلت: 5. (*)
[ 127 ]
به وما أشبهه (1)، وقيل: إن قوله: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * في موضع جواب * (لما) * الأول وكرر " لما " لطول الكلام (2)، وقيل: إن جواب الثاني أغنى عن جواب الأول (3) * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) * يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، وكانوا يقولون: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم (4) * (فلما جاءهم ما عرفوا) * من الحق * (كفروا به) * بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة * (فلعنة الله) * أي: غضبه وعذابه * (على الكفرين) * أي: عليهم وضع الظاهر موضع الضمير (5). * (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين (90) وإذا قيل لهم ءامنوا بمآ أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) * (91) " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل " بئس "، أي: بئس شيئا * (اشتروا به (1) وهو قول الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 319، والزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 171، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 164. (2) حكاه الرازي في تفسيره: ج 3 ص 180 ونسبه الى المبرد. (3) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 59، وعنه الرازي في تفسيره: ج 3 ص 180. (4) اختلفوا في إرم عاد، فقال بعضهم: هو اسم قبيلة، وقال آخر: هو اسم مدينة، ثم اختلفوا فيها، فمنهم من قال: هي أرض كانت فاندرست، ومنهم من قال: هي الاسكندرية وإليه ذهب الزمخشري، ومنهم من قال: هي دمشق، وروى آخرون: هي مدينة باليمن بين حضرموت وصنعاء بناها شداد بن عاد. (معجم البلدان: ج 1 ص 212). (5) في نسخة: المضمر. (*)
[ 128 ]
أنفسهم) * والمخصوص بالذم * (أن يكفروا) * واشتروا بمعنى باعوا * (بغيا) * أي: حسدا وطلبا لما ليس لهم، وهو مفعول له * (أن ينزل الله من فضله) * أي: على أن ينزل الله من فضله الذي هو الوحي والنبوة * (على من يشآء من عباده) * ويقتضي حكمته إرساله * (فبآءو بغضب على غضب) * فصاروا أحقاء لغضب متوال، لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه، وقيل: بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) بعد عيسى (عليه السلام) (1)، وقوله: * (بمآ أنزل الله) * مطلق في كل كتاب أنزله الله، وقوله: * (بمآ أنزل علينا) * مقيد بالتوراة * (ويكفرون بما وراءه) * أي: قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة * (وهو الحق مصدقا لما معهم) * منها غير مخالف له، وفيه رد لمقالتهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها * (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) * اعتراض (2) عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة، والتوراة لا ترخص في قتل الأنبياء. * (ولقد جاءكم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون) * (92) يعني: * (جاءكم موسى) * بالمعجزات الدالة على صدقه * (ثم اتخذتم العجل) * إلها معبودا من بعد مجيئه، أو من بعد موسى لما مضى إلى ميقات ربه * (وأنتم ظلمون) * وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها، فتكون الجملة حالا أو تكون اعتراضا بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم. سورة البقرة / 93 و 94 * (وإذ أخذنا ميثقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتينكم بقوة (1) نسبه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 137 الى مقاتل. (2) في بعض النسخ: اعترض. (*)
[ 129 ]
واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين) * (93) كرر سبحانه ذكر * (الطور) * ورفعه فوقهم، لما في الثانية من الزيادة غير المذكورة في الأولى مع ما فيه من التوكيد * (واسمعوا) * لما أمرتم به في التوراة * (قالوا سمعنا) * قولك * (وعصينا) * أمرك * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * أي: تغلغل في بواطنهم وتداخلها حب العجل والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ، وقوله: * (في قلوبهم) * بيان لمكان الإشراب، كقوله: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (1)، * (بكفرهم) * أي: بسبب كفرهم * (قل بئسما يأمركم به إيمنكم) * بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب: * (أصلوتك تأمرك) * (2)، وكذلك إضافة الإيمان إليهم، وقوله: * (إن كنتم مؤمنين) * تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له. * (قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين) * (94) * (خالصة) * نصب على الحال من * (الدار الاخرة) * والمراد الجنة، أي: خالصة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق كما تزعمون في قولكم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * (3)، و * (الناس) * للجنس، وقيل: للعهد وهم المسلمون (4) * (فتمنوا الموت) * لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة (1) النساء: 10. (2) هود: 87. (3) البقرة: 111. (4) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 161 عن ابن عباس، وانظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 342. (*)
[ 130 ]
الوصول إلى نعيمها، كما روي: أن عليا (عليه السلام) كان يطوف بين الصفين بصفين في غلالة، فقال له ابنه الحسن (عليه السلام): ماهذا بزي المحاربين، فقال: يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت (1). ويروى: أن حبيب بن مظاهر (2) ضحك يوم الطف، فقيل له في ذلك، فقال: وأي موضع أحق بالسرور من هذا الموضع ؟ ! والله ما هو إلا أن يقبل علينا هؤلاء القوم (3) بسيوفهم فنعانق الحور العين (4). * (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين) * (95) هذا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، وفي الحديث: " لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي على وجه الأرض يهودي " (5)، * (بما قدمت أيديهم) * أي: بما أسلفوا من موجبات النار من تحريف كتاب الله والكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك من أنواع الكفر، والتمني: قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا * (والله عليم بالظلمين) * تهديد لهم. سورة البقرة / 96 * (ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود (1) رواها في الكشاف: ج 1 ص 166، وأوردها في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 164. (2) أبو القاسم حبيب بن مظهر أو مظاهر بن رئاب ابن الاشتر الأسدي الكندي ثم الفقعسي. وكان ذا جمال وكمال، وفي وقعة كربلاء كان عمره 75 سنة، وكان يحفظ القرآن كله، ويختمه في كل ليلة من بعد صلاة العشاء الى طلوع الفجر، قال أهل السير: إن حبيبا نزل الكوفة وصحب عليا (عليه السلام) في حروبه كلها، وكان من خاصته وحملة علومه، استشهد مع الحسين (عليه السلام) في كربلاء سنة 61 ه. (أعيان الشيعة: ج 4 ص 554). (3) في نسخة: الطغام. (4) رجال الكشي: ص 79، سفينة البحار: ج 1 ص 203 - 204. (5) رواه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 95 عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله)، ونقله في الكشاف: ج 1 ص 167 مرفوعا. (*)
[ 131 ]
أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) * (96) هو من وجدت بمعنى علمت في قولهم: وجدت زيدا ذا الحفاظ، ومفعولاه " هم " و * (أحرص الناس) *، ونكر * (حيوة) * لأنه أراد على حياة مخصوصة متطاولة * (ومن الذين أشركوا) * محمول على المعنى، لأن معنى * (أحرص الناس) * أحرص من الناس، وجاز ذلك وإن دخل الذين أشركوا تحت الناس لأنهم أفردوا بالذكر من جهة أن حرصهم أشد، ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة * (أحرص الناس) * عليه، وفيه توبيخ شديد لأن حرص المشركين على الحياة غير مستبعد لأنها جنتهم ولم يؤمنوا بعاقبة، فإذا زادوا عليهم في الحرص وهم مقرون بالجزاء كانوا أحقاء بأعظم التوبيخ، وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم: عش ألف نيروز (1)، وقيل: * (ومن الذين أشركوا) * كلام مبتدأ، أي: ومنهم ناس يود أحدهم، على حذف الموصوف، كقوله: * (ومامنآ إلا له مقام معلوم) * (2) (3)، والضمير في * (وما هو) * لأحدهم، و * (أن يعمر) * فاعل ل " مزحزحه "، أي: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، وقيل: الضمير لما دل عليه يعمر من مصدره و * (أن يعمر) * بدل منه (4)، ويجوز أن يكون * (هو) * مبهما و * (أن يعمر) * مبينه، والزحزحة: التنحية والتبعيد، وقوله: * (لو يعمر) * في معنى التمني، وكان القياس: لو أعمر إلا أنه أجري على لفظ الغيبة لقوله: * (يود أحدهم) * كقولك: حلف بالله ليفعلن، فقوله: * (لو يعمر) * (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 168 عن ابن عباس، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 96 عن أبي العالية والربيع. (2) الصافات: 164. (3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 168، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 96. (4) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 343 - 344. (*)
[ 132 ]
حكاية لودادتهم. * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكبل فإن الله عدو للكفرين) * (98) روي: أن عبد الله بن صوريا - وهو من أحبار فدك - سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبرئيل، فقال: ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك، فنزلت (1) جوابا لقوله وردا عليه * (قل) * يا محمد: * (من) * عادى جبرئيل من أهل الكتاب * (فإنه) * نزل القرآن، أضمر ما لم يسبق ذكره، وفيه فخامة لشأنه، إذ جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه * (على قلبك) * أي: حفظه إياك وفهمكه بإذن الله، أي: بتيسيره وتسهيله، والمعنى: أنه لا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا * (مصدقا لما بين يديه) * من الكتب فيكون مصدقا لكتابهم، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحح الكتاب المنزل عليهم * (وهدى وبشرى) * أي: وهاديا ومبشرا * (للمؤمنين) * بالنعيم الدائم، وإنما أعاد ذكر جبرئيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لفضلهما، فأفردهما بالذكر كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر: أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. الصادق (عليه السلام) كان يقرأ جبريل وميكال بغير همزة. سورة البقرة / 99 - 101 * (فإن الله عدو للكفرين) * أراد عدو لهم، وضع الظاهر موضع الضمير ليدل (1) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 33، وتفسير البغوي: ج 1 ص 96، والكشاف: ج 1 ص 169، قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: ص 9 ما لفظه: ذكره الثعلبي والواحدي والبغوي فقالوا: روى ابن عباس أن حبرا...، ولم أقف له على سند ولعله من تفسير الكلبي عن أبي صالح. (*)
[ 133 ]
على أنه سبحانه إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. * (ولقد أنزلنا إليك ءايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون (99) أوكلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) * (100) * (ءايت) * أي: معجزات ظاهرات واضحات * (وما يكفر بها إلا) * المتمردون من الكفرة، وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره (1)، واللام في * (الفسقون) * للجنس، والأولى أن يكون إشارة إلى أهل الكتاب * (أو كلما) * الواو للعطف على محذوف، معناه: * (أ) * كفروا بالآيات البينات * (وكلما عهدوا) * واليهود موصوفون بنقض العهد (2) قال سبحانه: * (الذين عهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة) * (3)، والنبذ: الرمي بالشئ ورفضه، وقال: * (فريق منهم) * لأن منهم من لم ينقض * (بل أكثرهم لا يؤمنون) * بالتوراة وليسوا من الدين في شئ، فلا يبالون بنقض الميثاق ولا يعدونه ذنبا. * (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) * (101) * (كتب الله) * يعني: التوراة، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لها كافرون بها نابذون لها، أو يريد القرآن نبذوه بعد أن لزمهم أن يتلقوه بالقبول، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، يعني: أنهم يعلمون ذلك ولكنهم يكابرون ويعاندون، ونبذوه * (وراء ظهورهم) * مثل لتركهم وإعراضهم عنه. (1) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 171. (2) في بعض النسخ: العهود. (3) الأنفال: 56. (*)
[ 134 ]
* (واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمن وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هروت ومروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتريه ماله في الاخرة من خلق ولبئس ماشروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) * (102) سورة البقرة / 103 المعنى: أن هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب الله * (واتبعوا ما تتلوا الشيطين) * أي: واتبعوا كتب السحر التي كانت تقرأها الشياطين على عهد ملك سليمان وفي زمانه، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وبه يسخر الجن والإنس والريح * (وما كفر سليمن) * هذا تكذيب للشياطين ودفع لما بهتوه به من العمل بالسحر وسماه كفرا * (ولكن الشيطين) * هم الذين * (كفروا) * باستعمال السحر وتدوينه في كتب يقرؤونها ويعلمونها * (الناس) * يقصدون بذلك إغواءهم * (وما أنزل على الملكين) * (1)، قيل: هو عطف على * (ما تتلوا) * أي: واتبعوا ما أنزل على الملكين (2)، * (ببابل هروت ومروت) * (3) عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما علم السحر ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به كان (1) في نسخة زيادة: عطف على السحر، أي يعلمونهم ما انزل على الملكين و. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 183. (3) بابل بكسر الباء: اسم ناحية الكوفة والحلة، وقيل: بابل العراق، وقيل: أول من سكنها نوح (عليه السلام)، وهو أول من عمرها، وكان قد نزلها بعقب الطوفان، فسار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الدفء فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح (عليه السلام). (معجم البلدان: ج 1 ص 447). (*)
[ 135 ]
كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه لأن لا يعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمنا، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر * (فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى) * (1) * (وما يعلمان من أحد) * أي: وما يعلم الملكان أحدا * (حتى) * ينبهاه و * (يقولا) * له * (إنما نحن فتنة) * أي: ابتلاء واختبار من الله * (فلا تكفر) * أي: فلا تتعلم معتقدا أنه حق فتكفر * (فيتعلمون) * الضمير لما دل عليه من أحد، أي: فيتعلم الناس من الملكين * (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * أي: علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك (2) والنشوز والخلاف ابتلاء منه * (وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * لأنه ربما يحدث الله عنده فعلا من أفعاله وربما لم يحدث * (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) * لأنهم يقصدون به الشر * (ولقد علموا) * أي: علم هؤلاء اليهود * (لمن اشتريه) * أي: استبدل * (ما تتلوا الشيطين) * على كتاب الله * (ماله في الاخرة من خلق) * أي: نصيب * (ولبئس ماشروا به أنفسهم) * أي: باعوها * (لو كانوا يعلمون) * أي: يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا كأنهم لم يعلموا. * (ولو أنهم ءامنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) * (103) يريد * (ولو أنهم ءامنوا) * برسول الله * (واتقوا) * الله فتركوا ماهم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين * (لمثوبة من عند الله خير) * أي: * (لو كانوا يعلمون) * أن ثواب الله خير مما هم فيه، وقد علموا ولكنه سبحانه جهلهم لتركهم (1) البقرة: 249. (2) الفرك - بالكسر والفتح - البغضة عامة، أو خاص ببغضة الزوجين. (القاموس المحيط: مادة فرك). (*)
[ 136 ]
العمل بالعلم. وجواب * (لو) * قوله: * (لمثوبة من عند الله خير) *، وإنما أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، والمعنى: لشئ من الثواب خير لهم، وقيل: إن جواب * (لو) * محذوف يدل الكلام عليه أي: لاثيبوا (1). * (يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا را عنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكفرين عذاب أليم) * (104) كان المسلمون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا ألقى إليهم شيئا من العلم: * (را عنا) * يا رسول الله، أي: راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها وهي " راعينا "، فلما سمعوا بقول المسلمين: * (را عنا) * افترصوه (2) وخاطبوا الرسول به وهم يعنون تلك اللفظة عندهم، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو * (انظرنا) * من نظره: إذا انتظره * (واسمعوا) * وأحسنوا سماع ما يكلمكم به النبي (صلى الله عليه وآله) بآذان (3) واعية حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة (4) وطلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن مثل سماع اليهود حيث قالوا: * (سمعنا وعصينا) * (5)، * (وللكفرين) * أي: ولليهود الذين سبوا رسول الله * (عذاب) * مؤلم. سورة البقرة / 105 - 107 * (مايود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 187، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 174. (2) افترص فلانا ظلما: اقتطعه، أي: تمكن بالوقيعة في عرضه. (أقرب الموارد). (3) في بعض النسخ: باذن. (4) في نسخة: الاستعانة. (5) البقرة: 93، النساء: 46. (*)
[ 137 ]
عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) * (105) * (من) * الأولى للبيان، لأن * (الذين كفروا) * جنس تحته نوعان: * (أهل الكتب) * والمشركون، والثانية مزيدة للاستغراق، والثالثة لابتداء الغاية. والخير: الوحي، وكذلك الرحمة كقوله: * (أهم يقسمون رحمت ربك) * (1) والمعنى: أن اليهود والمشركين يرون أنفسهم أحق بالوحي فيحسدونكم، وما يحبون * (أن ينزل عليكم) * شئ من الوحي * (والله يختص) * بالنبوة * (من يشآء) * ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة * (والله ذو الفضل العظيم) * إيذان بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم، كقوله: * (إن فضله كان عليك كبيرا) * (2). * (ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منهآ أو مثلهآ ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السموا ت والارض ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير) * (107) نسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها، وإنساخها: الأمر بنسخها، ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل، وإنساؤها: أن يذهب بحفظها عن القلوب، والمعنى: أن كل * (ءاية) * نذهب بها على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا، أو من إزالة أحدهما إلى بدل، أولا إلى بدل * (نأت بخير منهآ) * للعباد، أي: بآية العمل بها أحوز للثواب * (أو مثلهآ) * في ذلك الثواب * (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) * فهو يقدر على الخير وما هو خير منه وعلى مثله في ذلك و * (أن الله له ملك السموا ت والارض) * فهو يملك تدبيركم ويجريه على حسب (1) الزخرف: 32. (2) الاسراء: 87. (*)
[ 138 ]
مصالحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم (1) به من ناسخ ومنسوخ * (ومالكم) * سوى * (الله من ولى) * يقوم بأموركم * (ولا نصير) * أي: ناصر ينصركم. * (أم تريدون أن تسلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمن فقد ضل سوآء السبيل) * (108) لما بين سبحانه أنه مدبر أمورهم أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به، وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحته آباء اليهود على موسى من الأشياء التي كانت عقباها وبالا عليهم، كقولهم: * (أرنا الله جهرة) * (2) وغير ذلك * (ومن يتبدل الكفر بالايمن) * بأن ترك الثقة بالآيات وشك فيها واقترح غيرها * (فقد ضل سوآء السبيل) * أي: ذهب عن قصد الطريق واستقامته. * (ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير) * (109) سورة البقرة / 110 - 112 معناه: تمنى * (كثير من أهل الكتب) * كحي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما * (لو يردونكم) * على معنى: أن يردوكم يا معشر المؤمنين، أي: يرجعوكم * (من بعد إيمنكم كفارا حسدا) * منهم لكم بما أعد الله لكم من الثواب والفضل، وانتصب * (حسدا) * بأنه مفعول له، وتعلق قوله: * (من عند أنفسهم) * ب * (ود) * أي: ودوا ذلك وتمنوه من قبل أنفسهم وشهواتهم لا من قبل الميل مع الحق، لأنهم ودوا ذلك * (من بعد ما تبين لهم) * أنكم على * (الحق) * فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق ؟ ! ويجوز أن يتعلق ب * (حسدا) * أي: حسدا من أصل نفوسهم فيكون (1) في نسخة: يتعبد. (2) النساء: 153. (*)
[ 139 ]
على طريق التوكيد * (فاعفوا واصفحوا) * أي: فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة * (حتى يأتي الله بأمره) * الذي هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم * (إن الله على كل شئ قدير) * فهو يقدر على الانتقام منهم. * (وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) * (110) لما أمر سبحانه المسلمين بالصفح عنهم عقبه بالأمر بالصلاة والزكاة ليستعينوا بهما على ما شق عليهم من شدة عداوة اليهود لهم كما قال: * (واستعينوا بالصبر والصلوة) * (1)، * (وما تقدموا... من خير) * من صلاة أو صدقة أو غيرهما من الطاعات تجدوا ثوابه * (عند الله إن الله بما تعملون بصير) * عالم لا يضيع عنده عمل عامل. * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى تلك أمانيهم قل هاتوا برهنكم إن كنتم صدقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (112) الضمير في * (قالوا) * لأهل الكتاب، والمعنى: وقالت اليهود: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان * (نصرى) * فلف بين القولين، ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله، وأمنا من الالتباس لما علم من الخلاف بين الفريقين، ونحوه قوله: * (وقالوا كونوا هودا أو نصرى) * (2). والهود جمع الهائد، ووحد اسم " كان " حملا على لفظ " من " في قوله: * (من كان هودا) * (1) البقرة: 45. (2) البقرة: 135. (*)
[ 140 ]
وجمع خبره حملا على معناه * (تلك أمانيهم) * إشارة إلى أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا (1)، و (2) أمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الكاذبة أمانيهم * (قل هاتوا برهنكم) * أي: حجتكم * (إن كنتم صدقين) * في قولكم: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى) *، وفي هذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو باطل، وهات بمعنى أحضر * (بلى) * إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة * (من أسلم وجهه لله) * أي: من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره * (وهو محسن) * في عمله * (فله أجره) * الذي يستوجبه، ويجوز أن يكون * (من أسلم) * مبتدأ ويكون * (من) * متضمنا معنى الشرط وجوابه * (فله أجره) *، ويجوز أن يكون فاعلا لفعل محذوف، أي: * (بلى) * يدخلها * (من أسلم) * ويكون * (فله أجره) * معطوفا على يدخلها * (من أسلم) *. * (وقالت اليهود ليست النصرى على شئ وقالت النصرى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتب كذا لك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون) * (113) سورة البقرة / 114 * (على شئ) * مبالغة عظيمة، أي: ليسوا على شئ يصح ويعتد به، كقولهم: أقل من لا شئ * (وهم يتلون الكتب) * الواو للحال والكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب * (كذا لك) * أي: مثل ذلك الذي سمعت به وعلى ذلك المنهاج * (قال) * الجهلة * (الذين) * لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأوثان والدهرية ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شئ، وهذا توبيخ لهم حيث نظموا نفوسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم * (فالله يحكم) * بين (1) في بعض النسخ زيادة: حسدا. (2) في نسخة: أو. (*)
[ 141 ]
اليهود والنصارى * (يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون) * فيريهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار عيانا. * (ومن أظلم ممن منع مسجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابهآ أولئك ماكان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم) * (114) * (أن يذكر) * في موضع النصب بأنه المفعول الثاني ل * (منع) *، تقول: منعته كذا، ومثله * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * (1)، ويجوز أن يكون منصوبا بأنه مفعول له بمعنى: منعها كراهة أن يذكر، وهو حكم عام في جنس * (مسجد الله) * وأن مانعها من ذكر الله في غاية الظلم. وروي عن الصادق (عليه السلام): " أن المراد بذلك قريش حين منعوا رسول الله دخول مكة والمسجد الحرام " (2)، وبه قال بعض المفسرين (3). وقال بعضهم: إنهم الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه إلى أن أظهر الله المسلمين عليهم في أيام عمر (4) فصاروا لا يدخلونها * (إلا خائفين) * يتهيبون المؤمنين أن يبطشوا بهم. وعلى القول الأول فقد روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر أن ينادى: ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان (5)، فالمعنى: * (أولئك) * المانعون (ماكان لهم) * في حكم الله * (أن) * يدخلوا مساجد الله * (إلا خائفين) *، لأن الله (1) الاسراء: 94. (2) أوردها في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 189. (3) كابن زيد والبلخي والجبائي والرماني. انظر التبيان: ج 1 ص 416. (4) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 74، وحكاه الشيخ في التبيان: ج 1 ص 416 عن ابن عباس ومجاهد. (5) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 180. (*)
[ 142 ]
تعالى قد حكم وكتب في اللوح أنه يعز الدين، وينصر عليهم المؤمنين * (لهم في الدنيا خزى) * أي: قتل وسبي أو ذلة بضرب الجزية عليهم، وقيل: بفتح مدائنهم قسطنطينية ورومية عند قيام المهدي (عليه السلام) (1) * (ولهم في الاخرة عذاب عظيم) * في نار جهنم. * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله وا سع عليم) * (115) * (ولله) * بلاد * (المشرق والمغرب) * والأرض كلها هو مالكها * (فأينما تولوا) * أي: ففي أي مكان فعلتم التولية، يعني: تولية وجوهكم شطر القبلة، بدليل قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * الآية (2)، * (فثم وجه الله) * أي: جهته التي أمر بها ورضيها، والمعنى: أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام فقد جعلت لكم الأرض مسجدا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإن التولية لا تختص بمسجد دون مسجد * (إن الله وا سع) * الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم * (عليم) * بمصالحهم، وقيل: إنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة للمسافر أينما توجهت (3)، وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (4). سورة البقرة / 116 - 118 * (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه بل له ما في السموا ت والارض كل له قنتون (116) بديع السموا ت والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول (1) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 190 عن السدي، وراجع تفسير السمرقندي: ج 1 ص 151، والماوردي: ج 1 ص 175. (2) البقرة: 144. (3) وهو قول عمر وابنه عبد الله. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 175، وأسباب النزول للواحدي: ص 38 - 39. (4) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 ص 191. (*)
[ 143 ]
له كن فيكون) * (117) ثم رد الله على اليهود والنصارى قولهم: * (اتخذ الله ولدا) * وهم الذين قالوا: " المسيح ابن الله " و " عزير ابن الله "، وعلى من قال: " الملائكة بنات الله "، * (سبحنه) * تنزيه له عن ذلك وتبعيد * (بل له ما في السموا ت والارض) * وهو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح * (كل له قنتون) * مطيعون منقادون لا يمتنع شئ منهم عن تقديره وتكوينه ومشيته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس له تعالى، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد، والتنوين في * (كل) * عوض من المضاف إليه، أي: كل من في السماوات والأرض، وجاء بلفظة " ما " دون " من " كقوله (1): سبحان ما سخركن لنا. ويقال: بدع الشئ فهو بديع، و * (بديع السموا ت) * من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي: بديع سماواته وأرضه، وقيل: هو بمعنى المبدع (2). وقوله: * (كن فيكون) * أي: احدث فيحدث، وهو من " كان " التامة، وهذا تمثيل ولا قول هناك، والمعنى: أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع إذا أمر لا يتوقف، (3) أكد بهذا استبعاد الولادة، لأن من كانت هذه صفته في كمال القدرة فحاله مباينة لحال الأجسام في توالدها. * (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا ءاية كذا لك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشبهت قلوبهم قد بينا الايت لقوم يوقنون) * (118) (1) في نسخة: كقولهم. (2) قاله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 178. (3) في نسخة زيادة: فقد. (*)
[ 144 ]
أي: * (وقال) * الجاهلون من المشركين، وقيل: من أهل الكتاب (1)، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به * (لولا يكلمنا الله) * أي: هلا يكلمنا (2) كما يكلم الملائكة وكلم موسى، استكبارا منهم وعتوا * (أو تأتينا ءاية) * هذا جحود منهم لأن يكون ما آتاهم من آيات الله آيات * (كذا لك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) * حيث اقترحوا الآيات على موسى (عليه السلام) * (تشبهت قلوبهم) * أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله سبحانه: * (أتواصوا به) * (3)، * (قد بينا الايت لقوم) * ينصفون ف * (يوقنون) * أنها آيات يجب الاعتراف بها والاكتفاء بوجودها عن غيرها. * (إنآ أرسلنك بالحق بشيرا ونذيرا ولاتسل عن أصحب الجحيم (119) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير) * (120) سورة البقرة / 121 - 123 * (إنآ أرسلنك) * لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية له (عليه السلام) لئلا يضيق صدره بإصرارهم على الكفر، ولا نسألك * (عن أصحب الجحيم) * مالهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت واجتهدت في الدعوة، وأما قراءة نافع: " ولا تسأل " (4) فهو على النهي، وقيل: إن معناه تفخيم الشأن (5) كما يقول القائل: لا تسأل عن حال فلان، أي: قد صار إلى أكثر مما تريده، أو أنت لا تستطيع استماع (1) وهو قول ابن عباس ومجاهد. انظر تفسير الماوردي: ج 1 ص 180. (2) في نسخة زيادة: الله. (3) الذاريات: 53. (4) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 169، إعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 209، والتيسير في القراءات للداني: ص 76، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 262، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 368. (5) قاله الأخفش كما حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 1 ص 438. (*)
[ 145 ]
خبره، وكان اليهود قالوا: لن نرضى عنك وإن طلبت رضانا جهدك (1) حتى تتبع ملتنا، فحكى الله كلامهم، ولذلك قال: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * جوابا لهم عن قولهم، يعني: أن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى الحق والذي يصح أن يسمى هدى * (ولئن اتبعت) * أقوالهم التي هي أهواء وبدع * (بعد الذى جاءك من العلم) * أي: من الدين المعلوم صحته بالدلائل والبراهين. * (الذين ءاتينهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخسرون) * (121) يعني: * (الذين) * آمنوا من جملة أهل الكتاب * (يتلونه حق تلاوته) * لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله). الصادق (عليه السلام) قال: " إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الأولى ويستعيذ في الاخرى " (2). * (أولئك يؤمنون) * بكتابهم دون المحرفين * (ومن يكفر به) * من المحرفين * (فأولئك هم الخسرون) * حيث اشتروا الضلالة بالهدى. * (يبنى إسرا ءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين (122) واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولا هم ينصرون) * (123) قد تقدم مثل الآيتين (3)، ولما بعد مابين الكلامين حسن الإعادة والتكرير إبلاغا في التنبيه والاحتجاج، وتأكيدا للتذكير. (1) في نسخة: بجهدك. (2) تفسير العياشي: ج 1 ص 57 ح 84، وعنه البرهان: ج 1 ص 147 ح 3. (3) في ص 60، فراجع. (*)
[ 146 ]
* (وإذ ابتلى إبرا هيم ربه بكلمت فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظلمين) * (124) العامل في " إذ " مضمر نحو " اذكر "، * (وإذ ابتلى إبرا هيم) * أي: اختبر إبراهيم * (ربه بكلمت) * بأوامر ونواه، واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين: ما يريده الله وما يشتهيه العبد، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك * (فأتمهن) * أي: فقام بهن حق القيام وأداهن حق التأدية من غير تفريط وتقصير، أو يكون تقديره: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات كان كيت وكيت، ويجوز أن يكون العامل في " إذ " قوله: * (قال إنى جاعلك) *، ويكون على القول الأول قد استؤنف الكلام، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات ؟ فقيل: * (قال إنى جاعلك للناس إماما) *، وعلى الثاني هي جملة معطوفة على ما قبلها، أو يكون بيانا وتفسيرا لقوله: * (ابتلى) *. سورة البقرة / 125 ويراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة. وقيل في " الكلمات ": هي خمس في الرأس: الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق، وخمس في البدن: الختان والاستحداد (1) والاستنجاء وتقليم الأظفار ونتف الإبط (2). وقيل: هي ثلاثون خصلة من شرائع الإسلام: عشر في " البراءة ": * (التئبون العبدون) * (3) وعشر في " الأحزاب ": * (إن المسلمين والمسلمت) * (4) وعشر في " المؤمنون " (5) و " سأل سائل " إلى قوله: " والذين هم على صلاتهم (1) الاستحداد: الاحتلاق بالحديد. (القاموس المحيط: مادة حدد). (2) نسبه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 183 الى ابن عباس وقتادة، وفي تفسير البغوي: ج 1 ص 111: هو قول ابن طاووس عن ابن عباس. (3) الآية: 112. (4) الآية: 35. (5) المؤمنون: 9. (*)
[ 147 ]
يحافظون " (1) (2). وقيل: هي مناسك الحج (3)، وقيل: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه وهي أسماء محمد وأهل بيته عليه وعليهم السلام، عن الصادق (عليه السلام) (4). والإمام اسم من يؤتم به، جعله سبحانه إماما يأتمون به في دينهم ويقوم بتدبيرهم وسياسة أمورهم، وقوله: * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي ؟ كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا ؟ * (قال لا ينال عهدي الظلمين) * أي: من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من لا يفعل ظلما، وهذا يدل على وجوب العصمة للإمام، لأن من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره. * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبرا هيم مصلى وعهدنا إلى إبرا هيم وإسمعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعكفين والركع السجود) * (125) * (البيت) * اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا * (مثابة للناس) * مرجعا يثاب إليه كل عام * (وأمنا) * موضع أمن كقوله: * (حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم) * (5)، ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج * (واتخذوا) * على إرادة القول، أي: وقلنا لهم: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، و * (مقام إبرا هيم) * الموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع إبراهيم (عليه السلام) عليه قدميه، أمرنا (1) المعارج: 34. (2) قاله ابن عباس على ما حكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 111. (3) وهو قول الربيع وقتادة. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 112. (4) رواه الصدوق عنه (عليه السلام) في الخصال: ص 305 ح 84. (5) العنكبوت: 67. (*)
[ 148 ]
بالصلاة عنده بعد الطواف، وقرئ: " واتخذوا " بلفظ الماضي (1) عطفا على * (جعلنا) * أي: واتخذ الناس * (من مقام إبرا هيم) * موضع صلاة. ومن قرأ: * (واتخذوا) * على الأمر وقف على قوله: * (وأمنا) *، ومن قرأ: " واتخذوا " على الخبر لم يقف، لأن قوله: " واتخذوا " عطف على * (جعلنا) * (2). * (وعهدنا إلى إبرا هيم وإسمعيل) * أمرناهما ب * (أن طهرا بيتى) * أو أي طهرا بيتي، فتكون * (أن) * المفسرة التي تكون عبارة عن القول، أي طهراه من الأوثان والخبائث كلها، وأضاف " البيت " إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع * (للطائفين) * أي: للدائرين حوله * (والعكفين) * أي: المجاورين له والمقيمين بحضرته * (والركع السجود) * أي: المصلين عنده، لأن الركوع والسجود من هيئات المصلي. * (وإذ قال إبرا هيم رب اجعل هذا بلدا ءامنا وارزق أهله من الثمرا ت من ءامن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) * (126) سورة البقرة / 127 و 128 أي: * (اجعل هذا) * البلد وهو مكة * (بلدا ءامنا) * ذا أمن، كقوله: * (في عيشة راضية) * (3) أي: ذات رضى، وبلد أهل أي: ذو أهل، أو آمنا يؤمن فيه كقولهم: ليل نائم، أي: ينام فيه * (وارزق أهله) * يعني: وارزق المؤمنين منهم خاصة، لأن قوله: (1) قرأه نافع وابن عامر وشريح والذماري. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 169، والتبيان: ج 1 ص 452، والكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي: ج 1 ص 264، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 384. (2) راجع تفصيل ذلك في كتاب الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 171، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 322. (3) الحاقة: 21. (*)
[ 149 ]
* (من ءامن منهم) * بدل من * (أهله) *، * (ومن كفر) * عطف على * (من ءامن) * كما أن قوله: * (ومن ذريتي) * عطف على الكاف في * (جاعلك) *. وإنما خص إبراهيم (عليه السلام) المؤمنين بالدعاء حتى قال سبحانه: * (ومن كفر) *، لأن الله كان أعلمه أنه يكون في ذريته ظالمون بقوله: * (لا ينال عهدي الظلمين) * فعرفه سبحانه الفرق بين الرزق والإمامة، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن لا يقع منه الظلم بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجة. والمعنى: * (قال) * وأرزق من كفر * (فأمتعه) *، ويجوز أن يكون * (ومن كفر) * مبتدأ متضمنا معنى الشرط و * (فأمتعه) * جوابا للشرط، أي: ومن كفر فأنا أمتعه، وقرئ: " فأمتعه " (1)، * (ثم أضطره) * أي: أدفعه * (إلى عذاب النار) * دفع المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه. * (وإذ يرفع إبرا هيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) * (128) * (يرفع) * حكاية حال ماضية، و * (القواعد) *: جمع القاعدة وهي الأساس لما فوقه، وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة، ورفع القواعد: البناء عليها لأنها إذا بني عليها ارتفعت، ويجوز أن يكون المراد بها سافات (2) البناء لأن كل ساف قاعدة (1) وهي قراءة ابن عباس وابن عامر والمطوعي وشبل وابن محيصن والذماري وشريح. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 322، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 170، والتيسير في القراءات للداني: ص 76، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 384. (2) جمع ساف: وهو كل عرق (أي الصف من الحجر في الحائط) من الحائط. (القاموس المحيط: مادة سوف). (*)
[ 150 ]
لما يبنى عليه ويوضع فوقه، وروي: أن إبراهيم (عليه السلام) كان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة (1) * (ربنا) * أي يقولان: ربنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال * (تقبل منآ) * فيه دلالة على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا، لأنهما التمسا القبول الذي معناه الإثابة، والثواب إنما يطلب على الطاعات * (إنك أنت السميع) * لدعائنا * (العليم) * بنياتنا، وإنما لم يقل: قواعد البيت بل أبهمت * (القواعد) * ثم بينت بعد الإبهام لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين * (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * أي: مخلصين لك أوجهنا من قوله: * (أسلم وجهه لله) * (2) أو مستسلمين لك خاضعين منقادين، ومعناه: زدنا إخلاصا أو خضوعا وإذعانا لك * (ومن ذريتنا) * أي: واجعل من ذريتنا * (أمة مسلمة لك) *، و * (من) * للتبعيض أو للتبيين كقوله: * (وعد الله الذين ءامنوا منكم) * (3)، وروي عن الصادق (عليه السلام): أنه سورة البقرة / 129 - 130 أراد بالأمة بني هاشم خاصة (4)، * (وأرنا مناسكنا) * أي: وعرفنا وبصرنا متعبداتنا في الحج لنقضي عباداتنا على حد ماتوقفنا عليه، وقد قرئ بسكون الراء (5) من * (أرنا) * قياسا على (6) فخذ في " فخذ "، وهي قراءة مسترذلة، إلا أن يقرأ بإشمام الكسرة (7) * (وتب علينا) * قالا هذه الكلمة انقطاعا إلى الله ليقتدى بهما، أو استتابا (1) حكاه الشيخ في التبيان: ج 1 ص 462 عن ابن عباس. (2) البقرة: 112. (3) النور: 55. (4) تفسير العياشي: ج 1 ص 61 ح 101، وعنه البرهان: ج 1 ص 156 ح 12. (5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن وأبو شعيب ومجاهد والسوسي وأبو حاتم وقتادة والسدي وعمر بن عبد العزيز ورويس وروح. راجع الحجة في علل القراءات للفارسي: ج 2 ص 173، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 170، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 213، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 114، والحجة لابن خالويه: ص 78. (6) في بعض النسخ زيادة: تخفيف. (7) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 374. (*)
[ 151 ]
لذريتهما * (إنك أنت) * القابل للتوبة * (الرحيم) * بعبادك. * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءايتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) * (129) * (وابعث) * في الأمة المسلمة * (رسولا منهم) * من أنفسهم وهو نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، قال (عليه السلام): " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي " (1). * (يتلوا عليهم ءايتك) * يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه * (ويعلمهم الكتب) * وهو القرآن * (والحكمة) * وهي الشريعة وبيان الأحكام * (ويزكيهم) * ويطهرهم من الشرك والأدناس * (إنك أنت العزيز) * القوي في كمال قدرتك * (الحكيم) * المحكم لبدائع صنعك. * (ومن يرغب عن ملة إبرا هيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين) * (130) * (ومن يرغب عن ملة إبرا هيم) * التي هي الحق والحقيقة، وهو إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عنه، و * (من سفه) * في محل الرفع على البدل من الضمير المستكن في * (يرغب) *، ومعنى * (سفه نفسه) * امتهنها واستخف بها، وأصل السفه: الخفة، وقيل: إن * (نفسه) * منصوبة على التمييز (2) نحو غبن رأيه، وقيل: معناه سفه في نفسه، فحذف الجار (3) كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني، والأول أوجه * (ولقد اصطفينه) * بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته، أي: اجتبيناه (1) منسد أحمد بن حنبل: ج 4 ص 127 وج 5 ص 262. 2) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 79، وعنه الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 376. (3) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 338، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 211. (*)
[ 152 ]
بالرسالة * (وإنه في الاخرة لمن الصلحين) * الفائزين، ومن جمع الكرامة عند الله في الدارين لم يكن أحد أولى بأن يرغب في طريقته منه. * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين (131) ووصى بها إبرا هيم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (132) سورة البقرة / 133 * (إذ قال) * ظرف ل * (اصطفينه) * أي: اخترناه في ذلك الوقت، ومعنى * (قال له ربه أسلم) *: أخطر بباله النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد والإسلام * (قال أسلمت) * أي: فنظر وعرف، وقيل: إن معنى * (أسلم) * أذعن وأطع (1). وقرئ: " وأوصى " بالألف (2) والضمير في * (بها) * لقوله: * (أسلمت لرب العلمين) * على تأويل الكلمة والجملة، ومثله الضمير في قوله: * (وجعلها كلمة باقية) * (3) فإنه يرجع إلى قوله: * (إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرني) * (4) * (ويعقوب) * عطف على * (إبرا هيم) * داخل في حكمه، يعني: * (ووصى بها) * يعقوب بنيه أيضا * (اصطفى لكم الدين) * معناه: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * أي: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي على الحقيقة (1) قاله عطاء والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 118، واختاره ابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 176. (2) وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر والذماري وشريح. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 171، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 159، والتيسير في القراءات للداني: ص 77، والحجة لأبي زرعة: ص 115، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 398، وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام كما في الكشاف: ج 1 ص 191. (3) الزخرف: 28. (4) الزخرف: 26 و 27. (*)
[ 153 ]
عن كونهم مخالفي الإسلام إذا ماتوا، والنكتة في إدخال حرف النهي على الموت أن فيه إظهارا لكون الموت على خلاف الإسلام موتا لا خير فيه. * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله أآبائك إبرا هيم وإسمعيل وإسحق إلها وا حدا ونحن له مسلمون) * (133) * (أم) * هي المنقطعة، أي: بل أ * (كنتم شهداء) *، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ما كنتم حاضرين يعقوب، والشهيد: الحاضر * (إذ حضر يعقوب الموت) * أي: حين احتضر، والخطاب للمؤمنين، يعني: ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي، وقيل: الخطاب لليهود (1) لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية، فتكون * (أم) * على هذا متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت (2)، يعني: أن أوائلكم كانوا شاهدين له إذ أراد بنيه على ملة الإسلام وقد علمتم ذلك، فما لكم تدعون على الأنبياء ماهم منه براء ؟ * (ما تعبدون من بعدى) * أي: أي شئ تعبدون من بعدي ؟ أي: من بعد وفاتي، فحذف المضاف، و * (إبرا هيم وإسمعيل وإسحق) * عطف بيان ل * (أآبائك) *، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العم أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما * (إلها وا حدا) * بدل من * (إله أآبائك) *، * (ونحن له مسلمون) * حال من فاعل * (نعبد) * أو من مفعوله لرجوع الضمير إليه في * (له) *، ويجوز أن (1) قاله الربيع كما في التبيان: ج 1 ص 475. (2) اختاره الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 193، وذكره الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 1 ص 378. (*)
[ 154 ]
يكون جملة معطوفة على * (نعبد) * أو جملة اعتراضية، أي: ومن حالنا أنا له مسلمون (1). * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسلون عما كانوا يعملون) * (134) * (تلك) * إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا، وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم * (ولا تسلون عما كانوا يعملون) * لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم. * (وقالوا كونوا هودا أو نصرى تهتدوا قل بل ملة إبرا هيم حنيفا وما كان من المشركين) * (135) سورة البقرة / 136 - 138 الضمير في * (قالوا) * يرجع إلى اليهود والنصارى، أي: قالت اليهود: * (كونوا هودا) * وقالت النصارى: كونوا * (نصرى تهتدوا) * تصيبوا طريق الهدى والحق * (قل بل ملة إبرا هيم) * بل نكون أهل ملة إبراهيم كقول عدي بن حاتم (2): إني من دين، أي: من أهل دين (3)، وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم (4) و * (حنيفا) * حال من (1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 194، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 380. (2) عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو وهب وأبو طريف، أمير، صحابي، من الأجواد العقلاء، كان رئيس طي في الجاهلية والاسلام، كان إسلامه سنة 9 ه، وشهد فتح العراق، ثم سكن الكوفة وشهد الجمل وصفين والنهروان مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد فقئت عينه يوم صفين. روى عنه المحدثون 66 حديثا، عاش أكثر من مائة سنة، توفي بالكوفة سنة 68 ه. (الإصابة: ج 2 ص 468 ت 5475، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 139، والروض الأنف: ج 2 ص 343، وإمتاع الاسماع: ج 1 ص 509، ورغبة الآمل: ج 6 ص 135). (3) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 194. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 213. (*)
[ 155 ]
المضاف إليه كقولك رأيت وجه هند قائمة، والحنيف المائل عن كل دين إلى دين الحق * (وما كان من المشركين) * تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك. * (قولوا ءامنا بالله ومآأنزل إلينا وما أنزل إلى إبرا هيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * (136) * (قولوا) * خطاب للمسلمين، أمرهم الله سبحانه بإظهار ماتدينوا به على الشرح، فبدأ بالإيمان * (بالله) * لأنه أول الواجبات، وثنى بالإيمان بالقرآن والكتب المنزلة على الأنبياء المذكورين * (والاسباط) * حفدة يعقوب وذراري أبنائه الإثني عشر، جمع السبط: وهو الحافد، وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) * (لا نفرق بين أحد منهم) * لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، و * (أحد) * في معنى الجماعة ولذلك صح دخول * (بين) * عليه. * (فإن ءامنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عبدون) * (138) * (فإن ءامنوا) * أي: إن آمن هؤلاء الكفار * (بمثل ما آمنتم به) * أي: مثل إيمانكم بالله وكتبه ورسله، والباء مزيدة، و * (ما) * مصدرية * (فقد اهتدوا) * أي: فقد سلكوا طريق الهداية * (وإن تولوا) * عما تقولون لهم ولم ينصفوا، أو تولوا عن الدخول في مثل إيمانكم * (فإنما هم في شقاق) * أي: مناواة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحق في شئ * (فسيكفيكهم الله) * هذا ضمان من الله لإظهار
[ 156 ]
نبيه (صلى الله عليه وآله) عليهم وكفايته من يشاقه من اليهود والنصارى، وفيه دلالة على صحة نبوته، لأنه سبحانه قد أنجز وعده فوافق المخبر الخبر، ومعنى السين: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين * (وهو السميع العليم) * وعيد لهم، أو وعد لرسول الله، أي: يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرون فيعاقبهم على ذلك، أو يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وإرادتك من إظهار الدين وهو مستجيب لك * (صبغة الله) * مصدر مؤكد ينتصب عن قوله: * (ءامنا بالله) * كما انتصب * (وعد الله) * (1) عما تقدمه، وهي فعلة من " صبغ " كالجلسة من " جلس "، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى: تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس، والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية (2) ويقولون: هو تطهير لهم، فأمر المسلمون أن يقولوا: آمنا وصبغنا الله بالإيمان * (صبغة) * لا مثل صبغتكم، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيركم، ولا صبغة أحسن من صبغة الله * (ونحن له عبدون) * عطف على * (ءامنا بالله) *. * (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنآ أعملنا ولكم أعملكم ونحن له مخلصون) * (139) سورة البقرة / 140 و 141 أمر نبيه أن يقول لليهود وغيرهم: * (أتحاجوننا في الله) * أي: أتجادلوننا في أمر الله واصطفائه النبي من العرب دونكم * (وهو ربنا وربكم) * نشترك جميعا في أنا عبيده وهو ربنا وربكم، وهو يصيب بكرامته من يشاء من عباده إذا كان أهلا للكرامة * (ولنآ أعملنا ولكم أعملكم) * يعني: أن العمل هو أساس الأمر، وكما أن لكم أعمالا يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فإن لنا أعمالا معتبرة في ذلك (1) الروم: 6. (2) في بعض النسخ: المعهودية. (*)
[ 157 ]
* (ونحن له مخلصون) * موحدون نخلصه بالإيمان والإيقان فلا تستبعدوا أن نؤهل للكرامة (1) بالنبوة، وهذا رد لقولهم: نحن أحق بالنبوة لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة الأوثان. * (أم تقولون إن إبرا هيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصرى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله وما الله بغفل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسلون عما كانوا يعملون) * (141) من قرأ: * (أم تقولون) * بالتاء فإن * (أم) * يمكن أن تكون متصلة معادلة للهمزة في * (أتحاجوننا) * بمعنى: أي الأمرين تأتون: المحاجة في حكم (2) الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء ؟ والمراد بالاستفهام الإنكار، ويمكن أن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار، ومن قرأ بالياء (3) فلا تكون " أم " إلا منقطعة. * (قل ءأنتم أعلم أم الله) * يعني: أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله: * (ماكان إبرا هيم يهوديا ولا نصرانيا) * الآية (4)، * (ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله) * أي: كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية، ويحتمل معنيين: أحدهما: أنه لا أحد أظلم من أهل الكتاب لكتمانهم هذه (1) في نسخة: لكرامته. (2) في نسخة: حكمة. (3) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر وأبي جعفر ويعقوب. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 171، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 266، والتيسير في القراءات للداني: ص 77، والحجة في القراءات لأبي زرعة ص 115، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 414. (4) آل عمران: 67. (*)
[ 158 ]
الشهادة مع علمهم بها، والآخر: لا أحد أظلم منا لو كتمنا هذه الشهادة فنحن لا نكتمها، و " من " في قوله: * (من الله) * مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان إذا شهدت له، ومثله * (براءة من الله) * (1). * (سيقول السفهآء من الناس ماوليهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشآء إلى صرا ط مستقيم) * (142) * (سيقول) * أي: سوف يقول الجهال الخفاف الأحلام وهم اليهود، لكراهتهم التوجه إلى الكعبة * (ماوليهم عن قبلتهم) * ما صرفهم عن بيت المقدس الذي كان قبلتهم يتوجهون إليها في صلاتهم، وقيل: هم المنافقون قالوا ذلك لحرصهم على الاستهزاء بالإسلام (2)، وقيل: هم المشركون قالوا: رغب عن قبلة (3) آبائه ثم رجع إليها، وليرجعن إلى دينهم (4) * (قل لله المشرق والمغرب) * أي: بلاد المشرق والمغرب * (يهدى من يشآء) * من أهلها * (إلى صرا ط مستقيم) * وهو ما توجبه الحكمة والصلاح من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة. سورة البقرة / 143 * (وكذا لك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمنكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) * (143) * (وكذا لك) * أي: ومثل ذلك الجعل العجيب والإنعام بالهداية * (جعلنكم أمة (1) التوبة: 1. (2) قائل ذلك السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 197. (3) في بعض النسخ: ملة. (4) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 218، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 197. (*)
[ 159 ]
وسطا) * أي: خيارا، وهو وصف بالاسم الذي هو وسط الشئ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وإنما قيل للخيار: وسط، لأن الأطراف يتسارع إليها الفساد والأوساط محفوظة (1) مكنوفة، أو عدولا لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض * (لتكونوا شهداء على الناس) * روي: أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد (صلى الله عليه وآله) فيشهدون لهم، وهو صلوات الله عليه وآله يزكيهم (2). ويروى عن علي (عليه السلام) أنه قال: " إن الله إيانا عنى، فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه " (3). وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، أي: حجة عليهم فتبينوا لهم الحق والدين (4)، * (ويكون الرسول) * مؤديا للشرع وأحكام الدين إليكم، والشاهد مبين، ويقال للشاهد: بينة، ولما كان الشهيد كالرقيب جئ ب " على " التي هي كلمة الاستعلاء، كما في قوله تعالى: * (كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) * (5)، * (التى كنت عليها) * ليست بصفة للقبلة، وإنما هي المفعول الثاني ل " جعل "، يريد: * (وما جعلنا القبلة) * الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، لأنه (عليه السلام) كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم حول إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا قبلتك الجهة التي كنت تستقبلها بمكة أولا ثم رددناك إليها ثانيا * (إلا) * امتحانا للناس وابتلاء * (لنعلم) * (1) في نسخة: محوطة. (2) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 199. (3) شواهد التنزيل: ج 1 ص 92، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 224. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 220، وعنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 199. (5) المائدة: 117. (*)
[ 160 ]
الثابت على الإسلام * (ممن) * هو على حرف (1) منه فينكص * (على عقبيه) * ويرتد، وقيل: يريد بالتي كنت عليها بيت المقدس، أي: جعلناها جهتك التي كنت تستقبلها لنمتحن الناس، وننظر من يتبعك منهم ومن لا يتبعك (2)، وعن ابن عباس قال: كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه (3)، وقوله: * (لنعلم) * معناه: لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودا حاصلا * (وإن كانت) * هي " إن " المخففة التي تلزمها اللام الفارقة * (لكبيرة) * لثقيلة شاقة * (إلا على الذين هدى الله) * إلا على الذين صدقوا في اتباع الرسول، الذين لطف الله بهم وكانوا أهلا للطفه * (وما كان الله ليضيع إيمنكم) * أي: ثباتكم على الإيمان، بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب الجزيل، وقيل: معناه: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة (4)، * (إن الله بالناس لرءوف رحيم) * لا يضيع أجورهم ولا يترك مصالحهم. * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغفل عما يعملون) * (144) سورة البقرة / 144 * (قد نرى) * ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر: قد أترك القرن مصفرا أنامله (5) (1) في نسخة: طرف. (2) قاله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 200، والبغوي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 123. (3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 200. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 221. (5) قائل البيت: عبيد بن الأبرص الأسدي وعجزه: كأن أثوابه مجت بفرصاد. وفيه يظهر = (*)
[ 161 ]
* (تقلب وجهك) * تردد وجهك * (في) * جهة * (السماء) * وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينتظر الوحي من السماء في تحويله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، ومفخرة العرب ومطافهم، فيكون أدعى لهم إلى الإيمان، ولمخالفة اليهود (1) * (فلنولينك قبلة ترضيها) * فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولهم: وليته كذا، أي: جعلته واليا عليه، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * أي: نحوه، قيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي المسجد مسجد القبلتين (2)، و * (شطر) * نصب على الظرف، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء * (المسجد) * أي: في جهته وسمته * (وحيث ما كنتم) * أينما كنتم من الأرض * (فولوا وجوهكم شطره) * وهو خطاب لجميع أهل الآفاق * (وإن الذين = مقام التمدح بشجاعته والافتخار بها، يقول: كل من يدعي القرن لي أي: المثل في شجاعتي أرديه قتيلا مصفرة أصابعه، وهي كناية على الموت، يقال: إذا مات الميت اصفرت أنامله، ودميت ملابسه بصبغة الدم التي شبهها بحمرة الفرصاد وهو التوت. والبيت هذا قد تداوله الشعراء، فبعضهم أخذ بعضه، وبعضهم أخذه بتمامه بلفظه، وبعضهم أخذ معناه. قال أبو المثلم الهذلي يرثي صخرا الهذلي: ويترك القرن مصفرا أنامله * كأن في ريطتيه نضح إرقان وقال زهير بن مسعود الضبي: هل أترك القرن مصفرا أنامله * قد بل أثوابه من جوفه العلق انظر ديوان عبيد بن الأحوص: ص 47 - 49، والأغاني لأبي فرج الاصفهاني: ج 19 ص 89، ومغني اللبيب: ص 231، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 11 ص 253 - 260. (1) ذكره الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 202، وفصله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 202 وعزاه الى ابن عباس ومجاهد وابن زيد. (2) قاله مجاهد على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 125. (*)
[ 162 ]
أوتوا الكتب) * يعني: علماء اليهود والنصارى * (ليعلمون) * أن التحويل إلى الكعبة هو * (الحق) * لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله أنه يصلي إلى القبلتين. * (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظلمين) * (145) اللام في * (لئن أتيت) * هو الموطئة للقسم، و * (ما تبعوا قبلتك) * جواب للقسم المحذوف وقد سد مسد جواب الشرط، يعني: إن أتيتهم * (بكل ءاية) * بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق * (ما تبعوا قبلتك) * لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها الحجة، إنما هو عن عناد ومكابرة، لعلمهم بما في كتبهم من نعتك وكونك على الحق * (وما أنت بتابع قبلتهم) * حسم لأطماعهم، إذ قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * يعني: أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس، وقوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) * بعد بيان حاله المعلومة عنده في قوله: * (وما أنت بتابع قبلتهم) * كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا من بعد وضوح الأمر * (إنك إذا لمن الظلمين) * لمن المرتكبين الظلم الفاحش، وفي ذلك زيادة تحذير وتهجين لحال من يترك الدليل بعد تبينه. سورة البقرة / 146 - 148 * (الذين ءاتينهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من
[ 163 ]
الممترين) * (147) * (يعرفونه) * الضمير لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أي: يعرفون رسول الله معرفة جلية * (كما يعرفون أبنائهم) * لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم، وجاز الإضمار وإن لم يجر له ذكر، لأن الكلام يدل عليه، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإيذان بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام، وقيل: الضمير للعلم (1) أو للقرآن (2) أو لتحويل القبلة (3)، * (وإن فريقا منهم) * خص الفريق منهم استثناء لمن آمن منهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار * (الحق من ربك) * مبتدأ وخبر، وفيه وجهان: أن يكون اللام للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله، وأن يكون للجنس على معنى: الحق من ربك لا من غيره، ويجوز أن يكون * (الحق) * خبر مبتدأ محذوف، فيكون * (من ربك) * في محل النصب على الحال، أو يكون خبرا بعد خبر * (فلا تكونن من الممترين) * الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في أنه من ربك. * (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرا ت أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير) * (148) * (ولكل) * أي: لكل أهل ملة * (وجهة) * أي: قبلة * (هو موليها) * وجهه، فحذف أحد المفعولين، وقيل: * (هو) * الله تعالى (4) أي: الله موليها إياه، وقرئ: " هو (1) قاله الرازي في تفسيره: ج 4 ص 130. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 241، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 1 ص 389. (3) قاله ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. راجع التبيان: ج 2 ص 21، وتفسير الرازي: ج 4 ص 129. (4) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 343، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 126، واختاره السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 166. (*)
[ 164 ]
مولاها " (1) أي: هو مولى تلك الجهة قد وليها، والمعنى: لكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم * (فاستبقوا) * أنتم * (الخيرا ت) * واسبقوا إليها غيركم في أمر القبلة وغيرها، ويجوز أن يكون المعنى: ولكل منكم يا أمة محمد جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت * (أين ما تكونوا) * من الجهات المختلفة * (يأت بكم الله جميعا) * يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام، وقيل: أينما كنتم من البلاد فيدرككم الموت يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة، أي: يحشركم جميعا (2). وروي عنهم (عليهم السلام): أن المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان (3). سورة البقرة / 149 و 150 * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) * (150) (1) وهي قراءة ابن عباس وابن عامر وأبي رجاء وعاصم برواية أبي بكر والذماري وشريح والمروي عن الباقر (عليه السلام). راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 171، والتبيان: ج 2 ص 23، والتيسير في القراءات للداني: ص 77، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 117، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 267، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 437، والفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 391، وحسنه الزجاج في معاني القرآن واعرابه: ج 1 ص 225. (2) قاله البغوي في تفسيره: ج 1 ص 126، والسمرقندي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 166. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 64 - 67 ح 117 و 118، وأوردها المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 231. (*)
[ 165 ]
* (ومن حيث خرجت) * أي: ومن أي بلد خرجت فاستقبل بوجهك نحو * (المسجد الحرام) * إذا صليت * (وإنه) * أي: إن هذا المأمور به * (للحق) * الثابت الذي لا يزول بنسخ * (من ربك وما الله بغفل عما تعملون) * تهديد، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة، لأن النسخ من مظان الشبهة، ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها * (إلا الذين ظلموا) * استثناء من " الناس "، ومعناه: * (لئلا يكون) * حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: إن محمدا ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء، وأما الحجة التي كانت للمنصفين منهم لو لم يحول القبلة فهي أنهم كانوا يقولون: ماله لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ ! وإنما أطلق اسم الحجة عليه لأنهم كانوا يسوقونه سياق الحجة. ويجوز أن يكون المعنى: * (لئلا يكون) * للعرب * (عليكم حجة) * في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب * (إلا الذين ظلموا منهم) * وهم أهل مكة حين يقولون: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم * (فلا تخشوهم) * فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم * (واخشوني) * ولا تخالفوا أمري * (ولأتم نعمتي) * متعلق اللام محذوف، أي: ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك، أو هو معطوف (1) على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم، وقيل: هو معطوف على * (لئلا يكون) * (2) وفي الحديث: " تمام النعمة دخول الجنة " (3). (1) في نسخة: عطف. (2) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 344، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 128. (3) ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 206، والزبيدي في الاتحاف: ج 9 ص 85. (
[ 166 ]
* (كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون) * (152) الكاف: إما أن يتعلق بما قبله، أي: * (ولأتم نعمتي عليكم) في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، وإما أن يتعلق بما بعده، أي: كما ذكرتكم بإرسال الرسول * (فاذكروني) * بالطاعة * (أذكركم) * بالثواب، * (واشكروا لى) * ما أنعمت به عليكم * (ولا تكفرون) * - ي ولا تجحدوا نعمائي، ويعني بالرسول: محمدا (صلى الله عليه وآله) * (منكم) * أي: من نسبكم، من سبحانه عليهم بكونه (عليه السلام) من العرب لما حصل لهم بذلك من الشرف. * (يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصبرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموا ت بل أحياء ولكن لا تشعرون) * (154) سورة البقرة / 155 - 157 خاطب سبحانه المؤمنين وأمرهم بأن يستعينوا * (بالصبر) * وهو حبس النفس على المكروه وحبسها عن المحبوب * (و) * ب * (الصلوة) * لما فيها من الذكر والخشوع * (إن الله مع الصبرين) * بالمعونة والنصرة * (أموا ت) * أي: * (لا تقولوا) *: هم * (أموا ت بل) * هم * (أحياء) * عند الله * (ولكن لا تشعرون) * كيف حالهم في حياتهم، قال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع (1). قالوا: ويجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة (1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 130. (*)
[ 167 ]
فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة (1)، وقيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر (2). * (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموا ل والانفس والثمرا ت وبشر الصبرين (155) الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه را جعون (156) أولئك عليهم صلوا ت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * (157) * (ولنبلونكم) * ولنصيبنكم إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتسلمون لحكم الله أم لا * (بشئ) * أي: بقليل من كل هذه البلايا أو (3) بطرف منه * (وبشر الصبرين) * المسترجعين عند البلاء، لأن الاسترجاع تسليم وإذعان. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن قولنا: " إنا لله " إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: " إنا إليه راجعون " إقرار على أنفسنا بالهلك " (4). وإنما قلل في قوله: * (بشئ) * ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هذا بالإضافة إليه، وقوله: * (ونقص) * عطف على " شئ " أو على * (الخوف) * بمعنى: وشئ من نقص الأموال * (وبشر) * خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أو لكل من تتأتى منه البشارة، والصلاة من الله: العطف والرأفة، جمع بينها وبين الرحمة كقوله: * (رأفة ورحمة) * (5) و * (رءوف رحيم) * (6)، والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة * (وأولئك هم المهتدون) * لطريق الصواب (7) حيث (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 206. (2) قاله الكلبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 1 ص 169. (3) في نسخة: أي. (4) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 238. (5) الحديد: 27. (6) التوبة: 117. (7) في نسخة: الثواب. (*)
[ 168 ]
استرجعوا وسلموا لأمر الله. * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) * (158) * (الصفا والمروة) * علمان للجبلين، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أي: هما من أعلام مناسكه ومتعبداته، والحج: القصد، والاعتمار: الزيارة، وهما في الشرع: قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان، و * (يطوف) * أصله: " يتطوف " فأدغم، وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): " أن يطوف بهما " (1)، وإنما قال: * (فلا جناح عليه) * والسعي بينهما واجب، لأنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى: أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح (2)، * (ومن تطوع خيرا) * أي: من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة بعدما أدى الواجب * (فإن الله شاكر) * مجاز على ذلك * (عليم) * بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا حقه. سورة البقرة / 161 و 162 * (إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينت والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) * (160) (1) انظر تفسير العياشي: ج 1 ص 69 ح 131. (2) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 208. (*)
[ 169 ]
يعني: أحبار اليهود، أي: * (يكتمون مآ أنزلنا) * ه في التوراة من الآيات الشاهدة على صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله): والهادية إلى نعته وصفته والأمر باتباعه والإيمان به * (من بعد ما بينه) * ولخصناه * (للناس في الكتب) * أي: في التوراة، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم فكتموا ذلك المبين الملخص * (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون) * من الملائكة والمؤمنين * (إلا الذين تابوا) * أي: ندموا على ما فعلوا * (وأصلحوا) * نياتهم فيما يستقبل من الأوقات وتداركوا ما فرط منهم * (وبينوا) * ما قد بينه الله في كتابهم، أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ماعرفوابه ويقتدي غيرهم بهم * (فأولئك أتوب عليهم) * أقبل توبتهم. * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين (161) خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * (162) أي: * (إن الذين) * ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا * (أولئك عليهم لعنة الله) * ذكر سبحانه لعنتهم أحياء ثم ذكر لعنتهم أمواتا، ومعنى قوله: * (والناس أجمعين) * والمراد به: من يعتد بلعنه وهم المؤمنون، وقيل: إن يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا (1)، * (خلدين فيها) * في اللعنة، وقيل: في النار إلا أنها أضمرت لتفخيم شأنها وتهويل أمرها (2)، * (ولا هم ينظرون) * لا يمهلون - من الإنظار - أو لا ينتظرون أو لا ينظر الله إليهم نظر رحمة، واللعن من الله: الإبعاد من الرحمة وإيجاب العقاب، ومن الناس: هو الدعاء عليهم بذلك. (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 210. (2) قاله أبو العالية. راجع التبيان: ج 2 ص 51. (*)
[ 170 ]
* (وإلهكم إله وا حد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) إن في خلق السموا ت والارض واختلف اليل والنهار والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايت لقوم يعقلون) * (164) * (إله وا حد) * فرد في الإلهية لا شريك له فيها فلا يصح أن يسمى غيره إلها، و * (لا إله إلا هو) * تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته، وهو بدل من موضع * (لا إله) * وهو الرفع، لأن * (لا) * مع ما بعده مبتدأ، وكذلك (1) في قولك: " لا إله إلا الله ": " الله " بدل من موضع " لاإله " والخبر محذوف، والتقدير: الله في الوجود * (الرحمن الرحيم) * المولى بجميع (2) النعم: أصولها وفروعها، ولا شئ سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه: إما نعمة وإما منعم عليه. سورة البقرة / 165 وروي: أن المشركين كان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية قالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزل (3): * (إن في خلق السموا ت والارض) * وإنشائهما على سبيل الاختراع والإبداع * (واختلف اليل والنهار) * أي: اعتقا بهما، كل واحد يعقب الآخر ويخلفه، أو اختلافهما في الجنس والهيئة والصفة * (والفلك) * أي: السفن * (التى تجرى في البحر بما ينفع الناس) * أي: بالذي ينفعهم فتكون " ما " موصولة، أو بنفعهم فتكون " ما " مصدرية * (وما أنزل الله من السماء) * أي: من نحو السماء أو من السحاب * (من ماء فأحيا به الارض) * بالإنبات وإنماء النبات، أو أهل الأرض بإخراج الأقوات * (وبث فيها (1) في بعض النسخ: هكذا. (2) في نسخة: لجميع. (3) راجع اسباب النزول للواحدي: ص 47، وتفسير البغوي: ج 1 ص 135. (*)
[ 171 ]
من كل دابة) * عطف على * (أنزل) * أي: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة، ويجوز أن يكون عطفا على * (فأحيا) * أي: فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون ويعيشون بالحيا (1) والخصب * (وتصريف الريح) * في مهابها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا، وفي أحوالها باردة وحارة ولينة وعاصفة * (والسحاب المسخر) * للرياح تقلبه في سكائك الجو * (بين السماء والارض) * بمشية الله تمطر حيث شاء * (لايت لقوم يعقلون) * أي: ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون بها، لأنها دلائل على عظيم القدرة وعجيب الحكمة. * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) * (165) * (ومن الناس) * " من " للتبعيض، أي: وبعض الناس * (من يتخذ من دون الله أندادا) * أمثالا من الأصنام التي يعبدونها، وقيل: من الرؤساء بدلالة قوله: * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) * (2)، وقال الباقر (عليه السلام): " هم أئمة الظلمة وأشياعهم " (3)، * (يحبونهم) * يعظمونهم ويخضعون لهم ويحبون عبادتهم والانقياد لهم * (كحب الله) * أي: كما يحب الله، على أنه مصدر من الفعل المبني للمفعول، واستغني عن ذكر من يحبه لأنه معلوم، وقيل: كحبهم الله، أي: يسوون بينه وبينهم في محبتهم (4) * (والذين ءامنوا أشد حبا لله) * لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره (1) الحيا: المطر. (القاموس المحيط: مادة حيا). (2) قاله السدي. راجع التبيان: ج 2 ص 62. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 72 ح 142، وعنه البرهان: ج 1 ص 172 ح 3، واثبات الهداة: ج 1 ص 262. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 237، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 136. (*)
[ 172 ]
بخلاف المشركين فإنهم يعدلون من صنم إلى غيره * (ولو يرى الذين ظلموا) * باتخاذ الأنداد، أي: ولو يعلم هؤلاء الذين أشركوا * (أن) * القدرة كلها * (لله) * على كل شئ دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر فحذف الجواب، وقرئ: " ولو ترى " بالتاء (1) على خطاب الرسول (عليه السلام) أو كل مخاطب، أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما وخطبا جسيما، وقرئ: " إذ يرون " على البناء للمفعول (2)، و * (إذ) * في المستقبل كقوله: * (ونادى أصحب الجنة) * (3). * (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذا لك يريهم الله أعملهم حسرا ت عليهم وماهم بخرجين من النار) * (167) * (إذ تبرأ) * بدل من * (إذ يرون العذاب) * أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع * (ورأوا العذاب) * الواو للحال، أي: تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب * (وتقطعت) * عطف على * (تبرأ) *، و * (الاسباب) * الوصلات التي كانت بينهم يتواصلون عليها والأرحام التي كانوا يتعاطفون بها، والمعنى: زال عنهم كل سبب سورة البقرة / 168 و 169 يمكن أن يتوصل به من مودة أو عهد أو قرابة فلا ينتفعون بشئ من ذلك * (وقال) * (1) قرأه نافع وابن عامر ويعقوب والذماري وشريح وأبو جعفر النهرواني والحسن وقتادة وشيبة والفضل بن شاذان. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 137، والتبيان: ج 2 ص 61، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 173، ومعاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 153، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 471. (2) وهي قراءة ابن عامر والذماري وشريح. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 173، والتبيان: ج 2 ص 61، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 1 ص 471. (3) الأعراف: 44. (*)
[ 173 ]
الأتباع: * (لو أن لنا كرة) * أي: عودة إلى دار الدنيا * (فنتبرأ) * فيها من الرؤساء * (كما تبرءوا منا) * في الآخرة، و * (لو) * في معنى التمني، ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرة فنتبرأ منهم * (كذا لك) * أي: مثل ذلك الإراءة الفظيعة * (يريهم الله أعملهم حسرا ت) * أي: ندامات، والمعنى: أن أعمالهم تنقلب حسرات * (عليهم) * فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم * (وماهم بخرجين من النار) * أي: يخلدون فيها، وفي * (هم) * دلالة على قوة أمرهم أسند إليهم لا على الاختصاص. * (يأيها الناس كلوا مما في الارض حللا طيبا ولا تتبعوا خطوا ت الشيطن إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) * (169) هذا خطاب لجميع بني آدم * (حللا) * مفعول * (كلوا) * أو حال من ما * (في الارض) *، * (طيبا) * طاهرا من كل شبهة * (ولا تتبعوا خطوا ت الشيطن) * فتدخلوا في حرام أو شبهة، و " من " للتبعيض، لأن كل ما في الأرض غير مأكول، والخطوة: مابين قدمي الخاطي، والخطوة: المرة من الخطو كالغرفة والغرفة، و " اتبع خطواته " و " وطئ على عقبه " في معنى: " اقتدى به " و " استن بسنته " * (عدو مبين) * أي: ظاهر العداوة * (إنما يأمركم) * بيان لوجوب الكف عن اتباعه وظهور عداوته، أي: لا يأمركم بخير قط، إنما يأمركم * (بالسوء) * بالقبيح * (وا لفحشآء) * ما يتجاوز الحد في القبح، وقيل: السوء ما لاحد فيه، والفحشاء ما يجب فيه الحد (1)، * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * وهو أن تقولوا: هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه (1) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 138. (*)
[ 174 ]
كل ما يضاف إلى الله سبحانه مما لا يجوز عليه وجميع الاعتقادات الباطلة والمذاهب الفاسدة. * (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع مآألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان أآباؤهم لا يعقلون شيا ولا يهتدون) * (170) الضمير في * (لهم) * للناس، وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات لبيان ضلالتهم فإنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون، والقائل لهم هو النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون، والمقول لهم: المشركون أو قوم من اليهود، و * (ألفينا) * وجدنا * (أولو كان ءاباؤهم) * الواو للحال، والهمزة بمعنى الرد والتعجيب، معناه: أيتبعون آباءهم ولو كانوا * (لا يعقلون شيا) * من الدين * (ولا يهتدون) * للصواب. * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) * (171) لابد هنا من حذف المضاف، والتقدير: * (ومثل) * داعي * (الذين كفروا كمثل الذى ينعق) * أو مثل الذين كفروا كبهائم (1) الذي ينعق، والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة والصوت من غير تفهم واستبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع * (إلا دعاء) * الناعق ونداءه، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون، ونعق الراعي بالغنم: إذا صوت بها، وأما نغق الغراب فبالغين * (صم) * أي: هم صم، رفع على الذم. سورة البقرة / 172 و 173 * (يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبت ما رزقنكم واشكروا لله إن (1) في نسخة: كمثل بهائم. (*)
[ 175 ]
كنتم إياه تعبدون) * (172) أي: * (كلوا من) * مستلذات * (ما رزقنكم) * لأن ما رزقه الله تعالى لا يكون إلا حلالا * (واشكروا لله) * الذي رزقكم إياها * (إن) * صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه المنعم على الحقيقة. وفي الحديث: " يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري " (1). * (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * (173) * (الميتة) * ما يموت من الحيوان، * (و) * خص * (لحم الخنزير) * لأنه المعظم والمقصود وإلا فجملته محرمة * (ومآأهل به لغير الله) * أي: رفع به الصوت للصنم، وكذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى * (فمن اضطر) * إلى أكل هذه الأشياء لضرورة مجاعة أو إكراه * (غير باغ) * على مضطر آخر بالاستيثار عليه * (ولا عاد) * سد الجوعة، وعنهم (عليهم السلام): " غير باغ على إمام المسلمين، ولا عاد بالمعصية طريقة المحقين " (2) * (فلا إثم عليه) * أي: لا حرج عليه. * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذا لك بأن الله نزل (1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 214. (2) التبيان: ج 2 ص 76، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 257 ونسبه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وعنه البرهان: ج 1 ص 175 ح 9. (*)
[ 176 ]
الكتب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتب لفى شقاق بعيد) * (176) أعيد ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم * (في بطونهم) * أي: ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه * (إلا النار) * لأنه إذا أكل ما يؤدي إلى النار فكأنه أكل النار، ومنه قولهم: أكل فلان الدم إذا أكل الدية التي هي بدل منه * (ولا يكلمهم) * تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في إكرام الله إياهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم، وقيل: نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم (1) * (فما أصبرهم على النار) * تعجب من حالهم في جرأتهم على النار والتباسهم بموجبات النار، وقيل: معناه أي شئ صبرهم على النار (2)، يقال: " أصبره " و " صبره " بمعنى * (ذا لك) * العذاب * (ب) * سبب * (أن الله) * تعالى * (نزل الكتب) * أي: نزل ما نزل من الكتب * (بالحق) *، * (وإن الذين اختلفوا في) * كتب الله فقالوا في بعضها: حق، وفي بعضها: باطل، وهم أهل الكتاب * (لفى شقاق) * أي: في خلاف * (بعيد) * عن الحق، و * (الكتب) * للجنس، أو يكون المعنى: كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق وإن الذين اختلفوا فيه فقالوا: سحر أو شعر أو أساطير (3) * (لفى شقاق بعيد) * عن الاجتماع على الصواب. سورة البقرة / 177 * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصبرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك (1) نسبه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 89 الى الحسن وواصل وأبي علي. (2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 103، وعنه في التبيان: ج 2 ص 91. (3) في نسخة زيادة: الأولين. (*)
[ 177 ]
الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * (177) الخطاب لأهل الكتاب، لأن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين: أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم وقيل لهم: * (ليس البر) * فيما أنتم عليه لأنه منسوخ، وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل: ليس كل البر أمر القبلة * (ولكن البر) * الذي يجب صرف الهمة إليه بر * (من ءامن) * وقام بهذه الأعمال (1)، والبر: اسم لكل فعل مرضي، وقرئ: * (البر) * بالنصب على أنه خبر مقدم * (ولكن البر من ءامن) * على تأويل حذف المضاف، أي: بر من آمن، أو يكون البر بمعنى: ذي البر، أو يكون البر بمعنى: البار كما قال: فإنما هي إقبال وإدبار (2) وقال المبرد (3): لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البر بفتح الباء (4). (1) قاله قتادة ومقاتل بن حيان. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 142. (2) البيت للخنساء ترثي أخاها صخرا وصدره: ترتع مارتعت حتى إذا ادكرت. راجع ديوانها ص 48، والكامل للمبرد: ج 1 ص 374، وج 3 ص 1356 و 1412، والمقتضب: ج 3 ص 230، وج 4 ص 305. (3) هو محمد بن يزيد المعروف ب " المبرد "، إمام نحاة البصرة في عصره، وإليه انتهى علم العربية بعد طبقة الجرمي والمازني، ولد بالبصرة سنة 210 ه، وطلب العلم صغيرا، وتلقى على أعلام البصرة النحو واللغة والتصريف، ظل بالبصرة حتى سنة 246 ه، ففي هذه السنة ورد " سر من رأى " بطلب من المتوكل، فحضر مجلسه ونال عطاياه، ولما قتل المتوكل سنة 247 ه. رحل الى بغداد وتوفي فيها سنة 285 ه. (سير النبلاء للذهبي: ج 9 ص 136، وطبقات النحاة للسيرافي: ص 204، ومختصر طبقات النحاة للزبيدي: ص 607 - 609، وفهرست المؤلفين: ج 12 ص 114، وتاريخ بغداد: ج 3 ص 380 - 387، ومروج الذهب: ج 8 ص 190). (4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 218. (*)
[ 178 ]
و * (الكتب) * جنس الكتب أو القرآن * (على حبه) * مع حب المال والشح به كما قال ابن مسعود (1): أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا (2)، وقيل: على حب الله (3)، وقيل: على حب الإيتاء (4)، أي: يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه، والمسكين: الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شئ له كالمسكير: الدائم السكر * (وابن السبيل) * المسافر المنقطع به، جعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق، وقيل: هو الضيف لأن السبيل يرعف به (5) * (والسائلين) * الطالبين للصدقة، وقيل: المستطعمين (6). وفي الحديث: " للسائل حق وإن جاء على فرس " (7). * (وفى الرقاب) * وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم، وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها (8)، وعن الشعبي قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية (9) لأنه ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قيل: * (وءاتى الزكوة) *، سورة البقرة / 178 و 179 * (والموفون) * عطف على * (من ءامن) *، * (و) * أخرج * (الصبرين) * منصوبا على (1) في نسخة زيادة: (رضي الله عنه) رواية عن رسول الله حين سئل عنه أي الصدقة أفضل ؟ فقال (عليه السلام). (2) مستدرك الحاكم: ج 2 ص 272، والكشاف: ج 1 ص 218، وفي تفسير البغوي: ج 1 ص 143 بسنده عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله). (3 و 4) حكاه الشيخ في التبيان: ج 1 ص 96. (5) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 24، وعنه في تفسير ابن كثير: ج 1 ص 197، ونسبه الجصاص في أحكام القرآن: ج 1 ص 132، والشيخ في التبيان: ج 1 ص 96 الى قتادة. (6) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 219، والطبري في تفسيره: ج 2 ص 102. (7) نقله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 219 مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخرجه أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي (عليهما السلام) عنه (صلى الله عليه وآله) كما في الدر المنثور: ج 1 ص 415. (8) نسبه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 227 الى الشافعي. (9) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 220، وابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 198. (*)
[ 179 ]
الاختصاص والمدح إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال، و * (البأساء) * الفقر والشدة * (والضراء) * المرض والزمانة * (وحين البأس) * أي: وقت القتال وجهاد الكفار * (أولئك الذين صدقوا) * أي: كانوا صادقين جادين في الدين * (وأولئك) * الذين اتقوا النار بفعل هذه الخصال. * (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسن ذا لك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذا لك فله عذاب أليم (178) ولكم في القصاص حيوة يأولى الالبب لعلكم تتقون) * (179) * (كتب عليكم) * أي: فرض وأوجب * (القصاص) * المساواة في القتلى، وهو أن يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول * (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) *. وعن الصادق (عليه السلام) قال: " لا يقتل حر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم دية العبد، ولا يقتل الرجل بالمرأة إلا إذا أدي إلى أهله نصف ديته ". (1) * (فمن عفى له من أخيه شئ) * معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شئ من العفو كما يقال: سير بزيد بعض السير، ولا يصح أن يكون * (شئ) * في معنى المفعول به، لأن * (عفى) * لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة، و " أخوه " هو ولي المقتول، وذكر بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من أخوة الإسلام، ويقال: عفوت له ذنبه وعفوت لفلان عما جنى فيعدى إلى (1) تفسير العياشي: ج 1 ص 75 ح 158، وعنه البرهان: ج 1 ص 176 ح 6. (*)
[ 180 ]
المذنب باللام، ويعدى إلى الجاني وإلى الذنب ب " عن " فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه، وإنما قيل: شئ من العفو للإشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفى عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية * (فاتباع بالمعروف) * أي: فليكن اتباع أو فالأمر اتباع، وهذه توصية للعافي والمعفو عنه جميعا، أي: فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء * (بإحسن) * بأن لا يمطله ولا يبخسه * (ذا لك) * الحكم المذكور من: القصاص أو العفو أو الدية * (تخفيف من ربكم ورحمة) * لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص أو العفو وحرم عليهم أخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو أو الدية وحرم القصاص * (فمن اعتدى بعد ذا لك) * بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو أو تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل * (فله عذاب أليم) * أي: نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة * (ولكم في القصاص حيوة) * فيه فصاحة عجيبة، وذلك أن القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفا ومكانا للحياة، وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة معنى: أن لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ويقتلون بالمقتول غير قاتله فتقع الفتنة، فكانت في القصاص حياة أي حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل فيسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، فكأن القصاص سبب حياة نفسين * (لعلكم تتقون) * القتل خوفا من القصاص، أو لعلكم تعملون عمل أهل التقوى. سورة البقرة / 180 - 182 * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوا لدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) * (180)
[ 181 ]
* (الوصية) * فاعل * (كتب) * وذكر للفاصل، ولأنها بمعنى: أن يوصي ولذلك ذكر الراجع في قوله: * (فمن بدله بعد ما سمعه) *، * (إذا حضر أحدكم الموت) * إذا دنا منه وظهرت أماراته * (إن ترك خيرا) * أي: مالا * (للوالدين والاقربين) * أي: لوالديه وأقربائه * (بالمعروف) * أي: بالشئ الذي يعرف العقلاء أنه لا جور فيه ولا حيف * (حقا) * مصدر مؤكد، أي: حق ذلك حقا * (على المتقين) * على من آثر التقوى. قالوا: إن هذه الآية منسوخة (1) بقوله (عليه السلام): " لا وصية لوارث " (2)، ولم يجوز أصحابنا نسخ القرآن بخبر الواحد (3)، وقالوا: إن الوصية لذي القرابة من أوكد السنن، ورووا عن الباقر (عليه السلام): أنه سئل هل تجوز الوصية للوارث ؟ فقال: " نعم " وتلا هذه الآية (4). * (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * (182) * (فمن بدله) * أي: فمن غير الإيصاء عن وجهه من الأوصياء أو الشهود * (بعد ما سمعه) * وتحققه * (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) * أي: فما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريان من الجنف * (إن الله سميع عليم) * وعيد للمبدل * (فمن خاف) * أي: فمن توقع (1) انظر الناسخ والمنسوخ للقاضي أبي بكر ابن العربي: ج 2 ص 17 - 18. (2) المصنف لعبد الرزاق: ج 4 ص 148 - 149 ح 7277، سنن الترمذي: ج 4 ص 433 ح 2120 و 2121، سنن البيهقي: ج 6 ص 244 و 264 و 363. (3) انظر التبيان: ج 2 ص 107 - 108. (4) تفسير العياشي: ج 1 ص 76 ح 164، وعنه البرهان: ج 1 ص 177 ح 5. (*)
[ 182 ]
وعلم، وقد شاع في كلامهم " أخاف أن يقع " يريدون التوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم * (من موص جنفا) * أي: ميلا عن الحق بالخطاء في الوصية * (أو إثما) * أو تعمدا للجنف * (فأصلح بينهم) * أي: بين الورثة والموصى لهم * (فلا إثم عليه) * لأن تبديله تبديل باطل إلى حق. * (يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودا ت فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) * (184) سورة البقرة / 184 * (كتب عليكم) * أي: فرض عليكم * (الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * من الأنبياء وأممهم من لدن عهد آدم (عليه السلام) إلى عهدكم، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " أولهم آدم " (1)، يعني: أن الصوم عبادة قديمة ماأخلى الله تعالى أمة من إيجابها عليهم، لم يوجبها عليكم وحدكم * (لعلكم تتقون) * بالمحافظة عليها وتعظيمها، أو لعلكم تتقون المعاصي، لأن الصائم أردع لنفسه عن مواقعة السوء * (أياما معدودا ت) * موقتات بعدد معلوم، أو قلائل كقوله: * (درا هم معدودة) * (2) وأصله: أن المال القليل يقدر بالعدد والكثير يحثى حثيا، والمعنى يقتضي أن يكون * (أياما) * منصوبا ب * (الصيام) * كما تقول: نويت الخروج يوم الجمعة، إلا أن الصيغة تأباه للفصل بينه وبين * (أيام) * بقوله: * (كما كتب) *، فينبغي أن يكون انتصابه بفعل مضمر نحو: " صوموا أياما " لدلالة قوله تعالى: (1) حكاه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 225. (2) يوسف: 20. (*)
[ 183 ]
* (كتب عليكم الصيام) * عليه * (أو على سفر) * أو راكب سفر * (فعدة) * أي: فعليه عدة * (من أيام أخر) *. وفيه دلالة على أن المسافر والمريض مكتوب عليهما الإفطار وأن يصوما أياما أخر، وفي الحديث: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " (1). * (وعلى الذين يطيقونه) * وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا * (فدية طعام مسكين) * نصف صاع، وعن الباقر (عليه السلام): " طعام مساكين " (2)، وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوا فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية * (فمن تطوع خيرا) * فزاد على (3) مقدار الفدية * (فهو خير له) * فالتطوع أخير له، وقرئ: " ومن يطوع " (4) بمعنى: يتطوع * (وأن تصوموا) * أيها المطيقون * (خير لكم) * من الفدية وتطوع الخير، ثم نسخ ذلك بقوله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (5). وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن معناه: وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فدية لكل يوم مد من الطعام (6)، (1) سنن ابن ماجة: ج 1 ص 532 ح 1666، سنن البيهقي: ج 4 ص 244، الترغيب والترهيب للمنذري: ج 2 ص 134. (2) حكاه عنه (عليه السلام) المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 272، وقد نسب هذه القراءة ابن غلبون في التذكرة: ج 2 ص 329 الى نافع وابن ذكوان. (3) في نسخة: في. (4) وهي قراءة حمزة والكسائي وعيسى بن عمر ويحيى بن وثاب والأعمش. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 77، والحجة في القراءات لابن خالويه: ص 90، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 269، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 38. (5) انظر الناسخ والمنسوخ لقتادة: ص 40، والناسخ والمنسوخ للزهري: ص 16، والناسخ والمنسوخ لابن البارزي: ص 25، والناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن حزم: ص 26. (6) الكافي: ج 4 ص 116 ح 5. (*)
[ 184 ]
وعلى هذا فلا نسخ. * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينت من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهدبكم ولعلكم تشكرون) * (185) الرمضان مصدر رمض: إذا احترق، من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر وجعل علما، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، وهو مبتدأ خبره * (الذى أنزل فيه القرءان) * أو بدل من * (الصيام) * في قوله: * (كتب عليكم الصيام) * أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الأيام المعدودات * (شهر رمضان) *، ومعنى * (أنزل فيه القرءان) * ابتدئ فيه إنزاله وكان ذلك في ليلة القدر، وقيل: أنزل جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوما (1)، وقيل: أنزل في شأنه القرآن وهو قوله: * (كتب عليكم الصيام) * (2)، * (هدى للناس وبينت) * نصب على الحال، أي: أنزل وهو هاد للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل، ذكر أولا أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ماهدى الله به وفرق به بين الحق والباطل من الكتب السماوية. سورة البقرة / 186 * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * أي: فمن كان حاضرا مقيما غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر، والشهر منصوب على الظرف وكذلك الهاء في * (فليصمه) *، ولا يكون مفعولا به، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر (1) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 121 عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن، ثم قال: وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). (2) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 240. (*)
[ 185 ]
* (ومن كان مريضا أو على سفر) * حد المرض الذي يوجب الإفطار (1): ما يخاف بالصوم الزيادة المفرطة فيه، وحد السفر الذي يوجب الإفطار: ثمانية فراسخ * (يريد الله بكم اليسر) * أي: يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر وقد نفى عنكم الحرج في الدين وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، ومن جملة ذلك: ما أمركم بالإفطار في السفر والمرض * (ولتكملوا العدة) * الفعل المعلل محذوف ويدل عليه ما سبق، والتقدير: * (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهديكم ولعلكم تشكرون) * شرع ذلك لكم، ويجوز أن يكون * (ولتكملوا) * معطوفا على علة مقدرة، كأنه قيل: يريد الله ليسهل عليكم ولتكملوا العدة. والمراد بالتكبير عندنا: التكبير عقيب أربع صلوات المغرب والعشاء ليلة الفطر والغداة وصلاة العيد. * (وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون) * (186) * (فإنى قريب) * تمثيل لحاله في سرعة إجابته لمن دعاه بحال من قرب مكانه، ونحوه قوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (2)، * (فليستجيبوا لى) * إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم * (وليؤمنوا بى) * روي عن الصادق (عليه السلام): أن معناه: وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه (3)، * (لعلهم يرشدون) * أي: لعلهم يصيبون الحق ويهتدون إليه. * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم (1) في نسخة زيادة: في الدين. (2) ق: 16. (3) أوردها الشيخ في التبيان: ج 2 ص 131. (*)
[ 186 ]
فالن بشروهن وابتغوا ماكتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذا لك يبين الله ءايته للناس لعلهم يتقون) * (187) * (الرفث) * أصله: القول الفاحش، فكني به عن الجماع، وعدي ب * (إلى) * لتضمنه معنى الإفضاء * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن المخالطة والمعانقة قل صبركم عنهن فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، والاختيان: من الخيانة كالاكتساب من الكسب، أي: * (علم الله أنكم كنتم) * تنقصون أنفسكم حظها من الخير * (فتاب عليكم) * فرخص لكم وأزال التشديد عنكم. قال الصادق (عليه السلام): " كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار، وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال له: مطعم بن جبير نام قبل أن يفطر وحضر حفر الخندق فأغمي عليه، وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فنزلت الآية، فأحل النكاح بالليل والأكل بعد النوم، فذلك قوله: * (وعفا عنكم) * " (1). سورة البقرة / 188 * (وابتغوا ماكتب الله لكم) * من الولد بالمباشرة، أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله النكاح له من التناسل، وقيل: وابتغوا ماكتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر (2)، * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض) * وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود * (من الخيط (1) تفسير القمي: ج 1 ص 66، وعنه البرهان: ج 1 ص 186 ح 7. (2) قاله قتادة وابن زيد. راجع الكشاف: ج 1 ص 231، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 50. (*)
[ 187 ]
الاسود) * وهو ما يمتد معه من ظلمة الليل شبها بخيطين، وقوله: * (من الفجر) * بيان للخيط الأبيض واكتفى به عن بيان الخيط الأسود * (ولا تبشروهن وأنتم عكفون) * أي: معتكفون في المساجد، والاعتكاف: أن يحبس نفسه في المسجد للعبادة * (تلك) * الأحكام التي ذكرت * (حدود الله) * أي: حرمات الله ومناهيه * (فلا تقربوها) * فلا تأتوها. وفي الحديث: " إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " (1) والرتع حول الحمى والقرب منه واحد. * (كذا لك) * أي: مثل ذلك البيان * (يبين الله) * حججه ودلائله * (للناس) * على ما أمرهم به ونهاهم عنه * (لعلهم يتقون) * معاصيه ومناهيه. * (ولا تأكلوا أموا لكم بينكم بالبطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموا ل الناس بالاثم وأنتم تعلمون) * (188) أي: لا يأكل بعضكم مال بعض * (بالبطل) * بالوجه الذي لا يحل ولم يشرعه الله، * (وتدلوا) * أي: ولا تدلوا * (بها) * أي: ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها * (إلى الحكام لتأكلوا) * بالتحاكم * (فريقا) * طائفة * (من أموا ل الناس بالاثم) * بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضي له ظالم، وقيل: وتدلوا وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة (2)، * (وأنتم تعلمون) * أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح. (1) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 271، سنن البيهقي: ج 5 ص 264 و 334، مشكل الآثار للطحاوي: ج 1 ص 323، إتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 6 ص 32 و 472. (2) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 233، واختاره ابن عطية على ما حكاه عنه أبو حيان في بحره: ج 2 ص 56 وقال: وهو حسن. (*)
[ 188 ]
* (يسلونك عن الاهلة قل هي موا قيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوا بها واتقوا الله لعلكم تفلحون) * (189) * (يسلونك عن) * أحوال * (الاهلة) * في زيادتها ونقصانها، ووجه الحكمة في ذلك * (قل هي موا قيت للناس) * أي: معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ونقبوا في ظهور بيوتهم نقبا منه يدخلون ويخرجون، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب * (ولكن البر) * بر * (من اتقى) * ما حرم الله * (وأتوا البيوت من أبوا بها) * وقيل: معناه باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها أي الأمور كان (1). * (وقتلوا في سبيل الله الذين يقتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (190) سورة البقرة / 191 و 192 قيل: إنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة (2)، والمقاتلة * (في سبيل الله) * هو الجهاد لإعزاز دين الله وإعلاء كلمته * (الذين يقتلونكم) * يناجزونكم القتال دون المحاجزين، وعلى هذا فيكون منسوخا بقوله: * (وقتلوا المشركين كآفة) * (3) (4)، (1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 235. (2) ذكره الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 251 ونسبه الى الربيع وابن زيد. (3) التوبة: 36. (4) انظر الناسخ والمنسوخ للزهري: ص 17، والناسخ والمنسوخ لابن البارزي: ص 26، والناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للقاضي أبي بكر ابن العربي: ج 2 ص 57 - 58. (*)
[ 189 ]
ويجوز أن يريد الذين يناصبونكم القتال دون الصبيان والنساء، أو يريد الكفرة كلهم لأنهم جميعا يقصدون مقاتلة أهل الإسلام فهم في حكم المقاتلة فلا يكون حكم الآية منسوخا * (ولا تعتدوا) * بقتال من نهيتم عن قتاله أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة. * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم كذا لك جزاء الكفرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) * (192) * (حيث ثقفتموهم) * وجدتموهم * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * أي: أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها، وقد فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الفتح بمن لم يسلم منهم * (والفتنة أشد من القتل) * أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل، جعل الإخراج من الوطن من المحن التي يتمنى عندها الموت، وقيل: الفتنة عذاب الآخرة كما قال: * (ذوقوا فتنتكم) * (1) (2)، وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم، وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون المسلمين به (3)، وقرئ: " ولا تقتلوهم... حتى يقتلوكم فيه... فإن قتلوكم " (4)، جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم، (1) الذاريات: 14. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 236، وأبو حيان في البحر المحيط: ج 2 ص 66. (3) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 236. (4) قرأه حمزة والكسائي والأعمش. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 179، والتبيان: ج 2 ص 145، والتيسير في القراءات للداني: ص 80، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 285، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 67، وتفسير البغوي: ج 1 ص 162. (*)
[ 190 ]
قال: فإن تقتلونا نقتلكم، * (فإن انتهوا) * من الشرك والقتل كقوله: * (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (1). * (وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوا ن إلا على الظلمين) * (193) * (حتى لا تكون فتنة) * أي: شرك * (ويكون الدين لله) * خالصا ليس للشيطان فيه نصيب * (فإن انتهوا) * عن الشرك * (فلا عدوا ن إلا على الظلمين) * أي: فلا تعتدوا على المنتهين، لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: * (إلا على الظلمين) * موضع " على المنتهين ". * (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمت قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) * (194) سورة البقرة / 195 و 196 قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذوالقعدة، فقيل لهم عند خروجهم لقضاء العمرة وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * أي: هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه، يعني: تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم * (والحرمت قصاص) * أي: كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة اقتص منه بأن يهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم مثل ذلك ولا تبالوا، ثم أكد ذلك بقوله: * (فمن اعتدى عليكم) * إلى آخره، * (واتقوا الله) * في حال كونكم منتصرين، فمن اعتدى عليكم فلا تعتدوا، أي: لا تجاوزوا إلى مالا يحل لكم. (1) الأنفال: 38. (*)
[ 191 ]
* (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) * (195) * (وأنفقوا) * من أموالكم في الجهاد وأبواب البر * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * أي: الهلاك، والباء مزيدة كما يقال للمنقاد: أعطى بيده، بزيادة الباء، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم (1) أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم، وقيل: معناه ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم بأن تتركوا الإنفاق في سبيل الله فيغلب عليكم العدو كما يقال: فلان أهلك نفسه بيده (2)، وقيل: هو نهي عن الإسراف في النفقة (3) * (وأحسنوا) * أمر بالاقتصاد * (إن الله يحب المحسنين) * أي: المقتصدين. * (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذا لك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * (196) * (وأتموا الحج والعمرة) * أي: ايتوا بالحج والعمرة تامين كاملين بشرائطهما وأركانهما ومناسكهما * (لله) * أي: لوجه الله خالصا وأقيموهما إلى آخر ما فيهما، (1) في نسخة: بأيديكم. (2) قاله ابن عباس ومقاتل. راجع تفسير السمرقندي: ج 1 ص 190. (3) قاله الجبائي كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 152، والمصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 289. (*)
[ 192 ]
وظاهر الأمر يقتضي الوجوب فدل الأمر بإتمامهما على أن العمرة واجبة مثل الحج (1) * (فإن أحصرتم) * أي: منعكم خوف أو عدو أو مرض عن المضي إليه وأنتم محرمون بحج أو عمرة فأمتنعتم لذلك * (فما استيسر من الهدى) * أي: ما تيسر من الهدي، يقال: يسر الأمر واستيسر، وصعب واستصعب ضده، و * (الهدى) *: ما يهدى إلى الحرم جمع هدية، أي: فعليكم إذا أردتم التحلل من الإحرام ما تيسر من الهدي من بعير أو بقرة أو شاة، أو فاهدوا ما تيسر * (ولا تحلقوا رءوسكم) * الخطاب للمحصرين، أي: لا تحلوا * (حتى) * تعلموا أن * (الهدى) * الذي بعثتموه قد بلغ * (محله) * أي: مكانه الذي يجب نحره فيه أو ذبحه، ومحله منى يوم النحر إن كان الإحرام بالحج، ومكة إن كان الإحرام بالعمرة، هذا إذا كان محصرا بالمرض، فأما إن كان محصرا بالعدو وهو المصدود فمحله الموضع الذي يصد فيه، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) نحر هديه بالحديبية (2). سورة البقرة / 196 * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة، أو تأذى بهوام رأسه فحلق لذلك العذر * (ففدية) * أي: فعليه فدية، أي: بدل وجزاء يقوم مقامه * (من صيام أو صدقة أو نسك) * وروي عن أئمتنا (عليهم السلام): " أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين - وروي: عشرة (3) - والنسك شاة، وهو مخير فيها (4)، ورووا ذلك أيضا عن (1) وبه قال الحسن وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعطاء وسعيد بن جبير وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والشافعي. راجع التبيان: ج 2 ص 155. (2) انظر المحلى لابن حزم: ج 7 ص 206. (3) كما في تهذيب الأحكام للطوسي: ج 5 ص 333 ح 61، والاستبصار: ج 2 ص 195 ح 2. (4) الكافي: ج 4 ص 358 ح 2، تهذيب الأحكام للطوسي: ج 5 ص 333 ح 60، الاستبصار: ج 2 ص 195 ح 1، التبيان: ج 2 ص 158، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 291. والنسك بالضم وبضمتين: الذبيحة. (القاموس المحيط: مادة نسك). (*
[ 193 ]
النبي (صلى الله عليه وآله) (1). والنسك مصدر، وقيل: هو جمع نسيكة أي: ذبيحة (2). * (فإذآ أمنتم) * الإحصار يعني: فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * وتمتعه بالعمرة إلى وقت الحج هو أنه إذا أحل من عمرته انتفع باستباحة ماكان محرما عليه إلى أن يحرم بالحج * (فما استيسر من الهدى) * هو هدي المتعة، وهو واجب بالإجماع على خلاف في أنه نسك أو جبران: فعندنا (3) وعند أبي حنيفة (4) (5) أنه نسك يأكل منه، وعند (1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 241 عن كعب بن عجرة، والصدوق في الفقيه: ج 2 ص 358 ح 2697 مرسلا. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 268، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 170. (3) راجع الخلاف للشيخ الطوسي: ج 2 ص 446 - 447. (4) هو النعمان بن ثابت بن زوطى، التيمي بالولاء الكوفي، ولد حوالي سنة 80 ه بالكوفة، وكان جده زوطى قد جلب من فارس الى الكوفة عبدا واعتقه سيده وكان من قبيلة تيم الله، وقيل: إن جده زوطى من أهل كابل، وقيل: من الأنبار. إمام الحنفية، الفقيه المجتهد، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، كان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ثم انقطع للتدريس والافتاء، أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، ويروى عنه انه تولى حلقة الدرس أثناء سفر شيخه حماد الى البصرة، وبعد عودة حماد من سفره أعلن خطأ عشرين إجابة من إجابات أبي حنيفة الستين على أسئلة وجهت إليه. وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا اسحاق السبيعي ومحارب بن دثار ونافعا مولى ابن عمر. روى عنه عبد الله بن المبارك ووكيع وأبو يوسف والشيباني وزفر وغيرهم. حضر مجلس درس الصادق (عليه السلام) لمدة عامين حتى تواتر عنه قوله: لولا السنتان لهلك النعمان، وقوله: جعفر بن محمد أفقه من رأيت، حتى عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام)، وله قياسات عجيبة ذكرها العلماء في كتبهم كالجصاص والذهبي وغيرهما، ويقال: إنه كان يميل في آرائه العقيدية الى المرجئة. (تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 10 ص 449 - 451، ووفيات الأعيان: ج 5 ص 39 - 47، وميزان الاعتدال: ج 4 ص 265، والاعلام للزركلي: ج 8 ص 36، وراجع رجال الطوسي: ص 325 ت 23، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 19 ص 163 - 165). (5) انظر اللباب: ج 1 ص 217، وأحكام القرآن لابن العربي: ج 3 ص 1278، وبداية المجتهد: ج 1 ص 367، والبحر الزخار: ج 3 ص 394. (*)
[ 194 ]
الشافعي (1) (2) هو جبران جار مجرى الجنايات ولا يأكل منه * (فمن لم يجد) * الهدي * (ف) * عليه * (صيام ثلثة أيام في الحج) * أي: في وقته، والأفضل أن يصوم يوما قبل التروية والتروية وعرفة * (وسبعة إذا رجعتم) * إلى أهاليكم * (تلك عشرة كاملة) * توكيد فيه وزيادة توصية بصيامها وإتمامها * (ذا لك) * إشارة إلى التمتع * (لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * وحاضروا المسجد الحرام من كان بينهم وبينه اثنا عشر ميلا فما دونها من كل جانب * (واتقوا الله) * في المحافظة على أوامره ونواهيه * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * لمن خالف أمره وتعدى حدوده. * (الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولى الالبب) * (197) سورة البقرة / 198 أي: وقت * (الحج أشهر معلومت) * كقولك: البرد شهران، والأشهر المعلومات: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وفائدة كونها أشهر الحج: أن الإحرام بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج لا يصح إلا فيها * (فمن فرض فيهن الحج) * أي: أحرم فيهن بالحج * (فلا رفث) * أي: فلا جماع * (ولا فسوق) * (1) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي الشافعي الحجازي المكي، أبو عبد الله، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه تنسب الشافعية، ولد بغزة بفلسطين سنة 150 ه، وحمل الى مكة وهو ابن سنتين فنشأ بها وبمدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقدم بغداد مرتين وحدث بها، وخرج الى مصر فنزلها إلى حين وفاته، ودفن بها آخر يوم من رجب سنة 204 ه. من تصانيفه: المسند في الحديث، إثبات النبوة والرد على البراهمة، والمبسوط في الفقه. (سير النبلاء للذهبي: ج 7 ص 166، وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3 ص 305 - 310). (2) انظر الام: ج 2 ص 217، ومختصر المزني: ص 74، والمغني لابن قدامة: ج 3 ص 583. (*)
[ 195 ]
أي: ولا كذب، وقيل: لا خروج عن حدود الشريعة (1) * (ولا جدال في الحج) * وهو قول: " لا والله " و " بلى والله " عندنا، وقالوا: إنه المراء والسباب * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * هذا حث على أفعال الخير والبر * (وتزودوا) * واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم * (فإن خير الزاد التقوى واتقون) * وخافوا عقابي * (يأولى الالبب) * فإن قضية اللب تقوى الله، ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له. * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) * (198) كانوا يتحرجون عن التجارة في الحج ويسمون من يخرج بالتجارة الداج (2) فرفع عنهم الجناح في ذلك * (أن تبتغوا) * في أن تبتغوا * (فضلا من ربكم) * أي: إعطاء منه وتفضلا وهو النفع والربح في التجارة * (فإذآ أفضتم من عرفت) * أي: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله: أفضتم أنفسكم، وعرفات علم للموقف سمي بجمع كأذرعات، وهي من الأسماء المرتجلة * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * فيه دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام فريضة، لأن ظاهر الأمر على الوجوب (3)، وإذا أوجب الله تعالى الذكر فيه فقد أوجب الكون فيه، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله عنده * (واذكروه كما هدبكم) * " ما " مصدرية أو كافة، أي: اذكروه (1) قاله ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء واختاره الشيخ الطوسي. راجع التبيان: ج 2 ص 164. (2) الداج: المكارون والأعوان والتجار، ومنه الحديث: " هؤلاء الداج وليسوا بالحاج " راجع (القاموس المحيط: مادة داج). (3) في نسخة: يقتضي الايجاب. (*)
[ 196 ]
ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه * (وإن كنتم من قبله) * من قبل الهدى * (لمن الضالين) * أي: الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه، و * (إن) * هي المخففة من الثقيلة. وروي عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما صلى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر (1). و * (المشعر) *: المعلم، لأنه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته، وسميت المزدلفة جمعا لأن آدم (عليه السلام) اجتمع فيها مع حواء، وازدلف منها أي: دنا منها، وقيل: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين (2). * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم منسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا وماله في الاخرة من خلق (200) ومنهم من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) * (202) سورة البقرة / 199 و 202 ثم لتكن إفاضتكم * (من حيث أفاض الناس) * ولا تكن من المزدلفة، وذلك لما كان عليه الحمس (3) من الترفع على الناس عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه فلا نخرج منه، فيقفون بجمع وسائر الناس (1) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 246، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 175. (2) قاله قتادة. راجع الكشاف: ج 1 ص 246. (3) الحمس بضم الحاء وسكون الميم: الأمكنة الصلبة، جمع أحمس وبه لقب قريش. (القاموس المحيط: مادة حمس). (*)
[ 197 ]
بعرفات، وقيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وهم الحمس (1)، أي: من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات * (واستغفروا الله) * واطلبوا المغفرة من الله * (فإذا قضيتم منسككم) * فإذا أديتم مناسككم، والمنسك: إما موضع النسك، أو مصدر جمع لأنه يشتمل على أفعال، أي: فإذا فرغتم من أفعال الحج * (فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم) * فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلونه في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم، وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون أيامهم * (أو أشد ذكرا) * في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه " الذكر " في قوله: * (كذكركم) * كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا، أو في موضع نصب عطفا على * (ءابآءكم) * بمعنى: أو أشد ذكرا من آبائكم على أن * (ذكرا) * من فعل المذكور * (فمن الناس من يقول) * فإن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين * (ءاتنا في الدنيا) * اجعل إيتاءنا أي: إعطاءنا في الدنيا خاصة * (وماله في الاخرة من خلق) * يعني: من طلب خلاق أي: نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا * (أولئك) * الداعون بالحسنتين * (لهم نصيب) * من جنس ما * (كسبوا) * من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، أو لهم نصيب مما دعوا به يعطيهم منه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة، وسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب، ويجوز أن يكون * (أولئك) * للفريقين جميعا * (والله سريع الحساب) * يحاسب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم لا يشغله حساب (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 247. (*)
[ 198 ]
أحد عن حساب غيره، وروي: أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة (1)، وروي: في مقدار فواق ناقة (2)، وروي: في مقدار لمحة (3). * (واذكروا الله في أيام معدودا ت فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) * (203) الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، وذكر الله فيها التكبير في أعقاب الصلوات * (فمن تعجل) * أي: من تعجل في النفر أو استعجل النفر من منى * (في يومين) * بعد يوم النحر إذا فرغ من رمي الجمار * (فلا إثم عليه) * في التعجيل * (ومن تأخر) * حتى رمى في اليوم الثالث * (فلا إثم عليه لمن اتقى) * الصيد، وقيل: لمن اتقى الكبائر (4) * (واتقوا الله) * باجتناب معاصيه * (واعلموا أنكم إليه تحشرون) * فيجازيكم على أعمالكم. * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على مافى قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) * (205). سورة البقرة / 205 و 207 ثم ذكر سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أحوال المؤمنين: * (ومن الناس من يعجبك قوله) * أي: يروقك ويعظم في قلبك * (في الحيوة الدنيا) * الجار يتعلق بالقول، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا لأنه يطلب به حظا من حظوظ الدنيا (1 و 2 و 3) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 249، وأبو حيان في البحر المحيط: ج 2 ص 106. والفواق - بضم الفاء وفتحها -: مابين الحلبتين من الوقت، أو مابين فتح يدك وقبضها على الضرع. (انظر القاموس المحيط: مادة فوق). (4) قاله قتادة عن ابن مسعود. راجع تفسير القرطبي: ج 3 ص 14. (*)
[ 199 ]
* (ويشهد الله على مافى قلبه) * من محبتك * (وهو ألد الخصام) * وهو شديد الجدال والمخاصمة، وإضافة * (ألد) * إلى * (الخصام) * بمعنى " في " كقولهم: ثبت الغدر * (وإذا تولى) * أي: ملك الأمر وصار واليا فعل بظلمه وسوء سريرته ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك * (الحرث والنسل) * وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل (1)، وقيل: معناه وإذا تولى عنك وأعرض بعد إلانة المنطق (2) * (والله لا يحب) * العمل ب * (الفساد) *. * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * (206) * (أخذته العزة بالاثم) * من قولك: أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه، أي: حملته العزة التي فيه على الإثم المنهي عنه وألزمته ارتكابه. * (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغآء مرضات الله والله رءوف بالعباد) * (207) * (يشرى نفسه) * أي: يبيعها ل * (ابتغآء مرضات الله) * أي: يبذل نفسه حتى يقتل، وقيل: نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) حين (3) بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهرب النبي إلى الغار (4)، وقيل: نزلت في كل مجاهد في سبيل الله (5)، * (والله رءوف بالعباد) * حيث كلفهم الجهاد وعرضهم لثواب الشهداء. (1) قاله مجاهد. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 180. (2) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 251. (3) في نسخة: حيث. (4) حكاه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 183 عن أبي جعفر (عليه السلام) وعمر بن شبة. (5) قاله الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 148، ونسبه الطبري في تفسيره: ج 2 ص 333 الى قتادة. (*)
[ 200 ]
* (يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوا ت الشيطن إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد ماجآءتكم البينت فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * (209) * (السلم) * بكسر السين وفتحها، قال أبو عبيدة (1): السلم - بالكسر - والإسلام واحد، والسلم: الاستسلام، والمعنى: ادخلوا في الإسلام والطاعة (2)، وروى أصحابنا: أنه الدخول في الولاية (3) * (كآفة) * أي: جميعا لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته، وهو من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم * (فإن زللتم) * عن الدخول في السلم * (من بعد ماجآءتكم) * الحجج على أن ما دعيتم إليه حق * (فاعلموا أن الله عزيز) * غالب لا يعجزه الانتقام منكم * (حكيم) * لا ينتقم إلا بحق. سورة البقرة / 210 و 211 * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملئكة (1) هو معمر بن المثنى التيمي، تيم قريش أو تيم بني مرة على خلاف بينهم، وهو على القولين معا مولى لتيم، وقد اختلفوا في مولده، ولعل الأقرب الى الصحة أنه ولد في سنة 110 ه، والمراجع تضعه في عداد علماء أهل البصرة فلعله ولد فيها، وتوفي فيما بين سنتي 209، و 213 ه وقد عمر. ومن أخباره أنه بلغه أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، فقال: يتكلم في كتاب الله تعالى برأيه ! فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده وحادثه ثم قال له: أبا سعيد، ما تقول في الخبز أي شئ هو ؟ فقال: الذي تخبزه وتأكله، فقال أبو عبيدة: قد فسرت كتاب الله تعالى برأيك، فإن الله تعالى قال: * (وقال الاخر إنى أريني أحمل فوق رأسي خبزا) * فقال الأصمعي: هذا شئ بان لي، فقلته ولم أفسره برأيي، فقال أبو عبيدة: والذي تعيب علينا كله شئ بان لنا فقلناه، ولم نفسره برأينا، وقام وركب حماره وانصرف. (أخبار النحويين للسيرافي: ص 67، ومختار أخبار النحويين: ص 150، ووفيات الأعيان لابن خلكان: ج 4 ص 313 - 331، والأغاني: ج 5 ص 107). (2) مجاز القرآن: ج 1 ص 71 - 72. (3) انظر الكافي: ج 1 ص 417 ح 29، وتفسير القمي: ج 1 ص 71. (*)
[ 201 ]
وقضى الامر وإلى الله ترجع الامور) * (210) إتيان الله: إتيان أمره وبأسه كقوله: * (أو يأتي أمر ربك) * (1) * (جاءهم بأسنآ) * (2)، ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى: * (أن يأتيهم الله) * ببأسه للدلالة عليه بقوله: * (فاعلموا أن الله عزيز) * يعني: غالب وقهار * (في ظلل من الغمام) * جمع ظلة وهي ماأظلك * (والملئكة) * بالرفع، وقد قرئ بالجر (3) عطفا على * (ظلل) * أو * (الغمام) *، * (وقضى الامر) * وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه، وقرئ: * (ترجع) * و " يرجع " (4) بالتأنيث والتذكير فيهما. * (سل بنى إسرا ءيل كم ءاتينهم من ءاية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ماجآءته فإن الله شديد العقاب) * (211) * (سل) * أمر للرسول أو لكل أحد * (كم ءاتينهم من ءاية بينة) * أي: دلالة معجزة على أيدي أنبيائهم، أو آية في التوراة شاهدة على صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله): فمنهم من آمن ومنهم من جحد، ومنهم من أقر ومنهم من بدل * (ومن يبدل نعمة الله) * آيات الله التي هي أجل نعمة من الله لكونها أسباب الهدى والنجاة من النار، وتبديلهم إياها: أن الله سبحانه أظهرها لتكون أسباب نجاتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم، أو حرفوا آيات التوراة الدالة على نعت محمد (صلى الله عليه وآله)، و * (كم) * يحتمل معنى الاستفهام والخبر معا * (من بعد ماجآءته) * معناه: من بعد ما تمكن من (1) النحل: 33. (2) الأعراف: 5. (3) قرأه أبو جعفر والحسن وأبو حيوة. راجع التبيان: ج 2 ص 188، وتفسير البغوي: ج 1 ص 184، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 251، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 125. (4) قرأه نافع وخارجة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 181، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 125. (*)
[ 202 ]
معرفتها أو من بعد ما عرفها * (فإن الله شديد العقاب) * له. * (زين للذين كفروا الحيوة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة والله يرزق من يشآء بغير حساب) * (212) الذي زين لهم * (الدنيا) * هو الشيطان حسنها في أعينهم بوساوسه فلا يريدون غيرها، ويجوز أن يجعل ما خلق الله فيها من الأشياء المشتهيات وماركبه فيهم من الشهوة لها تزيينا، لأن التكليف لا يتم إلا مع الشهوة * (ويسخرون من الذين ءامنوا) * لزهدهم فيها أو من المؤمنين الذين لاحظ لهم منها * (والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة) * لأنهم في عليين وهم في سجين، أو حالهم عالية لحالهم لأنهم في كراهة وهم في هوان * (والله يرزق من يشآء بغير حساب) * بغير تقدير فيوسع الله على من توجب الحكمة التوسعة عليه، أو يعطي أهل الجنة مالا يأتي عليه الحساب. * (كان الناس أمة وا حدة فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينت بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشآء إلى صرا ط مستقيم) * (213) سورة البقرة / 214 * (كان الناس أمة وا حدة) * متفقين على الفطرة فاختلفوا (1) * (فبعث الله النبين) * وحذف " فاختلفوا " لدلالة قوله: * (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * (1) انظر تفسير الميزان: ج 2 ص 112 - 127 ففيه تفصيل ممتع وبحث مرتع حول الانسان وشعوره وعلومه وكونه مدنيا واجتماعيا بالطبع ثم حدوث الاختلاف بين أفراده ودور الدين في رفعه، فراجع. (*)
[ 203 ]
عليه، وفي قراءة عبد الله: " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله " (1)، وقيل: إن معناه: كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم (2)، والأول أوجه * (وأنزل معهم الكتب) * يريد به الجنس، أو أنزل مع كل واحد منهم كتابه * (ليحكم) * الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه * (بين الناس فيما اختلفوا فيه) * في الحق والدين الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوا) * الكتاب المنزل لإزالة الخلاف، يعني: أنهم جعلوا نزول الكتاب الذي أنزل لإزالة الاختلاف (3) سببا في شدة الاختلاف (4) * (بغيا بينهم) * حسدا وظلما بينهم لحرصهم على الدنيا * (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق) *: * (من) * للتبيين، أي: فهداهم للحق الذي اختلف فيه من اختلف. * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) * (214) * (أم) * منقطعة معناها: بل أحسبتم، والهمزة فيها للتقرير (5) واستبعاد الحسبان. لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجئ البينات تشجيعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين على الصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين واليهود وعداوتهم له قال لهم على طريقة الالتفات: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم) * " لما " للتوقع وهي في النفي نظير " قد " في الإثبات، (1) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 255. (2) قاله ابن عباس والحسن وعطاء واختاره الجبائي. راجع التبيان: ج 2 ص 194، وتفسير البغوي: ج 1 ص 186. (3) و (4) في بعض النسخ: الخلاف. (5) في نسخة: للتقريع. (*)
[ 204 ]
والمعنى: أن إتيان ذلك متوقع منتظر * (مثل الذين خلوا من قبلكم) * أي: حالهم التي هي مثل في الشدة * (مستهم) * بيان للمثل وهو استئناف، كأن قائلا قال: كيف كان ذلك المثل ؟ فقيل: * (مستهم البأساء والضراء) * من القتل والخروج عن الأهل والمال * (وزلزلوا) * وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال * (حتى يقول الرسول) * إلى الغاية التي قال الرسول ومن * (معه) * فيها: * (متى نصر الله) * طلبوا النصرة وتمنوه واستطالوا زمان الشدة، وفيه دليل على تناهي الأمر في الشدة، لأن الرسل إذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان البلاء في غاية الشدة * (ألا إن نصر الله قريب) * على إرادة القول، أي: فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر، وقرئ: * (حتى يقول الرسول) * بالنصب على إضمار " أن " ومعنى الاستقبال، لأن " أن " علم له، وبالرفع (1) على معنى الحال إلا أنها حال ماضية محكية. * (يسلونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوا لدين والاقربين واليتمى والمسكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * (215). سورة البقرة / 216 * (ماذا ينفقون) * أي شئ ينفقون ؟ والسؤال عن الإنفاق يتضمن السؤال عن مصرف النفقة، لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا وقع موقعها، ولذلك جاء الجواب ببيان مصارف النفقة * (مآ أنفقتم من خير) * أي: مال * (فللوالدين والاقربين) *. (1) قرأه نافع ومجاهد وابن محيصن وشيبة والأعرج. انظر الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 232، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 181، والتبيان: ج 2 ص 198، والتيسير في القراءات للداني: ص 80، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 131، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 140. (*)
[ 205 ]
* (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (216) * (وهو كره لكم) * من الكراهة بدليل قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيا) * ثم إنه يجوز أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف كقول الخنساء (1): فإنما هي إقبال وإدبار (2) كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، ويجوز أن يكون فعلا بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز، أي: وهو مكروه لكم، وقد يكون الشئ مكروها في طبع الإنسان وإن كان يريده لأن الله تعالى أمره بذلك * (وعسى أن تكرهوا شيا) * في الحال * (وهو خير لكم) * في العاقبة كما تكرهون القتال لما فيه من المخاطرة بالروح وهو خير لكم لأن فيه إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة * (والله يعلم) * ما يصلحكم وما هو خير لكم * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك. * (يسلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله (1) هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السلمية، أشهر شواعر العرب على الاطلاق، عاشت أكثر عمرها في العصر الجاهلي وأدركت الاسلام فأسلمت، ووفدت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع قومها بني سليم، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستنشدها وكانت تنشده، وانبعثت مع المسلمين لفتح بلاد فارس ومعها أولادها الأربعة، فقتلوا في وقعة القادسية جميعهم سنة 16 ه، توفيت سنة 24 ه. (الشعر والشعراء لابن قتيبة: ص 197، أعلام النساء: ج 1 ص 305، خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 433، جمهرة الأنساب: ص 249). (2) تقدم شرح البيت في ص 177، فراجع. (*)
[ 206 ]
والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا والاخرة وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون) * (217) سورة البقرة / 218 و 220 بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن جحش على سرية في جمادي الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي فقتلوه واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادي الآخرة، فقالت قريش: قد استحل محمد (صلى الله عليه وآله) الشهر الحرام، فنزلت (1) الآية، أي: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام * (قتال فيه) * بدل الاشتمال من الشهر الحرام * (قل قتال فيه كبير) * أي: إثم كبير، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه تخصص بقوله: * (فيه) *، * (وصد عن سبيل الله) * مبتدأ و * (أكبر) * خبره، والمعنى: وكبائر قريش: من صدهم * (عن سبيل الله) * وعن * (المسجد الحرام) * وكفرهم بالله * (وإخراج) * أهل المسجد الحرام * (منه) * وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنون * (أكبر عند الله) * مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن * (والفتنة) * الإخراج أو الشرك * (والمسجد الحرام) * عطف على * (سبيل الله) *، * (ولا يزالون يقتلونكم) * إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين، و * (حتى) * معناه: التعليل، أي: * (يقتلونكم) * كي * (يردوكم عن دينكم) *، و * (إن استطعوا) * استبعاد لاستطاعتهم * (ومن) * يرجع * (عن دينه) * إلى دينهم * (فيمت) * على الردة * (فأولئك حبطت أعملهم (1) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 61، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 41، والكشاف: ج 1 ص 258. (*)
[ 207 ]
في الدنيا) * لما يفوتهم فيها من ثمرات الإسلام * (و) * في * (الاخرة) * لما يفوتهم من الثواب. * (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم) * (218) نزلت في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه وقتلهم الحضرمي في رجب بأن ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر فنزلت (1) * (أولئك يرجون رحمت الله) * وهي النصرة والغنيمة في الدنيا والمثوبة في العقبى، وعن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب (2). * (يسلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنفع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسلونك ماذا ينفقون قل العفو كذا لك يبين الله لكم الايت لعلكم تتفكرون (219) في الدنيا والاخرة ويسلونك عن اليتمى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوا نكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شآء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم) * (220) * (إثم كبير) * من قرأ بالباء فلأنهم استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبير كقوله: * (كبئر الاثم) * (3) و * (كبائر ما تنهون عنه) * (4)، وقالوا في غير الموبق: صغير وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، ومقابل الكثير القليل، ومن قرأ بالثاء (5) فللآية (1) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 62 - 64، والسنن الكبرى للبيهقي: ج 9 ص 11. (2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 2 ص 369. (3) الشورى: 37. (4) النساء: 31. (5) أي " إثم كثير " قرأه ابن مسعود وحمزة والكسائي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 = (*)
[ 208 ]
في المائدة: * (إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم العدا وة والبغضاء) * الآية (1) وللخبر: " لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخمر عشرة " (2)، والخمر كل شراب مسكر مغط للعقل والتمييز، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمرا: إذا ستره للمبالغة، والميسر مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، واشتقاقه من اليسر، كأنه أخذ مال بيسر من غير كد أو من اليسار لأنه سلب يساره. وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " إياكم وهاتين الكعبتين (3) المشؤومتين فإنهما من ميسر العجم " (4). وعن علي (عليه السلام): " إن النرد والشطرنج من الميسر " (5) * (وإثمهما) * أي: وعقاب الإثم في تعاطيهما * (أكبر من نفعهما) * وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما والتوصل بهما إلى مصادقة الفتيان ومعاشرتهم والنيل من أعطيتهم * (ويسلونك ماذا ينفقون) * أي شئ ينفقون ؟ والسائل عمرو بن الجموح * (قل العفو) * العفو نقيض الجهد وهو أن ينفق مالايبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال: سورة البقرة / 220 خذي العفو مني تستديمي مودتي (6) = ص 276، وتفسير البغوي: ج 1 ص 193، والتبيان: ج 2 ص 212، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 291 و 292، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 132، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 157. (1) آية: 91. (2) مجمع الزوائد للهيثمي: ج 4 ص 89 - 90 وج 5 ص 72، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 60. (3) في بعض النسخ: اللعبتين. (4) الكامل في الضعفاء لابن عدي: ج 1 ص 216، والكشاف: ج 1 ص 262، والكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف: ص 8. (5) الكافي: ج 6 ص 435 ح 3. (6) البيت لأسماء بن خارجة الفزاري، وعجزه: ولا تنطقي في سورتي حين أغضب. راجع الكشاف: ج 1 ص 262، ولسان العرب: مادة (عفا)، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 61. (*)
[ 209 ]
وقرئ بالنصب والرفع (1) * (في الدنيا والاخرة) * يتعلق ب * (تتفكرون) * أي: لعلكم تتفكرون في الدارين وما يتعلق بهما، فتأخذون بما هو أصلح لكم كما بينت لكم أن العفو أصلح من الجهد في النفقة، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع، أو يتعلق ب * (يبين) * على معنى: يبين لكم الآيات في أمور الدارين لعلكم تتفكرون. ولما نزل * (إن الذين يأكلون أمول اليتمى ظلما) * الآية (2) اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والاهتمام بأمورهم، فشق ذلك عليهم، فقيل: * (إصلاح لهم خير) * أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم * (وإن تخالطوهم) * وتعاشروهم * (ف) * - هم * (إخوا نكم) * في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه * (والله يعلم المفسد من المصلح) * أي: لا يخفى على الله من داخلهم بإصلاح وإفساد فيجازيه على حسب مداخلته * (ولو شآء الله لاعنتكم) * لحملكم على العنت وهو المشقة، وضيق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم * (إن الله عزيز) * غالب قادر على ما يشاء * (حكيم) * يفعل ما توجبه الحكمة. * (ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين ءايته للناس لعلهم يتذكرون) * (221) (1) قرأه أبو عمرو وابن كثير واليزيدي والحسن وقتادة والجحدري وابن أبي اسحاق. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 333، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 182، والتبيان: ج 2 ص 212، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 133، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 159. (2) النساء: 10. (*)
[ 210 ]
أي: لا تتزوجوا النساء الكافرات * (حتى يؤمن) *، * (ولامة مؤمنة) * أي: مملوكة مؤمنة * (خير من) * حرة * (مشركة ولو أعجبتكم) * أي: ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم بجمالها أو مالها وتحبونها فإن المؤمنة خير منها * (ولا تنكحوا المشركين) * النساء المسلمات * (حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من) * حر * (مشرك ولو أعجبكم) * جماله أو ماله أو حاله * (أولئك) * إشارة إلى المشركين والمشركات * (يدعون إلى النار) * أي: يدعون إلى الكفر فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا * (والله يدعوا إلى الجنة) * أي: إلى فعل ما يوجب الجنة * (والمغفرة) * من الإيمان والطاعة * (بإذنه) * أي: بأمره وتوفيقه للعمل الذي يوصل إلى الجنة * (ويبين ءايته) * أي: أوامره ونواهيه * (للناس لعلهم يتذكرون) * أي: يتعظون. * (ويسلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوا بين ويحب المتطهرين) * (222) سورة البقرة / 223 * (المحيض) * مصدر حاضت تحيض (1)، نحو: جاء مجيئا وبات مبيتا * (قل هو أذى) * أي: المحيض شئ يستقذر ويؤذي من يقربه، نفرة منه له * (فاعتزلوا النساء) * فاجتنبوا مجامعة النساء * (في) * وقت * (المحيض) *، * (ولا تقربوهن) * بالجماع * (حتى يطهرن) * أي: ينقطع الدم عنهن، ومن قرأ: " حتى يطهرن " (2) فإنما هو يتطهرن أي: يغتسلن * (فإذا تطهرن) * أي: اغتسلن، وقيل: توضأن أو (1) في نسخة: محيضا. (2) قرأه عاصم برواية أبي بكر والمفضل وحمزة والكسائي والجحدري وخلف والفضل وشعبة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 182، والتيسير في القراءات للداني: ص 80، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 134، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 168. (*)
[ 211 ]
غسلن الفرج بعد انقطاع دم الحيض (1)، * (فاتوهن من حيث أمركم الله) * أي: من الجهة التي يحل أن يؤتين منها، ولا تقربوهن من حيث لا يحل بأن يكن محرمات أو معتكفات أو صائمات، ولو أراد في الفرج لقال: " في حيث "، * (إن الله يحب التوا بين) * من الذنوب * (ويحب المتطهرين) * بالماء. * (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين) * (223) * (نساؤكم) * ذوات * (حرث لكم) * منهن (2) تحرثون الولد واللذة * (فأتوا حرثكم) * أي: نساءكم * (أنى شئتم) * من أين شئتم وكيف شئتم، كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أي جهة شئتم * (وقدموا لانفسكم) * ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وقيل: هو التسمية عند الوطء (3)، وقيل: هو طلب الولد (4) * (واتقوا الله) * ولا تجترئوا على المناهي * (واعلموا أنكم ملقوه) * أي: ملاقو جزائه فتزودوا مالا تفتضحون به. * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمنكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم) * (224) العرضة: فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة، وهي اسم ماتعرضه دون الشئ (1) وهو قول مجاهد وطاووس وعكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 283، وتفسير الطبري: ج 2 ص 399، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 88. (2) في بعض النسخ: فيهن. (3) قاله ابن عباس وعطاء. انظر تفسير الطبري: ج 3 ص 411، وتفسير الماوردي ج 1 ص 285، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 96. (4) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 266، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 147، والسمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 206. (*)
[ 212 ]
من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه، تقول: فلان عرضة دون الخير، والعرضة - أيضا -: المعرض للأمر، قال: " فلا تجعلوني عرضة للوائم " (1). سورة البقرة / 225 - 227 ومعنى الآية على الأولى: أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة الرحم أو غيرها ثم يقول: أخاف أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة أن يبر في يمينه، فقيل لهم: * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمنكم) * أي: حاجزا لما حلفتم عليه وهي المحلوف عليه، وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين كما جاء في الخبر: " إذا حلفت على يمين " (2) أي: على شئ مما يحلف عليه، وقوله: * (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا) * عطف بيان * (لايمنكم) * أي: للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وتعلقت اللام في قوله: * (لايمنكم) * بالفعل، أي: ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخا وحاجزا، ويجوز أن يتعلق ب * (عرضة) * لأن فيها معنى الاعتراض، أي: لا تجعلوه شيئا يعترض البر، من اعترضني كذا، ويجوز أن يكون اللام للتعليل ويتعلق * (أن تبروا) * بالفعل أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. ومعنى الآية على الأخرى: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، و * (أن تبروا) * علة للنهي، أي: إرادة أن تبروا وتتقوا، لأن الحلاف مجترئ على الله فلا (1) وصدره: دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم. ولم نعثر على قائله فيما توفرت لدينا من مصادر، وقيل هو لأبي تمام. ومعناه واضح. ذكره الشيخ في التبيان: ج 2 ص 225، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 267، والقرطبي في تفسيره: ج 3 ص 98، وشرح شواهد الكشاف: ص 96. (2) وردت أحاديث عديدة تبتدأ بهذا اللفظ. انظر على سبيل المثال: صحيح البخاري: ج 8 ص 159 و 184، وسنن النسائي: ج 7 ص 12، وتاريخ بغداد للخطيب: ج 8 ص 460. (*)
[ 213 ]
يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في إصلاح ذات بينهم. * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمنكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) * (225) " اللغو ": الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره، واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان، وهو ما يجري على عادة اللسان من قول: " لا والله " و " بلى والله " من غير عقد على يمين يقتطع بها مال أو يظلم بها أحد، والمعنى: لا يؤاخذكم بلغو اليمين الذي لاقصد (1) معه ولا يلزمكم به الكفارة * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * من الأيمان وهو ما عزمتموه كقوله سبحانه: * (بما عقدتم الايمن) * (2) لأن كسب القلب هو القصد (3) والنية، أي: ما نوت قلوبكم وقصدته من الأيمان * (والله غفور حليم) * حيث لم يؤاخذكم بلغو الأيمان. * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فآءو فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلق فإن الله سميع عليم) * (227) * (للذين يؤلون من نسائهم) * عدي " آلى " الذي هو بمعنى حلف ب * (من) * لأن هذا الحلف قد ضمن معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو (4) حالفين، ويجوز أن يكون المراد لهم من نسائهم * (تربص أربعة أشهر) * كقولهم: لي منك كذا، والإيلاء من المرأة أن يقول الرجل: والله لا أقربك، ثم أقام على يمينه، والحكم في ذلك أن المرأة إذا استعدت عليه إلى الحاكم أنظره الحاكم بعد الرفع إليه أربعة أشهر ويقول له بعد مضي الأشهر الأربعة إذا لم يراجع زوجته: فئ أو طلق (1) في نسخة: عقد. (2) المائدة: 89. (3) في بعض النسخ: العقد. (4) في نسخة: أي. (*)
[ 214 ]
* (فإن فآءو) * أي: رجعوا بأن يكفروا عن اليمين ويجامعوا عند القدرة عليه، أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع * (فإن الله غفور رحيم) * لا يتبعه بعقوبة * (وإن عزموا الطلق) * وتلفظوا به * (فإن الله سميع عليم) * يسمع قوله ويعلم ضميره. * (والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر وبعولتهن أحق بردهن في ذا لك إن أرادوا إصلحا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) * (228) * (والمطلقت) * يعني: المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن في الآية بيان عدتهن، واللفظ مطلق في تناول الجنس، صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كاللفظ المشترك * (يتربصن بأنفسهن) * خبر في معنى الأمر والمراد: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالامتثال، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك الله، ومعنى * (يتربصن) *: ينتظرن * (بأنفسهن) * انقضاء * (ثلثة قروء) * فلا يتزوجن، والمراد بالقروء: الأطهار عندنا (1) وعند الشافعي (2)، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ثلاث حيض (3) وهي جمع قرء أو قرء، وانتصب * (ثلثة قروء) * على أنه مفعول به، أي: * (يتربصن) * مضي سورة البقرة / 229 * (ثلثة قروء) *، أو على أنه ظرف أي: مدة ثلاثة قروء * (ولا يحل لهن أن يكتمن (1) انظر التبيان: ج 2 ص 237 و 239 وقال: روي عن عائشة قالت: الاقراء: الاطهار. (2) قال البغوي في تفسيره: ج 1 ص 203: وهو قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة والزهري، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي. (3) انظر الحاوي الكبير للماوردي: ج 10 ص 306، والمغني لابن قدامة: ج 8 ص 488. (*)
[ 215 ]
ما خلق الله في أرحامهن) * من الولد أو من دم الحيض، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ولئلا يشفق على الولد فيترك طلاقها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت استعجالا للطلاق * (إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر) * تعظيم لفعلهن، وأن من آمن بالله لا يجترئ على مثله من العظائم * (وبعولتهن أحق بردهن في ذا لك) * أي: أزواجهن أولى بمراجعتهن وهي ردهن إلى الحالة الاولى في ذلك الأجل الذي قدر لهن في مدة العدة * (إن أرادوا) * بالرجعة * (إصلحا) * لما بينهم وبينهن ولم يريدوا مضارتهن * (ولهن مثل الذى عليهن) * ويجب لهن من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهن * (بالمعروف) * بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم * (وللرجال عليهن درجة) * أي: زيادة في الحق وفضيلة بقيامهم عليهن. * (الطلق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون) * (229) * (الطلق) * بمعنى التطليق كالسلام والكلام بمعنى التسليم والتكليم، أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) * (1) أي: كرة بعد كرة * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن) * هذا تخيير (1) الملك: 4. (*)
[ 216 ]
لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء مع حسن العشرة والقيام بحقوقهن وبين أن يسرحوهن سراحا جميلا، وقيل: معناه: الطلاق الرجعي * (مرتان) *، لأنه لا رجعة بعد الثلاث فإمساك برجعة أو تسريح بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة (1)، وقيل: بأن يطلقها الثالثة (2)، وروي: أن سائلا سأل رسول الله: أين الثالثة ؟ فقال (عليه السلام): " أو تسريح بإحسان " (3)، * (ولا يحل لكم) * خطاب للأزواج * (أن تأخذوا مما ءاتيتموهن) * من المهر * (شيا إلا أن يخافآ) * الزوجان ترك إقامة * (حدود الله) * فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها * (فلا جناح عليهما) * فلا جناح على الرجل فيما أخذ وعلى المرأة * (فيما افتدت به) * أي: فدت به نفسها واختلعت به من بذل ماأوتيت من المهر أو الزيادة على المهر إن كان النشوز والبغض منها وحدها، وإن كان منهما فدون المهر، وقرئ: " أن يخافا " على البناء للمفعول وإبدال " أن لا يقيما " من ألف الضمير في " يخافا " (4)، وهو من بدل الاشتمال كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود الله، ونحوه: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * (5). سورة البقرة / 230 و 231 * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله (1) قاله عروة وقتادة على ما حكاه عنهما الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 293، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 307. (2) وهو قول عطاء ومجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 294. (3) أوردها الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 294، والبيهقي في سننه: ج 7 ص 240. (4) قرأه حمزة وأبو جعفر ويعقوب والأعمش وأبو عبيد. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 183، والحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 248، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 35، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 198. (5) الأنبياء: 3. (*)
[ 217 ]
يبينها لقوم يعلمون) * (230) * (فإن طلقها) * الطلاق المذكور الموصوف (1) بالتكرار في قوله: * (الطلق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن) *، أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين * (فلا تحل له من بعد) * أي: من بعد ذلك التطليق * (حتى تنكح زوجا غيره) * حتى تتزوج غيره، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزويج * (فإن طلقها) * الزوج الثاني * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالمزاوجة * (إن ظنا) * إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية، ولم يقل: إن علما، لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله، ومن فسر الظن هنا بالعلم فقد وهم لفظا ومعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن علمت (2) أنه يقوم، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظن ظنا. * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذا لك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا ءايت الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم) * (231) * (فبلغن أجلهن) * أي: آخر عدتهن وقاربن انقضاءها، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهي به: أجل * (فأمسكوهن) * أي: راجعوهن قبل انقضاء العدة * (بمعروف) * بما يجب لها من القيام بواجبها من غير طلب ضرار بالمراجعة * (أو سرحوهن) * أو اتركوهن حتى (1) في نسخة: المعروف. (2) في بعض النسخ: ظننت. (*)
[ 218 ]
تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن * (ولا تمسكوهن ضرارا) * لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن بتطويل العدة عليهن * (لتعتدوا) * أي: لتظلموهن * (ومن يفعل ذا لك فقد ظلم نفسه) * بتعريضها لعذاب الله * (ولا تتخذوا ءايت الله هزوا) * أي: لا تستخفوا بأوامره ونواهيه * (واذكروا نعمت الله عليكم) * فيما أباحه لكم من الأزواج والأموال * (وما أنزل عليكم) * من القرآن والعلوم التي بينها لكم * (يعظكم به) * أي: بما أنزل عليكم لتتعظوا، وذكر النعمة مقابلتها بالشكر. * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوا جهن إذا ترا ضوا بينهم بالمعروف ذا لك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر ذا لكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (232) * (فبلغن أجلهن) * أي: انقضت عدتهن * (فلا تعضلوهن) * أي: لاتمنعوهن ظلما عن التزوج، وهذا: إما أن يكون خطابا للأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلما لا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج، وإما أن يكون خطابا للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن، والعضل: الحبس والتضييق * (إذا ترا ضوا) * إذا تراضى الخطاب والنساء * (بالمعروف) * بما (1) يحسن في الدين والمروة من الشرائط * (ذا لك) * الذي سبق من الأمر والنهي * (يوعظ به) *، * (ذا لكم أزكى لكم) * أي: خير لكم وأفضل * (وأطهر) * من أدناس الآثام * (والله يعلم) * ما في ذلك من الزكاء والطهر، أو يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع * (وأنتم لا تعلمون) *. سورة البقرة / 233 * (والوا لدا ت يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم (1) في نسخة: فيما. (*)
[ 219 ]
الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لاتضآر وا لدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذا لك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولدكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) * (233) * (يرضعن) * مثل * (يتربصن) * في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد، أي: ولترضع الأمهات * (أولدهن حولين كاملين) * تامين أربعة وعشرين شهرا، وإنما أكد لرفع الإبهام لأنه يتسامح فيه، يقول الرجل: أقمت عند فلان حولين ولم يستكملهما، وقوله: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * بيان لمن توجه إليه الحكم، أي: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع، أي: ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر، وقيل: إن اللام يتعلق ب * (يرضعن) * كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي: يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى الإرضاع ولا تجبر على ذلك، والأمر للوالدات بالإرضاع أمر على الندب (1)، وقيل: أراد بالوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع (2) * (وعلى المولود له رزقهن) * أي: وعلى الذي ولد له وهو الوالد - وله في محل الرفع على الفاعلية - أن يرزقهن ويكسوهن إذا أرضعن ولده * (بالمعروف) * تفسيره ما يتبعه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 279، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 1 ص 470، فراجع. (2) قاله الربيع. راجع تفسير الطبري: ج 2 ص 506. (*)
[ 220 ]
ولايتضارا، وقرئ: " لا تضار " بالرفع على الإخبار (1)، ويحتمل أن يكون الأصل سورة البقرة / 234 " لاتضارر " و " لاتضارر " بكسر الراء وفتحها، و * (لاتضآر) * بالفتح على النهي، والمعنى: لا تضار * (ولدة) * زوجها * (ب) * سبب * (ولدها) * بأن تطلب منه ما ليس بعدل من النفقة والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد * (ولا) * يضار * (مولود له) * امرأته * (ب) * سبب * (وا لده) * بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه، أو يأخذه منها وهي تطلب إرضاعه، وكذلك إذا كان مبنيا للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد * (وعلى الوارث مثل ذا لك) * عطف على قوله: * (رزقهن وكسوتهن) *، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى: وعلى وارث المولود له بعد موته مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة بالمعروف * (فإن أرادا فصالا) * صادرا * (عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) * في ذلك زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد * (وإن أردتم) * خطاب للآباء * (أن تسترضعوا) * المراضع * (أولدكم) * فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه * (إذا سلمتم) * إلى المراضع * (ما آتيتم) * ما أردتم إيتاءه، وقرئ: " ما أتيتم " (2) من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وقيل: إذا سلمتم إلى الأم أجرة المثل بمقدار ما أرضعت (3). (1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ومجاهد وأبان ويعقوب وابن محيصن واليزيدي وقتيبة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 183، والحجة في علل القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 251، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 136، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 214. (2) أي بقصر الألف قرأه ابن كثير ومجاهد. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 183، والحجة لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 252، وتفسير البغوي: ج 1 ص 213، والتبيان: ج 2 ص 255،، والتيسير في القراءات للداني: ص 81، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 137، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 218. (3) قاله مجاهد والسدي وعطاء. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 301، وتفسير الطبري: = (*)
[ 221 ]
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوا جا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير) * (234) هو على تقدير حذف المضاف، تقديره: * (و) * أزواج * (الذين يتوفون منكم) *: * (يتربصن) *، وقيل: معناه: والذين يتوفون منكم أي: يقبضون ويموتون ويتركون أزواجا يتربصن بعدهم كقولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه (1)، ومعنى * (يتربصن بأنفسهن) *: يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، وقيل: عشرا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها (2)، ولا يستعمل التذكير فيه على إرادة الأيام، يقال: صمت عشرا * (فإذا بلغن أجلهن) * فإذا انقضت عدتهن * (فلا جناح عليكم) * أيها الأولياء أو الأئمة * (فيما فعلن في أنفسهن) * من التعريض للخطاب * (بالمعروف) * بالوجه الذي لا ينكره الشرع، وهذه الآية ناسخة للآية المتأخرة عنها الواردة في عدة المتوفى عنها زوجها وإن كانت مقدمة عليها في التلاوة. * (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتب أجله واعلموا أن الله يعلم مافى أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) * (235) = ج 2 ص 523. (1) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 372، وحكاه القرطبي في تفسيره: ج 3 ص 174 ونسبه الى أبي علي الفارسي، وقال الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 150: فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأول ويكون الخبر عن المضاف إليه، فهذا من ذلك. (2) قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 302. (*
[ 222 ]
* (ولا جناح عليكم) * أيها الرجال * (فيما عرضتم به من خطبة النساء) * المعتدات، والتعريض هو أن يقول لها: إنك لجميلة أو صالحة، أو إني أحب امرأة صفتها كذا ويذكر بعض صفاتها... ونحو ذلك من الكلام الذي يوهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك * (أو أكننتم في أنفسكم) * أي: سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين * (علم الله أنكم ستذكرونهن) * لا محالة برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم غيركم إليهن فأباح لكم ذلك، فاذكروهن * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * والسر كناية عن الوطء، لأنه مما يسر، ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) * وهو أن تعرضوا ولاتصرحوا، أي: لا تواعدوهن إلا بالتعريض، أو لا تواعدوهن إلا مواعدة معروفة غير منكرة * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * من عزم الأمر وعزم عليه، وهو مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل متقدم، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، ومعناه: ولا تعزموا عقد عقدة النكاح في العدة * (حتى يبلغ الكتب أجله) * يعني: ماكتب وفرض من العدة * (واعلموا أن الله يعلم مافى أنفسكم) * من العزم على مالايجوز * (فاحذروه) * ولا تعزموا عليه. * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متعا بالمعروف حقا على المحسنين) * (236) سورة البقرة / 237 * (لا جناح عليكم) * لا تبعة عليكم من إيجاب مهر * (إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن) * ما لم تجامعوهن، ويجوز أن يكون * (ما) * هاهنا شرطية بمعنى: إن لم تمسوهن، ويجوز أن يكون بمعنى المدة، أي: مدة لم تمسوهن فيها فيكون نصبا
[ 223 ]
على الظرف، وقرئ: " تماسوهن " (1) والمعنى فيهما واحد * (أو تفرضوا لهن فريضة) * إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا لهن فريضة، وفرض الفريضة: تسمية المهر، وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمي لها مهر فلها نصف المسمى، وإن لم يسم لها مهر فليس لها إلا المتعة * (ومتعوهن) * أي: أعطوهن من مالكم مايتمتعن به * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * أي: على الغني الذي هو في سعة لغناه على قدر حاله، وعلى الفقير الذي هو في ضيق على قدر حاله، ومعنى * (قدره) *: مقداره الذي يطيقه، و " القدر " و " القدر " لغتان * (متعا) * تأكيد ل * (متعوهن) * أي: تمتيعا * (بالمعروف) * بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروة * (حقا) * صفة ل * (متعا) * أي: واجبا عليهم، أو حق ذلك حقا * (على المحسنين) * على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال (عليه السلام): " من قتل قتيلا فله سلبه " (2). * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير) * (237) هذا يدل على أن " الجناح " في الآية المتقدمة المراد به تبعة المهر، لأن قوله: * (فنصف ما فرضتم) * إثبات للجناح المنفي هناك، وتقديره: فالواجب نصف (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 184، والحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 253، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 137. (2) المصنف لابن أبي شيبة: ج 12 ص 369 و 372، وج 14 ص 524، والمعجم الكبير للطبراني: ج 7 ص 296، وطبقات ابن سعد: ج 3 ص 364. (*)
[ 224 ]
ما فرضتم * (إلا أن يعفون) * يعني: المطلقات، أي: يتركن ما يجب لهن من نصف المهر فلا يطلبن الأزواج بذلك * (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * وهو الولي الذي يلي عقد نكاحهن، و * (أن) * هذه هي الناصبة للفعل، و * (يعفون) * فعل النسوة في محل النصب * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * أي: التفضل، معناه: ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض ولا تستقصوا. * (حفظوا على الصلوا ت والصلوة الوسطى وقوموا لله قنتين) * (238) سورة البقرة / 239 و 240 داوموا * (على الصلوا ت) * في مواقيتها بأداء أركانها * (والصلوة الوسطى) * بين الصلوات، أو الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وإنما أفردت وعطفت على * (الصلوا ت) * لانفرادها بالفضل، وروي عنهم (عليهم السلام): أنها صلاة الظهر (1)، وقيل: هي صلاة العصر (2)، وروي (3) ذلك - أيضا - مرفوعا، وقيل: صلاة (1) حكاها الطوسي في التبيان: ج 2 ص 275 عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام). (2) قاله ابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو أيوب وعائشة وام سلمة وحفصة وام حبيبة وابراهيم النخعي وقتادة والحسن، وهو المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام). راجع التبيان: ج 2 ص 275، وسنن البيهقي: ج 1 ص 459، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 307، وتفسير البغوي: ج 1 ص 220، وقال ابن حجر في فتح الباري: ج 8 ص 169: كونها العصر هو المعتمد به، وبه قال ابن مسعود وأبي هريرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد، والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث به، قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة، وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين، وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية. (3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 2 ص 572 ح 5420، والسيوطي في الدر المنثور: ج 1 ص 725 وعزاه الى ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير والطبراني والبيهقي عن سمرة. (*)
[ 225 ]
الفجر (1) يدل عليه قوله: * (وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا) * (2)، * (وقوموا لله قنتين) * أي: راعين في قيامكم. الصادق (عليه السلام) قال: " القنوت: الدعاء في الصلاة في حال القيام " (3). * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) * (239) أي: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره فصلوا راجلين، والرجال جمع راجل كالقيام جمع قائم * (أو ركبانا) * على ظهور دوابكم، عنى بذلك صلاة الخوف * (فإذآ أمنتم) * من الخوف * (فاذكروا الله كما علمكم) * من صلاة الأمن، أو فاشكروا الله على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم كيف تصلون في حال الأمن والخوف. * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوا جا وصية لازوا جهم متعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم) * (240) من قرأ: " وصية " بالرفع (4) فالتقدير: * (و) * حكم * (الذين يتوفون) * أو وصية الذين يتوفون وصية لأزواجهم، أو والذين يتوفون أهل وصية فحذف المضاف، (1) قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري وجابر بن عبد الله. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 309. (2) الاسراء: 78. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 128 ح 420، وعنه البرهان: ج 1 ص 231 ح 8 و 10. (4) قرأه ابن مسعود ونافع وابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف وقتادة والأعرج ومجاهد وشعبة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 184، والتيسير في القراءات للداني: ص 81، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 138، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 274، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 245. (*)
[ 226 ]
ومن قرأ: * (وصية) * بالنصب فالتقدير: والذين يتوفون يوصون وصية كقولك: إنما أنت سير البريد بإضمار تسير * (متعا) * نصب ب " الوصية " أو ب " يوصون " إذا أضمرته، و * (غير إخراج) * مصدر مؤكد أو بدل من * (متعا) * أو حال من الأزواج أي: غير مخرجات، والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يموتوا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أي: ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك قبل الإسلام ثم نسخت المدة بقوله: * (أربعة أشهر وعشرا) * (1) (2) * (في ما فعلن في أنفسهن) * من التزين والتعرض للأزواج * (من معروف) * ليس بمنكر شرعا. * (وللمطلقت متع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذا لك يبين الله لكم ءايته لعلكم تعقلون) * (242) قيل: المراد بالمتاع النفقة المذكورة في قوله تعالى: * (متعا إلى الحول) * (3)، وقيل: المراد بالمتاع المتعة (4) فتكون مخصوصة بالآية المتقدمة، فإن المتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها مهر، وأما المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسم لها مهر، وما سمي لها إن فرض لها مهر وإن لم يدخل بها فنصف المهر. سورة البقرة / 243 - 245 * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحيهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * (243) (1) البقرة: 234. (2) انظر الناسخ والمنسوخ لقتادة: ص 39 - 40. (3) قاله الجبائي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 281. (4) حكاه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 280، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 286، وابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 281 - 282. (*)
[ 227 ]
* (ألم تر) * تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأن هذا يجري مجرى المثل في معنى التعجب، وهؤلاء قوم وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله * (ثم أحيهم) * ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله، وقيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من * (الموت) * فأماتهم الله ثم أحياهم (1) * (وهم ألوف) * فيه دليل على الألوف الكثيرة * (فقال لهم الله موتوا) * معناه: فأماتهم الله، وإنما جئ به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة إنسان واحد بمشية الله تعالى * (إن الله لذو فضل على الناس) * حيث يبصرهم ما يعتبرون به، وساق سبحانه هذه القصة بعثا على الجهاد بدلالة قوله بعد. * (وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) * (244) أي: * (سميع) * يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون * (عليم) * بما يضمرونه. * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون) * (245) إقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، وهو تلطف للدعاء إلى فعله وتأكيد للجزاء عليه، والقرض الحسن: إما المجاهدة نفسها، وإما النفقة في سبيل الله * (أضعافا كثيرة) * لا يعلم كنهها إلا الله، وقيل: هو أن الواحد بسبعمائة (2) * (والله يقبض ويبصط) * يوسع على عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لئلا يبدلكم الضيقة بالسعة. (1) وهو قول الكلبي ومقاتل والضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 223، وأحكام القرآن للجصاص: ج 1 ص 450. (2) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 2 ص 607، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 313. (*)
[ 228 ]
* (ألم تر إلى الملا من بنى إسرا ءيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا قالوا ومالنآ ألا نقتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديرنا وابنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظلمين) * (246) * (الملا) *: الجماعة الأشراف من الناس، لأن هيبتهم تملأ الصدور * (من بعد موسى) * من بعد وفاته * (إذ قالوا لنبى لهم) * هو يوشع أو شمعون أو إشموئيل وهو الأعرف * (ابعث لنا ملكا) * أنهض للقتال معنا أميرا ننتهي إلى أمره * (نقتل في سبيل الله) * ونصدر في تدبير الحرب عن رأيه * (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا) * أي: لعلكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك ألا تقاتلوا وتجبنوا، بمعنى: أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل * (هل) * مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير وأن يثبت أن المتوقع كائن، قالوا: * (ومالنآ ألا نقتل في سبيل الله) * وأي داع لنا إلى ترك القتال، وأي غرض لنا فيه * (وقد أخرجنا من ديرنا وابنائنا) * وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين * (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم) * كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر * (والله عليم بالظلمين) * وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد والقعود عن القتال. سورة البقرة / 247 و 248 * (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن
[ 229 ]
الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشآء والله وا سع عليم) * (247) * (طالوت) * اسم أعجمي كجالوت وداود فيه سببان: التعريف والعجمة * (أنى يكون) * كيف يكون، ومن أين يكون، وهو إنكار لتملكه عليهم، والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو * (أحق بالملك منه) *، وأنه فقير ولابد للملك من مال يتقوى به ؟ وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهودا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين * (قال إن الله اصطفيه) * أي: اختاره * (عليكم) * وهو أعلم بالمصالح منكم، ثم ذكر سبحانه خصلتين هما أعلى رتبة في الفضل من النسب والمال وهما: العلم المبسوط والجسامة، فقال: * (وزاده بسطة) * أي: سعة وامتدادا * (في العلم والجسم) * وكان أعلم بني إسرائيل في وقته وأتمهم جسما وأشجعهم * (والله يؤتى ملكه من يشآء) * أي: الملك له فهو يعطيه من يشاء * (والله وا سع) * الفضل والعطاء * (عليم) * بمن يصطفيه للرياسة والملك. * (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هرون تحمله الملئكة إن في ذا لك لاية لكم إن كنتم مؤمنين) * (248) * (التابوت) * صندوق التوراة، وكان موسى (عليه السلام) إذا قاتل قوما قدمه، وكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، و " السكينة ": السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها جناحان ورأس كرأس الهر وذنب كذنبه فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل
[ 230 ]
النصر (1)، وعن علي (عليه السلام): كانت فيه ريح هفافة من الجنة ولها وجه كوجه الإنسان (2) * (وبقية مما ترك ءال موسى) * هي: عصا موسى ورضاض الألواح وشئ من التوراة، وكان قد رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة * (تحمله) * وهم ينظرون إليه، كان ذلك آية لاصطفاء الله طالوت، و * (ءال موسى) * و * (ءال هرون) * الأنبياء من بني يعقوب بعدهما، لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوي بن يعقوب فكان أولاد يعقوب آلهما، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون و " آل " مقحم. * (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصبرين) * (249) سورة البقرة / 249 * (فصل) * عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم اللازم، ومعناه: انفصل عن البلد * (بالجنود) * وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، وقيل: سبعين ألفا (3) * (قال) * طالوت * (إن الله مبتليكم) * أي: مختبركم * (بنهر فمن شرب) * من النهر بأن كرع في مائه * (فليس منى) * أي: (1) قاله مجاهد. راجع تفسيره: ص 242، وعنه القرطبي في تفسيره: ج 3 ص 249. (2) حكاه عنه (عليه السلام) الشيخ في التبيان: ج 2 ص 292 رواية، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 315، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 229. (3) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه أبو حيان في البحر المحيط: ج 2 ص 264، ونسبه المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 355 الى مقاتل. (*)
[ 231 ]
ليس من جملتي وأشياعي * (ومن لم يطعمه) * أي: لم يذقه * (فإنه منى) * يقال: طعم الشئ: إذا أذاقه * (إلا من اغترف) * استثناء من قوله: * (فمن شرب منه فليس منى) * ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، يدل عليه قوله: * (فشربوا منه) * أي: فكرعوا فيه * (إلا قليلا منهم) * وقرئ: " غرفة " بفتح الغين (1) وضمها، فالفتح بمعنى المصدر والضم بمعنى المغروف، وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا (2) * (فلما جاوزه) * أي: تخطى النهر طالوت * (والذين ءامنوا معه) * يعني: القليل من أصحابه ورأوا كثرة عدد جنود جالوت * (قالوا لا طاقة لنا) * قيل: إن الضمير في * (قالوا) * للكثير الذين شربوا وانخزلوا (3)، و * (الذين يظنون) * هم القليل الذين ثبتوا معه وتيقنوا * (أنهم) * يلقون الله * (كم من فئة) * أي: فرقة * (قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * بنصر الله لأنه إذا أذن في القتال نصر فيه. * (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكفرين (250) فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وءاتيه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العلمين) * (251) (1) قرأه ابن عباس وابن كثير ونافع وأبو عمرو ومجاهد والأعرج وأبان. راجع الحجة في علل القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 263، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 336، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 279، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 187، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 140، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 262. (2) حكاه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 295 عن الفراء والحسن وقتادة والربيع. (3) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 296. (*)
[ 232 ]
أي: ظهروا * (ل) * محاربة * (جالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا) * أي: صب علينا * (صبرا وثبت أقدامنا) * أي: وفقنا للثبوت عند مداحض الحرب بتقوية القلوب وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وكان ايشا أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه أو عشرة، وكان * (داوود) * أصغرهم يرعى الغنم، فبعث طالوت إلى ايشا أن احضر وأحضر ولدك، فجاء ومعه ولده، فمر داود في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقال: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته ورمى بها * (جالوت) * فقتله، وزوجه طالوت بنته * (وءاتيه الله الملك) * في الأرض المقدسة، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود * (والحكمة) * والنبوة * (وعلمه مما يشآء) * من صنعة الدروع وكلام الطير والنمل * (ولولا دفع الله) * ولولا أن يدفع الله بعض الناس * (ببعض ل) * غلب المفسدون و * (فسدت الارض) * وبطلت منافعها، وقيل: ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لعم الكفر ونزل العذاب واستؤصل أهل الأرض (1). * (تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) * (252) سورة البقرة / 253 * (تلك) * إشارة إلى القصص التي اقتصها من حديث إماتة الألوف من الناس وإحياءهم وتمليك طالوت ونزول التابوت وغلبة الجبابرة على يد صبي * (ءايت الله) * دلالاته على كمال قدرته نقرأها * (عليك) *، و * (تلك) * مبتدأ و * (ءايت الله) * خبره و * (نتلوها) * حال، ويجوز أن تكون * (ءايت الله) * بدلا من * (تلك) * و * (نتلوها) * الخبر، * (بالحق) * باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه (2) في كتبهم كذلك * (وإنك لمن المرسلين) * حيث تخبر بهامن غير أن تعرف بقراءة (1) قاله مجاهد والربيع. راجع تفسير الطبري: ج 2 ص 646. (2) في بعض النسخ: لأن. (*)
[ 233 ]
وكتابة. * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجت وءاتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينت ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) * (253) * (تلك الرسل) * إشارة إلى الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) * (فضلنا بعضهم على بعض) * لما أوجب ذلك من تفاضلهم في مراتبهم * (منهم من كلم الله) * أي: فضله الله بأن كلمه من غير سفير، وهو موسى (عليه السلام) * (ورفع بعضهم درجت) * أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، وهو محمد صلوات الله عليه وآله لأنه المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من المعجزات الموفية على ألف وأكثر، وبعث إلى الإنس والجن، وخص بالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة وهي القرآن، وفي هذا الإبهام من تعظيم شأنه وإعلاء مكانه مالا يخفى، لأن فيه أنه العلم الذي لا يشتبه والمشهور الذي لا يخفى * (وءاتينا عيسى ابن مريم البينت) * كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص * (وأيدنه بروح القدس) * تقدم تفسيره (1) * (ولو شآء الله) * مشية إلجاء وقسر * (ما اقتتل الذين من) * بعد الرسل لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضا * (ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن) * لالتزامه دين الأنبياء * (ومنهم من كفر) * لإعراضه عنه * (ولو شآء الله (1) تقدم في ص 83، فراجع. (*)
[ 234 ]
ما اقتتلوا) * كرره للتأكيد * (ولكن الله يفعل ما يريد) * من الخذلان والعصمة. * (يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولاخلة ولا شفعة والكفرون هم الظلمون) * (254) * (أنفقوا... من قبل أن يأتي يوم) * لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه * (لابيع فيه) * حتى تبتاعوا ما تنفقونه * (ولا خلة) * حتى يسامحكم أخلاؤكم به * (ولا شفعة) * عام يراد به الخاص بلا خلاف، لأن الأمة اجتمعت على إثبات الشفاعة يوم القيامة وإن اختلفوا في كيفيتها * (والكفرون هم الظلمون) * لأن الكفر هو غاية الظلم. سورة البقرة / 255 * (الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولانوم له مافى السموا ت وما في الارض من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السموا ت والارض ولا يوده حفظهما وهو العلى العظيم) * (255) * (الحى) * الذي يصح أن يكون قادرا عالما وهو الباقي الذي لا يتطرق إليه الفناء، و * (القيوم) * الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم * (لا تأخذه سنة) * وهو ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس * (ولانوم) * وهو تأكيد ل * (القيوم) * وبيان له، لأن من جاز عليه النوم والسنة لا يكون قيوما * (له مافى السموا ت وما في الارض) * يملكهما ويملك تدبير ما فيهما * (من ذا الذى يشفع عنده) * بيان لكبريائه وملكوته بأن أحدا لا يملك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام * (يعلم مابين أيديهم وما خلفهم) * الضمير ل * (مافى السموا ت وما في الارض) * لأن فيهم العقلاء، أو لما دل عليه * (من ذا الذى) * من الملائكة والأنبياء، أي: يعلم
[ 235 ]
ماكان قبلهم وما يكون بعدهم، ويعلم أحوالهم والمرتضى منهم للشفاعة وغير المرتضى * (ولا يحيطون بشئ من علمه) * أي: معلوماته * (إلا بماشآء) * أي: بما علم وأطلع عليه، والإحاطة بالشئ علما أن يعلم كما هو على الحقيقة * (وسع كرسيه) * أي: علمه * (السموا ت والارض) * روي ذلك عنهم (عليهم السلام) (1)، وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم، وقيل: كرسيه ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك (2)، وقيل: الكرسي سرير دون العرش دونه السماوات والأرض (3)، ترتبت هذه الجمل من غير حرف عطف، لأن كل جملة منها واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فالأولى أن لا يتوسط بينهما حرف عطف * (ولا يوده حفظهما) * لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض * (وهو العلى) * الشأن * (العظيم) * الملك. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله " (4). * (لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) * (256) (1) رواه الصدوق في التوحيد: ص 327 ب 52 ح 1، والشيخ في التبيان: ج 2 ص 309. (2) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 325، والبغوي أيضا في تفسيره: ج 1 ص 240. (3) قاله أبو هريرة كما في تفسير البغوي: ج 1 ص 239، وحكاه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 309 وقال: وقد روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). (4) أخرجه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 302 - 303 مرسلا، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 360. (*)
[ 236 ]
يعني: أن أمور الدين جارية على التمكن والاختيار لا على القسر والإجبار، ونحوه: * (ولو شآء ربك لامن من في الارض) * الآية (1)، أي: لو شاء لأجبرهم على الإيمان لكنه لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار، وقيل: هو بمعنى النهي أي: لا تكرهوا * (في الدين) * (2)، ثم قالوا: هو منسوخ بآية السيف (3)، وقيل: هو مخصوص بأهل الكتاب إذا أدوا الجزية (4) * (قد تبين الرشد من الغى) * قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل النيرة * (فمن يكفر بالطغوت) * أي: بالشيطان والأصنام * (ويؤمن بالله فقد استمسك) * بالعصمة الوثيقة * (لا انفصام لها) * لا انقطاع لها، وهذا تمثيل لما يعلم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس الذي ينظر إليه عيانا. * (الله ولى الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمت إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمت أولئك أصحب النار هم فيها خلدون) * (257) سورة البقرة / 258 * (الله ولى الذين) * يريدون أن يؤمنوا يلطف بهم حتى * (يخرجهم) * بلطفه وتوفيقه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين * (والذين كفروا) * أي: صمموا على الكفر فأمرهم على العكس * (أولياؤهم) * الشياطين (1) يونس: 99. (2) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 338. (3) وهو قول ابن مسعود على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 240. (4) قاله الحسن وقتادة والضحاك وعطاء. انظر التبيان: ج 2 ص 311، وتفسير الحسن البصري: ج 1 ص 187، وتفسير البغوي: ج 1 ص 240، وأحكام القرآن للجصاص: ج 1 ص 452. (*)
[ 237 ]
يتولون أمورهم * (يخرجونهم) * من نور البينات إلى ظلمات الشك والشرك. * (ألم تر إلى الذى حاج إبرا هيم في ربه أن ءاتيه الله الملك إذ قال إبرا هيم ربى الذى يحى ى ويميت قال أنا أحى ى وأميت قال إبرا هيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظلمين) * (258) * (ألم تر) * تعجيب من محاجة نمرود في الله وكفره به * (أن ءاتيه الله الملك) * متعلق ب * (حاج) * أي: لأن آتاه الله الملك، على معنى: أن إيتاء الملك أورثه البطر والعتو فحاج لذلك، أو وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على إيتاء الملك، نحو قوله: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (1)، ويجوز أن يكون المعنى: حاج وقت أن آتاه الله الملك، ومعنى " آتاه الملك ": أنه آتاه ما غلب به وتملك من الأموال والخدم والأتباع * (إذ قال) * نصب ب * (حاج) * أو بدل من * (أن ءاتيه) * إذا جعل بمعنى الوقت (2) * (أنا أحى ى وأميت) * يريد أخلي من وجب عليه القتل وأميت بالقتل، الصادق (عليه السلام) قال: " إن إبراهيم (عليه السلام) قال له: فأحي من قتلته إن كنت صادقا ثم استظهر عليه بقوله: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * " (3) انتقل إلى مالا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة. * (أوكالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى ى (1) الواقعة: 82. (2) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 498. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 139 ح 464، وعنه البرهان: ج 1 ص 246، وتفسير الصافي: ج 1 ص 217، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 367. (*)
[ 238 ]
هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) * (259) سورة البقرة / 259 * (أوكالذى) * معناه: أو أرأيت مثل الذي مر، فحذف لدلالة * (ألم تر) * عليه، لأن كلتيهما كلمة تعجيب، ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم * (أو كالذى مر على قرية) * والمار عزير أو ارمياء، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة * (قال أنى يحى ى هذه الله) * هذا اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظام لقدرة المحيي، والقرية: بيت المقدس حين خربه بخت نصر، وقيل: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت (1) * (وهى خاوية على عروشها) * أي: ساقطة على أبنيتها وسقوفها كأن سقوفها سقطت ثم وقعت البنيان عليها، قال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها ؟ أطلق لفظ " القرية " وأراد أهلها، وأحب أن يريه الله إحياءها مشاهدة * (فأماته الله مائة عام) * روي: أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: * (لبثت يوما) * ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: * (أو بعض يوم) * (2)، وروي: أن طعامه كان تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا، فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله (3) * (لم يتسنه) * أي: لم تغيره السنون، (1) قاله ابن زيد كما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 3 ص 289. (2) رواه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 323، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 245. (3) رواه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 332، وانظر تفسير العياشي: ج 1 ص 140 - 141 ح 466. (*)
[ 239 ]
والهاء أصلية أو هاء سكت، واشتقاقه من " السنة " على الوجهين، لأن لامها هاء أو واو، وذلك أن الشئ يتغير بمرور الزمان عليه، وقيل: أصله يتسنن من الحمأ المسنون فقلبت نونه حرف علة كتقضي البازي (1) * (وانظر إلى حمارك) * كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه، ويجوز أن يكون المراد: وانظر إليه سالما في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات * (ولنجعلك ءاية للناس) * فعلنا ذلك، يريد: إحياءه بعد الموت وحفظ طعامه وشرابه، وقيل: إنه أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذها هذا (2) عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب فما خرم حرفا، فقالوا: هو ابن الله (3)، ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير، فذلك كونه آية * (وانظر إلى العظام) * وهي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم * (كيف ننشزها) * نحييها، و " ننشرها " (4) من نشر الله الموتى بمعنى: أنشرهم، و * (ننشزها) * بالزاي أي: نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب، وفاعل * (تبين) * مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شئ قدير * (قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) * فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، نحو قولهم: ضربني وضربت زيدا، ويجوز أن يكون المعنى: فلما تبين له ما أشكل عليه، وقرئ: " قال اعلم " على لفظ الأمر (5) كأنه (1) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 343 عن بعض النحويين ولم يختاره، ونسبه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 245 الى أبي عمرو. (2) الهذ: الإسراع في القطع وفي القراءة. (الصحاح والقاموس المحيط: مادة هذذ). (3) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 307. (4) قرأه ابن عباس وأبو حيوة وابن كثير ونافع وأبو عمرو والحسن والنخعي وأبان. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 332، والكشاف: ج 1 ص 307، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 189، ومعاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 182، والبحر المحيط: ج 2 ص 293. (5) قرأه حمزة والكسائي وأبو رجاء وابن عباس وأبو عبد الرحمن. راجع الحجة في علل = (*)
[ 240 ]
خاطب نفسه، كقول الأعشى (1): ودع هريرة إن الركب مرتحل (2) * (وإذ قال إبرا هيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) * (260) سورة البقرة / 260 * (رب أرنى) * أي: بصرني * (كيف تحى الموتى) *، * (قال أولم تؤمن) * قال له ذلك سبحانه وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا، ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة للسامعين، وهذا ألف استفهام المراد به التقرير * (قال بلى) * هو إيجاب بعد النفي معناه: بلى آمنت * (ولكن ليطمئن قلبى) * ليزيد سكونا وطمأنينة بأن يضام العلم الضروري العلم الاستدلالي، وتظاهر الأدلة أزيد للبصيرة واليقين، وأراد بطمأنينة القلب: العلم الذي لا مجال فيه للشك، واللام تعلقت بمحذوف تقديره: سألت ذلك ليطمئن قلبي * (قال فخذ أربعة من الطير) * طاووسا وديكا وغرابا = القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 288، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 189، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 312، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 144، والبحر المحيط: ج 2 ص 296. (1) هو ميمون بن قيس، ولد في قرية منفوحة من اليمامة في قومه بني قيس بن ثعلبة، وهم بطن من بطون بكر بن وائل بن ربيعة، عرفوا بالفصاحة فنشأ على فصاحتهم، وكان أعشى العينين فلقب بالأعشى، وكني بأبي بصير تفاؤلا له بشفاء بصره أو لنفاذ بصيرته، سكن الحيرة وكان يتردد على النصارى فيها، له ديوان شعر، ولاميته معروفة التي مطلعها: ودع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل (الكنى والألقاب: ج 2 ص 37). (2) وعجزه: وهل تطيق وداعا أيها الرجل. راجع ديوان الأعشى: ص 17، وخزانة الأدب: ج 6 ص 484 وج 8 ص 393. (*)
[ 241 ]
وحمامة * (فصرهن إليك) * بضم الصاد وكسرها (1) بمعنى: فأملهن واضممهن إليك * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * أي: فجزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك، وكانت أربعة أجبل * (ثم ادعهن) * وقل لهن: تعالين بإذن الله * (يأتينك سعيا) * أي: ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن. وروي: أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها (2). وقرئ: " جزؤا " بضمتين (3)، و " جزا " بالتشديد (4)، ووجهه: أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف. * (مثل الذين ينفقون أموا لهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضعف لمن يشآء والله وا سع (1) وهي قراءة ابن عباس وحمزة وأبي جعفر. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 334، وتفسير البغوي: ج 1 ص 248، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 300. (2) الخرائج والجرائح: ج 1 ص 397 ب 7 في معجزات الامام الصادق (عليه السلام)، وعنه كشف الغمة: ج 2 ص 200، والبحار: ج 47 ص 111 ح 148. (3) قرأه شعبة وعاصم برواية أبي بكر. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 248، والتذكرة لابن غلبون: ج 2 ص 339، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 145، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 247، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 300. (4) قرأه أبو جعفر. انظر تفسير البغوي: ج 1 ص 248، وكتاب الاملاء للعكبري: ج 1 ص 65، والمحتسب لابن جني: ج 1 ص 137، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 300. (*)
[ 242 ]
عليم) * (261) لابد من تقدير حذف مضاف، أي: * (مثل) * نفقة * (الذين ينفقون) *: * (كمثل حبة) *، أو مثلهم كمثل باذر حبة، والمنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء، وهذا التمثيل تصوير لمضاعفة الحسنات كأنها موضوعة بحذاء العين * (والله يضعف لمن يشآء) * أي: يزيد على سبعمائة * (والله وا سع) * المقدرة * (عليم) * بمن يستحق الزيادة. * (الذين ينفقون أموا لهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآأنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون (262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى حليم) * (263) المن: أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه (1) أنه أوجب عليه حقا له، والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ماأسدى إليه، ومعنى * (ثم) *: إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله: * (ثم استقموا) * (2)، * (قول معروف) * رد جميل * (ومغفرة) * وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل، أو عفو من جهة السائل، لأنه إذا رده ردا جميلا عذره * (خير من صدقة يتبعها أذى والله غنى) * لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذي * (حليم) * عن المعاجلة بالعقوبة، وفيه ذرو من الوعيد. سورة البقرة / 264 و 265 * (يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والاذى كالذى ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه (1) في نسخة: يريد. (2) فصلت: 30، والاحقاف: 13. (*)
[ 243 ]
تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكفرين) * (264) * (كالذى ينفق ماله) * معناه: * (لا تبطلوا صدقتكم بالمن والاذى) * * (ك) * إبطال المنافق * (الذى ينفق ماله رئآء الناس) * لا يريد بإنفاقه رضاء الله وثواب الآخرة * (فمثله) * أي: مثله ونفقته التي لا ينتفع بها ألبتة * (كمثل صفوان) * أي: حجر أملس * (عليه تراب فأصابه وابل) * مطر عظيم القطر * (فتركه صلدا) * أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه * (لا يقدرون على شئ مما كسبوا) * أي: لا يحصلون مما أنفقوه من ثوابه على شئ كما لا يحصل أحد على شئ من التراب الذي أذهبه المطر من الحجر الصلد، ويجوز أن يكون الكاف في محل النصب على الحال، أي: * (لا تبطلوا صدقتكم) * مماثلين * (الذى ينفق) *، وأراد ب * (الذى ينفق) * الجنس أو الفريق الذي ينفق، فلذلك قال بعده: * (لا يقدرون) *. * (ومثل الذين ينفقون أموا لهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) * (265) * (وتثبيتا من أنفسهم) * معناه: وليثبتوا من أنفسهم ببذل المال الذي هو أخو الروح، وبذله أشق على النفس من أكثر العبادات الشاقة، ويجوز ان يراد: وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه بالثواب من أصل نفسه وإخلاص قلبه، و * (من) * على التفسير الأول للتبعيض مثلها في قولهم: " هز من عطفه " (1)، ومعنى التبعيض: أن من بذل (1) هز من عطفه: أي هيجه للعمل. (*)
[ 244 ]
ماله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها، وعلى الآخر لابتداء الغاية كقوله: * (حسدا من عند أنفسهم) * (1)، والمعنى: * (ومثل) * نفقة هؤلاء * (كمثل جنة) * أي: بستان * (بربوة) * بمكان مرتفع، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا * (أصابها وابل) * مطر عظيم القطر * (فاتت أكلها) * ثمرتها * (ضعفين) * مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل * (فإن لم يصبها وابل فطل) * فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة زاكية عند الله. * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الانهر له فيها من كل الثمرا ت وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذا لك يبين الله لكم الايت لعلكم تتفكرون) * (266) سورة البقرة / 267 * (أيود أحدكم) * الهمزة للإنكار، والواو في قوله: * (وأصابه الكبر) * للحال لا للعطف، ومعناه: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) * وقد * (أصابه الكبر) *، والإعصار: الريح التي تستدير ثم تسطع نحو السماء كالعمود، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة لا ثواب عليها فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهج الجنان وأبهاها وفيها أنواع الثمار فبلغه * (الكبر وله) * أولاد * (ضعفاء) * والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة. (1) البقرة: 109. (*)
[ 245 ]
قال الحسن: هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما يكون إلى جنة، وإن احدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا (1). * (يأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبت ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم باخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غنى حميد) * (267) * (أنفقوا من طيبت ما كسبتم) * أي: من جياد مكسوباتكم وخيارها، وقيل: من حلالها (2) * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * من الغلات والثمار (3)، والمعنى: ومن طيبات ما أخرجنا لكم، إلا أنه حذف لأنه ذكر الطيبات قبل * (ولا تيمموا الخبيث) * ولا تقصدوا المال الردي * (منه تنفقون) * أي: تخصونه بالإنفاق، وهو في محل الحال * (ولستم باخذيه) * أي: وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم * (إلا أن تغمضوا فيه) * أي: إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه: إذا غض بصره، ويقال: أغمض البائع إذا لم يستقص كأنه لا يبصر، وعن ابن عباس: كانوا يتصدقون بحشف (4) التمر فنهوا عنه (5). * (الشيطن يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله وا سع عليم (268) يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت (1) راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 195. (2) قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد وسعيد بن جبير وابن مغفل. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 253، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 321، والدر المنثور: ج 2 ص 62. (3) في نسخة زيادة: والمعادن. (4) في نسخة: بحشو. (5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 315، وأخرجه السيوطي عن ابن جرير عنه كما في الدر المنثور: ج 2 ص 61. (*)
[ 246 ]
الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالبب) * (269) * (يعدكم الفقر) * بالإنفاق في وجوه البر وبإنفاق الجيد من المال، والوعد يستعمل في الخير والشر * (ويأمركم بالفحشاء) * ويغريكم على البخل ومنع الزكوات إغراء الآمر للمأمور، والعرب تسمي البخيل فاحشا كما قال طرفة (1): أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد (2) سورة البقرة / 270 و 271 * (والله يعدكم) * في الإنفاق * (مغفرة) * لذنوبكم وكفارة لها * (وفضلا) * وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، وقيل: وثوابا عليه في الآخرة (3)، * (يؤتى الحكمة) * أي: يعطي الله الحكمة، أي: العلم ويوفق للعمل به، والحكيم عند الله هو العالم العامل، وقيل: الحكمة: القرآن والفقه (4)، وقرئ: " ومن يؤت " بكسر التاء (5) بمعنى: ومن يؤته الله الحكمة، و * (خيرا كثيرا) * تنكير تعظيم كأنه قيل: فقد أوتي أي خير كثير * (وما يذكر إلا أولوا الالبب) * أي: العلماء الحكماء العمال. (1) هو طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي، أبو عمرو، شاعر جاهلي، ولد في بادية البحرين سنة 60 ه، وتنقل في بقاع نجد، واتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعمان يأمره فيه بقتله لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شابا في هجر سنة 86 ه، من آثاره: ديوان شعر صغير. (الأعلام للزركلي: ج 3 ص 324 - 325، معجم الشعراء للمرزباني: ص 146، مناهل الأدب العربي: ص 58). (2) راجع ديوان طرفة بن العبد: ص 36، والكامل للمبرد: ج 1 ص 464، ولسان العرب: مادة (شدد). (3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 351. (4) قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومجاهد. راجع تفسير ابن عباس: ص 39، وتفسير مجاهد: ص 245، وتفسير الطبري: ج 3 ص 89 - 90، وتفسير البغوي: ج 1 ص 256، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 344، وتفسير القرطبي: ج 3 ص 330. (5) قرأه يعقوب والأعمش والزهري. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 24، والمحتسب لابن جني: ج 1 ص 143، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 320. (*)
[ 247 ]
* (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظلمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقت فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيأتكم والله بما تعملون خبير) * (271) * (وما أنفقتم من نفقة) * في سبيل الله أو في سبيل الشيطان * (أو نذرتم من نذر) * في طاعة أو في معصية * (فإن الله يعلمه) * لا يخفى عليه فيجازي عليه بحسبه * (وما للظلمين) * الذين ينفقون أموالهم في المعاصي، أو يمنعون الزكوات، أو لا يوفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي * (من أنصار) * ممن ينصرهم من الله ويمنع عنهم عذاب الله، و " ما " في * (فنعما هي) * نكرة، أي: فنعم شيئا إبداؤها، وقرئ بكسر النون وفتحها (1)، * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء) * أي: تعطوها إياهم مع الإخفاء * (فهو خير لكم) * أي: فالإخفاء خير لكم، والمراد بالصدقات: المتطوع بها لأن الأفضل في الفرائض الإظهار، " ونكفر " قرئ بالنون (2) مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ونحن نكفر، أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة، ومجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده (1) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 191، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 341، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 290، والتيسير في القراءات للداني: ص 84، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 316، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 324. (2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم برواية أبي بكر ويعقوب وابن محيصن واليزيدي وقتادة وابن أبي اسحاق والجحدري وشعبة. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 191، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 316 - 317، والتيسير في القراءات للداني: ص 84، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 147 - 148، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 325. (*)
[ 248 ]
لأنه جواب الشرط، وقرئ: * (ويكفر) * بالياء مرفوعا والفعل لله أو للإخفاء " ويكفر " بالياء والنصب (1) بإضمار " أن " ومعناه: إن تخفوها يكن خيرا لكم وأن يكفر عنكم، " وتكفر " بالتاء مرفوعا (2) ومجزوما (3) والفعل للصدقات. * (ليس عليك هديهم ولكن الله يهدى من يشآء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) * (272) أي: لا يجب * (عليك) * أن تجعلهم مهتدين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا البلاغ * (ولكن الله يهدى من يشآء) * يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهي (4) عنه * (وما تنفقوا من خير) * من مال * (فلانفسكم) * فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنوا به على من تنفقونه عليه ولا تؤذوه * (وما تنفقون) * أي: وليست نفقتكم * (إلا) * ل * (ابتغآء وجه الله) * ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يتوجه بمثله إلى الله * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * ثوابه أضعافا مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن الإنفاق وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. سورة البقرة / 273 * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيمهم لايسلون (1) وهي قراءة الحسن والأعمش والجعفي. راجع الكشاف: ج 1 ص 316، والبحر المحيط: ج 2 ص 325. (2) قرأه ابن عباس وابن هرمز والمهدوي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 24، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 325. (3) وهي قراءة ابن عباس. راجع كتاب الاملاء للعكبري: ج 1 ص 291، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 325. (4) في بعض النسخ: نهوا. (*)
[ 249 ]
الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * (273) الجار يتعلق بمحذوف، والتقدير: اعمدوا * (للفقراء) * أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: صدقاتكم للفقراء، و * (الذين أحصروا في سبيل الله) * هم الذين أحصرهم الجهاد * (لا يستطيعون) * لاشتغالهم به * (ضربا في الارض) * للكسب، قيل: وهم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد - وهي سقيفته - يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (1) * (يحسبهم الجاهل) * بحالهم * (أغنياء من التعفف) * أي: مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة * (تعرفهم بسيمهم) * من صفرة الوجه ورثاثة الحال، أو الخضوع الذي هو شعار الصالحين * (لا يسلون الناس إلحافا) * أي إلحاحا، ومعناه: إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا، وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا (2) كقول امرئ القيس (3): (1) قاله السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 233، وذكره الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 318. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 357. (3) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، من بني آكل المرار، اشتهر بلقبه، واختلف في اسمه، فقيل: حندج، وقيل: مليكة، وقيل: عدي، أشهر شعراء العرب على الاطلاق، يماني الأصل، ومولده بنجد نحو 130 قبل الهجرة، وقيل في مخلاف السكاسك باليمن، وكان أبوه ملك أسد وغطفان، وامه اخت المهلهل الشاعر، فلقنه الشعر فقاله وهو غلام، وأخذ يعاشر صعاليك العرب فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، ويعرف بالملك الضليل لاضطراب أمره طول حياته، وذي القروح لما أصابه في مرض موته، مات في أنقرة نحو سنة 80 قبل الهجرة عند عودته من أرض الروم. (تاريخ ابن عساكر: ج 3 ص 104، والأغاني: ج 9 ص 77، وجمهرة الأنساب: ص 39، والشعر والشعراء لابن قتيبة: ص 31، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 160، وج 3 ص 609 - 612). (*)
[ 250 ]
على لاحب لا يهتدي بمناره (1) يريد نفي المنار والاهتداء به. * (الذين ينفقون أموا لهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون) * (274) أي: يعمون أوقاتهم وأحوالهم بالصدقة لحرصهم على الخير، وعن ابن عباس: نزلت في علي (عليه السلام) كانت معه أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية (2)، وروي ذلك عن الباقر والصادق (عليهما السلام) (3). * (الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطن من المس ذا لك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا وأحل الله البيع وحرم الربوا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون) * (275) سورة البقرة / 276 * (الربوا) * كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت " الصلوة " و " الزكوة " بالواو، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع * (لا يقومون) * إذا بعثوا من قبورهم * (إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطن) * أي: المصروع * (من المس) * وهو الجنون، ورجل ممسوس، وتعلق * (من) * ب * (لا يقومون) * أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع، ويجوز أن يتعلق ب * (يقوم) * أي: كما يقوم (1) وعجزه: إذا سافه العود النباطي جرجرا. وهو من قصيدة يصف فيها سفره الى قيصر مستنجدا على بني أسد. راجع ديوان امرئ القيس: ص 95، وخزانة الأدب: ج 10 ص 258، ولسان العرب: مادة (سوف). (2) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 80، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 319. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 151 ح 502، وعنه البرهان: ج 1 ص 257 ح 4، التبيان: ج 2 ص 357. (*)
[ 251 ]
المصروع من جنونه، والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين يعرفون بتلك السيماء عند أهل الموقف * (ذا لك) * العقاب * (ب) * سبب * (أنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا) * أي: البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا، وقوله: * (وأحل الله البيع وحرم الربوا) * إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على بطلان قياسهم الربا على البيع * (فمن جاءه موعظة) * أي: فمن بلغه وعظ * (من ربه) * وزجر بالنهي عن الربا * (فانتهى) * فتبع النهي وامتنع منه * (فله ما سلف) * فلا يؤاخذ بما مضى منه * (وأمره إلى الله) * يحكم في شأنه يوم القيامة * (ومن عاد) * إلى الربا بعد التحريم وقال ماكان يقوله من: أن البيع مثل الربا * (فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون) * لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحل للربا، فلهذا توعد بعذاب الأبد. * (يمحق الله الربوا ويربى الصدقت والله لا يحب كل كفار أثيم) * (276) * (يمحق الله الربوا) * أي: يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه * (ويربى الصدقت) * أي: ما يتصدق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه، وفي الحديث: " ما نقص مال من صدقة " (1)، * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * هذا تغليظ في أمر الربا، وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين. * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وأقاموا الصلوة وءاتوا (1) مسند أحمد: ج 2 ص 235 و 386، وسنن البيهقي: ج 10 ص 235، والترغيب والترهيب للمنذري: ج 2 ص 5 وج 3 ص 307 و 558، وإتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 6 ص 256 وج 8 ص 39، ومجمع الزوائد للهيثمي: ج 3 ص 105 و 110. (*)
[ 252 ]
الزكوة لهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون (277) يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموا لكم لا تظلمون ولا تظلمون) * (279) الفرق بين قوله: * (لهم أجرهم) * وقوله في موضع آخر: * (فلهم أجرهم) * (1) أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرح الفاء عار عن هذه الدلالة * (وذروا ما بقى من الربوا) * روي: أنها نزلت في ثقيف، وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا (2)، وقيل: إنهم أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها (3) * (إن كنتم مؤمنين) * إن صح إيمانكم * (فأذنوا بحرب من الله) * أي: فاعلموا بها، من أذن بالشئ: إذا علم به، وقرئ: " فآذنوا " (4) أي: فأعلموا بها غيركم، وهو من الأذن وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم، والمعنى: * (فأذنوا) * بنوع من الحرب عظيم * (من) * عند * (الله ورسوله) *، * (وإن تبتم) * من الارتباء (5) * (فلكم رءوس أموا لكم لا تظلمون) * المديونين بطلب الزيادة * (ولا تظلمون) * بالنقصان منها. سورة البقرة / 280 و 281 * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم (1) الآية: 274. (2) رواها البغوي في تفسيره: ج 1 ص 264 عن السدي، وراجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 351، وأسباب النزول للواحدي: ص 81. (3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 322. (4) قرأه أبو بكر وحمزة والأعمش وشعبة وطلحة. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 343، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 192، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 318، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 338. (5) في بعض النسخ: الارباء. (*)
[ 253 ]
تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * (281) أي: * (وإن) * وقع غريم من غرمائكم * (ذو عسرة) * أي: ذو إعسار * (فنظرة) * أي: فالحكم أو فالأمر نظرة، أي: إنظار * (إلى ميسرة) * إلى يسار، أي: وقت يسار، وهو خبر في معنى الأمر، والمراد: فأنظروه إلى وقت يساره، و " الميسرة " و " الميسرة " بضم السين وفتحها لغتان (1)، وقرئ: " إلى ميسره " بالإضافة إلى الهاء وحذف التاء عند الإضافة (2)، كقوله: * (وإقام الصلوة) * (3)، * (وأن تصدقوا) * أي: تتصدقوا * (خير لكم) * ندب سبحانه إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كما قال: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (4)، * (إن كنتم تعلمون) * أنه خير لكم، وقرئ: " ترجعون " (5) و * (ترجعون) * على البناء للفاعل والمفعول، أي: واخشوا واحذروا * (يوما) * تردون * (فيه إلى) * جزاء * (الله) *. وعن ابن عباس: أنها آخر آية نزل بها جبرئيل وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة (6). * (يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (1) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 522. (2) قرأه مجاهد كما في التبيان: ج 2 ص 369، ونسبه ابن خالويه في الشواذ: ص 24 الى عطاء وأبي السراج. (3) النور: 37. (4) البقرة: 237. (5) قرأه أبو عمرو ويعقوب. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 193، والحجة في علل القراءات لابن علي الفارسي: ج 2 ص 309، والتيسير في القراءات للداني: ص 85، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 319، وكتاب الاملاء للعكبري: ج 1 ص 69، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 341. (6) حكاه عنه الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 183، والطبري في تفسيره: ج 3 ص 115. (*)
[ 254 ]
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الاخرى ولايأب الشهداء إذا ما دعوا ولاتسموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذا لكم أقسط عند الله وأقوم للشهدة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولايضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) * (282) سورة البقرة / 282 * (إذا تداينتم) * أي: تعاملتم وداين بعضكم بعضا، تقول: داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا، كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك * (بدين إلى أجل مسمى) * أي: بدين مؤجل * (فاكتبوه) * وإنما ذكر " الدين " ليرجع الضمير إليه في قوله تعالى: * (فاكتبوه) *، ولأن الدين يتنوع إلى مؤجل وحال، وقيل: * (مسمى) * ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما موقتا بالسنين أو الشهور أو الأيام (1)، وهذا الأمر مندوب إليه، قال ابن عباس: والمراد به السلم لما حرم الله الربا أباح السلم (2) * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * أي: كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب (1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 325. (2) حكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 237، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 325، وابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 316. (*)
[ 255 ]
بالاحتياط والنصفة لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، فقوله: * (بالعدل) * صفة ل * (كاتب) *، وفي هذا دلالة على أن الكاتب يجب أن يكون فقيها عالما بالشروط حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع * (ولايأب كاتب) * أي: ولا يمتنع أحد من الكتاب * (أن يكتب كما علمه الله) * كتابة الوثائق، وقيل: كما نفعه الله بتعليمها فلينفع الناس بكتابته (1)، وهو فرض على الكفاية عند أكثر المفسرين (2)، ويجوز أن يتعلق * (كما علمه الله) * ب * (أن يكتب) * فيكون نهيا عن الامتناع عن الكتابة المقيدة، ثم قيل له: * (فليكتب) * أي: فليكتب تلك الكتابة ولا يعدل عنها، ويجوز أن يتعلق بقوله: * (فليكتب) * فيكون نهيا عن الامتناع عن الكتابة على الإطلاق ثم أمر بها مقيدة * (وليملل الذى عليه الحق) * أي: وليكن المملي من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به، والإملاء والإملال لغتان نطق بهما القرآن: * (فهى تملى عليه) * (3)، * (ولا يبخس منه) * أي: من الحق * (شيا) *. * (فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا) * السفيه: المحجور عليه لتبذيره أو الجاهل بالإملاء، والضعيف: الصبي أو الشيخ الخرف * (أو لا يستطيع أن يمل هو) * بنفسه لعي أو خرس * (فليملل وليه) * الذي يلي أمره من وصي إن كان صبيا أو سفيها (4) أو وكيل إن كان غير مستطيع أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه، ففي قوله: * (أن يمل) * هو أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه. * (واستشهدوا شهيدين) * واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين * (من (1) قاله السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 237. (2) حكاه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 372 عن عامر الشعبي، وقال: وهو اختيار الرماني والجبائي، وراجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 355، والكشاف: ج 1 ص 325. (3) الفرقان: 5. (4) في بعض النسخ: سفيها أو ضعيفا. (*)
[ 256 ]
رجالكم) * من رجال المؤمنين * (فإن لم يكونا) * فإن لم يكن الشهيدان * (رجلين فرجل وامرأتان) * فليشهد رجل وامرأتان، وشهادة النساء مقبولة عندنا في غير: رؤية الهلال والطلاق مع الرجال على تفصيل فيه (1)، وهي مقبولة على الانفراد فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه مثل العذرة والأمور الباطنة للنساء * (ممن ترضون) * ممن تعرفون عدالته وهو مرضي عندكم * (من الشهداء أن تضل إحديهما) * أن لا تهتدي إحدى المرأتين للشهادة بأن تنساها من قولهم: ضل الطريق: إذا لم يهتد له، وهو في موضع النصب بأنه مفعول له، أي: إرادة أن تضل، لما كان الضلال سببا للإذكار كانت إرادة الضلال إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ومثله قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فادعمه، وقرئ: " فتذكر " (2)، وهما لغتان، يقال: أذكره وذكره، وقراءة حمزة: " إن تضل إحداهما " على الشرط " فتذكر " بالرفع (3)، كقوله: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * (4)، * (ولايأب الشهداء إذا ما دعوا) * ليقيموا الشهادة، وقيل: ليستشهدوا (5)، وقيل لهم: شهداء قبل التحمل، تنزيلا لما يقارب منزلة الكائن. (1) انظر المقنعة للشيخ المفيد: ص 727، والنهاية ونكتها: ج 2 ص 61، وكشف الرموز للآبي: ج 2 ص 525، ومختلف الشيعة للعلامة: ص 712 ط حجر. (2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 194، والحجة في القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 310، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 149، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 349. (3) حكاها عنه ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات: ص 194، والشيخ في التبيان: ج 2 ص 371. (4) المائدة: 95. (5) قاله مجاهد والشعبي وعطاء والأعمش وحمزة. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 357، والتبيان: ج 2 ص 371، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 194، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 320، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 349. (*
[ 257 ]
* (ولا تسموا) * ولا تملوا أن تكتبوا الحق * (صغيرا) * كان الحق * (أو كبيرا إلى أجله) * إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته * (ذا لكم) * إشارة إلى * (أن تكتبوه) * لأنه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب * (أقسط عند الله) * أي: أعدل، من القسط * (وأقوم للشهدة) * وأعون على إقامة الشهادة * (وأدنى ألا ترتابوا) * وأقرب من انتفاء الريب في مبلغ الحق والأجل * (إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها) * أريد بالتجارة: ما يتجر فيه من الأبدال، والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين، ومعنى * (تديرونها بينكم) *: تعاملونها يدا بيد، وقرئ * (تجرة حاضرة) * بالنصب على معنى: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * أمر بالإشهاد مطلقا لأنه أحوط * (ولايضآر) * يحتمل البناء للفاعل والمفعول، والمعنى: نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة الى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، أو لا يكلف الكاتب الكتابة (1) في حال عذر لا يتفرغ لذلك ولا يدعى الشاهد إلى إثبات الشهادة أو إقامتها في وقت لا يتفرغ له * (وإن تفعلوا) * وإن تضاروا * (فإنه فسوق بكم) * فإن الضرار فسوق (2)، وقيل: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه فإنه خروج مما أمر الله سبحانه به (3). * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة فإن أمن (1) في بعض النسخ: الكتبة. (2) في نسخة بزيادة: بكم. (3) قاله البغوي في تفسيره: ج 1 ص 270، وابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 318، وأبو حيان في بحره: ج 2 ص 354. (*)
[ 258 ]
بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمنته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهدة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم) * (283) * (على سفر) * أي: مسافرين * (فرهن) * أي: فالذي يستوثق به رهان، وقرئ: " فرهن " (1)، وكلاهما جمع الرهن، وقد يخفف فيقال: رهن، وليس الغرض تخصيص الارتهان بحال السفر ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد أمر المسافر بأن يقيم الارتهان مقام الكتاب والإشهاد على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال، والقبض شرط في صحة الرهن * (فإن أمن بعضكم بعضا) * أي: فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به * (فليؤد الذى اؤتمن أمنته) * وهو الذي عليه الحق، أمر بأن يؤديه إلى صاحب الحق وافيا وقت محله من غير مطل ولا تسويف، وسمي الدين أمانة: لايتمانه عليه بترك الارتهان منه * (ولا تكتموا الشهدة) * خطاب للشهود * (ومن يكتمها) * مع علمه بالمشهود به وتمكنه من أدائها * (فإنه ءاثم قلبه) * هو خبر " إن " و * (قلبه) * مرفوع به على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه، والمعنى فيه: أن كتمان الشهادة من آثام القلوب ومن معاظم الذنوب. سورة البقرة / 284 و 285 * (لله مافى السموا ت وما في الارض وإن تبدوا مافى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شئ قدير) * (284) (1) قرأه ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن واليزيدي. راجع الحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 324، والحجة في القراءات لأبي زرعة: ص 152، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 194، والتيسير في القراءات للداني: ص 85، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 355. (*)
[ 259 ]
أي: * (وإن) * تظهروا * (مافى أنفسكم) * من السوء * (أو تخفوه) * فإن الله تعالى يعلم ذلك ويجازيكم عليه، ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوساوس وحديث النفس، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر (1): أنه تلاها فقال: لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشيجه (2)، فذكر لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل: * (لا يكلف الله) * الآية (3). * (ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) * (285) * (والمؤمنون) * يجوز أن يكون عطفا على * (الرسول) *، فيكون الضمير في * (كل) * الذي التنوين نائب عنه راجعا إلى * (الرسول) * و * (المؤمنون) *، أي: كلهم * (ءامن بالله وملئكته وكتبه ورسله) * ويوقف عليه، ويجوز أن يكون مبتدأ فيكون (1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن، كان إسلامه بمكة مع إسلام أبيه عمر ولم يكن بلغ يومئذ، وهاجر مع أبيه الى المدينة، وقيل: إن إسلامه قبل إسلام أبيه، وقد أجمعوا على أنه لم يشهد بدرا، واختلفوا في شهوده احد، قال ابن الأثير: والصحيح أن أول مشاهده الخندق وشهد غزوة مؤتة مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وكان من أئمة المسلمين، قال الشعبي: كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه، ولم يقاتل في شئ من الفتن، ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه حين اشكلت عليه، ثم كان بعد ذلك يندم على ترك القتال معه، وروى أبو نعيم باسناده عن عبد الله بن حبيب عن أبيه قال: قال ابن عمر حين حضره الموت: ما أجد في نفسي من الدنيا إلا اني لم اقاتل الفئة الباغية مع علي. (طبقات ابن سعد: ج 4 ص 142، واسد الغابة لابن الأثير: ج 4 ص 227 - 231، وراجع معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 10 ص 268). (2) في بعض النسخ: نحيبه. (3) تفسير الطبري: ج 3 ص 144 ح 6455 و 6456، والآية: 286. (*)
[ 260 ]
الضمير ل * (المؤمنون) *، أي: كل واحد منهم آمن، وقرئ: " وكتابه " (1) ويراد (2): الجنس أو القرآن، وعن ابن عباس قال: الكتاب أكثر من الكتب، وإنما قال ذلك لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شئ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع (3)، يقولون: * (لا نفرق) *، وقوله: * (سمعنا) * بمعنى: أجبنا، و * (غفرانك) * منصوب بإضمار فعله، يقال: غفرانك لا كفرانك، أي: نستغفرك ولا نكفرك. * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لاتؤاخذنآ إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولينا فانصرنا على القوم الكفرين) * (286) سورة البقرة / 286 الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، أي: * (لا يكلف الله نفسا إلا) * ما يتيسر عليها (4) ويتسع فيه طوقها، وهذا إخبار عن عدله ورحمته * (لها ما كسبت) * من خير * (وعليها ما اكتسبت) * من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب بطاعتها غيرها، وذكر النسيان والخطاء والمراد بهما: ماهما مسببان عنه من التفريط والإغفال، وقيل: إن المراد ب * (نسينا) * تركنا وب * (أخطأنا) * أذنبنا (5)، (1) قرأه ابن عباس وابن مسعود وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. راجع التبيان: ج 2 ص 383، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 195، ومعاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 368، والاملاء للعكبري: ج 1 ص 71، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 364. (2) في نسخة زيادة: به. (3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 3 ص 152، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 331. (4) في نسخة: منها. (5) قاله قطرب. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 364. (*)
[ 261 ]
وروي عن ابن عباس: أن معناه: لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين أو متعمدين (1). والإصر: العبء الذي يأصر حامله، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاق نحو: قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها * (أنت مولينا) * سيدنا ونحن عبيدك، أو متولي أمورنا وناصرنا * (فانصرنا) * فإن من حق المولى أن ينصر عبده، أو فإن ذلك عادتك، أي: فأعنا * (على القوم الكفرين) * بالقهر لهم والغلبة بالحجة عليهم. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي " (2). (1) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 404 عنه، وحكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 274 عن عطاء. (2) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 2 ص 138 عن اسحاق بن راهويه وأحمد والبيهقي في الشعب عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله)، ورواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 333 مرفوعا. (*)
[ 262 ]
سورة آل عمران / 1 سورة آل عمران مدنية كلها (1) وهي مائتا آية، عد الكوفي * (الم) * آية و * (الانجيل) * (2) الثاني آية وترك * (وأنزل الفرقان) * (3)، وعد البصري * (ورسولا إلى بنى إسرا ءيل) * (4) آية. وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنم " (5). وروى بريدة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " تعلموا سورة البقرة وسورة آل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف " (6). (1) قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: ج 2 ص 388: روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجميع المفسرين: أن هذه السورة مدنية، وقيل: إن من أولها الى رأس نيف وستين آية نزلت في قصة وفد نجران لما جاءوا يحاجون النبي (صلى الله عليه وآله) في قول ابن اسحاق والربيع. وقال القرطبي في تفسيره: ج 4 ص 1: هذه السورة مدنية بإجماع، وحكى النقاش: أن اسمها في التوراة طيبة. (2) الآية: 48. (3) الآية: 4. (4) الآية: 49. (5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 460، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 405. (6) مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 348، مستدرك الحاكم: ج 1 ص 560. (*)
[ 263 ]
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * * (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم (2) نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوربة والانجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بايت الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4) إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء) * (5) من فتح " ميم الله " (1) ألقى عليه حركة الهمزة حين أسقطها للتخفيف، وقيل: * (نزل... الكتب) * وهو القرآن * (وأنزل التوربة والانجيل) * لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة (2) * (بالحق) * أي: بالصدق وبما توجبه الحكمة * (مصدقا لما) * قبله من كتاب ورسول * (وأنزل الفرقان) * يعني: القرآن، كرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه، أو أراد جنس الكتب السماوية، لأن كلها فرقان تفرق بين الحق والباطل. (1) قال ابن مجاهد في السبعة في القراءات: ص 200 ما لفظه: قرأ كلهم (الم الله) الميم مفتوحة والألف ساقطة إلا عاصم برواية أبي بكر فإنه قرأ (الم) ثم قطع فابتدأ (الله) ثم سكن فيها. (2) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 336، والقرطبي في تفسيره: ج 4 ص 5. (
[ 264 ]
قال الصادق (عليه السلام): " الفرقان كل آية محكمة في الكتاب " (1). * (إن الذين كفروا بايت الله) * من الكتب المنزلة وغيرها * (لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) * له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم * (لا يخفى عليه شئ في) * العالم فعبر عنه ب * (الارض) * و * (السماء) *. * (هو الذى يصوركم في الارحام كيف يشآء لاإله إلا هو العزيز الحكيم) * (6) * (هو الذى) * يخلق صوركم المختلفة المتفاوتة * (في الارحام كيف يشآء) * على أي صفة يشاء من قبيح أو صبيح، ذكر أو أنثى * (لاإله إلا هو العزيز) * في جلاله * (الحكيم) * في أفعاله. وعن سعيد بن جبير (2) قال: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا، كأنه نبه بكونه مصورا في الرحم على أنه عبد كغيره، وكان يخفى عليه مالا يخفى على الله (3). سورة آل عمران / 7 * (هو الذى أنزل عليك الكتب منه ءايت محكمت هن أم (1) تفسير القمي: ج 1 ص 96، والكافي: ج 2 ص 630 ح 11. (2) هو أبو عبد الله، سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي نزيل مكة، ولد سنة 45 ه، وكان أحد أعلام التابعين وأكثرهم علما وفقها ومكانة وجلالة وزهدا، ومن أوائل مفسري القرآن الكريم، كان يأتم بالإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وكان الإمام يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر، وكان مستقيما حتى أن ابن عباس كان إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، قال: أتسألونني وفيكم ابن ام دهماء ؟ يعني سعيدا، وكان يسمى بجهبذ العلماء، قتل سنة 95 ه صبرا وهو ابن تسع وأربعين. (طبقات ابن سعد: ج 6 ص 256 - 267، رجال الكشي: ص 119، تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 4 ص 11، معجم رجال الحديث للخوئي: ج 8 ص 113 - 114). (3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 337. (*)
[ 265 ]
الكتب وأخر متشبهت فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغآءا لفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والرا سخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالبب) * (7) * (ءايت محكمت) * أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه * (هن أم الكتب) * أي: أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها وترد إليها * (وأخر متشبهت) * مشتبهات محتملات (1)، ولو كان القرآن كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي به يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده، ولكان لا يتبين فضل العلماء الذين يتعبون القرائح في استخراج معاني المتشابه (2) ورد ذلك إلى المحكم * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * أي: ميل عن الحق * (فيتبعون ما تشبه منه) * فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه أهل البدعة مما لا يطابق المحكم، ويحتمل مايطابقه من قول أهل الحق * (ابتغآء الفتنة) * طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم * (وابتغاء تأويله) * وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه * (وما يعلم تأويله إلا الله والرا سخون في العلم) * أي: لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله والعلماء الذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكنوا، وبعضهم يقف على * (إلا الله) * ويبتدئ * (والرا سخون في العلم يقولون ءامنا به) *، ويفسرون المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه، والأول أوجه، وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم " (3)، و * (يقولون) * كلام مستأنف موضح لحال الراسخين، والمعنى: هؤلاء (1) في نسخة زيادة: ومجملات. (2) في نسخة: المتشابهة. (3) تفسير العياشي: ج 1 ص 164 ح 6، وعنه تفسير البرهان: ج 1 ص 271 ح 8. (*
[ 266 ]
* (الرا سخون) * العالمون بالتأويل * (يقولون ءامنا به) * أي: بالمتشابه * (كل من عند ربنا) * أي: كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه * (وما يذكر إلا أولوا الالبب) * مدح للراسخين بحسن التأمل والتفكر والتذكر، ويجوز أن يكون * (يقولون) * حالا من الراسخين. * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لاريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) * (9) * (لا تزغ قلوبنا) * لا تختبرنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا * (بعد إذ هديتنا) * وأرشدتنا إلى دينك، ونظيره قوله: * (فلما كتب عليهم القتال تولوا) * (1)، فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه لما كان عند امتحانه، أو لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب فتميل قلوبنا عن الإيمان بعد إذ لطفت بنا * (وهب لنا من لدنك رحمة) * من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة * (إنك جامع الناس ليوم) * تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم، كقوله: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع) * (2)، و * (الميعاد) *: الموعد. * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموا لهم ولاأولدهم من الله شيا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بايتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) * (11) سورة آل عمران / 12 و 13 * (من) * في قوله: * (من الله) * مثل الذي في قوله: * (إن الظن لا يغنى من الحق شيا) * (3)، والمعنى: لا تغني * (عنهم أموا لهم) * من رحمة * (الله) * أو من طاعة (1) البقرة: 246. (2) التغابن: 9. (3) يونس: 36. (*)
[ 267 ]
الله * (شيا) * أي: بدل رحمة الله وطاعته، ومثله: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، أي: لا ينفعه جده من الدنيا بدلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك وما عندك * (وقود النار) * أي: حطب النار تتقد النار بأجسامهم، والدأب: مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه، فيوضع موضع ما عليه الانسان من شأنه وحاله، ومحل الكاف رفع وتقديره: دأب هؤلاء الكفرة * (كدأب) * من قبلهم من * (ءال فرعون) * وغيرهم، ويجوز أن يكون منصوب المحل بقوله: * (لن تغنى) * أو بالوقود، والمعنى: لن تغني عنهم أموالهم مثل ما لم تغن عن آل فرعون، أو يوقد بهم النار كما توقد بهم، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك أي: مثل ماكان يظلمهم، وإن فلانا لمحارف كدأب أبيه، تريد: كما حورف أبوه * (كذبوا بايتنا) * تفسير لدأبهم بما فعلوا وفعل بهم، كأنه جواب لمن يسأل عن حالهم. * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن في ذا لك لعبرة لاولى الابصر) * (13) " الذين كفروا " قيل: هم اليهود جمعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع فقال: " يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل " فقالوا: لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لاعلم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، ولئن قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس (1)، فنزلت (2). (1) في نسخة: البأس. (2) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق عن رجاله. راجع تفسير البغوي: ج 1 = (*)
[ 268 ]
سورة آل عمران / 14 ومن قرأ: " سيغلبون ويحشرون " (1) فهو مثل قوله: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (2) أي: قل لهم قولي لك: سيغلبون، ومن قرأ بالتاء أجرى الجميع على الخطاب، والمعنى: ستصيرون مغلوبين في الدنيا * (وتحشرون إلى جهنم) * في الآخرة، وقيل: إن المراد ب " الذين كفروا " مشركو مكة، أي: ستغلبون يوم بدر (3)، وأيهما أريد فقد فعل الله ذلك، فإن اليهود قد غلبوا بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير (4) ووضع الجزية على من بقي منهم، وغلب المشركون أيضا * (قد كان لكم ءاية) * أي: دلالة معجزة على صدق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) * (في فئتين التقتا) * يوم بدر: فرقة * (تقتل في سبيل الله) * أي: في دينه وطاعته وهم الرسول وأصحابه * (و) * فرقة * (أخرى كافرة) * وهم مشركو مكة * (يرونهم مثليهم) * يرى المشركون المسلمين مثلي المشركين في العدد قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليجتنبوا (5) عن قتالهم، وكان ذلك مددا من الله لهم كما أمدهم بالملائكة، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتاء (6)، أي: ترون يامشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم = ص 282، وأسباب النزول للواحدي: ص 85، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 392. (1) وهي قراءة حمزة والكسائي. انظر الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 335، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 349، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 78، وتفسير البغوي: ج 1 ص 282، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 392. (2) الأنفال: 38. (3) قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير ابن عباس: ص 43، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 373. (4) في نسخة زيادة: وفتح خيبر. (5) في نسخة: ليجبنوا. (6) قرأه نافع وأهل المدينة وأبان عن عاصم وابن شاهي عن حفص ويعقوب. انظر التبيان: ج 2 ص 407، وتفسير البغوي: ج 1 ص 283، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 249، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 78، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 394. (*)
[ 269 ]
الكافرة أو مثليهم أنفسهم، فإن قيل: فكيف قال في سورة الأنفال: * (ويقللكم في أعينهم) * (1) ؟ فالجواب: أنهم قللوا أولا في أعينهم حتى اجترأوا عليهم، فلما التحم القتال كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين * (رأى العين) * يعني رؤية ظاهرة مكشوفة معاينة * (والله يؤيد بنصره من يشآء) * كما أيد المسلمين يوم بدر. * (زين للناس حب الشهوا ت من النساء والبنين والقنطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعم والحرث ذا لك متع الحيوة الدنيا والله عنده حسن الماب) * (14) * (حب الشهوا ت) * أي: المشتهيات، جعل سبحانه الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها، والمزين هو الله سبحانه بما جعل (2) في الطباع من الميل إليها تشديدا للتكليف، كقوله: * (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم) * (3)، وعن الحسن: زينها الشيطان لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها (4). ثم قدم سبحانه ذكر * (النساء) * لأن الفتنة بهن أعظم، ثم ثنى ب * (البنين) * لأن حبهم داع إلى جمع الحرام، والقنطار: المال الكثير، قيل: ملء مسك ثور ذهبا (5)، وقيل: سبعون ألف دينار (6)، وقيل: مائة ألف دينار (7)، و * (المقنطرة) * بنيت من لفظ " القنطار " للتأكيد، كما يقال: ألف مؤلف (1) آية: 44. (2) في نسخة: جبل. (3) الكهف: 7. (4) تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 203، وعنه في تفسير القرطبي: ج 4 ص 28. (5) قاله الكلبي على ما حكاه عنه أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 89. (6) قاله مجاهد. راجع تفسيره: ص 249، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 284. (7) وهو قول سعيد بن جبير. راجع الكشاف: ج 1 ص 342، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 30 - 31. (*)
[ 270 ]
وبدرة مبدرة، و * (المسومة) * المعلمة (1) أو المرعية من أسام الدابة وسومها * (والانعم) * الأزواج الثمانية * (ذا لك) * المذكور * (متع الحيوة الدنيا) *. * (قل أؤنبئكم بخير من ذا لكم للذين اتقوا عند ربهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها وأزوا ج مطهرة ورضوا ن من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصبرين والصدقين والقنتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار) * (17) تم الكلام عند قوله: * (ذا لكم) *، وقوله: * (للذين اتقوا عند ربهم جنت) * كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير * (من ذا لكم) *، ويجوز أن يتعلق اللام ب " خير "، واختص " المتقين " لأنهم هم المنتفعون به، ويرتفع * (جنت) * على " هو جنات "، * (والله بصير بالعباد) * يجازيهم بأفعالهم على قدر استحقاقهم * (الذين يقولون) * في محل نصب أو رفع على المدح أو في موضع جر صفة ل " المتقين " أو ل " العباد " (2)، والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها (3) * (والمستغفرين بالاسحار) * المصلين وقت السحر، وقيل: الذين تنتهي صلاتهم إلى وقت السحر ثم يستغفرون ويدعون (4). سورة آل عمران / 19 * (شهد الله أنه لاإله إلا هو والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط لاإله إلا هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند الله الاسلم وما اختلف (1) في بعض النسخ: معلمة، بتشديد اللام. (2) انظر تفصيله في معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 1 ص 385. (3) واليه ذهب الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 343. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 385. (*)
[ 271 ]
الذين أوتوا الكتب إلا من بعد ماجآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بايت الله فإن الله سريع الحساب) * (19) شبه سبحانه دلالته على وحدانيته بالأفعال التي لا يقدر عليها غيره، والآيات الناطقة بتوحيده مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك * (قائما بالقسط) * مقيما للعدل فيما يقسم للعباد من الآجال والأرزاق، وفيما يأمر به عباده من الإنصاف والعمل على السوية فيما بينهم، وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله، كقوله: * (وهو الحق مصدقا) * (1)، وقوله: * (إن الدين عند الله الاسلم) * جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، والفائدة فيه أن قوله: * (لاإله إلا هو) * توحيد، وقوله: * (قائما بالقسط) * تعديل، فإذا أتبعه قوله: * (إن الدين عند الله الاسلم) * فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد وهو الدين عند الله وما عداه فليس من الدين، وقرئ: " أن الدين " بالفتح (2) على أنه بدل من الأول، كأنه قال: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، و * (الذين أوتوا الكتب) * هم اليهود والنصارى، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام * (من بعد ماجآءهم العلم) * أنه الحق، فثلثت النصارى وقالت اليهود: * (عزير ابن الله) * (3)، واختلف الفريقان في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وقد وجدوا نعته في كتبهم وجاءهم العلم بأنه رسول الله ونبيه * (بغيا بينهم) * أي: حسدا بينهم وطلبا منهم للرئاسة لا شبهة في الإسلام * (ومن يكفر (1) البقرة: 91. (2) قرأه ابن عباس وابن عيسى الإصبهاني والكسائي وحكي عن ابن مسعود. انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 202، والحجة لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 349، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 78، والتبيان: ج 2 ص 418، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 407. (3) التوبة: 30. (*)
[ 272 ]
بايت الله) * أي: بالقرآن، أو بالتوراة والإنجيل وما فيهما من صفة محمد (صلى الله عليه وآله) * (فإن الله سريع الحساب) * لا يفوته شئ من أعمالهم. * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتب والامين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلغ والله بصير بالعباد) * (20) سورة آل عمران / 21 - 25 * (فإن) * جادلوك في الدين * (فقل) *: أخلصت نفسي وجملتي * (لله) * وحده، لم أجعل فيها لغيره شريكا بأن أعبده وأعبد إلها معه، والمعنى: أن ديني التوحيد، وهو الأصل الذي يلزم جميع المكلفين الإقرار به * (ومن اتبعن) * (1) عطف على التاء في * (أسلمت) * (2)، ويجوز أن يكون الواو بمعنى " مع " فيكون مفعولا معه (3) * (وقل للذين أوتوا الكتب) * من اليهود والنصارى * (والامين) * الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب * (ءأسلمتم) * يعني: أنه قد أتاكم (4) من البينات ما يوجب الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم ؟ ومثله قوله: * (فهل أنتم منتهون) * (5)، لفظه لفظ الاستفهام والمراد الأمر * (فإن أسلموا فقد اهتدوا) * فقد نفعوا أنفسهم (1) قال الزجاج: لك حذف الياء وإثباتها، والأحب إلي في هذا اتباع المصحف لأن اتباعه سنة ومخالفته بدعة، وما حذف من هذه الياءات * (ومن اتبعن) * * (لئن أخرتن) * * (ربى أكرمن) * فهو على ضربين مع النون: فإذا كان رأس آية فأهل اللغة يسمون أواخر الآي: " الفواصل " فيجيزون حذف الياءات كما يجيزونه في قوافي الشعر، كقول الأعشى: ومن شانئ كاسف وجهه * إذا ما انتسبت له أنكرن وهل يمنعني ارتيادي البلاد * من حذر الموت أن يأتين وإذا لم يكن آخر قافية أو آخر آية فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد بالغ أيضا بخاصة مع النونات. انظر معاني القرآن: ج 1 ص 389. (2) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 555 تجد تفصيل ذلك. (3) انظر الكشاف: ج 1 ص 347. (4) في بعض النسخ: آتيناكم. (5) المائدة: 91. (*)
[ 273 ]
حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى * (وإن تولوا) * لم يضروك فإنك رسول الله ما عليك إلا البلاغ والتنبيه على طريق الرشد والهدى. * (إن الذين يكفرون بايت الله ويقتلون النبين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعملهم في الدنيا والاخرة ومالهم من نصرين) * (22) هم أهل الكتاب قتلت أوائلهم الأنبياء وأتباعهم من عباد بني إسرائيل، وكان هؤلاء راضين بما فعل أولئك، وحاولوا قتل رسول الله والمؤمنين لولا عصمة الله، وقوله: * (بغير حق) * المراد به: أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كقوله: * (ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهن له به) * (1)، * (حبطت أعملهم في الدنيا) * إذ لم ينالوا بها الثناء والمدح ولم تحقن دماؤهم وأموالهم * (و) * في * (الاخرة) * لأنهم (2) لم يستحقوا بها الثواب فصارت كأنها لم تكن، وهذا هو حقيقة الحبوط وهو الوقوع على خلاف الوجه المأمور به فلا يستحق عليه الثواب والأجر. * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يدعون إلى كتب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذا لك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودا ت وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعنهم ليوم لاريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * (25) يريد أحبار اليهود، أي: أعطوا حظا وافرا من التوراة أو من جنس الكتب المنزلة، و * (من) * إما للتبعيض وإما للبيان (3) * (يدعون إلى كتب الله) * وهو (1) المؤمنون: 117. (2) في نسخة: بأنهم، واخرى: بأنه. (3) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 348. (*)
[ 274 ]
التوراة * (ليحكم بينهم) * وذلك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل مدارسهم فدعاهم، فقال له بعضهم: على أي دين أنت ؟ قال: على ملة إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال: إن بيننا وبينكم التوراة، فأبوا (1)، وقيل: نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه (2)، * (ثم يتولى فريق منهم) * استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب * (وهم معرضون) * الإعراض عادتهم * (ذا لك) * التولي والإعراض * (ب) * سبب * (أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودا ت) * أي قلائل: أربعين يوما أو سبعة أيام * (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * أي: افتراؤهم وهو قولهم: * (نحن أبنؤا الله وأحبؤه) * (3)، * (فكيف) * يصنعون * (إذا جمعنهم ليوم) * أي: لجزاء يوم * (لاريب فيه) * أي: لاشك فيه لمن نظر في الأدلة * (ووفيت كل نفس) * جزاء * (ما كسبت وهم لا يظلمون) * يرجع إلى * (كل نفس) * على المعنى، لأنه في معنى: كل الناس. * (قل اللهم ملك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير (26) تولج اليل في النهار وتولج النهار في اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب) * (27) سورة آل عمران / 26 و 27 * (اللهم) * الميم فيه عوض من " يا " ولذلك لا يجتمعان، وهذا من خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه وفيه لام (1) رواه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 288 عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس. (2) وهو ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 289، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 256، وأسباب النزول للواحدي: ص 86. (3) المائدة: 18. (*)
[ 275 ]
التعريف (1) * (ملك الملك) * أي: تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكونه * (تؤتى الملك من تشاء) * تعطي من تشاء من الملك النصيب الذي قسمته له * (وتنزع الملك ممن تشاء) * النصيب الذي أعطيته منه، فالملك الأول عام والآخران خاصان بعضان من الكل * (وتعز من تشاء) * من أوليائك في الدنيا والدين * (وتذل من تشاء) * من أعدائك * (بيدك الخير) * تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك * (تولج اليل في النهار) * أي: تنقص من الليل وتجعل ذلك النقصان زيادة في النهار، وتنقص من النهار وتجعل ذلك النقصان زيادة في الليل * (وتخرج الحى من الميت) * أي: من النطفة * (وتخرج الميت) * أي: النطفة * (من الحى) * وقيل: تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن (2) * (وترزق من تشاء بغير (1) قال الزجاج: فأما إعراب " اللهم " فضم الهاء وفتح الميم، لا اختلاف في اللفظ به بين النحويين، فأما العلة فقد اختلف فيها النحويون، فقال بعضهم: معنى الكلام: يا الله ام بخير، وهذا إقدام عظيم، لأن كل ماكان من هذا الهمز الذي طرح فأكثر الكلام الإتيان به، يقال: ويل امه، وويل امه، والاكثر إثبات الهمز، ولو كان كما يقول لجاز " اومم " و " الله ام " وكان يجب أن تلزمه ياء النداء، لأن العرب تقول: يا الله اغفر لنا، ولم يقل أحد من العرب إلا اللهم... الى أن قال: وهذا القول يبطل من جهات: أحدها: أن " يا " ليست في الكلام، واخرى: أن هذا المحذوف لم يتكلم به على أصله كما تتكلم بمثله، وأنه لا يقدم أمام الدعاء هذا الذي ذكره... الى أن قال: وقال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: ان " اللهم " بمعنى: يا الله، وأن الميم المشددة عوض من " يا " لأنهم لم يجدوا ياء مع هذه الميم في كلمة، ووجدوا اسم الله جل وعز مستعملا ب " يا " إذا لم يذكر الميم، فعلموا أن الميم من آخر الكلمة بمنزلة " يا " في أولها... إلى أن قال: وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم فقال في قوله تعالى: * (قل اللهم فاطر السموا ت والارض) *: أن * (فاطر) * منصوب على النداء، وكذلك * (ملك الملك) * ولكن لم يذكره في كتابه. والقول عندي: ان * (ملك الملك) * صفة الله، وأن * (فاطر السموا ت والارض) * كذلك، وذلك أن الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه " يا " فلا تمنع الصفة مع الميم كما لا تمنع مع " يا " انتهى. راجع معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 394. (2) قاله الحسن البصري وروي ذلك عن الباقر والصادق (عليهما السلام). راجع تفسير الحسن البصري: = (*)
[ 276 ]
حساب) * بغير تقتير. * (لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذا لك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقبة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) * (28) نهى سبحانه المومنين أن يوالوا * (الكفرين) * لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها، وقد كرر ذلك في القرآن: * (لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء) * (1)، * (لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر) * الآية (2) والحب في الله والبغض في الله أصل كبير من أصول الإيمان * (من دون المؤمنين) * المعنى: أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم * (ومن يفعل ذا لك فليس من الله في شئ) * أي: فليس من ولاية الله في شئ، يعني: أنه منسلخ عن ولاية الله رأسا، وهذا أمر معقول فإن مصادقة الصديق ومصادقة عدوه متنافيان، قال: تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك إن الرأي منك لعازب (3) سورة آل عمران / 29 و 30 وقوله: * (من الله) * في موضع النصب على الحال، لأنه في الأصل " فليس في شئ ثابت من الله "، فلما تقدم انتصب على الحال، ومثله " ليسوا من الشر في شئ وإن هانا " * (إلا أن تتقوا منهم تقبة) * إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، وقرئ: " تقية " (4)، وهما جميعا مصدرا تقى تقاة وتقية وتقوى، وهذه = ج 1 ص 206، والتبيان: ج 2 ص 432. (1) المائدة: 51. (2) المجادلة: 22. (3) قائله العتابي في صفة الصديق، ذكره ابن عبدربه في العقد الفريد: ج 2 ص 292 في أصناف الإخوان. (4) قرأه ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والضحاك وأبو حيوة وسهل وحميد بن قيس = (*)
[ 277 ]
رخصة في موالاتهم عند الخوف، والمراد بهذه الموالاة المخالقة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة * (ويحذركم الله نفسه) * فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد. * (قل إن تخفوا مافى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم مافى السموا ت وما في الارض والله على كل شئ قدير) * (29) * (إن تخفوا مافى صدوركم) * من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله * (يعلمه الله) * ولم يخف عليه * (و) * هو * (يعلم مافى السموا ت وما في الارض) * لا يخفى عليه شئ، فلا يخفى عليه سركم وجهركم * (والله على كل شئ قدير) * فهو قادر على عقوبتكم، وهذا بيان لقوله: * (ويحذركم الله نفسه) * وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات القادرة العالمة فلا تختص بمقدور دون مقدور ولا بمعلوم دون معلوم، فكان أحق بأن يتقى ويحذر. * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) * (30) * (يوم) * منصوب ب * (تود) * أي: يوم القيامة حين * (تجد كل نفس) * خيرها وشرها حاضرين تتمنى * (لو أن بينها) * وبين ذلك اليوم وهوله * (أمدا بعيدا) * فالضمير في * (بينه) * ل " اليوم "، ويجوز أن ينتصب " اليوم " بمضمر نحو: " اذكر " ويرتفع * (وما عملت من سوء) * على الابتداء و * (تود) * خبره (1)، أي: والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه، وتكون * (ما) * موصولة ولايجوز أن = والمفضل ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 350، والتبيان ج 2 ص 433، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 260، وتفسير البغوي: ج 1 ص 292، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 424. (1) انظر الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 352. (*)
[ 278 ]
تكون شرطية لارتفاع * (تود) *، ويجوز أن يكون * (وما عملت) * عطفا على * (ما عملت) * ويكون * (تود) * حالا (1)، أي: يوم تجد عملها محضرا وادة تباعد ما بينها وبين اليوم أو عمل السوء، وقوله: * (محضرا) * أي: مكتوبا في صحفهم يقرؤونه، ونحوه: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * (2) والأمد: المسافة، كقوله: * (يليت بينى وبينك بعد المشرقين) * (3)، * (والله رءوف بالعباد) * رحيم بهم، فلا تأمنوا عقابه ولا تيأسوا من رحمته. * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكفرين) * (32) سورة آل عمران / 33 و 34 نزلت الآية في قوم من أهل الكتاب قالوا: " نحن أحباء الله " فجعل الله سبحانه مصداق ذلك اتباع رسوله (صلى الله عليه وآله) فقال: * (إن كنتم) * صادقين في دعوى محبة الله * (فاتبعوني) * فإنكم إن فعلتم ذلك أحبكم الله وغفر لكم، ومحبة الله للعبد هي إرادة ثوابه، ومحبة العبد لله هي إرادة طاعته، فإن المحبة من جنس الإرادة، ثم أكد ذلك بقوله: * (قل أطيعوا الله والرسول) * أي: * (إن كنتم تحبون الله) * كما تدعون فأظهروا دلالة صدق المحبة بطاعة الله وطاعة رسوله * (فإن تولوا) * عن طاعة الله ورسوله، يحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا بمعنى: " فإن تتولوا " (4) ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم: * (فإن الله لا يحب الكفرين) * أي: لا يحبهم ولا يريد ثوابهم من أجل كفرهم، فوضع الظاهر موضع المضمر لهذا المعنى. (1) راجع تفصيل ذلك في إعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 366، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 561. (2) الكهف: 49. (3) الزخرف: 38. (4) انظر الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 354. (*)
[ 279 ]
* (إن الله اصطفئ ادم ونوحا وءال إبرا هيم وءال عمرا ن على العلمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) * (34) * (ءال إبرا هيم) *: إسماعيل وإسحاق وأولادهما، و * (ءال عمرا ن) *: موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر، وقيل: عيسى بن مريم بنت عمران بن ما ثان (1)، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة و * (ذرية) * بدل من * (ءال إبرا هيم وءال عمرا ن) *، * (بعضها من بعض) * يعني: أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض، وفي قراءة أهل البيت (عليهم السلام): " وآل محمد على العالمين " (2)، وقيل: إن آل إبراهيم هم آل محمد الذين هم أهل البيت (عليهم السلام) (3)، ومن اصطفاه الله تعالى واختاره من خلقه لا يكون إلا معصوما مطهرا عن القبائح، وعلى هذا فيجب أن يكون الاصطفاء مخصوصا بمن كان معصوما من آل إبراهيم وآل عمران نبيا كان أو إماما (4). * (إذ قالت امرأت عمرا ن رب إنى نذرت لك مافى بطني محررا (1) وهو قول الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 1 ص 210، والتبيان: ج 2 ص 441، وزاد المسير لابن الجوزي: ج 1 ص 375. (2) انظر تفسير القمي: ج 1 ص 100 وفيه: عن الكاظم (عليه السلام)، والتبيان: ج 2 ص 441، وتفسير العياشي: ج 1 ص 169 ح 34 و 35 كلاهما عن الصادق (عليه السلام). (3) قاله الحسن. راجع التبيان: ج 2 ص 441. (4) قال الشيخ في التبيان: ج 2 ص 440: والاصطفاء هو الاختصاص بحال خالصة من الأدناس، ويقال ذلك على وجهين: الأول: يقال: اصطفاه لنفسه أي جعله خالصا له يختص به، والثاني: اصطفاه على غيره أي اختصه بالتفضيل على غيره وهو معنى الآية، فإن قيل: كيف يجوز اختصاصهم بالتفضيل قبل العمل ؟ قيل: إذا كان في المعلوم أن صلاح الخلق لايتم إلا بتقديم الاعلام لذلك بما قدم من البشارة بهم، والاخبار بما يكون من حسن أفعالهم والتشويق إليهم بما يكون من جلالتهم الى غيره من الآيات التي تشهد لهم، والقوى في العقول والافهام التي كانت لهم، وجب في الحكمة تقديم ذلك لما فيه من حسن التدبير. (*)
[ 280 ]
فتقبل منى إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطن الرجيم) * (36) يجوز أن يكون * (إذ) * منصوبا بقوله: * (سميع عليم) *، أي: سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها، وقيل: هو منصوب ب " اذكر " (1)، وهي امرأة عمران بن ما ثان أم مريم البتول جدة عيسى (عليه السلام) واسمها حنة، وكانتا أختين: إحداهما هذه والأخرى عند زكريا (عليه السلام) واسمها ايشاع واسم أبيها فاقوذ (2)، فيحيى ومريم ابنا خالة * (محررا) * أي: معتقا لخدمة بيت المقدس لايد لي عليه ولا أستخدمه، وروي عن الصادق (عليه السلام): " أن الله عزوجل أوحى إلى عمران أني واهب لك ولدا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذني، فحدث امرأته حنة بذلك، فلما حملت * (قالت) *: * (رب إنى نذرت لك مافى بطني محررا فتقبل منى) * أي: نذري قبول رضى * (إنك أنت السميع) * بما أقول * (العليم) * بما أنوي * (فلما وضعتها) * وكانت ترجو أن يكون غلاما خجلت واستحيت، و * (قالت) * منكسة رأسها: * (رب إنى وضعتها أنثى) * وإنما قالت ذلك تحسرا لأنها كانت ترجو أن سورة آل عمران / 37 تلد ذكرا، ولذلك نذرته محررا، ولذلك قال الله تعالى: * (والله أعلم بما وضعت) * (1) حكى الزجاج عن أبي عبيدة أنه قال: معناه: " قالت امرأة عمران "، ثم قال: ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئا، قال جميع النحويين: إن " إذ " يدل على ما مضى من الوقت فكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغوا، وهي اسم مع ما بعدها ؟ وقال غير أبي عبيدة منهم الأخفش والمبرد: المعنى: اذكروا إذ قالت امرأة عمران. والمعنى عندي - والله أعلم - غير ما ذهبت إليه هذه الجماعة، وإنما العامل في * (إذ قالت) * معنى الاصطفاء، أي المعنى: واصطفى آل عمران * (إذ قالت امرأت عمرا ن رب...) *. راجع معاني القرآن واعرابه: ج 1 ص 400. (2) في نسخة: قاقوز. (*)
[ 281 ]
تعظيما لموضوعها، أي: والله أعلم بالشئ الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وهي لا تعلم ذلك " (1)، وقرئ: " بما وضعت " بضم التاء (2)، وروي ذلك عن علي (عليه السلام) (3)، بمعنى: ولعل لله فيه سرا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها، ومريم في لغتهم هي العابدة. * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) * (37) * (فتقبلها ربها) * فرضي بها بالنذر مكان الذكر * (بقبول حسن) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون القبول اسما لما يقبل به الشئ كالسعوط والوجور لما يسعط به ويوجر، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تصلح للسدانة، والثاني: أن يكون مصدرا على تقدير حذف المضاف بمعنى: فتقبلها بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص (4) * (وأنبتها نباتا حسنا) * أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا ورباها تربية حسنة وأصلح أمرها في جميع أحوالها، وقرئ: " وكفلها " بالتشديد (1) تفسير القمي: ج 1 ص 101، وعنه تفسير البرهان: ج 1 ص 280 ح 2. (2) قرأه عاصم برواية أبي بكر وابن عامر ويعقوب والمفضل. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 204، والحجة لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 354، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 351، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 79، والتبيان: ج 2 ص 443، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 67، وتفسير البغوي: ج 1 ص 295، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 439. (3) أوردها المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 434. (4) انظر الكشاف: ج 1 ص 357، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 565. (*)
[ 282 ]
" زكرياء " بالنصب (1)، والفعل لله تعالى، بمعنى: وضمها إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها، وقرئ: " زكريا " بالقصر والمد (2)، وقيل: إنه بنى لها زكرياء محرابا في المسجد، أي: غرفة تصعد إليها بسلم (3)، وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدمها، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس (4)، وقيل: كانت مساجدهم تسمى محاريب (5)، * (وجد عندها رزقا) * كان رزقها ينزل عليها من الجنة، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء * (أنى لك هذا) * من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا ؟ ! * (قالت هو من عند الله) * أي: من الجنة. سورة آل عمران / 38 و 39 وفي كتاب الكشاف: عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة (عليها السلام) رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها، وقال: هلمي يا بنية، فكشف عن الطبق فإذا هو مملو خبزا ولحما، فبهتت (6) وعلمت أنها نزلت من عند الله، فقال لها: أنى لك هذا ؟ فقالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال (عليه السلام): الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، ثم جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته (عليهم السلام) عليه (1) وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 204، وفي التبيان: ج 2 ص 446، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 372، والبحر المحيط: ج 2 ص 442 نسبوا القراءة الى أهل الكوفة. (2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع التبيان: ج 2 ص 446، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 204، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 351 - 352. (3) قاله محمد بن إسحاق. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 296. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 403 وقال: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف. (5) قاله الأزهري في تهذيب اللغة: مادة (حرب)، وعنه ابن منظور في لسان العرب: مادة (حرب). (6) في نسخة: فتنبهت. (*)
[ 283 ]
حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة (عليها السلام) على جيرانها (1). * (إن الله يرزق من يشآء) * من جملة كلام مريم، أو كلام رب العزة * (بغير حساب) * بغير تقدير لكثرته، أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل. * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملئكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصلحين) * (39) * (هنالك) * أي: في ذلك المكان حيث هو قاعد في المسجد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت فقد يستعار " هنا " و " ثم " و " حيث " للزمان (2)، لما رأى حال مريم من كرامتها على الله ومنزلتها رغب في أن يكون له ولد من ايشاع مثل ولد أختها حنة في الكرامة على الله وإن كانت عاقرا عجوزا * (قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة) * أي: ولدا مباركا تقيا نقيا، وإنما أنث على لفظ الذرية، والذرية تقع على الواحد والجمع * (إنك سميع الدعاء) * أي: مجيبه * (فنادته الملئكة) * قيل: ناداه جبرئيل (عليه السلام) (3)، وقرئ: " فناداه " على التذكير والإمالة (4)، وقرئ: * (أن الله يبشرك) * بالفتح على تقدير: " بأن الله "، وبالكسر (5) على تقدير (1) الكشاف: ج 1 ص 358 - 359. (2) انظر معاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 404، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 359. (3) قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 389. (4) قرأه ابن مسعود وابن عباس وخلف وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد. انظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 352، والتيسير في القراءات للداني: ص 87، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 79، والتبيان: ج 2 ص 450، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 373، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 74، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 446. (5) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 352، = (*)
[ 284 ]
إرادة القول أو لأن النداء ضرب من القول، وقرئ: " يبشرك " بفتح الياء والتخفيف (1) من بشره يبشره، و " يحيى " إن كان أعجميا فإنما منع الصرف للتعريف والعجمة، وإن كان عربيا فللتعريف ووزن الفعل. سورة آل عمران / 40 و 41 * (مصدقا بكلمة من الله) * أي: بعيسى مؤمنا به، قيل: إنه أول من آمن به، وإنما سمي كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهو قوله: " كن " من غير سبب آخر (2)، وقيل: مصدقا بكلمة من الله: مؤمنا بكتاب منه (3)، وسمي الكتاب كلمة كما قيل: كلمة الحويدرة (4) لقصيدته (5) * (وسيدا) * يسود قومه ويفوقهم في = والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 343، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 79، والتبيان: ج 2 ص 450، وإعراب القرآن للنحاس: ج 1 ص 373، والبحر المحيط: ج 2 ص 446. (1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 206، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 360، والتيسير في القراءات للداني: ص 87، والتبيان: ج 2 ص 450، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 75. (2) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والضحاك والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 390، والبحر المحيط: ج 2 ص 447. (3) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 91، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 299. (4) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 91، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 299. (5) الحويدرة والحادرة لقب غلب على شاعر جاهلي، واسمه قطبة بن أوس بن محصن الغطفاني، والحويدرة مصغر الحادرة ويعني: الضخم، وسببه أنه خرج هو وزبان الفزاري يصطادان، فاصطادا جميعا، فخرج زبان يشتوي ويأكل في الليل وحده فقال الحادرة: تركت رفيق رحلك قدتراه * وأنت لفيك في الظلماء هاد فحقدها عليه زبان، ثم أتيا غديرا فتجرد الحادرة وكان ضخم المنكبين، فقال زبان: كأنك حادرة المنكبين * رصعاء تنقض في حائر فغلب عليه هذا اللقب. انظر الأغاني: ج 3 ص 82 - 84. (6) روي أنه ذكر لحسان بن ثابت قصيدة الحويدرة التي مطلعها: بكرت سمية غدونا فتمتعي * رغدت غدو مفارق لم يربع فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته هذه. انظر تفسير القرطبي: ج 4 ص 76، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 447. (*)
[ 285 ]
الشرف والعلم والعبادة * (وحصورا) * لا يقرب النساء، حصرا لنفسه ومنعا من الشهوات * (ونبيا من الصلحين) * أي: رسولا شريفا رفيع المنزلة كائنا من جملة الأنبياء الصالحين. * (قال رب أنى يكون لى غلم وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذا لك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لئ اية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكر) * (41) * (قال) * زكريا: * (أنى يكون لى غلم) * هذا استبعاد من حيث العادة * (وقد بلغني الكبر) * كقولهم: أدركته السن العالية، والمعنى: أثر في الكبر وأضعفني، وكانت له تسع وتسعون سنة، وقيل: مائة وعشرون سنة ولامرأته ثمان وتسعون سنة (1)، * (قال كذا لك الله) * أي: يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو * (كذا لك الله) * مبتدأ وخبر، أي: على نحو هذه الصفة الله (2)، و * (يفعل ما يشآء) * بيان له * (قال رب اجعل لئ اية) * أي: علامة أعرف بها وقت الحمل لأتلقى هذه النعمة إذا جاءت بالشكر * (قال ءايتك ألا) * تقدر على تكليم * (الناس ثلثة أيام إلا رمزا) * إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وأصله التحرك، وإنما خص تكليم الناس ليعلمه (3) أن حبس لسانه يكون عن القدرة على تكليمهم خاصة، ويكون قادرا على التكليم بذكر الله، ولذلك قال: * (واذكر ربك كثيرا) * يعني: في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من المعجزات الباهرة * (وسبح بالعشى) * من حين تزول (4) (1) قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 299، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 79. (2) انظر الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 360. (3) في بعض النسخ: " ليعلمه " بالتشديد. (4) في نسخة: نزول، واخرى: زوال. (
[ 286 ]
الشمس إلى أن تغيب * (والابكر) * من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. * (وإذ قالت الملئكة يمريم إن الله اصطفيك وطهرك واصطفيك على نساء العلمين (42) يمريم اقنتي لربك واسجدي واركعى مع الرا كعين) * (43) * (إذ) * هذه معطوفة على * (إذ قالت امرأت عمرا ن) * (1)، كلمتها الملائكة شفاها و * (قالت) * لها: * (إن الله اصطفيك) * أولا إذ تقبلك من أمك ورباك واختصك بأنواع الكرامة * (وطهرك) * من الأدناس والأقذار العارضة للنساء مثل (2) الحيض والنفاس * (واصطفيك) * آخرا * (على نساء العلمين) * بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء * (يمريم اقنتي لربك) * أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: * (واركعى مع الرا كعين) * بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين في الجماعة، أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم. * (ذا لك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلمهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) * (44) * (ذا لك) * إشارة إلى ما سبق من نبأ زكريا ويحيى ومريم * (من أنباء الغيب) * التي لم تعرفها إلا بالوحي * (نوحيه إليك) * أي: نلقيه إليك معجزة لك، لأن علم ما غاب عن الإنسان لا يمكن حصوله إلا بدراسة الكتب أو بالتعلم أو بالوحي، ومعلوم أنك لم تشاهد هذه القصص ولم تقرأها من كتاب ولا تعلمتها، إذ كان نشوؤك بين قوم لم يكونوا أهل كتاب، فوضح أنك لم تعرف ذلك إلا بالوحي سورة آل عمران / 45 - 47 * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلمهم) * التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء (1) الآية: 35. (2) في نسخة: بنفي. (*)
[ 287 ]
يقترعون على مريم، فارتز (1) قلم زكريا وارتفع فوق الماء ورسبت أقلام الباقين من الأحبار (2) * (أيهم يكفل مريم) * أي: ليعلموا أيهم يكفلها * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * في شأنها. * (إذ قالت الملئكة يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصلحين (46) قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسني بشر قال كذا لك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (47) * (إذ قالت) * بدل من * (وإذ قالت) * (3)، ويجوز أن يبدل من * (إذ يختصمون) * (4)، * (يبشرك) * يخبرك بما يسرك * (بكلمة منه اسمه المسيح) * وأصله " مشيحا " بالعبرانية ومعناه: المبارك كقوله: * (وجعلني مباركا أين ما كنت) * (5)، وكذلك " عيسى " معرب من " ايشوع "، وقيل: إنما سمي مسيحا لأن جبرئيل مسحه بجناحيه وقت ولادته يعوذه بذلك من الشيطان (6)، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ (7)، وإنما قيل (8): * (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) * وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى، والمسيح لقب من ألقابه الشريفة، والابن صفة، لأن (1) ارتز: ثبت. (الصحاح: مادة رزز). (2) انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1 ص 299. (3) آل عمران: 42. (4) راجع الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 363. (5) مريم: 31. (6) حكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 302، والرازي في تفسيره: ج 8 ص 49. (7) قاله ابن عباس على ما حكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 302. (8) في بعض النسخ: قال. (*)
[ 288 ]
الاسم يكون علامة للمسمى يتميز بها عن غيره، فكأنه قيل: إن مجموع هذه الثلاثة هو الذي يتميز بذلك عن غيره * (وجيها) * حال من " كلمة " وكذلك * (ومن المقربين) *، * (ويكلم) *، * (ومن الصلحين) * أي: يبشرك به موصوفا بهذه الصفات، وصح الحال من النكرة لكونها موصوفة، والوجاهة * (في الدنيا) * هي النبوة والرياسة على الناس * (و) * في * (الاخرة) *: الشفاعة وعلو الرتبة (1)، * (و) * كونه * (من المقربين) * رفعه إلى السماء، وقوله: * (في المهد) * في موضع النصب على الحال من * (يكلم) *، و * (كهلا) * عطف عليه، والمعنى: يكلم الناس طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين. * (ويعلمه الكتب والحكمة والتورية والانجيل (48) ورسولا إلى بنى إسرا ءيل أنى قد جئتكم باية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهية الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذا لك لاية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدى من التورية ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم وجئتكم من ربكم باية فاتقوا الله وأطيعون) * (50) سورة آل عمران / 48 - 50 * (ويعلمه) * عطف على * (يبشرك) * أو على * (يخلق) * أو على * (وجيها) * أو هو كلام مستأنف، وقرئ: * (ويعلمه) * بالياء والنون (2)، وقوله: * (ورسولا... (1) في نسخة: المرتبة. (2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 206، والحجة في القراءات السبع لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 361، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 353، والتيسير في القراءات للداني: ص 88، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 79. (*)
[ 289 ]
ومصدقا) * فيهما وجهان: أحدهما: أن التقدير: ويقول: أرسلت رسولا ب * (أنى قد جئتكم) * * (ومصدقا لما بين يدى) *، والثاني: أن الرسول والمصدق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأني قد جئتكم وناطقا بأني أصدق مابين يدي (1)، و * (أنى أخلق) * في موضع نصب بدل من * (أنى قد جئتكم) * أو في موضع جر بدل من " ءاية " أو في موضع رفع على " هي أني أخلق لكم " (2) وقد قرئ: " إني أخلق " بالكسر (3) على الاستئناف، والمعنى: أني أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير * (فأنفخ فيه) * أي: في ذلك الشئ المماثل ل " هيئة الطير "، * (فيكون طيرا) * كسائر الطيور حيا * (بإذن الله) * بقدرته وأمره * (وأبرئ الاكمه) * أي: الذي يولد أعمى * (والابرص) * الذي به وضح، وإنما كرر * (بإذن الله) * دفعا لوهم من توهم فيه الإلهية * (وأنبئكم بما تأكلون) * - ه * (وما تدخرون) * - ه * (في بيوتكم) * كان يقول: يا فلان أكلت كذا ويافلان خبئ لك كذا، وقوله: * (ولاحل لكم) * محمول على قوله: * (باية) * أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم، ويجوز أن يكون * (ومصدقا) * محمولا عليه أيضا، أي: جئتكم بآية وجئتكم مصدقا، والذي أحل لهم عيسى (عليه السلام) وقد كان محرما عليهم في شريعة موسى هو لحم الإبل والشحم والثرب (4) ولحم بعض الحيتان * (وجئتكم باية من ربكم) * أي: حجة شاهدة على صحة نبوتي * (فاتقوا الله) * في مخالفتي وتكذيبي * (وأطيعون) * - ي. * (إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صرا ط مستقيم (51) فلمآ أحس (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 364. (2) راجع الكشاف: ج 1 ص 364. (3) قرأه نافع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 206، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 354، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 79، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 465. (4) الثرب: شحم رقيق قد غشي الكرش والامعاء. (الصحاح: مادة ثرب). (*)
[ 290 ]
عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنا ءامنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير المكرين) * (54) سورة آل عمران / 55 * (إن الله) * مالكي ومالككم، إنما قال ذلك ليكون حجة على النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، والمعنى: لا تنسبوني إليه فإنما أنا عبد له كما أنكم عبيد له * (فلمآ أحس) * أي: علم * (عيسى منهم الكفر) * علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس * (قال من أنصارى إلى الله) * أي: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ؟ فيكون * (إلى الله) * من صلة * (أنصارى) *، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف حالا من الياء أي: من أنصاري ذاهبا إلى الله ؟ (1) * (قال الحواريون نحن أنصار الله) * أي: أنصار دينه ورسوله، وحواري الرجل صفوته وخاصته، ويقال لنساء الحضر: الحواريات لنظافتهن وخلوص ألوانهن، والحواريون كانوا اثني عشر رجلا (2)، قيل: سموا بذلك لأنهم كانوا نورانيين (3) عليهم أثر العبادة أو لنقاء قلوبهم كما ينقى الثوب بالتحوير (4)، وقيل: كانوا قصارين يبيضون الثياب (5)، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وقوله: * (مع الشهدين) * أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، وقيل: مع أمة محمد (صلى الله عليه وآله) لأنهم شهداء على الناس (6) * (ومكروا) * الواو لكفار بني (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 366. (2) قاله الكلبي وعكرمة. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 306. (3) في نسخة: ربانيين. (4) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 306. (5) قاله ابن أبي نجيح. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 395. (6) وهو قول ابن عباس. انظر تفسيره: ص 48، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 306. (*)
[ 291 ]
إسرائيل، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة * (ومكر الله) * بأن رفع عيسى (عليه السلام) إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل * (والله خير المكرين) * أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب. * (إذ قال الله يعيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) * (55) * (إذ قال الله) * ظرف ل * (خير المكرين) * أو ل * (مكر الله) * * (إنى متوفيك) * أي (1): مستوفي أجلك، ومعناه: أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لاقتلا بأيديهم * (ورافعك إلى) * أي: إلى سمائي ومقر ملائكتي * (ومطهرك من الذين كفروا) * من سوء جوارهم وخبث صحبتهم، وقيل: متوفيك: قابضك من الأرض، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته (2)، وقيل: متوفيك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن (3)، وقيل: متوفيك: متوفي نفسك بالنوم (4) من قوله: * (والتى لم تمت في منامها) * (5) ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيمة) * يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بالحجة والسيف، ومتبعوه هم المسلمون دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود (1) في نسخة: اني. (2) قاله الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 1 ص 216. (3) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 219، وعنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 397، والسمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 272. (4) قاله الربيع. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 397، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 100. (5) الزمر: 42. (*)
[ 292 ]
والنصارى * (فأحكم بينكم) * تفسير الحكم فيما بعد وهو قوله: * (فأعذبهم... فيوفيهم أجورهم) *. * (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة ومالهم من نصرين (56) وأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظلمين (57) ذا لك نتلوه عليك من الايت والذكر الحكيم) * (58) * (ذا لك) * إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى (عليه السلام) وغيره، وهو مبتدأ خبره * (نتلوه عليك) *، و * (من الايت) * خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون * (ذا لك) * بمعنى " الذي " و * (نتلوه) * صلته و * (من الايت) * الخبر (1)، * (والذكر الحكيم) * القرآن، لأنه بما فيه من الحكمة كأنه ينطق بالحكمة كما تسمى الدلالة دليلا وإن كان الدليل هو الدال. * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكذبين) * (61) سورة آل عمران / 59 - 61 * (إن) * شأن * (عيسى) * (عليه السلام) وحاله العجيبة كشأن * (ءادم) *، وقوله: * (خلقه من تراب) * جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم، أي: خلق آدم من تراب ولا أب هنا ولا ام فكذلك حال عيسى، والوجود من غير أب وأم أغرب (2) وأدخل في باب (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 367. (2) في نسخة: أعجب. (*)
[ 293 ]
خرق العادة من الوجود من غير أب، والمعنى: قدره جسما (1) من طين * (ثم قال له كن) * أي: أنشأه بشرا كما قال: * (ثم أنشأنه خلقا ءاخر) * (2) وقوله: * (فيكون) * حكاية حال ماضية * (الحق من ربك) * خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحق، كقول أهل خيبر (3): " محمد والخميس " أي (4): الجيش * (فلا تكن من الممترين) * من باب التهييج لزيادة الطمأنينة واليقين * (فمن حاجك) * من النصارى * (فيه) * أي: في عيسى * (من بعد ما جاءك من العلم) * أي: من البينات الموجبة للعلم * (فقل تعالوا) * هلموا، والمراد المجئ بالرأي والعزم كما تقول: تعال نفكر في هذه المسألة * (ندع أبنائنا وأبناءكم) * أي: يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ومن نفسه كنفسه إلى المباهلة * (ثم نبتهل) * أي: نتباهل بأن نقول: " بهلة الله على الكاذب منا ومنكم " والبهلة - بالفتح والضم -: اللعنة، وبهله الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صرار (5) عليها، هذا أصل الابتهال ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. نزلت الآيات في وفد نجران (6): العاقب والسيد ومن معهما، ولما دعاهم (1) في بعض النسخ: جسدا. (2) المؤمنون: 14. (3) خيبر: مدينة بالحجاز على بعد 95 كم شمال المدينة المنورة من جهة الشام، وتشمل على سبعة حصون وحولها مزارع ونخل كثير، وكان ينزل بها اليهود في صدر الإسلام، فتحها النبي (صلى الله عليه وآله) في السنة السابعة للهجرة في الواقعة المشهورة، وفيها أبلى علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بلاء حسنا. (معجم البلدان: ج 2 ص 504، مراصد الاطلاع: ج 1 ص 494، أعيان الشيعة: ج 1 ص 270). (4) في نسخة زيادة: هو. (5) الصرار: خيط يشد فوق الخلف - أي: حلمة ضرع الناقة - والتودية - أي: الخشبة التي تشد على خلف الناقة إذا صرت - لئلا يرضعها ولدها. (الصحاح: مادة صرر). (6) نجران: من مخاليف اليمن من ناحية مكة، وبها كان خبر الاخدود، وإليها تنسب كعبة نجران، وهي بيعة بناها بنو عبد المدان الحارثي على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها بكعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمون وهم الذين جاؤوا الى النبي (صلى الله عليه وآله) ودعاهم = (*)
[ 294 ]
النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما خلا بعضهم إلى بعض قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال: والله لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولانبت صغيرهم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، وذلك بعد أن غدا النبي (صلى الله عليه وآله) آخذا بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهما السلام) بين يديه وفاطمة (عليها السلام) خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم أبو حارثة، فقال الأسقف: إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن يؤدوا إليه كل عام ألفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب، وعلى عارية ثلاثين درعا وعارية ثلاثين فرسا وثلاثين رمحا إن وقع كيد باليمن، وقال: والذي نفسي (1) بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا (2). وفي هذه الآية أوضح دلالة على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام) وعلو درجتهم وبلوغ مرتبتهم في الكمال إلى حد لا يدانيهم أحد من الخلق. سورة آل عمران / 62 - 64 * (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63) قل يأهل = إلى المباهلة، وكان فتح نجران في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) سنة 10 ه صلحا على الفئ. (معجم البلدان: ج 4 ص 756، مراصد الاطلاع: ج 3 ص 1359). (1) في نسخة: نفس محمد. (2) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 90 - 91، والكشاف: ج 1 ص 369. (*)
[ 295 ]
الكتب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * (64) * (إن هذا) * الذي قص عليك من نبأ عيسى وغيره * (لهو القصص الحق) * والحديث الصدق، و * (من) * في قوله: * (وما من إله إلا الله) * بمنزلة البناء على الفتح في " لا إله إلا الله " في إفادة معنى الاستغراق، وهو رد على النصارى في قولهم بالتثليث * (فإن الله عليم بالمفسدين) * وعيد لهم، ولما تم الحجاج على القوم دعاهم سبحانه إلى التوحيد فقال: * (قل يأهل الكتب تعالوا إلى كلمة سوآء) * أي: مستوية * (بيننا وبينكم) * لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة قوله: * (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * يعني: هلموا إليها حتى لا نقول: عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بعضنا وبشر مثلنا، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل كقوله: * (اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله) * الآية (1)، وقال عدي بن حاتم: ماكنا نعبدهم يارسول الله، قال: " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ "، قال: نعم، قال: " هو ذاك " (2)، * (فإن تولوا) * عن التوحيد * (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * أي: لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم، ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعناه: اشهدوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره (3). (1) التوبة: 31. (2) رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 371. (3) انظر الكشاف: ج 1 ص 371. (*)
[ 296 ]
* (يأهل الكتب لم تحاجون في إبرا هيم وما أنزلت التورية والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) هأنتم هؤلاء حججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ماكان إبرا هيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * (67) اجتمعت أحبار اليهود والنصارى عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزعم كل فريق منهم أن * (إبرا هيم) * كان منهم، فقيل لهم: إن اليهودية حدثت بعد نزول * (التورية و) * النصرانية بعد نزول * (الانجيل) * وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلابعد عهده بأزمنة كثيرة ؟ ! * (أفلا تعقلون) * حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ؟ ! * (ها) * للتنبيه و * (أنتم هؤلاء) * مبتدأ وخبر، و * (حججتم) * جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الجهال بيان جهلكم وقلة عقلكم أنكم جادلتم * (فيما لكم به علم) * مما نطق به التوراة والإنجيل * (فلم تحاجون فيما) * لا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ ! * (والله يعلم) * شأن إبراهيم ودينه * (وأنتم لا تعلمون) * فلا تتكلموا فيه، ثم أعلمهم بأن إبراهيم برئ من دينهم * (و) * ما * (كان) * إلا * (حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيرا والمسيح. * (إن أولى الناس بإبرا هيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولى المؤمنين (68) ودت طائفة من أهل الكتب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) * (69) سورة آل عمران / 68 و 69 * (إن أولى الناس) * أخص الناس * (بإبرا هيم) * وأقربهم منه من الولي وهو
[ 297 ]
القرب * (للذين اتبعوه) * في زمانه وبعده * (وهذا النبي) * خصوصا * (والذين ءامنوا) * من أمته * (والله ولى المؤمنين) * يتولى نصرتهم * (ودت طائفة) * أي: تمنت جماعة * (من أهل الكتب لو يضلونكم) * هم اليهود دعوا حذيفة وعمارا (1) ومعاذا (2) إلى اليهودية * (وما يضلون إلا أنفسهم) * وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو ما يقدرون على إضلال المسلمين وإنما يضلون أمثالهم (3) * (وما يشعرون) * أي: وما يعلمون أن وبال ذلك يعود عليهم. * (يأهل الكتب لم تكفرون بايت الله وأنتم تشهدون (70) يأهل الكتب لم تلبسون الحق بالبطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * (71) * (بايت الله) * بالتوراة والإنجيل، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به (1) هو أبو اليقظان، عمار بن ياسر الكناني المذحجي، حليف بني مخزوم، أحد السابقين إلى الإسلام ومن المهاجرين، شهد المشاهد كلها ثم شهد اليمامة فقطعت اذنه بها، ثم استعمله من بعد عمر على الكوفة، وكتب إليهم: أنه من النجباء من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)، تواترت الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): أن عمارا تقتله الفئة الباغية، قتل بصفين مع الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) سنة 37 ه وله من العمر ثلاث وتسعون سنة. (الإصابة في تمييز الصحابة: ج 2 ص 512، حلية الأولياء: ج 1 ص 139، الأعلام للزركلي: ج 5 ص 36). (2) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)، شهد بدرا واحدا والخندق والعقبة مع الأنصار السبعين، وقد آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بينه وبين جعفر ابن أبي طالب، بعثه النبي (صلى الله عليه وآله) بعد غزوة تبوك قاضيا ومرشدا لأهل اليمن، مات عقيما بناحية الاردن ودفن بالغور سنة 18 ه. (الاصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 426، اسد الغابة لابن الأثير: ج 4 ص 376، طبقات ابن سعد: ج 3 ص 120). (3) انظر الكشاف: ج 1 ص 372. (*)
[ 298 ]
من صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ونعته، * (وأنتم تشهدون) * تعترفون بأنها آيات الله، أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين (1) * (لم تلبسون الحق بالبطل) * الباطل: ماحرفوه من التوراة، والحق: ما تركوه على حاله * (وتكتمون الحق) * وهو نبوة محمد (صلى الله عليه وآله). (وقالت طائفة من أهل الكتب ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآأوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله وا سع عليم (73) يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) (74) سورة آل عمران / 73 و 74 تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد (صلى الله عليه وآله) أول النهار من غير اعتقاد * (واكفروا) * به آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك النعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل الكتاب إلا لأمر قد تبين لهم (2) و * (وجه النهار) * أوله، وقوله: * (ولا تؤمنوا) * يتعلق بقوله: * (أن يؤتى أحد) * وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد * (مثل مآأوتيتم) * إلا لأهل دينكم دون غيرهم، والمراد: وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا عند أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم تصديقكم بذلك ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام * (أو يحاجوكم عند ربكم) * عطف على (1) راجع معاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 427. (2) ذكره الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 430. (*)
[ 299 ]
* (أن يؤتى) * والضمير في * (يحاجوكم) * ل * (أحد) * لأنه في معنى الجمع، يعني: ولا تؤمنوا * (ل) * غير * (من تبع دينكم) * إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة، ومعنى الاعتراض بقوله: * (قل إن الهدى هدى الله) * أن المراد بذلك: قل يا محمد لهم: إن من شاء الله أن يوفقه حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك، ولم ينفع حيلتكم ومكركم، وكذلك قوله: * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء) * المراد به: الهداية والتوفيق. وفي الآية وجه آخر: وهو أن يتم الكلام عند قوله: * (إلا لمن تبع دينكم) * على معنى: لا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم، ولأن الإسلام منهم كان أغيظ لهم، وقوله: * (أن يؤتى أحد) * معناه: لأن يؤتى أحد * (مثل مآأوتيتم) * دبرتم ذلك وفعلتموه لا لشئ آخر، يعني: أن ما بكم من الحسد لمن أوتي مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير (1): " أأن يؤتى أحد " بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ (2) بمعنى: ألان يؤتى أحد. ومعنى * (أو يحاجوكم) * على هذا أنكم دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم من محاجتهم لكم عند ربكم. (1) هو عبد الله بن كثير، أبو معبد الداري العطار، فارسي الأصل، إمام أهل مكة في القراءة وأحد القراء السبعة، أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن السائب وعرض على مجاهد بن جبر، روى القراءة عنه: اسماعيل القسط والخليل بن أحمد وشبل وغيرهم، وكان فصيحا بليغا مفوها، ولد سنة 45 ه وتوفي سنة 120 ه. (وفيات الأعيان: ج 2 ص 245). (2) راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 207، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 355، والتيسير في القراءات للداني: ص 89، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 80. (*)
[ 300 ]
ووجه آخر: وهو أن يكون * (هدى الله) * بدلا من * (الهدى) *، و * (أن يؤتى أحد) * خبر * (إن) * والمعنى: قل: إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم * (أو يحاجوكم) * حتى يحاجوكم * (عند ربكم) * فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم. ووجه آخر: وهو أن يتعلق الكلامان ب * (قل) * والمعنى: قل لهم هذين القولين أي: أكد عليهم أن الهدى هدى الله وهو ما فعله من إيتاء الكتاب غيركم وأنكر عليهم أن يكيدوا بما كادوا به، كأنه قيل: قل: * (إن الهدى هدى الله) * وقل: ألان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم وكدتم ماكدتم ؟ وفي هذه الآيات معجزة ظاهرة (1) لنبينا (عليه السلام) حيث أخبرهم عن سرائرهم. * (ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما ذا لك بأنهم قالوا ليس علينا في الامين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) * (76) سورة آل عمران / 76 - 78 * (إلا مادمت عليه قائما) * معناه: إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه تطالبه بالعنف * (ذا لك) * إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه * (لا يؤده إليك) * ومعناه: أن تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم: * (ليس علينا في الامين سبيل) * أي: ليس علينا عقاب ولاذم في شأن الأميين الذين ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون: لم تجعل لهم في كتابنا حرمة * (ويقولون على الله الكذب) * بادعائهم أن ذلك في كتابهم * (وهم يعلمون) * أنهم (1) في بعض النسخ: باهرة. (*)
[ 301 ]
كاذبون * (بلى) * إثبات لما نفوه، أي: بلى عليهم سبيل في الأميين، وقوله: * (من أوفى بعهده) * جملة مستأنفة، أي: كل من أوفى بما عاهد عليه * (واتقى) * الله في ترك الخيانة والغدر * (فإن الله يحب) * - ه، وضع الظاهر موضع المضمر. * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمنهم ثمنا قليلا أولئك لاخلق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * (77) * (يشترون) * يستبدلون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) * (وأيمنهم) * أي: بما حلفوا به من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه * (ثمنا قليلا) * متاع الدنيا من الرئاسة وأخذ الرشوة ونحو ذلك، وقيل: نزلت في حي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأضرابهما من اليهود كتموا ما في التوراة وحرفوه (1) * (ولا ينظر إليهم) * مجاز عن الاستهانة بهم، يقال: فلان لا ينظر إلى فلان يراد سخطه عليه وترك اعتداده به * (ولا يزكيهم) * ولا يثني عليهم. * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتب لتحسبوه من الكتب وما هو من الكتب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * (78) * (يلوون ألسنتهم) * يفتلونها * (ب) * قراءة * (الكتب) * عن الصحيح إلى المحرف * (لتحسبوه) * والضمير يرجع إلى مادل عليه * (يلوون ألسنتهم بالكتب) * وهو المحرف، أي: لتظنوا أيها المسلمون ذلك المحرف من كتاب الله * (وما هو من الكتب) * المنزل على موسى ولكنهم يخترعون * (ويقولون هو من عند الله) * هو (1) قاله عكرمة. راجع التبيان: ج 2 ص 506 - 507، وأسباب النزول للواحدي: ص 96. (*)
[ 302 ]
تأكيد لقوله: * (هو من الكتب) * وزيادة تشنيع عليهم، وقيل: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بما كان عندهم من الكتاب (1). * (ماكان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولكن كونوا ربنين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * (80) قيل: إن أبا رافع القرظي ورئيس وفد نجران قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها ؟ فقال: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فنزلت (2). سورة آل عمران / 79 و 80 و * (الحكم) *: الحكمة وهي السنة، أي: * (ما) * ينبغي * (لبشر) * ولا يحل له وليس من صفة الأنبياء الذين خصهم الله بالحكمة و * (النبوة) * أن يدعو الناس إلى عبادتهم، وهذا تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى * (ولكن كونوا ربنين) * أي ولكن يقول: كونوا ربانيين، والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون - كما يقال: لحياني - وهو شديد التمسك بدين الله، وقيل: الربانيون: العلماء الفقهاء (3)، أي: كونوا علماء فقهاء، وقيل: كونوا معلمين الناس من علمكم كما يقال: أنفق بمالك أي: من مالك (4) * (بما كنتم) * أي: بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم (1) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 50. (2) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 96 عن ابن عباس براوية الكلبي وعطاء، والكشاف: ج 1 ص 377. (3) قاله الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 1 ص 219. (4) قاله الزجاج. راجع معاني القرآن: ج 1 ص 436، وعنه التبيان: ج 2 ص 511. (
[ 303 ]
دارسين للعلم، وقرئ: * (تعلمون) * من التعليم، وقرئ: * (ولا يأمركم) * بالنصب عطفا على * (ثم يقول) * وفيه وجهان: أحدهما: أن يجعل * (لا) * مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: * (ماكان) * أي: ماكان * (لبشر) * أن يستنبئه الله ويجعله داعيا إلى الله وإلى إخلاص العبادة له وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم * (أن تتخذوا الملئكة والنبين أربابا) *، والثاني: أن يجعل * (لا) * غير مزيدة، والمعنى: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، وينهى اليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربا، قيل لهم: ماكان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء، والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر (1)، وينصرها قراءة عبد الله " ولن يأمركم " (2)، والضمير في * (لا يأمركم) * و * (أيأمركم) * للبشر، وقيل: لله (3)، والهمزة في * (أيأمركم) * للإنكار (4)، والمعنى: أن الله تعالى إنما يبعث النبي ليدعو الناس إلى الإيمان فكيف يدعو النبي المسلمين إلى الكفر ؟ ! * (وإذ أخذ الله ميثق النبين لما ءاتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذا لكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشهدين (81) فمن تولى بعد ذا لك فأولئك هم الفسقون) * (82) (1) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن المجيد للهمداني: ج 1 ص 592. (2) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 378، والهمداني في فريده: ج 1 ص 592. (3) قاله سيبويه والزجاج ومكي. راجع معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 436، والكشف عن وجوه القراءات السبع: ج 1 ص 351، وتفسير القرطبي: ج 4 ص 123. (4) انظر الكشاف: ج 1 ص 378، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 593. (*)
[ 304 ]
المعنى: * (أخذ الله) * الميثاق على * (النبين) * (1) بذلك، وعن الصادق (عليه السلام) أن المعنى: " وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين (2) كل أمة بتصديق نبيها والعمل بما جاءهم به فما وفوا به وتركوا كثيرا من شرائعهم " (3)، واللام في * (لما ءاتيتكم) * لتوطئة القسم، وفي * (لتؤمنن) * لجواب القسم، لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف، ويجوز أن تكون " ما " شرطية و * (لتؤمنن) * قد سد مسد جواب القسم وجواب الشرط معا، ويجوز أن تكون " ما " موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به (4)، وقرئ: " لما آتيناكم " (5)، وقرئ: " لما آتيتكم " بكسر اللام (6) ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجئ * (رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به) * فيكون " ما " على هذا مصدرية والفعلان معها وهما * (ءاتيتكم) * و * (جاءكم) * في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل أي: أخذ الله ميثاقهم (7) لتؤمنن بالرسول * (ولتنصرنه) * لأجل أني آتيتكم الحكمة وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف، ويجوز أن يكون " ما " موصولة وأن عطف بقوله: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * على قوله: * (ءاتيتكم) * لأن " ما معكم " في معنى " ماآتيتكم " فكأنه قيل: للذي آتيتكموه وجاءكم رسول سورة آل عمران / 81 - 84 مصدق له * (قال) * أي: قال الله للنبيين * (ءأقررتم) * به وصدقتموه * (وأخذتم على (1) في بعض النسخ زيادة: الماضين بتصديق محمد (صلى الله عليه وآله)، هذا قول علي (عليه السلام) وابن عباس. (2) في بعض النسخ زيادة: على. (3) رواها الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 514. (4) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 379. (5) قرأه نافع. راجع التبيان: ج 2 ص 513، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 357. (6) وهي قراءة حمزة. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 357، وكتاب التيسير في القراءات السبع للداني: ص 89، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 80. (7) في بعض النسخ: ميثاقكم. (*)
[ 305 ]
ذا لكم إصرى) * أي: عهدي على أممكم، وسمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي: يشد ويعقد، قال الأنبياء: * (أقررنا) * بما أمرتنا بالإقرار به * (قال) * الله * (فاشهدوا) * بذلك على أممكم * (وأنا معكم من الشهدين) * وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ العهد بذلك على أمته (1) * (فمن تولى بعد ذا لك) * الميثاق والتوكيد * (فأولئك هم الفسقون) * المتمردون من الكفار. * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموا ت والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل ءامنا بالله ومآأنزل علينا ومآأنزل على إبرا هيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * (84) دخلت همزة الإنكار على فاء العطف التي عطفت جملة على جملة، والمعنى: * (فأولئك هم الفسقون أفغير دين الله يبغون) * ثم توسطت همزة الإنكار بينهما، ويجوز أن يكون عطفا على محذوف والتقدير: أيتولون فغير دين الله يبغون (2)، وقرأ أبو عمرو: * (يبغون) * بالياء " وإليه ترجعون " بالتاء مضموما (3) لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس، وقرئا بالياء معا وبالتاء (4) معا، وانتصب (1) رواها الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 513. (2) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 380، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 598. (3) راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 214، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 379، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 380، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 516. (4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وابن عامر. راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي: ج 1 ص 353، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 357، = (*)
[ 306 ]
* (طوعا وكرها) * على الحال أي: طائعين ومكرهين وقيل: طوعا لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا بالنظر في الأدلة، ومنهم من أسلم كرها بالسيف أو بمعاينة مايلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل فوق بني إسرائيل أو عند رؤية البأس بالإشفاء على الموت (1)، فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده، ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذلك وحد الضمير في * (قل) * وجمع في * (ءامنا) *، ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه * (ونحن له مسلمون) * أي: موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في العبادة. * (ومن يبتغ غير الاسلم دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين) * (85) أي: * (ومن) * يطلب غير * (الاسلم) * وهو التوحيد والإسلام لوجه الله * (دينا) * يدين به * (فلن يقبل منه) * بل يعاقب عليه * (وهو في الاخرة من الخسرين) * من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد. * (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمنهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينت والله لا يهدى القوم الظلمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين (87) خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذا لك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * (89) سورة آل عمران / 68 - 90 * (وشهدوا) * عطف على ما في * (إيمنهم) * من معنى الفعل، لأن معناه بعد أن = والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 80. (1) قاله الحسن كما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 323. (*)
[ 307 ]
آمنوا وشهدوا، ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار " قد " أي: كفروا وقد شهدوا * (أن الرسول حق) * (1)، ومعنى الآية: كيف يهديهم الله إلى طريق الإيمان وقد تركوه ؟ أي: لا طريق يهديهم به إلى الإيمان وقد تركوا الوجه الذي هداهم به ولا طريق غيره، وقيل: معناه: كيف يلطف بهم الله وليسوا من أهل اللطف لما علم سبحانه من تصميمهم على الكفر ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد ما شهدوا أن الرسول حق وبعدما جاءتهم المعجزات التي تثبت بها النبوة وهم اليهود كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن كانوا مؤمنين به (2)، وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة (3) * (إلا الذين تابوا من بعد ذا لك) * الكفر والارتداد * (وأصلحوا) * ما أفسدوا أو (4) دخلوا في الصلاح. * (إن الذين كفروا بعد إيمنهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من نصرين) * (91) يعني: اليهود * (الذين كفروا) * بعيسى * (بعد إيمنهم) * بموسى * (ثم ازدادوا كفرا) * بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) أو كفروا برسول الله بعد أن كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك وعداوتهم له ونقضهم عهده وصدهم عن (1) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 600. (2) قاله الحسن. راجع التبيان: ج 2 ص 521. (3) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 521 عن مجاهد والسدي وقال: وكذلك رويناه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، والقرطبي في تفسيره: ج 4 ص 129 عن ابن عباس. (4) في نسخة: و. (*)
[ 308 ]
الإيمان به * (لن تقبل توبتهم) * لأنها لا تقع على وجه الإخلاص، ويدل عليه قوله: * (وأولئك هم الضالون) * أي: عن الحق والصواب، وقيل: لن تقبل توبتهم عند رؤية البأس (1)، والمعنى: أنهم لا يتوبون إلا عند معاينة الموت * (وماتوا وهم كفار) * أي: على كفرهم * (فلن يقبل من أحدهم) * فدية ولو افتدى ب * (ملء الارض ذهبا) *، ويجوز أن يكون المراد: * (ولو افتدى) * بمثله، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم قالوا: ضربته ضرب زيد أي: مثل ضربه، وقضية ولا أبا حسن لها أي: ولا مثل أبي حسن لها، كما أنه يزاد مثل في نحوقولهم: مثلك لا يفعل كذا أي: أنت لا تفعل. * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) * (92) سورة آل عمران / 92 و 93 أي: * (لن) * تبلغوا حقيقة * (البر) * ولن تكونوا أبرارا، وقيل: * (لن تنالوا) * بر الله وهو الثواب (2) * (حتى تنفقوا مما تحبون) * أي: حتى تنفقوا من أموالكم التي تحبونها كقوله: * (أنفقوا من طيبت ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * الآية (3)، وقرأ عبد الله: " حتى تنفقوا بعض (1) وهو قول الحسن وقتادة. راجع الطبري: ج 3 ص 341 ثم قال: إنه لا يجوز تأويل من قال: لن تقبل توبتهم عند حضور موتهم، لأنه لا خلاف بين الامة أن الكافر إذا أسلم قبل توبته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلمين في وجوب الصلاة عليه ومواريثه ودفنه في مقام المسلمين واجراء جميع أحكام الاسلام عليه، ولو كان اسلامه غير صحيح لما جاز ذلك. كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 527 ثم أجاب (قدس سره): وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن نتعبد باجراء أحكام الإسلام عليه وإن كان إسلامه على وجه من الالجاء لا يثبت معه إستحقاق الثواب عليه، كما انا تعبدنا باجراء أحكام الإسلام على المنافقين وإن كانوا كفارا، وإنما لم يجز قبول التوبة في حال الإلجاء إليه لأن فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم... الى آخر كلامه الشريف. (2) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 52، وحكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 284. (3) البقرة: 267. (*)
[ 309 ]
ما تحبون " (1)، وهو دلالة على أن " من " هنا للتبعيض نحو: أخذت من المال * (وما تنفقوا من شئ) * " من " هنا للتبيين، أي: من أي شئ كان طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه * (فإن الله... عليم) * بكل شئ تنفقونه فيجازيكم بحسبه. * (كل الطعام كان حلا لبنى إسرا ءيل إلاماحرم إسرا ءيل على نفسه من قبل أن تنزل التورية قل فأتوا بالتورية فاتلوها إن كنتم صدقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذا لك فأولئك هم الظلمون (94) قل صدق الله فاتبعوا ملة إبرا هيم حنيفا وما كان من المشركين) * (95) أي: * (كل) * أنواع * (الطعام) * أو كل المطعومات * (كان حلا) * الحل مصدر حل الشئ حلا كقولك: عز الشئ عزا وذلت الدابة ذلا، ولذلك استوى المذكر والمؤنث والواحد والجمع في الوصف به (2)، قال سبحانه: * (لاهن حل لهم) * (3) والذي * (حرم إسرا ءيل) * وهو يعقوب * (على نفسه) * لحوم الإبل وألبانها (4)، وقيل: العروق ولحم الإبل، كان به عرق النساء فأشارت عليه الأطباء باجتنابه ففعل ذلك بإذن من الله (5) فكان كتحريم الله ابتداء، والمعنى: أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شئ قبل ذلك غير المطعوم الذي حرمه إسرائيل على نفسه، وهذا رد على اليهود حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نطق به القرآن من تحريم (1) حكاها عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 385. (2) راجع الكشاف: ج 1 ص 385. (3) الممتحنة: 10. (4) وهو قول ابن عباس والحسن. راجع تفسير ابن عباس: ص 52، وتفسير الحسن البصري: ج 1 ص 223، وأحكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 18. (5) قاله ابن عباس والحسن كما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 2 ص 532. (*)
[ 310 ]
الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم في قوله: * (ذا لك جزينهم ببغيهم) * (1) وقوله: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم) * (2) الآية (3)، فقالوا: لسنا بأول من حرمت عليه وقد كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل إلى أن انتهى التحريم إلينا، فكذبهم الله تعالى ثم قال: * (قل فأتوا بالتورية فاتلوها) * حتى يتبين أنه تحريم حادث بسبب ظلمكم وبغيكم لا تحريم قديم كما زعمتم فلم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا * (فمن افترى على الله الكذب) * بزعمه أن ذلك كان محرما على الأنبياء وعلى بني إسرائيل قبل إنزال التوراة * (فأولئك هم الظلمون) * لأنفسهم * (قل صدق الله) * تعريض بكذبهم، أي: ثبت أن الله صادق فيما أنزله وأنتم كاذبون * (فاتبعوا ملة إبرا هيم) * وهي ملة الإسلام التي عليها محمد (صلى الله عليه وآله) ومن آمن معه، ثم برأ سبحانه إبراهيم مما كان ينسبه اليهود والمشركون إليه من كونه على دينهم فقال: * (وما كان من المشركين) *. * (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعلمين (96) فيه ءايت بينت مقام إبرا هيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العلمين) * (97) سورة آل عمران / 96 و 97 * (وضع للناس) * صفة ل * (بيت) * والمعنى: * (إن أول بيت) * جعل متعبدا * (للناس) * * (ل) * لبيت * (الذى ببكة) * وهي الكعبة، وبكة: علم للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه (4)، وقيل: مكة: البلد، وبكة: موضع المسجد لأنها مزدحم (1) الأنعام: 146. (2) في بعض النسخ زيادة: * (وبصدهم عن سبيل الله) *. (3) النساء: 160. (4) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 445، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 387. (*)
[ 311 ]
الناس للطواف (1)، * (مباركا) * كثير الخير والبركة لثبوت العبادة فيه دائما، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف * (وهدى للعلمين) * لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وقيل: دلالة لهم على الله عزاسمه بإهلاكه كل من قصده من الجبابرة كأصحاب الفيل وغيرهم (2) * (فيه ءايت بينت) * يجوز أن يكون * (مقام إبرا هيم) * وحده عطف بيان ل * (ءايت) * بمعنى: أنها بمنزلة آيات كثيرة لقوة دلالته على قدرة الله من تأثير قدمه في حجر صلد وغوصه فيها إلى الكعبين (3)، ويجوز أن يكون المراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم * (و) * أمن * (من دخله) * لأن الاثنين نوع من الجمع (4)، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات أي: وآيات كثيرة سواهما (5) كقول جرير (6): كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم * من العبيد وثلث من مواليها (7) (1) قاله ابن شهاب وضمرة بن ربيعة. راجع تفسير الطبري: ج 3 ص 357، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 410، والتبيان: ج 2 ص 535. (2) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 536. (3) وهو قول مجاهد كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 536. (4) وهو ماقاله ابن عباس كما رواه عنه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 446. (5) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 388. (6) هو جرير بن عطية الخطفي التميمي، من أبرز شعراء عصره، اشتهر بالهجاء، وكان قد خاصم ثمانين شاعرا فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل. ولد باليمامة سنة 28 ه ومات فيها سنة 110 ه. (وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 1 ص 102، خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 36، الشعر والشعراء لابن قتيبة: ص 283). (7) في هذا البيت مبالغة من الهجو، إذ أراد: ان هذه القبيلة منقسمة أثلاثا، فثلثها من العبيد الارقاء، وثلثها من الموالي، ولم يذكر الثلث الأخير عمدا، لأنه في مقام الذم، وأراد به السادة الأشراف، وقيل: يحتمل المدح وأن خدمهم من العبيد كثير. انظر ديوان جرير: ص 458، والكامل للمبرد: ج 2 ص 913، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 5 ص 39 وفيها: " صارت " بدل " كانت ". (*)
[ 312 ]
وطوى الثلث الآخر، وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب، وقيل: إنه خبر معناه الأمر، فمن وجب عليه حد فلاذ بالحرم لا يبايع ولا يعامل حتى يخرج فيقام عليه الحد ولا يتعرض له فيه (1)، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) (2)، وروي أيضا: أن من دخله عارفا بما أوجبه الله عليه كان آمنا في الآخرة من النار (3). * (ولله على الناس حج البيت) * وقرئ بكسر الحاء * (من استطاع إليه سبيلا) * فيه أنواع من التوكيد والتشديد في الحج، فإن قوله: * (ولله على الناس حج البيت) * يدل على أنه حق واجب في رقاب الناس لا يخرجون عن عهدته، ثم أبدل عنه * (من استطاع إليه سبيلا) * إيضاحا بعد الإبهام وتفصيلا بعد الإجمال، ثم قال: * (ومن كفر) * مكان قوله: " ومن لم يحج " تغليظا على تارك الحج كما جاء في الحديث: " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " (4)، ثم قال: * (فإن الله غنى عن العلمين) * ولم يقل " عنه " ليكون بدلالته على الاستغناء الكامل أدل على عظم سخط الله الذي وقع الاستغناء عبارة عنه، وفي الأثر: " لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا " (5) أي: ما أمهلوا. سورة آل عمران / 98 - 101 * (قل يأهل الكتب لم تكفرون بايت الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يأهل الكتب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن (1) قاله ابن عباس وابن عمر. راجع التبيان: ج 2 ص 537. (2) تفسير القمي: ج 1 ص 108، تفسير العياشي: ج 1 ص 189 ح 103 و 105. (3) رواها الشيخ في التبيان: ج 2 ص 537 عن أبي جعفر (عليه السلام)، والقرطبي في تفسيره: ج 4 ص 141 - 142 عن أبي عبد الله (عليه السلام). (4) اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 3 ص 10. (5) الكشاف: ج 1 ص 392. (*)
[ 313 ]
تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغفل عما تعملون) * (99) الواو في قوله: * (والله شهيد) * للحال، والمعنى * (لم تكفرون) * بالآيات التي دلتكم على صدق محمد (صلى الله عليه وآله) والحال أن الله يشاهد أعمالكم فيجازيكم عليها ؟ ! فكيف تجسرون على الكفر بآياته ؟ ! و * (سبيل الله) * التي أمر بسلوكها هو دين الإسلام، وكانوا يحتالون لصد المؤمنين عنه بجهدهم، ويغرون بين الأوس والخزرج يذكرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية ليعودوا لمثلها * (تبغونها عوجا) * تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن الاستقامة * (وأنتم شهداء) * بأنها سبيل الله الذي ارتضاه وتجدون ذلك في كتابكم، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم يثقون بأقوالكم وهم الأحبار * (وما الله بغفل عما تعملون) * وعيد لهم. * (يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتب يردوكم بعد إيمنكم كفرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايت الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صرا ط مستقيم) * (101) خاطب سبحانه الأوس والخزرج فقال: * (إن تطيعوا) * هؤلاء اليهود في إحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية * (يردوكم) * كفارا * (بعد إيمنكم) * ثم عظم الشأن عليهم بأن قال: * (وكيف تكفرون) * أي: ومن أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله * (تتلى عليكم) * على لسان رسوله وهو بين أظهركم يعظكم وينبهكم (1)، ومن يتمسك بدين الله فقد حصل له الهدى لا محالة. * (يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم (1) في بعض النسخ: ينهاكم. (*)
[ 314 ]
مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوا نا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذا لك يبين الله لكم ءايته لعلكم تهتدون) * (103) سورة آل عمران / 104 - 106 * (اتقوا الله حق تقاته) * أي: واجب تقواه وهو القيام بالواجبات واجتناب المحرمات، وعن الصادق (عليه السلام): " هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر " (1) ونحوه قوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (2) أي: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا * (ولا تموتن) * أي: لا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على القتال: لا تأتني إلا وأنت على فرس، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي ذكرتها في وقت الإتيان * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * أي: واجتمعوا على التمسك بعهد الله على عباده وهو الإيمان والطاعة أو بالقرآن، قال الصادق (عليه السلام): " نحن حبل الله " (3) * (ولا تفرقوا) * أي: لا تتفرقوا عن الحق بالاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى، وكانوا في الجاهلية متعادين قد تطاولت الحروب بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالنبي (صلى الله عليه وآله) * (فأصبحتم بنعمته إخوا نا) * متواصلين متحابين * (وكنتم على شفا حفرة) * على حرف حفرة * (من) * نار جهنم قد أشفيتم على أن تقعوا فيها لما كنتم عليه من الكفر * (فأنقذكم منها) * بالإسلام * (كذا لك) * أي: مثل ذلك البيان * (يبين الله لكم ءايته) * (1) رواها العياشي في تفسيره: ج 1 ص 194 ح 120. (2) التغابن: 16. (3) رواه الشيخ في أماليه: ج 1 ص 278، والعياشي في تفسيره: ج 1 ص 194 ح 123 عن أبي جعفر (عليه السلام). (*)
[ 315 ]
إرادة أن تزدادوا هدى. * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجآءهم البينت وأولئك لهم عذاب عظيم) * (105) قيل: إن " من " هنا للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولا يصلح لذلك إلا من يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا فيعلم كيف يباشر ذلك ويرتبه فإن الجاهل ربما نهى عن معروف أو أمر بمنكر (1)، وقيل: إن " من " للتبيين بمعنى: وكونوا أمة تأمرون كقوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف) * (2) (3)، * (وأولئك هم المفلحون) * الأحقاء بالفلاح دون غيرهم، وذكر سبحانه الدعاء إلى الخير أولا لأنه عام في التكاليف من الأفعال والتروك، ثم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانيا لأن ذلك خاص * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) * وهم اليهود والنصارى * (من بعد ماجآءهم البينت) * الموجبة للاتفاق والائتلاف والاجتماع على كلمة الحق. * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمنكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خلدون (107) تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعلمين) * (108) * (يوم تبيض) * نصب بقوله: * (لهم عذاب عظيم) * البياض من النور والسواد (1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 396. (2) آل عمران: 110. (3) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 452. (*)
[ 316 ]
من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وأشرق وجهه وابيضت صحيفته وسعى نوره بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسف وجهه و * (اسودت) * صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب، نعوذ بالله وفضله من ظلمة الباطل وأهله * (أكفرتم) * فيقال لهم: * (أكفرتم) * والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم (1)، وقيل: هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة (2)، وقيل: هم المرتدون (3)، وقيل: هم الخوارج (4) * (ففى رحمة الله) * أي: نعمته وهو الثواب الدائم، وقوله: * (هم فيها خلدون) * استئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها ؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون * (تلك ءايت الله) * الواردة في الوعد والوعيد * (نتلوها عليك) * متلبسة * (بالحق) * والعدل * (وما الله يريد ظلما) * فيأخذ أحدا بغير جرم أو يزيد في عقاب مجرم أو ينقص من ثواب محسن فيكون ظلما، وقال: * (للعلمين) * على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه. * (ولله مافى السموا ت وما في الارض وإلى الله ترجع الامور (109) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفسقون) * (110) سورة آل عمران / 109 - 111 بين سبحانه وجه استغنائه عن الظلم بقوله: * (ولله مافى السموا ت وما في (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 399. (2) قاله قتادة. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 340. (3) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 551 عن قتادة. (4) قاله أبو امامة. انظر تفسير الطبري: ج 3 ص 387، وتفسير البغوي: ج 1 ص 340. (*)
[ 317 ]
الارض وإلى الله ترجع) * أمورهم وقع المظهر موقع المضمر ليكون أفخم في الذكر * (كنتم خير أمة) * معناه: وجدتم خير أمة، لأن " كان " عبارة عن وجود الشئ في زمان ماض ولا دليل فيه على العدم السابق ولا على الانقطاع الطاري (1) (2)، وقيل: كنتم في علم الله خير أمة أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به (3) * (أخرجت) * أظهرت * (للناس) * وقوله: * (تأمرون) * كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما يقال: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويحسن إليهم (4) * (ولو ءامن أهل الكتب) * بالنبي وبما جاء به * (لكان) * ذلك الإيمان * (خيرا لهم) * في الدنيا والآخرة * (منهم المؤمنون) * كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي وأصحابه من النصارى * (وأكثرهم الفسقون) * المتمردون في الكفر. * (لن يضروكم إلا أذى وإن يقتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وبآءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذا لك بأنهم كانوا يكفرون بايت الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذا لك بما عصوا وكانوا يعتدون) * (112) هذا تثبيت لمن أسلم من اليهود ووعد لهم بأنهم المنصورون، فإنهم كانوا يؤذونهم بالتوبيخ والتهديد وغير ذلك، فقال سبحانه: إنهم * (لن يضروكم إلا) * (1) في نسخة: اللاحق. (2) يظهر من كلامه (قدس سره) أنه يذهب الى أن " كان " هنا تامة، أي: حدثتم أو وجدتم خير امة، ف * (خير أمة) * على هذا حال. كما هو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 400. (3) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 456. (4) انظر الكشاف: ج 1 ص 400. (*)
[ 318 ]
ضرارا مقصورا على * (أذى) * بقول من طعن في الدين أو وعيد أو نحو ذلك * (وإن يقتلوكم يولوكم الادبار) * منهزمين، و * (لا ينصرون) * أي: لايعاونون ولا ينصرهم أحد، وفي هذا دلالة على صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) لوقوع مخبره على وفق الخبر، فإن اليهود لم يثبتوا قط للمسلمين ولم يضروهم بقتل وأسر، وإنما لم يجزم قوله: * (لا ينصرون) * لأنه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، فكأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، وقوله: * (بحبل من الله) * في موضع النصب على الحال على تقدير: إلا معتصمين بحبل الله وحبل الناس، والمعنى: * (ضربت عليهم الذلة) * كما يضرب البيت على أهله * (أين ما) * وجدوا وظفر بهم في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بذمة الله وذمة المسلمين، أي: لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لقبولهم الجزية * (وبآءو بغضب من الله) * استوجبوه * (ذا لك) * إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة واستيجاب غضب الله، أي: ذلك كائن بسبب كفرهم * (بايت الله) * وقتلهم * (الانبياء) * ثم قال: * (ذا لك) * بسبب عصيانهم واعتدائهم. * (ليسوا سوآء من أهل الكتب أمة قائمة يتلون ءايت الله ءانآء اليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسرعون في الخيرا ت وأولئك من الصلحين) * (114) سورة آل عمران / 113 - 117 الضمير في * (ليسوا) * لأهل الكتاب * (سوآء) * أي: مستوين، وقوله: * (من أهل الكتب أمة قائمة) * كلام مستأنف لبيان قوله: * (ليسوا سوآء) *، كما أن قوله: * (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * بيان لقوله: * (كنتم خير أمة) * (1)، (1) الآية: 110. (*)
[ 319 ]
وقوله: * (قائمة) * معناه: مستقيمة عادلة وهم الذين أسلموا منهم، وعبر عن تهجدهم وصلاتهم بالليل بتلاوة آيات الله في ساعات الليل مع السجود لأنه بيان لفعلهم * (ويسرعون في الخيرا ت) * أي: يبادرون إلى فعل الطاعات * (وأولئك من الصلحين) * الذين صلحت أحوالهم عند الله. * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) * (115) لما وصف سبحانه نفسه بالشكر في قوله: * (والله شكور حليم) * (1) بمعنى: توفية الثواب نفى هاهنا نقيض ذلك بقوله: * (فلن يكفروه) * وعداه إلى مفعولين لأنه ضمنه معنى الحرمان، كأنه قال: فلن يحرموه، أي: لن يحرموا جزاءه * (والله عليم بالمتقين) * أي: بأحوالهم فيجازيهم بجزيل الثواب. * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموا لهم ولا أولدهم من الله شيا وأولئك أصحب النار هم فيها خلدون (116) مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) * (117) الصر: الريح الباردة ومثله الصرصر، شبه سبحانه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المآثر وكسب الثناء بين الناس لا يبتغون بذلك وجه الله بالزرع الذي أهلكه البرد فذهب حطاما، وقيل: هو ما أنفقوه في عداوة الرسول فضاع عنهم إذ لم يبلغوا بإنفاقه مقاصدهم (2)، وشبه ب * (حرث قوم ظلموا أنفسهم) * فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأن الإهلاك عن السخط أشد * (وما ظلمهم الله) * بأن لم يقبل نفقاتهم (1) التغابن: 17. (2) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 461. (*)
[ 320 ]
* (ولكن) * ظلموا * (أنفسهم) * حيث لم يأتوا بها على الوجه الذي يستحق به الثواب. * (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفوا ههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الايت إن كنتم تعقلون (118) هأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتب كله وإذا لقوكم قالوا ءامنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) * (119) سورة آل عمران / 119 و 120 بطانة الرجل ووليجته: خاصته وصفيه الذي يستبطن أمره، مأخوذة من بطانة الثوب، ومثله قولهم: فلان شعار فلان، وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " الأنصار شعار والناس دثار " (1)، * (من دونكم) * أي: من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون، ويجوز تعلقه ب * (لا تتخذوا) * أو ب * (بطانة) * على الوصف أي: * (بطانة) * كائنة (2) * (من دونكم لا يألونكم خبالا) * من قولهم: ألا في الأمر يألوا: إذا قصر فيه، ثم استعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم: لاآلوك نصحا، والمعنى: لا أمنعك نصحا، والخبال: الفساد * (ودوا ما عنتم) * أي: ودوا عنتكم، و * (ما) * مصدرية، والعنت: شدة الضرر والمشقة، أي: تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر * (قد بدت البغضاء من أفوا ههم) * لأنهم لا يضبطون أنفسهم وينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين * (قد بينا لكم الايت) * الدالة على وجوب الإخلاص في موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه * (إن كنتم تعقلون) * مابين لكم فعملتم به، والأحسن: أن يكون (1) رواها أحمد في مسنده: ج 4 ص 42 وج 3 ص 246، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 406. (2) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 406. (*)
[ 321 ]
هذه الجمل كلها مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. * (ها) * للتنبيه و * (أنتم) * مبتدأ و * (أولاء) * خبره، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب (1)، وقيل: * (أولاء) * موصول و * (تحبونهم) * صلته، والواو في * (وتؤمنون) * للحال من قوله: * (لايحبونكم) * والحال أنكم تؤمنون بكتابهم وهم مع ذلك لا يحبونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم ! (2) وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ويوصف النادم والمغتاظ بعض الأنامل والبنان * (قل موتوا بغيظكم) * دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم بزيادة مايغيظهم من عز الإسلام وأهله حتى يهلكوا به * (إن الله عليم بذات الصدور) * بمضمرات الصدور، وهو يعلم ما في صدور المنافقين من البغضاء، ويجوز أن يكون قوله تعالى: * (قل موتوا بغيظكم) * أمرا لرسول الله بطيب النفس وقوة الرجاء والإبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ولا يكون هناك قول (3). * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيا إن الله بما يعملون محيط) * (120) أي: إن تصبكم أيها المؤمنون نصرة وغنيمة ونعمة من الله تعالى * (تسؤهم) * تحزنهم * (وإن تصبكم سيئة) * أي: محنة بإصابة العدو منكم * (يفرحوا بها وإن تصبروا) * على عداوتهم * (وتتقوا) * مانهيتم عنه من موالاتهم، أو * (وإن تصبروا) * على ميثاق (4) الدين وتكاليفه * (وتتقوا) * الله في اجتناب محارمه كنتم في كنف (1) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 232. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 463. (3) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 407. (4) في نسخة: مشاق. (*)
[ 322 ]
الله وحفظه ف * (لا يضركم كيدهم شيا) * وقرئ: " لا يضركم " (1) من ضاره يضيره، و * (يضركم) * على أن ضمة الراء لاتباع ضمة الضاد، وقرئ: " لا يضركم " بفتح الراء (2)، علم الله المسلمين أن يستعينوا على كيد العدو بالصبر والتقوى. * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (122) سورة آل عمران / 122 و 123 * (و) * اذكر * (إذ غدوت من أهلك) * بالمدينة إلى أحد، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، وصف أصحابه للقتال وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم: انضحوا عنا بالنبل لايأتونا من ورائنا (3) * (تبوئ المؤمنين) * أي: تنزلهم وتهيئ لهم * (مقعد) * أي: مواطن ومواقف * (للقتال) * وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان، منه قوله تعالى: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (4) وقوله: * (قبل أن تقوم من مقامك) * (5) أي: من مجلسك وموضع حكمك * (إذ همت) * بدل من * (إذ غدوت) * أو تعلق بقوله: * (والله سميع عليم) *، * (طائفتان) * أي: حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان، خرج (1) قرأه الحرميان (نافع المدني وابن كثير المكي) وأبو عمرو ويعقوب وحمزة على رواية. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 215، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 80، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 43. (2) وهي قراءة المفضل عن عاصم. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 408، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 43. (3) روى الزمخشري في كشافه تفصيلاتها وابن إسحاق في مغازيه. راجع الكشاف: ج 1 ص 408 - 409، والمغازي: ص 326. (4) القمر: 55. (5) النمل: 39. (*)
[ 323 ]
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ألف والمشركون في ثلاثة آلاف، ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل (1) عبد الله بن أبي بثلث من الناس، وقال: يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري (2) فقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم، فقال عبد الله: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3). والظاهر أنها كانت همة وحديث نفس، ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية والله تعالى يقول: * (والله وليهما) * أي: ناصرهما ومتولي أمرهما، والفشل: الجبن والخور * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أمرهم سبحانه بأن لا يتوكلوا إلا عليه، ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه. * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة ءالف من الملئكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملئكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) * (126) * (ولقد نصركم الله ببدر) * بما أمدكم به من الملائكة، وبتقوية قلوبكم وإلقاء الرعب (4) في قلوب أعدائكم * (وأنتم) * في حال قلة وذلة، والأذلة: جمع القلة (1) انخزل الشئ: أي انقطع. (الصحاح: مادة خزل). (2) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، أبو الضحاك، من الصحابة، شهد الخندق وما بعدها، استعمله النبي (صلى الله عليه وآله) على نجران، وكتب له عهدا مطولا فيه توجيه وتشريع، توفي بالمدينة سنة 53 ه. (اسد الغابة: ج 4 ص 99، الأعلام للزركلي: ج 5 ص 76). (3) انظر تفصيلاتها في الكامل لابن الأثير: ج 2 ص 150، والكشاف: ج 1 ص 409، ومغازي ابن إسحاق: ص 324 - 325. (4) في بعض النسخ زيادة: والخوف. (*)
[ 324 ]
للذليل والذلال: جمع الكثرة، وإنما جئ بلفظ القلة ليدل على أنهم على ذلتهم سورة آل عمران / 124 - 126 كانوا قليلا، وذلتهم: ضعف حالهم وقلة سلاحهم ومالهم (1)، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرسان: فرس للمقداد بن عمرو (2) وفرس لمرثد بن أبي مرثد (3)، وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: سبعة وسبعون من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وكان صاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمهاجرين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة (4)، وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية أسياف ومن الإبل سبعون بعيرا، وكان عدد المشركين نحوا من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس، وبدر: اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمي به * (فاتقوا الله) * في الثبات مع رسوله * (لعلكم تشكرون) * ما أنعم به عليكم من (1) انظر الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 625 تجد تفصيل ذلك. (2) هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، ويعرف بابن الأسود الكندي البهراني الحضرمي، صحابي جليل، أحد السبعة الذين أظهروا الاسلام، وأحد الأركان الأربعة، ومن أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجلالته أظهر من الشمس. مات سنة 33 ه بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة، وهو ابن 70 سنة، فحمل الى المدينة ودفن بها. (تهذيب التهذيب: ج 1 ص 286، الأعلام للزركلي: ج 7 ص 282، معجم رجال الحديث للخوئي: ج 18 ص 314). (3) هو مرثد بن أبي مرثد كناز الغنوي، صحابي ابن صحابي، من امراء السرايا، شهد بدرا واحدا، ووجهه النبي (صلى الله عليه وآله) أميرا على سرية الى مكة فاستشهد في يوم الرجيع سنة ثلاث أو أربع للهجرة. (اسد الغابة لابن الأثير: ج 4 ص 344، الأعلام للزركلي: ج 7 ص 201). (4) هو سعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة الخزرجي، أبو ثابت، صحابي من أهل المدينة، كان سيد الخزرج وأحد الامراء الأشراف في الجاهلية والاسلام، وكان عقبيا نقيبا سيدا جوادا وجيها، تخلف عن بيعة أبي بكر وخرج من المدينة ولم ينصرف إليها إلى أن قتل بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة عمر، وقيل: في خلافة أبي بكر. (تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 3 ص 476، طبقات ابن سعد: ج 3 ص 142، تنقيح المقال للمامقاني: ج 2 ص 16). (*)
[ 325 ]
نصرته * (إذ تقول) * ظرف ل * (نصركم) * على أن يكون قال لهم ذلك يوم بدر، والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله)، أو بدل ثان من * (إذ غدوت) * (1) على أن يكون قال لهم ذلك يوم أحد مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم تنزل الملائكة، ومعنى: * (ألن يكفيكم) * إنكار أن لا يكفيهم الإمداد * (بثلثة ءالف من الملئكة) *، و * (بلى) * إيجاب لما بعد " لن " يعني: بلى يكفيكم الإمداد بهم، ثم قال: * (إن تصبروا وتتقوا... يمددكم) * بأكثر من ذلك العدد * (مسومين) * للقتال * (ويأتوكم من فورهم هذا) * يعني: المشركين، من قولك: قفل فلان من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، ومنه قولنا في أصول الفقه: الأمر على الفور دون التراخي، وهو مصدر من فارت القدر: إذا غلت، فاستعير للسرعة، والمعنى: إن يأتوكم من ساعتهم هذه * (يمددكم ربكم) * بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد أن الله يعجل نصرتكم إن صبرتم، وقرئ: " منزلين " و " منزلين " مخففا ومشددا (2)، و " مسومين " (3) و " مسومين " بمعنى: معلمين ومعلمين أنفسهم أو خيلهم * (وما جعله الله) * الهاء ل * (أن يمدكم) * أي: وما جعل الله إمدادكم بالملائكة * (إلا) * بشارة * (لكم) * بأنكم تنصرون * (ولتطمئن) * به * (قلوبكم) * كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة (1) آل عمران: 121. (2) قرأه ابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 215، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 383، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 51. (3) وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 216، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 80، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 51. (*)
[ 326 ]
بالنصر وطمأنينة لقلوبهم * (وما النصر) * بإمداد الملائكة * (إلا من عند الله العزيز) * الذي لا يغالب في حكمه * (الحكيم) * الذي يعطي النصر ويمنعه بحسب ما يراه من المصلحة. * (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظلمون (128) ولله مافى السموا ت وما في الارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله غفور رحيم) * (129) سورة آل عمران / 129 - 132 المعنى: ليهلك طائفة * (من الذين كفروا) * بالقتل والأسر، وهو ماكان يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون وأكثرهم رؤساء قريش وصناديدهم * (أو يكبتهم) * أو يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم ويغيظهم بالهزيمة * (فينقلبوا خائبين) * غير ظافرين، ونحوه * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) * (1)، ويقال: كبته، أي (2) كبده يعني: ضرب كبده بالغيظ والحرقة، واللام متعلقة بقوله: * (ولقد نصركم الله) * (3) أو بقوله: * (وما النصر إلا من عند الله) *، وقوله: * (أو يتوب) * عطف على ما قبله، و * (ليس لك من الامر شئ) * اعتراض، والمعنى: أن الله مالك أمرهم: فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا * (أو يعذبهم) * إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شئ وإنما أنت نبي مبعوث لإنذارهم، وقيل: * (أو يتوب) * نصب بإضمار " أن " و " أن يتوب " في حكم اسم معطوف ب " أو " على الأمر أو على " شئ " أي: ليس لك من أمرهم شئ أو من التوبة عليهم (1) الأحزاب: 25. (2) في نسخة: بمعنى. (3) آل عمران: 123. (*)
[ 327 ]
أو من تعذيبهم أو ليس لك من أمرهم شئ أو التوبة عليهم أو تعذيبهم (1)، وقيل: " أو " بمعنى " إلا أن " على معنى ليس لك من أمرهم شئ إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم (2) * (يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء) * إنما أبهم الأمر في التعذيب والمغفرة ليقف المكلف بين الخوف والرجاء فلا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من روح الله ورحمته. * (يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التى أعدت للكفرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * (132) هذا نهي عن أكل * (الربوا) * مع توبيخ لهم بما كانوا عليه من تضعيفه، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل، فربما يستغرق بالشئ اليسير مال المديون * (واتقوا النار التى أعدت) * أي: هيئت واتخذت * (للكفرين) * والوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم أنهم معظم أهل النار، كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه (3). وقد أيد (4) ذلك بما أتبعه من تعليق الرجاء منهم لرحمته بأن يتوفروا على طاعته وطاعة رسوله. * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموا ت والارض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكظمين (1) قاله الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 421. (2) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 234، والزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 468. (3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 414. (4) في نسخة: أمد. (*)
[ 328 ]
الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) * (134) قرأ أهل المدينة والشام: " سارعوا " بغير واو (1)، ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحق به الثواب من فعل الطاعات وأداء الفرائض، و * (عرضها السموا ت والارض) * أي: عرضها كعرض السماوات والأرض، والمراد وصفها بالسعة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلق الله، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة كقوله: * (بطائنها من إستبرق) * (2)، وفي قوله: * (أعدت للمتقين) * دلالة على أن الجنة مخلوقة اليوم لأنها لا تكون معدة إلا وهي مخلوقة * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * صفة للمتقين، ومعناه: أنهم ينفقون في حال الرخاء واليسر وفي حال الضيق والعسر ما قدروا عليه من كثير أو قليل لا يمنعهم حال نعمة ولا حال محنة من المعروف، وكظم الغيظ: أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهره، من كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها، وكظم البعير: إذا لم يجتر، وفي الحديث: " من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا " (3). سورة آل عمران / 135 - 137 * (والذين إذا فعلوا فحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها ونعم أجر العملين) * (136) (1) راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 216، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 384، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 57. (2) الرحمن: 54. (3) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 2 ص 316 وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله). (*)
[ 329 ]
* (والذين) * عطف على " المتقين " وقوله: * (أولئك) * إشارة إلى الفريقين، ويجوز أن يكون * (والذين) * مبتدأ وخبره * (أولئك) * (1)، * (فحشة) * فعلة متزايدة القبح * (أو ظلموا أنفسهم) * بمقارفة الذنوب * (ذكروا الله) * أي: ذكروا نهي الله ووعيده أو عقابه * (ف) * انزجروا عن المعصية و * (استغفروا لذنوبهم) * بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * وصف لذاته بسعة الرحمة، وهي جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، منبهة على لطيف فضله وجليل عفوه وكرمه، باعثة على التوبة وطلب المغفرة * (ولم يصروا على ما فعلوا) * أي: على أفعالهم القبيحة، وفي الحديث: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة " (2) * (وهم يعلمون) * حال من فعل الإصرار، والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بالنهي عنها والوعيد عليها، وفي هذا بيان أن المؤمنين ثلاث طبقات: متقون وتائبون ومصرون، وأن للمتقين والتائبين منهم الجنة والمغفرة * (ونعم أجر العملين) * المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي: المغفرة والجنات (3). * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) * (139) أي: * (قد) * مضت * (من قبلكم سنن) * يريد ماسنه الله تعالى في الأمم الخالية (1) انظر تفصيل ذلك في التبيان: ج 2 ص 594 - 595، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 631. (2) رواه الطبري في تفسيره: ج 3 ص 442، وابن حجر في فتح الباري: ج 11 ص 99. (3) في نسخة: الجنان. (*)
[ 330 ]
المكذبة رسلها من الاستئصال بالعذاب وتبقية الآثار في الديار للاتعاظ والانزجار والاعتبار * (فسيروا في الارض) * فتعرفوا أخبار المكذبين، وانظروا إلى ما نزل بهم لتنتهوا عن مثل ما فعلوه * (هذا بيان للناس) * أي: إيضاح لسوء * (عقبة) * من كذب، وحث على النظر في آثار هلاكهم * (وهدى) * زيادة تثبيت * (وموعظة للمتقين) * للذين اتقوا من المؤمنين، وقوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد، والمعنى: ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم ولا تبالوا بذلك ولا تحزنوا على من قتل منكم (1) * (وأنتم الاعلون) * أي: وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، أو يكون هذا بشارة لهم بالعلو والغلبة في العاقبة كقوله: * (وإن جندنا لهم الغلبون) * (2)، * (إن كنتم مؤمنين) * أي: ولا تهنوا إن صح إيمانكم، لأن صحة الإيمان توجب الثقة بالله وقلة المبالاة بأعداء الله، ويجوز أن يريد: * (وأنتم الاعلون إن كنتم) * مصدقين بما يعدكم الله به من الغلبة. سورة آل عمران / 140 * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظلمين (140) وليمحص الله الذين ءامنوا ويمحق الكفرين) * (141) قرئ: * (قرح) * بفتح القاف وضمها (3) وهما لغتان، وقيل: بالفتح: الجراحة (1) في نسخة زيادة: يوم احد. (2) الصافات: 173. (3) قرأه أبو بكر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 261، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 359، والتيسير في القراءات للداني: ص 91، وفي التبيان: ج 2 ص 600، والعنوان في القراءات السبع لابن خلف: ص 81 هي قراءة الكوفيين سوى حفص. (*)
[ 331 ]
وبالضم: ألمها (1)، يعني: إن تصبكم جراحة وألم يوم أحد فلقد أصاب القوم ذلك يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم (2) بالقتال، وقيل: معناه: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم في هذا اليوم قبل أن تخالفوا أمر رسول الله (3) * (وتلك الايام) * " تلك " مبتدأ و " الأيام " صفته و * (نداولها) * خبره، ويجوز أن يكون * (تلك الايام) * مبتدأ وخبرا، والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة * (نداولها) * أي: نصرفها * (بين الناس) * نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كما قيل في المثل: الحرب سجال (4)، * (وليعلم الله الذين ءامنوا) * يجوز أن يكون المعلل محذوفا، والمعنى: وليتميز (5) الثابتون منكم على الإيمان من غيرهم فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل (6)، أي: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم ومن غير الثابت وإلا فإنه سبحانه لم يزل عالما بما يكون قبل كونه، وقيل: معناه: وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات (7)، ويجوز أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه بمعنى: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله، وإنما حذف ليؤذن بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة * (ويتخذ منكم شهداء) * أي: وليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد بذلك شهداء أحد، أو ويتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله: (1) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 234، وعنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 355. (2) في نسخة: معاونتكم. (3) وهو قول الزهري وقتادة وابن أبي نجيح. راجع التبيان: ج 2 ص 600. (4) المساجلة: أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري أو سقي، وأصله من السجل وهو الدلو فيها الماء قل أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة، يعني: فكما ان الدلو المملوء ماء يوم بيدك ويوم بيدي فكذلك الحرب والانتصار. انظر مجمع الامثال للميداني: ج 1 ص 223. (5) في نسخة: ليميز. (6) انظر الكشاف: ج 1 ص 419. (7) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 419 - 420. (*)
[ 332 ]
* (لتكونوا شهداء على الناس) * (1)، * (والله لا يحب الظلمين) * اعتراض بين بعض التعليل وبعض، أي: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيل الله الممحصين من الذنوب، والتمحيص: التطهير * (ويمحق الكفرين) * أي: يهلكهم، يعني: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والتمحيص وغير ذلك مما هو صلاح لهم، وإن كانت الدولة على الكافرين فلمحقهم أي: إهلاكهم ومحو آثارهم. * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * (143) سورة آل عمران / 143 و 144 * (أم) * منقطعة، والتقدير: بل " أحسبتم " ومعنى الهمزة فيها الإنكار (2) * (ولما يعلم الله) * بمعنى: ولما يجاهدوا، لأن العلم يتعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه ينتفي بانتفائه، تقول: ما علم الله في فلان خيرا، تريد ما فيه خير حتى يعلمه الله، و * (لما) * بمعنى: " لم " إلا أن فيه ضربا من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل * (ويعلم الصبرين) * منصوب بإضمار " أن " والواو بمعنى الجمع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، والمعنى: أظننتم أنكم تدخلون الجنة ولما يقع العلم بجهاد المجاهدين منكم والعلم بصبر الصابرين (3) * (ولقد كنتم تمنون الموت) * خطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون أن يشهدوا غزاة مع رسول الله ليفوزوا بالشهادة، وهم الذين ألحوا على (1) البقرة: 143. (2) وعن ورود الهمزة لمعنى الإنكار وأقسامه راجع مغني اللبيب: ج 1 ص 17 - 18. (3) وهو قول أبي إسحاق. راجع الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 635. (
[ 333 ]
رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه (صلى الله عليه وآله) في الإقامة بالمدينة، أي: * (ولقد كنتم تمنون الموت) * قبل أن تعرفوا شدته وتشاهدوه * (فقد رأيتموه) * مشاهدين له حين قتل منكم من قتل وشارفتم أن تقتلوا، ويجوز تمني الشهادة، لأن المراد منه نيل كرامة الشهداء لاغير. * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيا وسيجزى الله الشكرين) * (144) رمى عبد الله بن قمئة الحارثي عليه اللعنة يوم أحد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير (1) وهو صاحب الراية، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: قد قتلت محمدا، وفشا في القوم (2): أن محمدا قد قتل فانهزموا، وجعل رسول الله يقول: إلي عباد الله، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على الفرار، فقالوا: يارسول الله أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فنزلت الآية (3). وروي أنه قال بعضهم: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك (4): إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي (1) هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف القرشي من بني عبدالدار، صحابي شجاع، من السابقين في الإسلام، أسلم في مكة وكتم إسلامه، فعلم به أهله فأوثقوه وحبسوه وآذوه، فهرب مع من هاجر الى الحبشة، ثم عاد الى مكة وهاجر الى المدينة، وشهد بدرا، وحمل اللواء يوم احد وفيها استشهد. (طبقات ابن سعد: ج 3 ص 82، حلية الأولياء: ج 1 ص 106، الأعلام الأعلام للزركلي: ج 7 ص 248). (2) في نسخة زيادة: وصاح صارخ. (3) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 422، ونحوه في أسباب النزول للواحدي: ص 106 عن عطية العوفي. (4) هو أنس بن مالك بن النضر النجاري الخزرجي، خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أصحابه، وهو = (*)
[ 334 ]
لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المنافقين - ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل (1). والمعنى: * (وما محمد إلا رسول قد) * مضت * (من قبله الرسل) * بعثوا فأدوا الرسالة وماتوا وقتل بعضهم، وأنه سيمضي كما مضوا، وأتباع كل رسول بقوا متمسكين بدينه بعد مضيه * (أفإين مات) * محمد * (أو قتل انقلبتم على أعقبكم) * المعنى: أفإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ؟ فالفاء لتعليق الجملة الشرطية بالجملة قبلها، والهمزة للإنكار * (ومن ينقلب على عقبيه) * أي: ومن يرتدد عن دينه * (فلن يضر الله شيا) * ولم يضر إلا نفسه * (وسيجزى الله الشكرين) * الذين لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتبا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها وسنجزي الشكرين) * (145) سورة آل عمران / 145 و 146 * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * يعني: أن موت النفوس محال أن = من المتخلفين عن غزوة بدر، لكنه شهد احدا والخندق، وبعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) رحل إلى الشام ومنها الى البصرة. روى زر بن حبيش أنه ممن كتم شهادته بحديث الغدير في علي (عليه السلام) فدعا عليه فابتلي بالبرص. مات في قصره بالطف على بعد فرسخين من البصرة عام 93 ه، وهو آخر من مات من الصحابة. (معجم رجال الحديث للخوئي: ج 3 ص 239، طبقات ابن سعد: ج 7 ص 17، تهذيب ابن عساكر: ج 3 ص 139). (1) رواها البغوي في تفسيره: ج 2 ص 357 - 358، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 423. (*)
[ 335 ]
يكون إلا بمشية الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن (1) الله له فيه تمثيلا، وفيه تحريص على الجهاد، وإخبار بأنه لا يقدم أجلا لم يحضر وتركه لا يؤخر أجلا قد حضر * (كتبا) * مصدر مؤكد، لأن المعنى: كتب الموت كتابا * (مؤجلا) * أي: موقتا له أجل معلوم لايتقدم ولا يتأخر * (ومن يرد) * بجهاده * (ثواب الدنيا) * يعني: الغنيمة * (نؤته منها) * من ثوابها * (ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها) * من ثوابها * (وسنجزي الشكرين) * الذين لم يشغلهم شئ عن الجهاد. * (وكأين من نبى قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصبرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكفرين (147) فاتبهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة والله يحب المحسنين) * (148) قرئ: " قتل " (2) و * (قتل) * والفاعل * (ربيون) * أو الضمير المستكن فيه العائد إلى * (نبى) *، و * (معه ربيون) * حال منه (3)، بمعنى: قتل كائنا معه ربيون، والربيون: الربانيون * (فما وهنوا) * عند قتل النبي * (وما ضعفوا) * عن الجهاد بعده * (وما استكانوا) * للعدو، وهذا تعريض بالوهن الذي أصابهم عند الإرجاف بقتل رسول الله وبضعفهم (4) عن (5) ذلك واستكانتهم للمشركين حين أرادوا أن (1) في بعض النسخ: إلا بإذن. (2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو. أنظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 217، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 387، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 81، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 72. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 639. (4) في بعض النسخ: أضعفهم. (5) في نسخة: عند. (*)
[ 336 ]
يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان * (وما كان قولهم إلا) * هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين كسرا لنفوسهم واستصغارا (1) لها، والدعاء بالاستغفار منها قبل طلبهم تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو ليكون طلبهم أقرب إلى الإجابة * (فاتبهم الله ثواب الدنيا) * من النصرة والغنيمة والعزة، وخص * (ثواب الاخرة) * بالحسن دلالة على فضيلته. * (يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقبكم فتنقلبوا خسرين (149) بل الله مولبكم وهو خير النصرين) * (150) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2) قال: " نزلت في قول المنافقين للمسلمين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم " (3)، والمعنى: * (إن تطيعوا) * الكافرين وأصغيتم إلى قولهم: لو كان محمد نبيا لما غلب، أو استأمنتم أبا سفيان وأصحابه واستكنتم لهم * (يردوكم على أعقبكم) * أي: يرجعوكم كفارا كما كنتم فترجعوا * (خسرين) * قد تبدلتم الكفر بالإيمان والنار بالجنة * (بل الله مولبكم) * أي: ناصركم وهو أولى بأن تطيعوه، ولا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته. سورة آل عمران / 151 و 152 * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا ومأوبهم النار وبئس مثوى الظلمين (151) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنزعتم في الامر وعصيتم من بعد مآأريكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد (1) في بعض النسخ: استقصارا. (2) في نسخة زيادة: أنه. (3) حكاه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 425، والقرطبي في تفسيره: ج 4 ص 232. (*)
[ 337 ]
الاخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) * (152) قذف الله * (في قلوب) * المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة بعد أن كان لهم القوة والغلبة، ولما كانوا ببعض الطريق تلاوموا وقالوا: (1) لا محمدا قتلنا ولا الكواعب أردفنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم * (الرعب) * فأمسكوا * (بمآ أشركوا) * أي: بسبب إشراكهم، والمعنى: كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم * (بالله) * آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة، وما عنى الله سبحانه أن هناك حجة لم ينزل عليهم وإنما أراد نفي الحجة ونزولها جميعا، كقول الشاعر: ولا ترى الضب بها ينجحر (2) * (ولقد صدقكم الله وعده) * هو أنه سبحانه وعدهم النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله: * (إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم) * (3)، وقد وفى لهم بما وعدهم، وذلك أن رسول الله أقام الرماة عند الجبل جبل أحد حين جعل الجبل خلف ظهره واستقبل المدينة، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولايبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم وغيرهم يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، وذلك قوله تعالى: * (إذ تحسونهم (1) في نسخة زيادة: بئسما فعلنا. (2) وصدره: لا تفزع الأرنب أهوالها. وقائله: عمرو بن أحمر الباهلي في وصف فلاة، فإنه لم يرد أن بها أرانب لاتفزعها أهوالها، ولا ضبابا غير منجحرة، ولكنه نفى أن يكون بها حيوان، إذ بكثرة الأهوال فيها لا يمكن أن يسكنها حيوان. راجع ديوان ابن أحمر: ص 67، الخصائص: ج 3 ص 165 و 321، وأمالي ابن الشجري: ج 1 ص 192، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 10 ص 192 - 193 وج 11 ص 313. (3) الآية: 125. (*)
[ 338 ]
بإذنه) * أي: تقتلونهم قتلا ذريعا * (حتى إذا فشلتم) * والفشل: الجبن وضعف الرأي * (وتنزعتم في الامر) * وذلك قولهم: قد انهزم المشركون فما وقوفنا هنا ؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول الله، فثبت مكانه عبد الله بن جبير وهو أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: * (ومنكم من يريد الاخرة) * ونفر الباقون ينهبون وهم الذين أرادوا الدنيا، فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله بن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا (1)، وهو قوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * أي: ليمتحن صبركم وثباتكم على الشدائد * (ولقد عفا عنكم) * بعد أن خالفتم أمر رسول الله * (والله ذو فضل على المؤمنين) * يتفضل عليهم بالعفو، ومتعلق قوله: * (حتى إذا فشلتم) * محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره. * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخريكم فأثبكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصبكم والله خبير بما تعملون (153) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم مالايبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله مافى صدوركم وليمحص مافى قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * (154) سورة آل عمران / 153 و 154 الإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد فيه، تقول: صعد في الجبل وأصعد في (1) انظر الكامل في التاريخ: ج 2 ص 153 - 154، والكشاف: ج 1 ص 427. (*)
[ 339 ]
الأرض، والمعنى: ولقد عفا عنكم وقت إصعادكم أي: ذهابكم في وادي أحد للانهزام * (ولا تلوون على أحد) * أي: لا تلتفتون إلى من خلفتم (1) في الحرب، لا يقف أحد منكم على أحد * (والرسول يدعوكم) * يقول: إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة * (في أخريكم) * أي: في ساقتكم وجماعتكم الأخرى أي: المتأخرة، تقول: جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول: في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى * (فأثبكم) * عطف على * (صرفكم) * أي: فجازاكم الله * (غما) * حين صرفكم عنه وابتلاكم * (ب) * سبب * (غم) * أذقتموه رسول الله بعصيانكم إياه، أو * (غما) * متصلا * (بغم) * بما أرجف به من قتل رسول الله وبالجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) * من الغنيمة * (ولا) * تحزنوا أيضا على * (مآأصبكم) * من الشدائد في سبيل الله * (والله خبير) * أي: عليم بأعمالكم. ثم ذكر سبحانه ما أنعم عليهم بعد ذلك فقال: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) * هم أهل الصدق واليقين، وذلك أنه تعالى أنزل الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم، وروي عن أبي طلحة أنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وماأحد إلا ويميل تحت حجفته (2) (3)، وقوله تعالى: * (نعاسا) * بدل من * (أمنة) *، ويجوز أن يكون هو المفعول و * (أمنة) * حال منه مقدمة عليه كما تقول: رأيت راكبا رجلا (4)، وقرئ: (1) في نسخة: خلفكم. (2) الحجفة: هو الترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. (الصحاح: مادة حجف). (3) رواها عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 363، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 428. (4) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 428. (*)
[ 340 ]
* (يغشى) * بالياء والتاء (1) ردا على النعاس أو الأمنة * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) * وهم المنافقون مالهم إلا هم أنفسهم لاهم الدين ولاهم الرسول والمسلمين * (يظنون بالله غير) * الظن * (الحق) * الذي يجب أن يظن به، فقوله: * (غير الحق) * في حكم المصدر و * (ظن الجهلية) * بدل منه، ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية، و * (غير الحق) * تأكيد ل * (يظنون) * كما تقول: هذا القول غير ما تقول * (يقولون) * لرسول الله يسألونه * (هل لنا من الامر من سورة آل عمران / 155 شئ) * معناه: هل لنا من أمر الله نصيب قط ؟ يعنون: النصر والظفر * (قل إن الامر كله لله) * ولأوليائه المؤمنين وهو النصرة والغلبة * (يخفون في أنفسهم مالايبدون لك) * معناه: يخفون الشك والنفاق وما لا يستطيعون إظهاره لك * (يقولون لو كان لنا من الامر) * أي: من الظفر الذي وعدنا به * (شئ ما قتلنا) * أي: ما قتل أصحابنا * (ههنا) * في هذه المعركة * (قل لو كنتم في بيوتكم) * أي: من علم الله منه أنه يقتل ويصرع في هذا المصرع وكتب ذلك في اللوح (2) لم يكن بد من وجوده، فلو قعدتم في بيوتكم * (لبرز) * من بينكم * (الذين) * علم الله أنهم يقتلون * (إلى مضاجعهم) * وهي مصارعهم ليكون ما علم الله أنه يكون * (وليبتلى الله مافى صدوركم وليمحص مافى قلوبكم) * من وساوس الشيطان فعل ذلك، أو فعل ذلك لمصالح كثيرة وللابتلاء والتمحيص، واللام في * (ليبتلى الله) * متعلقة ب " فعل ذلك " دل عليه الكلام تقديره: وليبتلي الله ما في صدوركم فرض عليكم القتال * (وليمحص) * عطف على * (وليبتلى الله) *. (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 217، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 364، وكتاب الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 360، والتبيان: ج 3 ص 22، والتيسير في القراءات للداني: ص 91، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 86. (2) في بعض النسخ زيادة: المحفوظ. (*)
[ 341 ]
* (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطن ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155) يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوا نهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذا لك حسرة في قلوبهم والله يحى ى ويميت والله بما تعملون بصير) * (156) * (استزلهم الشيطن) * أي: طلب زلتهم ودعاهم إلى الزلل * (ببعض ما كسبوا) * من ذنوبهم، والمعنى: * (إن الذين) * انهزموا * (يوم) * أحد كان السبب في انهزامهم أنهم كانوا أطاعوا * (الشيطن) * فاقترفوا ذنوبا فلذلك منعتهم التأييد والتوفيق في تقوية القلوب حتى تولوا، وقال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة (1)، وقوله: * (ببعض ما كسبوا) * مثل قوله: * (ويعفوا عن كثير) * (2). وذكر البلخي: أنه لم يبق يوم أحد مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلا ثلاثة عشر نفسا: خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقد اختلف في الخمسة إلا في علي (عليه السلام) وطلحة (3) (4). قال الصادق (عليه السلام): " نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب وهو يقول: ألا لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " (5). (1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 364. (2) المائدة: 15، والشورى: 30. (3) هو طلحة بن عبيدالله بن عثمان التيمي القرشي، صحابي ومن المسلمين الأوائل، شهد احدا وثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهد الخندق، وكان أحد الستة من أصحاب الشورى، وكان ممن نكث البيعة وخرج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الجمل وقتل فيه وهو بجانب عائشة سنة 36 ه ودفن بالبصرة. (طبقات ابن سعد: ج 3 ص 152، تهذيب التهذيب: ج 5 ص 20، الأعلام للزركلي: ج 3 ص 229). (4) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 25. (5) معاني الأخبار: ص 119، الارشاد للمفيد: ص 40، المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 = (*)
[ 342 ]
ويروى: أن عليا (عليه السلام) كان يقاتلهم ذلك اليوم حتى أصابه في وجهه ورأسه ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة، فقال جبرئيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما يمنعه من هذا فإنه مني وأنا منه، قال جبرئيل: وأنا منكما (1). * (وقالوا لاخوا نهم) * أي: لأجل إخوانهم * (إذا ضربوا في الارض) * أي: سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها * (أو كانوا غزى) * جمع غاز، وقوله: * (إذا ضربوا) * حكاية حال ماضية، ومعناه: حين يضربون في الأرض، وقوله: * (ليجعل) * يتعلق ب * (قالوا) * أي: قالوا * (ذا لك) * واعتقدوه ليكون * (حسرة في قلوبهم) *، وتكون اللام للعاقبة كما في قوله: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) * (2)، ويجوز أن يكون المعنى: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله * (حسرة في قلوبهم) * خاصة ويصون منها قلوبكم، وإنما أسند الفعل إلى الله تعالى لأنه سبحانه عند ذلك الاعتقاد الفاسد يضع الحسرة في قلوبهم ويضيق صدورهم، وهو كقوله: * (يجعل صدره ضيقا حرجا) * (3)، * (والله يحى ى ويميت) * رد لقولهم، أي: الأمر بيده فقد يحيي المسافر والغازي ويميت القاعد والمقيم * (والله بما تعملون بصير) * فلا تكونوا مثلهم. سورة آل عمران / 157 - 159 * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون (158) فبما رحمة = ص 296، كفاية الطالب للكنجي: ص 277، مناقب الخوارزمي: ص 103، مناقب ابن المغازلي: ص 198 - 199. (1) تفسير القمي: ج 1 ص 116 وفيه: " تسعون " بدل " سبعون ". (2) القصص: 8. (3) الأنعام: 125. (*)
[ 343 ]
من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (160) قوله: * (لمغفرة) * جواب لقسم وقد سد مسد جواب الشرط (1)، وكذا قوله: * (لالى الله تحشرون) * كذب سبحانه فيما قبل الكفار في زعمهم أن من ضرب في الأرض أو غزا لو كان عندهم في المصر لم يمت، ونهى المسلمين عن ذلك الاعتقاد لأنه سبب التخلف عن الجهاد، ثم قال: ولو كان الأمر كما تزعمون وتم عليكم ماتخافون من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله، فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعونه من منافع الدنيا لو لم تموتوا، أو مما يجمعه الكفار فيمن قرأ بالياء، ثم قال: * (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله) * الرحيم * (تحشرون) * وقرئ: * (متم) * بضم الميم وكسرها (2) من مات يموت، ومات يمات * (فبما رحمة من الله) *: " ما " مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ماكان إلا برحمة من الله * (ولو كنت فظا) * أي: جافيا سيئ الخلق غليظ القلب قاسيه * (لانفضوا من حولك) * لتفرقوا عنك، لا يبقى حولك أحد منهم * (فاعف عنهم) * ما بينك وبينهم * (واستغفر لهم) * ما بينهم وبيني إتماما للشفقة عليهم * (وشاورهم في الامر) * يعني: في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتطيب نفوسهم أو لتستظهر برأيهم، قال الحسن: أراد أن يستن به من بعده (1) وهو قول الأخفش في معاني القرآن: ج 1 ص 426، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 431. (2) قرأه نافع وحمزة والكسائي. راجع التذكرة لابن غلبون: ج 2 ص 364، والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 394، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 81. (*)
[ 344 ]
وقد علم الله أنه لم يكن يحتاج إليهم (1). وفي الحديث: " ماتشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " (2). * (فإذا عزمت) * أي: فإذا قطعت الرأي على شئ بعد الشورى * (فتوكل على الله) * في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح فإن ذلك لا يعلمه إلا الله. وروي عن جعفر الصادق (عليه السلام): " فإذا عزمت - بالضم - بمعنى: فإذا عزمت لك على شئ وأرشدتك إليه فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا " (3). * (إن ينصركم الله) * كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم * (وإن يخذلكم) * ويمنعكم معونته، ويخل بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إياه * (فمن ذا الذى ينصركم من بعده) * أي: من بعد خذلانه (4) * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * هذا تنبيه على وجوب التوكل على الله سبحانه. * (وما كان لنبى أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن اتبع رضوا ن الله كمن بآء بسخط من الله ومأوبه جهنم وبئس المصير (162) هم درجت عند الله والله بصير بما يعملون) * (163) سورة آل عمران / 161 - 164 غل شيئا من المغنم غلولا وأغل: إذا أخذه في خفية، وفي الحديث: " لا إغلال ولا إسلال " (5)، ويقال: أغله أي: وجده غلا (6)، * (و) * المعنى: * (ما) * صح * (لنبى (1) راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 246، وحكاه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 433 عن الضحاك وسفيان. (2) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 432. (3) حكاه عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 4 ص 252. (4) في نسخة: خذلانكم. (5) أخرجه الطبراني باسناده كما في الدر المنثور: ج 2 ص 364، ورواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 433 مرفوعا. (6) في نسخة: غالا (*)
[ 345 ]
أن يغل) * فإن النبوة تنافي الغلول، ومن قرأ: " يغل " (1) فالمعنى: ماصح لنبي أن يوجد غالا، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة) * أي: يأت بالشئ الذي غله بعينه يحمله كما جاء في الحديث: " جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " (2)، ويجوز أن يراد: يأت بما يحتمل من إثمه وتبعته * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) * جئ بالعام ليدخل تحته كل كاسب من غال وغيره * (وهم لا يظلمون) * أي: يعدل بينهم في الجزاء فكل جزاؤه على قدر كسبه، ثم بين سبحانه أن من اتبع رضاء الله في ترك الغلول ليس * (كمن بآء بسخط من الله) * في فعل الغلول، ثم قال: * (هم درجت عند الله) * أي: ذوو درجات عند الله، والمراد: تفاوت مراتب أهل الثواب ومراتب أهل العقاب، أو تفاوت مابين الثواب و العقاب * (والله بصير بما يعملون) * أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها. * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلل مبين (164) أولمآ أصبتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير) * (165) أي: * (من الله على) * من آمن مع رسول الله من قومه، وخص * (المؤمنين) * منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه * (إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * أي: من (1) وهي قراءة ابن مسعود ونافع وحمزة والكسائي وابن عامر. انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 218، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 265، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 101. (2) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن سعيد بن جبير كما في الدر المنثور: ج 2 ص 365، ورواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 434 مرفوعا. (*)
[ 346 ]
جنسهم عربيا مثلهم، وقيل: من ولد إسماعيل كما أنهم كانوا من ولده (1)، ووجه المنة عليهم في ذلك أنه إذا كان منهم كان اللسان واحدا فيسهل عليهم أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم كقوله: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (2)، وروي: أن قراءة فاطمة (عليها السلام) " من أنفسهم " (3) ومعناه: من أشرفهم * (يتلوا عليهم ءايته) * بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يسمعوا شيئا من الوحي * (ويزكيهم) * أي: ويطهرهم من الدنس وأوضار (4) الكفر * (ويعلمهم) * القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم * (وإن كانوا من قبل) * بعثة الرسول * (لفى ضلل مبين) *، * (إن) * هي المخففة من المثقلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وتقديره: وإن الشأن، والحديث كانوا من قبل لفي ضلال سورة آل عمران / 165 - 167 مبين أي: ظاهر، و * (لما) * نصب ب * (قلتم) *، و * (أصبتكم) * في محل الجر بإضافة * (لما) * إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم مصيبة يوم أحد من قتل سبعين منكم * (قد أصبتم مثليها) * يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين: * (أنى هذا) * أي: من أين أصابنا هذا وفينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن مسلمون وهم مشركون ؟ ! و * (أنى هذا) * في موضع نصب لأنه مقول (5)، والهمزة للتقرير والتقريع (6) * (قل هو من عند أنفسكم) * أي: أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 435. (2) الزخرف: 44. (3) حكاها عنها (عليها السلام) وعن أبيها (صلى الله عليه وآله) ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 30، وفي البحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 104: هي قراءة فاطمة وعائشة والضحاك وأبي الجوزاء. (4) الوضر: الدرن والدسم. (الصحاح: مادة وضر). (5) في نسخة: منقول. (6) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 436، وحول أقسام الهمزة ومعانيها راجع مغني اللبيب: ج 1 ص 17 - 18. (*)
[ 347 ]
لتخليتكم المركز، وعن علي (عليه السلام): " لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم " (1) * (إن الله على كل شئ قدير) * فهو قادر على أن ينصركم فيما بعده. * (ومآأصبكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعنكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمن يقولون بأفوا ههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) * (167) أي: * (ومآأصبكم) * يوم أحد * (يوم التقى الجمعان) * جمعكم وجمع المشركين * (ف) * - هو كائن * (بإذن الله) * أي: بتخليته * (وليعلم المؤمنين) * أي: وليتميز المؤمنون والمنافقون ويظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء، وإنما استعار لفظ الإذن لتخلية الكفار وأنه لم يمنعهم ليبتليهم، لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده * (وقيل لهم) * عطف على * (نافقوا) *، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه انخزلوا يوم أحد وقالوا: علام نقتل أنفسنا، وكانوا ثلاثمائة، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري: * (تعالوا قتلوا... أو ادفعوا) * عن حريمكم إن لم تقاتلوا * (في سبيل الله) *، * (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعنكم) * فقال لهم: أبعدكم الله والله يغني عنكم، وقوله: * (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمن) * أي: تباعدوا بهذا الفعل والقول عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر، وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين تقوية للمشركين (2) * (يقولون بأفوا ههم) * من كلمة الإيمان وما يقرب إلى الرسول * (ما ليس في قلوبهم) * فإن في قلوبهم الكفر، والمعنى: أن (1) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 437، والبيضاوي في تفسيره: ج 1 ص 191. (2) قاله البيضاوي في تفسيره: ج 1 ص 191. (*)
[ 348 ]
الإيمان موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم * (والله أعلم بما يكتمون) * من النفاق. * (الذين قالوا لاخوا نهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صدقين) * (168) محل * (الذين) * يجوز أن يكون نصبا على الذم أو على البدل من * (الذين نافقوا) *، ورفعا على " هم الذين قالوا "، وجرا بدلا من الضمير في * (بأفوا ههم) * (1)، * (لاخوا نهم) * أي: لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب * (وقعدوا) * أي: وقد قعدوا، وهي جملة في موضع الحال * (لو أطاعونا) * إخواننا فيما أمرناهم به من القعود * (ما قتلوا) * كما لم نقتل * (قل فادرءوا عن أنفسكم الموت) * أي: فادفعوا عن أنفسكم الموت * (إن كنتم صدقين) * في هذه المقالة، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه. وروي: أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا (2). سورة آل عمران / 169 - 171 * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموا تا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بمآ ءاتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * (171) الخطاب لرسول الله أو لكل أحد، وقرئ: " تحسبن " بفتح السين و " قتلوا " بالتشديد (3) * (في سبيل الله) * أي: في الجهاد ونصرة دين الله * (بل أحياء) * أي: بل (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 438، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 658. (2) رواه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 314، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 438. (3) قرأه الحسن وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 219، = (*)
[ 349 ]
هم أحياء * (يرزقون) * مثل مايرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون * (فرحين بمآ ءاتيهم الله من فضله) * وهو التوفيق في الشهادة وماساقه إليهم من الكرامة ومواد السعادة * (ويستبشرون ب) * إخوانهم المجاهدين * (الذين لم يلحقوا بهم) * أي: لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم * (من خلفهم) * يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم، وقيل: لم يلحقوا بهم، أي: لم يدركوا فضلهم ومراتبهم ومنزلتهم (1) * (ألا خوف عليهم) * بدل من * (الذين) *، والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به، وكرر * (يستبشرون) * ليتعلق به ما هو بيان لقوله: * (ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون) * من ذكر نعمة الله وفضله، وقرئ: * (وأن الله) * بالفتح عطفا على النعمة والفضل، وبالكسر على الابتداء وعلى أن الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي (2)، ففيه دلالة على أن الثواب مستحق وأن الله لا يبطله، ولذلك أضاف نفي الإضاعة إلى نفسه. * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمنا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا = والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 397، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 365، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 113. (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 1 ص 489. (2) حكاها عنه ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات: ص 219، والقيسي في الكشف عن وجوه القراءات السبع: ج 1 ص 364، وابن غلبون في التذكرة: ج 2 ص 365، والداني في التيسير: ص 91، وابن خلف الاندلسي في العنوان: ص 81، وأبو حيان في البحر المحيط: ج 3 ص 116. (*)
[ 350 ]
رضوا ن الله والله ذو فضل عظيم (174) إنما ذا لكم الشيطن يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) * (175) * (الذين استجابوا) * مبتدأ وخبره * (للذين أحسنوا) * أو جر صفة للمؤمنين أو نصب على المدح (1) (2). لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد فبلغوا الروحاء (3) ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج وقال: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج مع جماعة حتى بلغ حمراء الأسد (4) وهي على ثمانية أميال من المدينة، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت (5). وأما قوله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * فحديثه: أن أبا سفيان لما انصرف من أحد نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال (صلى الله عليه وآله): إن شاء الله، فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل سورة آل عمران / 173 و 174 مر (6) الظهران (7) فألقى الله سبحانه الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن (1) في نسخة: الحال. (2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 489 وقال: والأحسن أن يكون في موضع رفع بالابتداء. (3) الروحاء: هو موضع على نحو أربعين ميلا من المدينة، وقيل: ستة وثلاثين، وهو الموضع الذي نزل به تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح فسماها الروحاء. (مراصد الاطلاع: ج 2 ص 637). (4) وهي موضع على ثمانية أميال من المدينة، إليها انتهى النبي (صلى الله عليه وآله) يوم احد في طلب المشركين. (معجم البلدان: ج 2 ص 332). (5) رواها الشيخ في التبيان: ج 3 ص 50 عن ابن عباس والسدي وابن إسحاق وابن جريج وقتادة، وحكاها الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 440. (6) في نسخة: من. (7) الظهران: واد قرب مكة، وعنده قرية يقال لها: مر، تضاف إلى هذا الوادي فيقال: مر الظهران. (معجم البلدان: ج 3 ص 581). (*)
[ 351 ]
مسعود الأشجعي (1) وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وأن هذا عام جدب وقد بدا لي، فالحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ماهذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد، أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم فوالله لا يفلت منكم أحد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد " فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * حتى وافوا بدرا وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فرجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق (2) (3)، و * (الناس) * الأول: نعيم بن مسعود لأنه من جنس الناس، ولأنه ربما لم يخل من ناس وصلوا جناح كلامه، و * (الناس) * الثاني: أبو سفيان وأصحابه، والضمير المستكن في * (فزادهم) * يرجع إلى المقول الذي هو: * (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) * أو إلى مصدر " قالوا " أو إلى نعيم، ومعنى * (حسبنا الله) *: محسبنا الله، أي: كافينا، يقال: أحسبه الشئ إذا كفاه * (ونعم الوكيل) * أي: نعم (4) الموكول إليه هو * (فانقلبوا) * أي: فرجعوا من بدر * (بنعمة من الله) * وهو (1) نعيم بن مسعود بن عامر بن أشجع، يكنى: أبا سلمة الأشجعي، صحابي مشهور، كان قد قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرا أيام الخندق واجتماع الأحزاب، فأسلم وكتم إسلامه، وعاد إلى الأحزاب المجتمعة لقتال المسلمين، فألقى الفتنة بين قبائل قريظة وغطفان وقريش، قتل يوم الجمل في أول خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل قدومه البصرة، وقيل: مات في خلافة عثمان. (الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 568، اسد الغابة لابن الأثير: ج 5 ص 33، الأعلام للزركلي: ج 8 ص 41). (2) في نسخة: السويد. (3) حكاها الشيخ في التبيان: ج 3 ص 53 وقال: وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام)، ورواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 441. (4) في بعض النسخ زيادة: الرب. (*)
[ 352 ]
السلامة * (وفضل) * وهو الربح في التجارة * (إنما ذا لكم) * المثبط هو * (الشيطن يخوف أولياءه) * بيان لشيطنته، أي: يخوفكم بأوليائه الذين هم أبو سفيان وأصحابه، وقيل: يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1). * (ولا يحزنك الذين يسرعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الاخرة ولهم عذاب عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالايمن لن يضروا الله شيا ولهم عذاب أليم) * (177) خاطب سبحانه الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: * (ولا يحزنك الذين) * يقعون * (في الكفر) * سريعا، يعني: المنافقين الذين تخلفوا * (إنهم) * لايضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود (2) وبال الكفر إلا عليهم، ثم بين كيف يعود وبال الكفر عليهم بقوله: * (يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الاخرة) * أي: نصيبا من الثواب * (ولهم) * بدل الثواب * (عذاب عظيم) * وفائدة إرادة الله هنا أنها إشعار بأن الداعي إلى تعذيبهم خالص حين سارعوا في الكفر حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم * (إن الذين اشتروا الكفر بالايمن) * هذا: إما أن يكون تكريرا لذكرهم وإما أن يكون عاما للكفار، والأول خاصا في من نافق من المتخلفين وارتد عن الإسلام و * (شيا) * نصب على المصدر، لأن المعنى: شيئا من الضرر وبعض الضرر. سورة آل عمران / 178 و 179 * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * (178) (1) قاله الحسن والسدي. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 249، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 438. (2) في نسخة: يرجع. (*)
[ 353 ]
من قرأ: " تحسبن " بالتاء (1) ف * (الذين كفروا) * نصب، و * (أنما نملي لهم خير لانفسهم) * بدل منه، أي: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خير لهم، و " أن " مع " ما " في حيزه ينوب عن المفعولين، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم (2). ومن قرأ بالياء فالذين كفروا رفع، والإملاء لهم أن يتركهم وشأنهم، وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم (3) * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * " ما " هذه كافة والأولى مصدرية، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها وسبب لها، وإنما كان ازدياد الإثم علة للإملاء لما كان في علم الله أنهم يزدادون إثما، فكأن الإملاء وقع بسببه ومن أجله على طريق المجاز * (ولهم عذاب مهين) * يهينهم في نار جهنم. * (ماكان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء فامنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * (179) اللام في * (ليذر) * لتأكيد النفي، والمعنى: لا يدع الله * (المؤمنين) * ولا يتركهم * (على مآ أنتم عليه) * من اختلاط المؤمن المخلص بالمنافق * (حتى يميز) * المنافق ويعزله عن المخلص، و * (يميز) * من مزته فانماز، وقرئ: " يميز " (4) من (1) وهي قراءة حمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 220، والتبيان: ج 3 ص 58، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 365، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 81، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 122. (2) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 444. (3) قاله الزجاج في معاني القرآن واعرابه: ج 1 ص 491. (4) قرأه حمزة والكسائي ويعقوب. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 220، = (*)
[ 354 ]
ميزته فتميز، وإنما يميز بين الفريقين بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * فلا تظنوا إذا أخبركم النبي بنفاق الرجل أنه يطلع على ما في القلوب بنفسه ولكن الله يوحي إليه بأن في الغيب كذا وأن هذا منافق وهذا مخلص فيعلم ذلك من جهة إطلاع الله تعالى إياه، ويجوز أن يكون المراد بالتمييز أنه يكلف التكاليف الشاقة كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل الله، ونحو ذلك مما يظهر به أحوالهم فيعلم بعضكم ما في قلب بعض عن طريق الاستدلال، وما كان الله ليطلع أحدا منكم على الغيب ومضمرات القلوب (1) * (ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء) * فيخبره ببعض المغيبات * (فامنوا بالله ورسله) * بأن تقدروه حق قدره، وتعلموا رسله عبادا مصطفين للرسالة لا يعلمون إلا ماعلمهم الله ولايخبرون من الغيوب إلا بما أخبرهم الله به، وقيل: إن المشركين قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فنزلت الآية (2). * (ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتبهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة ولله ميرا ث السموا ت والارض والله بما تعملون خبير) * (180) سورة آل عمران / 180 و 181 من قرأ بالتاء (3) قدر مضافا محذوفا، أي: * (ولا) * تحسبن بخل * (الذين = والحجة في القراءات لأبي علي الفارسي: ج 2 ص 405، والتبيان: ج 3 ص 62، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 366، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 81، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 126. (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 445. (2) قاله السدي. راجع أسباب النزول للواحدي: ص 112، والتبيان: ج 3 ص 62. (3) وهي قراءة حمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 220، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 366، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 365. (*)
[ 355 ]
يبخلون... هو خيرا لهم) * وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل * (يحسبن) * ضمير رسول الله أو ضمير أحد، ومن جعل فاعله * (الذين يبخلون) * كان المفعول الأول عنده محذوفا تقديره: * (ولا يحسبن الذين يبخلون) * بخلهم * (هو خيرا لهم) * وإنما حذف لدلالة * (يبخلون) * عليه، و * (هو) * فصل، * (سيطوقون) * تفسير لقوله: * (هو شر لهم) * أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، وفي أمثالهم: " تقلدها طوق الحمامة " (1): إذا فعل فعلة يذم بها، وروي: أنها نزلت في مانعي الزكاة (2) * (ولله ميرا ث السموا ت والارض) * أي: له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فمالهم يبخلون عليه بملكه، وقرئ: * (بما تعملون) * بالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد، وبالياء (3) على الظاهر. * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذا لك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) الذين قالوا إن الله عهد إلينآ ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينت وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صدقين) * (183) قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى: * (من ذا الذى يقرض الله قرضا (1) أي: تقلد الخصلة القبيحة تقلد طوق الحمامة، أي: لاتزايله ولا تفارقه حتى يفارق طوق الحمامة الحمامة. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 153. (2) رواها العياشي في تفسيره: ج 1 ص 207 ح 158 عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام). (3) قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 220، وحجة القراءات لابن زنجلة: ج 1 ص 184، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 320، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 369، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 82، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 129. (*)
[ 356 ]
حسنا) * (1)، وإنما قالوه: إما اعتقادا وإما استهزاء وعنادا، وأيهما كان فهذه الكلمة لاتصدر إلا عن كفر صراح، ومعنى * (سمع الله) *: أنه لا يخفى عليه، وأعد له كفاءه من العقاب * (سنكتب ما قالوا) * في صحف (2) الحفظة، أو نثبته في علمنا لاننساه ولا يفوتنا إثباته * (وقتلهم الانبياء) * عطف على * (ما قالوا) * وفيه: إعلام أنهما في العظم أخوان، وأن هذا ليس بأول ماركبوه من العظائم، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول * (ونقول) * لهم * (ذوقوا) * أي: وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة: * (ذوقوا عذاب الحريق) *، * (ذا لك) * إشارة إلى ما تقدم من عقابهم * (بما قدمت أيديكم) * بما كنتم عملتموه، وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تعمل بها، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب، وعطف قوله: * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * على * (بما قدمت أيديكم) * لأن معناه: أنه عادل عليهم فيعاقبهم على حسب استحقاقهم * (الذين قالوا إن الله عهد إلينآ) * أي: أمرنا في التوراة وأوصانا ب * (ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا) * بهذه الآية الخاصة، وهي أن يرينا قربانا فتنزل نار من السماء فتأكله * (قل) * يا محمد لهم: * (قد جاءكم) * أي: جاء أسلافكم * (رسل من قبلى بالبينت) * أي: بالحجج والدلالات الكثيرة، وجاؤوهم أيضا بهذه التي اقترحتموها * (فلم قتلتموهم) * أراد بذلك زكريا ويحيى وجميع من قتله اليهود من الأنبياء (عليهم السلام). سورة آل عمران / 184 - 186 * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينت والزبر والكتب المنير (184) كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيمة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة (1) البقرة: 245. (2) في نسخة: كتب. (*)
[ 357 ]
الدنيآ إلا متع الغرور) * (185) هذا تسلية للنبي في تكذيب الكفار إياه، أي: لست بأول مكذب، بل * (كذب) * قبلك * (رسل) * أتوا بالمعجزات الباهرة * (والزبر) * جمع زبور وهو كل كتاب فيه حكمة * (والكتب المنير) * هو التوراة والإنجيل * (كل نفس ذائقة الموت) * أي: ينزل بها الموت لا محالة فكأنها ذاقته * (وإنما توفون أجوركم يوم القيمة) * لاتوفون أجوركم عقيب موتكم وإنما توفونها يوم قيامكم عن القبور، والمراد: أن تكميل الأجور وتوفيتها يكون ذلك اليوم * (فمن زحزح عن النار) * أي: نحي عنها وأبعد * (وأدخل الجنة فقد فاز) * أي: فقد حصل له الفوز والظفر المطلق المتناول لكل مايفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الرب وعذاب النيران ونيل رضاء الله ونعيم الجنان * (وما الحيوة الدنيآ) * ولذاتها وشهواتها * (إلا متع الغرور) * أي: الخداع الذي لاحقيقة له، وهو المتاع الردي الذي يدلس به على طالبه حتى يشتريه ثم يتبين له رداءته، والشيطان هو المدلس الغرور. * (لتبلون في أموا لكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذا لك من عزم الامور) * (186) هذا خطاب للمؤمنين خوطبوا بذلك ليوطنوا نفوسهم على احتمال ما سيلقونه من الأذى والشدائد والصبر عليها ويستعدوا (1) لها، والبلاء في الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات، والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع البليات، وما يسمعونه من أذى أهل الكتاب: هو (1) في نسخة: ليستعدوا. (*)
[ 358 ]
المطاعن في دين الإسلام وتخطئة من آمن * (فإن ذا لك) * الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي: مما يجب العزم عليه من الأمور، أو ذلك البلاء من محكم الأمور الذي عزم الله أن يكون، فلابد لكم أن * (تصبروا وتتقوا) *. * (وإذ أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) * (187) الضمير في قوله: * (لتبيننه) * ل * (الكتب) *، أكد الله سبحانه عليهم إيجاب بيان * (الكتب) * واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا أخذ عليه العهد ويقال له: والله لتفعلن * (فنبذوه وراء ظهورهم) * أي: نبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، وقوله: * (وراء ظهورهم) * مثل في ترك اعتدادهم به كما يقال في ضده: جعله نصب عينه، وفيه دلالة على أنه واجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس ولا يكتموا شيئا منه لغرض فاسد من جر منفعة أو لبخل بالعلم أو تطييب لنفس ظالم أو غير ذلك. وفي الحديث: " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " (1). وعن علي (عليه السلام): " ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا " (2). سورة آل عمران / 188 وقرئ: " ليبيننه " و " لا يكتمونه " بالياء (3) لأنهم غيب، وبالتاء على حكاية (1) العلل المتناهية لابن الجوزي: ج 1 ص 89. (2) رواه عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 4 ص 305. (3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ورجال عاصم سوى حفص. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 221، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 371، والتيسير في القراءات السبع للداني: ص 93، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 366، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 136. (*)
[ 359 ]
مخاطبتهم. * (لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) * (188) * (لا تحسبن) * خطاب لرسول الله، و * (الذين يفرحون) * أول المفعولين و * (بمفازة) * المفعول الثاني، وقوله: * (فلا تحسبنهم) * تأكيد تقديره: لاتحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين، وقرئ: " لا يحسبن " بالياء وفتح الباء (1)، " فلا تحسبنهم " بضم الباء وبالتاء والياء (2) معا، فالتاء على خطاب المؤمنين على أن الفعل ل * (الذين يفرحون) * والمفعول الأول محذوف، أي: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة فلا تحسبنهم أيها المؤمنون * (بمفازة من العذاب) * أي: بمنجاة منه، والياء على التوكيد، وقوله: * (بمآ أتوا) * معناه: بما فعلوا، وقيل: معناه: لا يحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3) * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * من اتباع دين إبراهيم، ويجوز أن يكون ذلك عاما لكل من أتى (4) بحسنة فأعجب بها وأحب أن يحمده الناس عليها ويثنوا عليه بما ليس فيه من الزهد والعبادة وغير ذلك. (1) قرأه نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 219 - 220، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 368، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 82. (2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 368، والتبيان: ج 3 ص 75، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 371، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 137. (3) قاله ابن عباس والضحاك والسدي. انظر تفسير الماوردي: ج 1 ص 442، وتفسير الطبري: ج 3 ص 547. (4) في بعض النسخ: يأتي. (*)
[ 360 ]
* (ولله ملك السموا ت والارض والله على كل شئ قدير (189) إن في خلق السموا ت والارض واختلف اليل والنهار لايت لاولى الالبب (190) الذين يذكرون الله قيما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموا ت والارض ربنا ماخلقت هذا بطلا سبحنك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظلمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمن أن ءامنوا بربكم فامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيأتنا وتوفنا مع الابرار (193) ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيمة إنك لاتخلف الميعاد) * (194) سورة آل عمران / 191 - 193 * (ولله ملك السموا ت والارض) * أي: هو يملك أمر من فيهما وهو يقدر على عقابهم، قوله: * (لايت) * معناه: لأدلة واضحة على توحيد الله وعظم قدرته وباهر حكمته * (لاولى الالبب) * أي: لذوي العقول * (الذين) * ينظرون إليها نظر استدلال فيجدونها مضمنة بأعراض حادثة لا تنفك عنها، وما لا ينفك عن الحادث حادث، وإذا كانت حادثة فلابد لها من محدث موجد، لأن حدوثها يدل على أن لها محدثا قادرا، ودل ما فيها من البدائع والأمور الجارية على غاية الانتظام على كون محدثها عالما قديما، لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث آخر فيؤدي إلى التسلسل * (الذين يذكرون الله قيما وقعودا) * أي: قائمين وقاعدين * (وعلى جنوبهم) * أي: مضطجعين * (ويتفكرون في خلق السموا ت والارض) * في إبداع صنعتهما وما دبر (1) فيهما مما تكل الأفهام عن إدراك بعض بدائعه، وفي الحديث: " لا عبادة كالتفكر " (2)، * (ربنا ماخلقت هذا بطلا) * على إرادة القول، (1) في نسخة زيادة: الله. (2) مجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 283، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 4 = (*)
[ 361 ]
أي: يقولون ذلك، وهو في محل الحال أي: يتفكرون قائلين، والمعنى: ماخلقته خلقا باطلا من غير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن لخلقك وأدلة للمكلفين على معرفتك * (سبحنك) * أي: تنزيها لك عما لا يجوز عليك * (فقنا عذاب النار) * بلطفك وتوفيقك. وقوله: * (هذا) * إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق، كأنه قال: ويتفكرون في مخلوق السماوات والأرض أي: فيما خلق فيهما، ويجوز أن يكون إشارة إلى * (السموا ت والارض) * لأنهما في معنى المخلوق، فكأن المراد: * (ماخلقت هذا) * المخلوق العجيب * (بطلا) *، ويجوز أن يكون * (بطلا) * حالا من * (هذا) * (1)، و * (سبحنك) * تنزيه من أن يخلق شيئا عبثا أو بغير حكمة. * (من تدخل النار فقد أخزيته) * أي: أبلغت في إخزائه، وهو نظير قوله: * (فقد فاز) * (2)، وهو منقول من الخزي الذي هو الهوان، وقيل: هو منقول من الخزاية الذي هو الاستحياء، أي: أحللته محلا يستحيى منه (3)، * (وما للظلمين) * اللام إشارة إلى * (من تدخل النار) * أي: ليس لهم * (أنصار) * يدفعون عنهم عذاب الله * (ربنا إننا سمعنا مناديا) * أوقع الفعل على مناد لأنه موصوف بما يسمع وهو قوله: * (ينادى للايمن) * أي: إلى الإيمان، يعني: داعيا يدعو إلى الإيمان، يقال: ناداه لكذا وإلى كذا، ودعاه له وإليه، ونحوه: هداه للطريق وإليه، والمنادي هو الرسول (صلى الله عليه وآله) * (أن ءامنوا) * أي: آمنوا، أو بأن آمنوا * (بربكم فامنا) * أي: = ص 221، والكشاف للزمخشري: ج 1 ص 454. (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 454. (2) الآية: 185، الأحزاب: 71. (3) حكاه القرطبي في تفسيره: ج 4 ص 316 عن بعض أهل المعاني. (*)
[ 362 ]
فصدقناه فيما دعا إليه وأجبناه * (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا) * جمع بين سؤال (1) المغفرة والتكفير، لأن تكفير السيئات يكون بالتوبة والمغفرة، وقد يكون ابتداء من غير توبة * (مع الابرار) * في موضع الحال، أي: مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، والأبرار جمع بر أو بار * (وءاتنا ما وعدتنا على رسلك) *: * (على) * هذه صلة للوعد، أي: ما وعدتنا على تصديق رسلك، وقيل: معناه: على ألسنة رسلك (2)، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف أي: وعدتنا منزلا على رسلك، والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء (3). وعن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزلت هذه الآيات قال: " ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها " (4). وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من حزنه أمر فقال خمس مرات: * (ربنا...) * أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد " وقرأ الآيات (5). سورة آل عمران / 195 * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديرهم وأوذوا في سبيلى وقتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيأتهم ولادخلنهم جنت تجرى من تحتها الانهر ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) * (195) يقال: استجابه واستجاب له * (أنى لا أضيع) * أي: بأني لا أبطل * (عمل عمل (1) في نسخة: سؤالي. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 1 ص 499. (3) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 455. (4) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 554. (5) رواها عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 457، والرازي في تفسيره: ج 9 ص 151، والقرطبي في تفسيره: ج 4 ص 318. (*)
[ 363 ]
منكم) * وقوله: * (من ذكر أو أنثى) * بيان ل * (عمل) *، * (بعضكم من بعض) * أي: يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، وكل واحد منكم من الآخر أي: من أصله لفرط اتحادكم واتصالكم، وقيل: هو وصلة (1) الإسلام (2). وروي: أن أم سلمة (3) قالت: يارسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء، فنزلت (4) الآية. * (فالذين هاجروا) * من أوطانهم وفروا إلى الله بدينهم من دار الفتنة * (وأخرجوا من ديرهم) * التي ولدوا فيها ونشأوا * (وأوذوا في سبيلى) * يريد سبيل الدين * (وقتلوا وقتلوا) * وغزوا المشركين واستشهدوا، وقرئ: " وقتلوا وقاتلوا " (5) لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وإن تأخر في اللفظ، ويجوز أن يكون المراد أنهم لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا * (ثوابا) * في موضع المصدر المؤكد يعني: إثابة من عند الله، لأن قوله: * (لاكفرن عنهم سيأتهم (1) في نسخة: وصيلة. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 456. (3) وهي هند بنت سهيل المعروف بأبي امية بن المغيرة، القرشية المخزومية، من زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) ومن أكملهن عقلا وخلقا، تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله) في السنة الرابعة للهجرة، وكانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي من قبل، وكانت قد هاجرت معه الى الحبشة ثم رجعا الى مكة ثم هاجرا إلى المدينة ومات هناك، فخطبها أبو بكر فلم تتزوجه وخطبها النبي (صلى الله عليه وآله) فقبلت، وحالها في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين والزهراء والحسنين (عليهم السلام) أشهر من أن يذكر وأجلى من أن يحرر، توفيت سنة 62 ه. (تنقيح المقال للمامقاني: ج 3 ص 72، طبقات ابن سعد: ج 8 ص 60 - 67، مرآة الجنان: ج 1 ص 137). (4) رواها عنها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 456. (5) قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 368، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 221، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 373، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 145. (*)
[ 364 ]
ولادخلنهم) * في معنى " لأثيبنهم " (1)، * (والله عنده) * مثل أي: يختص به وبقدرته وفضله * (حسن الثواب) * لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه إلا هو كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد (196) متع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للابرار) * (198) الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أو لكل أحد، أي: لا تنظر إلى ماهم عليه من سعة الرزق ودرك المنى وإصابة حظوظ الدنيا والتصرف في البلاد يتجرون (2)، وجعل النهي في اللفظ للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، نزل السبب منزلة المسبب لأن التقلب لو غره لاغتر به فمنع السبب ليمتنع المسبب * (متع قليل) * خبر مبتدأ محذوف، أي: تقلبهم متاع قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه لزواله وانقضائه * (وبئس المهاد) * مامهدوه لأنفسهم، والنزل: ما يهيأ للضيف من الكرامة والبر، وانتصابه على الحال من * (جنت) * لتخصصها بالوصف، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد كأنه قيل: رزقا أو عطاء من عند الله (3) * (وما عند الله) * من الثواب والنعيم * (خير للابرار) * مما يتقلب فيه الفجار. سورة آل عمران / 199 * (وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل (1) في نسخة: لآتينهم. (2) في بعض النسخ: ويتجبرون. (3) انظر الكشاف: ج 1 ص 458. (*)
[ 365 ]
إليهم خشعين لله لا يشترون بايت الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199) يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) * (200) * (وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله) * نزلت في عبد الله بن سلام ومن آمن معه، وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة (1) وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى (عليه السلام) فأسلموا (2)، وقيل: في أصحمة النجاشي نعاه جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فخرج إلى البقيع (3) وكشف له من أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه، فنزلت (4) الآية. * (وما أنزل إليكم) * هو القرآن * (وما أنزل إليهم) * التوراة والإنجيل * (خشعين لله) * حال من فاعل * (يؤمن) * لأن " من " في معنى الجمع (5) * (لا يشترون بايت الله ثمنا قليلا) * كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم * (أولئك لهم أجرهم عند ربهم) * أي: ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في (1) واسمها أيضا أثيوبيا، وهي كلمة اغريقية معناها: بلاد الاثيوبيين أي: بلاد المحروقة وجوههم، هاجر إليها المسلمون الأوائل من مكة بأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء من كفار قريش، فكان عدد من هاجر إليها من الرجال 80 رجلا، وكان عليها ملكا عادلا حازما اسمه النجاشي لا يظلم عنده أحدا، وقصتهم مع النجاشي معروفة. (السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 286 - 292، الموسوعة العربية الميسرة: ص 53). (2) قاله عطاء. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 388. (3) البقيع: أصل البقيع في اللغة الموضع الذي فيه اروم الشجر من ضروب شتى، وهو مقبرة أهل المدينة. (معجم البلدان: ج 1 ص 703). (4) قاله جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج. راجع التبيان: ج 3 ص 92، وتفسير الطبري: ج 3 ص 559، وتفسير البغوي: ج 1 ص 388. (5) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 680. (*)
[ 366 ]
قوله: * (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) * (1)، * (إن الله سريع الحساب) * لنفوذ علمه في كل شئ فيعلم ما يستوجبه كل عامل * (اصبروا) * على طاعة الله وعن معاصيه * (وصابروا) * أعداء الله في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر على مضض (2) الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم * (ورابطوا) * أي: وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مستعدين للغزو * (واتقوا الله) * أي: واتقوا مخالفة الله * (لعلكم تفلحون) * (3) بنعيم الأبد. (1) القصص: 54. (2) المضض: وجع المصيبة. (القاموس المحيط: مادة مضض). (3) في نسخة زيادة: أي تفوزون ببقاء الأبد، وأصل الفلاح: البقاء أي: تفلحون. (
[ 367 ]
سورة النساء مدنية (1)، وهي مائة وخمس وسبعون آية بصري، وست كوفي، عد الكوفي * (أن تضلوا السبيل) * (2) آية. أبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من قرأها فكأنما تصدق على كل من ورث ميراثا، وأعطي من الأجر كمن اشترى محررا، وبرئ من الشرك، وكان في مشية الله من الذين يتجاوز عنهم " (3). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " من قرأها في كل جمعة أو من من ضغطة القبر إذا أدخل في قبره " (4). (1) قال الشيخ الطوسي: وهي مدنية كلها، وقد روي عن بعضهم أنه قال: كلما في القرآن من قوله: * (يأيها الناس) * نزل بمكة وهو قول قتادة ومجاهد وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة، وقال بعضهم: إن جميعها نزلت بالمدينة إلا آية واحدة وهي قوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامنت إلى أهلها) * فانها نزلت بمكة حين أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ويسلمها الى عمه العباس. راجع التبيان: ج 3 ص 97، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 446. وعن ابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 424: قال العوفي عن ابن عباس: نزلت سورة الناس بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. (2) الآية: 44. (3) رواها الزمخشري عنه في الكشاف: ج 1 ص 599. (4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 131 ح 1، وتفسير العياشي: ج 1 ص 215 ح 1. (*)
[ 368 ]
* (يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس وا حدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا) * (1) سورة النساء / 1 خطاب للمكلفين من بني آدم * (اتقوا) * مخالفة * (ربكم الذى خلقكم من نفس وا حدة) * أي: فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم * (وخلق منها زوجها) * عطف على محذوف تقديره: أنشأها (1) من تراب وخلق حواء من ضلع من أضلاعها (2) * (وبث منهما) * نوعي الإنس (3)، وهما الذكور والإناث، فوصفهما بصفة هي بيان لكيفية خلقهم منها، ويجوز أن يكون الخطاب في * (يأيها الناس) * للذين بعث إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) فيكون قوله: * (وخلق منها زوجها) * عطفا على * (خلقكم) * (4)، والمعنى: خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * غيركم من الأمم الكثيرة * (تساءلون به) * (5) أي: (1) في نسخة: أنشأه. (2) في نسخة: أضلاعه. (3) في بعض النسخ: الإنسان. (4) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 461. (5) لا يخفى أن المصنف (قدس سره) قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف ليست على قراءة عاصم برواية حفص، وهي القراءة المشهورة في بلاد الشام والعراق وبعض الجزيرة = (*)
[ 369 ]
تتساءلون به فأدغمت التاء في السين، وقرئ: * (تساءلون) * بطرح التاء الثانية (1)، أي: يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم، فيقول: بالله وبالرحم افعل كذا على سبيل الاستعطاف، أو تسألون غيركم بالله وبالرحم فوضع " تفاعلون " موضع " تفعلون " للجمع (2) * (والارحام) * نصب (3) على * (واتقوا الله... والارحام) * أو أن يعطف على محل الجار والمجرور كما تقول: مررت بزيد وعمرا، وأما جره فعلى عطف الظاهر على المضمر، وقد جاء ذلك في الشعر نحو قوله: فاذهب فما بك والأيام من عجب (4) ولا يستحسنون ذلك في حال الاختيار، والمعنى: أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقا وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم، فقيل لهم: اتقوا الله الذي خلقكم واتقوا الله الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو واتقوا الله الذي تتعاطفون بإذكاره وإذكار الرحم، وفي هذا أن صلة الرحم من الله بمكان كما جاء في الحديث: " للرحم حجنة (5) عند العرش " (6) (7)، وعن ابن عباس: " الرحم معلقة = العربية، وهنا في نسخة مصحفه " تساءلون به " فقال عقبها: أي تتساءلون به فادغمت التاء في السين. (1) وهي قراءة الكوفيين. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 371، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 83. (2) في نسخة زيادة: بين الاثنين. (3) في بعض النسخ زيادة: عطف. (4) وصدره: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا. والبيت من شواهد النحو الشائعة في باب الجر، وقد تعددت الأقوال في قائلها، فنسب للأعشى تارة وأخرى لعمرو بن يكرب وثالثة لخفاف ابن ندبة ولغيرهم. انظر كتاب سيبويه: ج 2 ص 383، والكامل للمبرد: ج 2 ص 931، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 7. (5) حجنة المغزل: هي المنعقفة في رأسه. (الصحاح: مادة حجن). (6) في نسخة زيادة: أي علقة عند العرش. (7) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 463، وفي فتح الباري لابن حجر: ج 1 ص 147 = (*)
[ 370 ]
بالعرش، فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه " (1)، والرقيب: الحافظ، وقيل: العالم (2). * (وءاتوا اليتمى أموا لهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموا لهم إلى أموا لكم إنه كان حوبا كبيرا) * (2) * (اليتمى) * الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم: الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، وهذا خطاب لأوصياء اليتامى، أي: أعطوهم * (أموا لهم) * بالإنفاق عليهم في حالة الصغر والتسليم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * أي: لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم من أموال اليتامى بما أحله الله لكم من أموالكم فتأكلوه مكانه، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال (3) أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها، والتفعل بمعنى الاستفعال كالتعجل والتأخر * (ولا تأكلوا أموا لهم إلى أموا لكم) * أي: ولا تنفقوها معها ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لاتفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بالحرام وتسوية بينه وبين الحلال، والحوب: الذنب العظيم. سورة النساء / 3 * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث وربع فإن خفتم ألا تعدلوا فوا حدة أو ما ملكت أيمنكم ذا لك أدنى ألا تعولوا (3) وءاتوا النساء صدقتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيا مريا) * (4) = و 168، واتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 6 ص 311، والترغيب والترهيب للمنذ: ج 3 ص 338: " شجنة " بدل " حجنة ". (1) رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 463. (2) قاله ابن زيد. راجع التبيان: ج 3 ص 100، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 447. (3) الاختزال: الاقتطاع. (الصحاح: مادة خزل). (*)
[ 371 ]
لما نزلت الآية في أكل أموال اليتامى خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى وتحرجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج أو أقل فلا يقوم بحقوقهن، فقيل لهم: * (وإن خفتم) * ترك العدل * (في) * أموال * (اليتمى) * فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل والتسوية (1) بين النساء، لأن من تاب من ذنب وهو مرتكب مثله فهو غير تائب، وقيل: معناه إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا أيضا (2) * (فانكحوا ما طاب) * أي: حل * (لكم من النساء) * ولا تحوموا حول المحرمات * (مثنى وثلث وربع) * محلهن النصب على الحال تقديره: فانكحوا الطيبات لكم من النساء معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، وإنما وجب التكرير لأن الخطاب للجميع ليصيب كل ناكح يريد الجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ما أراد من العدد الذي أطلق له، وهذا كما تقول للجماعة: اقسموا هذا المال وهو ألف درهم بينكم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى، ولو جعلت مكان الواو " أو " فقلت: أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو * (فإن خفتم ألا تعدلوا) * بين هذه الأعداد كما خفتم فيما فوقها * (فوا حدة) * أي: فاختاروا واحدة وذروا الجمع، وقرئ: " فواحدة " بالرفع (3) أي: فحسبكم واحدة، أو المقنع واحدة * (أو ما ملكت (1) في بعض النسخ: السوية. (2) قاله مجاهد. راجع تفسيره: ص 266، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 8، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 448. (3) وهي قراءة الحسن والجحدري وأبي جعفر وابن هرمز ونافع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 227، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 372، = (*)
[ 372 ]
أيمنكم) * سوى بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد سورة النساء / 5 و 6 * (ذا لك) * إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسري * (أدنى ألا تعولوا) * أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا، من عال الميزان: إذا مال، وعال في حكمه: إذا جار * (وءاتوا النساء صدقتهن) * أي: وأعطوهن مهورهن * (نحلة) * أي: عن طيبة أنفسكم، من نحله كذا: إذا أعطاه إياه عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا، وانتصابها على المصدر لأن النحلة بمعنى الإيتاء، أو يكون حالا من المخاطبين أي: آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات أي: منحولة معطاة عن طيبة الأنفس، وقيل: نحلة من الله أي: عطية من عنده لهن (1)، والخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم (2) * (فإن طبن لكم عن شئ) * خطاب للأزواج * (منه) * أي: من الصداق * (نفسا) * تمييز وتوحيدها، لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه، والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وطابت عنه نفوسهن من غير إكراه ولا خديعة * (فكلوه هنيا مريا) * أي: أكلا هنيئا مريئا، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغا لاتنغيص فيه، وقيل: الهنئ: ما يلذه الآكل والمرئ: ما يحمد عاقبته وينساغ في مجراه (3)، ويجوز أن يكون كلاهما حالا من الضمير أي: كلوه وهو هنئ ومرئ، وقد يوقف على * (فكلوه) * ويبتدأ * (هنيا مريا) * على الدعاء، وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة. = والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 164. (1) قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 392. (2) قاله أبو صالح ومجاهد والكلبي. راجع التبيان: ج 3 ص 110، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 451، وتفسير البغوي: ج 1 ص 392. (3) قاله الزجاج في القرآن: ج 2 ص 12 - 13. (*)
[ 373 ]
* (ولا تؤتوا السفهآء أموا لكم التى جعل الله لكم قيما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) وابتلوا اليتمى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموا لهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموا لهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) * (6) أي: ولا تعطوا (1) * (السفهآء) * وهم الذين ينفقون الأموال فيما لا ينبغي من النساء والصبيان والمبذرين * (أموا لكم التى جعل الله لكم قيما) * تقومون بها وتنتعشون فكأنها قيامكم وانتعاشكم، وقوام الشئ وقيامه وقيمه: ما يقيمه، وقرئ: " قيما " (2)، * (وارزقوهم فيها) * واجعلوا أموالكم مكانا لرزقهم وكسوتهم إن كانوا ممن يلزمكم نفقته، وهذا أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى سفيه يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده، رجلا كان أو امرأة، قريبا كان أو أجنبيا * (وقولوا لهم قولا معروفا) * أي: تلطفوا لهم في القول، وكل ماأحبته النفوس لحسنه عقلا أو (3) شرعا من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه فهو منكر * (وابتلوا اليتمى) * واختبروا عقولهم قبل البلوغ حتى إذا تبينتم (4) منهم رشدا دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ، وبلوغ * (النكاح) * هو أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده أو يبلغ خمس عشرة سنة أو ينبت * (فإن ءانستم منهم رشدا) * أي: (1) في نسخة: تؤتوا. (2) قرأه ابن عباس ونافع وابن عامر. راجع التبيان: ج 3 ص 112، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 226، وكتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 371، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 83، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 170. (3) في بعض النسخ بدل " أو ": واو. (4) في بعض النسخ: آنستم. (*)
[ 374 ]
أبصرتم منهم تهديا إلى وجوه التصرف وصلاحا في الدين وإصلاحا للمال * (فادفعوا إليهم أموا لهم) *، و " حتى " هذه هي التي تقع بعدها الجمل، والجملة بعدها جملة شرطية لأن " إذا " متضمنة معنى الشرط، وقوله: * (فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموا لهم) * جملة من شرط وجزاء وقعت جوابا للشرط الأول، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، و * (إسرافا) * مصدر في موضع الحال أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول له أي: لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها * (ومن كان غنيا) * من الأولياء * (فليستعفف) * بماله عن أكل مال اليتيم، ويقتنع (1) بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قوتا مقدرا محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، وقيل: يأخذ من ماله قدر الحاجة على وجه الاستقراض (2) * (فإذا دفعتم إليهم أموا لهم فأشهدوا عليهم) * بأنهم تسلموها وقبضوها، لأن ذلك أبعد من التهمة * (وكفى بالله حسيبا) * أي: شاهدا على الدفع والقبض فعليكم بالتصادق. * (للرجال نصيب مما ترك الوا لدا ن والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوا لدا ن والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * (7) * (مما قل منه أو كثر) * بدل * (مما ترك) * بتكرير العامل، وكانت العرب في الجاهلية يورثون الذكور دون الإناث فقال سبحانه: * (للرجال) * حظ وسهم من سورة النساء / 8 و 9 تركة الوالدين والأقربين * (وللنساء) * حظ وسهم منها، من قليلها وكثيرها * (نصيبا (1) في نسخة: يقنع. (2) قاله ابن عباس وعمر ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين والشعبي وأبو العالية وعبيدة السلماني. راجع تفسير ابن عباس: ص 65، وتفسير الطبري: ج 3 ص 597 - 598. (*)
[ 375 ]
مفروضا) * نصب على الاختصاص، أي: أعني نصيبا مفروضا: مقطوعا واجبا لابد أن يحوزوه، أو هو مصدر مؤكد بمعنى قسمة مفروضة. وفي هذه الآية دلالة على بطلان القول بالعصبة (1) لأن الله سبحانه فرض الميراث للرجال والنساء. * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتمى والمسكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعفا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) إن الذين يأكلون أموا ل اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (10) * (وإذا حضر القسمة) * أي: قسمة التركة * (أولوا القربى) * ممن لا يرث * (فارزقوهم منه) * أي: مما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب، وقيل: هو على الوجوب (2)، والآية منسوخة بآية الميراث (3)، وقال سعيد بن جبير: إن ناسا يقولون: نسخت، والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس (4). والقول المعروف: أن يلطفوا لهم القول ويعتذروا إليهم ويستقلوا ما يعطونهم ولايمنوا بذلك عليهم، و * (لو) * مع ما في حيزه صلة ل * (الذين) *، والمراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخافوا الله على من في حجورهم من اليتامى، ويشفقوا عليهم كما يخافون على (1) في نسخة: بالعصبية. (2) قاله مجاهد. راجع التبيان: ج 3 ص 122. (3) كما ذهب إليه سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك. راجع التبيان: ج 3 ص 122. (4) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 477. وقال الشيخ في التبيان: ج 3 ص 122: هذه الآية محكمة عندنا وليست منسوخة، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم ومجاهد والشعبي والزهري ويحيى بن يعمر والسدي والبلخي والجبائي والزجاج وأكثر المفسرين والفقهاء. (*)
[ 376 ]
ذريتهم لو تركوهم * (ضعفا) * ويشفقون عليهم وأن يصوروا ذلك في نفوسهم حتى لايجسروا (1)، والمعنى: * (وليخش الذين) * حالهم أنهم لو قاربوا أن يتركوا خلفهم * (ذرية ضعفا) * وذلك إذا حان يومهم * (خافوا عليهم) * الضياع بعدهم لذهاب كافلهم * (فليتقوا الله) * في يتامى غيرهم أن يجفوهم ويظلموهم * (وليقولوا) * لهم * (قولا سديدا) * موافقا للشرع و (2) يخاطبوهم بخطاب جميل، ثم أوعد سبحانه آكلي مال اليتيم * (ظلما) * أي: ظالمين أو على وجه الظلم من أولياء السوء أو القضاة * (في بطونهم) * ملء بطونهم، ومعنى * (يأكلون... نارا) * يأكلون ما يجر إلى النار فكأنه نار في الحقيقة، وقرئ: " وسيصلون " (3)، يقال: صلي النار يصلاها صليا وأصلاه الله النار * (سعيرا) * أي: نارا مستعرة. * (يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت وا حدة فلها النصف ولأبويه لكل وا حد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين أآباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) * (11) سورة النساء / 11 * (يوصيكم الله) * أي: يأمركم به ويفرض عليكم، لأن الوصية منه سبحانه أمر وفرض * (في أولدكم) * أي: في شأن ميراثهم، وهذا إجمال تفصيله * (للذكر مثل حظ الانثيين) * والمعنى: للذكر منهم أي: من أولادكم فحذف العائد لأنه مفهوم، (1) في نسخة: لايجترئوا. (2) في نسخة: أو. (3) قرأه ابن عامر ورجال عاصم سوى حفص. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 227، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 372. (*)
[ 377 ]
أي: للابن مثل نصيب البنتين، هذا في حال الاجتماع، فأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله والبنتان تأخذان الثلثين، ويدل عليه قوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين) * أي: فإن كانت البنات أو المولودات نساء ليس معهن رجل، يعني: بنات ليس معهن ابن فوق اثنتين أي: زائدات على (1) اثنتين * (فلهن ثلثا ما ترك) *، والضمير في * (ترك) * للميت وإن لم يجر له ذكر، لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت، وفي قوله: * (للذكر مثل حظ الانثيين) * دلالة على أن حكم البنتين حكم الابن، وذلك أن الابن كما يحوز الثلثين مع البنت الواحدة فكذلك البنتان تحوزان الثلثين، فلما ذكر مادل على حكم البنتين أتبعه بقوله: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * على معنى: فإن كن جماعة بالغات مابلغن من العدد فلهن ما للبنتين لا يتجاوزنه * (وإن كانت) * المولودة * (وا حدة فلها النصف) * أي: نصف ما ترك الميت * (ولأبويه) * أي: ولأبوي الميت * (لكل وا حد منهما) * بدل من * (لأبويه) * بتكرير العامل * (السدس مما ترك إن كان له ولد) * الولد يقع على الذكر والأنثى، يعني: فللأب السدس مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وللأم السدس مع الولد كذلك * (فإن لم يكن له) * أي للميت * (ولد) *: ابن ولا بنت ولا أولادهما، لأن اسم الولد يعم الجميع * (وورثه أبواه فلأمه الثلث) * وهذا الظاهر يدل على أن الباقي للأب * (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) * وإنما يكون لها السدس مع وجود أخوين أو أخ وأختين أو أربع أخوات إذا كان هناك أب عند أئمة الهدى (عليهم السلام) (2) بدلالة أن هذه الجملة معطوفة على قوله: * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) * فيكون التقدير: فإن (1) في نسخة: فوق. (2) راجع الكافي: ج 7 ص 91 كتاب المواريث باب ميراث الأبوين مع الاخوة. (*
[ 378 ]
كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس، وقرئ: " فلإمه " بكسر الهمزة (1) أتبعت الهمزة الكسرة التي قبلها * (من بعد وصية يوصى بها) * الميت، وقرئ: " يوصى بها " على البناء للمفعول (2) * (أو دين) * أي: تقسم التركة على ما ذكرنا بعد قضاء الديون وإفراز الوصية، ولا خلاف في أن الدين مقدم على الوصية والميراث وإن قدمت الوصية على الدين في الآية، فكأنه قيل: من بعد أحد هذين فإن لفظة " أو " لا توجب الترتيب وإنما هي لأحد الشيئين أو الأشياء * (أآباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * أي: لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون: أمن أوصى منهم أم من لم يوص (3)، يعني: أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا ممن ترك الوصية فوفر عليكم متاع الدنيا * (فريضة من الله) * نصبت نصب المصدر المؤكد، أي: فرض الله فريضة * (إن الله كان عليما) * بمصالح خلقه * (حكيما) * فيما فرض من المواريث وغيرها. سورة النساء / 12 * (ولكم نصف ما ترك أزوا جكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كللة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وا حد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذا لك فهم (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 228، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 372. (2) قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو بكر والمفضل ويحيى. راجع تفسير التبيان: ج 3 ص 128، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 373. (3) في نسخة: يوص، بتشديد الصاد. (*)
[ 379 ]
شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم) * (12) * (ولكم) * أيها الأزواج * (نصف ما) * تركت زوجاتكم * (إن لم يكن لهن ولد) * ذكر ولا أنثى ولاولد ولد * (فإن كان لهن ولد) * منكم أو من غيركم * (فلكم الربع) * جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج كما جعلت كذلك في النسب، والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن * (وإن كان رجل) * يعني: الميت * (يورث) * أي: يورث منه من " ورث "، أو يورث من " أورث "، فيكون الرجل وارثا لا موروثا منه، وهو صفة ل * (رجل) *، و * (كللة) * خبر * (كان) *، أي: وإن كان رجل موروث منه أو وارث كلالة، ويجوز أن يكون * (يورث) * خبر * (كان) * و * (كللة) * حالا من الضمير في * (يورث) *. واختلف في معنى الكلالة، والمروي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنها تطلق على الإخوة والأخوات (1)، والمذكور في هذه الآية من كان من قبل الأم منهم والمذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب والأم أو من قبل الأب، فعلى هذا تكون الكلالة أن يترك الانسان من أحاط بأصل النسب الذي هو الوالد والولد، وتكلله كالإكليل الذي يحيط بالرأس ويشتمل عليه، لأن الكلالة في الأصل مصدر فتطلق على من ليس بولد ولا والد وعلى من لم يخلف ولدا ولا والدا وخلف ما عداهما من الإخوة والأخوات، ويكون صفة للموروث أو الوارث بمعنى ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي تريد من ذوي قرابتي * (أو امرأة) * تورث كذلك * (وله أخ أو أخت) * يعني: من الأم * (فلكل وا حد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذا لك فهم (1) انظر الكافي: ج 7 ص 101 ح 3 و 4 و 5، وتفسير العياشي: ج 1 ص 227 ح 58 و 59. (*)
[ 380 ]
شركاء في الثلث) * جعل الذكر والأنثى هاهنا سواء * (غير مضآر) * لورثته، وذلك أن يوصي بزيادة على الثلث أو يوصي بدين ليس عليه يريد بذلك ضرر الورثة * (وصية من الله) * مصدر مؤكد كقوله: * (فريضة من الله) *، * (والله عليم) * بمن جار في وصيته * (حليم) * عنه لا يعاجله بالعقوبة، وهذا وعيد. * (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها وذا لك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خلدا فيها وله عذاب مهين) * (14) * (تلك) * إشارة إلى الأحكام المذكورة في اليتامى والمواريث، وسماها حدودا لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها، قال: * (يدخله) * و * (خلدين) * حملا على لفظ " من " ومعناه، وفي قوله: * (ويتعد حدوده) * دلالة على أن المراد بقوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * الكافر، لأن من تعدى جميع حدود الله التي هي فرائضه وأوامره ونواهيه لا يكون إلا كافرا. سورة النساء / 15 و 16 * (والتى يأتين الفحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفبهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) والذان يأتينها منكم فاذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) * (16) * (والتى يأتين الفحشة) * أي: يفعلنها، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح * (من نسائكم) * الحرائر * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * أي: من المسلمين * (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت) * أي: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، وكان ذلك عقوبتهن في أول الإسلام ثم نسخ بقوله:
[ 381 ]
* (الزانية والزانى) * الآية (1) (2)، * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح، وقيل: السبيل هو الحد، إذ لم يكن مشروعا في ذلك الوقت (3)، وقد روي: أنه لما نزل قوله: * (الزانية والزانى) * الآية قال (عليه السلام): " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (4) وعندنا: أن هذا الحكم مختص بالشيخ والشيخة إذا زنيا (5) * (والذان يأتينها منكم) * يريد الزاني والزانية * (فاذوهما) * فذموهما وعيروهما، فإن تابا وأصلحا وغيرا الحال * (فأعرضوا عنهما) * واقطعوا الذم والتعيير وكفوا عن أذاهما، وقرئ: " والذان " بتشديد النون (6). * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * (18) (1) النور: 2. (2) انظر كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة: ص 42، والناسخ والمنسوخ لابن الجوزي: ص 22، والناسخ والمنسوخ لابن البارزي: ص 29. (3) قاله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 462. (4) رواه مسلم في صحيحه: ج 2 ص 33، والترمذي في سننه: ج 2 ص 242، وأحمد في مسنده: ج 5 ص 313. (5) كما ذهب إليه الشيخ الطوسي في الخلاف: ج 5 ص 366 - 367، وابن البراج في المهذب: ج 2 ص 519، وابن حمزة في الوسيلة: ص 411. (6) قرأه ابن كثير. راجع التبيان: ج 3 ص 143، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 373، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 197. (*)
[ 382 ]
* (التوبة) * من تاب الله عليه: إذا قبل توبته، أي: إنما القبول للتوبة واجب على الله لهؤلاء، أوجبه سبحانه في كرمه وفضله * (بجهلة) * في موضع الحال، أي: * (للذين يعملون السوء) * جاهلين سفهاء، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة ولا يدعو إليه العقل والحكمة * (ثم يتوبون من قريب) * من زمان قريب، والزمان القريب: ما قبل حضور الموت، قال ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت (1) * (ولا الذين يموتون) * عطف على * (للذين يعملون السيات) * سوى سبحانه بين مسوف التوبة إلى وقت حضور الموت وبين من يموت كافرا. * (يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * (19) سورة النساء / 19 كانوا يظلمون نساءهم بأنواع من الظلم فنهوا عن ذلك، كان الرجل إذا مات له قريب عن امرأة ألقى ثوبه عليها وقال: أنا أحق بها من غيري، فقيل: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * أي: تأخذوهن على سبيل الإرث وهن كارهات لذلك أو مكرهات (2)، فقد قرئ بفتح الكاف وضمها (3)، وقيل: كانوا يمسكونهن حتى يمتن، فقيل: لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثوا منهن وهن غير راضيات (1) تفسير ابن عباس: ص 67. (2) وهو قول ابن عباس كما حكاه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 341. (3) قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 3 ص 148، وتفسير البغوي: ج 1 ص 408، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 341، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 373، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 203. (*)
[ 383 ]
بذلك (1)، وكان الرجل يمسك زوجته إضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها، فقيل: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن) * والعضل: الحبس والتضييق، والأولى أن يكون * (تعضلوهن) * نصبا عطفا على * (أن ترثوا) *، و * (لا) * لتأكيد النفي، أي: لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن * (إلا أن يأتين بفحشة مبينة) * وهي النشوز والبذاء والمعصية وإيذاء الزوج وأهله، يعني: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فتصيروا معذورين في طلب الخلع، والتقدير: ولا تعضلوهن إلا لأن يأتين بفاحشة أو وقت أن يأتين بفاحشة. الصادق (عليه السلام) قال: " إذا قالت للزوج لاأغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما ولأوطين فراشك حل له أن يخلعها " (2). وكانوا يسيؤون معاشرة النساء فقيل لهم: * (وعاشروهن بالمعروف) * وهو النصفة في النفقة والإجمال في القول والفعل * (فإن كرهتموهن) * أي: إن كرهتم صحبتهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأحبت ما هو نقيض ذلك. * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحديهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيا أتأخذونه بهتنا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثقا غليظا) * (21) كان الرجل (3) إذا أراد استطراف (4) امرأة رمى زوجته بفاحشة حتى يلجئها (1) قاله قتادة والشعبي والضحاك والزهري والجبائي وروي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام). راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 466، والتبيان: ج 3 ص 149. (2) الكافي: ج 6 ص 139 كتاب الطلاق باب الخلع ح 1. (3) في بعض النسخ زيادة: الزوج. (4) في بعض النسخ: استطراق، واخرى: استطلاق. (*)
[ 384 ]
إلى الافتداء منه بما أعطاها، فقال سبحانه: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * أي: إقامة امرأة مقام امرأة وأعطيتم التي أردتم الاستبدال بها غيرها * (قنطارا) * أي: مالا كثيرا * (فلا تأخذوا منه) * أي: من المؤتى والمعطى * (شيا أتأخذونه بهتنا وإثما مبينا) * أي: باهتين وآثمين، انتصب * (بهتنا) * و * (إثما) * على الحال، ويجوز أن يكون مفعولا له وإن لم يكن غرضا كما يقال: قعد عن القتال جبنا، والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: * (وأخذن) * به * (منكم ميثقا غليظا) * أي: بإفضاء بعضكم إلى بعض، وقيل: إن الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (1). وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان (2) في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " (3). * (ولا تنكحوا ما نكح أآباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فحشة ومقتا وساء سبيلا) * (22) سورة النساء / 22 و 23 كانوا ينكحون روابهم (4)، وكان ناس من ذوي مروءاتهم يمقتونه ويسمونه نكاح المقت، ويقولون لمن ولد عليه: المقتي، ولذلك قال سبحانه: * (ومقتا) *، أي: ولا تتزوجوا ماتزوجه * (أآباؤكم من النساء) * ثم استثنى * (ما قد سلف) * كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قوله: ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (5) (1) قاله الضحاك والسدي والحسن وابن سيرين وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 467. (2) العواني جمع عانية، والعاني: الأسير. (الصحاح: مادة عون). (3) مسند أحمد: ج 5 ص 72 - 73، الكشاف: ج 1 ص 492، الكاف الشاف لابن حجر: ص 40. (4) الرواب جمع رابة، والرابة: زوجة الأب. (الصحاح: مادة روب). (5) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة مدح بها عمرو بن الحارث أحد ملوك الشام الغسانيين. = (*)
[ 385 ]
يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ولا يحل لكم غيره ولكنه غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه * (إنه كان فحشة) * في دين الله بالغة في القبح * (ومقتا) * أي: قبيحا ممقوتا في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين (1) * (وساء سبيلا) * أي: بئس طريقا ذلك النكاح السيئ الفاحش. * (حرمت عليكم أمهتكم وبناتكم وأخوا تكم وعمتكم وخلتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهتكم التى أرضعنكم وأخوا تكم من الرضعة وأمهت نسائكم وربئبكم التى في حجوركم من نسائكم التى دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلئل أبنآئكم الذين من أصلبكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما) * (23) المعنى: حرم عليكم نكاحهن، لأن ذلك هو المفهوم من تحريمهن كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم الميتة تحريم أكلها، ويتضمن قوله: * (أمهتكم) * تحريم نكاح الجدات من قبل الأب ومن قبل الأم وإن علون بدرجات، وقوله: * (وبناتكم) * تحريم نكاح بنات الصلب وبنات الابن وبنات البنت (2) وإن نزلن بدرجات، وقوله: * (وأخوا تكم) * يتضمن تحريمهن سواء كن من قبل أب أو من قبل أم أو منهما، ويتضمن العمات: كل أخت لذكر رجع النسب إليه بالولادة من قبل الأب كان أو من قبل الأم، ويتضمن الخالات: كل أخت لأنثى رجع النسب إليها بالولادة من جهة الأم كان أو من جهة الأب، ويتضمن * (بنات الاخ وبنات الاخت) * كل بنات الإخوة والأخوات من قبل الأب كن أو من قبل = انظر ديوان النابغة: ص 51، وخزانة الأدب: ج 3 ص 327. (1) في نسخة: القبيحين. (2) في بعض النسخ: الابنة. (*)
[ 386 ]
الأم قربن أو بعدن، فهؤلاء السبع هن المحرمات من جهة النسب. ثم ذكر المحرمات من جهة السبب * (و) * قال: * (أمهتكم التى أرضعنكم) * سمى المرضعات أمهات إذ نزل (1) الرضاعة منزلة النسب، وسمى المرضعات أخوات بقوله: * (وأخوا تكم من الرضعة) * فعلى هذا يكون زوج المرضعة أبا للرضيع، وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، وكل ولد لها من غير هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأمه، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله): " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (2) وفيه: أن المحرمات السبع بالنسب محرمات بالرضاع أيضا. سورة النساء / 23 ثم قال: * (وأمهت نسائكم) * وهذا يتضمن تحريم نكاح أمهات الزوجات وجداتهن قربن أو بعدن من جهة النسب والرضاع، ويحرمن بنفس العقد * (وربئبكم التى في حجوركم) * أي: في ضمانكم وتربيتكم، سمي ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة لأنه يربهما (3) في غالب الأمر كما يرب ولده، ثم سمي بذلك وإن لم يربهما، وهذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها وتحريم بنت ابنها وبنت بنتها قربت أم بعدت لوقوع اسم الربيبة عليهن، وقوله: * (من نسائكم التى دخلتم بهن) * متعلق ب * (ربئبكم) * والمعنى: أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل وإذا لم يدخل بها فهي حلال له، ومعنى الدخول بهن كناية عن الجماع كما يقال: بنى عليها وضرب عليها الحجاب، فقوله: (1) في نسخة: أنزل. (2) مسند أحمد: ج 1 ص 339، سنن البيهقي: ج 7 ص 452 - 453، اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 5 ص 338. (3) في بعض النسخ: يربيهما. (*)
[ 387 ]
* (دخلتم بهن) * معناه: أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية، وما يجري مجرى الجماع من التجريد واللمس بالشهوة فذلك أيضا دخول بها عند أبي حنيفة (1) وهو مذهبنا (2)، * (وحلئل أبنآئكم) * أي: وحرم عليكم نكاح أزواج أبنائكم * (الذين من أصلبكم) * دون من تبنيتم، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوج زينب بنت جحش (3) حين فارقها زيد بن حارثة (4) (5) * (وأن تجمعوا بين الاختين) * في موضع الرفع، أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح والوطء بملك اليمين، ويجوز أن يكون الجمع بينهما في الملك * (إلا ما قد سلف) * ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله: * (إن الله كان غفورا رحيما) *. والمحرمات بالنسب أو السبب على وجه التأبيد يسمين مبهمات، لأنهن يحرمن من جميع الجهات، قال ابن عباس: حرم الله من النساء سبعا بالنسب وسبعا بالسبب، وتلا هذه الآية ثم قال: والسابعة: * (ولا تنكحوا ما نكح أآباؤكم) * الآية (6) (7). (1) الفتاوي الهندية: ج 1 ص 304، المبسوط للسرخسي: ج 5 ص 149، اللباب: ج 2 ص 197، بدائع الصنائع: ج 2 ص 291. (2) راجع تفسير التبيان لشيخ الطائفة: ج 3 ص 158. (3) هي زوج النبي (صلى الله عليه وآله) واخت عبد الله بن جحش، من أسد بن خزيمة، وامها اميمة بنت عبد المطلب عمة النبي (صلى الله عليه وآله)، تكنى ام الحكيم، تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السنة الثالثة للهجرة، وكانت أول نساء النبي (صلى الله عليه وآله) لحوقا به كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتوفيت سنة عشرين ودفنت بالبقيع. (اسد الغابة: ج 5 ص 466). (4) هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، أبو اسامة، مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، شهد المشاهد كلها، وكان من الرماة المذكورين، استشهد يوم مؤتة سنة ثمان من الهجرة وهو ابن خمس وخمسين سنة. (تهذيب التهذيب: ج 3 ص 402). (5) انظر تفسير السمرقندي: ج 1 ص 344، وتفسير البغوي: ج 1 ص 412. (6) الآية: 22. (7) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 3 ص 662 ح 8950. (*)
[ 388 ]
* (والمحصنت من النساء إلا ما ملكت أيمنكم كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذا لكم أن تبتغوا بأموا لكم محصنين غير مسفحين فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة ولاجناح عليكم فيما ترا ضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) * (24) سورة النساء / 24 و 25 القراءة هنا * (المحصنت) * بفتح الصاد، أي: وحرمت عليكم اللاتي أحصن * (من النساء) * وهن ذوات الأزواج * (إلا ما ملكت أيمنكم) * من اللاتي سبين ولهن أزواج في دار (1) الكفر فهن حلال وإن كن محصنات * (كتب الله عليكم) * مصدر مؤكد، أي: كتب الله ذلك عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم * (وأحل لكم ما وراء ذا لكم) * هو عطف على الفعل المضمر الذي نصب * (كتب الله) *، ومن قرأ: * (وأحل لكم) * على البناء للمفعول فهو عطف على * (حرمت عليكم) *، * (أن تبتغوا) * مفعول له، والمعنى: بين لكم ما يحل وما يحرم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا * (بأموا لكم) * نكاحا بصداق أو شراء بثمن، فيكون مفعول * (تبتغوا) * مقدرا، ويجوز أن يكون * (أن تبتغوا) * بدلا من * (ما وراء ذا لكم) * (2)، * (محصنين غير مسفحين) * أي: أعفاء غير زناة، والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقيل: محصنين: متزوجين (3) * (فما استمتعتم به منهن) * من النساء، و * (ما) * في معنى النساء ويرجع الضمير في * (به) * إليه على اللفظ، وفي * (فاتوهن أجورهن) * على المعنى، والمراد به متعة النساء وهو النكاح المنعقد بمهر معين إلى أجل معلوم، وإليه ذهب ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير (1) في نسخة: ديار. (2) انظر الكشاف: ج 1 ص 497. (3) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 68، وبه قال الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 37، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 413. (*)
[ 389 ]
وجماعة من التابعين وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وقرأوا: " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " (1)، * (فاتوهن أجورهن) * معناه: فاللاتي عقدتم عليهن هذا العقد من جملة النساء فأعطوهن أجورهن، فأوجب إيتاء الأجر بنفس العقد، وإنما يجب كمال المهر بنفس العقد في نكاح المتعة خاصة * (ولاجناح عليكم فيما ترا ضيتم به من بعد الفريضة) * من استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدة الأجل * (إن الله كان عليما حكيما) * فيما شرع لعباده من النكاح الذي به يحفظ الأموال والأنساب. * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنت المؤمنت فمن ما ملكت أيمنكم من فتيتكم المؤمنت والله أعلم بإيمنكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف محصنت غير مسفحت ولامتخذا ت أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفحشة فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب ذا لك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) * (25) الطول: الفضل والزيادة، أي: من لم يجد غنى وزيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح * (المحصنت) * أي: الحرائر * (فمن ما ملكت أيمنكم) * أي: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم، والخطاب للمسلمين * (من فتيتكم) * من إمائكم لامن فتيات غيركم من المخالفين في الدين * (والله أعلم بإيمنكم) * والله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل فمن (1) حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 3 ص 165 و 166، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 471 فراجع. (*)
[ 390 ]
حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لافضل الأحساب والأنساب * (بعضكم من بعض) * أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون لاشتراككم في الإيمان فلا تستنكفوا من نكاحهن * (فانكحوهن) * والضمير للفتيات أي: تزوجوهن * (بإذن أهلهن) * أي: بأمر مواليهن * (وءاتوهن أجورهن) * أي: مهورهن * (بالمعروف) * من غير مطل وإضرار وإحواج إلى الاقتضاء، والمراد: فآتوا مواليهن، لأن الموالي هم مالكو مهورهن (1)، فحذف المضاف * (محصنت) * عفائف غير مجاهرات بالسفاح ولامسرات له، وهو قوله: * (غير مسفحت ولامتخذا ت أخدان) * والأخدان: الأخلاء في السر * (فإذآ أحصن) * من قرأ بالضم فالمعنى: فإذا زوجن فأحصنهن أزواجهن (2) أي: تزوجن، ومن قرأ بالفتح (3) فمعناه: أسلمن (4)، وقيل: أحصن أنفسهن بالتزويج (5) * (فإن أتين بفحشة) * أي: فإن زنين * (فعليهن نصف ما على سورة النساء / 26 - 29 المحصنت) * أي: الحرائر * (من العذاب) * من الحد كما في قوله: * (وليشهد عذابهما) * (6) وهو خمسون جلدة، ولارجم عليهن لأن الرجم لا ينتصف * (ذا لك) * إشارة إلى نكاح الإماء * (لمن خشى العنت منكم) * لمن خاف الإثم الذي يؤدي إليه غلبة الشهوة، وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من الوقوع في الزنا * (وأن تصبروا) * أي: وصبركم عن (1) في نسخة: أمورهن. (2) وهي قراءة ابن عباس كما حكاه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 347. (3) قرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 416، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 347، وفي كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 374: وهي قراءة الكوفيين سوى حفص. (4) وكذا هي قراءة ابن مسعود كما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 416. (5) قاله الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 271، وعنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 171. (6) النور: 2. (*)
[ 391 ]
نكاح الإماء متعففين * (خير لكم) *. * (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوا ت أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا) * (28) الأصل * (يريد الله) * أن * (يبين لكم) * فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في " لا أبا لك " لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم * (و) * أن * (يهديكم سنن الذين) * كانوا * (من قبلكم) * من الأنبياء وأهل الحق لتقتدوا بهم * (ويتوب عليكم) * أي: وأن يقبل توبتكم * (والله يريد أن يتوب عليكم) * يوفقكم لها، ويقوي دواعيكم إليها * (ويريد الذين يتبعون الشهوا ت) * من المبطلين * (أن تميلوا) * أي: تعدلوا عن الاستقامة والقصد بمساعدتهم وموافقتهم * (ميلا عظيما) * إذ لاميل أعظم من الموافقة على اتباع الشهوات * (يريد الله أن يخفف عنكم) * بإحلال الأمة وغير ذلك من الرخص * (وخلق الانسن ضعيفا) * لا يصبر على مشقة الطاعة وعن الشهوة. * (يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموا لكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذا لك عدوا نا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذا لك على الله يسيرا) * (30) ذكر الأكل والمراد به سائر التصرفات و " الباطل ": ما لم يبحه الشرع من الربا والقمار والخيانة والظلم والسرقة * (إلا أن تكون تجرة) * بالنصب على: إلا أن
[ 392 ]
تكون التجارة تجارة * (عن تراض منكم) * وبالرفع على: إلا أن تقع تجارة، والاستثناء منقطع معناه: ولكن كون تجارة عن تراض منكم غير منهي عنه، و * (عن تراض) * صفة ل * (تجرة) * أي: تجارة صادرة عن تراض منكم (1)، والتراضي: رضاء المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول * (ولا تقتلوا أنفسكم) * بأن تقاتلوا من لا تطيقونه فتقتلوا، وقيل: لا يقتل بعضكم بعضا لأنكم أهل دين واحد فأنتم كنفس واحدة (2)، وقيل: لا يقتل الرجل نفسه كما يفعل بعض الجهال في حال غضب أو ضجر (3) * (إن الله كان بكم رحيما) * ينهاكم عما يضركم لرحمته عليكم * (ومن يفعل ذا لك) * إشارة إلى القتل، أي: ومن يقدم على قتل النفس * (عدوا نا وظلما) * لاخطأ ولا اقتصاصا * (فسوف نصليه نارا) * مخصوصة شديدة العذاب. سورة النساء / 31 و 32 * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم وندخلكم مدخلا كريما (31) ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما) * (32) قال أصحابنا رضي الله عنهم: المعاصي كلها كبائر من حيث كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض، وإنما يكون الذنب صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه واستحقاق العقاب (4) عليه أكثر (5)، ونحوه قول ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 502. (2) قاله عطاء بن أبي رباح والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 475. (3) قاله الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 475. (4) في نسخة: العذاب. (5) راجع تفسير التبيان لشيخ الطائفة (قدس سره): ج 3 ص 182. (*)
[ 393 ]
كبير (1)، وقول مجاهد وسعيد بن جبير: كل ما أوعد الله عليه عقابا في العقبى أو أوجب عليه حدا في الدنيا فهو كبير (2)، ومعنى الآية: * (إن تجتنبوا كبائر) * مانهيتم * (عنه) * في هذه السورة من المناكح وأكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتركتموها في المستقبل * (نكفر عنكم سيأتكم) * التي اكتسبتموها بارتكاب ذلك فيما سلف، ويعضده قوله سبحانه: * (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * (3)، وعن ابن مسعود: كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة (4)، وروي: أن رجلا قال لابن عباس: الكبائر سبع ؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب، إلا أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار (5) (6). وقرئ: " مدخلا " بضم الميم وفتحها (7) بمعنى المكان والمصدر فيهما * (ولا تتمنوا) * نهي عن التحاسد وعن (1) حكاه عنه الشيخ في تبيانه: ج 3 ص 182، والرازي في تفسيره: ج 10 ص 74. (2) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 476، والشيخ في تبيانه: ج 1 ص 182 وقال: ومثله قال أبو العالية ومجاهد والضحاك. (3) الأنفال: 38. (4) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 476، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 419، والرازي في تفسيره: ج 10 ص 74. (5) رواه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 419، وأخرجه السيوطي بسنده عنه من طرق عديدة في الدر المنثور: ج 2 ص 499 - 500. (6) قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: ج 3 ص 182 - 183: وعند المعتزلة أن كل معصية توعد الله تعالى عليها بالعقاب أو ثبت ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو كان بمنزلة ذلك أو أكبر منه فهو كبير، وما ليس ذلك حكمه فانه يجوز أن يكون صغيرا ويجوز أن يكون كبيرا ولايجوز أن يعين الله الصغائر لأن في تعيينها الاغراء بفعلها... الى أن قال (قدس سره): فعلى مذهب المعتزلة: من اجتنب الكبائر وواقع الصغائر فان الله يكفر الصغائر عنه ولا يحسن مع اجتناب الكبائر عندهم المؤاخذة بالصغائر، ومتى آخذه بها كان ظالما. وعندنا: أنه يحسن من الله تعالى أن يؤاخذ العاصي بأية معصية فعلها، ولا يجب عليه اسقاط عقاب معصية لمكان اجتناب ما هو أكبر منها، غير أنا نقول: انه تعالى وعد تفضلا منه أن من اجتنب الكبائر فإنه يكفر عنه ما سواها بأن يسقط عقابها عنه تفضلا، ولو آخذه بها لم يكن ظالما. (7) وهي قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 232. (*)
[ 394 ]
تمني * (ما فضل الله به) * بعض الناس * (على بعض) * من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله العالم بأحوال العباد، فواجب على الخلق أن يرضوا بقسمته الصادرة عن الحكمة والعلم بالمصلحة * (للرجال نصيب مما اكتسبوا) * جعل سبحانه ما قسمه لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرفه من مصالحه كسبا له * (وسلوا الله من فضله) * ولا تحسدوا غيركم بما أوتي من الفضل ولكن اسألوا الله من فضله الذي لا يغيض، قال سفيان بن عيينة (1): لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي (2). * (ولكل جعلنا موا لى مما ترك الوا لدا ن والاقربون والذين عقدت أيمنكم فاتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا (33) الرجال قوا مون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموا لهم فالصلحت قنتت حفظت للغيب بما حفظ الله والتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) * (34) سورة النساء / 33 و 34 أي: * (ولكل) * واحد من الرجال والنساء * (جعلنا موا لى) * أي: ورثة هم أولى بميراثه، يرثون * (مما ترك الوا لدا ن والاقربون) * الموروثون * (والذين عقدت أيمنكم) * أي: ويرثون مما ترك الذين عقدت أيمانكم، لأن لهم ورثة هم أولى (1) سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي المكي، محدث أهل مكة، كان حافظا واسع العلم، وكان أعور، قال يحيى بن سعيد القطان: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شئ، مات سنة 198 ه ودفن في مكة. (ميزان الاعتدال: ج 2 ص 170، الأعلام للزركلي: ج 3 ص 105). (2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 421، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 5 ص 165. (*)
[ 395 ]
بميراثهم فيكون عطفا على * (الوا لدان) * ويكون المضمر (1) في * (فاتوهم) * للموالي، ويجوز أن يكون في * (ترك) * ضمير * (لكل) * و * (الوا لدان والاقربون) * تفسيرا ل * (موا لى) * كأنه قيل: من هم ؟ فقيل: * (الوا لدان والاقربون) *، و * (الذين عقدت أيمنكم) * مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله: * (فاتوهم نصيبهم) * والمراد ب * (الذين عقدت أيمنكم) * موالي الموالاة، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ بقوله: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض) * (2) (3) وقرئ: " عاقدت " (4) و " عقدت " (5)، ومعنى: " عاقدت أيمانكم " عاقدتهم أيديكم وما سحتموهم، ومعنى " عقدت ": عقدت عهودهم أيمانكم * (الرجال قوا مون على النساء) * يقومون عليهن بالأمر والنهي كما تقوم الولاة على رعاياهم ولذلك سموا قواما، بسبب تفضيل الله * (بعضهم) * وهم الرجال * (على بعض) * يعني: النساء، وقد ذكر في تفضيل الرجال أشياء: منها العقل والحزم والجهاد والخطبة والأذان وعدد الأزواج والطلاق وغير ذلك * (وبما أنفقوا) * أي: وبسبب ما أنفقوا في نكاحهن من الأموال يعني: المهر والنفقة * (فالصلحت قنتت) * أي: مطيعات لله قائمات بما عليهن للأزواج * (حفظت للغيب) * خلاف الشهادة، أي: راعيات لحقوق (1) في نسخة: الضمير. (2) الأنفال: 75، الأحزاب: 6. (3) انظر كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة: ص 43، والناسخ والمنسوخ للزهري: ص 19، والناسخ والمنسوخ لابن حزم: ص 34. (4) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 233، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 84. (5) وهي قرأءة أم سعد بنت سعد بن الربيع ومبشر بن عبيد وحمزة برواية علي بن كبشة. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 32، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 238. (*)
[ 396 ]
أزواجهن وحرمتهم في الفروج والبيوت والأموال في حال غيبتهم * (بما حفظ الله) * بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج في كتابه، أو بما حفظهن الله إذ وفقهن لحفظ الغيب فتكون * (ما) * مصدرية، وقرئ: " بما حفظ الله " بالنصب (1) على أن " ما " موصولة، أي: بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانة الله وهو التعفف والشفقة على الرجال. وفي الحديث: " خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها " (2) وتلا الآية. * (والتى تخافون نشوزهن) * أي: عصيانهن، وأصل النشوز: الانزعاج والترفع على الزوج * (فعظوهن) * أولا بالقول والنصيحة * (واهجروهن) * ثانيا * (في المضاجع) * والمراقد وهي كناية عن الجماع، وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع (3) * (واضربوهن) * إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران ضربا غير مبرح لا يقطع لحما ولا يكسر عظما، وعن الباقر (عليه السلام): أنه الضرب بالسواك (4) * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) * أي: أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتجني وتوبوا عليهن بعد رجوعهن إلى الطاعة وترك النشوز * (إن الله كان عليا كبيرا) * فاحذروه ولا تكلفوهن مالايطقن. سورة النساء / 35 و 36 * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدآ إصلحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) * (35) (1) قرأه أبو جعفر المدني. راجع التبيان: ج 3 ص 189، وتفسير البغوي: ج 1 ص 422، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 240. (2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 506 مرسلا. (3) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 69، وعنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 422. (4) التبيان: ج 3 ص 191. (*)
[ 397 ]
الأصل " شقاقا بينهما " فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع، والضمير للزوجين وإن لم يجر ذكرهما لدلالة ذكر الرجال والنساء عليهما (1) * (فابعثوا حكما) * أي: رجلا رضي * (من أهله وحكما من أهلها) * كذلك، يصلح كلاهما لحكومة العدل والإصلاح بينهما، والألف في * (إن يريدآ إصلحا) * ضمير الحكمين وفي * (يوفق الله بينهما) * للزوجين، أي: إن قصدا إصلاح ذات البين بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن نيتهما الوفاق والألفة بين الزوجين، وقيل: الضميران للحكمين يوفق الله بينهما حتى يتفقا على الكلمة الواحدة (2)، وروى أصحابنا: أن للحكمين أن يجمعا بينهما إن رأيا ذلك صلاحا، وليس لهما أن يفرقا بينهما إلا بعد أن يستأمراهما ويرضيا بذلك (3). * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسنا وبذي القربى واليتمى والمسكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمنكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ ءاتهم الله من فضله وأعتدنا للكفرين عذابا مهينا) * (37) * (وبالوالدين إحسنا) * بمعنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا * (وبذي القربى) * وبكل من بينكم وبينه قرابة * (والجار ذى القربى) * أي: الذي جواره قريب * (والجار الجنب) * الذي جواره بعيد، وقيل معناهما: الجار القريب النسب والجار (1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 508. (2) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي. راجع التبيان: ج 3 ص 192. (3) انظر الكافي: ج 6 ص 146 و 147 باب الحكمين والشقاق ح 2 و 5، وعنه في كنز الدقائق: ج 2 ص 445 و 446. (*)
[ 398 ]
الجنب الأجنبي (1) * (والصاحب بالجنب) * هو الذي يصحب الإنسان بأن يحصل بجنبه بكونه رفيقه في سفره أو جارا له ملاصقا أو شريكا أو قاعدا إلى جنبه في مجلس، فعليه أن يرعى حقه * (وابن السبيل) * المسافر المنقطع به، وقيل: هو الضيف (2) (3)، والمختال: التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه، والفخور: الذي يفخر بكثرة ماله * (الذين يبخلون) * بدل من قوله: * (من كان مختالا فخورا) * أو نصب على الذم أو رفع على الذم أيضا أو يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون كذا ملومون مستحقون للعقوبة (4)، أي: يبخلون بما عندهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا كما جاء في المثل: " أبخل من الضنين بنائل غيره " (5)، * (ويكتمون مآءاتيهم الله من فضله) *: الغنى، بالتفاقر إلى الناس، وقيل: هم اليهود كتموا صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6). * (والذين ينفقون أموا لهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيطن له قرينا فسآء قرينا (38) وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما) * (39) سورة النساء / 39 و 40 * (رئآء الناس) * أي: للمراءاة والفخار وليقال: إنهم أسخياء لا لوجه الله، وقيل: هم مشركو قريش أنفقوا أموالهم في عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (7) * (فسآء قرينا) * إذ (1) قاله ابن عباس ومجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 485، والتبيان: ج 3 ص 194. (2) في نسخة زيادة: وما ملكت أيمانكم: المملوك. (3) قاله الضحاك وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 486، والتبيان: ج 3 ص 195. (4) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 509. (5) راجع مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 120، وجمهرة الأمثال للعسكري: ج 1 ص 248. (6) قاله مجاهد وقتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 487. (7) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 511. (*)
[ 399 ]
حملهم على البخل والرئاء وكل شر وفساد، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يكون الشيطان مقرونا بهم في النار * (وماذا عليهم) * أي: أي شئ عليهم من الوبال والتبعة في الإيمان والإنفاق في سبيل الله، وهذا توبيخ لهم وتهجين وإلا فإن المنفعة كل المنفعة في ذلك * (وكان الله بهم عليما) * وعيد لهم. * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * (40) الذرة: النملة الصغيرة، وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء ذرة (1)، وفي هذا دلالة على أنه لو نقص من الأجر أدنى شئ أو زيد على المستحق من العقاب لكان ظلما * (وإن تك حسنة) * أي: وإن تك مثقال الذرة حسنة، وإنما أنث لكونه مضافا إلى مؤنث، وقرئ: " حسنة " بالرفع (2) على " كان " التامة * (يضعفها) * أي: يضاعف ثوابها، * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * أي: ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما، وسماه أجرا لأنه تابع للأجر، وقرئ: " يضعفها " بالتشديد (3). * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) * (42) (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 511 وقال: وعن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. (2) قرأه الحسن وابن كثير ونافع. راجع تفسير السمرقندي: ج 1 ص 355، والتبيان: ج 3 ص 199، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 251. (3) وهي قراءة ابن كثير وابن عامر. راجع التبيان: ج 3 ص 200. (*)
[ 400 ]
* (فكيف) * يصنع هؤلاء الكفار * (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم * (وجئنا بك) * يا محمد * (على هؤلاء) * يعني: قومه * (شهيدا) * والمعنى: أن الله سبحانه يستشهد يوم القيامة كل نبي على أمته فيشهد لهم وعليهم. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله) ففاضت عيناه (1)، فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة فماذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه من الانتهاء عن كل ما يستحيى منه على رؤوس الأشهاد ! * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى) * من التسوية، وقرئ: " لو تسوى " بحذف التاء (2) من تتسوى، و " تسوى " بإدغام التاء في السين (3)، يقال: سويته فتسوى، والمعنى: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، وقيل: يودون لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما * (تسوى) * بالموتى (4)، * (ولا يكتمون الله حديثا) * ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. سورة النساء / 43 * (يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون ولاجنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) * (43) (1) رواه عنه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 429، وأخرجه السيوطي بسنده عنه في الدر المنثور: ج 2 ص 541. (2) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 376. (3) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 234، وكتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 376، والتبيان ج 3 ص 202. (4) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 512. (*)
[ 401 ]
أي لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم نشاوى، وقيل: معناه: * (لا تقربوا) * مواضع * (الصلوة) * وهي المساجد (1) كقوله (عليه السلام): " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " (2)، وقيل: هو سكر النوم وغلبة النعاس خاصة (3)، وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام) (4) * (ولاجنبا) * عطف على قوله: * (وأنتم سكرى) * لأن محل الجملة مع الواو نصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولاجنبا، لأن الجنب اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب فاستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث * (إلا عابرى سبيل) * أي: لا تقربوا الصلاة في أحوال الجنابة إلا إذا كنتم مسافرين فيجوز لكم أن تؤدوها بالتيمم فإن التيمم لا يرفع حكم الجنابة، فيكون قوله: * (عابرى سبيل) * منصوبا على الحال، وعبور السبيل عبارة عن السفر، فكأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين * (حتى تغتسلوا) * إلا في حال كونكم مسافرين، ومن فسر الصلاة بالمسجد قال: إن معناه لا تقربوا مواضع الصلاة جنبا إلا مجتازين فيها حتى تغتسلوا من الجنابة. * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * أراد سبحانه أن يرخص للذين تجب عليهم الطهارة في التيمم عند عدم الماء، فخص أولا من بينهم مرضاهم ومسافريهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه الطهارة وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم ما يتوصل به إلى الماء أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر، فلذلك نظم في سلك واحد بين المريض والمسافر وبين المحدث والجنب وإن كان المرض والسفر سببين من (1) قاله ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه ذهب الشافعي. راجع تفسير الرازي: ج 10 ص 108. (2) سنن البيهقي: ج 10 ص 103. (3) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 489، والتبيان: ج 3 ص 206. (4) العياشي: ج 1 ص 242 ح 134. (*)
[ 402 ]
أسباب الرخصة والحدث سببا لوجوب الوضوء والجنابة سببا لوجوب الغسل، ومن قرأ: " أو لمستم " (1) فإن اللمس والملامسة بمعنى الجماع، قال ابن عباس: سمى الله الجماع لمسا كما يسمى المطر سماء (2)، و * (الغائط) * أصله المطمئن من الأرض، وكانوا يتبرزون هناك ثم كثر ذلك حتى كنوا بالغائط عن الحدث. والتيمم: أصله القصد، وقد تخصص في الشرع بقصد الصعيد لمسح أعضاء مخصوصة، وقال الزجاج (3): الصعيد: وجه الأرض ترابا كان أو صخرا لاتراب عليه (4). ولو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبي حنيفة (5)، وهو المروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) (6) * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * وهو ضربة واحدة للوجه واليدين إذا كان بدلا من الوضوء، وضربتان: إحداهما للوجه والأخرى لليدين إذا كان بدلا من الغسل، ومسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف ومسح اليدين من الزندين إلى رؤوس الأصابع. سورة النساء / 44 - 46 * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يشترون الضللة (1) قرأه حمزة والكسائي والمفضل. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 234، وكتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 377. (2) راجع تفسير ابن عباس: ص 70، وعنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 491. (3) هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو اسحاق الزجاج، النحوي اللغوي المفسر، أقدم أصحاب المبرد قراءة عليه، له من الكتب: معاني القرآن، الاشتقاق، العروض، مختصر النحو، توفي سنة 311 ه. (الفهرست لابن النديم: ج 1 ص 60 - 61، معجم الادباء: ج 1 ص 130 - 151). (4) معاني القرآن وإعرابه: ج 2 ص 56، وعنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 207. (5) المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 109، وراجع المحلى لابن حزم: ج 2 ص 160، والخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 134 وقال: وبه قال مالك. (6) العياشي: ج 1 ص 244 ح 144 و 145. (*)
[ 403 ]
ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدآئكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ورا عنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) * (46) * (ألم تر) * من رؤية القلب، وعدي ب " إلى " لأنه بمعنى: ألم تنظر إليهم أو ألم ينته علمك إليهم * (أوتوا نصيبا من الكتب) * أعطوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود * (يشترون الضللة) * يستبدلونها بالهدى، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح المعجزات الدالة على صدق محمد (صلى الله عليه وآله) والآيات الموضحة عن صحة نبوته، وأنه النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل * (ويريدون أن تضلوا) * أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، فكأنهم إذا ضلوا أحبوا أن يضل (1) غيرهم معهم * (والله أعلم) * منكم * (بأعدآئكم) * وقد أخبركم بعداوة هؤلاء لكم فاحذروهم ولا تستشيروهم في أموركم * (وكفى بالله وليا) * فثقوا بولايته ونصرته ولاتبالوا بهم. * (من الذين هادوا) * بيان ل * (الذين أوتوا نصيبا من الكتب) * لأنهم يهود ونصارى، وتوسطت بين البيان والمبين جمل (2) اعتراضية وهي قوله: * (والله أعلم... وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *، ويجوز أن يكون بيانا ل " أعدائكم " أو صلة ل * (نصيرا) * أي: ينصركم من الذين هادوا كقوله: * (ونصرنه من القوم الذين كذبوا) * (3)، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ على تقدير: من الذين هادوا قوم (1) في نسخة: يضلوا. (2) في نسخة: جملة. (3) الأنبياء: 77. (*)
[ 404 ]
* (يحرفون الكلم عن مواضعه) * يعني: يميلونه عنها لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه غيره فقد أمالوه عن موضعه الذي وضعه الله فيه وأزالوه عنه كما حرفوا " أسمر ربعة " (1) عن موضعه في التوراة ووضعوا مكانه " آدم طوال ". * (و) * قولهم (2): * (اسمع غير مسمع) * معناه: اسمع منا مدعوا عليك ب " لاسمعت " أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، فيكون * (غير مسمع) * حالا من المخاطب، * (ورا عنا) * مر معناه * (ليا بألسنتهم) * فتلا بها وتحريفا، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون * (را عنا) * موضع * (انظرنا) *، و * (غير مسمع) * موضع " لاأسمعت مكروها " أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا * (ولو أنهم قالوا سمعنا) * قولك * (وأطعنا) * أمرك * (واسمع) * منا * (وانظرنا لكان خيرا لهم) * والضمير في * (لكان) * يرجع إلى * (أنهم قالوا) * لأن المعنى ولو ثبت قولهم: * (سمعنا وأطعنا) * لكان قولهم ذلك * (خيرا لهم وأقوم) * أي: أعدل وأسد * (ولكن لعنهم الله) * أي: أبعدهم عن رحمته * (بكفرهم) * أي: بسبب كفرهم * (فلا يؤمنون إلا) * إيمانا * (قليلا) * ضعيفا لا إخلاص فيه، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا. * (يأيها الذين أوتوا الكتب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنآ أصحب السبت وكان أمر الله مفعولا) * (47) سورة النساء / 47 و 48 أي: صدقوا * (بما نزلنا) * ه من القرآن والأحكام على محمد (صلى الله عليه وآله) * (مصدقا لما (1) وهذه إحدى صفات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) المذكورة في التوراة وقد حرفوها. (2) في نسخة: قوله. (*)
[ 405 ]
معكم) * من التوراة * (من قبل أن نطمس وجوها) * أي: نمحو آثارها وتخطيط صورها من عين وحاجب وأنف * (فنردها على أدبارها) * فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها، أو يريد ننكس وجوها إلى خلف وأقفاءها إلى قدام، أو يريد بالطمس التغير وبالوجوه الوجهاء والرؤساء، أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم (1) * (أو نلعنهم) * الضمير يرجع إلى أصحاب الوجوه أو الوجهاء، أي: نخزيهم بالمسخ * (كما) * مسخنا * (أصحب السبت) * وهذا الوعيد لليهود كان مشروطا بالإيمان، فلما آمن جماعة منهم كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعفة (2) ومخيريق (3) وغيرهم رفع العذاب عن غيرهم، وقيل: هو منتظر ولابد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة (4) * (وكان أمر الله مفعولا) * فلابد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذا لك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) * (48) هذه الآية أرجى آية في القرآن (5)، لأن فيها إدخال جميع الذنوب التي هي دون الشرك الداخلة تحت عموم قوله: * (ما دون ذا لك) * في مشية الغفران، ألا ترى (1) راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 438 - 439، والكشاف: ج 1 ص 518 - 519. (2) في نسخة: سقفة، وفي مجمع البيان: شعبة. (3) في نسخة: مخريق، وفي اخرى: محيزيق، والصحيح ما اثبتناه في المتن: مخيريق النضري صحابي، كان من علماء اليهود واغنيائهم، أسلم وأوصى بأمواله للنبي، توفي سنة 3 ه. (الاعلام للزركلي: ج 8 ص 75). (4) حكاه البغوي في تفسيره: ج 1 ص 439، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 519. (5) وجاءت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية ". رواها (قدس سره) في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 57. (*)
[ 406 ]
أنه سبحانه نفى غفران الشرك أولا وقد حصل الإجماع على أنه سبحانه يغفره بالتوبة ثم أثبت غفران ما دون الشرك من المعاصي، فينبغي أن يكون المراد غفران من لم يتب منها ليخالف المنفي المثبت، ثم علق المشية بالمغفور لهم فقال: * (لمن يشآء) * أي: يغفر الذنوب التي هي دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين ليكون العبد واقفا بين الخوف والرجاء خارجا عن الإغراء، إذ الإغراء إنما يحصل بالقطع على الغفران دون الرجاء للغفران المعلق بالمشية. وقال جار الله: إن المنفي والمثبت في الآية موجهان إلى قوله: * (لمن يشآء) * والمراد بالأول: من لم يتب، وبالثاني: من تاب (1). وهذا الذي قاله غاية في الفساد والبطلان، لأنه يكون معنى الآية إذ ذاك أنه سبحانه لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو غير التائب ويغفر لمن تاب منه، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء وهو التائب ولا يغفر لمن لم يتب منه، فيصير المنفي والمثبت - كما ترى - سواء في الحكم والمعنى ! ! حاشا كلام الله الذي بهر العقول بفصاحته عن مثل هذه النقيصة التي يربأ بكلام كل عاقل عنها، على أن التوبة إذا حصلت أوجبت عنده إسقاط العقاب فكيف تعلق به (2) المشية ؟ وهل يستجيز عاقل أن يقول: أنا أقضي الدين إن شئت أو لمن شئت ؟ جل ربنا عن مثله وتقدس، اللهم لك الحمد على تأييدك وتسديدك * (ومن يشرك بالله فقد افترى) * أي: ارتكب * (إثما عظيما) * وهو مفتر في زعمه (3) أن العبادة يستحقها غير الله سبحانه. سورة النساء / 49 - 51 * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به (1) الكشاف: ج 1 ص 519 - 520. (2) في بعض النسخ: بها. (3) في بعض النسخ: قوله. (*)
[ 407 ]
إثما مبينا) * (50) * (الذين يزكون أنفسهم) * هم اليهود والنصارى قالوا: * (نحن أبنؤا الله وأحبؤه) * (1)، * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى) * (2) ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزيادة الطاعة والزلفى عند الله * (بل الله يزكى من يشآء) * إيذان بأن تزكية الله هي التي يعتد بها دون تزكية المرء نفسه، لأنه سبحانه العالم بمن هو أهل التزكية * (ولا يظلمون فتيلا) * الضمير يرجع إلى * (الذين يزكون أنفسهم) * أي: لا يظلمون في تعذيبهم على تزكيتهم أنفسهم مقدار فتيل، وهو ما يكون في شق النواة، أو يرجع إلى * (من يشآء) * أي: يثابون ولا ينقص من ثوابهم * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * في زعمهم أنهم أزكياء عند الله * (وكفى) * بزعمهم هذا * (إثما مبينا) * أي: بينا ظاهرا من بين سائر آثامهم. * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) * (52) الجبت: كل ما عبد من دون الله، والطاغوت: الشيطان، روي: أن حي ابن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا مع جماعة من اليهود إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال قريش لهم: أنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا، فهذا (1) المائدة: 18. (2) البقرة: 111. (*)
[ 408 ]
إيمانهم * (بالجبت والطغوت) * لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا الشيطان فيما فعلوا، وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد ؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد ؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، قال: ومادينكم ؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني... وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا (1) * (أولئك الذين لعنهم الله) * أبعدهم الله من رحمته وخذلهم * (ومن يلعن) * - ه * (الله فلن تجد له نصيرا) * في الدنيا والآخرة. * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على مآءاتبهم الله من فضله فقد ءاتينآ ءال إبرا هيم الكتب والحكمة وءاتينهم ملكا عظيما (54) فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) * (55) سورة النساء / 54 - 57 وصف سبحانه اليهود بالبخل والحسد وهما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن تكون له نعمة غيره وزوالها عنه و * (أم) * هذه منقطعة والهمزة لإنكار أن يكون * (لهم نصيب من الملك) * أي: ولو كان لهم نصيب من الملك * (فإذا لا يؤتون) * أحدا (2) مقدار نقير، وهو النقرة في ظهر النواة، والملك: إما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله كما في قوله: * (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لامسكتم خشية الانفاق) * (3)، * (أم يحسدون) * بل أيحسدون * (الناس) * يعني: رسول الله والمؤمنين * (على مآءاتيهم الله من فضله) * من النبوة والنصرة وزيادة العز كل يوم * (فقد ءاتينآ ءال إبرا هيم) * هذا إلزام لهم بما عرفوه من أن الله تعالى آتى آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد * (الكتب) * (1) رواها البغوي في تفسيره: ج 1 ص 441، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 521. (2) في نسخة زيادة: من الناس. (3) الاسراء: 100. (*)
[ 409 ]
وهو التوراة والإنجيل * (والحكمة) * وهي ماأعطوا من العلم * (وءاتينهم ملكا عظيما) * وهو ملك يوسف وداود وسليمان * (فمنهم) * أي: من اليهود * (من ءامن) * بما ذكر من حديث آل إبراهيم * (ومنهم من صد عنه) * أنكره مع علمه بصحته، أو يكون المعنى: فمن اليهود من آمن برسول الله ومنهم من أنكر نبوته، أو فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر كقوله تعالى: * (فمنهم مهتد وكثير منهم فسقون) * (1). * (إن الذين كفروا بايتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت سندخلهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها أبدا لهم فيها أزوا ج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) * (57) * (سوف نصليهم) * أي: نلزمهم * (نارا) * ونلقيهم فيها ونحرقهم بها * (بدلنهم جلودا غيرها) * أبدلناهم إياها * (ليذوقوا العذاب) * أي: ليجدوا ألم العذاب (2) * (إن الله كان عزيزا) * لا يمتنع عليه إنجاز ما وعده أو توعد به * (حكيما) * لا يعذب إلا من يستحقه * (لهم فيها أزوا ج مطهرة) * من الحيض والنفاس ومن جميع الدنايا والأدناس * (وندخلهم ظلا ظليلا) * أي: دائما لا تنسخه الشمس، وهو وصف اشتق من لفظ الظل كما يقال: يوم أيوم وليل أليل وداهية دهياء. * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامنت إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا (1) الحديد: 26. (2) في نسخة: العقاب. (*)
[ 410 ]
بصيرا (58) يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذا لك خير وأحسن تأويلا) * (59) قيل: إن الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة من أمانات الله التي هي أوامره ونواهيه، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا فيه (1)، وقيل: الخطاب لولاة الأمر أمرهم الله بأداء * (الامنت) * والحكم * (بالعدل) * ثم أمر الرعية في الآية الأخرى بأن يسمعوا لهم ويطيعوا، ثم أكد ذلك بقوله: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر) * (2)، وروي عنهم (عليهم السلام): أنه أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى ولي الأمر بعده، وقالوا: " إن الآية الأولى لنا والآية الأخرى لكم " (3). وقوله: * (نعما) * أي: نعم شيئا * (يعظكم به) * فتكون " ما " نكرة منصوبة موصوفة ب * (يعظكم به) *، أو نعم الشئ الذي يعظكم به فتكون " ما " مرفوعة موصولة والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعما يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل (4). سورة النساء / 59 * (وأولى الامر) * هم أمراء الحق وأئمة الهدى الذين يهدون الخلق ويقضون بالحق، لأنه لا يعطف على الله ورسوله في وجوب الطاعة ولايقرن بهما في ذلك إلا من هو معصوم مأمون منه القبيح أفضل ممن أمر بطاعته وأعلم، ولايأمرنا الله عزاسمه بالطاعة لمن يعصيه ولا بالانقياد لوال علة حاجتنا إليه موجودة فيه * (فإن (1) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 523. (2) قاله زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب، وهو اختيار الجبائي، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام). راجع التبيان: ج 3 ص 234. (3) التبيان: ج 3 ص 234، وفيه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام). (4) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 523. (*)
[ 411 ]
تنزعتم في شئ) * أي: فإن اختلفتم في شئ من أمور دينكم * (فردوه إلى الله والرسول) * أي: ارجعوا فيه إلى الرسول في حياته وإلى من أمر بالرجوع إليه بعد وفاته في قوله: " إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي - أهل بيتي - وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1)، فقد صرح (عليه السلام) أن في التمسك بهما الأمان من الضلال، فالرد إلى أهل بيته العترة الملازمة كتاب الله الغير المخالفة له بعد وفاته مثل الرد إليه (صلى الله عليه وآله) في حياته، لأنهم الحافظون لشريعته القائمون مقامه في أمته، فثبت أن * (أولى الامر) * هم الأئمة (عليهم السلام) من آل محمد (صلى الله عليه وآله) * (ذا لك) * إشارة إلى الرد إلى الله والرسول * (خير) * لكم * (وأحسن تأويلا) * أي: وأحمد عاقبة. * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطن أن يضلهم ضللا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ (1) تواتر هذا الحديث في كتب المسلمين وخاصة عن طرق العامة، اليك بعضها: الخصائص للنسائي: ص 21، مصابيح السنة للبغوي: ج 4 ص 185 ح 4800 وص 190 ح 4816، تهذيب تاريخ ابن عساكر: ج 2 ص 36 ح 536 وص 46 ح 547، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 148 وج 5 ص 182 و 189، فضائل الصحابة: ج 2 ص 603 ح 1035 وص 1873 ح 2408 بعدة طرق، رياض الصالحين للنووي: ص 141 و 255، الصواعق المحرقة لابن حجر العسقلاني: باب 11 فصل 1 ص 149، مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 163 - 164، السيرة الحلبية: ج 3 ص 336، الجامع الصغير للسيوطي: ج 1 ص 244 ح 1608، العقد الفريد لابن عبدربه: ج 4 ص 126، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 112، ذخائر العقبى: ص 16، الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 2 ص 466، الدر المنثور: عند قوله: * (واعتصموا بحبل الله) * آية: 103 من آل عمران، تفسير الرازي: ج 8 ص 163، تفسير ابن كثير: ج 4 ص 122 من سورة الشورى. (*)
[ 412 ]
أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنفقين يصدون عنك صدودا) * (61) كان بين رجل من المنافقين وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، وقال المنافق: بل بيني وبينك كعب ابن الأشرف فنزلت (1). سمى الله كعب بن الأشرف طاغوتا لإفراطه في الطغيان وفي عداوة رسول الله (عليه السلام)، أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه، أو جعل سبحانه اختيار التحاكم إليه على التحاكم إلى رسول الله تحاكما إلى الشيطان بدليل قوله: * (وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطن أن يضلهم ضللا بعيدا) *. * (فكيف إذا أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسنا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله مافى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * (63) سورة النساء / 64 و 65 * (فكيف) * يكون حالهم * (إذا أصبتهم مصيبة) * أي: نالتهم من الله تعالى عقوبة * (بما قدمت أيديهم) * من التحاكم إلى غيرك وإظهار السخط لحكمك * (ثم جاءوك) * فيعتذرون إليك و * (يحلفون) * ما * (أردنا) * بالتحاكم إلى غيرك * (إلا إحسنا) * وهو التخفيف عنك * (وتوفيقا) * بين الخصمين بالتوسط، ولم نرد المخالفة لك والتسخط لحكمك * (أولئك الذين يعلم الله مافى قلوبهم) * من الشرك والنفاق * (فأعرض عنهم) * أي: لاتعاقبهم لمصلحة في استبقائهم * (وعظهم) * بلسانك * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، أي: خوفهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، ويجوز أن يكون المعنى: وقل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم فإن النصيحة في (1) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 134 عن الشعبي، وتفسير البغوي: ج 1 ص 446. (*)
[ 413 ]
السر أنجع (1). * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * (65) أي: ولم نرسل رسولا من رسلنا قط * (إلا ليطاع بإذن الله) * أي: بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عن الله، فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * بالتحاكم إلى الطاغوت * (جاءوك) * تائبين مما ارتكبوه * (فاستغفروا الله) * من ذلك بالإخلاص * (واستغفر لهم الرسول) * ولم يقل: " واستغفرت لهم " لكنه عدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيما لشأن الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان * (لوجدوا الله توابا رحيما) * لعلموه توابا، أي: لتاب عليهم * (فلا وربك) * معناه: فوربك، و * (لا) * مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في * (لئلا يعلم) * (2) لتأكيد وجوب (3) العلم، و * (لا يؤمنون) * جواب القسم * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * فيما اختلف بينهم ومنه الشجر لتداخل أجزائه * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا) * أي: ضيقا، أي: لا يضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكا (4)، لأن الشاك في ضيق من أمره * (ويسلموا) * أي: وينقادوا ويذعنوا لقضائك من قولك: سلم لأمر الله وأسلم له * (تسليما) * تأكيد للفعل بمنزلة تكريره. (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 527. (2) الحديد: 29. (3) في نسخة زيادة: معنى. (4) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 503. (*)
[ 414 ]
قيل: نزلت في شأن الزبير (1) وحاطب بن أبي بلتعة (2)، فإنهما اختصما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شراج (3) من الحرة كانا يسقيان بها النخل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب حاطب وقال: لأن كان ابن عمتك، فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك " (4) كان قد أشار على الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، فلما أحفظ رسول الله استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من ديركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لاتينهم من لدنآ أجرا عظيما (67) ولهدينهم صرا طا مستقيما) * (68) سورة النساء / 66 - 70 أي: * (ولو) * أوجبنا * (عليهم) * مثل ماأوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم * (أو) * خروجهم * (من) * ديارهم * (ما فعلوه إلا) * ناس * (قليل منهم) * وهذا (1) هو الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي، امه صفية عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أسلم وله 12 سنة، شهد بدرا واحدا، وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم نكث بيعته وخرج عليه مع طلحة وعائشة يوم الجمل، وقد قتل فيها، قتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع قرب البصرة. (تهذيب التهذيب: ج 3 ص 318، الأعلام للزركلي: ج 3 ص 43، معجم رجال الحديث للخوئي: ج 7 ص 216). (2) هو حاطب بن عمرو بن عمير اللخمي، وكان حليفا للزبير بن العوام، وكان أحد فرسان قريش وشعرائها في الجاهلية، وهو الذي أرسله النبي (صلى الله عليه وآله) الى المقوقس ملك الاسكندرية، توفي في خلافة عثمان سنة ثلاثين للهجرة. (اسد الغابة: ج 1 ص 360، الاصابة في تمييز الصحابة: ج 1 ص 300). (3) الشرج: مسيل الماء من الحرة الى السهل، والجمع شراج وشروج. (الصحاح: مادة شرج). (4) قاله عبد الله بن الزبير وعروة وأم سلمة، وذهب إليه عمر بن شبة والواقدي وروي عن الباقر (عليه السلام). راجع التبيان: ج 3 ص 245، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 503. (*)
[ 415 ]
توبيخ (1) بليغ، والرفع على البدل من الواو في * (فعلوا) *، وقرئ: " إلا قليلا " بالنصب (2) على أصل الاستثناء أو على: إلا فعلا قليلا * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * من اتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والانقياد له والرضا بحكمه * (لكان خيرا لهم) * عاجلا وآجلا * (وأشد تثبيتا) * لإيمانهم * (وإذا) * جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت ؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا * (لاتينهم من لدنآ أجرا عظيما) * لأن " إذا " جواب وجزاء * (ولهدينهم) * أي: وفقناهم لازدياد الخيرات. * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصلحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذا لك الفضل من الله وكفى بالله عليما) * (70) رغب الله المؤمنين في طاعة الله ورسوله حيث وعدهم مرافقة * (النبين) * في أعلى عليين * (والصديقين) * الذين صدقوا في أقوالهم وأفعالهم * (والشهداء) * المقتولين في الجهاد * (والصلحين) * الذين صلحت حالهم (3) واستقامت طريقتهم * (وحسن أولئك رفيقا) * فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا ! والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفردا بين (4) به الجنس في باب التمييز * (ذا لك) * مبتدأ و * (الفضل) * صفته و * (من الله) * الخبر، ويجوز أن يكون * (الفضل من الله) * خبر المبتدأ والمعنى: أن ما أعطي (1) في نسخة زيادة: لهم. (2) قرأه ابي وابن أبي اسحاق وعيسى بن عمر وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 377، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 84، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 285، وفي التبيان: ج 3 ص 246: وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. (3) في بعض النسخ: حالتهم. (4) في نسخة: يبين. (*)
[ 416 ]
المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة أقرب عباد الله إلى الله تفضل عليهم من الله تبعا لثوابهم (1). * (يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصبتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصبكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * (73) سورة النساء / 72 - 75 الحذر والحذر بمعنى، يقال: أخذ حذره: إذا تيقظ وتحفظ من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يحفظ بها نفسه، أي: احذروا واحترزوا من العدو، وعن الباقر (عليه السلام): " خذوا أسلحتكم " (2) فسمى الأسلحة حذرا لأن بها يتقى المحذور * (فانفروا) * إلى قتال عدوكم، أي: اخرجوا إلى الجهاد إما * (ثبات) * أي: جماعات متفرقة وإما * (جميعا) * مجتمعين كوكبة (3) واحدة ولا تتخاذلوا، واللام في * (لمن) * للابتداء، وفي * (ليبطئن) * جواب قسم محذوف تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن، والقسم وجوابه صلة " من "، والخطاب لعسكر النبي (صلى الله عليه وآله)، والمبطئون هم المنافقون، ومعنى * (ليبطئن) *: ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد، وبطأ بمعنى أبطأ، ويقال: ما بطأ بك (4) أي: أخرك عنا، والتبطئة: التأخر عن الأمر فيعدى (5) بالباء، ويجوز أن يكون منقولا من بطوء فيكون المعنى: ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو، * (فإن أصبتكم مصيبة) * من قتل أو هزيمة * (قال) * قول الشامت: * (قد أنعم الله (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 531. (2) التبيان: ج 3 ص 253. (3) الكوكبة: الجماعة. (القاموس المحيط: مادة كوكب). (4) في نسخة زيادة: فتعدى بالباء. (5) في نسخة: فيتعدى. (*)
[ 417 ]
على إذ لم أكن معهم شهيدا) * أي: حاضرا في القتال فكان يصيبني ما أصابهم، و إن * (أصبكم فضل من الله) * من فتح أو غنيمة * (ليقولن... يليتنى) *، وقوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * اعتراض بين الفعل الذي هو * (ليقولن) * وبين مفعوله الذي هو * (يليتنى) * يعني: كأن لم يتقدم له معكم مودة * (فأفوز فوزا عظيما) * أي: أصيب غنيمة وآخذ حظا وافرا منها. * (فليقتل في سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالاخرة ومن يقتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) ومالكم لا تقتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدا ن الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) * (75) * (يشرون) * أي: يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية ويستبدلونها بها، ثم وعد المقاتل * (في سبيل الله) * ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم * (ومالكم لا تقتلون في سبيل الله) * أي: أي عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال * (في سبيل الله) * في طاعته وإعزاز دينه وإعلاء كلمته * (والمستضعفين) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مجرورا عطفا على * (سبيل الله) * أي: في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، والثاني: منصوبا على الاختصاص بمعنى: وأختص من (1) سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المؤمنين من أيدي الكفار من أعظم الخيرات وأخص القربات، والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم (1) في بعض النسخ: في. (*)
[ 418 ]
المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم يلقون منهم الأذى، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر وهو محمد (صلى الله عليه وآله)، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أعز النصر، وكانوا قد أشركوا صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء (1)، وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (2). وذكر الظالم وإن كان وصفا للقرية لأنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها، وذكر لإسناده إلى الأهل. * (الذين ءامنوا يقتلون في سبيل الله والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت فقتلوا أولياء الشيطن إن كيد الشيطن كان ضعيفا) * (76) هذا ترغيب للمؤمنين وإخبار بأنهم أولياء الله والله ناصرهم، وأعداءهم * (يقتلون في سبيل) * الشيطان، فلا ولي لهم إلا الشيطان، و * (كيد الشيطن) * للمؤمنين ضعيف وأوهن في جنب كيد الله للكافرين. ودخل * (كان) * هنا ليدل على أن الضعف لازم لكيد الشيطان في جميع الأحوال والأوقات. سورة النساء / 77 * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وءاتوا (1) راجع المبسوط للشيخ الطوسي: ج 1 ص 135 في ذكر صلاة الاستسقاء، والسرائر للحلي: ج 1 باب صلاة الاستسقاء ص 325، والمجموع للنووي: ج 5 ص 72، وفي الحاوي الكبير للماوردي ما لفظه: قال الشافعي: واحب أن تخرج الصبيان ويتنظفوا للاستسقاء... قال الماوردي: لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " لولا مشايخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا " ولأن الصبيان أحق بالرحمة، وأقرب إلى إجابة الدعوة، وقلة ذنوبهم. (2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 534. (*)
[ 419 ]
الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) * (77) * (كفوا أيديكم) * أي: كفوها عن القتال، وكان المسلمون بمكة مكفوفين عن قتال الكفار وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه * (فلما كتب عليهم القتال) * بالمدينة كره فريق منهم ذلك خوفا من القتل والإخطار بالروح * (كخشية الله) * إضافة للمصدر إلى المفعول ومحل الكاف النصب على الحال من الضمير في * (يخشون) * أي: يخشون الناس مثل أهل خشية الله، بمعنى مشبهين لأهل خشية الله * (أو أشد خشية) * من أهل خشية الله، وليس التقدير: يخشون خشية مثل خشية الله، لأن * (أشد خشية) * معطوف عليه، ولا تقول: خشي فلان أشد خشية فتنصب * (خشية) * وأنت تريد المصدر، وإنما تقول: أشد خشية بالجر، وإذا نصبتها كان أشد حالا من الفاعل * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * استمهال إلى وقت آخر فأعلمهم سبحانه أن ما يستمتع به من منافع * (الدنيا قليل) *، * (ولا تظلمون فتيلا) * أي: لاتبخسون أدنى شئ من أجوركم على مشاق المقاتلة فلا ترغبوا عنها. * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) مآأصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلنك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) * (79)
[ 420 ]
* (أينما تكونوا) * من الأماكن يلحقكم * (الموت و) * إن * (كنتم في) * قصور * (مشيدة) * مجصصة أو مطولة في ارتفاع، وقيل: في بروج السماء (1). والحسنة تقع على النعمة والطاعة، والسيئة تقع على البلية والمعصية، قال الله تعالى: * (وبلونهم بالحسنت والسيات لعلهم يرجعون) * (2)، المعنى: وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله، وإن تصبهم بلية من جدب وقحط نسبوها إليك وقالوا: هي * (من عندك) * وبشؤمك (3) كما حكي عن قوم موسى: * (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * (4)، وعن قوم صالح: * (اطيرنا بك وبمن معك) * (5)، وإنما قاله اليهود والمنافقون فرد الله عليهم * (قل كل من عند الله) * يبسط الأرزاق ويقبضها يبتلي بذلك عباده * (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * فيعلموا أن الله هوالباسط والقابض، وأفعاله كلها صادرة عن حكمة وصواب. ثم قال: * (مآأصابك) * يا إنسان خطابا عاما * (من حسنة) * من نعمة وإحسان * (فمن الله) * تفضلا منه وامتنانا وامتحانا * (وما أصابك من سيئة) * أي: بلية ومصيبة * (فمن نفسك) * لأنك السبب فيها بما اكتسبت من الذنوب، ومثله * (ومآأصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) * (6)، * (وأرسلنك للناس) * جميعا * (رسولا) * لست برسول للعرب وحدهم * (وكفى بالله شهيدا) * على ذلك فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك. سورة النساء / 80 - 82 * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلنك عليهم (1) قاله السدي، وحكى هذا القول مكي عن مالك وعن ابن العربي. راجع تفسير القرطبي: ج 5 ص 283. (2) الأعراف: 168. (3) في نسخة: لشؤمك. (4) الأعراف: 131. (5) النمل: 47. (6) الشورى: 30. (*)
[ 421 ]
حفيظا (80) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * (81) * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * لأنه إنما يأمر بما أمر الله سبحانه به وينهى عما نهى الله سبحانه عنه، فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة الله * (ومن تولى) * أي: أعرض ولم يطع * (فما أرسلنك عليهم حفيظا) * بل نذيرا، إن عليك إلا البلاغ وما عليك أن تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم * (ويقولون) * إذا أمرتهم بشئ: * (طاعة) * أي: أمرنا وشأننا طاعة، كأنهم قالوا: قابلنا أمرك بالطاعة * (فإذا برزوا) * أي: خرجوا * (من عندك بيت طائفة) * أي: دبر طائفة منهم ليلا * (غير الذى تقول) * أي: خلاف ما قلت وأمرت به أو خلاف ما قالت وماضمنت من الطاعة، لأنهم نافقوا بما قالوا وأبطنوا خلاف ماأظهروا، والتبييت: إما من البيتوتة لأنها تدبير الأمر بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل، وإما من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسويها * (والله يكتب ما يبيتون) * أي: يثبته في صحائف أعمالهم، وهذا وعيد * (فأعرض عنهم) * وأبق عليهم إلى أن يستقر أمر الإسلام * (وتوكل على الله) * في شأنهم فإن الله ينتقم لك منهم. * (أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا (82) وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطن إلا قليلا) * (83) التدبر: النظر في أدبار الأمور وتأملها، ثم استعمل في كل تأمل، ومعنى تدبر
[ 422 ]
القرآن: تأمل معانيه * (لوجدوا فيه اختلفا كثيرا) * لكان الكثير منه مختلفا متناقضا متفاوتا نظمه ومعانيه، فكان بعضه معجزا وبعضه غير معجز يمكن معارضته وبعضه إخبارا لا يوافق المخبر عنه، فلما تناسب كله فصاحة فاقت (1) قوى الفصحاء وصحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من جهة الله تعالى * (وإذا جاءهم أمر من الامن) * يعني: ناسا من المنافقين، أو من ضعفة المسلمين كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله من أمن وسلامة أو خوف وضرر * (أذاعوا به) * وكانت إذاعتهم مفسدة، وقيل: كانوا إذا وقفوا من رسول الله وأولي الأمر على أمن أي: وثوق بالظفر على الأعداء أو خوف منهم أذاعوه (2) * (ولو ردوه إلى الرسول) * يعني: رسول الله (صلى الله عليه وآله) * (وإلى أولى الامر منهم) * قيل: هم أهل العلم والفقه الملازمون للنبي (عليه السلام) (3)، وقيل: هم أمراء السرايا والولاة (4)، وقال الباقر (عليه السلام): " هم الأئمة المعصومون " (5) * (لعلمه) * أي: لعلم صحته * (الذين يستنبطونه منهم) * من الرسول وأولي الأمر، ولعرفوا هل هو مما يذاع أو لا يذاع، ومعنى سورة النساء / 83 - 85 * (يستنبطونه) *: يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، وعلى هذا فالذين يستنبطونه هم الذين أذاعوا به، وقيل: معناه لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه (6)، * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، (1) في بعض النسخ: فاتت. (2) قاله ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج. راجع التبيان: ج 3 ص 272. (3) قاله الحسن وقتادة وابن جريج وابن أبي نجيح والزجاج. راجع التبيان: ج 3 ص 273، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 511. (4) وهو قول ابن زيد والسدي وأبي علي. راجع التبيان: ج 3 ص 273. (5) العياشي: ج 1 ص 260 ح 205، التبيان: ج 3 ص 273. (6) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 541. (*)
[ 423 ]
وعنهم (عليهم السلام): " فضل الله ورحمته النبي وعلي (عليهما السلام) " (1) * (لاتبعتم الشيطن) * فيما يلقى إليكم من الوساوس الموجبة لضعف اليقين (2) والبصيرة * (إلا قليلا) * منكم وهم أهل البصائر النافذة وذوو الصدق واليقين. * (فقتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84) من يشفع شفعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا) * (85) لما تقدم في الآي قبلها تثبطهم عن القتال قال: * (فقتل في سبيل الله) * إن أفردوك وتركوك وحدك * (لا تكلف) * غير * (نفسك) * وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله سبحانه هو ناصرك لاجنودك، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الجنود، وروي: أن أبا سفيان يوم أحد لما رجع واعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) موسم بدر الصغرى فكره الناس وتثاقلوا حين بلغ الميعاد فنزلت، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) وما معه إلا سبعون، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده (3)، * (وحرض المؤمنين) * وما عليك في شأنهم إلا التحريض * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * وهم قريش، وقد كف بأسهم بأن بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب، فانصرف النبي (عليه السلام) بمن (4) معه سالمين (5) * (والله أشد بأسا) * من قريش * (وأشد تنكيلا) * تعذيبا. (1) رواه العياشي في تفسيره: ج 1 ص 261 ح 208 عن أبي الحسن (عليه السلام)، وعنه تفسير البرهان: ج 1 ص 398، والبحار: ج 9 ص 81. (2) في نسخة: النفس. (3) رواه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 372، والبغوي: ج 1 ص 457، والقرطبي: ج 5 ص 293. (4) في بعض النسخ: ومن. (5) راجع الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 542. (*)
[ 424 ]
الشفاعة الحسنة هي التي يدفع بها شر عن مسلم وابتغي بها وجه الله، والسيئة ماكان بخلاف ذلك، وقيل: الشفاعة الحسنة: الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله (1)، وفي الحديث: " من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال له الملك: ولك مثلاه فذلك النصيب، والدعوة على المسلم بضد ذلك " (2)، وأصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإن الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفعه أي: صار ثانيه، والكفل: النصيب أيضا فكأنه النصيب من الشر، والمقيت: الحفيظ الذي يعطي الشئ على قدر الحاجة، وقيل: هو المقتدر (3). * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا (86) الله لاإله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيمة لاريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) * (87) سورة النساء / 87 - 89 أمر سبحانه برد السلام على المسلم * (بأحسن) * مما سلم وهو أن يقول: " وعليكم السلام ورحمة الله " إذا قال: " السلام عليكم "، وأن يزيد " وبركاته " إذا قال: " السلام عليكم ورحمة الله "، * (أو ردوها) * أو أجيبوها بمثلها، ورد السلام: رجع جوابه بمثله، وجواب التسليم واجب، والتخيير إنما وقع بين الزيادة وتركها، وعن النبي (عليه السلام): " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " (4) أي: وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: الموت، والحسيب: (1) قاله أبو علي. راجع التبيان: ج 3 ص 276. (2) صحيح مسلم: ج 4 ص 2094 كتاب الذكر ح 2732. (3) قاله السدي وابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 512. (4) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1219 ح 3697، المصنف لابن أبي شيبة: ج 8 ص 442، فتح الباري لابن حجر: ج 11 ص 43. (*)
[ 425 ]
المحاسب (1) الحفيظ، و * (لاإله إلا هو) * إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر * (ليجمعنكم) * أي: ليحشرنكم * (إلى يوم القيمة) * وهو يوم قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب * (ومن أصدق من الله حديثا) * أي: موعدا لاخلف لوعده. * (فما لكم في المنفقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) * (89) * (فئتين) * نصب على الحال تقول: مالك قائما، أي: ما * (لكم) * اختلفتم * (في) * شأن * (المنفقين) * أو تفرقتم فيه فرقتين * (والله أركسهم بما كسبوا) * من لحوقهم بالمشركين، وهم قوم قدموا من مكة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ثم سافروا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون في غزوهم فقال بعضهم: إنهم مسلمون، والإركاس: الرد، أي: أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم * (أتريدون أن تهدوا) * أي: تجعلوا من جملة المهتدين من جعله الله من جملة الضلال وحكم عليه بذلك، أو خذله حتى ضل، وقوله: * (فتكونون) * عطف على * (تكفرون) * والمعنى: * (ودوا) * كفركم فكونكم معهم شرعا سواء فيما هم عليه من الضلال، فلا تتولوهم وإن آمنوا * (حتى يهاجروا) * هجرة صحيحة هي لله لا لغرض من أغراض الدنيا * (فإن تولوا) * عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة فحكمهم حكم سائر المشركين أن يقتلوا (1) في نسخة: المحافظ. (*)
[ 426 ]
حيث وجدوا في أرض الله من الحل والحرم * (ولا تتخذوا منهم) * خليلا ولا ناصرا، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم. سورة النساء / 90 و 91 * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * (90) هو استثناء من قوله: * (فخذوهم واقتلوهم) *، ومعنى * (يصلون إلى قوم) *: ينتهون (1) إليهم ويتصلون بهم بحلف أو جوار * (بينكم وبينهم ميثق) * أي: موادعة وعهد، وهؤلاء القوم هم الأسلميون وادعهم رسول الله وقت خروجه من مكة وواثق عنهم هلال بن عويمر الأسلمي (2) على أن لا يعين رسول الله ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال * (أو جاءوكم) * يجوز أن يكون معطوفا على صفة * (قوم) * كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة * (الذين) * كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى المعاهدين أو الذين لا يقاتلونكم * (حصرت صدورهم) * في موضع الحال بإضمار " قد "، ويدل عليه قراءة من قرأ: " حصرة صدروهم " (3)، وقيل: هو صفة لموصوف محذوف أي: جاؤوكم قوما حصرت صدورهم (4)، وقيل: هو بيان ل * (جاءوكم) * وهم بنو مدلج جاءوا (1) في نسخة: ينتمون. (2) في مجمع البيان: السلمي. (3) وهي قراءة الحسن ويعقوب وقتادة والمفضل. راجع معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 282، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 378، وتفسير البغوي: ج 1 ص 461. (4) ذهب إليه الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 282، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 89، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 547، والهمداني في الفريدفي اعراب القرآن: ج 1 ص 774. (*)
[ 427 ]
رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مقاتلين (1)، والحصر: الضيق والانقباض * (أن يقتلوكم) * عن أن يقاتلوكم، أو كراهة أن يقاتلوكم * (ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقتلوكم) * هذا إخبار عن المقدور، وليس فيه أنه يفعل ذلك أو يأذن لهم فيه بل قذف سبحانه الرعب في قلوبهم حتى طلبوا الموادعة، ولو لم يقذفه لكانوا مسلطين أي: مقاتلين غير مكافين * (فإن اعتزلوكم) * فإن لم يتعرضوا لكم * (وألقوا إليكم السلم) * أي: الاستسلام والانقياد * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * أي: فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم. * (ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ماردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطنا مبينا) * (91) هم قوم من بني أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم نكثوا عهدهم وكفروا * (كل ماردوا إلى الفتنة) * أي: كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا * (فيها) * أقبح قلب وكانوا شرا فيها من كل عدو * (فإن لم) * يعتزل هؤلاء قتالكم ولم يستسلموا لكم * (و) * لم * (يكفوا أيديهم) * عن قتالكم فأسروهم * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * أي: حيث تمكنتم منهم * (سلطنا مبينا) * أي: حجة واضحة لظهور عداوتهم وكفرهم وإضرارهم بأهل الإسلام، وقيل: تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم وأسرهم (2). (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 547. (2) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 548. (*)
[ 428 ]
* (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) * (92) سورة النساء / 92 و 93 * (وما) * صح * (لمؤمن) * ولا استقام له ومالاق بحاله، كقوله سبحانه: * (وما كان لنبى أن يغل) * (1) وما كان لنا أن نعود فيها * (أن يقتل مؤمنا) * ابتداء غير قصاص * (إلا خطا) * إلا على وجه الخطأ، وانتصب * (خطا) * على أنه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو صفة للمصدر أي: إلا قتلا خطأ، والمعنى: أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي شخصا على أنه كافر فيكون مسلما أو نحو ذلك (2) * (فتحرير رقبة) * أي: فعليه تحرير رقبة، والتحرير: الإعتاق، والحر: الكريم، والعتيق كذلك لأن الكرم في الأحرار، ومنه عتاق الطير وعتاق الخيل لكرامهما، وحر الوجه (3) أكرم موضع منه، والرقبة عبارة عن النسمة * (ودية مسلمة إلى أهله) * أي: مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، والدية على عاقلة القاتل * (إلا أن يصدقوا) * أي: يتصدق أولياء المقتول بالدية ومعناه: العفو، وفي الحديث: " كل معروف صدقة " (4)، * (فإن كان من قوم عدو (1) آل عمران: 161. (2) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 548. (3) حر الوجه: مابدا من الوجنة. (الصحاح: مادة حرر). (4) الكشاف: ج 1 ص 550، مجمع الزوائد للهيثمي: ج 3 ص 136. (*)
[ 429 ]
لكم) * أي: قوم كفار محاربين لكم * (وهو مؤمن) * يعني: أن يكون آمن بالنبي (عليه السلام) وهو بين ظهراني قومه لم يفارقهم بعد، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شئ لأنهم كفار * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثق) * أي: عهد وذمة وليسوا أهل حرب * (فدية مسلمة إلى أهله) * تلزم عاقلة قاتله * (وتحرير رقبة مؤمنة) * تلزم قاتله * (فمن لم يجد) * رقبة أي: لم يملكها * (ف) * عليه * (صيام شهرين متتابعين توبة من الله) * قبولامن الله، من تاب الله عليه أي: شرع ذلك توبة منه. * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خلدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * (93) في هذه الآية من التهديد والوعيد أمر عظيم وخطب جسيم، ولذلك قال بعض أصحابنا: إن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة (1)، على معنى أنه لا يختار التوبة، وعن الصادق (عليه السلام): " أن معنى التعمد أن يقتله على دينه " (2)، وعن عكرمة (3) وجماعة (4) هو أن يقتله مستحلا لقتله. * (يأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا فعند الله (1) انظر التبيان: ج 3 ص 295. (2) العياشي: ج 1 ص 267 ح 237. (3) هو عكرمة بن عبد الله المدني البربري الأصل، مولى عبد الله بن عباس، من التابعين والعالمين بالتفسير والمغازي، كان كثير الطواف والجولان في البلاد، مات مولاه ابن عباس وهو على الرق ولم يعتقه، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، وكان يربطه على باب الكنيف ويتهمه بأنه كان يكذب على أبيه. مات في المدينة سنة سبع ومائة للهجرة. (تهذيب التهذيب: ج 7 ص 263 - 273، وفيات الأعيان: ج 2 ص 428). (4) حكاه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 295 عنه وعن ابن جريج، والقرطبي في تفسيره: ج 5 ص 334 عن ابن عباس. (*)
[ 430 ]
مغانم كثيرة كذا لك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) * (94) سورة النساء / 95 وقرئ: " فتثبتوا " (1) وهما جميعا من التفعل بمعنى الاستفعال، أي: اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تعجلوا في القتل من غير روية * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) * أي: حياكم بتحية أهل الإسلام، ومن قرأ: " السلم " (2) فهو الاستسلام، وقيل: الإسلام (3)، وقرئ: " لست مؤمنا " بفتح الميم (4) من آمنه، أي: لا تقولوا له: لانؤمنك * (تبتغون عرض الحيوة الدنيا) * أي: تطلبون الغنيمة التي هي حطام الدنيا، وهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه * (فعند الله مغانم كثيرة) * يغنمكموها يغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام لتأخذوا ماله * (كذا لك كنتم من قبل) * أول مادخلتم في الإسلام، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماؤكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم * (فمن الله عليكم) * بالاستقامة والاشتهار بالإيمان * (فتبينوا) * تكرير للأمر بالتبيين ليؤكد عليهم. (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 394، وتفسير القرطبي: ج 5 ص 337 وفي التبيان: ج 3 ص 297: وهي قراءة أهل الكوفة إلا عاصما. (2) وهي قراءة أهل المدينة وابن عباس وخلف كما في التبيان: ج 3 ص 297، وفي البحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 328: هي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير من بعض طرقه وعاصم برواية المفضل. (3) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 552. (4) قرأه محمد بن علي وابن مسعود وابن عباس. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 34، ونسبها القرطبي في تفسيره: ج 5 ص 238 الى أبي جعفر ولعله أراد به أبا جعفر القارئ كما في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 94، وحكاها البلخي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) كما في التبيان: ج 3 ص 297. (*)
[ 431 ]
* (لا يستوى القعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجهدون في سبيل الله بأموا لهم وأنفسهم فضل الله المجهدين بأموا لهم وأنفسهم على القعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجهدين على القعدين أجرا عظيما (95) درجت منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * (96) قرئ: * (غير أولى الضرر) * بالرفع صفة ل * (القعدون) * وبالنصب (1) استثناء منهم أو حالا عنهم، والضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها، عن ابن عباس: * (لا يستوى القعدون) * عن بدر والخارجون إليها (2)، وعن مقاتل (3): عن تبوك (4) (5)، * (فضل الله المجهدين بأموا لهم وأنفسهم) * جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين، كأنه قيل: مالهم (6) (1) وهي قراءة نافع والكسائي وابن عامر وابن كثير برواية شبل. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 237، والتيسير في القراءات للداني: ص 97. وهي اختيار الأخفش على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 300. (2) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 301، والطبري في تفسيره: ج 4 ص 231 ح 10246 و 10247، والبغوي في تفسيره: ج 1 ص 468، والبيهقي في سننه الكبرى: ج 9 ص 47. (3) هو مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي البلخي، أصله من بلخ وعاش في البصرة ثم في بغداد وحدث بها، وكان مفسرا ومتكلما، لم يكن تفسيره للقرآن موضع تقدير لأنه في شروحه كان يطلق العنان لخياله، ويكمل الجوانب الموجزة في القرآن الكريم بمأثورات النصارى واليهود، توفي سنة 150 ه بالبصرة. (تاريخ التراث العربي: ج 1 ص 85، الاعلام للزركلي: ج 7 ص 281). (4) تبوك: وهي واحة في شمال الحجاز على طريق الحج من دمشق الى المدينة، اشتهرت بالغزوة العظيمة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله) لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم وعاملة ولخم وجذام ضده سنة 9 ه. (معجم البلدان: ج 1 ص 824، المنجد في الاعلام: ص 183). (5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 553. (6) في نسخة: لم. (*)
[ 432 ]
لا يستوون ؟ فأجيب بذلك، والمعنى: على القاعدين غير أولي الضرر لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف * (وكلا) * أي: وكل فريق من المجاهدين والقاعدين * (وعد الله الحسنى) * أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين * (على القعدين درجة) *. وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولاقطعتم واديا إلا كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم (1) وهوت أفئدتهم إلى الجهاد وقد منعهم من المسير ضرر أو غيره " (2). ذكر سبحانه المفضلين * (درجة) * ثم ذكر المفضلين * (درجت) *، والأولون هم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء، والآخرون هم الذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الجهاد فرض على الكفاية، و * (درجة) * انتصبت لوقوعها موقع المرة كأنه قال: فضلهم تفضيلة نحو ضربه سوطا بمعنى: ضربة، وانتصب * (أجرا) * ب * (فضل) * أيضا لأنه في معنى أجرهم أجرا، و * (درجت) * و * (مغفرة) * و * (رحمة) * بدل من * (أجرا) *. سورة النساء / 97 و 98 * (إن الذين توفيهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله وا سعة فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدا ن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) (1) رجل ناصح الجيب: أي أمين. (الصحاح: مادة جوب)، وفي مادة (نصح): أي تقي القلب. (2) رواه ابن كثير في تفسيره: ج 1 ص 513، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 4 ص 262 بطرقه عن عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس. (*)
[ 433 ]
فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * (99) * (توفيهم) * يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: " توفتهم " (1)، ويجوز أن يكون مضارعا بمعنى تتوفاهم، وقرئ في الشواذ: " توفاهم " (2) فيكون مضارع " وفيت "، والمعنى: أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها * (ظالمي أنفسهم) * في حال ظلمهم أنفسهم * (قالوا) * أي: قال الملائكة للمتوفين: * (فيم كنتم) * أي: في أي شئ كنتم من أمر دينكم ؟ * (قالوا كنا مستضعفين في الارض) * وهم جماعة أسلموا بمكة ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة، فلما خرج المشركون إلى بدر لم يخلفوا أحدا إلا صبيا أو مريضا أو شيخا كبيرا، فخرج هؤلاء معهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا، فأصيبوا فيمن أصيب من المشركين بهم، فنزلت (3) الآية فيهم، وصح قولهم: * (كنا مستضعفين) * جوابا عن * (فيم كنتم) * لأنه كالتوبيخ لهم بأنهم لم يكونوا في شئ من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فاعتذروا مما وبخوا به بالاستضعاف وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة، فبكتهم الملائكة بأن قالوا: * (ألم تكن أرض الله وا سعة فتهاجروا فيها) * أي: كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر الدين لبعض العوائق وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وجبت عليه المهاجرة. وفي الحديث: " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض (1) انظر الكشاف: ج 1 ص 555، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 334. (2) قرأه إبراهيم كما حكاه عنه أبو حيان في البحر المحيط: ج 3 ص 334. (3) راجع اسباب النزول للواحدي: ص 145 - 146. (*)
[ 434 ]
استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) " (1). ثم استثنى من أهل الوعيد * (المستضعفين) * الذين * (لا يستطيعون حيلة) * في الخروج لفقرهم وعجزهم وقلة معرفتهم بالطرق، وقوله: * (لا يستطيعون حيلة) * صفة ل * (المستضعفين) * أو ل * (الرجال والنساء والولدا ن) * وجاز ذلك وإن كان الجمل يجب كونها نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشئ بعينه، كقول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني (2) * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مرا غما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) * (100) سورة النساء / 100 و 101 * (مرا غما) * أي: مهاجرا وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، قال النابغة الجعدي (3): (1) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 555، وأبو حيان في بحره: ج 3 ص 334، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 ص 100، والمجلسي في البحار: ج 19 ص 31. (2) وعجزه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني. وقد تقدم شرح البيت وقائله في ص 58 فراجع. (3) هو قيس بن كعب بن عبد الله بن جعدة، كان من المعمرين، قيل: إنه عاش مائة وثمانين سنة، وقيل: مائتي سنة، وقد أدرك الاسلام، واشترك في وفد قبيلته سنة 9 ه الى النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة. روى العلامة المجلسي أنه كان ممن يتأله في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر الأوثان والأزلام، وكان يذكر دين إبراهيم (عليه السلام) والحنيفية، وكان قد خرج مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الى صفين، توفي نحو 50 ه في إصفهان بعد أن سيره إليها معاوية مع أحد ولاتها. (الأغاني لأبي فرج الاصفهاني: ج 5 ص 451، الشعر والشعراء لابن قتيبة: ص 158، البحار للعلامة المجلسي: ج 6 ص 698). (*)
[ 435 ]
كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمضطرب (1) * (فقد وقع أجره على الله) * فقد وجب ثوابه على الله، وأصل الوجوب السقوط كقوله تعالى: * (فإذا وجبت جنوبها) * (2) يعني فقد علم الله كيف يثيبه، وذلك واجب عليه، وكل هجرة لغرض (3) ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو زهدا في الدنيا فهي هجرة إلى الله ورسوله. * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكفرين كانوا لكم عدوا مبينا) * (101) الضرب في الأرض هو السفر، أي: * (إذا) * سافرتم * (فليس عليكم) * حرج وإثم في * (أن تقصروا من) * عدد * (الصلوة) * فتصلوا الرباعيات ركعتين ركعتين، والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة وهو قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *، أما في حال الأمن فبنص النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو عزيمة واجبة غير رخصة عند أبي حنيفة (4)، وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) (5)، وعند الشافعي رخصة (6)، وإنما قال: * (فليس عليكم جناح) * في الواجب لئلا يخطر ببالهم أن (1) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ج 1 ص 138، تفسير الطبري: ج 4 ص 239 وفيهما: " المهرب " بدل " المضطرب "، تفسير القرطبي: ج 5 ص 348، لسان العرب لابن منظور: مادة (رغم)، شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 26. (2) الحج: 36. (3) في نسخة: لفرض. (4) المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 239، الهداية: ج 1 ص 80، اللباب: ج 1 ص 107، المجموع: ج 4 ص 337، تفسير ابن العربي: ج 1 ص 614، وفي الخلاف: ج 1 ص 569 قال: إن التقصير عزيمة مذهب علي (عليه السلام) وعمر، وفي الفقهاء: مالك وأبي حنيفة وأصحابه. (5) فقه الرضا (عليه السلام): ص 159، الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 569 مسألة (321). (6) الام: ج 1 ص 179، المجموع: ج 4 ص 337، بداية المجتهد: ج 1 ص 161، وفيهما عنه قال: التقصير أفضل. (*)
[ 436 ]
عليهم نقصانا في القصر، فهو مثل قوله: * (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * (1)، والمراد بالفتنة في الآية: القتال والتعرض بما يكره، فإنهم كانوا يخافون الكفار في عامة أسفارهم، وحد السفر الذي فيه القصر عند أبي حنيفة مسيرة ثلاثة أيام بلياليهن سير الإبل (2)، وعند الشافعي مسيرة يومين (3)، وعند أهل البيت (عليهم السلام) مسيرة يوم واحد وهي ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا (4)، وأجمعت الطائفة على أنه ليس بقصر بل فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر وأربعا أربعا في الحضر (5). * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة وا حدة ولاجناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكفرين عذابا مهينا) * (102) سورة النساء / 102 و 103 * (فيهم) * الضمير للخائفين * (فلتقم طائفة منهم معك) * فاجعلهم طائفتين فلتقم إحدى الطائفتين معك فصل بهم * (وليأخذوا أسلحتهم) * الضمير للمصلين يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف يتقلدونه والخنجر يشدونه إلى دروعهم ونحوهما * (فإذا سجدوا) * وفرغوا من سجودهم * (فليكونوا من (1) البقرة: 158. (2) المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 236، بداية المجتهد: ج 1 ص 162، التبيان: ج 3 ص 308. (3) المجموع: ج 4 ص 323، مغني المحتاج: ج 1 ص 266، بداية المجتهد: ج 1 ص 162. (4) فقه الرضا (عليه السلام): ص 159، التبيان: ج 3 ص 308، الخلاف: ج 1 ص 567 - 568 مسألة (320). (5) انظر التبيان: ج 3 ص 308. (*)
[ 437 ]
ورائكم) * أي: فليصيروا بعد فراغهم من السجود مصافين للعدو، وعندنا: أنهم يصلون الركعة الأخرى ويتشهدون ويسلمون وينصرفون إلى مواقف أصحابهم والإمام قائم في الثانية، ويجئ الآخرون ويستفتحون الصلاة ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية ويطيل التشهد حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم يسلم بهم (1)، وذلك قوله: * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * جعل الحذر وهو التحرز كأنه آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ كما جعل الإيمان مستقرا ومتبوءا لتمكنهم فيه في قوله: * (والذين تبوءو الدار والايمن) * (2)، * (ود الذين كفروا) * أي: تمنوا * (لو تغفلون عن أسلحتكم) * تشتغلون عن أخذها في القتال * (فيميلون عليكم) * فيشدون عليكم شدة واحدة، ثم رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها إذا نالهم * (أذى من مطر أو) * مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيحمل عليهم العدو * (إن الله أعد للكفرين عذابا مهينا) * هذا إخبار بأنه سبحانه يهين عدوهم ليقوي (3) قلوبهم. * (فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قيما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا (103) ولا تهنوا في ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالايرجون وكان الله عليما حكيما) * (104) * (فإذا) * صليتم في حال الخوف والقتال * (فاذكروا الله) * فصلوها * (قيما) * (1) الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 639 مسألة (410) وقال: وبه قال الشافعي وأحمد ابن حنبل. (2) الحشر: 9. (3) في نسخة: لتقوى. (*)
[ 438 ]
مسايفين * (وقعودا) * جاثين على الركب مرامين * (وعلى جنوبكم) * مثخنين بالجراح * (فإذا اطمأننتم) * حين تضع الحرب أوزارها واستقررتم وأمنتم * (فأقيموا الصلوة) * فأتموا حدود الصلاة * (إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا) * أي: محدودا بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في حال خوف كنتم أو أمن، وقيل: معناه: فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر الله مكبرين ومهللين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع فإذا اطمأننتم فإذا أقمتم فأتموا الصلاة (1) * (ولا تهنوا) * ولا تضعفوا في طلب الكفار، ثم ألزمهم الحجة بأن قال: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون) * فإن ذلك أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون فمالكم لاتصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى منهم بالصبر، لأنكم * (ترجون من الله مالايرجون) * من الظفر بهم في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة * (وكان الله عليما حكيما) * لايأمركم ولاينهاكم إلا بما يعلم أن فيه صلاحكم. سورة النساء / 105 - 109 * (إنآ أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أريك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106) ولاتجدل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) هأنتم هؤلاء جدلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم وكيلا) * (109) (1) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 79، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 99. (*)
[ 439 ]
يروى: أن أبا طعمة بن أبيرق سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان وخبأها عند رجل من اليهود، فأخذ الدرع من منزل اليهودي، فقال: دفعها إلي أبو طعمة، فجاء بنو أبيرق إلى رسول الله فكلموه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي، فهم رسول الله أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزلت (1). * (بمآ أريك الله) * أي: بما عرفك الله وأوحى إليك * (ولا تكن للخائنين خصيما) * أي: لأجل الخائنين مخاصما للبراء * (واستغفر الله) * مما هممت به من عقاب اليهودي * (يختانون أنفسهم) * يخونونها بالمعصية، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها لأن الضرر راجع إليهم، ونحوه * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * (2)، * (يستخفون من الناس) * أي: يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم * (ولا) * يستترون * (من الله) * ولا يستحيون منه * (وهو معهم) * عالم بأحوالهم * (إذ يبيتون) * يدبرون ويزورون بالليل * (مالا يرضى من القول) *. * (هأنتم هؤلاء) *: " ها " للتنبيه في " أنتم " و " أولاء " وهما مبتدأ وخبر، و * (جدلتم) * جملة مبينة لوقوع " أولاء " خبرا، كما تقول للرجل السخي: أنت حاتم تجود بمالك، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن بني أبيرق * (في) * الدنيا * (فمن) * يخاصم * (عنهم) * في الآخرة إذا عذبهم الله * (وكيلا) * أي: حافظا من بأس الله ونقمته. * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا (1) راجع تفصيل القصة والنزول في التبيان: ج 3 ص 316، وتفسير البغوي: ج 1 ص 477. (2) البقرة: 187. (*)
[ 440 ]
رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطية أو إثما ثم يرم به بريا فقد احتمل بهتنا وإثما مبينا (112) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (113) * (سوءا) * أي: قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل أبو طعمة بقتادة واليهودي * (أو يظلم نفسه) * بما يختص به، وقيل: * (ومن يعمل سوءا) * أي: ذنبا دون الشرك * (أو يظلم نفسه) * بالشرك (1)، وفيه: أن كل ذنب وإن عظم فإنه غير مانع من المغفرة إذا استغفر منه * (فإنما يكسبه على نفسه) * أي: لا يتعدى ضرره إلى غيره * (ومن يكسب خطية) * أي: ذنبا على غير عمد * (أو إثما) * أي: ذنبا تعمده * (ثم يرم به بريا) * كما رمى به أبو طعمة غيره * (فقد احتمل بهتنا وإثما مبينا) * لأنه بكسب الإثم آثم وبرمي البرئ به باهت، فهو جامع بين الأمرين * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) * أي: عصمته وألطافه وإطلاعه إياك على سرهم * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) * عن القضاء بالحق وسلوك طريق العدل * (وما يضلون إلا أنفسهم) * لأن وباله عليهم * (وما يضرونك من شئ) * فإن الله حافظك وناصرك ومؤيدك * (وأنزل الله عليك) * القرآن والسنة * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * من خفيات الأمور، أو من أمور الدين وأحكام الشرع. سورة النساء / 114 - 116 * (لا خير في كثير من نجوبهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 563. (*)
[ 441 ]
إصلح بين الناس ومن يفعل ذا لك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذا لك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد ضل ضللا بعيدا) * (116) * (لا خير في كثير من) * تناجي الناس * (إلا) * نجوى * (من أمر) * على أنه مجرور بدل من * (كثير) * كما تقول: لاخير في قيامهم إلا قيام فلان، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء المنقطع أي: لكن * (من أمر بصدقة) * ففي نجواه الخير (1)، وقيل: المعروف: القرض (2)، وقيل: هو عام في كل جميل (3)، والإصلاح بين الناس: التأليف بينهم بالمودة. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيمانكم " (4). * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي * (نوله ما تولى) * نجعله واليا لما (5) تولى من الضلال بأن نخذله ونخلي بينه وبين ما اختاره * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * تكرير للتأكيد، وقيل: كرر لقصة أبي طعمة (6). (1) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 564، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 791. (2) قاله مقاتل. راجع تفسير القرطبي: ج 5 ص 383. (3) قاله البغوي في تفسيره: ج 1 ص 479. (4) تفسير القمي: ج 1 ص 152، وفيه " أيديكم " بدل " أيمانكم ". (5) في نسخة: لمن. (6) حكاه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 330، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 565. (*
[ 442 ]
* (إن يدعون من دونه إلا إنثا وإن يدعون إلا شيطنا مريدا (117) لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعم ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطن وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطن إلا غرورا (120) أولئك مأويهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) * (121) سورة النساء / 120 - 122 * (إلا إنثا) * هي اللات والعزى ومناة، وعن الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان (1)، وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم: هن بنات الله (2)، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله (3) * (وإن يدعون) * أي: ومايدعون (4) بعبادة الأصنام * (إلا شيطنا) * لأنه الذي أغراهم بعبادتها فأطاعوه فجعل طاعتهم له عبادة، وقوله: * (لعنه الله) *، * (وقال لاتخذن) * صفتان، يعني (5): * (شيطنا مريدا) * جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع * (نصيبا مفروضا) * مقطوعا واجبا فرضته لنفسي وهو من قولهم: فرض له في العطاء، * (ولامنينهم) * الأماني الكاذبة من طول العمر وبلوغ الأمل، وتبتيكهم * (ءاذان الانعم) * هو ما فعلوه بالبحائر، كانوا يشقون أذنها إذا ولدت خمسة أبطن والخامس ذكر، وتغييرهم * (خلق الله) * هو فقؤهم عين الحامي وإعفاؤه عن (1) راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 298، وحكاه عنه النحاس في اعراب القرآن: ج 1 ص 489، والطبري في تفسيره: ج 4 ص 279 ح 10443، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 566. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 566. (3) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 529، وتفسير الطبري: ج 4 ص 279 ح 10442، وتفسير البغوي: ج 1 ص 481. (4) في بعض النسخ: يعبدون. (5) في نسخة: بمعنى. (*)
[ 443 ]
الركوب، وقيل: هو الخصاء (1)، وقيل: فطرة الله التي هي دين الإسلام وأمره (2)، وقيل: للحسن: إن عكرمة يقول: هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين الله (3)، وعن ابن مسعود: هو الوشم (4) * (يعدهم) * الفقر إن أنفقوا مالهم * (ويمنيهم) * طول البقاء في الدنيا ودوام نعيمها ليؤثروها على الآخرة. * (والذين ءامنوا وعملوا الصلحت سندخلهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122) ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصلحت من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبرا هيم حنيفا واتخذ الله إبرا هيم خليلا (125) ولله مافى السموا ت وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا) * (126) * (وعد الله حقا) * مصدران مؤكدان: الأول مؤكد لنفسه، التقدير: وعد الله ذلك وعدا، والثاني مؤكد لغيره، التقدير: أحقه حقا (5) * (ومن أصدق من الله قيلا) * (1) قاله ابن عباس وأنس وعكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 530، وتفسير البغوي: ج 1 ص 482. (2) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب والضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 481 - 482. (3) حكاها عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 566، وفي التبيان: ج 3 ص 334: أن مجاهد قيل له ذلك. (4) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 530. (5) انظر تفصيل ذلك في الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 567، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 795. (*)
[ 444 ]
توكيد آخر بليغ، و * (قيلا) * نصب على التمييز، وفي * (ليس) * ضمير * (وعد الله) * أي: ليس ينال ما وعد الله من الثواب * (بأمانيكم ولا أماني أهل الكتب) * والخطاب للمسلمين (1)، وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل (2)، وقيل: إن الخطاب للمشركين (3) قالوا: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا: لأوتين مالا وولدا، إن لي عنده للحسنى، وقال أهل الكتاب: نحن أبناء الله وأحباؤه * (ومن يعمل من الصلحت) * * (من) * للتبعيض، أي: ومن يعمل بعض الصالحات، و * (من) * في قوله: * (من ذكر أو أنثى) * لتبيين الإبهام في * (من يعمل) *، * (ولا يظلمون نقيرا) * أي: ولايبخسون مقدار نقير مما يستحقونه من الثواب، و * (أسلم وجهه) * أي: أخلص نفسه * (لله) * وجعلها سالمة له لايعرف لها ربا ومعبودا سواه * (وهو محسن) * أي: فاعل للفعل الحسن، أو هو محسن في جميع أفعاله، وفي الحديث: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (4)، * (حنيفا) * حال من المتبع * (واتخذ الله إبرا هيم خليلا) * عبارة عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، والخليل: الذي يخالك، أي: يوافقك في خلالك أو يسايرك في طريقك (5)، من الخل وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك سورة النساء / 126 و 127 كما تسد خلله، وهي جملة اعتراضية لامحل لها من الإعراب وفائدتها تأكيد (1) وهو قول مسروق وقتادة والضحاك والسدي وأبي صالح. راجع التبيان: ج 3 ص 336، وتفسير البغوي: ج 1 ص 482. (2) تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 299، وعنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 567. (3) قاله مجاهد. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 482، وتفسير الطبري: ج 4 ص 290. (4) صحيح البخاري: ج 6 ص 144، سنن البيهقي: ج 10 ص 203، اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 8 ص 434 وج 10 ص 94. (5) في نسخة: طريقتك. (*)
[ 445 ]
وجوب اتباع ملته (1) (2) * (ولله مافى السموا ت وما في الارض) * متصل بذكر الصالحين والطالحين، أي: إن من له ملك أهل السماوات والأرض فطاعته واجبة عليهم * (وكان الله بكل شئ محيطا) * فيعلم أعمالهم ويجازيهم عليها. * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتب في يتمى النساء التى لا تؤتونهن ماكتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدا ن وأن تقوموا لليتمى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) * (127) * (وما يتلى عليكم) * في محل الرفع على العطف، أي: * (الله يفتيكم) *، والمتلو * (في الكتب) * في معنى * (يتمى النساء) * يعني قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى) * (3) وهو نحو قولك: أعجبني زيد وكرمه، فيكون * (في يتمى النساء) * من صلة * (يتلى) *، ويجوز أن يكون * (في يتمى النساء) * بدلا من * (فيهن) * وهذه الإضافة أعني * (يتمى النساء) * بمعنى: " من " نحو ثوب خز وسحق عمامة * (التى لا تؤتونهن) * أي: لاتعطونهن * (ماكتب لهن) * أي: ما فرض لهن من الميراث، وكان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها * (وترغبون أن تنكحوهن) * يحتمل الوجهين، أي: ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ومالهن، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن، وقوله: * (والمستضعفين (1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 569. (2) وفي معنى " الخليل " والأقوال الواردة فيه راجع معاني القرآن للزجاج: ج 1 ص 112 - 113، والتبيان: ج 3 ص 340 - 341، والكشاف: ج 1 ص 569. وفي بيان الحنيفية التي أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بأن يتبع إبراهيم (عليه السلام) فيها راجع التبيان: ج 3 ص 342. (3) الآية: 3. (*)
[ 446 ]
من الولدا ن) * مجرور معطوف على * (يتمى النساء) * وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال الذين يقومون بالأمور دون الأطفال والنساء، والمعنى: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الصبيان بأن تعطوهم حقوقهم، * (و) * في * (أن تقوموا لليتمى بالقسط) * أي: بالعدل في أنفسهم وفي مواريثهم، وتعطوا كل ذي حق منهم حقه صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى * (وما تفعلوا من خير) * من عدل أو بر يعلمه الله سبحانه ولا يضيع عنده أجره. * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الانفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * (128) سورة النساء / 129 و 130 * (خافت من بعلها نشوزا) * أي: توقعت منه ذلك وهو أن يمنعها نفسه ومودته ونفقته ويؤذيها بسب أو ضرب * (أو إعراضا) * بأن يعرض عنها ويقل مجالستها ومؤانستها * (فلا جناح عليهما أن) * يتصالحا، أي: يصطلحا * (بينهما صلحا) * بأن تترك المرأة له يومها، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة تستعطفه بذلك، أو تهب له بعض المهر * (والصلح خير) * من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة، أو الصلح خير من الخصومة في كل شئ، وهذه الجملة اعتراض وكذا قوله: * (وأحضرت الانفس الشح) * أي: جعل الشح حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا إذ هي مطبوعة عليه، والغرض: أن المرأة لا تسمح بقسمتها والرجل لا يسمح بأن يمسكها إذا أحب غيرها ولم يحبها * (وإن تحسنوا) * بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وتصبروا على ذلك * (وتتقوا) * النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وهو يثيبكم عليه.
[ 447 ]
* (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله وا سعا حكيما) * (130) ومحال أن * (تستطيعوا) * العدل * (بين النساء) * والتسوية حتى لا يقع ميل البتة في المحبة والمودة بالقلب * (ولو حرصتم) * على ذلك، وعن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: " هذه قسمتي فيما أملك فلا تأخذني فيما تملك ولا أملك " (1) يعني المحبة، وقيل: إن العدل بينهن صعب وهو أن يسوي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة وغير ذلك مما لا يحصى (2) فهو كالخارج من حد الاستطاعة، هذا إذا كن محبوبات كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن ؟ ! * (فلا تميلوا كل الميل) * فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضى منها * (فتذروها كالمعلقة) * وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة، ويروى: أن عليا (عليه السلام) كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (3) * (وإن تصلحوا) * في القسمة والتسوية بين الأزواج * (وتتقوا) * الله في أمرهن * (فإن الله كان غفورا رحيما) * يغفر لكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك، ويرحمكم بترك المؤاخذة عليه * (وإن يتفرقا) * وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه * (يغن الله كلا) * أي: يرزقه الله زوجا خيرا من زوجه وعيشا (1) مسند أحمد: ج 6 ص 144، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 2 ص 712 وعزاه الى ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن المنذر. (2) قاله ابن عباس ومحمد بن سيرين عن عبيدة وأبو قلابة والحسن ومجاهد والسدي وابن أبي مليكة والضحاك وسفيان وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 4 ص 312 - 314. (3) التبيان: ج 3 ص 350. (*)
[ 448 ]
أهنأ من عيشه، والسعة: الغنى والمقدرة، والواسع: الغني المقتدر. * (ولله مافى السموا ت وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله مافى السموا ت وما في الارض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله مافى السموا ت وما في الارض وكفى بالله وكيلا) * (132) تعلق قوله: * (من قبلكم) * ب * (وصينا) * أو ب * (أوتوا) *، * (وإياكم) * عطف على * (الذين أوتوا) *، و * (الكتب) * اسم للجنس يتناول الكتب السماوية * (أن اتقوا الله) * أي: بأن اتقوا الله، والمعنى: وصيناهم ووصيناكم بالتقوى * (و) * قلنا لهم ولكم: * (إن تكفروا) *، والمعنى: أن لله الخلق كله وهو خالقهم والمنعم عليهم بصنوف النعم فاستديموا نعمه باتقاء معاصيه * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتب) * من الأمم السالفة ووصيناكم: * (أن اتقوا الله) * يعني: أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لأن بالتقوى تنال النجاة والسعادة * (وإن تكفروا فإن لله) * في سماواته وأرضه من يوحده ويعبده * (وكان الله) * مع ذلك * (غنيا) * عن خلقه وعن عبادتهم جميعا * (حميدا) * مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه، وكرر قوله: * (ولله مافى السموا ت وما في الارض) * تقريرا لما هو موجب تقواه ليتقوه ويطيعوه ولا يعصوه. * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذا لك قديرا (133) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا) * (134) سورة النساء / 133 - 135 * (إن يشأ) * الله يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم * (ويأت باخرين) * ويوجد
[ 449 ]
خلقا آخرين غيركم أو إنسا آخرين مكانكم * (وكان الله) * على الإعدام والإيجاد * (قديرا) * لا يمتنع عليه شئ أراده، وقيل: هو خطاب لمن كان يعادي رسول الله من العرب (1)، يعني: إن يشأ يمتكم ويأت بناس آخرين يوالون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وروي: أنها لما نزلت ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده على ظهر سلمان (2) وقال: " إنهم قوم هذا " يعني: أبناء فارس (3) * (من كان يريد) * بجهاده * (ثواب الدنيا) * يعني: الغنيمة * (فعند الله ثواب الدنيا والاخرة) * فماله يطلب أحدهما دون الآخر، والذي يطلبه أخسهما، لأن الغنيمة في جنب ثواب الآخرة كلاشئ. * (يأيها الذين ءامنوا كونوا قوا مين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوا لدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * (135) * (قوا مين بالقسط) * مجتهدين في إقامة العدل حتى لاتجوزوا * (شهداء لله) * تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمركم بإقامتها * (ولو) * كانت الشهادة * (على أنفسكم) * وهي الإقرار لأنه في معنى الشهادة عليها * (أو الوا لدين والاقربين) * (1) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 3 ص 352. (2) هو أبو عبد الله سلمان الخير الفارسي المحمدي، أصله من رام هرمز، وقيل: إصبهان، واسمه: مايه بن بوذخشان بن مورسلان من ولد آب الملك، وقيل: زوربه، وقيل غير ذلك. من خواص الصحابة وحواريهم، أسلم بعد الهجرة، وأول مشاهده غزوة الأحزاب حيث أشار على النبي (صلى الله عليه وآله) بحفر الخندق، وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ولاه عمر على المدائن في زمن خلافته، قيل: عاش 250 سنة، وقيل: 350 سنة، توفي بالمدائن قرب بغداد. (أعيان الشيعة: ج 7 ص 179، تهذيب التهذيب: ج 4 ص 138). (3) رواها الشيخ في التبيان: ج 1 ص 352، والماوردي في تفسيره: ج 1 ص 534 عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله). (*)
[ 450 ]
أو على آبائكم وأقاربكم * (إن يكن) * المشهود عليه * (غنيا) * فلا تمتنعوا من الشهادة عليه لغناه * (أو فقيرا) * فلا تمتنعوا منها ترحما عليه * (فالله أولى بهما) * بالغني والفقير، أي: بالنظر إليهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها * (فلا تتبعوا الهوى) * كراهة * (أن تعدلوا) * بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق * (وإن تلووا) * ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل * (أو تعرضوا) * عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها، وقرئ: " وإن تلوا " (1) بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها * (فإن الله كان) * بأعمالكم وبمجازاتكم عليها * (خبيرا) *. * (يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتب الذى نزل على رسوله والكتب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضللا بعيدا (136) إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137) بشر المنفقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون الكفرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) * (139) سورة النساء / 136 و 137 هو خطاب للمسلمين * (ءامنوا) * أي: اثبتوا على الإيمان ودوموا عليه * (والكتب الذى أنزل من قبل) * المراد به جنس الكتب المنزلة على الأنبياء، وقرئ: " نزل " و " أنزل " على البناء للفاعل، وقيل: الخطاب لأهل الكتاب لأنهم (1) قرأها حمزة وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 239، وتفسير البغوي: ج 1 ص 489، والتبيان: ج 3 ص 353. وحكاها الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 118 ونسبها الى يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ولم يختارها. (*)
[ 451 ]
آمنوا ببعض الكتب (1) والرسل وكفروا ببعض، أي: * (ءامنوا بالله ورسوله) * محمد والقرآن وبكل كتاب * (أنزل) * قبله (2)، وقيل: هو للمنافقين يريد: يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا (3)، وإنما قيل: * (نزل) * بالتشديد للقرآن لأنه نزل مفرقا منجما في نيف وعشرين سنة بخلاف الكتب قبله * (ومن يكفر بالله) * الآية، أي: ومن يكفر بشئ من ذلك * (فقد ضل) * لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، ألا ترى كيف قدم الإيمان بالجميع ؟ ! * (إن الذين ءامنوا ثم كفروا) * هم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بهما بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) * (ثم ءامنوا) * بعيسى والإنجيل يعني: النصارى * (ثم كفروا) * بهما بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) * (ثم ازدادوا كفرا) * بكفرهم بالقرآن، وقيل: هم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك المسلمين بإظهار الإيمان به ثم بإظهار الكفر به كما تقدم ذكرهم عند قوله: * (ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون) * (4) (5)، وقيل: هم المنافقون أظهروا الإيمان بمحمد (6) (صلى الله عليه وآله) ثم الكفر به ثم الإيمان به ثم الكفر به * (ثم ازدادوا كفرا) * بإصرارهم على الكفر حتى ماتوا عليه (7)، وعن ابن عباس: دخل في هذه الآية (1) في نسخة: الكتاب. (2) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 490. (3) قائل ذلك مجاهد. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 490. (4) آل عمران: 72. (5) قائل ذلك الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 1 ص 303، وحكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 537، ونسبها البغوي في تفسيره: ج 1 ص 490 الى قتادة. (6) في بعض النسخ: بالنبي. (7) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 1 ص 537، واختاره الشيخ في التبيان: ج 3 ص 359. (*)
[ 452 ]
كل منافق كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) (1)، * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) * نفي للغفران والهداية التي هي اللطف، واللام للمبالغة في النفي * (بشر المنفقين) * وضع " بشر " مكان " أخبر " تهكما بهم * (الذين يتخذون) * نصب على الذم أو رفع بمعنى: أريد الذين، أو هم الذين وكانوا يوالون الكفرة ويمايلونهم * (أ) * يطلبون * (عندهم العزة) * والغلبة باتخاذهم إياهم * (أولياء من دون المؤمنين) *، * (فإن العزة) * والغلبة * (لله) * ولأوليائه يعز من يشاء، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. * (وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم ءايت الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنفقين والكفرين في جهنم جميعا) * (140) سورة النساء / 141 و 142 * (أن إذا سمعتم) * هي " أن " المخففة من الثقيلة (2)، والمعنى: أنه إذا سمعتم، و * (أن) * مع ما في حيزها في موضع الرفع ب " نزل " (3)، أو في موضع النصب ب * (نزل) * فيمن قرأ به، والمراد به ما نزل عليهم بمكة من قوله: * (وإذا رأيت الذين يخوضون فئ ايتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * (4)، وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فيستهزئون به فنهي المسلمون عن القعود * (معهم) *، وكان اليهود في المدينة يفعلون مثل فعلهم فنهوا أن يجلسوا معهم، وكان المنافقون يجالسونهم فقيل لهم: * (إنكم إذا مثلهم) * والضمير في قوله: * (فلا تقعدوا معهم) * يرجع إلى من دل عليه قوله: * (يكفر بها ويستهزأ بها) *، كأنه (1) حكاه عنه المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 126. (2) في نسخة: المثقلة. (3) قرأ الجمهور من السبعة بضم النون وكسر الزاي وقرأ عاصم وحده بفتح النون والزاي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 239، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 86، والبحر المحيط: ج 3 ص 374. (4) الأنعام: 68. (*)
[ 453 ]
قال: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها، وفي هذا (1) دلالة على تحريم مجالسة الكفار والفساق وأهل البدع من أي جنس كانوا. * (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكفرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيمة ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا (141) إن المنفقين يخدعون الله وهو خدعهم وإذا قاموا إلى الصلوة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذا لك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * (143) * (الذين يتربصون) * بدل من * (الذين يتخذون) * (2) أو صفة ل * (المنفقين) * أو نصب على الذم (3)، ومعناه: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من فتح أو إخفاق * (قالوا ألم نكن معكم) * فأسهموا لنا في الغنيمة * (قالوا ألم نستحوذ عليكم) * أي: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم * (ونمنعكم من) * المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم وأطلعناكم على أسرارهم وأفضينا إليكم بأخبارهم فاعرفوا لنا هذا الحق، وسمى ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا تعظيما لشأن المسلمين وتحقيرا لحظ الكافرين * (فالله يحكم بينكم) * وبين المنافقين أيها المؤمنون * (يوم القيمة) * بالحق فيدخلكم الجنة ويدخلهم النار * (إن المنفقين يخدعون الله) * أي: يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر * (وهو خدعهم) * من خادعته فخدعته، أي: فاعل بهم ما يفعل (1) في نسخة: هذه الآية. (2) الآية: 139. (3) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 578. (*)
[ 454 ]
الغالب في الخداع حيث عصم دماءهم وأموالهم في الدنيا وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة * (قاموا كسالى) * أي: متثاقلين لاعن رغبة * (يرآءون الناس) * يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة * (ولا يذكرون الله) * أي: لا يصلون * (إلا قليلا) * لأنهم لا يصلون قط (1) غائبين عن عيون الناس وما يجاهرون به قليل، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتحميد إلا ذكرا قليلا في الندرة، والمراءاة: مفاعلة من الرؤية كأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه استحسانه، ويجوز أن يكون بمعنى التفعيل كما قيل: نعمه وناعمه (2)، وقد قرئ في الشواذ: " يرؤون " (3) مثل يرعون أي: يبصرونهم أعمالهم. سورة النساء / 144 - 147 * (مذبذبين) * إما حال عن واو * (يرآءون) * نحو قوله: * (ولا يذكرون) * أي: يراؤون الناس غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم يعني: ذبذبهم الشيطان * (بين) * الكفر والإيمان فهم مترددون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب: الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع فلا يقر في حال واحدة كما قيل: فلان يرمى به الرجوان (4)، وقراءة ابن عباس: " مذبذبين " بكسر الذال (5) معناه: يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم، و * (ذا لك) * إشارة إلى الكفر والإيمان * (لا) * منسوبين * (إلى هؤلاء) * فيكونوا مؤمنين * (ولا) * منسوبين * (إلى هؤلاء) * فيكونوا كافرين. (1) انظر تفصيل " قط " وأوجهها في مغني اللبيب لابن هشام: ص 233. (2) راجع تفصيله في الكشاف: ج 1 ص 580. (3) وهي قراءة ابن ابي اسحاق والأشهب العقيلي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 36، والمحتسب لابن جني: ج 1 ص 202. (4) قال الجوهري في الصحاح: مادة (رجا): والرجى - مقصور - ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا، والرجوان: حافتا البئر، فإذا قالوا: رمي به الرجوان أرادوا أنه طرح في المهالك. (5) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 36، والقرطبي في تفسيره: ج 5 ص 424. (*)
[ 455 ]
* (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكفرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطنا مبينا (144) إن المنفقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * (146) أي: لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم * (الكفرين أولياء) *، * (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم) * حجة بينة، يعني: أن موالاة الكافرين بينة على النفاق * (الدرك الاسفل) * الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، وقرئ بسكون الراء (1) * (وأصلحوا) * نياتهم * (واعتصموا بالله) * وثقوا به كما يثق المؤمنون المخلصون * (وأخلصوا دينهم لله) * أي: لا يبتغون بطاعتهم إلا وجه الله * (فأولئك مع المؤمنين) * أي: فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين * (وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * فيشاركونهم فيه، و " سوف " كلمة ترجية وإطماع، وهي من الله سبحانه إيجاب، لأنه سبحانه أكرم الأكرمين ووعد الكريم إنجاز. * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما (147) لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) * (149) * (ما) * يصنع * (الله بعذابكم) * أيتشفى به من الغيظ أم يستجلب به نفعا أو (1) قرأه الكوفيون سوى الأعشى. راجع كتاب التذكرة في القراءت لابن غلبون: ج 2 ص 380 وحكاها الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 124 عن أهل الكوفة والأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب. (*)
[ 456 ]
يستدفع به ضررا ؟ لا بل هو الغني الذي لا يجوز عليه شئ من ذلك، فإن قمتم بشكر نعمته * (وءامنتم) * به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب * (وكان الله شاكرا عليما) * يشكر القليل من أعمالكم ويعلم ما تستحقونه من الجزاء * (إلا من ظلم) * إلا جهر من ظلم، استثني من الجهر الذي لايحبه الله جهر المظلوم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء (1)، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم ينتصر منه (2)، ثم حث سبحانه على العفو وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تسبيبا للعفو، ثم عطف العفو عليهما تنبيها على لطف منزلته عند الله، ويدل على ما ذكرنا قوله: * (فإن الله كان عفوا قديرا) * أي: يعفو مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله. * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذا لك سبيلا (150) أولئك هم الكفرون حقا وأعتدنا للكفرين عذابا مهينا (151) والذين ءامنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) * (152) سورة النساء / 151 - 153 جعل * (الذين) * آمنوا بالله وكفروا برسله، أو آمنوا بالله وكفروا * (ببعض) * رسله كافرين بالله وبرسله جميعا، ومعنى اتخاذهم * (بين ذا لك سبيلا) * أي: طريقا وسطا، ولا واسطة بين الكفر والإيمان، ولذلك قال: * (أولئك هم الكفرون حقا) * أي: هم الكاملون في الكفر، و * (حقا) * تأكيد لمضمون الجملة أو صفة لمصدر (1) في نسخة: الظلم. (2) قاله ابن عباس والسدي. راجع تفسير القرطبي: ج 6 ص 1. (*)
[ 457 ]
* (الكفرون) *، أي: كفرا حقا لاشك فيه، وجاز دخول * (بين) * على * (أحد) * لأنه عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحدا فتقصد العموم، والمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة * (سوف يؤتيهم أجورهم) * معناه: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر، فالغرض توكيد الوعد لاكونه متأخرا. * (يسلك أهل الكتب أن تنزل عليهم كتبا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذا لك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينت فعفونا عن ذا لك وءاتينا موسى سلطنا مبينا (153) ورفعنا فوقهم الطور بميثقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثقا غليظا) * (154). روي: أن كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى (1) موسى بالتوراة جملة فنزلت (2)، وقيل: سألوا كتابا يعاينونه حين ينزل (3)، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت (4)، قال الحسن: لو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية (5). * (فقد سألوا موسى) * جواب لشرط مقدر، معناه: إن استكبرت ما سألوه منك (1) في نسخة: " أتي " بصيغة المجهول. (2) راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 495، والكشاف: ج 1 ص 584. (3) قاله السدي ومحمد بن كعب. راجع التبيان: ج 3 ص 376، وتفسير الطبري: ج 4 ص 346، وتفسير الماوردي: ج 1 ص 540. (4) وهو قول الجبائي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 376. (5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 584. (*)
[ 458 ]
* (فقد سألوا موسى أكبر من ذا لك) * وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم لكونهم راضين بسؤالهم * (جهرة) * عيانا، والمعنى: * (أرنا الله) * نره * (جهرة فأخذتهم الصعقة ب) * سبب * (ظلمهم) * وهو سؤالهم الرؤية * (وءاتينا موسى سلطنا مبينا) * أي: تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه * (بميثقهم) * بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه * (وقلنا لهم) * والطور فوقهم: * (ادخلوا الباب سجدا و... لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم) * الميثاق (1) على ذلك والعهد ثم نقضوه من بعد. وقرئ: " لا تعدوا " بتشديد الدال وسكون العين (2)، والأصل: " لا تعتدوا " فأدغم التاء في الدال وجمع بين الساكنين كما جمع في نحو: أصيم ودويبة. * (فبما نقضهم ميثقهم وكفرهم بايت الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتنا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) * (158) سورة النساء / 155 - 157 أي: فبنقضهم، و " ما " مزيدة للتوكيد والباء يتعلق بمحذوف، والمعنى: فبما نقضهم وكفرهم وقتلهم وقولهم: فعلنا بهم ما فعلنا، ويجوز أن يتعلق بقوله: * (حرمنا (1) في نسخة زيادة: غليظا. (2) قرأه ورش عن نافع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 240، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 86، وفي التبيان: ج 3 ص 378: هي قراءة أهل المدينة. (
[ 459 ]
عليهم) * فيما بعد على أن قوله: * (فبظلم من الذين هادوا) * بدل من قوله: * (فبما نقضهم) * (1)، * (وقولهم قلوبنا غلف) * أي: في أكنة لا يصل إليها شئ من الموعظة والذكر، فرد الله عليهم بقوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * أي: خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم فصارت كالمطبوع عليها * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتنا عظيما) * يجوز أن يكون عطفا على ما يليه من قوله: * (بكفرهم) * والوجه: أن يعطف على * (فبما نقضهم) * ويكون قوله: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) * كلاما تابعا لقوله: * (وقولهم قلوبنا غلف) * على وجه الاستطراد. والبهتان العظيم هو التزنية، وروي: أن جماعة من اليهود سبوا عيسى (عليه السلام) وسبوا أمه فقال: " اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي " فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، وقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب فيكون معي في درجتي ؟ فقال له شاب منهم: يا نبي الله أنا، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب وهم يظنون أنه عيسى (2) * (ولكن شبه لهم) * أسند * (شبه) * إلى الجار والمجرور كقولك: خيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه، أو أسند إلى ضمير المقتول الذي يدل عليه قوله: * (إنا قتلنا) * كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه * (وإن الذين اختلفوا فيه) * في عيسى أنه قتل أو لم يقتل، وقيل: اختلفوا في أنه إله أو ابن إله (3) * (لفى شك منه ما لهم) * بعيسى * (من علم إلا اتباع الظن) * استثناء منقطع، لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، أي: ولكنهم (1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 585، وتفسير القرطبي: ج 6 ص 7. (2) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 587. (3) قاله الحسن على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 9. (*)
[ 460 ]
يتبعون الظن * (وما قتلوه) * قتلا * (يقينا) *، أو ما قتلوه متيقنين كما ادعوا ذلك في قولهم: * (إنا قتلنا المسيح) *، وقيل: هو من قولهم: قتلت الشئ علما (1). * (وإن من أهل الكتب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا (159) فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموا ل الناس بالبطل وأعتدنا للكفرين منهم عذابا أليما) * (161) سورة النساء / 160 - 162 * (ليؤمنن به) * جملة قسمية وقعت صفة لمحذوف، والتقدير: * (وإن من أهل الكتب) * أحد * (إلا ليؤمنن به) *، ونحوه * (وما منآ إلا له مقام معلوم) * (2) * (وإن منكم إلا واردها) * (3)، والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن * (قبل موته) * بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف، وقيل: الضميران لعيسى (4)، أي: وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله، فإنه ينزل من السماء في آخر الزمان ولا يبقى أهل ملة إلا يؤمن به ويصلي خلف المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وتقع الأمنة حتى ترتع الذئاب مع الغنم والأسود مع البقر، وقيل: الضمير في * (به) * يرجع إلى الله تعالى (5)، وقيل: يرجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) (6). (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 588. (2) الصافات: 164. (3) مريم: 71. (4) قاله ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد وأبو مالك. راجع تفسير الطبري: ج 4 ص 356 - 357، وتفسير القرطبي: ج 6 ص 11. (5) قاله البغوي في تفسيره: ج 1 ص 497، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 589. (6) قاله عكرمة. راجع تفسير البغوي: ج 1 ص 497. (*)
[ 461 ]
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: " حرام على روح امرئ أن تفارق جسدها حتى ترى محمدا (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليه السلام) بحيث تقر عينها أو تسخن " (1). * (فبظلم من الذين هادوا) * أي: فبأي ظلم عظيم ! والمعنى: ما * (حرمنا عليهم) * الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه وهو ماعدد لهم من الكفر والكبائر الموبقة، والطيبات التي حرمت عليهم عقوبة على ظلمهم ما ذكر في قوله: * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر) * الآية (2)، كلما أذنبوا ذنبا حرم عليهم بعض الطيبات * (وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) * أي: ناسا كثيرا أو صدا كثيرا * (بالبطل) * بالرشوة التي كانوا يأخذونها من عوامهم في تحريف الكتاب. * (لكن الرا سخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون بالله واليوم الاخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) * (162) * (الرا سخون في العلم) * الثابتون فيه المتقنون له وهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وأضرابه من علماء اليهود * (والمؤمنون) * من المهاجرين والأنصار * (والمقيمين الصلوة) * نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وقيل: هو عطف على * (بمآ أنزل إليك) * أي: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء (3). * (إنآ أوحينا إليك كمآ أوحينا إلى نوح والنبين من بعده وأوحينا إلى إبرا هيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمن وءاتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد (1) العياشي: ج 1 ص 284 ح 303. (2) الأنعام: 146. (3) حكى هذا القول الرازي في تفسيره: ج 11 ص 106 عن الكسائي. (*)
[ 462 ]
قصصنهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) * (165) هذا جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن إرساله كإرسال من تقدمه من الأنبياء وأن المعجزات قد ظهرت على يده كما كانت تظهر على أيديهم، وقرئ: " زبورا " بضم الزاي (1) جمع زبر وهو الكتاب، ونصب * (رسلا) * بمضمر في معنى * (أوحينا إليك) * وهو أرسلنا * (قد قصصنهم عليك من قبل) * بمكة في الأنعام وغيرها وعرفناك شأنهم وأخبارهم * (ورسلا لم نقصصهم عليك) * فيه دلالة على أن له سبحانه رسلا لم يذكرهم في القرآن * (وكلم الله موسى تكليما) * بلا واسطة إبانة له بذلك * (رسلا مبشرين ومنذرين) * نصب على المدح، ويجوز أن يكون منصوبا على التكرير * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * لأن في إرسالهم إزاحة للعلة وإتماما لإلزام الحجة لئلا يقول الناس: لولا أرسلت إلينا رسولا يوصل إلى المحجة وينبه على الحجة ويوقظ من سنة الغفلة. سورة النساء / 166 - 169 * (لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملئكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضللا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خلدين فيها أبدا وكان ذا لك على (1) قرأه حمزة وخلف. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 240، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 402، والعنوان في القراءات لابن خلف: ص 86، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 397. (*)
[ 463 ]
الله يسيرا) * (169) لما سألوا إنزال الكتاب من السماء واحتج سبحانه عليهم بقوله: * (إنآ أوحينا إليك) * قال: * (لكن الله يشهد) * على معنى: أنهم لا يشهدون لكن الله يشهد، وقيل: لما نزلت * (إنآ أوحينا إليك) * قالوا: مانشهد لك بهذا فنزل * (لكن الله يشهد) * (1)، ومعنى شهادة الله * (بمآ أنزل) * إليه: إثباته لصحته بالمعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات، وشهادة * (الملئكة) *: شهادتهم بأنه حق وصدق، ومعنى قوله: * (أنزله بعلمه) * أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليفه على أسلوب ونظم أعجز كل بليغ، وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك ومبلغ له (2) * (وكفى بالله شهيدا) * وإن لم يشهد غيره * (كفروا وظلموا) * جمعوا بين الكفر والظلم، أو كان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين * (ولا ليهديهم طريقا) * لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى * (جهنم) *، أو لا يهديهم يوم القيامة إلا طريقها. * (يأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فامنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله مافى السموا ت والارض وكان الله عليما حكيما (170) يأهل الكتب لاتغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقيهآ إلى مريم وروح منه فامنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله وا حد سبحنه أن يكون له ولد له مافى السموا ت وما في الارض وكفى بالله وكيلا) * (171) (1) قاله القتيبي كما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 406. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 592، والقرطبي في تفسيره: ج 6 ص 19. (*
[ 464 ]
* (فامنوا خيرا لكم) * ومثله * (انتهوا خيرا لكم) * انتصب بمضمر، وهو أنه لما دعاهم إلى الإيمان وإلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال: * (خيرا لكم) * اقصدوا أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد * (لاتغلوا في دينكم) * غلت اليهود في المسيح حتى قالت: ولد لغير رشدة، وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها * (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * وهو تنزيهه عن الشريك والولد * (وكلمته) * قيل لعيسى: كلمة الله وكلمة منه، لأنه وجد بكلمته وأمره لاغير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له: روح الله * (وروح منه) * كذلك لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الحي، وإنما أنشئ إنشاء من عند الله خالصا * (ألقيهآ إلى مريم) * أوصلها إليها وحصلها فيها * (ثلثة) خبر مبتدأ محذوف، فإن صح عنهم قولهم: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم فتقديره: الله ثلاثة، وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة * (سبحنه أن يكون له ولد) * أي: أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد * (له مافى السموا ت وما في الارض) * بيان لتنزهه (1) مما نسب إليه، المعنى: أن كل ما فيهما خلقه وملكه فكيف يكون بعض خلقه وملكه جزء منه ؟ ! * (وكفى بالله وكيلا) * يكل الخلق إليه أمورهم، فهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه. سورة النساء / 172 - 175 * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملئكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * (173) (1) في بعض النسخ: لتنزيهه. (*)
[ 465 ]
أي: * (لن) * يأنف * (المسيح) * ولن يذهب بنفسه عزة، من نكفت الدمع: إذا نحيته عن خدك بإصبعك، من * (أن يكون عبدا لله ولا الملئكة المقربون) * يأنفون وهو عطف على * (المسيح) * أي: ولاكل واحد من الملائكة يأنف من أن يكون عبدا لله، أو ولا الملائكة المقربون يأنفون من أن يكونوا عبادا لله فحذف لدلالة قوله: * (عبدا لله) * عليه إيجازا * (ومن) * يأنف * (عن عبادته) * ويترك الإذعان له * (فسيحشرهم إليه) * أي: فسيحشر المستنكف والمستكبر والمقر بالعبودية * (جميعا) * إلى موضع الجزاء فيجازيهم جميعا على حسب أحوالهم، والآية الأخرى ظاهرة المعنى. * (يأيها الناس قد جاءكم برهن من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صرا طا مستقيما) * (175) البرهان والنور المبين هو القرآن (1)، أو أريد بالبرهان الدين الحق أو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالنور المبين مايبينه من الكتاب المعجز (2) * (في رحمة منه وفضل) * أي: في ثواب مستحق وتفضل * (ويهديهم إليه) * يوفقهم لإصابة فضله الذي يتفضل به على أوليائه وسلوك طريق من أنعم عليه من أصفيائه واتباع دينهم، وهو الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله سبحانه منهجا لعباده. * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكللة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا (1) وهو قول مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج وجميع المفسرين. راجع التبيان: ج 3 ص 406، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 136. (2) وقائله مجاهد كما حكاه عنه القرطبي: ج 6 ص 27. (*)
[ 466 ]
اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم) * (176) قالوا: إنه آخر ما نزل من أحكام الدين (1)، كان جابر بن عبد الله مريضا فعاده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يارسول الله، إني (2) كلالة فكيف أصنع في مالي ؟ فنزلت (3) * (إن امرؤا هلك) * مرفوع بفعل مضمر يفسره الظاهر، و * (ليس له ولد) * جملة منصوبة الموضع على الحال، أي: هلك غير ذي ولد * (وله أخت) * يعني: الأخت للاب والأم، أو للأب * (فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * يعني: أنها إذا كانت الميتة فالأخ يرثها المال كله إذا كانت غير ذات ولد ولا والد، وشرط انتفاء الوالد بينه النبي (صلى الله عليه وآله) وفيه إجماع * (فإن كانتا اثنتين) * الأصل: فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين * (فلهما الثلثان مما ترك) *، * (وإن كانوا إخوة) * وإن كان من يرث بالأخوة إخوة ذكورا وإناثا * (فللذكر مثل حظ الانثيين) * فالمراد بالإخوة: الإخوة والأخوات تغليبا لحكم الذكور، وإنما قيل: * (فإن كانتا) * و * (إن كانوا) * كما قيل: من كانت أمك، فكما أنث ضمير " من " لمكان تأنيث الخبر كذلك ثني وجمع ضمير " من يرث " في * (كانتا) * و * (كانوا) * لمكان تثنية الخبر وجمعه (4) و * (أن تضلوا) * مفعول له، ومعناه: كراهة أن تضلوا، أي: * (يبين الله لكم) * جميع أحكام دينكم (5) لئلا تضلوا * (والله بكل شئ عليم) * من أمور معاشكم ومعادكم فيجزيكم بها على ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة. (1) انظر التبيان: ج 3 ص 407، والكشاف: ج 1 ص 598. (2) في بعض النسخ: إن لي. (3) التبيان: ج 3 ص 408، اسباب النزول للواحدي: ص 153 - 154، تفسير البغوي: ج 1 ص 504، تفسير السمرقندي: ج 1 ص 409. (4) راجع تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 1 ص 829 - 830. (5) في نسخة: الدين. (*)
[ 467 ]
سورة المائدة مدنية (1) وهي مائة وعشرون آية كوفي، ثلاث وعشرون بصري، * (بالعقود) * (2) * (ويعفوا عن كثير) * (3) * (فإنكم غلبون) * (4) بصري. في حديث أبي: " ومن قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في دار الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات " (5). (1) قال الشيخ الطوسي: هي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال جعفر بن مبشر: هي مدنية إلا آية منها نزلت في حجة الوداع وهي قوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وهي كلها مدنية بمعنى أنها نزلت بعد الهجرة، وقال الشعبي: نزل قوله: * (اليوم أكملت) * والنبي (صلى الله عليه وآله) واقف على راحلته في حجة الوداع، وقال عبد الله بن عمر: آخر سورة نزلت المائدة. وهي مائة وعشرون آية كوفي، واثنتان وعشرون في المدينتين، وثلاثة وعشرون بصري. انظر التبيان: ج 3 ص 413. وفي تفسير البغوي: ج 2 ص 5: مدنية كلها إلا قوله: * (اليوم أكملت) * الآية، فانها نزلت بعرفات، وهي مائة وعشرون آية. وعن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: أتقرأ المائدة ؟ قلت: نعم، قالت: أما انها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه. انظر مستدرك الحاكم: ج 2 ص 311، وتفسير ابن كثير: ج 2 ص 3. (2) الآية: 1. (3) الآية: 15. (4) الآية: 23. (5) رواه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 697، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 150. (*)
[ 468 ]
أبو الجارود (1) عن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة المائدة في كل يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم ولا يشرك أبدا " (2). (1) هو زياد بن المنذر، أبو الجارود الأعمى الكوفي، كان ثقة في النقل مقبول الرواية معتمدا في الحديث، إماميا في أوله وزيديا في آخره، مات بعد السنة 150 ه. (تقريب التهذيب: ج 1 ص 270، الكنى والألقاب: ج 1 ص 34). (2) ثواب الأعمال للصدوق: ص 131، وتفسير العياشي: ج 1 ص 288 ح 3. (*)
[ 469 ]
بسم الله الرحمن الرحيم * (يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعم إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) * (1) وفى بعهده وأوفى بمعنى، والعقد: العهد، بمعنى المعقود، والعقود: عهود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من الإيمان به وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وقيل: هي العقود التي يتعاقدها الناس من المبايعة والمناكحة وغيرهما (1). ثم أخذ سبحانه في تفصيل العقود التي أمر بالوفاء بها فقال: * (أحلت لكم بهيمة الانعم) * والبهيمة: كل ذات أربع من دواب البر والبحر، وإضافتها إلى * (الانعم) * للبيان ك " خاتم فضة "، ومعناه: البهيمة من الأنعام * (إلا ما يتلى عليكم) * إلا محرم ما يتلى عليكم في القرآن من نحو قوله: * (حرمت عليكم الميتة) * الآية (2)، أو إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه، والأنعام: الأزواج الثمانية، وقيل: بهيمة الأنعام هي الظباء وبقر الوحش ونحوهما (3)، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه * (غير محلى (1) قاله ابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 6. (2) المائدة: 3. (3) قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 6، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 298. (*)
[ 470 ]
الصيد) * نصب على الحال من الضمير في * (لكم) * أي: أحلت لكم هذه الأشياء لامحلين الصيد، وقال الأخفش (1): انتصب عن قوله: * (أوفوا بالعقود) * (2)، * (وأنتم حرم) * حال عن * (محلى الصيد) * كأنه قيل: أحل لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يحرج عليكم * (إن الله يحكم ما يريد) * من الأحكام، وحرم: جمع حرام وهو المحرم. * (يأيها الذين ءامنوا لاتحلوا شعئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلئد ولاءآمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوا نا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوا ن واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * (2) سورة المائدة / 2 الشعائر: أعلام الحج وأعماله، جمع شعيرة وهي ما جعل شعارا وعلما للنسك من المواقف والطواف والسعي وغيرها، و * (الشهر الحرام) * شهر (3) الحج، و * (الهدى) * ماأهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك، وهو جمع هدية كجدي في جمع جدية السرج، و * (القلئد) * جمع قلادة (4) وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو غيره، والآمون: القاصدون، وآمو البيت الحرام هم الحجاج والعمار، (1) هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، النحوي البلخي المعروف بالأخفش الأوسط، أحد نحاة البصرة، ومن أئمة العربية، وقد أخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه، قيل: توفي سنة خمس عشرة ومائتين، وقيل: إحدى وعشرين ومائتين. (وفيات الأعيان: ج 2 ص 122). (2) معاني القرآن: ج 2 ص 459، وحكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 601. (3) في نسخة: أشهر. (4) انظر الأقوال الواردة فيه في التبيان: ج 3 ص 420، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 7. (*)
[ 471 ]
وإحلال هذه الأشياء: أن يتهاون بحرمتها وتضيع، وأن يحال بينها وبين المتنسكين، وأن يحدث في شهر الحج ما يصد الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. وفي إحلال القلائد وجهان: أحدهما: أن يراد ذوات القلائد من البدن والبقر، وإنما عطف بها على الهدي للاختصاص وزيادة التوصية بها كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا، والثاني: أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي، مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، كأنه قيل: ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها كقوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * (1) نهي عن إبداء الزينة فضلا عن إبداء مواقعها (2) * (ولاءآمين) * أي: ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام * (يبتغون فضلا من ربهم) * وهو الثواب * (ورضوا نا) * وأن يرضى عنهم، أي: لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم * (وإذا حللتم فاصطادوا) * هو إباحة للاصطياد بعد الحظر، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وجرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد واثنين، تقول: جرم ذنبا وجرمته ذنبا، وكسب شيئا وكسبته إياه، وأول المفعولين في الآية ضمير المخاطبين، والثاني * (أن تعتدوا) *، و * (أن صدوكم) * بفتح الهمزة متعلق بال * (شنان) * وهو شدة البغض، وقرئ بسكون النون أيضا (3)، والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه لأن صدوكم عن المسجد الحرام وهو منع أهل مكة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم * (وتعاونوا على البر والتقوى) * أي: على العفو والإغضاء (1) النور: 31. (2) راجع تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 602. (3) وهي قراءة ابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 242. (*
[ 472 ]
* (ولا تعاونوا على الاثم والعدوا ن) * على الانتقام والتشفي، والأولى أن يكون محمولا على العموم فيتناول كل بر وتقوى وكل إثم وظلم. * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلم ذا لكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلم دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم) * (3) سورة المائدة / 3 كانوا يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والدم يجعلونه في المباعر (1) ويشوونه ويقولون: " لم يحرم من فزد له " (2) أي: فصد له * (وما أهل لغير الله به) * أي: رفع الصوت به لغير الله وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه * (والمنخنقة) * التي خنقت حتى ماتت، أو انخنقت هي بسبب * (والموقوذة) * التي ضربت حتى ماتت * (والمتردية) * التي تردت من جبل أو في بئر فماتت * (والنطيحة) * التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح * (ومآأكل السبع) * بعضه * (إلا ما ذكيتم) * أي: أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح أو تشخب أوداجه، عن الصادق (عليه السلام): " أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه (1) المباعر: أي مواضع البعر من كل ذي أربعة أرجل، وهي الأمعاء. (لسان العرب: مادة بعر). (2) وفي المثل: " لم يحرم من فصد له " وربما سكنت الصاد منه تخفيفا فتقلب زايا فيقال: " فزد له " والفصيد: دم كان يجعل في معى من فصد عرق البعير، ثم يشوى ويطعمه الضيف في الأزمة، أي: من فصد له البعير فهو غير محروم، ويضرب في القناعة باليسير. راجع مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 141، والصحاح: مادة (فصد). (*)
[ 473 ]
أو تطرف عينه " (1)، * (وما ذبح على النصب) * كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يعبدونها وهي الأوثان، ويذبحون لها وينضحون الدم على ما أقبل منها إلى البيت، ويشرحون اللحم عليها يعظمونها بذلك، قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لاتنسكنه * ولاتعبد الشيطان والله فاعبدا (2) وجمعه الأنصاب، وقيل: النصب جمع والواحد نصاب (3) * (وأن تستقسموا بالازلم) * أي: وحرم عليكم الاستقسام بالقداح وهي سهام كانت لهم، مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وبعضها: غفل، فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما يقسم له مما لم يقسم له بالأزلام، وقيل: هو الميسر وقسمتهم الجزور على القداح العشرة، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والمسبل له ثلاثة أسهم والنافس له أربعة أسهم والحلس له خمسة أسهم والرقيب له ستة أسهم والمعلى له سبعة أسهم والسفيح والمنيح والوغد لاأنصباء لها، وكانوا يدفعون القداح إلى رجل يجيلها، وكان ثمن الجزور على من يخرج لهم هذه الثلاثة التي لاأنصباء لها (4)، وهو القمار الذي حرمه الله عزوجل (5)، وقيل: هو الشطرنج والنرد (6) * (ذا لكم فسق) * الإشارة إلى الاستقسام أو إلى تناول ما حرم عليهم * (اليوم) * لم يرد يوما بعينه ومعناه الآن * (يئس الذين كفروا من دينكم) * أن (1) التبيان: ج 3 ص 431، تفسير ابن كثير: ج 2 ص 11. (2) ديوان الأعشى: ص 48 وفيه: " الاوثان " بدل " الشيطان "، ومعناه واضح. (3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 146. (4) ولمعرفة تفصيل الميسر والاستقسام بالازلام وأقسامهما وأنواعهما راجع كتاب بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: ج 3 ص 53 - 70. (5) قاله المؤرج وكثير من أهل اللغة. راجع تفسير الرازي: ج 11 ص 135. (6) وهو قول سفيان ووكيع. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 10، وتفسير الطبري: ج 4 ص 415، وتفسير القرطبي: ج 6 ص 59. (*)
[ 474 ]
يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه المحرمات، وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه، سورة المائدة / 3 و 4 لأن الله تعالى وفى بعهده (1) من إظهاره على الدين كله (2) * (فلا تخشوهم) * بعد إظهار الدين وزوال الخوف منهم إذا انقلبوا مغلوبين بعد أن كانوا غالبين * (واخشون) * - ي وأخلصوا لي الخشية * (اليوم أكملت لكم دينكم) * وما تحتاجون إليه في تكليفكم من الحلال والحرام والفرائض والأحكام * (وأتممت عليكم نعمتي) * بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، روي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنه إنما نزلت بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع، وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة (3) (4)، (1) في نسخة: بوعده. (2) قاله ابن عباس والسدي وعطاء. راجع التبيان: ج 3 ص 434، واختاره الزجاج في معاني القرآن واعرابه: ج 2 ص 148. (3) أمالي الصدوق: ص 109 ح 8، التبيان: ج 3 ص 435. (4) قال القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 61 ما لفظه: روي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكى عمر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك ؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ إلا نقص، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): صدقت. قلت:... الى أن قال: لعل قائلا يقول: قوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعتين جميعا وبذلوا لله أنفسهم مع عظيم ماحل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص ! وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك كان يدعو الناس الى دين ناقص ! ! ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم كما قال تعالى: * (دينا قيما) * فالجواب: لم قلت: إن كل نقص عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له: أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ؟ ونقصان العمر الذي اراده الله بقوله: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * أهو عيب له ؟... الى أن قال: وما أنكرت من معناه يخرج على وجهين: أحدهما: أن المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب... الى أن قال: والوجه الآخر: أنه أراد بقوله تعالى أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان = (*)
[ 475 ]
* (ورضيت لكم الاسلم دينا) * أي: اخترته لك من بين الأديان، وآذنتكم بأنه الدين المرضي عندي، واتصل قوله: * (فمن اضطر في مخمصة) * بذكر المحرمات، وقوله: * (ذا لكم فسق) * ومابعده اعتراض أكد به معنى التحريم، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطر إلى الميتة أو غيرها في مجاعة * (غير متجانف لاثم) * أي: غير منحرف نحو قوله: * (غير باغ ولاعاد) * (1)، * (فإن الله غفور رحيم) * لا يؤاخذه بذلك. * (يسلونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبت وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) * (4) * (ماذآ) * مبتدأ و * (أحل لهم) * خبره، أي: أي شئ أحل لهم من المطاعم ؟ كأنهم حين تلي عليهم المآكل المحرمة (2) سألوا عما أحل لهم منها، ولم يقل: ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه، لأن * (يسئلونك) * بلفظ الغيبة، وهذا كما تقول: أقسم زيد ليفعلن، ولو قيل: لأفعلن وأحل لنا لجاز * (قل أحل لكم الطيبت) * وهو كل ما لم يأت تحريمه في الكتاب والسنة * (وما علمتم من الجوارح) * عطف على * (الطيبت) * أي: وصيد ما علمتم فحذف المضاف، أو يجعل * (ما) * شرطية وجوابها (3) * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * والجوارح: هي الكواسب من الكلاب عند (4) أئمة الهدى (عليهم السلام) (5). = الدين غيره، فحجوا، فاستجمع لهم الدين أداء لاركانه وقياما بفرائضه... الخ، انتهى. (1) البقرة: 173. (2) في نسخة: المحرمات. (3) في نسخة: جوابه. (4) في نسخة: وعن. (5) انظر التبيان: ج 3 ص 439. (*)
[ 476 ]
الصادق (عليه السلام) قال: " لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب المعلمة (1)، وكل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها، وقال: إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته " (2) وهو أن يقول: بسم الله والله أكبر. * (مكلبين) * حال من * (علمتم) * والمكلب: مؤدب الكلاب ومضريها بالصيد لصاحبها و * (تعلمونهن) * حال ثانية أو استئناف * (مما علمكم الله) * من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل، وقيل: مما عرفكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه (3) * (واذكروا اسم الله عليه) * عند الإرسال، أو إذا أدركتم ذكاته * (واتقوا الله) * فلا تقربوا ما نهاكم عنه. * (اليوم أحل لكم الطيبت وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنت من المؤمنت والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفحين ولامتخذى أخدان ومن يكفر بالايمن فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخسرين) * (5) سورة المائدة / 5 * (الطيبت) * تقع على كل مستطاب من الأطعمة إلا مادل الدليل على تحريمه (1) ليس في المجمع عبارة " المعلمة ". (2) تفسير القمي: ج 1 ص 162 - 163، وعنه البرهان: ج 1 ص 447 ح 5، وذكره المصنف في مجمع البيان ج 3 - 4 ص 161 عن القمي. ورواه العامة عنه (صلى الله عليه وآله) بألفاظ مختلفة قريبة منه، راجع على سبيل المثال: المعجم الكبير للطبراني: ج 17 ص 74 و 76، مسند الحميدي: ص 913، سنن النسائي: ج 7 ص 179، سنن البيهقي: ج 9 ص 236 و 238 و 244. (3) قاله السدي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 12. (*)
[ 477 ]
* (وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم) * قيل: هو ذبائحهم (1)، وقال الصادق (عليه السلام): " هو مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية " (2) * (وطعامكم حل لهم) * فلا جناح عليكم أن تطعموهم * (والمحصنت) * الحرائر والعفائف، وإنما خصهن بعثا للمؤمنين على أن يتخيروا لنطفهم وإلا فغير العفائف يصح نكاحهن وكذلك الإماء المسلمات * (والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم) * قال أصحابنا: هن اللواتي أسلمن منهن، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فلذلك أفردن بالذكر، واحتجوا بقوله سبحانه: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (3) وقوله: * (ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن) * (4) (5). * (محصنين) * أعفاء * (غير مسفحين) * غير زانين * (ولامتخذى أخدان) * صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى * (ومن يكفر بالايمن) * ومن لم يؤمن من أهل الكتاب * (فقد حبط عمله) * وفي هذا دلالة على أن حبوط العمل لا يترتب على ثبوت الثواب، فإن الكافر ليس له (6) عمل عليه ثواب. * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا (1) ذكره الشيخ الطوسي في التبيان: ج 3 ص 444 ونسبه الى قوم من أصحابنا، ثم قال: فمن ذهب إليه الطبري والبلخي والجبائي وأكثر الفقهاء. (2) تفسير العياشي: ج 1 ص 296 ح 37، وعنه الوسائل: ج 16 كتاب الأطعمة والأشربة ب 51 ص 382 ح 8. (3) الممتحنة: 10. (4) البقرة: 221. (5) انظر التبيان: ج 3 ص 446. (6) في نسخة: الكافرين ليس لهم. (*)
[ 478 ]
بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) * (6) * (إذا قمتم إلى الصلوة) * مثل قوله: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله) * (1) في أن المراد: إذا أردتم القيام (2) إلى الصلاة فعبر عن إرادة الفعل بالفعل، لأن الفعل يوجد بالقصد والإرادة، ولأن من قام إلى الشئ كان قاصدا له لا محالة، فعبر عن القصد له بالقيام إليه * (فاغسلوا وجوهكم) * وحد الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن (3) طولا وما دخل بين الوسطى والإبهام عرضا * (وأيديكم إلى المرافق) * والمرافق (4): ما يرتفق به من اليد أي: يتكأ عليه. لادليل في الآية على دخول المرافق في الغسل إلا أن أكثر الفقهاء (5) ذهبوا إلى وجوب غسل المرافق في الوضوء وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) (6)، وأجمعت (7) الأمة على أن من بدأ في غسل اليدين من المرفقين صح وضوؤه (8) وأصحابنا (9) يوجبونه. سورة المائدة / 6 * (وامسحوا برءوسكم) * المراد إلصاق المسح بالرأس، وأصحابنا (10) (1) النحل: 98. (2) في نسخة: قياما. (3) محادر شعر الذقن - بالدال المهملة -: أول انحدار الشعر عن الذقن وهو طرفه. (مجمع البحرين: مادة حدر). (4) في نسخة: المرفق. (5) انظر احكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 341، ومقدمات ابن رشد: ج 1 ص 51، وعمدة القارئ: ج 2 ص 233، وأحكام القرآن لابن العربي: ج 2 ص 565، وبدائع الصنائع: ج 1 ص 4، ومغني المحتاج: ج 1 ص 52، والمبسوط للسرخسي: ج 1 ص 6، وتفسير الرازي: ج 11 ص 159. (6) راجع الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 78. (7) في بعض النسخ: اجتمعت. (8) انظر التبيان: ج 3 ص 451. (9) المبسوط للشيخ الطوسي: ج 1 ص 21، التبيان: ج 3 ص 451، الوسيلة: ص 50، شرائع الاسلام: ج 1 ص 21، وانظر السرائر: ج 1 ص 99. (10) المبسوط للشيخ الطوسي: ج 1 ص 21، التبيان: ج 3 ص 451، الخلاف: ج 1 ص 81، = (*)
[ 479 ]
يوجبون أقل ما يقع عليه اسم المسح، وهذا مذهب الشافعي (1)، * (وأرجلكم إلى الكعبين) * قرئ: بالجر (2) والنصب، فالجر للعطف على اللفظ والنصب للعطف على محل الجار والمجرور. وقال جار الله: كانت الأرجل مظنة للإسراف المذموم في صب الماء عليها فعطفت على الممسوح لالتمسح لكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وقيل: * (إلى الكعبين) * فجئ بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة (3). وهذا كلام فاسد، لأن حقيقة العطف تقتضي أن يكون المعطوف في حكم المعطوف عليه، وكيف يكون المسح في معنى الغسل وفائدة اللفظين (4) مختلفة ولفظ التنزيل قد فرق بين الأعضاء المغسولة والأعضاء الممسوحة ؟ ! وأما قوله: " لم يضرب للمسح غاية " فمما لا يخفى فساده، لأن ضرب الغاية لا يدل على الغسل، فلو صرح فقيل: " وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين " لم يكن منكرا ولم = النهاية ونكتها: ج 1 ص 219، السرائر: ج 1 ص 101، المراسم: ص 37، المهذب: ج 1 ص 44. (1) الام: ج 1 ص 26، أحكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 341، عمدة القارئ: ج 2 ص 234، بدائع الصنائع: ج 1 ص 4، فتح المعين: ص 6، بداية المجتهد: ج 1 ص 11، الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 82 وقال: وبه قال الأوزاعي والثوري. (2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم، وهي قراءة أنس وعلقمة وأبي جعفر. راجع أحكام القرآن لابن العربي: ج 2 ص 71، والقرطبي: ج 6 ص 91 وقال: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الخفض، انتهى. وهي قراءة أهل البيت (عليهم السلام)، ففي التهذيب: ج 1 ص 70 ح 188 الشيخ باسناده عن غالب بن الهذيل قال: سألت أبا جعفر عن الآية * (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * على الخفض هي أم على النصب، قال: هي على الخفض. (3) الكشاف: ج 1 ص 611. (4) في نسخة: اللفظتين. (*)
[ 480 ]
يشك أحد في أنه كان يجب المسح إلى الكعبين فكذلك إذا جعل في حكم الممسوح بالعطف عليه، وقد بسطنا الكلام فيه في كتاب مجمع البيان (1) (2)، ولا يحتمل هذا الكتاب أكثر مما ذكرناه. والكعبان عندنا هما العظمان الناتئان (3) في القدمين عند معقد الشراك (4)، وإليه ذهب محمد بن الحسن (5). سورة المائدة / 6 - 8 * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * أي: تطهروا بالاغتسال * (ما يريد الله ليجعل (1) راجع: ج 3 - 4 ص 164 - 167. (2) قال السيد المرتضى: ان القراءة بالجر أولى من القراءة بالنصب، لأنا إذا نصبنا الأرجل فلابد من عامل في هذا النصب: فاما أن تكون معطوفة على الأيدي، أو يقدر لها عامل محذوفا، أو تكون معطوفة على موضع الجار والمجرور في قوله: * (برءوسكم) * ولايجوز أن تكون معطوفة على الأيدي لبعدها من عامل النصب في الأيدي، ولأن اعمال العامل الأقرب أولى من اعمال الأبعد. وذكرنا قوله تعالى: * (ءاتونى أفرغ عليه قطرا) *، وقوله: * (هآؤم اقرءوا كتبيه) *، وقوله: * (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) *. وذكرنا ما هو أوضح من هذا كله وهو أن القائل إذا قال: ضربت عبد الله وأكرمت خالدا وبشرا، إن رد بشرا الى حكم الجملة الماضية التي قد انقطع حكمها ووقع الخروج عنها لحن وخروج عن مقتضى اللغة، وقوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) * جملة مستقلة بنفسها وقد انقطع حكمها بالتجاوز لها الى جملة اخرى وهو قوله: * (وامسحوا برءوسكم) *. ولايجوز أن تنصب الأرجل بمحذوف مقدر، لأنه لافرق بين أن تقدر محذوفا هو الغسل وبين أن تقدر محذوفا هو المسح، ولأن الحذف لا يصار إليه إلا عند الضرورة، وإذا استقل الكلام بنفسه من غير تقدير محذوف لم يجز حمله على محذوف. فأما محل النصب على موضع الجار والمجرور فهو جائز شائع إلا أنه موجب للمسح دون الغسل، لأن الرؤوس ممسوحة، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها، إلا أنه لما كان اعمال اقرب العاملين أولى وأكثر في القرآن ولغة العرب وجب أن يكون جر الآية حتى تكون معطوفة على لفظة الرؤوس أولى من نصبها وعطفها على موضع الجار والمجرور، لأنه أبعد قليلا، فلهذا ترجحت القراءة بجر الأرجل على القراءة بالنصب. (راجع رسائله: ج 3 ص 163). (3) في بعض النسخ: النابتان. (4) راجع الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 92 مسألة (40)، والتبيان: ج 1 ص 452. (5) المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 9، أحكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 347، بدائع الصنائع: ج 1 ص 7، تفسير الرازي: ج 11 ص 162. (*)
[ 481 ]
عليكم من حرج) * في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم * (ولكن يريد ليطهركم) * بالتراب إذا أعوزكم التطهر (1) بالماء * (وليتم) * برخصته إنعامه * (عليكم لعلكم تشكرون) * نعمته (2) عليكم. * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثقه الذى واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7) يأيها الذين ءامنوا كونوا قوا مين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بايتنآ أولئك أصحب الجحيم) * (10) * (واذكروا نعمة الله عليكم) * وهي نعمة الإسلام * (وميثقه الذى واثقكم به) * أي: عاقدكم به عقدا وثيقا، وهو الميثاق الذي أخذه عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر فقبلوا وقالوا: * (سمعنا وأطعنا) *، وقيل: هو مابين لهم في حجة الوداع من تحريم المحرمات وفرض الولاية وغير ذلك، عن الباقر (عليه السلام) (3). وعدي * (يجرمنكم) * ب * (على) * لأنه في معنى: ولا يحملنكم بغضكم للمشركين * (على ألا تعدلوا) * أي: تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا ما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب مالا يحل لكم من مثلة أو قتل أولاد أو نساء أو غير ذلك * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * نهاهم أولا عن ترك العدل، ثم صرح لهم بالأمر بالعدل (4) تأكيدا أو (1) في بعض النسخ: التطهير. (2) في نسخة: نعمه. (3) حكاه الشيخ الطوسي عنه (عليه السلام) في التبيان: ج 3 ص 460. (4) في نسخة زيادة: على وجه الاستئناف. (*)
[ 482 ]
تشديدا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل بقوله: * (هو أقرب للتقوى) * أي: أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها، وإذا كان العدل إلى الكفار بهذه الصفة من القوة فكيف يكون مع المؤمنين ؟ ! * (لهم مغفرة وأجر عظيم) * بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قدم لهم وعدا فقيل: أي شئ هو ؟ فقال: * (لهم مغفرة) * وأجرى * (وعد) * مجرى " قال " لأنه ضرب من القول. * (يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * (11) روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى بني النضير مع جماعة من أصحابه يستقرضهم (1) دية رجلين أصابهما رجل من أصحابه وهما في أمان منه فلزمه ديتهما أو يستعينهم على ذلك، فقالوا: نعم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تسأل وهموا بالفتك به، فأخبره جبرئيل فخرج، فكان إحدى معجزاته (عليه السلام) (2)، يقال: بسط إليه كفه إذا بطش به، ومعنى بسط اليد: مدها إلى المبطوش به، والكف: المنع. سورة المائدة / 12 * (ولقد أخذ الله ميثق بنى إسرا ءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إنى معكم لئن أقمتم الصلوة وءاتيتم الزكوة وءامنتم برسلى وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيأتكم ولادخلنكم جنت تجرى من تحتها الانهر فمن كفر بعد ذا لك منكم فقد ضل سوآء السبيل) * (12) (1) في بعض النسخ: يستقرض. (2) رواه الطبري في تفسيره: ج 4 ص 485، وأخرجه السيوطي بسنده في الدر المنثور: ج 3 ص 36. (*)
[ 483 ]
أمر الله بني إسرائيل بعد هلاك فرعون بمصر بأن يسيروا إلى أريحا من أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة، وقال: إني كتبتها لكم قرارا، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به من الخروج إلى الجبابرة والجهاد وقائدا ورئيسا لهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرضهم بعث النقباء يتجسسون (1) فرأوا أجراما عظيمة وقوة فرجعوا فأخبروا موسى (عليه السلام) بذلك، فأمرهم أن يكتموا ذلك، فحدثوا بذلك قومهم إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط آفرائيم بن يوسف وكان من النقباء، وقيل: كتم خمسة وأظهر الباقون (2)، والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم أي: يفتش عنها، كما قيل: عريف لأنه يتعرفها * (إنى معكم) * أي: ناصركم ومعينكم * (وعزرتموهم) * نصرتموهم ومنعتموهم من أيدي العدو، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد، وقيل: معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والعدل (3) * (وبعثنا منهم اثنى عشر) * ملكا يقيمون فيهم العدل، واللام في * (لئن أقمتم) * موطئة للقسم (4)، وفي * (لاكفرن) * جواب للقسم ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا (5) * (فمن كفر بعد ذا لك منكم) * أي: بعد أخذ الميثاق وبعث النقباء * (فقد ضل) * أي: أخطأ * (سوآء السبيل) * وزال عن قصد الطريق الواضح، لأن النعمة كلما عظمت وزادت كثرت المذمة في كفرانها وتمادت. (1) في نسخة: يتحسسون. (2) قاله النقاش. راجع تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 3 ص 443. (3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 157. (4) في نسخة: توطئة القسم. (5) انظر اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 11، والكشاف: ج 1 ص 615. (*)
[ 484 ]
* (فبما نقضهم ميثقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13) ومن الذين قالوا إنا نصرى أخذنا ميثقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العدا وة والبغضاء إلى يوم القيمة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) * (14) سورة المائدة / 14 - 16 * (لعنهم) * أي: أبعدناهم من رحمتنا وطردناهم * (وجعلنا قلوبهم قسية) * خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، والقسوة: خلاف اللين والرقة، وقرئ: " قسية " (1)، أي: ردية مغشوشة * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * بيان لقسوة قلوبهم فإن تغيير كلام الله والكذب عليه من القسوة * (ونسوا حظا) * وتركوا نصيبا وافيا * (مما ذكروا به) * في التوراة، يعني: أن إعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو يكون المعنى: فسدت (2) قلوبهم فحرفوا التوراة وذهبت أشياء منها (3) عن حفظهم، وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية (4) * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * أي: خيانة منهم أو على نفس أو فرقة خائنة منهم * (إلا قليلا منهم) * وهم الذين آمنوا منهم، وقيل: إلا قليلا داموا على عهدهم (5) * (فاعف عنهم واصفح) * ماداموا على عهدك ولم يخونوك * (ومن الذين قالوا إنا نصرى) * سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 3 ص 468، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 422. (2) في نسخة: قست. (3) في بعض النسخ: فيها. (4) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 615. (5) قاله الطبري في تفسيره: ج 4 ص 497، والبغوي أيضا: ج 2 ص 21. (*)
[ 485 ]
لعيسى (عليه السلام): نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية (1) فصاروا أنصارا للشيطان * (فأغرينا) * فألصقنا وألزمنا من غري بالشئ: إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره * (بينهم) * بين فرق النصارى المختلفين، وقيل: بينهم وبين اليهود (2)، ونحوه: * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * (3). * (يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوا نه سبل السلم ويخرجهم من الظلمت إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صرا ط مستقيم) * (16) خاطب اليهود والنصارى * (قد جاءكم رسولنا) * محمد (عليه السلام) * (يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون) * من أمر الرجم وأشياء حرفتموها * (ويعفوا عن كثير) * مما تخفونه لايبينه، وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه (4) * (قد جاءكم من الله نور) * وهو محمد (صلى الله عليه وآله) يهتدي به الخلق كما يهتدي بالنور، وقيل: هو القرآن لكشفه ظلمات الشك والشرك (5) * (وكتب مبين) * يبين ماكان خافيا على الناس من الحق أو مبين ظاهر الإعجاز * (يهدى به الله من اتبع رضوا نه) * يريد من آمن منهم * (سبل السلم) * أي: طرق النجاة من عذاب الله، أو سبل الله وهي شرائع الإسلام (6) * (ويخرجهم من) * الكفر * (إلى) * الإيمان * (بإذنه) * أي: بلطفه (1) في نسخة: ملكائية، وكذا في المجمع. (2) قاله مجاهد وقتادة. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 22. (3) الأنعام: 65. (4) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 475، والزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 617. (5) قاله أبو علي كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 475. (6) راجع معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 161. (*)
[ 486 ]
ويرشدهم إلى طريق الحق أو طريق الجنة. * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السموا ت والارض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير (17) وقالت اليهود والنصرى نحن أبنؤا الله وأحبؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السموا ت والارض وما بينهما وإليه المصير) * (18) سورة المائدة / 19 كفرهم الله تعالى بهذا القول، قيل: كان في النصارى قوم يبتون القول ب * (إن الله هو المسيح) * (1)، وقيل: كان مذهبهم يؤدي إلى ذلك وإن لم يصرحوا به من حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم (2) * (فمن يملك من الله شيا) * أي: فمن يمنع من قدرته ومشيته شيئا * (إن أراد أن يهلك) * من دعوه إلها من المسيح وأمه، وعطف * (من في الارض) * على * (المسيح... وأمه) * ليدل على أنهما من جنسهم لا تفاوت في البشرية بينهما وبينهم * (يخلق ما يشاء) * من ذكر وأنثى، وما يشاء من أنثى غير ذكر كما خلق عيسى، وما يشاء من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم * (نحن أبنؤا الله) * أي: أشياع ابني الله عزير والمسيح كما يقول أقرباء الملك: نحن الملوك * (فلم يعذبكم بذنوبكم) * أي: فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون ؟ ! ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب لاتعصون الله، ولو كنتم أحباءه لما عاقبكم * (بل أنتم بشر) * من جملة ما * (خلق) * من البشر. (1) حكاه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 22 وقال: وهم اليعقوبية من النصارى. (2) حكى هذا القول الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 617. (*)
[ 487 ]
* (يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ماجآءنا من بشير ولانذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير) * (19) المعنى: * (يبين لكم) * الدين والشرع، أو يبين لكم ما كنتم تخفونه، أو يبذل لكم البيان على الإطلاق، ومحله النصب أي: مبينا لكم * (على فترة) * متعلق ب * (جاءكم) * أي: جاءكم على حين فترة من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي * (أن تقولوا) * كراهة أن تقولوا * (ماجآءنا من بشير) * بالثواب * (ولانذير) * بالعقاب * (فقد جاءكم) * متعلق بمحذوف، أي: لا تعتذروا فقد جاءكم، قالوا: كان بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما خمسمائة وستون سنة (1)، وقيل: ستمائة سنة (2)، وعن الكلبي (3): كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وبين عيسى ومحمد أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي (4). ومعنى الآية: الامتنان عليهم بإرسال الرسول (5) إليهم بعد اندراس آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليعدوه أعظم نعمة من الله. * (وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتيكم ما لم يؤت أحدا من العلمين (20) (1) حكاه ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 34 عن سلمان الفارسي وقتادة. (2) قاله أبو عثمان النهدي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 23. (3) هو أبو المنذر بن محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي، النسابة الكوفي، كان من أعلم الناس بعلم الأنساب، وله كتاب " الجمهرة في النسب "، وكان من الحفاظ المشاهير وله تصانيف كثيرة، توفي سنة أربع ومائتين. (وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 5 ص 131). (4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 619، والرازي في تفسيره: ج 11 ص 194. (5) في نسخة: الرسل. (*)
[ 488 ]
يقوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خسرين (21) قالوا يموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا دا خلون) * (22) سورة المائدة / 23 - 25 لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وذلك من نعم الله عليهم وآلائه لديهم * (وجعلكم ملوكا) * لأن الله سبحانه ملكهم ملك فرعون وملك الجبابرة، وقيل: إنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فسمى الله سبحانه إنقاذهم منهم ملكا (1) * (وءاتيكم ما لم يؤت أحدا من العلمين) * من فلق البحر وتظليل الغمام وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمي زمانهم (2) * (الارض المقدسة) * أرض بيت المقدس (3)، وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن (4)، وقيل: الشام (5)، وكان بيت المقدس مستقر الأنبياء ومسكن المؤمنين * (التى كتب الله لكم) * أي: قسمها لكم، أو خطها في اللوح المحفوظ أنها لكم * (ولا ترتدوا على أدباركم) * ولاتنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا، أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بعصيانكم نبيكم ومخالفتكم أمر ربكم فترجعوا * (خسرين) * ثواب الدنيا والآخرة، والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد. (1) قاله الحسن والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 24، والرازي: ج 11 ص 196. (2) وهو قول ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 36. (3) وهو قول ابن عباس وابن زيد والسدي وأبي علي على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 3 ص 483. (4) قاله الكلبي على ما في تفسير البغوي: ج 2 ص 24، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 304، والزجاج في معاني القرآن واعرابه: ج 2 ص 162. (5) قاله قتادة. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 24. (*)
[ 489 ]
* (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غلبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقتلا إنا ههنا قعدون (24) قال رب إنى لاأملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفسقين) * (26) الرجلان: كالب ويوشع، أي: * (يخافون) * الله ويخشونه كأنه قال: رجلان من المتقين، وقيل: الواو لبني إسرائيل أي: * (من الذين) * يخافونهم وهم الجبارون (1)، وكانا منهم على دين موسى لما بلغهما خبر موسى أتياه فاتبعاه (2) * (أنعم الله عليهما) * بالإيمان، وكان سعيد بن جبير يقرأ: " يخافون " بضم الياء (3)، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لاقلوب فيها فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، ويجوز أن يكون * (أنعم الله عليهما) * في محل رفع وصفا ل * (رجلان) *، ويجوز أن يكون اعتراضا لامحل له من الإعراب (4) * (ادخلوا عليهم الباب) * يعني باب قريتهم * (قالوا... لن ندخلها) * نفي لدخولهم في المستقبل على سبيل التأكيد، و * (أبدا) * تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول و * (ماداموا فيها) * بيان للأبد * (فاذهب أنت وربك) * هذه استهانة منهم بالله ورسوله وقلة مبالاة * (قال رب إنى لاأملك) * لنصرة دينك * (إلا نفسي وأخى) * هذه شكاية منه إلى الله تعالى بحزن (1) وهو قول أبي علي. راجع التبيان: ج 3 ص 486. (2) قائل ذلك الضحاك على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 486. (3) حكاها عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 25، وابن خالويه في شواذ القرآن: ص 38. (4) راجع تفصيل ذلك في الكشاف للزمخشري: ج 1 ص 620، والفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 28. (*)
[ 490 ]
ورقة قلب. سورة المائدة / 26 وذكر في إعراب * (أخى) * وجوه (1): أن يكون منصوبا معطوفا على * (نفسي) * (2)، وعلى الضمير في * (إنى) * بمعنى: وإن أخي لا يملك إلا نفسه، وأن يكون مرفوعا عطفا على محل إن واسمها كأنه قيل: أنا لاأملك إلا نفسي وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه، وعلى الضمير في * (لاأملك) * (3) وجاز للفصل، وأن يكون مجرورا عطفا على الضمير في * (نفسي) * وهو ضعيف (4). * (فافرق) * أي: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، * (قال فإنها) * أي: فإن الأرض المقدسة * (محرمة عليهم) * لا يدخلونها ولا يملكونها * (أربعين سنة) * فقد روي: أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحا وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض (5)، وقيل: مات موسى في التيه ومات هارون قبله بسنة وسار يوشع بهم إلى أريحا (6)، وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: * (إنا لن ندخلهآ) * وهلكوا في التيه ونشأت ذراريهم فقاتلوا الجبارين (1) راجع تفصيل تلك الوجوه في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 29. (2) ذهب إليه النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 15. (3) وقد ذهب إليه الزجاج في معاني القرآن واعرابه: ج 2 ص 164. (4) ولم يختاره أحد، قال الهمداني في الفريد: ج 2 ص 29: وهو ضعيف عند أهل البصرة لقبح عطف الظاهر على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار. وقد أطنب في شرح مذهب البصريين في ذلك في: ج 1 ص 126 فراجع. (5) رواه الطبري في تفسيره: ج 4 ص 525، والبغوي كذلك: ج 2 ص 26، والقرطبي أيضا: ج 6 ص 131. (6) وهو قول ابن عباس على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 490، والطبري في تفسيره: ج 4 ص 524 ح 11698، وابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 39. (*)
[ 491 ]
ودخلوها (1)، فيكون التقدير: كتب الله لكم الأرض المقدسة بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم، فالعامل في الظرف * (يتيهون في الارض) * أي: يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقا (2)، والتيه: المفازة التي يتاه فيها، فروي: أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين حتى إذا أمسوا كانوا بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس، ويطلع لهم (3) بالليل عمود من نور يضئ لهم، وينزل عليهم المن والسلوى، ولاتطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر، ويطول بطوله (4). واختلف في موسى وهارون هل كانا معهم في التيه ؟ فقيل: لم يكونا معهم لقوله: * (فافرق بيننا وبين القوم الفسقين) * (5)، وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلاما (6) لا عقوبة (7) كالنار لإبراهيم (8) * (فلا تأس) * فلا تحزن عليهم فإنهم أحقاء بالعذاب، لأنه ندم على الدعاء عليهم. * (واتل عليهم نبأ ابنئ ادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني مآأنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العلمين (28) إنى أريد أن تبوأ بإثمى وإثمك فتكون من (1) قاله ابن عباس والحسن وقتادة. راجع التبيان: ج 3 ص 491، وتفسيرالقرطبي: ج 6 ص 130. (2) في بعض النسخ: طريقها. (3) في بعض النسخ: عليهم. (4) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 622، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 26. (5) قاله الحسن وقتادة. راجع التبيان: ج 3 ص 491. (6) في نسخة: سلامة. (7) في بعض النسخ زيادة: لهم. (8) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 490، واختاره البغوي في تفسيره: ج 2 ص 26، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 165 - 166. (*)
[ 492 ]
أصحب النار وذا لك جزا ؤا الظلمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخسرين) * (30) سورة المائدة / 29 - 31 ابنا * (ءادم) * هما: هابيل وقابيل أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل، فحسد عليها أخاه، فأبى ذلك، فقال لهما آدم: قربا قربانا فمن أيكما قبل زوجها (1)، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدا وسخطا وتوعده بالقتل، أي: اتل نبأهما تلاوة ملتبسة بالحق والصدق موافقا لما في كتب الأولين، أو اتل عليهم وأنت محق صادق * (إذ قربا) * نصب بالنبأ أي: قصتهما في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون بدلا من * (نبأ) * أي: نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف، والقربان: اسم ما يتقرب به إلى الله تعالى، يقال: قرب نسكا وتقرب به * (قال لاقتلنك) * أي: قال الذي لم يتقبل قربانه منهما للذي تقبل قربانه: لاقتلنك * (قال إنما يتقبل الله من المتقين) * كأنه قال له: لم تقتلني ؟ قال: لأنه تقبل منك ولم يتقبل مني، فقال: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخك من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ؟ وفيه دليل على أن الله تعالى إنما يقبل الطاعة ممن هو زاكي القلب متق (2) * (مآأنا بباسط يدى إليك لاقتلك) * لأن إرادة القتل قبيحة، وإنما يحسن من المظلوم قتل الظالم على وجه المدافعة له طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال: لئن ظلمتني لم أظلمك * (إنى (1) في بعض النسخ: أزوجها. (2) أراد (قدس سره) إذا أوقعها على وجهها بعدما وفق لها، وإلا فلا يمتنع أن تقع من الفاسق فتقبل فيستحق الثواب عليها هذا إذا وفق لها. قال الشيخ الطوسي: إنما يستحق الثواب على الطاعات من يوقعها لكونها طاعة، فأما إذا فعلها لغير ذلك فإنه لا يستحق عليها ثوابا، فإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن تقع من الفاسق يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب فيستحق الثواب، ولا تحابط عندنا بين ثوابه وما يستحق عليه العقاب. (راجع التبيان: ج 3 ص 494). (*)
[ 493 ]
أريد أن تبوأ بإثمى وإثمك) * معناه: أن تحتمل إثم قتلي لك (1) وإثم قتلك لي، والمراد بمثل إثمي على الاتساع، فكأنه قال: أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي، وقيل: إن المعنى: أني أريد أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك (2) * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * أي: فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع، أي: زينته له وشجعته عليه * (فقتله) * وقيل: إنه كان أول قتيل في الناس (3) * (فأصبح من الخسرين) * خسر الدنيا والآخرة وذهب عنه خيرهما. * (فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوا رى سوءة أخيه قال يويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوا رى سوءة أخى فأصبح من الندمين) * (31) روي: أنه لما قتله تركه بالعراء لا يدري مايصنع به، فقصده السباع فحمله في جراب على ظهره حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع * (فبعث الله) * غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، ف * (قال يويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) * (4)، * (ليريه) * الله أو ليريه الغراب أي: ليعلمه، ولما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه، والسوءة: مالايجوز أن ينكشف من الجسد، وأصلها الفضيحة فكني بها عن العورة * (فأوا رى) * جواب الاستفهام * (فأصبح من الندمين) * على قتله لما تعب فيه من حمله على ظهره (1) في نسخة زيادة: لو قتلتك. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 167. (3) قاله الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 30. (4) رواها أبو حيان في البحر المحيط: ج 3 ص 465. (*)
[ 494 ]
وتحيره في أمره وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه ؟ فقال: ماكنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته ولذلك اسود جلدك (1). * (من أجل ذا لك كتبنا على بنى إسرا ءيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنمآ أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينت ثم إن كثيرا منهم بعد ذا لك في الارض لمسرفون) * (32) سورة المائدة / 32 و 33 * (من أجل ذا لك) * أي: بسبب ذلك وبعلته، وأصله من أجل عليهم شرا أي: جناه، فإذا قلت: من أجلك فعلت كذا، فكأنك أردت من أن جنيت فعله وأوجبته فعلت، ويدل عليه قولهم: من جراك، و * (ذا لك) * إشارة إلى القتل المذكور، و * (من) * لابتداء الغاية أي: ابتدأ كتبنا على بني إسرائيل من أجل ذلك، وقرئ: " من إجل ذلك " بكسر الهمزة (2) ثم خففت الهمزة وكسرت النون بإلقاء كسرة الهمزة عليها * (أنه من قتل نفسا بغير نفس) * أي: بغير قتل نفس بمعنى بغير قود * (أو فساد في الارض) * أو بغير فساد في الأرض وهو الحرب لله ورسوله وإخافة السبل * (فكأنما قتل الناس جميعا) * أي: فكأنه (3) قصد لقتلهم جميعا إذ قتل أخاهم وصار الناس كلهم خصماءه في قتل تلك النفس * (ومن أحياها) * بأن استنقذها من غرق أو حرق أو هدم ونحوها، أو أخرجها من ضلال إلى هدى * (فكأنمآ أحيا الناس جميعا) * يأجره الله على ذلك أجر من أحياهم بأسرهم، (1) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 626. (2) قرأه أبو جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 38. (3) في نسخة: فكأنما. (*)
[ 495 ]
لأنهم في إسدائه المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم * (بعد ذا لك) * أي: بعد ما كتبنا عليهم * (في الارض لمسرفون) * في القتل (1) لا يبالون به. * (إنما جزا ؤأ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من الارض ذا لك لهم خزى في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) * (34) لفظة * (إنما) * تفيد أن المعنى: ماجزاؤهم إلا هذا * (يحاربون الله) * أي: أولياء الله كقوله: * (إن الذين يؤذون الله) * (2)، * (ورسوله) * أي: ويحاربون رسوله، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته * (ويسعون في الارض فسادا) * أي: مفسدين، أو لأن سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة أن يقال: ويفسدون في الأرض فسادا، ويجوز أن يكون مفعولا له أي: للفساد. وروي عن أئمتنا (عليهم السلام): أن المحارب كل من شهر السلاح وأخاف الطريق، وجزاؤه على قدر استحقاقه: فإن جمع بين القتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب، وإن أفرد القتل فجزاؤه أن يقتل، وإن أفرد أخذ المال فجزاؤه أن تقطع يده لأخذ (3) المال ورجله لإخافة السبيل، ومن أفرد الإخافة نفي من الأرض (4). وقوله: * (من خلف) * معناه اليد اليمنى والرجل اليسرى، والنفي هو أن ينفى من بلد إلى بلد إلى أن يتوب ويرجع * (ذا لك) * إشارة إلى ما ذكرناه * (لهم خزى في (1) في نسخة زيادة: أيضا. (2) الأحزاب: 57. (3) في نسخة: لأجل. (4) حكاها الشيخ في التبيان: ج 3 ص 504 - 505. (*)
[ 496 ]
الدنيا) * أي: فضيحة وهوان، وقوله: * (ولهم في الاخرة عذاب عظيم) * يدل على أن الحدود لا تكفر المعاصي، لأنه بين أنهم يستحقون العذاب العظيم مع إقامة الحدود عليهم * (إلا الذين تابوا) * استثناء من المعاقبين، فأما حكم القتل والجرح وأخذ المال فإلى الأولياء. * (يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35) إن الذين كفروا لو أن لهم مافى الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخرجين منها ولهم عذاب مقيم) * (37) سورة المائدة / 36 - 38 * (الوسيلة) * كل ما يتوسل به إليه من الطاعات وترك المقبحات. وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد أرجو أن أكون أنا هو " (1). وروى الأصبغ بن نباتة (2) عن علي (عليه السلام): " في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش: إحداهما بيضاء والأخرى صفراء، في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة، فالبيضاء: الوسيلة لمحمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، والصفراء: لإبراهيم وأهل بيته (عليهم السلام) (3). (1) مسند أحمد: ج 3 ص 83، مجمع الزوائد: ج 1 ص 332 و 333، سنن البيهقي: ج 1 ص 419، مسند أبي عوانة: ج 1 ص 336، الترغيب والترهيب: ج 1 ص 181 باختلاف يسير في الألفاظ. (2) هو الأصبغ بن نباتة بن الحارث بن عمرو التميمي الحنظلي المجاشعي، كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهد معه صفين، وكان على شرطة الخميس، وكان شيخا ناسكا عابدا شاعرا. (أعيان الشيعة: ج 3 ص 464). (3) أوردها المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 189. (*)
[ 497 ]
* (ليفتدوا به) * ليجعلوه فدية لأنفسهم، وهذا تمثيل لنزول العذاب بهم، وأنه لاسبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه، و * (لو) * مع ما في حيزه خبر * (إن) *، ووحد الضمير في * (به) * مع أن المذكور شيئان، لأنه أجري مجرى اسم الإشارة، أي: ليفتدوا بذلك، أو يكون نحو قوله: فإني وقيار بها لغريب (1) ويروى أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوما يخرجون من النار وقال الله تعالى: * (وماهم بخرجين منها) * ؟ ! فقال: ويحك اقرأ ما فوقها، هذا للكفار (2). * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكلا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السموا ت والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شئ قدير) * (40) هما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قيل: * (و) * فيما فرض عليكم: * (السارق والسارقة) * أي: حكمهما، ويجوز أن يكون الخبر * (فاقطعوا أيديهما) * ودخلت الفاء لأنهما قد تضمنا معنى الشرط، فإن المعنى: والذي سرق (1) وصدره: فمن يك أمسى بالمدينة رحله. والبيت منسوب لضابئ بن حارث البرجمي حين حبسه عثمان بن عفان لما هجا بني نهشل. وقيار اسم فرسه، يقول: ومن أمسى رحله بالمدينة حسن حاله، بخلاف حالي فاني غريب لأن منزلي ليس فيها، وانما فيها أنا وفرسي فقط. انظر الكامل للمبرد: ج 1 ص 460، وخزانة الأدب: ج 4 ص 323 - 328، والشعر والشعراء: ص 351 - 352، ولسان العرب: مادة (قير). (2) رواها الزمخشري عنه في الكشاف: ج 1 ص 630، وأخرجه السيوطي بسنده عنه في الدر المنثور: ج 3 ص 72. (*)
[ 498 ]
والتي سرقت فاقطعوا أيديهما أي: يديهما، ونحوه * (فقد صغت قلوبكما) * (1) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف (2)، والمراد باليدين اليمينان، بدليل قراءة عبد الله بن مسعود: " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم " (3). والمقدار الذي يجب به (4) القطع ربع دينار إذا سرق من الحرز (5) وإليه ذهب الشافعي (6) ومالك (7)، إلا أن المقطع عندهم هو الرسغ (8)، وعندنا: أصول الأصابع ويترك الإبهام والكف وفي المرة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق ويترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة فإن سرق بعد ذلك خلد في السجن، هذا هو المشهور من مذهب علي (عليه السلام) (9). سورة المائدة / 39 - 41 وقوله: * (جزاء) * مفعول له وكذا قوله: * (نكلا) *، * (فمن تاب) * من السراق (1) التحريم: 4. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 37. (3) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 34 وفيه أيمانهما، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 632. (4) في نسخة: فيه. (5) أو ما قيمته ربع دينار، سواء كان درهما أو غيره من المتاع. قال الشيخ في الخلاف: ج 5 ص 411: وبه قال في الصحابة: علي (عليه السلام) وأبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وعائشة، وفي الفقهاء: الأوزاعي وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي. (6) الام: ج 6 ص 147، مختصر المزني: ص 263، السراج الوهاج: ص 525، كفاية الأخيار: ج 2 ص 116، المغني لابن قدامة: ج 10 ص 235 و 239، نيل الأوطار: ج 7 ص 298. (7) الموطأ: ج 2 ص 833، أسهل المدارك: ج 3 ص 177، المدونة الكبرى: ج 6 ص 265 و 266، حلية العلماء: ج 8 ص 49 و 50، نصب الراية: ج 2 ص 355، البحر الزخار: ج 6 ص 176. (8) قال به جميع الفقهاء من العامة: أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي. انظر: الام: ج 6 ص 150، وكفاية الأخيار: ج 2 ص 118، ومختصر المزني: ص 264، ومغني المحتاج: ج 4 ص 178، والسراج الوهاج: ص 531، والمجموع: ج 20 ص 97، واللباب: ج 3 ص 100، وبدائع الصنائع: ج 7 ص 88. (9) راجع الخلاف: ج 5 ص 436 مسألة (30)، والتبيان: ج 3 ص 518. (*)
[ 499 ]
* (من بعد ظلمه) * أي: سرقته * (وأصلح) * أمره بالتفصي عن التبعات * (فإن الله يتوب عليه) * ويسقط عنه عقاب (1) الآخرة. * (يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفوا ههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمعون للكذب سمعون لقوم ءاخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم) * (41) وقرئ: " لا يحزنك " بضم الياء (2) أي: لايهمنك مسارعة المنافقين * (الذين يسرعون في) * إظهار * (الكفر) * بما يلوح من (3) حالهم من آثار الكيد للإسلام * (ومن الذين هادوا) * أي: ومن اليهود قوم * (سمعون) * فيكون منقطعا عما قبله، ويجوز أن يكون عطفا على قوله: * (من الذين قالوا) * وارتفع * (سمعون) * على " هم سماعون "، والضمير للمنافقين واليهود أو لليهود (4)، ومعنى * (سمعون للكذب) *: قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله وتحريف التوراة، ونحوه: " سمع الله لمن حمده "، * (سمعون لقوم ءاخرين لم يأتوك) * يعني: اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشدة عداوتهم إياه، أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة، وقيل: معناه: سماعون إليك ليكذبوا عليك بأن يزيدوا فيما سمعوا منك وينقصوا ويغيروا، سماعون منك لأجل قوم (1) في نسخة: عذاب. (2) قرأه نافع. راجع تفسير القرطبي: ج 6 ص 181. (3) في نسخة: في. (4) في نسخة بزيادة: منفردا. (*)
[ 500 ]
آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منك (1)، * (يحرفون الكلم) * يميلونه ويزيلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع (2) * (يقولون إن أوتيتم هذا) * المحرف المزال عن مواضعه * (فخذوه) * واعملوا به * (وإن لم تؤتوه) * أي: إن أفتاكم محمد (صلى الله عليه وآله) بخلافه * (فاحذروا) * فهو الباطل. وروي: أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا نفرا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله عن ذلك، وقالوا: إن أمركم محمد (صلى الله عليه وآله) بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا، قالوا: نعم، وهو أعلم يهودي على وجه الأرض، ورضوا به حكما، فقال له رسول الله: أنشدك الله الذي لاإله إلا هو الذي فلق البحر ورفع فوقكم الطور وأنزل عليكم كتابه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ؟ قال: نعم، فوثبت عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أشياء كان يعرفها من أعلامه وأسلم، وقال: أشهد أنك رسول الله النبي المبشر به، وأمر رسول الله بالزانيين فرجما عند باب مسجده (3) (4). سورة المائدة / 41 و 42 * (ومن يرد الله فتنته) * أي: تركه مفتونا وخذلانه * (فلن تملك له) * أي: فلن (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 174. (2) في نسخة: موضع. (3) في نسخة زيادة: الشريف. (4) رواه الطبري في تفسيره: ج 4 ص 572 - 573 ح 11926، والبغوي أيضا: ج 2 ص 37. (*)
[ 501 ]
تستطيع له * (من) * لطف * (الله شيا أولئك الذين لم يرد الله أن) * يمنحهم من ألطافه ما * (يطهر) * به * (قلوبهم) * لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لاتنجع فيهم. * (سمعون للكذب أكلون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوربة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذا لك وما أولئك بالمؤمنين (43) إنآ أنزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربنيون والاحبار بما استحفظوا من كتب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بايتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكفرون) * (44) السحت: كل مالا يحل كسبه، وهو من سحته: إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة كما قال الله: * (يمحق الله الربوا) * (1)، وقرئ: " السحت " مخففا ومثقلا (2). وفي الحديث: " كل لحم نبت على السحت فالنار أولى به " (3). وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا تحاكم إليه أهل الكتاب مخيرا بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم، وهذا التخيير عندنا ثابت للأئمة في الشرع (4). * (وإن تعرض) * عن الحكم بينهم * (فلن يضروك شيا) * أي: لا يقدرون على إضرار بك في دين أو (1) البقرة: 276. (2) وهي قراءة ابن كثير والبصريين والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 386، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 243. (3) الكامل في الضعفاء لابن عدي: ج 5 ص 1936. (4) راجع التبيان: ج 3 ص 529. قال الزجاج في معاني القرآن ما لفظه: أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي مخير بها في الحكم بين أهل الذمة. (*)
[ 502 ]
دنيا * (بالقسط) * أي: بالعدل كما حكم (عليه السلام) بالرجم * (وكيف يحكمونك) * تعجيب سورة المائدة / 44 و 45 من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص عليه في كتابهم * (ثم يتولون من بعد ذا لك) * وهو إشارة إلى حكم الله في التوراة، ويتركون الحكم به، وقيل: ثم يتولون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به (1) * (وما أولئك بالمؤمنين) * بكتابهم كما يدعون * (فيها هدى) * يهدي للحق والعدل * (ونور) * يبين مااستبهم (2) من الأحكام * (الذين أسلموا) * صفة للنبيين على سبيل المدح، وفيه تعريض باليهود وأنهم بعداء عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء كلهم قديما وحديثا، وقوله: * (للذين هادوا) * يدل على ذلك * (والربنيون والاحبار) * أي: والزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود * (بما استحفظوا من كتب الله) * بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة، أي: بسبب إيصائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل، و * (من) * في * (من كتب الله) * للتبيين * (وكانوا عليه شهداء) * أي: رقباء لئلا يغيروا المعنى (3) * (يحكم) * بأحكام التوراة * (النبيون) * بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف نبي * (للذين هادوا) * يحملونهم على أحكام التوراة ولا يتركونهم أن يعدلوا عنها كما فعله رسول الله من حملهم على حكم الرجم، وكذلك حكم * (الربنيون والاحبار) * المسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم * (من كتب الله) * وبسبب كونهم * (عليه شهداء) *، * (فلا تخشوا الناس) * نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها * (ولا تشتروا) * أي: لا تستبدلوا ولا تستعيضوا بآيات الله وأحكامه (1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 636. (2) استبهم عليه الكلام أي: استغلق. (الصحاح: مادة بهم). (3) في نسخة: الحكم. (*)
[ 503 ]
* (ثمنا قليلا) * وهو الرشوة وابتغاء الجاه وطلب الرياسة كما فعله اليهود * (ومن لم يحكم بمآ أنزل الله) * مستهينا به * (فأولئك هم الكفرون) * والظالمون والفاسقون وصف لهم بالعتو في كفرهم وظلمهم بآيات الله بالاستهانة بها وتمردهم في فسقهم بأن حكموا بغيرها، وعن ابن عباس: من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق (1). وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل، لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة (2)، غير أني لاأدري أتعبدون العجل أم لا (3). * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظلمون) * (45) المعطوفات كلها قرئت بالنصب والرفع (4)، وقرئت بالنصب إلا " والجروح قصاص " فإنه بالرفع (5)، فالرفع للعطف على محل * (أن النفس) * لأن المعنى: * (وكتبنا عليهم فيها) * النفس بالنفس: إما لإجراء * (كتبنا) * مجرى " قلنا "، وإما لأن معنى الجملة التي هي قوله: * (النفس بالنفس) * مما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة تقول: كتبت " الحمد لله " وقرأت " سورة أنزلناها "، ولذلك قال الزجاج: لو (1) تفسير ابن عباس: ص 179. (2) القذذ: ريش السهم، الواحدة قذة، وحذوت النعل بالنعل حذوا: إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها، يقال: حذو القذة بالقذة. (الصحاح: مادتي قذذ وحذا). (3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 638. (4) قرأ الكسائي وحده بالرفع والباقون بالنصب. راجع التبيان: ج 3 ص 535، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 386. (5) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 244، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 386. (*)
[ 504 ]
قرئ: " إن النفس " بالكسر لكان صحيحا (1). والمعنى: فرضنا عليهم فيها * (أن النفس) * مأخوذة * (بالنفس) * مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق، * (والعين) * مفقوءة * (بالعين) *، * (والانف) * مجدوع * (بالانف) *، * (والاذن) * مصلومة * (بالاذن) *، * (والسن) * مقلوعة * (بالسن) *، * (والجروح) * ذات * (قصاص) * وهو المقاصة فيما يمكن فيه القصاص * (فمن تصدق) * من أصحاب الحقوق بالقصاص وعفا عنه * (فهو كفارة له) * يكفر به من سيئاته بقدر ما تصدق. * (وقفينا علئ اثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوربة وءاتينه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوربة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الانجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفسقون) * (47) سورة المائدة / 48 قفاه بفلان: عقبه به، تعدى إلى المفعول الثاني بالباء، والمفعول الأول في الآية محذوف سد مسده الظرف الذي هو * (علئ اثرهم) * لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في * (ءاثرهم) * للنبيين في قوله: * (يحكم بها النبيون) * (2)، * (ومصدقا) * نصب على الحال عطف على محل * (فيه هدى) *، * (وهدى وموعظة) * يجوز أن ينتصبا على الحال وعلى المفعول له لقوله: * (وليحكم) * (3)، وقرئ: * (وليحكم) * على الأمر (4) بمعنى وقلنا: " ليحكم "، * (بمآ أنزل الله فيه) * في الإنجيل. (1) معاني القرآن واعرابه: ج 2 ص 179. (2) الآية: 44. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 43. (4) قرأه حمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 244، والكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي: ج 1 ص 410، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 387. (*)
[ 505 ]
* (وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء الله لجعلكم أمة وا حدة ولكن ليبلوكم في مآءاتيكم فاستبقوا الخيرا ت إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفسقون (49) أفحكم الجهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) * (50) * (وأنزلنا إليك الكتب) * أي: القرآن، والتعريف فيه للعهد، وفي * (الكتب) * بعده للجنس، لأن المعنى: * (مصدقا لما بين يديه من) * التوراة والإنجيل وكل كتاب أنزل من السماء سواه * (ومهيمنا عليه) * أي: رقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة * (ولا تتبع أهواءهم) * ضمن معناه معنى لا تنحرف ولذلك عدي ب " عن " كأنه قيل: ولاتنحرف * (عما جاءك من الحق) * متبعا أهواءهم * (لكل جعلنا منكم) * أيها الناس * (شرعة) * أي: شريعة * (ومنهاجا) * طريقا واضحا في الدين تجرون عليه (1)، وفيه دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من كان قبلنا من الأنبياء * (ولو شآء الله لجعلكم أمة وا حدة) * أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي: دين واحد لااختلاف فيه، * (ولكن) * أراد * (ليبلوكم في مآءاتيكم) * من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها معتقدين أنها مصالح لكم قد (1) راجع الأقوال الواردة فيهما اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 23 - 24، وفي معناهما اللغوي التبيان: ج 3 ص 544. (*)
[ 506 ]
اختلفت بحسب اختلاف الأحوال أو تتبعون الشبه (1) وتفرطون في العمل سورة المائدة / 51 و 52 * (فاستبقوا الخيرا ت) * فابتدروها * (إلى الله مرجعكم) * استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات * (فينبئكم) * فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر دينكم، ويفصل بين محقكم ومبطلكم، ويجازيكم على حسب استحقاقكم * (وأن احكم بينهم) * معطوف على * (الكتب) *، أي: وأنزلنا إليك أن احكم، وصلت * (أن) * بالأمر، ويجوز أن يكون معطوفا على * (بالحق) * أي: أنزلناه بالحق وبأن احكم (2) * (واحذرهم أن يفتنوك) * (3) أن يضلوك ويستزلوك * (عن بعض ما أنزل الله إليك) * بأن يطمعوك منهم في الإجابة إلى الإسلام ويقولوا: إنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وإن بيننا وبين قومنا خصومة فاحكم لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى رسول الله ذلك * (يريد الله أن يصيبهم) * بذنب التولي عن حكم الله فوضع * (ببعض ذنوبهم) * موضع ذلك، والمراد: أن لهم ذنوبا جمة، هذا الذنب بعضها * (أفحكم الجهلية يبغون) * هذا تعيير لليهود بأنهم أهل الكتاب (4) وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي، وقرئ: " تبغون " بالتاء (5) على معنى " قل لهم "، واللام في قوله: * (لقوم يوقنون) * للبيان كاللام في (6) * (هيت لك) * (7) أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يتبينون أن لاأعدل ولا أحسن حكما من الله تعالى. (1) في نسخة: الشبهة. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 46. (3) في نسخة زيادة: في موضع نصب على البدل من " هم " أو على أنه مفعول له أي: كراهة. (4) في نسخة: كتاب. (5) قرأه ابن عامر. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 387. (6) في نسخة زيادة: قولهم، واخرى: قوله. (7) يوسف: 23. (*)
[ 507 ]
* (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظلمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسرعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم ندمين (52) ويقول الذين ءامنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمنهم إنهم لمعكم حبطت أعملهم فأصبحوا خسرين) * (53) نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذهم أولياء ينصرونهم ويستنصرونهم ويوالونهم، ثم علل النهي بقوله: * (بعضهم أولياء بعض) * أي: إنما يوالي بعضهم بعضا لاجتماعهم في الكفر * (ومن يتولهم منكم فإنه) * من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تشديد من الله في وجوب مجانبة المخالف في الدين كما جاء في الحديث: " لاتراءى ناراهما " (1) * (إن الله لا يهدى القوم) * الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكافرين يمنعهم ألطافه ويخذلهم * (فترى الذين في قلوبهم) * شك ونفاق * (يسرعون فيهم) * في موالاتهم ويرغبون فيها، ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم * (دائرة) * من دوائر الزمان أي: صرف من صروفه فيحتاجوا إليهم وإلى معونتهم * (فعسى الله أن يأتي بالفتح) * لرسول الله على أعدائه * (أو أمر من عنده) * بقتل اليهود وإجلائهم عن ديارهم فيصبح المنافقون * (ندمين) * على ماأسروه * (في أنفسهم) * من النفاق، وقيل: أو أمر من عنده وهو أن يؤمر (2) النبي بإظهار (1) المعجم الكبير للطبراني: ج 2 ص 343، سنن البيهقي: ج 8 ص 131 وج 9 ص 142، الكشاف: ج 1 ص 642. (2) في نسخة: يأمر. (*)
[ 508 ]
أسرار المنافقين فيندموا (1) * (ويقول الذين ءامنوا) * قرئ بالنصب (2) عطفا على * (أن يأتي) * أو على * (بالفتح) * أي: وبأن يقول، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الحال، وقرئ: " يقول " بغير واو (3) * (أهؤلاء الذين أقسموا) * أي: حلفوا * (بالله) * أغلظ الأيمان * (إنهم) * أولياؤكم * (حبطت أعملهم) * من جملة كلام المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في مرأى الناس * (فأصبحوا خسرين) * خسروا الدنيا والآخرة. * (يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكفرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذا لك فضل الله يؤتيه من يشآء والله وا سع عليم) * (54) سورة المائدة / 54 قرئ: " من يرتدد " (4) و " من يرتد " وهو (5) من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها، وهو أن قوما يرتدون بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه سبحانه ينصر دينه بقوم لهم هذه الصفات المذكورة، قيل: هم أهل اليمن (6) ولما نزلت أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أبي موسى الأشعري (7) فقال: " هم قوم (1) قاله الحسن والزجاج على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 3 ص 552. (2) قرأه البصريان (أبو عمرو ويعقوب). راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 388. (3) وهي قراءة ابن كثير وابن عامر ونافع. راجع التبيان: ج 3 ص 552، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 411. وحكاها الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 643 وقال: وهي في مصاحف مكة والمدينة والشام. (4) قرأه نافع وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 388. (5) في نسخة: هي. (6) قاله مجاهد وشريح. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 48. (7) هو عبد الله بن قيس بن سليم، أبو موسى الأشعري، صحابي، قدم مكة بعد ظهور الاسلام = (*)
[ 509 ]
هذا " (1)، وقال: " الإيمان يمان (2) والحكمة يمانية " (3)، وقيل: هم أهل الفرس (4) وأن رسول الله ضرب بيده على عاتق سلمان فقال: " هذا وذووه "، وقال: " لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس " (5). وعن أئمة الهدى (عليهم السلام) وعمار وحذيفة: أنهم علي (عليه السلام) وأصحابه حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين (6)، ويؤيده الحديث: " لتنتهن يا معشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله " ثم قال من بعد: " إنه خاصف النعل في الحجرة " وكان علي (عليه السلام) يخصف نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) (7). و * (أذلة) * جمع ذليل، أي: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع أشداء * (على الكفرين) * واللومة المرة من اللوم، وفيه أنهم لا يخافون شيئا = فأسلم، استعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله) على زبيد وعدن، وولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17 ه، وعثمان الكوفة، فأقام بها الى أن قتل عثمان، فأقره أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عليها، وعزله الإمام علي (عليه السلام) عندما كان يحرض أهل الكوفة على القعود عن نصرته في وقعة الجمل، فأقام إلى أن كان التحكيم، وخدعه عمرو بن العاص، فعاد أبو موسى الى الكوفة ومات فيها سنة 44 ه. (اسد الغابة: ج 3 ص 245، طبقات ابن سعد: ج 4 ص 79). (1) تفسير الطبري: ج 4 ص 624 ح 12193 - 12199، طبقات ابن سعد: ج 4 ص 107، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 313. (2) قال الجوهري: اليمن بلاد للعرب، والنسبة إليها يمني ويمان مخففة والألف عوض من ياء النسب فلا يجتمعان. (راجع الصحاح: مادة يمن). (3) صحيح البخاري: ج 4 ص 217 وج 5 ص 219، مسند أحمد: ج 2 ص 235 و 252 و 258 و 257 و 270، سنن الدارمي: ج 1 ص 37، مشكل الآثار: ج 1 ص 347 و 349 وج 2 ص 233. (4) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 208. (5) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 6 ص 203، مشكل الآثار للطحاوي: ج 3 ص 31. (6) راجع التبيان: ج 3 ص 555 - 556. (7) أوردها المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 208. (*)
[ 510 ]
قط من لوم أحد من اللوام * (ذا لك) * أي: محبتهم ولين جانبهم (1) على المؤمنين وشدتهم على الكفار * (فضل) * من * (الله) * ومنة ولطف من جهته يعطيه * (من) * يعلم أنه أهل له * (والله وا سع) * كثير الفواضل والألطاف * (عليم) * بمن هو من أهلها. * (إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم را كعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغلبون) * (56) سورة المائدة / 55 - 57 نزلت في (2) علي (عليه السلام) حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فأومأ بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره (3)، ورواه الثعلبي (4) في تفسيره (5)، والحديث طويل رويناه في الكتاب الكبير (6)، وفيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به ظهري " قال أبو ذر (7): فوالله ما استتم الكلمة حتى نزل جبرئيل فقال: (1) في نسخة: إجابتهم. (2) في نسخة زيادة: حق أمير المؤمنين. (3) العياشي: ج 1 ص 327 ح 137، التبيان: ج 3 ص 558 - 559 وقال: رواه أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه والطبري والرماني ومجاهد والسدي، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وجميع علماء أهل البيت. وانظر إحقاق الحق: ج 20 ص 17 - 22. (4) هو أبو اسحاق، أحمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي النيسابوري، مفسر، مقرئ، واعظ، أديب، توفي سنة 427 ه. (معجم المؤلفين: ج 2 ص 60). (5) تفسير الكشف والبيان: ص 167 مخطوط. (6) مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 210. (7) هو جندب بن جنادة من كنانة بن خزيمة، أحد الأركان الأربعة، من كبار الصحابة، أسلم بعد أربعة وكان خامسا، وهو أول من حيا رسول الله بتحية الإسلام. نفاه عثمان الى الشام وأخذ يجتمع إليه الفقراء والصعاليك، فيروي لهم أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويعيب على معاوية والي = (*)
[ 511 ]
يا محمد اقرأ: * (إنما وليكم الله) * الآية، والمعنى: * (إنما وليكم) * أي: الذي يتولى تدبيركم ويلي أموركم * (الله ورسوله والذين ءامنوا الذين) * هذه صفاتهم * (وهم را كعون) * حال من * (يؤتون الزكوة) * أي: يؤتونها في حال ركوعهم. قال جار الله: وإنما جئ به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن يكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان (1). وأقول: قد اشتهر في اللغة العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فلا يحتاج (2) إلى الاستدلال عليه، وإذا ثبت أنه المعني في الآية على ما ذكرناه صحت إمامته بالنص الصريح. * (فإن حزب الله هم الغلبون) * من إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: فإنهم هم الغالبون. * (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذا لك بأنهم قوم لا يعقلون) * (58) وقرئ: * (والكفار) * بالجر (3) ويعضده قراءة أبي: " ومن الكفار " (4)، وفي = الشام الترف والاسراف بمال المسلمين، فشكاه الى عثمان فاستقدمه الى المدينة، واستأنف في نشر رأيه بين الناس، فنفاه عثمان الى الربذة، ومات فيها سنة 32 ه. (طبقات ابن سعد: ج 4 ص 161 - 175، حلية الأولياء: ج 1 ص 156، أعيان الشيعة: ج 4 ص 236). (1) الكشاف: ج 1 ص 649. (2) في نسخة: نحتاج. (3) قرأه البصريان والكسائي. راجع التبيان: ج 3 ص 567، وتفسير البغوي: ج 2 ص 48، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 389. (4) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 650، وابن خالويه في شواذ القرآن: ص 39. (*)
[ 512 ]
القراءة بالنصب يكون الهزؤ من أهل الكتاب خاصة، وفصل بين المستهزئين منهم والكفار وإن كانوا - أيضا - كفارا إطلاقا للكفار على المشركين خاصة * (واتقوا الله) * في موالاة الكفار * (إن كنتم مؤمنين) * حقا * (اتخذوها) * الضمير للصلاة أو للمناداة، وكانوا إذا أذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم * (لا يعقلون) * لأن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء فكأنه لاعقل لهم. * (قل يأهل الكتب هل تنقمون منآ إلا أن ءامنا بالله ومآأنزل إلينا ومآأنزل من قبل وأن أكثركم فسقون) * (59) أي: ما تعيبون منا وتنكرون * (إلا) * الإيمان * (بالله) * والكتب المنزلة كلها * (وأن أكثركم فسقون) * فيه وجوه: أن يكون عطفا على * (أن ءامنا) * أي: ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإيمان وأنتم خارجون منه، ويجوز أن يكون عطفا على المجرور أي: إلا الإيمان بالله وبأن أكثركم فاسقون، ويجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف أي: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأنكم فاسقون (1). * (قل هل أنبئكم بشر من ذا لك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل) * (60) سورة المائدة / 60 - 61 * (ذا لك) * إشارة إلى المنقوم ولابد من حذف مضاف، والتقدير: هل أنبئكم بشر من أهل ذلك أو بشر من ذلك دين من لعنه الله، وضعت المثوبة موضع العقوبة، ومنه قوله: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (2)، وكان اليهود يزعمون أن المسلمين (1) راجع تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 55. (2) آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24. (*)
[ 513 ]
مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم، و * (من لعنه) * في موضع الرفع أي: هو من لعنه الله، أو في محل الجر على البدل من " شر "، و * (عبد الطغوت) * عطف على صلة * (من) * أي: ومن عبد الطاغوت، وقرئ: " وعبد الطاغوت " بضم الباء والإضافة (1) أي: وجعل منهم عبد الطاغوت، وهو للمبالغة في العبودية نحو حذر ويقظ، والمعنى فيه أنه خذلهم حتى عبدوها، والطاغوت: الشيطان، وقيل: إن من جعل منهم القردة هم أصحاب السبت، والخنازير: كفار أهل مائدة عيسى (2)، وقيل: إنهما معا أصحاب السبت مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير (3) * (أولئك شر مكانا) * جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة وهو داخل في باب الكناية. * (وإذا جاءوكم قالوا ءامنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيرا منهم يسرعون في الاثم والعدوا ن وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهيهم الربنيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) * (63) نزلت في ناس من اليهود كانوا يظهرون الإيمان نفاقا * (وقد دخلوا بالكفر) * أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين، والتقدير ملتبسين بالكفر، فقوله: * (بالكفر) * و * (به) * حالان وكذلك قوله: * (وقد دخلوا) * و * (هم قد خرجوا) * ولذلك دخلت * (قد) * تقريبا للماضي من الحال أي: * (قالوا ءامنا) * وهذه حالهم * (الإثم) * (1) قرأه حمزة. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 389، والتبيان: ج 3 ص 572. (2) قاله البغوي في تفسيره: ج 2 ص 49. (3) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 49، والبحر المحيط: ج 3 ص 518. (*)
[ 514 ]
الكذب بدليل قوله: * (عن قولهم الاثم) *، و * (العدوا ن) *: الظلم، وقيل: الإثم: كلمة الشرك نحو قولهم: * (عزير ابن الله) * (1) (2)، وقيل: الإثم: ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم (3) * (لبئس ما كانوا يصنعون) * كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي الكبائر، لأن كل عامل لا يسمى صانعا حتى يتمكن فيه ويمهر، وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن (4). * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا وألقينا بينهم العدا وة والبغضاء إلى يوم القيمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين) * (64) سورة المائدة / 64 غل اليد مستعار للبخل وبسط اليد للجود، ومن تكلم به لا يقصد إثبات يد ولا يريد حقيقة غل ولابسط وإنما هما عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوا اليد حيث لا يصح اليد نحو قول الشاعر: جاد الحمى بسط اليدين بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده (5) وقول لبيد: قد أصبحت بيد الشمال زمامها (6) (1) التوبة: 30. (2) وهو قول ابن عباس كما في تفسيره: ص 97. (3) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 654، والرازي في تفسيره: ج 12 ص 39. (4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 654، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 50. (5) لم نعثر على قائله فيما توفرت لدينا من مصادر، وأنشده الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 655. يقول: إن السحاب ارسل الى أرض الحمى بمطر كثير فأنبتت هذه الأرض وأزهرت، وهذا معنى شكرها. (6) ديوانه: ص 176 وصدره: وغداة ريح قد وزعت وقرة. (*)
[ 515 ]
* (غلت أيديهم) * يجوز أن يكون دعاء عليهم بالبخل والنكد ولذلك كانوا أبخل خلق الله، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة بالأغلال في النار، ويجوز أن يكون إخبارا بأنهم ألزموا البخل وجعلوا بخلاء (1) * (ولعنوا بما قالوا) * أي: أبعدوا عن رحمة الله وعذبوا * (بل يداه مبسوطتان) * ثنيت اليد هنا ليكون الإنكار لقولهم أبلغ وعلى إثبات غاية السخاء أدل، وذلك أن غاية ما يبذله السخي أن يعطي باليدين جميعا، وقوله: * (ينفق كيف يشآء) * تأكيد أيضا للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا ما تقتضيه الحكمة والصلاح * (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغينا) * أي: يزدادون عند إنزال (2) القرآن تماديا في الجحود وحسدا * (وكفرا) * بآيات الله * (وألقينا بينهم العدا وة) * فكلماتهم مختلفة وقلوبهم شتى فلا يقع بينهم موافقة * (كلما أوقدوا نارا للحرب) * أي: كلما أرادوا محاربة النبي (صلى الله عليه وآله) غلبوا ولم يكن لهم ظفر قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وفي هذا دلالة على صحة نبوة نبينا (3) لأن اليهود كانوا في أشد بأس وأمنع دار حتى أن قريشا كانت تعتضد بهم، وكان الأوس والخزرج تتكثر بمظاهرتهم، فذلوا وقهروا وقتل النبي (عليه السلام) بني قريظة وأجلى بني النضير وغلب على خيبر وفدك (4) فاستأصل الله شأفتهم (5) (1) راجع تفصيل ذلك في اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 30. (2) في بعض النسخ: إنزاله. (3) في نسخة زيادة: محمد. (4) وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء ففعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم الى ذلك. فهي مما لم يرجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله). انظر معجم البلدان للحموي: ج 3 ص 855 - 858، وكتاب فدك في التاريخ للشهيد الصدر. (5) الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، يقال في المثل: استأصل الله = (*)
[ 516 ]
حتى أن اليوم تجد اليهود في كل بلدة من أذل الناس * (ويسعون في الارض فسادا) * بمخالفة أمر الله والاجتهاد في محو ذكر الرسول من كتبهم. * (ولو أن أهل الكتب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيأتهم ولادخلنهم جنت النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوربة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) * (66) * (ولو أن أهل الكتب ءامنوا) * بمحمد (صلى الله عليه وآله) * (واتقوا) * وقرنوا إيمانهم بالتقوى * (لكفرنا عنهم) * تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها * (ولادخلنهم) * مع المسلمين * (جنت النعيم) *، * (ولو أنهم أقاموا) * أحكام * (التوربة والانجيل) * وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله * (وما أنزل إليهم من) * سائر كتب الله لأنهم كلفوا الإيمان بجميعها فكأنها نزلت إليهم، وقيل: هو القرآن (1) * (لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * المعنى: لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا، والمراد: لافضنا عليهم بركات السماء وبركات الأرض ولاكثرنا ثمرات أشجارهم وغلات زروعهم، أو لرزقناهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ثمار أشجارها ويلتقطون ما سقط منها على الأرض * (منهم أمة) * أي: طائفة * (مقتصدة) * مسلمة آمنت بالنبي (صلى الله عليه وآله) * (وكثير منهم ساء ما يعملون) * فيه معنى التعجب، أي: ماأسوأ عملهم (2) ! وهم الذين أقاموا على الكفر والجحود بالنبي (صلى الله عليه وآله). سورة المائدة / 67 * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت = شأفته، أي أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكي. (الصحاح: مادة شأف). (1) قاله ابن عباس وأبو علي على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 3 ص 585. (2) في نسخة: أعمالهم. (*)
[ 517 ]
رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكفرين) * (67) روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله: أن الله تعالى أمر نبيه أن ينصب عليا (عليه السلام) للناس ويخبرهم بولايته، فتخوف (عليه السلام) أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فنزلت هذه الآية، فأخذ بيده يوم غدير خم وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " (1). وقرئ: " فما بلغت رسالاته " (2) أي: إن لم تبلغ هذه الرسالة * (فما بلغت) * إذا ماكلفت به من الرسالات وكنت كأنك لم تؤد منها شيئا قط لأنك إذا لم تؤدها فكأنك أغفلت أداءها جميعا * (والله يعصمك من الناس) * هذا وعد من الله بالحفظ والكلاءة، ومعناه: والله يضمن لك العصمة من أن ينالوك بسوء فما عذرك في مراقبتهم (3) * (إن الله لا يهدى القوم الكفرين) * يريد أن لا يمكنهم من إنزال مكروه بك. وعن أنس: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحرس حتى نزلت الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا فقد عصمني الله من الناس (4). * (قل يأهل الكتب لستم على شئ حتى تقيموا التوربة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا فلا تأس على القوم الكفرين) * (68) (1) تفسير العياشي: ج 1 ص 331 - 332 ح 152، وعنه البحار: ج 9 ص 207. (2) وهي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر ويعقوب والمفضل. راجع التبيان: ج 3 ص 587، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 389. (3) في نسخة: من مراقبتك. (4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 660، وأخرجه عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي وابن مردويه عن عائشة كما في الدر المنثور: ج 3 ص 118، وفي تفسير الماوردي: ج 2 ص 54 عنها أيضا. (*)
[ 518 ]
عن ابن عباس: نزلت في جماعة من اليهود قالوا للنبي (عليه السلام): ألست تقر بأن التوراة من عند الله ؟ قال: بلى، قالوا: فإنا نؤمن بها ولانؤمن بما عداها (1). والمعنى: * (لستم على) * دين يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه، كما يقال: هذا ليس بشئ يراد به التحقير * (حتى تقيموا التوربة والانجيل) * بالتصديق لما فيهما من البشارة بمحمد والعمل بما فيهما * (ومآأنزل إليكم من ربكم) * وهو القرآن * (فلا تأس) * أي: فلاتتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك يرجع إليهم لاإليك. * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصبون والنصرى من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صلحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (69) سورة المائدة / 69 و 70 * (والصبون) * رفع على الابتداء وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز * (إن) * أي: والصابئون كذلك، واستشهد لذلك سيبويه (2) (3) بقول الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق (4) (1) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 3 ص 589 - 590. (2) هو عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر، فارسي الأصل وينتمي بالولاء الى الحارث بن كعب ابن أدد، وسيبويه لقب عرف به ولم يلقب به أحد، ولد بالبيضاء بفارس، وقيل: في الأهواز، ثم هاجر مع أهله الى البصرة فنشأ بها، وطفق يطلب العلم، وعنى عناية شديدة بعلم النحو، توفي سنة 180 ه على الأرجح بشيراز وقبره بها، وقيل: بالأهواز، وقيل: بساوة. (طبقات النحاة: ج 2 ص 206، طبقات النحويين للزبيدي: ص 73). (3) كتاب سيبويه: ج 2 ص 156. (4) البيت من الوافر، وهو من قصيدة لبشر بن أبي خازم الأسدي، مطلعها: أهمت منك سلمى بانطلاق * وليس وصال غانية بباقي وسبب هذا الشعر كما نقله ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه: أن قوما من آل بدر = (*)
[ 519 ]
أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، وقول الآخر: فإني وقيار بها لغريب (1) وإنما سموا صابئين لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي: خرجوا، و * (من ءامن) * مبتدأ وخبره * (فلا خوف عليهم) * والتقدير: من آمن منهم، والجملة كما هي خبر * (إن) *، ويجوز أن يكون * (من ءامن) * منصوبا على البدل من اسم * (إن) * وما عطف عليه أو من المعطوف عليه. * (لقد أخذنا ميثق بنى إسرا ءيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) * (71) أي: * (أخذنا) * ميثاقهم بالتوحيد والبشارة بمحمد (صلى الله عليه وآله) * (وأرسلنآ إليهم رسلا) * ليقفوهم على الأوامر والنواهي * (كلما جاءهم رسول) * جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: * (فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) * لأن التقدير: كلما جاءهم رسول من تلك الرسل ناصبوه وخالفوه، وقوله: * (فريقا كذبوا) * كأنه جواب سائل يسأل عنهم: كيف فعلوا برسلهم ؟ و * (يقتلون) * حكاية = الفزاريين جاوروا بني لأم من طي، فعمد بنو لأم الى الفزاريين فجزوا نواصيهم وقالوا: قد مننا عليكم ولم نقتلكم، وبنو فزارة حلفاء بني أسد، فغضب بنو أسد لأجل ما صنع بالبدريين، فأنشأ بشر هذه القصيدة يذكر فيها ما صنع ببني بدر ويقول للطائيين: فإذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا وأطلقوا من قد أسرتم منهم، وإن لم تفعلوا فاعلموا أنا نبغيكم ونطلبكم، فإن أصبنا أحدا منكم طلبتمونا به، فصار كل واحد منا يبغي صاحبه، فنبقى في شقاق وعداوة أبدا. راجع ديوان بشر الأسدي: ص 165 يهجو أوس بن حارثة وفيه " ماحيينا " بدل " ما بقينا "، وشرح السيرافي: ج 2 ص 14، وخزانة الأدب للبغدادي: ج 10 ص 297. (1) لضابئ بن حارث البرجمي. تقدم ذكره وشرحه في ص 448 فراجع. (*)
[ 520 ]
حال ماضية استحضارا لتلك الحال الشنيعة ليتعجب منها. وقرئ: * (ألا تكون) * بالنصب والرفع (1)، والرفع على تقدير: وحسبوا أنه لا تكون فتنة، فخففت " أن " وحذف ضمير الشأن وجعل الحسبان بمنزلة العلم حيث أدخل على " أن " التي هي للتحقيق لقوته في صدورهم، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنهم (2) لا تصيبهم من الله * (فتنة) * أي: بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة * (فعموا) * عن الدين * (وصموا) * عن الحق * (ثم تاب الله عليهم) * لما تابوا * (ثم عموا وصموا كثير منهم) * هو بدل من واو الضمير، أو هو على قولهم: أكلوني البراغيث، أو هو على " أولئك كثير منهم " والمعنى: أن كثيرا منهم عادوا كما كانوا، وقيل: يعني بالكثير منهم من كان في عصرنبينا (عليه السلام) (3) * (والله بصير بما يعملون) * أي: عالم بأعمالهم، وفيه وعيد لهم. * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يبنى إسرا ءيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأوبه النار وما للظلمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما من إله إلا إله وا حد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) * (74) سورة المائدة / 72 - 74 احتج سبحانه على النصارى بقول عيسى (عليه السلام): * (اعبدوا الله ربى وربكم) * إذ لم يفرق بينه وبينهم في أنه عبد مربوب مثلهم * (إنه من يشرك بالله) * في عبادته أو فيما يختص به من صفاته أو أفعاله * (فقد حرم الله عليه الجنة) * التي هي دار (1) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 3 ص 596، واعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 32، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 247. (2) في بعض النسخ: أنه. (3) قاله البغوي في تفسيره: ج 2 ص 53. (*)
[ 521 ]
الموحدين، أي: حرمه دخولها ومنعه منه كما يمنع المحرم من المحرم عليه * (وما للظلمين من أنصار) * يخلصونهم من عذاب الله، وظلمهم أنهم عدلوا عن سبيل الحق فيما تقولوا على عيسى، و * (من) * في قوله: * (وما من إله إلا إله وا حد) * (1) للاستغراق والعموم، وهي المقدرة مع " لا " التي لنفي الجنس في قولك: " لاإله إلا الله " والتقدير: وما (2) إله قط في الوجود إلا إله (3) موصوف بالوحدانية لا ثاني له في القدم، وهو الله وحده لا شريك له * (ليمسن الذين كفروا منهم) * " من " للتبيين فكأنه قال: ليمسنهم، ولكن أقام الظاهر موقع المضمر لتتكرر شهادته عليهم بالكفر، ويجوز أن يكون " من " للتبعيض أيضا على معنى: ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم (4) * (أفلا يتوبون) * بعد هذا الوعيد الشديد مما هم عليه، وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر * (والله غفور رحيم) * يستر الذنوب على العباد ويرحمهم. * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايت ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولانفعا والله هو السميع العليم (76) قل يأهل الكتب لاتغلوا في دينكم غير الحق (1) قال الهمداني في الفريد في اعراب القرآن: ج 2 ص 67 ما لفظه: وقوله: * (إلا إله) * بدل من موضع * (من إله) *، والمعنى: وماإله لنا قط، أو في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له، وهو الله لا شريك له، وأجاز الكسائي * (إلا إله) * بالجر على البدل من اللفظ وليس بالمتين، لأن " من " لاتزاد في الواجب. ويجوز في الكلام " إلها " على الاستثناء، ولايجوز لأحد أن يقرأ به، لأن القراءة سنة متبعة لا يجوز فيها القياس. (2) في بعض النسخ زيادة: من. (3) في بعض النسخ: إلا الله. (4) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 68. (*)
[ 522 ]
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) * (77) سورة المائدة / 75 - 78 أي: * (ما) * هو * (إلا رسول) * من جنس الرسل الذين خلوا (1) قبله، أتى بمعجزات باهرة من فعل الله تعالى كما أتوا بأمثالها * (وأمه صديقة) * صدقت بكلمات ربها وكتبه وماهي إلا كبعض النساء المصدقات * (كانا يأكلان الطعام) * هذا تصريح ببعدهما عما نسب إليهما، لأن من احتاج إلى الغذاء وما يتبعه من الهضم والنفض (2) لم يكن إلا جسما مؤلفا محدثا (3)، وقيل: إنه كناية عن قضاء الحاجة فكأنه ذكر الأكل وقصد بذلك الإخبار عن عاقبته (4) * (انظر كيف نبين لهم) * الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم * (ثم انظر أنى يؤفكون) * أي: (1) في نسخة زيادة: من. (2) استنفض بالحجر: استنجى، وهو من نفض الثوب لأن المستنجي تنفض عن نفسه الأذى بالحجر. (القاموس المحيط: مادة نفض). (3) قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في التبيان: ج 3 ص 605: قوله: * (كانا يأكلان الطعام) * فيه احتجاج على النصارى، لأن من ولدته النساء، وكان يأكل الطعام لا يكون إلها للعباد، لأن سبيله سبيلهم في الحاجة الى الصانع المدبر، لأن من فيه علامة الحدث لا يكون قديما، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شئ. وقال العلامة الطباطبائي (قدس سره) الشريف: هو رد لقولهم: * (إن الله ثالث ثلثة) * أو قولهم هذا وقولهم المحكي في الآية السابقة: * (إن الله هو المسيح ابن مريم) * جميعا، ومحصله اشتمال المسيح على جوهر الألوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، وكذلك أمه مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى وهي بشر، وقد كان هو وامه جميعا يأكلان الطعام، وأكل الطعام مع مايتعقبه مبني على أساس الحاجة التي هو أول أمارة من أمارات الإمكان والمصنوعية، فقد كان المسيح (عليه السلام) ممكنا متولدا من ممكن، وعبدا ورسولا مخلوقا من امه كانا يعبدان الله، ويجريان في سبيل الحاجة والافتقار من دون أن يكون ربا. فهذه الامور صرحت به الأناجيل، وهي حجج على كونه (عليه السلام) عبدا رسولا. انظر الميزان: ج 6 ص 73. (4) قاله الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 56. (*)
[ 523 ]
كيف يصرفون عن استماع الحق وتدبره ! والمعني في قوله: * (ثم انظر) * تراخي مابين العجبين، بمعنى: أنه نبين لهم الآيات بيانا عجبا، ثم إن إعراضهم عنها أعجب منه، والمراد بقوله: * (مالا يملك) * عيسى (عليه السلام)، أي: شيئا لايستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم الله به من البلاء والنقص من الأموال والأنفس، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من الصحة والسعة والخصب، وصفة المعبود أن يكون قادرا على كل شئ * (والله هو السميع) * لما يقولون * (العليم) * بما يعتقدون. * (لاتغلوا في دينكم) * أي: لا تتجاوزوا الحد الذي حده الله لكم إلى الازدياد * (غير الحق) * صفة للمصدر، أي: لاتغلوا غلوا غير الحق، أي: غلوا باطلا وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه * (قد ضلوا من قبل) * هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله) * (وأضلوا كثيرا) * ممن تابعهم على التثليث * (وضلوا) * لما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) * (عن سوآء السبيل) * حين كذبوه وبغوا عليه. * (لعن الذين كفروا من بنى إسرا ءيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذا لك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خلدون) * (80) لعنوا * (على لسان داوود) * لما اعتدوا في سبتهم، فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء، فمسخهم الله قردة * (و) * على لسان * (عيسى ابن مريم) * لما كفروا بعد نزول المائدة، فقال عيسى: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فصاروا خنازير، وكانوا
[ 524 ]
خمسة آلاف رجل * (ذا لك بما عصوا) * أي: ذلك اللعن الشنيع بمعصيتهم واعتدائهم، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله: * (كانوا لا يتناهون) * أي: لا ينهى بعضهم بعضا * (عن منكر فعلوه) * ثم قال: * (لبئس ما كانوا يفعلون) * للتعجب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم، ويجوز أن يكون المعنى: كانوا لا يتناهون أي لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه ويداومون على فعله * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) * أي: يوالون المشركين ويصادقونهم * (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) * أي: لبئس زادهم إلى الآخرة * (أن سخط الله عليهم) * أي: سخط الله عليهم وهو المخصوص بالذم والمعني بذلك كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا (1) المشركين على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: * (هؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا) * (2). سورة المائدة / 82 و 83 * (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى ومآأنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فسقون (81) لتجدن أشد الناس عدا وة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصرى ذا لك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءامنا فاكتبنا مع الشهدين (83) ومالنا لا نؤمن بالله وماجآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصلحين) * (84) ولو كانوا يؤمنون (3) إيمانا حقيقيا ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون * (ولكن كثيرا منهم) * متمردون في كفرهم، ثم ذكر شدة عداوة اليهود (1) استجاشه: أي طلب منه جيشا. (الصحاح: مادة جيش). (2) النساء: 51. (3) في نسخة زيادة: بالله. (*)
[ 525 ]
للمؤمنين ولين عريكة النصارى وميلهم إلى الإسلام، وقرن اليهود بالمشركين في العداوة، ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديم ذكرهم، وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين * (بأن منهم قسيسين ورهبانا) * أي: علماء وعبادا * (وأنهم) * قوم فيهم تواضع وإخبات ولاكبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك، وفيه دلالة على أن العلم يهدي إلى الخير وينفع في أبواب البر، وكذلك التأله والتفكر في أمر (1) الآخرة والبراءة من الكبر، ثم وصفهم برقة القلوب والبكاء عند استماع القرآن، وذلك نحو ما حكي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة وعمرو بن العاص (2) مع من معه من المشركين وهم يغرونه عليهم: هل في كتابكم ذكر مريم ؟ فقال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، وقرأها إلى قوله: * (ذا لك عيسى ابن مريم) * (3) وقرأ سورة طه إلى قوله: * (وهل أتيك حديث موسى) * (4) فبكى النجاشي (5)، وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) سورة يس فبكوا (6). واللام في * (للذين ءامنوا) * يتعلق ب * (عدا وة) * و * (مودة) *، ووصف (1) في بعض النسخ: امور. (2) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، أحد عظماء العرب ودهاتهم، واولي الرأي والحزم والمكيدة فيهم، كان في الجاهلية من الأشداء على الاسلام، أسلم في هدنة الحديبية، ولاه النبي (صلى الله عليه وآله) إمرة جيش ذات السلاسل، ثم استعمله على عمان، ولما كانت الفتنة بين أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية كان مع معاوية حتى ولاه معاوية على مصر سنة 38 ه، وأطلق له خراجها ست سنين فجمع أموالا طائلة، مات بمصر سنة 43 ه. (الاستيعاب بهامش الاصابة: ج 2 ص 501، الاعلام للزركلي: ج 5 ص 79). (3) مريم: 34. (4) طه: 9. (5) تفسير القمي: ج 1 ص 176 - 178. (6) انظر تفسير الطبري: ج 5 ص 6 ح 12328، وتفسير القمي: ج 1 ص 178 - 179 وفيه: " ثلاثين رجلا ". (*)
[ 526 ]
اليهود بالعداوة والنصارى بالمودة ووصف العداوة بالأشد والمودة بالأقرب يؤذن بتفاوت مابين الفريقين * (يقولون ربنا ءامنا) * المراد به إنشاء (1) الإيمان والدخول فيه * (فاكتبنا مع الشهدين) * مع أمة محمد (صلى الله عليه وآله) الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة كما قال تعالى: * (لتكونوا شهداء على الناس) * (2) وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك * (وما لنا لا نؤمن) * إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع ثبوت موجبه وهو الطمع في أن ينعم الله عليهم بصحبة الصالحين، ومحل * (لا نؤمن) * النصب على الحال بمعنى: غير مؤمنين، والواو في * (ونطمع) * واو الحال، والعامل في الأولى معنى الفعل في اللام، والمعنى: وأي شئ حصل لنا غير مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل مقيدا بالحال الأولى، لأنك لو قلت: مالنا ونطمع لم يكن كلاما (3)، ويجوز أن يكون * (ونطمع) * حالا من * (لا نؤمن) * (4). * (فأثبهم الله بما قالوا جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها وذا لك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بايتنآ أولئك أصحب الجحيم) * (86) سورة المائدة / 87 و 88 * (بما قالوا) * أي: بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان أي: مذهبه واعتقاده، وذكر مجرد القول هنا لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على معرفتهم وإخلاصهم، وهو قوله: * (مما عرفوا من الحق) * (5)، والقول إذا (1) في نسخة: إفشاء. (2) البقرة: 143. (3) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 670. (4) وهو اختيار النحاس. راجع إعراب القرآن: ج 2 ص 37. (5) الآية: 83. (*)
[ 527 ]
اقترن به المعرفة فذلك الإيمان الحقيقي. * (يأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبت مآأحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون) * (88) روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر أصحابه يوما ووصف القيامة لهم فبالغ في الإنذار، فرقوا، واجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون (1) واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك (2) ولايقربوا النساء ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لهم: " إني لم أؤمر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني " ونزلت (3) الآية. * (لا تحرموا) * أي: لا تمنعوا أنفسكم ما طاب ولذ من الحلال، ولا تقولوا: حرمنا الحلال على أنفسنا تزهدا ومبالغة منكم في العزم على تركه * (ولا تعتدوا) * أي: لاتتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، أو جعل تحريم الطيبات اعتداء فنهي عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، أو أراد: ولا تسرفوا في تناول الطيبات * (وكلوا مما رزقكم الله) * أي: من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا، وقوله: * (حللا) * حال من * (مما رزقكم الله) *، * (واتقوا الله) * تأكيد للوصية بما أمر به، (1) هو عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب القرشي الجمحي، أبو السائب، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا، وهو أول من مات في المدينة سنة اثنتين للهجرة، وأول من دفن بالبقيع. (اسد الغابة: ج 3 ص 385، حلية الأولياء: ج 1 ص 102). (2) الودك: دسم اللحم. (الصحاح: مادة ودك). (3) انظر تفسير البغوي: ج 2 ص 59، وأسباب النزول للواحدي: ص 169. (*)
[ 528 ]
وقوله: * (أنتم به مؤمنون) * استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه. وتدل الآيتان على كراهية التفرد والخروج مما عليه الناس في التأهل وطلب الولد وعمارة الأرض. * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمنكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمن فكفرته إطعام عشرة مسكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذا لك كفرة أيمنكم إذا حلفتم واحفظوا أيمنكم كذا لك يبين الله لكم ءايته لعلكم تشكرون) * (89) سورة المائدة / 89 اللغو في اليمين (1): هو الساقط الذي لا يتعلق به حكم ويقع من غير قصد، مثل قول القائل: " لا والله " و " بلى والله " * (بما عقدتم الايمن) * أي: بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية، وقرئ: " عقدتم " بالتخفيف (2) و " عاقدتم " (3)، والمعنى: ولكن يؤاخذكم بنكث ماعقدتم فحذف المضاف، أو بما عقدتم إذا حنثتم فحذف وقت المؤاخذة لكونه معلوما * (فكفرته) * أي: فكفارة حنثه * (إطعام عشرة مسكين) * يعطى كل واحد منهم مدين أو مدا، والمد: رطلان وربع * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * أي: من أقصده، لأن من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر، وأفضله الخبز واللحم وأدونه الخبز والملح، وعن (1) في نسخة: الأيمان. (2) وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر وحمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 10، وتفسير البغوي: ج 2 ص 60، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 247. (3) قرأه ابن عامر وحده على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 10، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 60، وابن غلبون في تذكرته: ج 2 ص 390، وابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات: ص 247. (*)
[ 529 ]
الصادق (عليه السلام) أنه قرأ: " أهاليكم " بسكون الياء (1) وهو اسم جمع لأهل كالليالي والأراضي، وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف كما قالوا: رأيت معدي كرب تشبيها للياء بالألف * (أو كسوتهم) * عطف على * (إطعام) * والكسوة عندنا (2) ثوبان: مئزر وقميص، وعند الضرورة قميص * (أو تحرير رقبة) * عبد أو أمة، وهذه الثلاثة واجبة على التخيير (3) * (فمن لم يجد) * إحداها * (فصيام ثلثة أيام) * متتابعات، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود (4) * (ذا لك) * المذكور * (كفرة أيمنكم إذا حلفتم) * وحنثتم، ترك ذكر الحنث لحصول العلم بأن الكفارة إنما تجب بالحنث لابنفس الحلف * (واحفظوا أيمنكم) * فبروا فيها ولاتحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها (5)، وقيل: احفظوا كيف حلفتم بها ولاتنسوها تهاونا بها (6) (7) * (كذا لك) * أي: مثل ذلك البيان * (يبين الله لكم ءايته) * أي: أحكام شريعته * (لعلكم تشكرون) * نعمته فيما يعلمكم ويبينه لكم. (1) حكاه عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 279. (2) انظر التبيان: ج 4 ص 13. (3) انظر فقه الرضا (عليه السلام): ص 270، والتبيان: ج 4 ص 14. (4) حكاه السمرقندي في تفسيره ج 1 ص 456 ونسبه الى أبي، وفي تفسير القرطبي: ج 6 ص 283: قرأها ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره المزني. (5) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 63. (6) قاله النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 38، واختاره الشيخ في التبيان: ج 4 ص 15، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 62. (7) قال البغوي: فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث، هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر: (تفسيره: ج 2 ص 62). قال الشيخ الطوسي (قدس سره): وهذا يدل على أن اليمين في المعصية منعقدة، وعندنا أن اليمين في المعصية غير منعقدة لأنها لو انعقدت للزم حفظها. راجع تفصيل ذلك في التبيان: ج 4 ص 14 - 15. (*)
[ 530 ]
* (يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلم رجس من عمل الشيطن فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم العدا وة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون) * (91) أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد: منها: أنه قرنهما بعبادة الأنصاب التي هي الأصنام، ومنه قوله (عليه السلام): " شارب الخمر كعابد الوثن " (1)، ومنها: أنه جعلهما رجسا كما قال: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثن) * (2)، ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، ومنها: أنه أمر بالاجتناب، ومنها: أنه جعل الاجتناب من الفلاح، والهاء في * (فاجتنبوه) * تعود إلى عمل الشيطان أو إلى مضاف محذوف كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطي الخمر والميسر ونحو ذلك، ومنها: أنه ذكر نتائجهما من المفاسد التي هي وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر (3) وما يؤديان إليه من الصد * (عن ذكر الله وعن الصلوة) * التي هي عماد الدين، وقوله: * (فهل أنتم منتهون) * نهي بليغ، أي: فهل أنتم مع ما تلي عليكم من هذه الصوارف منتهون ؟ * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلغ المبين (92) ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصلحت ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) * (93) سورة المائدة / 92 - 94 * (واحذروا) * أي: كونوا حذرين خائفين، أو واحذروا ما عليكم في ترك (1) المطالب العالية لابن حجر: ج 2 ح 1777، اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 9 ص 152. (2) الحج: 30. (3) في بعض النسخ: القمار. (*)
[ 531 ]
طاعة الله والرسول * (فإن توليتم) * ولم تعملوا بما أمرتكم به * (فاعلموا) * أنكم لم (1) تضروا الرسول بتوليكم عما أداه إليكم، لأن الرسول لم يكلف إلا * (البلغ المبين) * وإنما أضررتم أنفسكم، وهذا وعيد * (ليس على) * المؤمنين الصالحين * (جناح) * في أي شئ طعموه من المطاعم المستلذة * (إذا ما اتقوا) * ما حرم عليهم منها، وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه * (ثم اتقوا وءامنوا) * أي: ثم ثبتوا على التقوى والإيمان * (ثم اتقوا وأحسنوا) * أي: ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس يواسونهم بما رزقهم الله من الطيبات، وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تختص المكلف ولاتتعداه، والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية، والاتقاء الثالث اتقاء مظالم العباد ومايتعدى إلى الغير من الظلم والفساد (2). * (يأيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذا لك فله عذاب أليم) * (94) نزلت (3) عام الحديبية، ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون وكان قد كثر عندهم حتى أنه كان يغشاهم في رحالهم فيتمكنون من صيده أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم * (بشئ من الصيد) * أي: بتحريم بعض الصيد، لأنه عنى صيد البر خاصة (4)، وأنهم ابتلوا بذلك كما ابتلي أمة موسى (عليه السلام) بصيد البحر وهو السمك (1) في بعض النسخ: لن. (2) حكاه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 20. وراجع الأقوال الاخرى الواردة فيه في اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 39 - 40. (3) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 677. (4) وهي إحدى الأقوال الثلاثة التي ذكرها الشيخ في التبيان: ج 4 ص 21 - 22 فراجع. وانظر اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 40. (*)
[ 532 ]
* (ليعلم الله من يخافه بالغيب) * أي: ليتميز من يخاف عقاب الآخرة وهو غائب منتظر فيتقي الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه * (فمن اعتدى) * فصاد * (بعد ذا لك) * الابتلاء فالوعيد لاحق به. * (يأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بلغ الكعبة أو كفرة طعام مسكين أو عدل ذا لك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95) أحل لكم صيد البحر وطعامه متعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما واتقوا الله الذى إليه تحشرون) * (96) سورة المائدة / 95 و 96 * (الصيد) * ما يصاد من الوحش، أكل أم لم يؤكل * (وأنتم حرم) * أي: محرمون بحج أو عمرة، جمع حرام * (ومن قتله منكم متعمدا) * وهو أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم بأن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، وعن الزهري (1): نزل الكتاب بالعمد وجرت السنة في الخطأ (2) * (فجزاء مثل ما قتل) * برفع * (جزاء) * و * (مثل) * معناه: فالواجب عليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد، وقرئ: " فجزاء مثل ما قتل " على الإضافة (3)، والأصل فيه: " فجزاء مثل ما قتل " بنصب " مثل " ومعناه: فعليه (1) هو أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيدالله الزهري، عالم الحجاز والشام، روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر، وغيرهما، وروى عنه عطاء بن أبي رباح وأبو الزبير وعمر بن عبد العزيز وعمر بن دينار وصالح بن كيسان وغيرهم، مات سنة 123 ه. (تذكرة الحفاظ: ج 1 ص 102، تهذيب التهذيب: ج 9 ص 445). (2) حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 308. (3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 247، والتبيان: ج 4 ص 23. (*)
[ 533 ]
أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف المصدر إلى المفعول به * (من النعم) * وهي الإبل والبقر والغنم، ويقال للإبل أيضا: نعم وإن انفرد، وهذه المماثلة عند أئمة الهدى (عليهم السلام) إنما تعتبر في الخلقة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقر الوحش بقرة، وفي الظبي والأرنب ونحوهما شاة (1) * (يحكم به) * أي: بمثل ما قتل * (ذوا عدل منكم) * أي: حكمان عدلان من الفقهاء ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به، وقراءة السيدين: الباقر والصادق (عليهما السلام): " ذو عدل منكم " (2) المراد به الإمام * (هديا) * حال من * (جزاء) * لأنه تخصص بالصفة فأشبه المعرفة، أو حال من الضمير في * (به) *، أو بدل من محل * (مثل) * إذا جررته (3)، و * (بلغ الكعبة) * وصف له، أي: هديا يبلغ الكعبة، ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، وقال أصحابنا: إذا كان محرما بالعمرة ذبح أو نحر بمكة، وإن كان محرما بالحج فبمنى (4) * (أو كفرة) * معناه: أو الواجب عليه كفارة، وقرئ: " أو كفارة طعام مساكين " على الإضافة (5) وتقديره: أو كفارة من طعام مساكين، كقولك: " خاتم فضة " والمعنى: خاتم من فضة، وهو أن يقوم الجزاء ويفض ثمنه على الحنطة ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع * (أو عدل ذا لك صياما) * وعدل الشئ ماعادله من غير جنسه، وصياما تمييز للعدل، و * (ذا لك) * إشارة إلى الطعام وهو أن (1) انظر الفقه المنسوب للرضا (عليه السلام): ص 272، والنهاية للشيخ الطوسي: ص 222 وما بعدها، والمبسوط: ج 1 ص 339، والتبيان: ج 4 ص 25. (2) انظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 41، والكشاف: ج 1 ص 679 وفيه: محمد بن جعفر والظاهر هو وهم منه. (3) راجع تفصيل ذلك في إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 40 - 41. (4) ذهب إليه الشيخ في الخلاف: ج 2 ص 373 مسألة (216)، والنهاية ونكتها: ج 1 ص 529، وابن البراج في المهذب: ج 1 ص 230، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه: ص 200، وسلار في المراسم: ص 121، وابن إدريس في السرائر: ج 1 ص 594. (5) قرأه نافع وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 390. (*
[ 534 ]
يصام عن كل نصف صاع يوما. والخيار في هذه الكفارات الثلاث إلى قاتل الصيد (1)، وقيل: هي مرتبة (2)، وكلا القولين رواه أصحابنا (3) * (ليذوق) * متعلق ب * (جزاء) * والمعنى: فالواجب عليه أن يجازى أو يكفر ليذوق سوء عاقبة فعله * (عفا الله عما سلف) * لكم من الصيد في حال الإحرام يعني الدفعة الأولى، ومن عاد ثانية إلى قتل الصيد محرما * (فينتقم الله منه) * تقديره: فهو ينتقم الله منه ويعاقبه بما صنع ولا كفارة عليه. * (أحل لكم صيد البحر) * أي: مصيداته * (وطعامه) * ومايطعم من صيده، والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده * (متعا لكم) * مفعول له، أي: تمتيعا (4) لكم، والمعنى: وأحل لكم طعام البحر تمتيعا (5) لتنائكم (6) تأكلونه طريا ولسيارتكم يتزودونه قديدا، ص (7): " وطعامه حل لكم وللسيارة ". سورة المائدة / 97 - 100 * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس والشهر الحرام (1) وهو ما ذهب إليه ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم واختاره الجبائي على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 27، وبه قال الشافعي ومالك كما في الخلاف: ج 2 ص 398، وانظر الام: ج 2 ص 207، والموطأ: ج 1 ص 355، والمجموع: ج 7 ص 438، وعمدة القارئ: ج 10 ص 161. (2) وهو قول ابن عباس في رواية اخرى والشعبي وإبراهيم والسدي على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 27. (3) ذهب إلى الأول الشيخ في الخلاف: ج 2 ص 397 مسألة (260)، والتبيان: ج 4 ص 25، وذهب الى الثاني العلامة في مختلف الشيعة: ج 4 ص 89 وقال: وهو مذهب الشيخ المصنف في النهاية وابن أبي عقيل وابن بابويه والسيد المرتضى. (4) و (3) في نسخة: تمتعا. (6) التانئ: أي المقيم، تنأ في المكان إذا أقام فيه. (القاموس المحيط: مادة تنأ). (7) كذا في جميع النسخ. (*)
[ 535 ]
والهدى والقلئد ذا لك لتعلموا أن الله يعلم مافى السموا ت وما في الارض وأن الله بكل شئ عليم (97) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (98) ما على الرسول إلا البلغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99) قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يأولى الالبب لعلكم تفلحون) * (100) * (البيت الحرام) * عطف بيان ل * (الكعبة) * (1)، * (قيما للناس) * أي: لمعايش (2) الناس ومكاسبهم ليستقيم به أمور دينهم ودنياهم لما يتم به من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم، وجاء في الأثر: أنه لو ترك عاما واحدا لم يحج إليه لم يناظروا ولم يؤخروا (3)، ومعناه: يهلكوا * (والشهر الحرام) * أي: والشهر الذي يؤدى فيه (4) الحج وهو ذو الحجة، وقيل: عني به جنس الأشهر الحرم الأربعة، واحد فرد وثلاثة سرد (5)، وهو عطف على * (الكعبة) * كما تقول: ظننت زيدا منطلقا وعمرا * (والهدى والقلئد) * أي: والمقلد من الهدي خصوصا، لأن الثواب فيه أكثر * (ذا لك) * إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس * (لتعلموا أن الله يعلم) * كل شئ فيعلم ما يصلحكم مما أمركم به * (ما على الرسول إلا البلغ) * فيه تهديد وإيذان بأن الرسول قد بلغ ما وجب عليه (1) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 31: وقال أهل اللغة: وانما قيل: كعبة البيت واضيف لأن كعبة تربع اعلاه، والكعوبة: النتوء، فقيل للتربيع: كعبة لنتوء زوايا المربع، ومنه كعب ثدي الجارية إذا نتأ، ومنه كعب الانسان لنتوئه. وسميت الكعبة حراما لتحريم الله اياها أن يصاد صيدها أو يخلى خلاءها أو يعضد شجرها. (2) في نسخة: لمعاش. (3) قاله عطاء بن أبي رباح. راجع الكشاف: ج 1 ص 681. (4) في نسخة: به. (5) قاله الحسن على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 31. (*)
[ 536 ]
تبليغه وقامت عليكم الحجة فلا عذر لكم في التقصير، أي: لا يستوي الحلال والحرام والصالح والطالح والصحيح من المذاهب (1) والفاسد، ولا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على الطيب القليل * (فاتقوا الله) * واختاروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر. * (يأيها الذين ءامنوا لاتسلوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم وإن تسلوا عنها حين ينزل القرءان تبدلكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كفرين) * (102) أي: لا تكثروا مسألة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تسألوه عن تكاليف شاقة إن أفتاكم بها وكلفكم إياها وجبت وربما غمكم (2) ذلك وشق عليكم، وذلك نحو ماروي: أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال: يارسول الله أفي كل عام كتب الحج علينا ؟ فأعرض عنه حتى أعاد المسألة ثلاثا، فقال: ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم ! ! والله لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه (3). * (وإن تسلوا) * عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي * (تبد لكم) * تلك التكاليف التي * (تسؤكم) * وتؤمروا بتحملها، وقيل: إن رجلا يقال له: عبد الله سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: من أبي ؟ وكان يطعن في نسبه، فقال له (عليه السلام): " حذافة " سورة المائدة / 102 و 103 فنزلت (4) * (عفا الله) * عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها * (والله غفور (1) في بعض النسخ: المذهب. (2) في بعض النسخ: عنكم. (3) رواه الطبري في تفسيره: ج 5 ص 84. (4) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 70 - 71، ورواه الطبري في تفسيره: ج 5 = (*)
[ 537 ]
حليم) * لايعاجلكم بعقوبته * (قد سألها) * أي: قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين * (ثم أصبحوا بها) * أي: بمرجوعها أو بسببها * (كفرين) * وذلك أن بني إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروها تركوها فهلكوا. * (ما جعل الله من بحيرة ولاسآئبة ولاوصيلة ولاحام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءابآءنآ أولو كان أآباؤهم لا يعلمون شيا ولا يهتدون) * (104) البحيرة: الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي: شقوها وحرموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، ولو لقيها المعيى (1) لم يركبها. والسائبة: ما كانوا يسيبونه، كان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وكان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة ولاعقل بينهما ولا ميراث، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ولسدنة الأصنام. والوصيلة في الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لأجلها. والحامي: هو الفحل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى (2). ومعنى * (ما جعل الله) *: ما شرع ذلك ولاأمر بالتبحير ولا بالتسييب ولاغير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرموا * (يفترون على الله الكذب) * يدعون أن الله = ص 81 - 83 مطولا، واخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 204 - 206 عن ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه. (1) المعيى: المتعب. (لسان العرب: مادة عيى). (2) راجع تفصيل ذلك في معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 213. (*)
[ 538 ]
حرمها * (وأكثرهم لا يعقلون) * أن ذلك افتراء وكذب، يعني الاتباع للذين يقلدون في تحريمها رؤساءهم (1)، والواو في قوله: * (أولو كان أآباؤهم) * واو الحال دخل عليه همزة الاستفهام التي للإنكار (2)، والتقدير: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم * (لا يعلمون شيا ولا يهتدون) * والاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي ولا يعرف ذلك إلا بالدليل. * (يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) * (105) سورة المائدة / 105 و 106 * (عليكم) * من أسماء الأفعال ومعناه: الزموا إصلاح أنفسكم، وقوله: * (لا يضركم) * جواب الأمر وهو مجزوم، وإنما ضمت الراء إتباعا لضمة الضاد، والأصل: " لايضرركم "، وقرئ: " لا يضركم " بكسر الضاد وضمها (3) من ضاره يضيره ويضوره، ويجوز أن يكون خبرا مرفوعا (4)، والمعنى: لا يضركم ضلال * (من ضل) * عن دينكم * (إذا) * كنتم مهتدين، وهو مثل قوله: * (فلا تذهب نفسك (1) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 37: هذه الآية من الأدلة الواضحة على بطلان مذهب المجبرة من قولهم: من أن الله تعالى هو الخالق للكفر والمعاصي وعبادة الأصنام وغيرها من القبائح، لأنه تعالى نفى أن يكون هو الذي جعل البحيرة أو السائبة أو الوصيلة أو الحام، وعندهم: أن الله هو الجاعل له والخالق، تكذيبا لله تعالى وجرأة عليه، ثم بين تعالى أن هؤلاء بهذا القول قد كفروا بالله وافتروا عليه بأن أضافوا إليه ما ليس بفعل له، وذلك واضح لاإشكال فيه. (2) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 1 ص 685، والفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 91. (3) قرأ يحيى وابراهيم بكسر الضاد، والحسن بضمها على ما حكاه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 41. (4) وهو اختيار الأخفش وقال: لأنه ليس بعلة لقوله: * (عليكم أنفسكم) * وإنما أخبر انه لا يضرهم. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 478، وعنه التبيان: ج 4 ص 41. (*)
[ 539 ]
عليهم حسرا ت) * (1)، وكان المؤمنون يتأسفون حسرة على أهل العناد من الكفار يتمنون دخولهم في الإسلام فخوطبوا بذلك. وعن ابن مسعود أنها قرئت عنده فقال: إن هذا ليس بزمانها (2) إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم (3)، فهو على هذا تسلية لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلا يقبل منه وبسط لعذره (4). * (يأيها الذين ءامنوا شهدة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصبتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولانكتم شهدة الله إنآ إذا لمن الاثمين) * (106) * (شهدة بينكم) * مبتدأ و * (اثنان) * خبره، والتقدير: شهادة بينكم شهادة اثنين، وأضيف المصدر الذي هو * (شهدة) * إلى " بين " فجعل الظرف اسما اتساعا، و * (إذا حضر) * ظرف للشهادة و * (حين الوصية) * بدل منه، وفي إبداله منه دلالة على وجوب الوصية عند حضور الموت وظهور أماراته، لأن زمان حضور أسباب الموت جعل زمان الوصية * (إن أنتم ضربتم في الارض) * يعني: إن وقع (1) فاطر: 8. (2) في نسخة: بزماننا. (3) رواه عنه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 343. (4) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 41 ما لفظه: وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة في تعذيب الأطفال، لأنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يأمن المؤمنون أن يؤخذوا بذنوب آبائهم، وقد بين الله تعالى أن الأمر بخلافه مؤكدا لما في العقل. (*)
[ 540 ]
الموت في السفر ولم يكن معكم رجلان عدلان * (منكم) * أي: من المسلمين فاستشهدوا على الوصية آخرين * (من غيركم) * أي: من أهل الذمة، وروي: أن ثلاثة نفر خرجوا تجارا من المدينة إلى الشام: تميم بن أوس وعدي (1) وهما نصرانيان وابن أبي مارية (2) مولى عمرو بن العاص، فمرض ابن أبي مارية وكتب كتاب وصية (3) فيه ما معه من المتاع ودس كتابه في متاعه لم يخبر به صاحبيه، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشا متاعه وأخذا إناء من فضة ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فوجدوا الكتاب فطالبوهما بالإناء فجحدا، فرفعوا أمرهم (4) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فنزلت (5). سورة المائدة / 106 و 107 قوله: * (تحبسونهما) * معناه: تقفونهما ليحلفا * (من بعد الصلوة) * أي: من بعد صلاة العصر (6) وقت اجتماع الناس، وقيل: أو الظهر (7)، وقيل: من بعد صلاة أهل دينهما يعني: الذميين (8) * (فيقسمان بالله إن ارتبتم) * في شهادتهما وشككتم واتهمتموهما، فقوله: * (إن ارتبتم) * اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله: * (لا نشتري به ثمنا) * أي: لا نستبدل بتحريف شهادتنا ذا ثمن، فحذف المضاف في (1) في الكشاف: عدي بن زيد. (2) في الكشاف: بديل بن أبي مريم. (3) في نسخة: وصيته. (4) في نسخة: أمرهما، وكذا في الكشاف. (5) سنن أبي داود: ج 3 كتاب القضايا ص 307 ح 3606، أسباب النزول للواحدي: ص 175، الكشاف: ج 1 ص 687، تفسير القرطبي: ج 6 ص 346. (6) وذهب إليه شريح وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة، وهو قول أبي جعفر (عليه السلام) على ما حكاه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 45، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 216، والنحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 46. (7) وهو قول الحسن. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 76، والتبيان: ج 4 ص 45، والكشاف: ج 1 ص 687. (8) قاله ابن عباس والسدي على ما حكاه عنهما الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 76، والشيخ في التبيان: ج 4 ص 45. (*)
[ 541 ]
الموضعين، لأن من المعلوم أن المبيع يشترى دون ثمنه، وقيل: إن الضمير في * (به) * للقسم (1)، يعني: لا نستبدل بالقسم بالله عوضا (2) من الدنيا، أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال * (ولو كان ذا قربى) * الضمير في * (كان) * للمقسم له، أي: ولو كان من نقسم له قريبا منا، ولانحابي في شهادتنا أحدا * (ولانكتم شهدة الله) * التي أمرنا الله بحفظها وألزمنا أداءها، ورووا عن علي (عليه السلام) والشعبي الوقف على * (شهدة) * وابتداء " ءالله " بالمد على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه (3)، وروي أيضا بغير مد (4)، وذلك على ما ذكره سيبويه: أن منهم من يحذف حرف القسم ولايعوض منه همزة (5) الاستفهام فيقول: الله لقد كان كذا (6)، * (إنآ إذا) * أي: إن فعلنا ذلك * (لمن الاثمين) *. * (فإن عثر على أنهما استحقآ إثما فاخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاولين فيقسمان بالله لشهدتنآ أحق من شهدتهما وما اعتدينا إنآ إذا لمن الظلمين (107) ذا لك أدنى أن يأتوا بالشهدة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمن بعد أيمنهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفسقين) * (108) أي: * (فإن) * اطلع * (على أنهما استحقآ إثما) * أي: فعلا ما أوجب (7) إثما (1) قاله النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 46، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 688. (2) في بعض النسخ: عرضا، وكذا في الكشاف. (3) رواه عنهما المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 254 وزاد: ونعيم بن ميسرة وهو قراءة يعقوب برواية روح وزيد. وحكاه أبو حيان في البحر المحيط: ج 4 ص 44 عنهما. (4) قرأه الشعبي على ما حكاه عنه أبو حيان في البحر المحيط: ج 4 ص 44. (5) في نسخة: حرف. (6) انظر كتاب سيبويه: ج 3 ص 499. (7) في بعض النسخ: يوجب. (*)
[ 542 ]
واستوجبا أن يقال: إنهما من * (الاثمين) * بخيانتهما * (فاخران) * أي: فشاهدان آخران * (يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم) * الإثم، والمعنى: من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، وفي الحديث: أنه لما عثر على خيانة الرجلين ووجد الإناء بمكة بعد أن استحلفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند المنبر حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما وأنهما خانا وكذبا فدفع الإناء إليهما (1)، و * (الاولين) * الأحقان بالشهادة لقرابتهما، وارتفاعها (2) على أنها بدل من * (فاخران) * أو من الضمير في * (يقومان) * أو على " هما الاوليان " كأنه قيل: ومن هما ؟ فقيل: * (الاولين) *، وقرئ: " الأولين " (3) على أنه وصف ل * (الذين استحق عليهم) * ومعنى الأولية: التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، وفي هذا دلالة على جواز رد اليمين على المدعي، وقرئ: * (استحق عليهم الاولين) * على البناء للفاعل (4)، ومعناه: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما عن القيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين * (فيقسمان) * أي: يحلفان * (بالله لشهدتنآ) * وقولنا في وصية صاحبنا * (أحق) * بالقبول * (من شهدتهما) * وقولهما * (وما اعتدينا) * وما جاوزنا الحق فيما طلبناه سورة المائدة / 108 و 109 من حقنا * (ذا لك) * الذي تقدم من بيان الحكم * (أدنى) * أي: أقرب إلى أن يأتي (1) رواه الحسن البصري في تفسيره: ج 1 ص 345 - 346، والقرطبي في تفسيره أيضا: ج 6 ص 346. (2) في جميع النسخ: " ارتفاعهما " والصحيح المناسب لسياق العبارة ما أثبتناه. (3) قرأها يحيى وحمزة ويعقوب على ما حكاها عنهم ابن غلبون في التذكرة: ج 2 ص 391، ونسبها أبو حيان في البحر المحيط: ج 4 ص 46 الى ابن سيرين. (4) وهي قراءة حفص والأعشى الا النفار والكسائي عن أبي بكر. راجع التبيان: ج 4 ص 47، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 419. (*)
[ 543 ]
الشهداء على نحو تلك الحادثة * (بالشهدة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمن) * أي: أو أقرب إلى أن يخافوا أن تكر (1) أيمان شهود آخرين * (بعد أيمنهم) * فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في هذه القصة، فربما لايحلفون كاذبين ويتحفظون في الشهادة مخافة رد اليمين إلى المستحق عليهم * (واتقوا الله) * أن تخونوا وتحلفوا كاذبين * (واسمعوا) * سمع إجابة وقبول. * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لاعلم لنآ إنك أنت علم الغيوب (109) إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى وا لدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتب والحكمة والتوربة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهية الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الاكمه والابرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى وإذ كففت بنى إسرا ءيل عنك إذ جئتهم بالبينت فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) * (110) * (يوم يجمع) * ظرف (2) لقوله: * (لا يهدى) * أي: لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يهدي غيرهم، أو يوم يجمع الله الرسل يكون كذا وكذا، أو نصب (3) ب * (اذكر) * (4)، * (ماذآ أجبتم) * أي: أي إجابة أجبتم ؟ وهذا السؤال توبيخ لقومهم، ولذلك * (قالوا لاعلم لنآ) * وكلوا الأمر إلى علمه بسوء إجابتهم ولجأوا إليه في الانتقام منهم، وقيل: معناه: أنت أعلم بحالهم منا فعلمنا مغمور بعلمك وساقط معه (1) في نسخة: تكرر. (2) وهو ما ذهب إليه النحاس. راجع اعراب القرآن: ج 2 ص 48. (3) ذهب إليه الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 689. (4) انظر تفصيل ذلك في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 102. (*)
[ 544 ]
لأنك * (علم الغيوب) * (1)، وقيل: معناه: لاعلم لنا بما كان منهم بعدنا (2) * (إذ قال الله) * بدل من * (يوم يجمع) * والمعنى: أنه يوبخ (3) الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتقرير ما أظهر على أيديهم من الآيات والمعجزات فكذبوهم أو (4) اتخذوهم آلهة * (أيدتك) * قويتك * (بروح القدس) * بجبرئيل (عليه السلام)، وقيل: بالكلام الذي يحيا به الدين (5) * (تكلم الناس) * طفلا * (وكهلا) *، و * (في المهد) * في موضع الحال، والمعنى: تكلمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامك حين (6) الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت بلوغ الأشد، والحد الذي يستنبأ فيه الأنبياء * (وإذ علمتك الكتب) * أي: الكتابة * (والحكمة) * الكلام المحكم، وقيل: المراد بهما جنس الكتاب والحكمة * (و) * خص * (التوربة والانجيل) * مما تناولاه (7) * (وإذ تخلق) * أي: تصور وتقدر * (من الطين كهية الطير) * أي: هيئة مثل هيئة الطير الذي تريد * (بإذنى) * بأمري وتسهيلي * (فتنفخ فيها) * الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ونفخه في شئ، وكذلك الضمير في * (فتكون) *، * (و) * إذ * (تبرئ الاكمه والابرص) * نسب ذلك إليه لما كان بدعائه وسؤاله * (وإذ تخرج الموتى) * من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء * (وإذ كففت بنى إسرا ءيل عنك) * يعني: اليهود حين هموا بقتله. سورة المائدة / 111 - 113 * (وإذ أوحيت إلى الحوارين أن ءامنوا بى وبرسولي قالوا ءامنا (1) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 76، وتفسير الرازي: ج 12 ص 123. (2) قاله ابن جريج على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 78، والبغوي أيضا في تفسيره: ج 2 ص 76. (3) في نسخة: توبيخ. (4) في بعض النسخ: و. (5) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 691. (6) في نسخة: حال. (7) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 691. (*)
[ 545 ]
واشهد بأننا مسلمون (111) إذ قال الحواريون يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشهدين) * (113) * (وإذ أوحيت إلى الحوارين) * أي: ألهمتهم، وقيل: ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم إياها (1)، وقيل: أمرتهم على ألسنة الرسل (2) * (مسلمون) * أي: مخلصون، من أسلم وجهه لله * (هل يستطيع ربك أن ينزل) * معناه: هل يفعل ذلك ربك بمسألتك إياه ليكون علما على صدقك (3)، وقيل: معناه: هل يقدر ربك (4)، وإنما قالوه قبل أن تستحكم معرفتهم بالله وصفاته، ولذلك قال عيسى (عليه السلام) لهم: * (اتقوا الله) * ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه ما تشتهون (5) من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها (6)، وقرأ الصادق (عليه السلام): " هل تستطيع ربك " (7) أي: هل تستطيع سؤال ربك، والمائدة: الخوان يكون عليه الطعام، وهي من مادة أي: أعطاه * (ونكون عليها من الشهدين) * نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوة عاكفين عليها، * (ونكون عليها) * في موضع الحال. (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 220. (2) قاله الزمخشري في كشافه: ج 1 ص 692. (3) اختار هذا القول الحسن على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 59، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 220. (4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 220. (5) في نسخة: تشبهون. (6) راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 78، والكشاف: ج 1 ص 693. (7) تفسير العياشي: ج 1 ص 350، وأوردها المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 264. (*)
[ 546 ]
* (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرا زقين (114) قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لاأعذبه أحدا من العلمين) * (115) ثم سأل عيسى (عليه السلام) وأجيب إلى ذلك ليلزموا الحجة ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا * (اللهم) * أصله يا الله (1) * (ربنا) * نداء ثان * (تكون لنا عيدا) * أي: يكون يوم نزولها عيدا وهو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيدا (2)، وقيل: العيد: السرور العائد ولذلك يقال: يوم عيد، أي: تكون لنا سرورا وفرحا (3) * (لاولنا وءاخرنا) * بدل من * (لنا) * بتكرير العامل، أي: لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، وقيل: معناه: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم (4)، وقيل: للمتقدمين منا والأتباع (5) * (وءاية منك) * أي: ودلالة منك عظيمة الشأن تدل على توحيدك وصحة نبوة نبيك * (فمن يكفر بعد منكم) * أي: بعد إنزالها (6) عليكم * (فإنى أعذبه عذابا) * أي: تعذيبا * (لاأعذبه) * الضمير للمصدر، ولو أريد مايعذب به لم يكن (7) بد من الباء. سورة المائدة / 115 و 116 وروي: أن عيسى (عليه السلام) لبس صوفا وقال: اللهم أنزل علينا مائدة، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها، فبكى عيسى (عليه السلام) وقال: اللهم اجعلني من (1) تقدم تفصيله في آل عمران: 26 في ص 229 فراجع. (2) وهو قول السدي وقتادة وابن جريج والجبائي. راجع التبيان: ج 4 ص 61. (3) قاله البغوي في تفسيره: ج 2 ص 78. (4) وهو قول ابن عباس. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 84، والبغوي: ج 2 ص 78. (5) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 693. (6) في نسخة: إنزال المائدة. (7) في نسخة زيادة: له. (*)
[ 547 ]
الشاكرين، وكشف المنديل وقال: باسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولاشوك وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان (1) البقول ما عدا الكراث (2)، وقيل: نزلت الملائكة بها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم (3)، وعن الحسن: أن المائدة ما نزلت، ولو نزلت لكان عيدا إلى يوم القيامة لقوله: * (وءاخرنا) * (4). * (وإذ قال الله يعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحنك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم مافى نفسي ولا أعلم مافى نفسك إنك أنت علم الغيوب (116) ما قلت لهم إلا مآأمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) * (118) المعنى: * (إذ) * يقول * (الله) * يوم القيامة: * (يعيسى) * وهو استفهام يراد به التقريع لمن ادعى ذلك عليه من النصارى، واستعظام لذلك القول * (قال سبحنك) * من أن يكون لك شريك * (ما يكون لى) * ما ينبغي لي * (أن أقول) * قولا لا يحق لي أن أقوله وأنا عبد مثلهم، وإنما تحق العبادة لك وحدك * (تعلم مافى نفسي) * أي: في قلبي، والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وإنما قال: * (في نفسك) * (1) في نسخة: أنواع. (2) رواها البغوي في تفسيره: ج 2 ص 79 عن سلمان الفارسي. (3) وهو قول ابن عباس على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 369. (4) راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 348، وحكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 5 ص 135، والزمخشري في كشافه: ج 1 ص 694. (*)
[ 548 ]
سلوكا بالكلام طريق المشاكلة * (إنك أنت علم الغيوب) * تقرير للجملتين معا، لأن ماانطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولا ينتهي علم أحد إلى ما يعلمه سبحانه * (أن اعبدوا الله) * هي " أن " المفسرة، ومعناه: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به * (وكنت عليهم شهيدا) * أي: رقيبا كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويعتقدوه * (فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم) * تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة، وأرسلت إليهم من الرسل * (إن تعذبهم فإنهم عبادك) * الذين عرفتهم عاصين مكذبين لرسلك منكرين بيناتك * (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز) * القادر على العقاب والثواب * (الحكيم) * الذي لا يفعلهما إلا عن حكمة وصواب، والمعنى: إن غفرت لهم مع كفرهم فالمغفرة حسنة في العقل لكل مجرم، وكلما كان الجرم أعظم فالعفو عنه أحسن. * (قال الله هذا يوم ينفع الصدقين صدقهم لهم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذا لك الفوز العظيم (119) لله ملك السموا ت والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير) * (120) سورة المائدة / 120 قرئ: * (هذا يوم) * بالرفع والإضافة، وبالنصب (1): إما على أنه ظرف ل * (قال) * وإما على أن * (هذا) * مبتدأ والظرف خبر، والمعنى: * (هذا) * أي: الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم * (ينفع) *، ولايجوز أن يكون فتحا كقوله تعالى: * (يوم لا تملك) * (2) لأنه مضاف إلى متمكن (3)، والمعنى: * (ينفع الصدقين) * (1) وهي قراءة نافع. راجع التبيان: ج 4 ص 72، وتفسير البغوي: ج 2 ص 82، والتذكرة لابن غلبون: ج 2 ص 364. (2) الانفطار: 19. (3) راجع تفصيل ذلك في اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 53. (*)
[ 549 ]
ماصدقوا فيه في دار التكليف، وقيل: تصديقهم لأنبياء الله وكتبه (1)، وقيل: صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ (2). * (لله ملك السموا ت والارض) * نزه سبحانه نفسه عن قول النصارى، وإنما قال: * (وما فيهن) * ولم يقل: " ومن فيهن " تغليبا للعقلاء، لأن " ما " يتناول الأجناس كلها تناولا عاما، فلو أبصرت شخصا من بعيد قلت: " ما هو ؟ " قبل أن تعرف أمن العقلاء هو أو من غيرهم، فكان لفظة " ما " بإرادة العموم أولى. (1) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 90. (2) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 90، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 6 ص 379، وأبو حيان في بحره: ج 4 ص 64. (*)
[ 550 ]
سورة الأنعام مكية غير ست آيات، وهي مائة وخمس وستون آية كوفي، ست بصري، * (لست عليكم بوكيل) * (1) كوفي، * (كن فيكون) * (2) و * (إلى صرا ط مستقيم) * (3) غيرهم. وفي حديث أبي: " أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل (4) بالتسبيح والتحميد، فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة " (5). وروى الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) مثل ذلك إلا أنه قال: " سبحوا له إلى يوم القيامة " (6). (1) الآية: 66. (2) الآية: 73. (3) الآية: 161. (4) قال ابن الأثير: وفي حديث الملائكة: " لهم زجل بالتسبيح " أي: صوت رفيع عال. راجع النهاية: مادة (زجل). (5) المعجم الصغير للطبراني: ج 1 ص 81، الكشاف: ج 2 ص 85، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 271، وانظر نهاية ابن الأثير: مادة (زجل). (6) تفسير القمي: ج 1 ص 193. (*)
[ 551 ]
بسم الله الرحمن الرحيم * (الحمد لله الذى خلق السموا ت والارض وجعل الظلمت والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) * (2) * (وجعل الظلمت والنور) * أي: أنشأهما وأحدثهما، والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التصيير (1) كإنشاء شئ من شئ أو تصيير شئ شيئا أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك: * (وجعل منها زوجها) * (2) * (وجعل الظلمت والنور) * * (وخلقنكم أزوا جا) * (3)، والمعنى: أنه * (خلق السموا ت والارض) * ومااشتملا عليه من أجناس المخلوقات، وأنشأ الليل والنهار ومالايقدر عليه سواه * (ثم) * إنهم * (يعدلون) * به مالا يقدر على شئ منه، وهذا استبعاد لفعلهم، وكذلك * (ثم أنتم تمترون) * استبعاد لأن يمتروا فيه بعد أن ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم، وقوله: * (ثم قضى أجلا) * معناه: كتب وقدر أجلا، يعني: أجل الموت * (وأجل مسمى عنده) * أجل القيامة، وقيل: الأجل الأول (1) في نسخة: التضمين، وكذا في الكشاف والبيضاوي. (2) الأعراف: 189. (3) النبأ: 8. وفي جميع النسخ " جعلناكم " بدل " خلقناكم " وهو من سهو النساخ. (*)
[ 552 ]
مابين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني مابين الموت والبعث (1). * (وهو الله في السموا ت وفى الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ماتكسبون (3) وما تأتيهم من ءاية من ءايت ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون) * (5) سورة الأنعام / 4 - 6 * (في السموا ت) * متعلق بمعنى اسم الله، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما، ومثله قوله: * (وهو الذى في السماء إله وفى الارض إله) * (2) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، وعلى هذا فقوله: * (يعلم سركم وجهركم) * تقرير له، لأن من استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده (3)، ويجوز أن يكون * (هو) * ضمير الشأن و * (الله... يعلم سركم وجهركم) * مبتدأ وخبرا و * (في السموا ت) * يتعلق ب * (يعلم) * (4)، ويجوز أن يكون * (في السموا ت) * خبرا بعد خبر على معنى أنه الله، وأنه في السماوات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه شئ منه، فكأن ذاته فيهما، و * (يعلم سركم وجهركم) *، خبر ثالث أو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم * (ويعلم ماتكسبون) * من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب، و * (من) * في قوله: * (من ءاية) * للاستغراق، و * (من) * في * (من ءايت ربهم) * للتبعيض، أي: وما يظهر لهم دليل من الدلائل التي يجب فيها (1) قاله ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة على ما حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 93، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 84. (2) الزخرف: 84. (3) وعليه المشهور من النحاة والمفسرين. راجع معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 228، واعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 56، وانظر التبيان: ج 4 ص 78. (4) ذهب إليه أبو علي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 79. (*)
[ 553 ]
النظر وبها يحصل الاعتبار * (إلا كانوا) * عنه (1) * (معرضين) * لا يلتفتون إليه ولا يستدلون به * (فقد كذبوا بالحق) * الذي أتاهم به محمد (صلى الله عليه وآله) وهو القرآن الذي تحدوا به فعجزوا عنه * (فسوف يأتيهم) * أخبار الشئ الذي استهزأوا به وهو القرآن، أي: سيعلمون بأي شئ استهزأوا في الآخرة أو في الدنيا. * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنهم في الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهر تجرى من تحتهم فأهلكنهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين) * (6) مكن له في الأرض: جعل له مكانا، ومكنه في الأرض: أثبته فيها، ومنه قوله تعالى: * (ولقد مكنهم فيما إن مكنكم فيه) * (2)، ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله: * (مكنهم في الارض ما لم نمكن لكم) * والمعنى: * (ألم) * ير كفار قريش * (كم أهلكنا من) * أمة، وكل أمة مقترنة في وقت قرن، أعطيناهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال ما لم نعطكم، عدل عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات * (وأرسلنا السماء) * يعني: المطر هنا * (عليهم مدرارا) * مغزارا، والمراد به: الغيث والبركة * (وأنشأنا) * وخلقنا من بعد هلاكهم أمة أخرى، وفيه دلالة على أنه سبحانه لا يتعاظمه أن يفني عالما وينشئ عالما آخر كقوله: * (ولا يخاف عقبها) * (3). * (ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) وقالوا لولاأنزل عليه ملك ولو أنزلنا (1) في نسخة: عنها. (2) الأحقاف: 26. (3) الشمس: 15. (*)
[ 554 ]
ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) * (10) * (كتبا) * أي: مكتوبا * (في قرطاس) * في صحيفة * (فلمسوه بأيديهم) * ولم يقتصر بهم على الرؤية والمعاينة لئلا يقولوا: * (سكرت أبصرنا) * (1)، لقالوا: * (إن هذا إلا سحر) * لعظم عنادهم وقسوة قلوبهم * (لولاأنزل) * أي: هلا أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) * (ملك) * نشاهده فنصدقه * (ولو أنزلنا ملكا) * على ما اقترحوا * (لقضى الامر) * أي: لقضي أمر (2) إهلاكهم * (ثم لا ينظرون) * بعد نزوله طرفة عين، لأنهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية التي لا شئ أبين منها فتقتضي الحكمة استئصالهم * (ولوجعلنه ملكا) * أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوه * (لجعلنه رجلا) * لأرسلناه في صورة رجل كما كان ينزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أعم الأحوال في صورة دحية الكلبي (3) * (وللبسنا) * ولخلطنا * (عليهم ما) * يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة سورة الأنعام / 10 - 12 رجل: هذا إنسان وليس بملك، وكذبوه كما كذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله)، فإذا فعلوا ذلك (1) الحجر: 15. (2) في معنى " قضي " وضروبها راجع معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 230 تجد تفصيل ذلك. (3) وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، شهد احدا وما بعدها، كان يضرب به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل (عليه السلام) يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) في صورته أحيانا، بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى قيصر رسولا سنة ست في الهدنة فآمن به قيصر وامتنع عليه بطارقته، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك فقال: ثبت الله ملكه. سكن المزة وعاش الى خلافة معاوية. توفي سنة 45 ه. (اسد الغابة: ج 2 ص 130، طبقات ابن سعد: ج 4 ص 184، الاعلام للزركلي: ج 2 ص 337). (*)
[ 555 ]
خذلوا كما أنهم مخذولون اليوم، فهذا لبس الله عليهم * (ولقد استهزئ) * تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله) عما كان يلقاه من قومه " فحاق بهم " فأحاط بهم الشئ الذي * (كانوا... يستهزءون) * به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به، وقيل: فأحاط بهم العذاب الذي يسخرون من وقوعه (1). * (قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عقبة المكذبين (11) قل لمن مافى السموا ت والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيمة لاريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) وله ما سكن في اليل والنهار وهو السميع العليم) * (13) * (سيروا في الارض) * سافروا فيها * (ثم انظروا) * (2) بأبصاركم وتفكروا بقلوبكم * (كيف كان عقبة المكذبين) * المستهزئين بالرسل من الأمم السالفة * (لمن مافى السموا ت والارض) * سؤال تبكيت، و * (قل لله) * تقرير لهم، أي: هو لله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره * (كتب على نفسه الرحمة) * أي: أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ونصب الأدلة (1) قاله السدي على ما حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 5 ص 154، ونسبه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 86 الى الضحاك. (2) قال الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 8 ما لفظه: فإن قلت: أي فرق بين قوله: * (فانظروا) * وبين قوله: * (ثم انظروا) * ؟ قلت: جعل النظر مسببا عن السير في قوله: * (فانظروا) * فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله: * (سيروا في الارض ثم انظروا) * فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك ب * (ثم) * لتباعد مابين الواجب والمباح، انتهى. قال المحشي: وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحدا، ليكون ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت * (ثم) * فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير، وأن السير وسيلة إليه لاغير، وشتان بين المقصود والوسيلة. (*)
[ 556 ]
لكم على توحيده بما أنتم تعترفون به من خلق السماوات والأرض، وقيل: أوجب الرحمة على نفسه في إمهال عباده ليتداركوا ما فرط منهم ويتوبوا (1)، وقيل: كتب الرحمة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله) بأن لا يعذبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال بل يؤخرهم إلى يوم القيامة (2)، ثم فسر الرحمة بقوله: * (ليجمعنكم إلى يوم القيمة) * على ما ذكرنا أن المراد به إمهال العاصي ليتوب أو تأخير عذابهم، وقيل: إنه وعيد على كفرهم وتركهم النظر، ومعناه: ليجمعن آخركم إلى أولكم قرنا بعد قرن * (إلى يوم القيمة) * فيجازيكم على شرككم (3) * (الذين خسروا أنفسهم) * قيل: هو بدل من سورة الأنعام / 14 - 16 الكاف والميم في * (ليجمعنكم) * وعلى هذا فلا يجوز الوقف على * (لاريب فيه) * (4). والصواب: الوقف والابتداء ب * (الذين خسروا) * وخبره * (فهم لا يؤمنون) * (5) والمعنى: الذين خسروا أنفسهم لاختيارهم الكفر فهم لا يصدقون بالحق (6)، * (وله) * عطف على * (لله) *، * (ما سكن) * وتمكن * (في اليل والنهار) * ذكر في الأول السماوات والأرض وذكر هنا الليل والنهار، فالأول يجمع المكان والثاني يجمع الزمان، وهما ظرفان لجميع الموجودات من الأجسام والأعراض. (1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 232، وعنه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 395. (2) وهو قول ابن عباس. راجع تفسيره: ص 106. (3) قاله الزجاج في معانيه: ج 2 ص 232، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 97، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 9. (4) قاله الأخفش وفقا لمذهبه الجواز في الابدال من ضمير الحاضر. راجع معاني القرآن: ج 2 ص 482، وحكاه عنه الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 232، والنحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 58، والشيخ في التبيان: ج 4 ص 86. (5) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 232. (6) قال الهمداني: ويجوز عندي وجه آخر وهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين خسروا أنفسهم. وهو أحسن من الوجه الأول - وهو مختار الزجاج - لأن في الوجه الأول تأخير السبب وتقديم المسبب فاعرفه. راجع الفريد في اعراب القرآن: ج 2 ص 126. (*)
[ 557 ]
والمراد بالسكون هنا الحلول والسكنى. * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموا ت والارض وهو يطعم ولايطعم قل إنى أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14) قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذا لك الفوز المبين) * (16) الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الولي، فلذلك أولاه همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو * (أتخذ) * ونحوه: * (أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجهلون) * (1)، * (فاطر السموا ت والارض) * أي: منشئهما وخالقهما من غير احتذاء على مثال * (وهو يطعم ولايطعم) * أي: وهو يرزق ولا يرزق، والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولايجوز عليه الانتفاع * (قل إنى أمرت) * أي: أمرني ربي * (أن أكون أول من أسلم) * لأن النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله: * (وأنا أول المسلمين) * (2)، * (ولا تكونن) * أي: وقيل لي: * (ولا تكونن من المشركين) * أي: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك * (من يصرف عنه) * العذاب * (يومئذ فقد رحمه) * الله الرحمة العظمى وهي النجاة، كما تقول: من أطعمته من جوع فقد أحسنت إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، أو فقد أثابه وأدخله الجنة، لأن من لم يعذب فلابد أن يثاب. وقرئ: " من يصرف عنه " على البناء للفاعل (3)، والمعنى: من يصرف الله عنه في ذلك اليوم أي: من يدفع الله عنه ويحفظه، وترك ذكر المصروف وهو العذاب، لكونه معلوما أو مذكورا قبله. (1) الزمر: 64. (2) الأنعام: 163. (3) قرأها حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 254، وحكاها الشيخ في التبيان: ج 4 ص 90 ونسبها إلى أهل الكوفة سوى حفص ويعقوب. (*)
[ 558 ]
* (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير (17) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18) قل أي شئ أكبر شهدة قل الله شهيد بينى وبينكم وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لاأشهد قل إنما هو إله وا حد وإنني برئ مما تشركون (19) الذين ءاتينهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * (20) * (وإن يمسسك الله بضر) * من مرض أو فقر أو مكروه * (فلا) * قادر على كشفه * (إلا هو وإن يمسسك بخير) * من صحة أو غنى * (فهو على كل شئ قدير) * يقدر على إدامته وإزالته * (وهو القاهر فوق عباده) * هذا تصوير للقهر والعلو بالغلبة والقدرة، كقوله: * (وإنا فوقهم قهرون) * (1) يريد أنهم تحت تسخيره وتذليله، و * (الخبير) * العالم بكل ما يصح أن يخبر به، والشئ أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه * (قل أي شئ) * أعظم * (شهدة) * وأصدق * (قل الله شهيد بينى وبينكم) * يشهد لي بالنبوة وتبليغ الرسالة إليكم وتكذيبكم إياي * (وأوحى إلى هذا القرءان) * حجة ودلالة على صدقي * (لانذركم به) * لأخوفكم به من عذاب الله * (ومن بلغ) * أي: ولأنذر به من بلغه إلى يوم القيامة. سورة الأنعام / 19 - 23 وروي عنهم (عليهم السلام) أن المعنى: ومن بلغ أن يكون إماما من آل محمد (صلى الله عليه وآله) فهو ينذر - أيضا - بالقرآن (2). (1) الأعراف: 127. (2) تفسير العياشي: ج 1 ص 356 ح 13 وفيه: عن أبي جعفر (عليه السلام)، وعنه البرهان: ج 1 ص 520 ح 3. (*)
[ 559 ]
* (أئنكم لتشهدون) * استفهام إنكاري، أي: كيف تشهدون * (أن مع الله ءالهة أخرى) * بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى * (قل لاأشهد) * بإثبات الشريك له * (قل إنما هو إله وا حد وإنني برئ مما تشركون) * به من الأوثان وغيرها، وهذه شهادة بالوحدانية وبراءة من كل دين يؤدي إلى الشرك. * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بايته إنه لا يفلح الظلمون (21) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ماكنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * (24) وقرئ: " ويوم يحشرهم ثم يقول " بالياء (1) أي: يحشرهم الله * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) * أنها تنفعكم، وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها لأنفسهم * (ثم لم تكن فتنتهم) * أي: كفرهم، أي: لم تكن عاقبة كفرهم وشركهم إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء (2) منه، وقيل: معناه: لم تكن معذرتهم حين وبخوا بشركهم، أو لم يكن جوابهم حين سئلوا واختبر ما عندهم بالسؤال إلا هذا القول (3). وقرئ: " لم تكن " بالتاء و " فتنتهم " بالنصب (4)، وإنما أنث * (أن قالوا) * لوقوع الخبر مؤنثا كقولهم: " من كانت أمك "، وقرئ بالياء ونصب (1) وهي قراءة يعقوب. راجع التبيان: ج 4 ص 97، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 395. (2) في نسخة: الانتقام. (3) قاله قتادة على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 102. (4) قرأه نافع وأبو عمرو وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 254. (*)
[ 560 ]
" الفتنة " (1)، وقرئ بالتاء والياء ورفع " الفتنة " (2)، وقرئ: " ربنا " بالنصب (3) على الدعاء والنداء * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * أي: يفترون إلهيته وشفاعته، وإنما يصح وقوع الكذب منهم مع اطلاعهم على حقائق الأمور ومعارفهم الضرورية لما يلحقهم من الدهش والحيرة من أهوال ذلك اليوم وشدائده، والمبتلى قد ينطق بما لا ينفعه من غير روية وفكر في عاقبته. سورة الأنعام / 25 و 26 * (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجدلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أسطير الاولين (25) وهم ينهون عنه وينون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) * (26) روي أنه اجتمع الوليد بن المغيرة (4) وأبو جهل وأبو سفيان والنضر (5) (1) وهي قراءة حمزة والكسائي على ما حكاه ابن مجاهد في السبعة في القراءات: ص 254، وابن غلبون في التذكرة في القراءات: ج 2 ص 395. (2) حكاها ابن غلبون في تذكرته: ج 2 ص 395 ونسبها الى المفضل عن عاصم وحمزة والكسائي. (3) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 97، وابن مجاهد في السبعة في القراءات: ص 255، وابن غلبون في التذكرة في القراءات: ج 2 ص 396، وفي لفظ الطبري: ج 5 ص 166: " عامة أهل الكوفة ". (4) هو الوليد بن المغيرة بن مخزوم، والد خالد بن الوليد، وكان أحد المستهزئين ومن أشدهم عداوة وأذى على النبي (صلى الله عليه وآله) ودعوته المباركة، مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر ودفن بالحجون. (الاعلام للزركلي: ج 8 ص 122). (5) هو النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبدالدار، صاحب لواء المشركين ببدر، وهو ابن خالة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن أشد المشركين أذى عليه، فكان إذا جلس النبي (صلى الله عليه وآله) مجلسا للتذكير بالله والتحذير مما أصاب الامم الخالية، جلس النضر بعده يحدثهم بأخبار الملوك ونعمهم وموائدهم ويقول: أنا أحسن حديثا منه، اسر يوم بدر وقتل كافرا. (الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 555، الاعلام للزركلي: ج 8 ص 33). (*)
[ 561 ]
وعتبة (1) وشيبة (2) وأضرابهم (3) يستمعون تلاوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ فقال: والذي جعلها بيته - يعني الكعبة - ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم، وقال أبو سفيان: إني لاأراه حقا، فقال أبو جهل: كلا، فنزلت (4). والأكنة على القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبو (5) قلوبهم وأسماعهم عن قبوله، وأسند الفعل إلى نفسه في قوله: * (وجعلنا) * ليدل على أنه أمر ثابت مستقر فيهم كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: * (وفى ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * (6)، و * (يجدلونك) * في موضع الحال، و * (يقول الذين كفروا) * تفسير لجدالهم، والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم بالآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ويجعلون كلام الله الذي هو أصدق الحديث أكاذيب وخرافات، وهي الغاية في التكذيب * (وهم ينهون) * الناس عن القرآن وعن الرسول واتباعه، ويثبطونهم عن التصديق به * (وينون عنه) * بأنفسهم فيضلون (1) هو عتبة بن أبي سفيان، ولد على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولاه عمر بن الخطاب الطائف، شهد مع عثمان يوم الدار، وشهد حرب الجمل مع عائشة وفقئت عينه بها، ولي إمارة مصر من قبل أخيه معاوية لما مات عمرو بن العاص سنة 43 ه، ثم خرج الى الاسكندرية مرابطا، فابتنى دارا في حصنها القديم، مات بمصر سنة 44 ه. (اسد الغابة: ج 3 ص 360، السيرة الحلبية: ج 2 ص 138). (2) هو شيبة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس، خال معاوية بن أبي سفيان، من زعماء قريش في الجاهلية، أدرك الاسلام وقتل على الوثنية يوم بدر، وهو أحد الذين نزلت فيهم الآية: * (كمآ أنزلنا على المقتسمين) *. (اسد الغابة: ج 3 ص 7، الاعلام للزركلي: ج 3 ص 181). (3) في نسخة: أحزابهم. (4) راجع أسباب النزول للواحدي: ص 176، والكشاف: ج 2 ص 13. (5) النبو بتشديد الواو وتخفيفها: الكل والإعياء. (القاموس المحيط: مادة نبو). (6) فصلت: 5. (*)
[ 562 ]
ويضلون * (و) * ما * (يهلكون إلا أنفسهم) * ولا يتعدى ضررهم إلى غيرهم وإن ظنوا أنهم يضرون رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1). * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يليتنا نرد ولانكذب بايت ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون) * (28) سورة الأنعام / 28 - 30 جواب * (لو ترى) * محذوف، والتقدير: لرأيت أمرا فظيعا (2)، والمعنى: ولو ترى إذ أطلعوا على النار حتى يعاينوها، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها، من قولك: وقفته على كذا: إذا عرفته وفهمته (3) * (فقالوا يليتنا نرد) * تم هنا تمنيهم، ثم ابتدأوا * (ولانكذب) * أي: ونحن لانكذب * (بايت ربنا) * ونؤمن، ويجوز أن يكون معطوفا على * (نرد) * أو حالا على معنى: يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني (4). وقرئ: * (ولانكذب) * و * (نكون) * بالنصب بإضمار " أن " على جواب التمني، ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من (1) قال الشيخ (قدس سره): وفي الآية - الأخيرة - دلالة على بطلان قول من قال: معرفة الله ضرورة وأن من لايعرف الله ولا يعرف نبيه لاحجة عليه، لأن الله بين أن هؤلاء الكفار قد أهلكوا أنفسهم بنهيهم عن قبول القرآن وتباعدهم عنه وأنهم لا يشعرون ولا يعلمون بإهلاكهم أنفسهم بذلك، فلو كان من لايعرف الله ولانبيه ولادينه لاحجة عليه لكانوا هؤلاء معذورين ولم يكونوا هالكين، وذلك خلاف ما نطق به القرآن. (التبيان: ج 4 ص 107). (2) راجع تفصيله في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 136. (3) قال الزجاج: ومعنى " وقفوا " على النار يحتمل ثلاثة أوجه: جائز أن يكونوا عاينوها، وجائز أن يكونوا عليها وهي تحتهم، والأجود أن يكون معناها: دخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما تقول في الكلام: قد وقفت على ما عند فلان، تريد قد فهمته وتبينته. (معاني القرآن: ج 2 ص 239). (4) وهو اختيار البلخي والجبائي والزجاج على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 108، راجع معاني القرآن: ج 2 ص 239. (*)
[ 563 ]
المؤمنين * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون) * من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرا لا أنهم عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا * (ولو ردوا) * إلى الدنيا * (لعادوا لما نهوا عنه) * من الكفر * (وإنهم لكذبون) * فيما وعدوا من أنفسهم لايفون به. * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * (30) * (وقالوا) * عطف على قوله: * (لعادوا) * أي: ولو ردوا لكفروا وقالوا: ما * (هي إلا حياتنا الدنيا) * كما كانوا يقولونه قبل معاينة القيامة، أو عطف على قوله: * (وإنهم لكذبون) * أي: وهم كاذبون في كل شئ، وهم الذين قالوا ذلك * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) * للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه (1)، وقيل: وقفوا على جزاء ربهم (2)، وقيل: عرفوه حق التعريف (3) كما يقال: وقفته على كلام فلان، أي: عرفته إياه * (قال أليس هذا بالحق) * هذا تعيير من الله لهم على تكذيبهم بالبعث * (بما كنتم تكفرون) * أي: بكفركم. * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) وما الحيوة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) * (32) (1) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 16. (2) قاله السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 480. (3) أجازه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 4 ص 114. (*)
[ 564 ]
* (كذبوا بلقاء الله) * ببلوغ الآخرة وما يتصل بها من الجزاء، و * (حتى) * غاية ل * (كذبوا) * أي: دام تكذيبهم إلى حسرتهم وقت مجئ الساعة * (بغتة) * أي: فجأة، وانتصابها على الحال (1) بمعنى: باغتة، وعلى المصدر (2) بمعنى: بغتتهم بغتة * (فرطنا فيها) * الضمير للحياة الدنيا وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها، أو للساعة على معنى: قصرنا في شأنها، نحو قوله: * (فرطت في جنب الله) * (3)، * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * هو مثل قوله: * (فبما كسبت أيديكم) * (4) لأن الأثقال تحمل على الظهور في العادة كما أن الكسب يكون بالأيدي * (ساء ما يزرون) * أي: بئس شيئا يزرون وزرهم، حذف المخصوص بالذم، وجعل سبحانه أعمال الدنيا لعبا ولهوا، لأنها لا تجدي (5) ولاتعقب نفعا كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، وقرئ: " ولدار الاخرة " (6) وتقديره: ولدار الساعة الآخرة، لأن الشئ لا يضاف إلى نفسه، وقوله: * (للذين يتقون) * دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو. سورة الأنعام / 33 و 34 * (قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظلمين بايت الله يجحدون (33) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتبهم نصرنا ولا مبدل لكلمت الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين) * (34) (1) واختاره النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 62 - 63. (2) وهو اختيار سيبويه على ما حكاه عنه النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 63. (3) الزمر: 56. (4) الشورى: 30. (5) في نسخة زيادة: شيئا. (6) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 116، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 397. (*)
[ 565 ]
* (قد) * هاهنا بمنزلة " ربما " الذي يجئ لزيادة الفعل وكثرته، والهاء في * (إنه) * ضمير الشأن (1)، و * (ليحزنك) * قرئ بفتح الياء وضم الزاي (2)، وبضم الياء وكسر الزاي (3)، و * (الذى يقولون) * هو قولهم: * (لشاعر مجنون) * (4) و * (سحر كذاب) * (5)، * (فإنهم لا يكذبونك) * قرئ بالتشديد والتخفيف (6)، من كذبه: إذا جعله كاذبا، وأكذبه: إذا وجده كاذبا، والمعنى: أنهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات، فتكذيبك راجع إليه وإلى جحود آياته، وهذا تسلية له (عليه السلام)، وقيل: معناه: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم (7) كقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (8)، * (ولكن الظلمين) * أقام الظاهر مقام الضمير (9) ليدل على أنهم ظلموا في جحودهم * (بايت الله) *، وعن علي (عليه السلام) أنه قرئ عنده: * (لا يكذبونك) * فقال: " بلى والله فقد كذبوه، ولكن لا يكذبونك: لا يأتون بحق أحق من حقك " (10)، * (ولقد (1) انظر الكشاف: ج 2 ص 17 - 18. (2) وهي قراءة ابن كثير وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 257. (3) قرأه نافع وحده. راجع التبيان: ج 4 ص 119، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 257. (4) الصافات: 36. (5) ص: 4. (6) وهي قراءة نافع والكسائي والأعشى إلا النفار، وهو المروي عن علي (عليه السلام) وعن أبي عبد الله (عليه السلام). راجع التبيان: ج 4 ص 119، ومعاني القرآن للفراء: ج 1 ص 331. (7) قاله الكلبي على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 107. (8) النمل: 14. (9) في بعض النسخ: المضمر. (10) رواها الكليني في الكافي: ج 8 ص 200 ح 241، والعياشي في تفسيره: ج 1 ص 359 ح 20، والبحراني في البرهان: ج 1 ص 523 ح 3، والفيض الكاشاني في الصافي: ج 1 ص 513 بلفظ: " لا يأتونك بباطل يكذبون به حقك "، وفي تفسير القمي: ج 1 ص 196 عن الصادق (عليه السلام) بلفظ: " لا يأتون بحق يبطلون حقك ". (*)
[ 566 ]
كذبت) * تسلية أيضا * (فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) * أي: على تكذيبهم وإيذائهم * (حتى) * جاءهم * (نصرنا) * إياهم على المكذبين * (ولا مبدل لكلمت الله) * أي: لمواعيده من قوله: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) * (1)، * (ولقد جاءك من نبإى المرسلين) * أي: بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا (2) من قومهم. * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الارض أو سلما في السماء فتأتيهم باية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجهلين (35) إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36) وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية ولكن أكثرهم لا يعلمون) * (37) سورة الأنعام / 35 - 38 كان يعظم على النبي (صلى الله عليه وآله) إعراض قومه عن الإيمان (3) وقبول دينه فنزلت (4)، ونحوه: * (فلعلك بخع نفسك) * (5)، * (فإن استطعت) * أي: إن قدرت وتهيأ لك * (أن) * تطلب * (نفقا في الارض) * أي: سربا ومنفذا تنفذ فيه إلى ما تحتها حتى تطلع لهم آية يؤمنون عندها * (أو سلما في السماء فتأتيهم) * منها * (باية) * فافعل، أي: إنك لا تستطيع ذلك، وحذف جواب " إن " (6)، وقيل: فتأتيهم بآية أفضل مما آتيناهم به يريد أنه لا آية أفضل منه (7) * (ولو شآء الله لجمعهم على (1) الصافات: 171 و 172. (2) كابده: أي قاساه. (القاموس المحيط: مادة كبد). (3) في نسخة زيادة: به. (4) انظر الكشاف: ج 2 ص 19. (5) الكهف: 6. (6) انظر الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 143. (7) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 108، وعنه الطبري في تفسيره: ج 5 ص 183 ح 13204. (*)
[ 567 ]
الهدى) * بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة * (فلا تكونن من) * الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه * (إنما يستجيب الذين يسمعون) *، * (و) * الذين تحرص على إيمانهم بمنزلة * (الموتى) * الذين لا يسمعون، ثم وصف * (الموتى) * بأنه * (يبعثهم) * من القبور يوم القيامة ويحكم فيهم * (ثم إليه يرجعون) * فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلاسبيل إلى إسماعهم * (وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه) * تركوا الاعتداد بما نزل عليه من آيات الله والمعجزات مع كثرتها، كأنه لم ينزل عليه شئ من الآيات عنادا منهم * (قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية) * تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * أنه سبحانه يقدر عليه، وأن صارفا من الحكمة يصرف (1) عنه. * (وما من دابة في الارض ولا طئر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون (38) والذين كذبوا بايتنا صم وبكم في الظلمت من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صرا ط مستقيم) * (39) جمع بهذين القولين جميع الحيوانات، لأنها لا تخلو من (2) أن تكون مما يدب على الأرض أو مما يطير * (إلا أمم أمثالكم) * مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم (3)، وقيل: أشباهكم في أن الله أبدعها، وفي دلالتها على وحدانيته (4)، وفي أنهم يموتون ويحشرون (5) (1) في نسخة: يصرفه. (2) في نسخة: " إما " بدل " من ". (3) وهو اختيار النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 65، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 21. (4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 109، وحكاه القرطبي في تفسيره: ج 6 ص 420 عن سفيان بن عيينة. (5) = (*)
[ 568 ]
* (ما فرطنا) * ما تركنا * (في الكتب) * أي: في اللوح المحفوظ * (من شئ) * من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب إثباته مما يختص به، وقيل: المراد بالكتاب القرآن لأنه تعالى ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا إما مجملا وإما مفصلا (1) * (ثم إلى ربهم يحشرون) * (2) يعني الأمم كلها فيعوضها وينتصف لبعضها من بعض، وفيه دلالة على عظم قدرته ولطف تدبيره في الخلائق المختلفة الأجناس وحفظه لما لها وعليها، وأن المكلفين لم يختصوا بذلك دون من سواهم. ولما ذكر من خلائقه ما يشهد لربوبيته قال: * (والذين كذبوا بايتنا صم) * أي: صم لا يسمعون كلام المنبه * (وبكم) * لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك * (من يشإ الله يضلله) * أي: يخذله ولايلطف به، لأنه ليس من أهله * (ومن يشأ يجعله على صرا ط مستقيم) * أي: يلطف به لأنه من أهله. سورة الأنعام / 40 - 42 * (قل أرءيتكم إن أتبكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون = (5) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 245، ونسبه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 112 إلى قول الجمهور. (1) وهو قول النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 66، واختاره الجبائي كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 129. (2) قال شيخ الطائفة (قدس سره): واستدل قوم من التناسخية بهذه الآية على أن البهائم والطيور مكلفة لأنه قال: * (امم أمثالكم) *، وهذا باطل، لأنا قد بينا من أي وجه قال: إنها * (أمم أمثالكم) *، ولو وجب حملها على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها ناسا وفي مثل صورنا واخلاقنا. فمتى قالوا: لم يقل أمثالنا في كل شئ، قلنا: وكذلك الامتحان والتكليف، على أنهم مقرون بأن الأطفال غير مكلفين ولا ممتحنين فما يحملون به امتحان الصبيان بعينه نحمل بمثله امتحان البهائم، وكيف يصح تكليف البهائم والطيور وهي غير عاقلة ؟ والتكليف لا يصح إلا لعاقل، على أن الصبيان أعقل من البهائم ومع هذا فليسوا مكلفين فكيف يصح تكليف البهائم ؟ ! (*)
[ 569 ]
إن كنتم صدقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون) * (41) * (أرءيتكم) * (1) معناه: أخبروني، و " كم " لامحل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيدا ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه، وذلك فاسد، والمعنى: أخبروني * (إن أتبكم عذاب الله) * في الدنيا * (أو أتتكم) * القيامة من تدعون ؟ ثم بكتهم بقوله: * (أغير الله تدعون) * أي: أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هي عادتكم إذا أصابكم ضر أم تخصون الله دونها ؟ * (بل إياه تدعون) * بل تخصون الله بالدعاء دون الآلهة * (فيكشف ما تدعون) * إلى كشفه * (إن شآء) * أن يتفضل عليكم بكشفه * (وتنسون ما تشركون) * أي: وتتركون آلهتكم ولا تذكرونها في ذلك الوقت. * (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذنهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطن ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوا ب كل شئ حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذنهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العلمين) * (45) " البأساء " من البأس أو البؤس، و " الضراء " من الضر، وقيل: البأساء: القحط والجوع، والضراء: المرض ونقصان الأنفس والأموال (2)، والمعنى: * (ولقد (1) راجع تفصيلات إعرابها في الفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 146 تجد ما يغنيك عن غيره. (2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 248 وحكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 484. (*)
[ 570 ]
أرسلنا) * إليهم الرسل فكذبوهم * (فأخذنهم) * بالبليات في أنفسهم وأموالهم لكي يتضرعوا ويخضعوا ويتذللوا ويتوبوا عن ذنوبهم * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) * معناه: نفي التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا، ولكنه جاء ب * (لولا) * ليدل على أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم * (فلما نسوا ما ذكروا به) * من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به * (فتحنا عليهم أبوا ب كل شئ) * من الصحة والتوسعة في الرزق وأصناف النعم (1) كما يفعل الوالد البار بولده العاق يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه * (حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا) * من الخير والنعم ولم يزيدوا إلا على البطر والأشر وماتصدوا لتوبة ولااعتذار * (أخذنهم بغتة) * أي: مفاجأة من حيث لا يشعرون * (فإذا هم مبلسون) * آيسون من النجاة والرحمة، وقيل: متحيرون منقطعو الحجة (2) * (فقطع دابر القوم) * أي: آخرهم لم يترك منهم أحد، واستؤصلت شأفتهم (3) بالعذاب فلم يبق لهم عقب ولانسل * (والحمد لله رب العلمين) * على إهلاك أعدائه وإعلاء كلمته، وهذا إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم. سورة الأنعام / 46 - 49 * (قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الايت ثم هم يصدفون (46) قل أرءيتكم إن أتبكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم (1) في نسخة زيادة: إليهم. (2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 335، وعنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 137. (3) أصل الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب أو إذا قطعت مات صاحبها، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو أزاله من أصله. (القاموس المحيط: مادة شأف). (*)
[ 571 ]
الظلمون (47) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون (48) والذين كذبوا بايتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) * (49) * (إن أخذ الله سمعكم وأبصركم) * بأن يصمكم ويعميكم * (وختم على قلوبكم) * بأن يغطي عليها ما يذهب عقلكم ويسلب تمييزكم * (من إله غير الله يأتيكم) * بما أخذ منكم وختم عليه، أو أراد يأتيكم بذاك، فوضع الهاء موضع اسم الإشارة * (انظر كيف نصرف الايت) * أي: نوجهها في الجهات التي نظهرها أتم الإظهار، مرة في جهة النعمة ومرة في جهة الشدة * (ثم هم يصدفون) * أي: يعرضون عنها بعد ظهورها، وإنما قابل البغتة بالجهرة لما في البغتة من معنى الخفية وهو وقوع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته (1)، وعن الحسن: ليلا أو نهارا (2) * (هل يهلك) * أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط * (إلا القوم الظلمون) * الذين ظلموا بكفرهم وفسادهم * (إلا مبشرين) * من آمن بهم وبما جاءوا به * (ومنذرين) * من عصاهم وكذبهم * (يمسهم العذاب) * جعل العذاب ماسا، كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام، ونحوه: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) * (3). * (قل لاأقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلامايوحى إلى قل هل يستوى الاعمى والبصير أفلا تتفكرون) * (50) (1) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 249. (2) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 140. (3) الفرقان: 12. (*)
[ 572 ]
أي: * (لا) * أدعي ملك * (خزائن) * رحمة * (الله ولا أعلم الغيب) * الذي يختص الله تعالى بعلمه، وإنما أعلم منه مايعلمني الله ويخصني به * (ولا أقول لكم إنى ملك) * لأني إنسان تعرفون نسبي، لاأقدر على ما يقدر عليه الملك * (إن أتبع إلامايوحى إلى) * أي: ماأنبئكم بما كان فيما مضى وما يكون فيما يستقبل إلا بالوحي * (قل هل يستوى الاعمى والبصير) * أي: الضال والمهتدي * (أفلا تتفكرون) * فلا تكونوا ضالين أشباه العميان وتنصفوا من أنفسكم. * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظلمين) * (52) سورة الأنعام / 52 * (وأنذر به) * الضمير يرجع إلى * (ما يوحى) *، و * (الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) * الذين يعترفون بالبعث والحشر (1). الصادق (عليه السلام): " أنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى ربهم، ترغبهم فيما عنده، فإن القرآن شافع مشفع " (2). * (ليس لهم من دونه) * أي: من دون الله * (ولى ولا شفيع) * فإن شفاعة الشافعين من الأنبياء والمؤمنين تكون بإذن الله تعالى فهي راجعة إليه سبحانه، على أن هذه الجملة في موضع الحال من * (يحشروا) * والمعنى: يخافون أن يحشروا غير منصورين ولامشفوعا لهم، ولابد من هذه الحال، لأن كل الناس محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال. (1) في نسخة: النشر. (2) أوردها المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 304. (*)
[ 573 ]
ثم ذكر سبحانه المتقين وأمر بتقديمهم وتقريبهم، فقال: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * يعبدونه * (بالغدوة والعشي يريدون وجهه) * يطلبون ثوابه ويبتغون مرضاته، والوجه يعبر به عن ذات الشئ وحقيقته. روي: أن رؤساء قريش قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لو طردت هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المؤمنين - جلسنا إليك، فقال (عليه السلام): ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، قال: نعم، طمعا في إيمانهم فانزل الله عليه هذه الآية (1). * (ما عليك من حسابهم من شئ) * كقوله: * (إن حسابهم إلا على ربى) * (2)، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، والمعنى: ولو كان الأمر كما يقولون عند الله فما عليك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان باطنهم غير مرضي فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لايتعداك إليهم، كقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (3)، وقيل: إن الضمير للمشركين (4) والمعنى: لايؤاخذون بحسابك ولا أنت تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويجرك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، وقوله: * (فتطردهم) * جواب النفي و * (فتكون) * جواب النهي، ويجوز أن يكون عطفا على * (فتطردهم) * على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم (5)، وقرئ: " بالغدوة والعشي " (6) (7). (1) رواها السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 487 عن سعد بن أبي وقاص، والرازي في تفسيره: ج 12 ص 234 عن ابن مسعود، وراجع أسباب النزول للواحدي: ص 178 - 179. (2) الشعراء: 113. (3) الأنعام: 164، الاسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7. (4) قاله الرازي في تفسيره: ج 12 ص 236. (5) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 28. (6) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 144، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 487، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 258. (7) = (*)
[ 574 ]
* (وكذا لك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشكرين (53) وإذا جاءك الذين يؤمنون بايتنا فقل سلم عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهلة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54) وكذا لك نفصل الايت ولتستبين سبيل المجرمين) * (55) سورة الأنعام / 54 - 56 أي: ومثل ذلك الفتن العظيم * (فتنا بعضهم ببعض) * أي: ابتليناهم بهم، وذلك أن المشركين قالوا: * (أهؤلاء) * يعنون المسلمين * (من الله عليهم من بيننآ) * أي: أنعم الله عليهم بالتوفيق لإصابة الحق من دوننا ونحن الرؤساء والأشراف وهم العبيد والأنذال (1) إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق، ونحوه: * (لو كان خيرا ماسبقونآ إليه) * (2)، ومعنى " فتناهم ": خذلناهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مفتون مخذول * (أليس الله بأعلم بالشكرين) * أي: الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، ومن صمم على كفره يخذله ويمنعه التوفيق * (فقل سلم عليكم) * هو أمر بتبليغ سلام الله تعالى إليهم، أو أمر بأن يبدأهم بالسلام تبجيلا لهم، وكذلك قوله: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * من جملة ما يقول لهم ليسروا، وقرئ: " إنه " (3) فإنه بالكسر على = (7) قال البلخي: قراءة ابن عامر غلط، لأن العرب إذا أدخلت الألف واللام قالوا: الغداة، يقولون: رأيتك بالغداة، ولا يقولون: بالغدوة، فإذا نزعوا الألف واللام قالوا: رأيتك غدوة، وإنما كتبت الواو في المصحف كما كتبوا " الصلاة " و " الزكاة " و " الحياة " كذلك. وقال أبو علي الفارسي: الوجه " الغداة "، لأنها تستعمل نكرة وتتعرف باللام، فأما " غدوة " فمعرفة أبدا، وهو علم صيغ له. وقال سيبويه: غدوة وبكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا " ام حنين " اسما لدابة معروفة كذلك هذا. انظر التبيان: ج 4 ص 145. (1) النذل والنذيل: الخسيس من الناس والمحتقر في جميع أحواله. (القاموس المحيط: مادة نذل). (2) الأحقاف: 11. (3) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي. انظر كتاب السبعة في القراءات = (*)
[ 575 ]
الاستئناف كأنه تفسير للرحمة، وبالفتح على الإبدال من الرحمة * (بجهلة) * في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، بمعنى: أنه عمل عمل الجاهلين، لأن من عمل مايستوبل عاقبته عالما بذلك فهو من أهل الجهل، ويجوز أن يراد عمله جاهلا بما يتبعه من الضرر والمكروه (1)، ومن كان حكيما لم يقدم على فعل شئ حتى يعلم حاله، وقرئ: * (لتستبين) * بالتاء والياء (2) مع رفع * (سبيل) * لأنها تذكر وتؤنث، وبالتاء على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله) ونصب ال " سبيل "، يقال: " استبان الأمر " و " تبين " و " استبنته " و " تبينته "، والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين * (نفصل) * آيات القرآن في صفة أحوال من لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارات القبول وتباشير الإيمان، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل. * (قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إنى على بينة من ربى وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفصلين (57) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بينى وبينكم والله أعلم بالظلمين) * (58) * (نهيت) * عن عبادة ما تعبدون * (من دون الله) *، * (قل لا أتبع أهواءكم) * أي: لاأجري على طريقتكم التي سلكتموها من اتباع الهوى دون اتباع الدليل * (قد ضللت إذا) * أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال * (وما أنا من المهتدين) * السالكين = لابن مجاهد: ص 258. (1) انظر التبيان: ج 4 ص 150. (2) قرأه عاصم برواية أبي بكر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 258، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 488. (*)
[ 576 ]
طريق الهدى، يعني: أنكم كذلك * (قل إنى على بينة من ربى) * أي: إني من معرفة من ربي، وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة * (وكذبتم به) * أنتم حيث أشركتم به غيره، وإذا كان الشئ ثابتا عندك ببرهان قاطع قلت: أنا على يقين منه وعلى بينة منه، وقيل: معناه: على حجة من جهة ربي وهو القرآن (1) * (وكذبتم به) * أي: بالبينة، وذكر الضمير على تأويل القرآن، * (ما عندي ما تستعجلون به) * يعني: العذاب الذي استعجلوه في قولهم: * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * (2)، * (إن الحكم إلا لله) * في تأخير عذابكم، يقضي * (الحق) * أي: القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل * (وهو خير الفصلين) * أي: القاضين، وقرئ: * (يقص الحق) * أي: يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره، من قولهم: قص أثره * (قل لو أن عندي) * أي: في قدرتي * (ما تستعجلون به) * من العذاب * (لقضى الامر بينى وبينكم) * لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي. * (وعنده مفاتح الغيب لايعلمهآ إلا هو ويعلم مافى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمت الارض ولارطب ولا يابس إلا في كتب مبين (59) وهو الذى يتوفبكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) * (60) سورة الأنعام / 59 - 61 ال * (مفاتح) * جمع مفتح وهو المفتاح، وجعل سبحانه للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأن بالمفاتح (3) يتوصل إلى ما في المخازن المغلقة، أراد أنه هو المتوصل إلى جميع المغيبات بذاته وحده، لا يتوصل إليها سواه كما يتوصل إلى (1) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 30. (2) الأنفال: 32. (3) في نسخة: بالمفتاح. (*)
[ 577 ]
ما في المخازن من عنده مفاتح أقفاله، * (ولاحبة) * * (ولارطب ولا يابس) * عطف على * (ورقة) * وداخل في حكمها، أي: * (وما تسقط من ورقة) * ولا شئ من هذه الأشياء إلا يعلمه، وقوله: * (إلا في كتب مبين) * كالتكرير لقوله: * (إلا يعلمها) * لأن معنى * (إلا يعلمها) * و * (إلا في كتب مبين) * واحد، والكتاب المبين: علم الله، أو اللوح المحفوظ، أو القرآن * (وهو الذى يتوفبكم باليل) * أي: يقبض أرواحكم عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت (1) * (ويعلم ما جرحتم) * أي: كسبتم من الأعمال * (بالنهار ثم يبعثكم) * من القبور * (فيه) * أي: في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الأعمال بالنهار (2) ومن أجله * (ليقضى أجل مسمى) * وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم * (ثم إليه مرجعكم) * وهو المرجع إلى موقف الحساب * (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) * في ليلكم ونهاركم، وقيل: ثم يبعثكم من نومكم أي: ينبهكم في النهار لتستوفوا آجالكم (3)، جعل سبحانه انتباههم من النوم بعثا. * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) * (61) أي: * (وهو) * المقتدر المستعلي على عباده * (ويرسل عليكم) * ملائكة * (حفظة) * يحفظون أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، والفائدة في ذلك أن العباد إذا علموا أن الملائكة يحفظون أعمالهم في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد يوم (1) وهو اختيار الجبائي والزجاج على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 4 ص 156، وراجع معاني القرآن: ج 2 ص 257. (2) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 32. (3) قاله ابن جريج على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 6، وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 258. (*)
[ 578 ]
القيامة كان ذلك أزجر لهم عن القبيح * (توفته رسلنا) * استوفت روحه، وهم (1) ملك الموت وأعوانه (2)، و * (حتى) * هذه هي التي للاستئناف وما بعدها جملة، وقرئ: " توفاه " بالإمالة (3)، ويجوز أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا بمعنى " تتوفاه " (4) * (وهم لا يفرطون) * أي: لايتوانون ولا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه، والتفريط: التقصير والتأخير عن الحد، والإفراط: مجاوزة الحد. * (ثم ردوا إلى الله مولبهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحسبين (62) قل من ينجيكم من ظلمت البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجينا من هذه لنكونن من الشكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) * (64) سورة الأنعام / 63 - 65 * (ثم ردوا إلى الله) * أي: إلى حكمه وجزائه * (مولبهم) * أي: مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم * (الحق) * العدل الذي لا يحكم إلا بالحق * (ألا له الحكم) * يومئذ لاحكم فيه لغيره * (وهو أسرع الحسبين) * لا يشغله حساب عن حساب * (قل من ينجيكم من ظلمت البر والبحر) * مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما، يقال لليوم الشديد: يوم مظلم ذو كواكب، أي اشتدت ظلمته حتى صار كالليل * (تدعونه) * متضرعين بألسنتكم ومسرين في أنفسكم " لئن أنجيتنا " على إرادة القول، أي قائلين: إن أنجيتنا من هذه الظلمة والشدة، وقرئ: * (ينجيكم) * بالتشديد (1) في نسخة: هو. (2) وهو قول الحسن على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 158. (3) قرأه حمزة. راجع التبيان: ج 2 ص 158، وتفسير البغوي: ج 2 ص 102، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 490، وحجة القراءات لابن زنجلة: ص 254، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 400. (4) وهي قراءة الأعمش. انظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 71، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 7. (*)
[ 579 ]
والتخفيف (1)، و * (لئن أنجينا) *، و * (خفية) * بالضم والكسر (2) * (قل الله ينجيكم) * يخلصكم من هذه الشدة * (ومن كل) * غم * (ثم أنتم تشركون) * بالله بعد قيام الحجة عليكم. * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الايت لعلهم يفقهون) * (65) أي: * (هو القادر على أن) * يرسل * (عليكم عذابا من فوقكم) * كما أمطر على قوم لوط، وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وعلى قوم نوح الطوفان * (أو من تحت أرجلكم) * كما أغرق فرعون وخسف بقارون (3)، وقيل: * (من فوقكم) * من قبل أكابركم وسلاطينكم الظلمة و * (من تحت أرجلكم) * من قبل سفلتكم وعبيدكم (4)، وقيل: هو حبس المطر والنبات (5) * (أو يلبسكم شيعا) * أي: يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء، كل فرقة منكم مشايعة لإمام، ومعنى خلطهم: أن يختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال * (ويذيق بعضكم بأس بعض) * أي: يقتل بعضكم (1) قرأه يعقوب وعلي بن نصر. انظر التبيان: ج 4 ص 160، وتفسير البغوي: ج 2 ص 103، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 150. (2) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. راجع التبيان: ج 4 ص 160، واعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 72، وتفسير البغوي: ج 2 ص 103، والتيسير في القراءات للداني: ص 103، والسبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 259. (3) وهو قول مجاهد وابن جبير. راجع تفسير القرطبي: ج 7 ص 9، وهو اختيار الزجاج: ج 2 ص 259 - 260. (4) قاله ابن عباس ومجاهد على ما حكاه عنهما البغوي في تفسيره: ج 2 ص 104، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 7 ص 9، وحكاه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 163 رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام). (5) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 33. (*)
[ 580 ]
بعضا، ونحوه قوله: * (وكذا لك نولي بعض الظلمين بعضا) * (1) قال الصادق (عليه السلام): " هو سوء الجوار " (2)، والمعنى في الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. وفي الحديث: " إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة " (3). * (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (67) وإذا رأيت الذين يخوضون فئ ايتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطن فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين (68) وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون) * (69) * (وكذب به قومك) * الضمير للعذاب (4) * (وهو الحق) * أي: لابد أن ينزل بهم * (قل لست عليكم بوكيل) * بحفيظ، أي: وكل إلي أمركم أمنعكم من التكذيب إجبارا، إنما أنا منذر * (لكل نبإ مستقر) * أي: لكل شئ ينبأ به ويخبر وقت استقرار وحصول لابد منه، وقيل: الضمير في * (به) * للقرآن (5) * (وإذا رأيت الذين يخوضون في) * الاستهزاء بآياتنا والطعن فيها * (فأعرض عنهم) * فلا تجالسهم (6) وقم عنهم * (حتى يخوضوا في حديث غيره) * فلا بأس أن تجالسهم حينئذ * (وإما سورة الأنعام / 69 و 70 ينسينك الشيطن) * النهي عن مجالستهم * (فلا تقعد) * معهم * (بعد الذكرى) *، (1) الأنعام: 129. (2) التبيان: ج 4 ص 163. (3) تفسير الطبري: ج 5 ص 221 قطعة ح 13371، سنن البيهقي: ج 9 ص 181، تفسير ابن كثير: ج 2 ص 135، الدر المنثور: ج 3 ص 285. (4) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 26. (5) قاله الحسن والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 128، والفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 166، وحكى الشيخ في التبيان: ج 4 ص 163 هذا القول ونسبه الى الأزهري. (6) في بعض النسخ: فلا تجادلهم. (*)
[ 581 ]
ويجوز أن يراد: وإن أنساك الشيطان قبل النهي قبح مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه (1) (2) * (وما على الذين يتقون) * أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شئ مما يحاسبون عليه من ذنوبهم * (ولكن) * عليهم أن يذكروهم * (ذكرى) * إذا سمعوهم يخوضون فيها بأن يقوموا عنهم ويظهروا الكراهية لهم * (لعلهم يتقون) * يجتنبون الخوض كراهية لمساءتهم أو حياء، ويجوز أن يكون * (ذكرى) * رفعا (3) على: ولكن عليهم ذكرى. * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * (70) * (اتخذوا دينهم) * الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام * (لعبا ولهوا) * حيث سخروا به واستهزأوا منه، ومعنى " ذرهم ": أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم * (وذكر به) * أي: بالقرآن * (أن تبسل نفس بما كسبت) * أي: مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك والعذاب، وترتهن بسوء كسبها * (وإن تعدل كل عدل) * أي: (1) وهو قول القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 14، والهمداني في الفريد: ج 2 ص 167. (2) قال الشيخ في التبيان: ج 2 ص 165: واستدل الجبائي بالآية على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان قال بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم أنه لا يجوز عليهم شئ من ذلك. وهذا ليس بصحيح، لأنا نقول: إنما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله، فأما غير ذلك فانه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك الى الاخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم، والنوم سهو، وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وما جرى لهم فيما مضى من الزمان، والذي ظنه فاسد. (3) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 35، والفريد في اعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 167 - 168. (*)
[ 582 ]
وإن تفد كل فداء * (لا يؤخذ منهآ) *، * (أولئك) * إشارة إلى * (الذين اتخذوا دينهم لعبا) *، * (الذين أبسلوا) * أي: أسلموا إلى الهلاك * (بما كسبوا) * بكسبهم وعملهم. * (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدينا الله كالذى استهوته الشيطين في الارض حيران له أصحب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العلمين (71) وأن أقيموا الصلوة واتقوه وهو الذى إليه تحشرون) * (72) أي: * (أ) * نعبد * (من دون الله ما لا ينفعنا) * إن عبدناه * (ولا يضرنا) * إن تركنا عبادته * (ونرد على أعقابنا) * راجعين عن ديننا الذي هو خير الأديان * (بعد إذ هدينا الله) * له * (كالذى استهوته الشيطين في الارض) * كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان في المهامه (1)، والاستهواء استفعال من هوى في الارض: إذا ذهب، كأن المعنى: طلبت هويه (2)، وموضع الكاف نصب على الحال من الضمير في * (نرد) *، أي: أننكص مشبهين من * (استهوته الشيطين) *، * (حيران) * لا يهتدي إلى طريق، تائها ضالا * (له) * أي: لهذا المستهوي * (أصحب) * رفقة * (يدعونه إلى الهدى) * أي: إلى الطريق المستوي، أو إلى أن يهدوه الطريق (3) المستقيم، يقولون له: * (ائتنا) * وقد اعتسف التيه تابعا للجن لا يجيبهم ولايأتيهم، وهذا مبني على سورة الأنعام / 71 - 73 ما تزعمه العرب أن الجن تستهوي الإنسان والغيلان كذلك، فشبه به الضال عن (1) المهامه جمع المهمه والمهمهة: أي المفازة البعيدة والبلد المقفر. (القاموس المحيط: مادة مه). (2) الهوى مصدر هوى هويا - لاهوي هوى - ومعناه: ذهب في الأرض هويا. (راجع القاموس المحيط: مادة هوى). (3) في بعض النسخ: الصراط. (*)
[ 583 ]
الإسلام الذي لا يلتفت إلى دعاء المسلمين إياه * (قل إن هدى الله) * وهو الإسلام * (هو الهدى) * وحده وما سواه ضلال * (وأمرنا لنسلم لرب العلمين وأن أقيموا الصلوة) * أي: أمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا الصلاة، بمعنى للإسلام ولإقامة الصلاة، ومعنى اللام التعليل للأمر، وتقديره: أمرنا، وقيل لنا: " أسلموا " لأجل أن نسلم * (وهو الذى إليه تحشرون) * فيجازي كل عامل منكم بعمله. * (وهو الذى خلق السموا ت والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور علم الغيب والشهدة وهو الحكيم الخبير) * (73) * (قوله الحق) * مبتدأ و * (يوم يقول) * خبره مقدما عليه كما تقول: يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين، أو يكون * (قوله الحق) * مبتدأ وخبرا و * (يوم يقول) * ظرفا، والمعنى: وهو الذي خلق السماوات والأرض قائما بالحق والحكمة، وحين يقول لشئ من الأشياء: * (كن فيكون) * ذلك الشئ * (قوله الحق) * والحكمة، أي: لا يكون شيئا من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب، و * (يوم ينفخ) * ظرف لقوله: * (وله الملك) * كقوله: * (لمن الملك اليوم) * (1)، ويجوز أن يكون * (قوله الحق) * فاعل " يكون " على معنى: وحين يقول لقوله الحق أي: لقضائه الحق: * (كن فيكون قوله الحق) *، وينتصب (2) * (يوم يقول) * بمحذوف دل عليه قوله: * (بالحق) * كأنه قيل: ويوم يكون ويجدد الخلق يقوم بالحق، * (و) * وجب * (له الملك) * في اليوم الذي فيه * (ينفخ في الصور) * ولا يبقى (1) غافر: 16. (2) في انتصاب " يوم " خمسة أوجه مذكورة بالتفصيل في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 172 فراجع. (*)
[ 584 ]
لأحد فيه ملك، ويجوز أن يكون * (يوم ينفخ في الصور) * بدلا من * (يوم يقول) * والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين فيفنى الخلق بالنفخة الأولى ويحيون بالثانية (1)، وعن الحسن أنه جمع صورة (2) * (علم الغيب والشهدة) * رفع على المدح. * (وإذ قال إبراهيم لابيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إنى أر - ك وقومك في ضلل مبين (74) وكذا لك نرى إبرا هيم ملكوت السموا ت والارض وليكون من الموقنين) * (75) وقرئ: " آزر " بالضم (3) على النداء، ولا خلاف بين النسابين أن اسم أبي إبراهيم تارح (4)، قال أصحابنا: إن آزر كان اسم جد إبراهيم لأمه (5)، وروي أيضا أنه كان عمه (6)، وقالوا: إن آباء نبينا (صلى الله عليه وآله) إلى آدم كانوا موحدين (7)، ورووا (1) وعليه أكثر المفسرين، وهو الذي اختاره البلخي والجبائي والزجاج والطبري على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 174. (2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 107، والقرطبي أيضا: ج 7 ص 20 - 21، واختاره أبو عبيدة على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 174، وانظر مجاز القرآن: ج 1 ص 196. (3) وهي قراءة ابن عباس والحسن ومجاهد على ما حكاه عنهم أبو حيان في البحر المحيط: ج 4 ص 164، وفي التبيان: ج 4 ص 175: هي قراءة أبي بريد المدني والحسن البصري ويعقوب. وانظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 401. (4) قال النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 76 ما لفظه: تكلم العلماء في هذا فقال الحسن: كان اسم أبيه آزر، وقيل: كان له اسمان آزر وتارح، وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني انها أعوج قال: وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، وقال الضحاك: معنى آزر: شيخ. انتهى. وقال الزجاج: وليس بين النسابين خلاف أن اسم أبي إبراهيم " تارح " والذي في القرآن يدل على أن اسمه آذر، وقيل: آذر عندهم ذم في لغتهم. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 265. (5) التبيان: ج 4 ص 175. (6) قصص الأنبياء للراوندي: ص 103، وعنه البحار: ج 12 ص 42 ح 31. (7) التبيان: ج 4 ص 175. (*)
[ 585 ]
عنه (عليه السلام) أنه قال: " لم يزل ينقلني الله تعالى من صلب (1) الطاهرين إلى أرحام المطهرات، لم يدنسني بدنس الجاهلية " (2)، وقد قيل: إن آزر اسم صنم (3) فيجوز أن ينبز (4) به للزومه عبادته، والهمزة في * (أتتخذ) * للإنكار، وقوله: * (فلما جن عليه اليل) * من بعد عطف على * (قال إبرا هيم) * وقوله: * (وكذا لك نرى إبرا هيم) * جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى: ومثل ذلك التعريف نعرف به إبراهيم * (ملكوت السموا ت والارض) * يعني: الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونهديه لطريق النظر والاستدلال * (وليكون من الموقنين) * فعلنا ذلك، و * (نرى) * حكاية حال ماضية. * (فلما جن عليه اليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلمآ أفل قال لاأحب الافلين (76) فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربى فلمآ أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين (77) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلمآ أفلت قال يقوم إنى برئ مما تشركون (78) إنى وجهت وجهى للذى فطر السموا ت والارض حنيفا وما أنا من المشركين) * (79) كان القوم يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على خطائهم ويرشدهم ويبصرهم طريق النظر والاستدلال ليعرفوا أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها، لوضوح دلالة الحدوث فيها (5) * (قال هذا ربى) * قول من (1) في نسخة: أصلاب. (2) الحاوي للفتاوى للسيوطي: ج 2 ص 368. (3) وهو قول مجاهد على ما حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 134. (4) النبز - بالفتح -: اللمز. (القاموس المحيط: مادة نبز). (5) انظر تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: ص 20 - 22. (*)
[ 586 ]
ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله - كما هو - غير متعصب لمذهبه ليكون ذلك أدعى إلى الحق وأرفع للشغب، ثم يبطله بعد بالحجة في قوله: * (لاأحب الافلين) * أي: لاأحب عبادة الأرباب المحتجبين بحجاب، المتغيرين من حال إلى حال، المنتقلين (1) من مكان إلى مكان، فإن ذلك من صفات الأجسام ودلائل الحدوث، وقوله: * (لئن لم يهدنى ربى) * تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو آفل مثل الكواكب يكون ضالا، وأن الهداية إلى الحق تكون بتوفيق الله تعالى ولطفه، وقوله: * (هذا أكبر) * أيضا من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم، ثم قال: * (إنى برئ مما تشركون) * من الأجرام التي تجعلونها شركاء سورة الأنعام / 80 و 81 لخالقها، وأما وجه التذكير في قوله: * (هذا ربى) * مع أن الإشارة للشمس فهو أنه جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شئ واحد، كقولهم: من كانت أمك، وليصون الرب عن شبهة التأنيث، ألا تراهم لم يقولوا: الله - سبحانه - علامة وإن كان " العلامة " أبلغ من " علام " لهذا المعنى * (إنى وجهت وجهى للذى فطر السموا ت والارض) * أي: للذي دلت هذه المحدثات على أنه صانعها ومبدعها الذي دبر أحوالها: مسيرها وانتقالها وطلوعها وأفولها (2)، وقيل: إن هذا كان استدلاله في نفسه في زمان مهلة النظر وخطور الخاطر الموجب عليه الفكر فحكاه الله سبحانه (3)، والأول أظهر، لقوله: * (لئن لم يهدنى ربى) * وقوله: * (يقوم إنى برئ مما تشركون) *. (1) في نسخة: المنقلبين. (2) وهو اختيار الجبائي، لكنه قال: انما كان قبل بلوغه - إبراهيم (عليه السلام) - وقبل كمال عقله ولزوم التكليف له، غير أنه لمقاربته كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما يشاهده من هذه الحوادث. راجع التبيان: ج 4 ص 182. (3) وهو قول البلخي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 182 - 183. (*)
[ 587 ]
* (وحآجه قومه قال أتحجوني في الله وقد هدين ولاأخاف ما تشركون به إلا أن يشآء ربى شيا وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف مآأشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون (81) الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) * (82) كان القوم حاجوه وخاصموه في الدين وفي التوحيد وترك عبادة آلهتهم منكرين لذلك، ف * (قال) * لهم: * (أتحجوني في الله وقد هدين) * - ي إلى التوحيد * (ولاأخاف ما تشركون به) * لأنهم قد خوفوه أن آلهتهم تصيبه بمكروه * (إلا أن يشآء ربى شيا) * إلا وقت مشية ربي شيئا يخاف فحذف الوقت، أي: لاأخاف معبوداتكم في وقت قط (1) لأنها لا تقدر على نفع وضر إلا إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها، مثل أن يرجمني بكوكب أو يشاء الإضرار بي ابتداء * (وسع ربى كل شئ علما) * فلا يستبعد أن يكون في علمه إنزال مخوف بي * (أفلا تتذكرون) * فتميزوا بين القادر والعاجز * (وكيف أخاف) * لتخويفكم شيئا لا يتعلق به ضرر * (و) * أنتم * (لا تخافون) * ما يتعلق به كل خوف وهو إشراككم * (بالله ما لم ينزل) * بإشراكه * (سلطنا) * أي: حجة، إذ لا يصح أن يكون عليه حجة، فكأنه قال: ومالكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن ولاتنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف * (فأى الفريقين) * يعني: فريق المشركين وفريق الموحدين * (أحق بالامن) * ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا (1) انظر تفصيل أوجه " قط " وحالات إعرابها في مغني اللبيب: ص 233. (*)
[ 588 ]
إيمنهم بظلم) * أي: بمعصية، وعن ابن عباس هو الشرك (1) لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (2)، * (أولئك لهم الامن) * من الله * (وهم) * محكوم لهم بالاهتداء. * (وتلك حجتنا ءاتينهآ إبرا هيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمن وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذا لك نجزى المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصلحين (85) وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العلمين (86) ومن أآبائهم وذريتهم وإخوا نهم واجتبينهم وهدينهم إلى صرا ط مستقيم) * (87) سورة الأنعام / 84 - 89 * (وتلك) * إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم (عليه السلام) على قومه، من قوله: * (فلما جن عليه اليل) * إلى قوله: * (وهم مهتدون) * (3)، * (ءاتينهآ إبرا هيم) * أي: أرشدناه إليها وأخطرناها بباله * (نرفع درجت من نشاء) * في العلم والحكمة، وقرئ بالتنوين (4) أي: نرفع من نشاء درجات، كقوله: * (ورفع بعضهم درجت) * (5)، * (ووهبنا) * لإبراهيم * (إسحق) * ابنه * (ويعقوب) * ابن إسحاق * (كلا هدينا) * إلى النبوة ونيل الكرامات * (ومن ذريته) * الضمير لنوح (6) أو لإبراهيم (7) (1) تفسير ابن عباس: ص 114. (2) لقمان: 13. (3) الآية: 76 - 82. (4) وهي قراءة أهل الكوفة ويعقوب. راجع التبيان: ج 4 ص 191، وتفسير البغوي: ج 2 ص 112، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 498. (5) البقرة: 253. (6) وهو قول الفراء واختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهم على ما حكاه عنهم القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 31. (7) وهو قول الضحاك على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 499، واختاره = (*)
[ 589 ]
* (داوود) * أي: وهدينا داود * (ومن أآبائهم) * في موضع النصب عطفا على * (كلا) * بمعنى: وفضلنا بعض آبائهم * (وذريتهم) *، * (واجتبينهم) * اصطفيناهم (1). * (ذا لك هدى الله يهدى به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين ءاتينهم الكتب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكفرين (89) أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده قل لاأسلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعلمين) * (90) * (ذا لك) * إشارة إلى ما تقدم من التفضيل والاجتباء * (هدى الله يهدى به من يشآء) * ممن لم يسمهم في هذه الآيات * (ولو أشركوا) * مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات لحبطت أعمالهم وكانوا كغيرهم في ذلك، ونحوه: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * (2)، * (أولئك الذين ءاتينهم) * أعطيناهم * (الكتب) * يريد به الجنس * (والحكم) * بين الناس، وقيل: الحكمة (3) * (فإن يكفر بها) * بالكتاب والحكم والنبوة أو بالنبوة * (هؤلاء) * يعني: أهل مكة * (فقد وكلنا بها قوما) * وهم الأنبياء الذين جرى ذكرهم ومن تابعهم آمنوا بما أتى به نبينا (عليه السلام) قبل = الزجاج على ما حكاه الشيخ في التبيان وقال: قال أبو علي الجبائي: الهاء لا يجوز تكون كناية عن إبراهيم، لأن في من عدد من الأنبياء لوطا وهو كان ابن اخته، وقيل: ابن أخيه، ولم يكن من ذريته. وهذا الذي قاله ليس بشئ، لأنه لايمنع أن يكون غلب الأكثر، وجميع من ذكر من نسل إبراهيم، على أنه قال فيما روى عنه ابن مسعود: إن الياس: إدريس، وهو جد نوح، ولم يكن من ذريته، ومع هذا لم يطعن على قول من قال: إنها كناية عن نوح. انظر التبيان: ج 4 ص 194. (1) قال الشيخ الطوسي (قدس سره): وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن عيسى جعله الله من ذرية إبراهيم أو نوح، وإنما كانت امه من ذريتهما. راجع التبيان: ج 4 ص 195. (2) الزمر: 65. (3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 43. (*)
[ 590 ]
وقت مبعثه (1)، وقيل: هم كل من آمن بالنبي (عليه السلام) (2)، وقيل: هم الأنصار (3). ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها كما يوكل الرجل بالشئ ليقوم به ويتعهده، والباء في * (بها) * صلة * (يكفر) * وفي * (بكفرين) * لتأكيد النفي * (فبهديهم اقتده) * أي: فاختص هداهم بالاقتداء ولاتقتد إلا بهم، ففي تقديم المفعول هذا المعنى، ويريد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وعدله، وفي أصول الدين دون الشرائع فإنها يتطرق إليها النسخ فهي هدى ما لم تنسخ، والهاء في * (اقتده) * للوقف (4) * (قل لاأسلكم عليه أجرا) * أي: لاأطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا كما لم تسأله الأنبياء قبلي فإنه ينفر عن القبول * (إن هو إلا ذكرى للعلمين) * فيه دليل على أن نبينا (عليه السلام) مبعوث إلى كافة العالمين، وأن النبوة مختومة به. سورة الأنعام / 91 * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه (1) وهو قول الحسن وقتادة، واختاره الزجاج والطبري والشوكاني والبيضاوي والزمخشري. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 358، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 140، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 270، وزاد المسير لابن الجوزي: ج 3 ص 81، وتفسير البيضاوي: ج 2 ص 183، والكشاف: ج 2 ص 43. (2) قاله ابن زيد على ما حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 13 ص 68. (3) قاله سعيد بن جبير على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 499، وحكاه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 114 ونسبه الى ابن عباس ومجاهد، واختاره القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 35. (4) وعليه الجمهور إلا ابن عامر وابن ذكوان بكسر الهاء وصلتها. قال النحاس: وهذا لحن، لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء اضمار ولابعدها واو ولاياء أيضا. انظر إعراب القرآن: ج 2 ص 81 - 82، والتيسير في القراءات للداني: ص 105، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 176. (*)
[ 591 ]
قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولاء ابآؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) * (91) أي: ما عرفوه حق معرفته، وماعظموه حق عظمته، وماوصفوه بما يجب أن يوصف به من الرحمة على عباده واللطف بهم حين * (قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) * فأنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجل ألطافه، وإنما قاله اليهود مبالغة في إنكار نزول القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فألزموا مالابد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وذمهم بتحريفهم للتوراة وإبداء بعضها وإخفاء بعض فقيل: * (جاء به موسى نورا) * يستضاء به في الدين * (وهدى للناس) * يهتدون به * (تجعلونه قراطيس) * ورقات متفرقة ليتمكنوا مما حاولوه من الإبداء والإخفاء، وقرئ: * (تجعلونه) * بالتاء والياء، وكذلك * (تبدونها) * و * (تخفون) * (1)، و * (علمتم) * خطاب لليهود (2)، أي: علمتم على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) مما أوحي إليه * (ما لم تعلموا أنتم) * مع أنكم حملة التوراة * (ولاء ابآؤكم) * أي: ولم يعلمه آباؤكم الذين كانوا قبلكم وهم أعلم منكم، ونحوه: * (إن هذا القرءان يقص على بنى إسرا ءيل أكثر الذى هم فيه يختلفون) * (3)، * (قل الله) * أنزله * (ثم ذرهم في خوضهم) * أي: في باطلهم الذي يخوضون فيه، و * (يلعبون) * حال من * (ذرهم) * أو من * (خوضهم) *، ويجوز أن يكون * (في خوضهم) * حالا من * (يلعبون) * أي: خائضين في الباطل، (1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر التبيان: ج 4 ص 198، وتفسير البغوي: ج 2 ص 114، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 500، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 404. (2) وهو اختيار الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2 ص 199 وقال: وهذا الذي اخترناه قول مجاهد والطبري والجبائي. (3) النمل: 76. (*)
[ 592 ]
ويجوز أن يكون صلة ل * (يلعبون) * أو ل * (ذرهم) * (1). * (وهذا كتب أنزلنه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) * (92) سورة الأنعام / 93 يعني: القرآن * (مبارك) * كثير المنافع والفوائد، قراءته خير، والعمل به خير، وفيه علم الأولين والآخرين، وفيه الحلال والحرام، وهو باق إلى آخر التكليف لايرد عليه نسخ * (مصدق الذى بين يديه) * من التوراة والإنجيل وغيرهما * (ولتنذر) * معطوف على مادل عليه صفة * (كتب) * كأنه قيل: للبركات ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار (2)، وقرئ: * (لتنذر) * بالتاء والياء (3)، وسميت مكة أم القرى لأنها مكان * (أول بيت وضع للناس) * (4) ولأنها قبلة لأهل القرى ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا، ولأن الأرض بأسرها (5) دحيت من تحتها فكأنها تولدت منها (6) * (والذين) * يصدقون * (بالاخرة) * ويخافونها * (يؤمنون به) * أي: بالقرآن (7)، وذلك أن أصل الدين خوف العاقبة فمن خافها يحمله الخوف على أن يؤمن. وخص الصلاة بالذكر من بين سائر الفرائض لأنها (1) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 189. (2) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 271. (3) قرأه أبو بكر عن عاصم. راجع التبيان: ج 4 ص 201، وتفسير البغوي: ج 2 ص 115، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 501، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 263. (4) آل عمران: 96. (5) في بعض النسخ: كلها. (6) راجع وجوه تسميتها بذلك في تفسير الماوردي: ج 2 ص 142 تجد تفصيله. (7) قال الشيخ الطوسي (قدس سره): ويحتمل أن يكون كناية عن محمد (صلى الله عليه وآله) - كما عليه الفراء والقرطبي - لدلالة الكلام عليه، وهذا يقوي مذهبنا في أنه لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجب الله عليه دون بعض. انظر التبيان: ج 4 ص 201. (*)
[ 593 ]
عماد الدين، ومن حافظ عليها كانت له لطفا في المحافظة على أخواتها. * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظلمون في غمرا ت الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءايته تستكبرون) * (93) * (افترى على الله كذبا) * فزعم أن الله بعثه نبيا وهو مسيلمة الكذاب (1). وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني، فأوحى الله إلي أن أنفخهما، فنفختهما، فطارا عني، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: كذاب اليمامة: مسيلمة، وكذاب صنعاء: الأسود العنسي " (2) (3). (1) هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، ولد ونشأ باليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبيلة بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد، قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) مع وفد بني حنيفة، إلا أنه تخلف مع الرحال خارج مكة، فأسلم الوفد وأسلم معهم، ولما عاد الى دياره ارتد، وأكثر من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، قتله خالد في عهد أبي بكر حينما هاجم ديار بني حنيفة سنة 12 ه، وكان من المعمرين. (شذرات الذهب ج 1: ص 23، الأعلام للزركلي: ج 7 ص 226. (2) هو عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، قيل: إنه كان أسود الوجه فسمي الأسود للونه، متنبئ مشعوذ، من أهل اليمن، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النبي (صلى الله عليه وآله) فكان أول مرتد في الاسلام، وأدعى النبوة، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها، فأتبعته مذحج، وتغلب على نجران وصنعاء، واتسع سلطانه حتى غلب على مابين مفازة حضرموت الى الطائف الى البحرين والاحساء الى عدن، قتل قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بخمسة أيام، وكان ظهوره في سنة 10 ه، فكانت مدة أمره من أوله الى مقتله سنة 11 ه ثلاثة أشهر فقط. (الأعلام للزركلي: ج 5 ص 111، الكامل في التاريخ: ج 2 ص 336). (3) سنن الترمذي: ج 4 ص 542 ح 2292، مستدرك الحاكم: ج 4 ص 398، تفسير البغوي: = (*)
[ 594 ]
* (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) * هو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح، وقيل: هو النضر بن الحارث (1)، والمستهزئون قالوا: * (لو نشاء لقلنا مثل هذا) * (2)، * (غمرا ت الموت) * شدائده وسكراته، وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة * (باسطوا أيديهم) * يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق (3) والتغليظ والإرهاق (4) في الإزهاق (5) فعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول له: أخرج إلي مالي عليك، وقيل: معناه: باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب (6) * (أخرجوا أنفسكم) * خلصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون على الخلاص * (اليوم تجزون) * يعني: وقت الإماتة، أو الوقت الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة، و * (الهون) * الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، تريد التمكن في الهوان وأنه عريق فيه * (وكنتم عن ءايته تستكبرون) * فلا تؤمنون بها. سورة الأنعام / 94 و 95 * (ولقد جئتمونا فرا دى كما خلقنكم أول مرة وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركؤا = ج 2 ص 115. (1) وهو قول الحكم عن عكرمة. انظر تفسير الماوردي: ج 2 ص 144. (2) الأنفال: 31. (3) السياق: نزع الروح، يقال: رأيت فلانا يسوق، أي ينزع عند الموت. (الصحاح: مادة سوق). (4) الارهاق: أن تحمل الإنسان على مالا يطيقه. (القاموس المحيط: مادة رهق). (5) زهقت نفسه زهوقا: أي خرجت. (القاموس المحيط والصحاح: مادة زهق). (6) قاله الحسن والضحاك. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 359، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 144، والتبيان: ج 4 ص 203، وزاد المسير لابن الجوزي: ج 3 ص 87، وأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك كما في الدر المنثور: ج 3 ص 322. (*)
[ 595 ]
لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * (94) * (فرا دى) * منفردين عن أموالكم وأولادكم وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله * (كما خلقنكم أول مرة) * على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، وفي الحديث: " تحشرون حفاة عراة غرلا " (1) أي: قلفا (2) * (وتركتم ما خولنكم) * أي: ما ملكناكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة * (وراء ظهوركم) * لم تحملوا منه شيئا واستمتع به غيركم * (أنهم فيكم) * أي: في استعبادكم * (شركؤا) * لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم * (لقد تقطع بينكم) * أي: وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل، وقرئ: " بينكم " (3) على إسناد الفعل إلى الظرف كما تقول: قوتل خلفكم. * (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذا لكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الاصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذا لك تقدير العزيز العليم) * (96) * (فالق الحب) * بالنبات * (والنوى) * بالشجر (4)، وقيل: أراد الشقين اللذين (1) صحيح البخاري: ج 4 ص 204 وج 8 ص 136، مستدرك الحاكم: ج 2 ص 251، زاد المسير لابن الجوزي: ج 9 ص 36، الدر المنثور: ج 3 ص 323. (2) في نسخة: غلفا. والقلف - بضم القاف وسكون اللام - جمع أقلف كالغلف جمع أغلف، وكلاهما بمعنى من لم يختن. (انظر القاموس المحيط والصحاح: مادة قلف). (3) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 263. (4) وهو قول الحسن وقتادة والسدي وابن زيد، واختاره الزجاج والقرطبي والزمخشري. انظر تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 359، ومعاني القرآن: ج 2 ص 273، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 44، والكشاف: ج 2 ص 47، وزاد المسير للجوزي: ج 3 ص 90. (*)
[ 596 ]
في النواة والحنطة (1) * (يخرج الحى من الميت) * أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى * (ومخرج) * هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي * (ومخرج الميت من الحى) * عطف على * (فالق الحب والنوى) * لاعلى الفعل، وموقعه موقع الجملة المبينة (2)، لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت * (ذا لكم الله) * أي: ذلك المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية * (فأنى تؤفكون) * فكيف تصرفون عنه وعن قوله (3) إلى غيره، و * (الاصباح) * مصدر سمي به الصبح، والمعنى: فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش (4) في آخر الليل، أو فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار (5)، لأن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال: تفري ليل عن بياض نهار (6) وقرئ: * (وجعل اليل) * لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي، ولذلك عطف عليه * (والشمس والقمر) * أي: وجعل الشمس والقمر * (حسبانا) *، والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استرواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل للمرأة: سورة الأنعام / 96 - 98 سكن، لأنه يستأنس بها، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه، ويمكن (1) قاله مجاهد وأبو مالك. راجع تفسير مجاهد بن جبر: ص 326، والتبيان: ج 4 ص 209، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 147، وتفسير البغوي: ج 2 ص 117، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 44، والكشاف: ج 2 ص 47. (2) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 47. (3) في بعض النسخ: توليه. (4) الغبش - محركة -: بقية الليل أو ظلمة آخره. (القاموس المحيط: مادة غبش). (5) في نسخة زيادة: وأسفاره. (6) قائله أبو نؤاس، وصدره: تردت به ثم انفرى عن أديمها. يصف فيه شرابا. راجع ديوانه: ص 435، والكشاف: ج 2 ص 49. (*)
[ 597 ]
أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه (1) من قوله: * (لتسكنوا فيه) * (2) والحسبان - بالضم - مصدر " حسب "، والمعنى: وجعل الشمس والقمر علمي حسبان، لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما ومسيرهما، أو محسوبين حسبانا (3)، * (ذا لك) * التسيير بالحساب المعلوم * (تقدير العزيز) * الذي قهرهما بتسخيرهما * (العليم) * بتدبيرهما وتدويرهما ومسيرهما. * (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر قد فصلنا الايت لقوم يعلمون (97) وهو الذى أنشأكم من نفس وا حدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايت لقوم يفقهون) * (98) يعني: * (في ظلمت) * الليل ب * (البر والبحر) * وأضاف الظلمات إلى البر والبحر لملابستها إياهما، أو لتشبيه الطرق المشتبهة بالظلمات، وقرئ: * (فمستقر) * بفتح القاف وكسرها (4): فمن فتح كان ال * (مستودع) * اسم مكان مثله أو مصدرا، ومن كسر كان اسم فاعل وال * (مستودع) * اسم مفعول (5)، والمعنى: فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب (6)، أو مستقر فوق الارض ومستودع (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 49، والهمداني في الفريدفي إعراب القرآن: ج 2 ص 197. (2) يونس: 67، القصص: 73، غافر: 61. (3) وهو اختيار الأخفش في معاني القرآن: ج 2 ص 498، وعنه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 84. (4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وروح. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 263، والتبيان: ج 4 ص 213، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 503. (5) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 199. (6) وهو قول ابن عباس برواية عكرمة عنه وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة والنخعي، واختاره الفراء والزجاج والزمخشري والقرطبي وأكثر المفسرين. انظر معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 347، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 274، والكشاف: ج 2 ص 50، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 47، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 148، وتفسير البغوي: ج 2 ص 118. (*)
[ 598 ]
تحتها (1)، أو فمنكم مستقر في القبر ومنكم مستودع في الدنيا (2)، وعن الحسن: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك (3)، وأنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا وديعة * ولابد يوما أن ترد الودائع (4) * (وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنت من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشبه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذا لكم لايت لقوم يؤمنون) * (99) سورة الأنعام / 99 كل ماعلاك فأظلك فهو سماء، وهو هنا السحاب * (فأخرجنا به) * بالماء * (نبات كل شئ) * نبت كل صنف من أصناف الحبوب (5) يعني: أن السبب واحد وهو الماء والمسببات صنوف، وهو كقوله: * (يسقى بماء وا حد ونفضل بعضها على بعض في الاكل) * (6)، * (فأخرجنا منه) * أي: من النبات * (خضرا) * أي: شيئا (7) غضا (8) أخضر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة * (نخرج منه) * من الخضر * (حبا متراكبا) * قد تركب بعضه على بعض مثل سنبلة الحنطة والشعير وغيرهما، و * (قنوان) * رفع بالابتداء * (ومن النخل) * خبره و * (من طلعها) * بدل (1) وهو قول الحسن على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 149. (2) قاله الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 361، والتبيان: ج 4 ص 214، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 85، وتفسير البغوي: ج 2 ص 118. (3) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 118. (4) البيت من الطويل، قاله وهو يرثي أخاه أربد. ويروى: " وما الناس والأموال "، ويروى: " الا ودائع ". انظر ديوان لبيد: ص 89، وخزانة الأدب: ج 5 ص 117. (5) في بعض النسخ: الحيوان، وفي الكشاف: النامي. (6) الرعد: 4. (7) في بعض النسخ: نبتا. (8) الغض: الطري. (القاموس المحيط والصحاح: مادة غضض). (*)
[ 599 ]
منه، كأنه قيل: وكائنة من طلع النخل قنوان، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة " أخرجنا " عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان، والقنوان: جمع قنو كصنوان وصنو * (دانية) * سهلة المجتنى قريبة التناول، وعن الحسن: قريب بعضها من بعض (1) * (وجنت من أعناب) * بالنصب عطف (2) على * (نبات كل شئ) * أي: وأخرجنا به جنات من أعناب، وقرئ: " وجنات " بالرفع (3) على معنى: وحاصلة أو مخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب أي: من نبات أعناب، أو يراد: وثم جنات من أعناب أي: مع النخل * (والزيتون) * أي: وأخرجنا به الزيتون * (والرمان) *، والأحسن أن يكون نصبهما على الاختصاص (4)، كقوله: * (والمقيمين الصلوة) * (5) لفضل هذين الصنفين * (مشتبها وغير متشبه) * يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا، وتقديره: والزيتون متشابها وغير متشابه والرمان كذلك، والمعنى: متشابها بعضه وغير متشابه بعضه في القدر واللون والطعم * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) * أي: أخرج ثمره كيف (1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 149، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 52، والهمداني في فريده: ج 2 ص 201. (2) في نسخة: عطفا. (3) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم والأعشى والبرجمي ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. انظر التبيان: ج 4 ص 215، وتفسير البغوي: ج 2 ص 118، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 503، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 405، والحجة في القراءات لابن زنجلة: ص 264، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 49 وقال: وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، حتى قال أبو حاتم: هي محال، لأن الجنات لا تكون من النخل، وقال النحاس: والقراءة جائزة وليس التأويل على هذا ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي ولهم جنات كما قرأ جماعة من القراء: " وحور عين "، واجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء، ومثله كثير. (4) وهو اختيار النحاس في اعراب القرآن: ج 2 ص 86، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 52. (5) النساء: 162. (*)
[ 600 ]
يخرجه ضئيلا صغيرا * (و) * انظروا إلى حال * (ينعه) * أي: نضجه كيف يكون جامعا لمنافع وملاذ نظر اعتبار واستبصار واستدلال على اقتدار مقدره وتدبير مدبره ينقله من حال إلى حال، يقال: ينعت الثمرة ينعا وينعا. * (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنت بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون (100) بديع السموا ت والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم (101) ذا لكم الله ربكم لاإله إلا هو خلق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) لا تدركه الابصر وهو يدرك الابصر وهو اللطيف الخبير) * (103) سورة الأنعام / 100 و 101 * (وجعلوا لله شركاء) * فهما مفعولا " جعل "، و * (الجن) * بدل من * (شركاء) * (1)، ويجوز أن يكون * (شركاء الجن) * مفعولين قدم ثانيهما على الأول، أي: جعلوا الجن شركاء لله (2)، وفائدة تقديم * (لله شركاء) * استعظام أن يتخذ لله شريكا (3) من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا، والمراد بالجن: الملائكة جعلوهم لله أندادا (4)، ونحوه: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * (5)، وقيل: هم الذين قالوا: إن الله خالق الخير وإبليس خالق الشر (6)، * (وخلقهم) * أي: وخلق (1) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 277، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 53. (2) واختاره النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 87، وحكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 52. (3) في نسخة: شريك. (4) وهو قول قتادة والسدي وابن زيد على ما حكاه عنهم الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 150، واختاره الشيخ في التبيان: ج 4 ص 219. (5) الصافات: 158. (6) قاله ابن عباس. انظر تفسيره: ص 116، ونسبه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 119، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 7 ص 53 الى الكلبي. (*)
[ 601 ]
الجاعلين لله شركاء، معناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكا للخالق، وقيل: الضمير ل * (الجن) * (1) * (وخرقوا له) * أي: واختلقوا لله * (بنين وبنت) *، فإن المشركين قالوا: الملائكة بنات الله، وقال أهل الكتابين: * (عزير ابن الله) * (2) و * (المسيح ابن الله) * (3)، يقال: خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى واحد (4)، وقرئ: " وخرقوا " بالتشديد (5) للتكثير * (بغير علم) * من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ولكن جهلا منهم بعظمة الله تعالى * (بديع السموا ت والارض) * خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مبدعهما ومنشئهما ابتداء لامن شئ ولا على مثال سبق، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره * (أنى يكون له ولد) * (6)، وقيل: * (بديع السموا ت) * من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها كقولك: فلان بديع الشعر، أي: بديع شعره، أو هو بديع في السماوات والأرض كقولك: فلان ثبت الغدر، أي: ثابت فيه، والمعنى: هو عديم النظير والمثل فيهما (7) * (أنى يكون له ولد) * أي: من أين يكون له ولد ولا يستقيم أن يوصف بالولادة، (1) حكاه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 119، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 53، والرازي في تفسيره: ج 13 ص 116. 2 و 4) التوبة: 30. (4) حكى الزمخشري أنه سئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها: كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله. الكشاف: ج 2 ص 53، وانظر تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 360. (5) وهي قراءة نافع. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 119، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 504، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 406، والحجة في القراءات لابن زنجلة: ص 264، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 53. (6) الجمهور على رفعه، إلا الكسائي فقد أجاز خفضه على النعت لله عزوجل ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض، وهذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. انظر اعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 87، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 53. (7) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 53. (*)
[ 602 ]
لأن الولادة من صفات الأجسام وصانع الأجسام ليس بجسم حتى يكون والدا، ولأن الولادة لا تكون إلا بين زوجين ولا يصح أن يكون له صاحبة تزاوجه * (وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم) * ومن كان بهذه الصفة فهو غني عن كل شئ * (ذا لكم) * إشارة إلى الموصوف بالصفات المتقدمة، وهو مبتدأ ومابعده أخبار مترادفة له، وهي: * (الله) *، * (ربكم) *، * (لاإله إلا هو) *، * (خلق كل شئ) * أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات * (فاعبدوه) * لأن من استجمعت له هذه الصفات حقت له العبادة * (وهو على كل شئ وكيل) * أي: حفيظ مدبر، ولكل شئ من الأرزاق والآجال مالك * (لا تدركه الابصر) * البصر: الجوهر اللطيف الذي به تدرك المبصرات، والمعنى: أنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته، فالأبصار سورة الأنعام / 104 - 105 لا تدركه، لأنها إنما تدرك ماكان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والألوان * (وهو يدرك الابصر) * وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي ركبها الله في حاسة النظر وهي الأبصار ولا يدركها مدرك سواه * (وهو اللطيف) * يلطف عن أن تدركه الأبصار * (الخبير) * بكل لطيف، فهو يدرك الأبصار ولاتلطف عن إدراكه، وهذا من باب اللف والنشر، وروي عن الرضا (عليه السلام): أنها الأبصار التي في القلوب (1)، أي: لا يقع عليه الأوهام ولا يدرك كيف هو (2). (1) المنسوب الى الامام الرضا (عليه السلام): ص 384 تفسير العياشي: ج 1 ص 373 ح 79. (2) قال الزجاج: أعلم عزوجل أنه يدرك الأبصار، وفي هذا الإعلام دليل أن خلقه لا يدركون الأبصار، أي لا يعرفون كيف حقيقة البصر، وماالشئ الذي صار به الانسان يبصر بعينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه... الى أن قال: فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله فغير مدفوع. وليس في هذه الآية دليل على دفعه، لأن معنى هذه الآية معنى إدراك الشئ والإحاطة بحقيقته، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث. وقال الشيخ الطوسي (قدس سره): في هذه الآية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالأبصار، لأنه تمدح بنفي الإدراك عن نفسه، وكلما كان نفيه مدحا غيرمتفضل به فاثباته لا يكون = (*)
[ 603 ]
* (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) وكذا لك نصرف الايت وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) * (105) البصيرة: البينة والدلالة التي يستبصر بها الشئ على ما هو به، وهي نور القلب كما أن البصر نور العين، أي: * (جاءكم) * من الوحي والتنبيه على ما يجوز على الله ومالايجوز ما هو للقلوب كالبصائر * (فمن أبصر) * الحق وآمن * (فلنفسه) * أبصر ولها نظر * (ومن عمى) * عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر * (وما أنا عليكم بحفيظ) * أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم * (وليقولوا) * جوابه محذوف تقديره: * (وليقولوا درست) * نصرفها، ومعنى * (درست) *: قرأت وتعلمت ذلك من اليهود، وقرئ: " دارست " (1) أي: دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، و " درست " (2) أي: عفت هذه الآيات، وفي قراءة عبد الله: " درس " (3) أي: درس محمد (صلى الله عليه وآله) * (ولنبينه) * الفرق بين هذا اللام واللام في = إلا نقصا، والنقص لا يليق به تعالى... الى آخر قوله الشريف وبحثه الغني اللطيف راجع معاني القرآن: ج 2 ص 278 - 279، والتبيان: ج 4 ص 223 - 225. (1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التبيان: ج 4 ص 228، وتفسير البغوي: ج 2 ص 120، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 505، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 264، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 406، وفي تفسير القرطبي: ج 7 ص 58: وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. (2) وهي قراءة الحسن وابن عامر. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 361، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 505، والتبيان: ج 4 ص 228، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 154، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 58، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 264. (3) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 228، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 154، والسمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 505، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 60 وزاد: ابي وطلحة والأعمش. (*)
[ 604 ]
* (ليقولوا) * أن هذا حقيقة وذاك مجاز، وذلك لأن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لما حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه به، والضمير في * (لنبينه) * للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما، أو إلى الكتاب المقدر في قوله: " درست " و " دارست ". * (اتبع مآأوحى إليك من ربك لاإله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شاء الله مآ أشركوا وما جعلنك عليهم حفيظا ومآأنت عليهم بوكيل (107) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذا لك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) * (108) سورة الأنعام / 109 - 110 * (لاإله إلا هو) * اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي * (وأعرض عن المشركين) * أي: لا تخالطهم ولاتلاطفهم * (ولو شاء الله) * لاضطرهم إلى الإيمان قسرا وإجبارا * (ولا تسبوا) * آلهة * (الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا) * أي: ظلما وعدوانا، كان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله. وفيه دلالة على أن النهي عن المنكر الذي هو من أجل الطاعات إذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر ينقلب معصية فصار النهي عن ذلك النهي (1) من جملة الواجبات * (بغير علم) * أي: على جهالة بالله * (كذا لك زينا) * أي: مثل ذلك التزيين زينا * (لكل أمة) * من أمم الكفار * (عملهم) * أي: خليناهم وماعملوا ولم نمنعهم حتى حسن عندهم عملهم السيئ * (فينبئهم) * فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم. (1) في نسخة: المنهي. (*)
[ 605 ]
* (وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الايت عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109) ونقلب أفدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغينهم يعمهون) * (110) أي: حلفوا * (بالله) * مجدين مجتهدين * (لئن جاءتهم ءاية) * من الآيات التي اقترحوها * (ليؤمنن بها) *، * (قل إنما الايت عند الله) * وهو قادر عليها ولكنه لا ينزلها إلا على مقتضى الحكمة، أو إنما الايات عند الله لا عندي فكيف آتيكم بها (1) * (وما يشعركم) * أي: وما يدريكم أن الآية التي يقترحونها * (إذا جاءت لا يؤمنون) * بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجئ تلك الآية ويتمنون مجيئها، فأخبرهم سبحانه أنهم لا يدرون ما سبق علمه به من أنهم لا يؤمنون بها ألا ترى إلى قوله: * (كما لم يؤمنوا به أول مرة) *، وقيل: إن * (أنها) * بمعنى " لعلها " من قول العرب: إئت السوق أنك تشتري لحما، أي: لعلك (2)، ويقويها قراءة أبي: " لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون " (3)، وقرئ: " إنها " بالكسر (4) على أن الكلام قد تم (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 57. (2) وهو قول الخليل على ما حكاه عنه سيبويه. راجع كتاب سيبويه: ج 3 ص 123، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 282، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 90، وتفسير الرازي: ج 13 ص 144. (3) حكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 90، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 57، والرازي في تفسيره: ج 13 ص 145، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 211، وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: ج 4 ص 202. (4) قرأه ابن كثير والبصريان (أبو عمرو ويعقوب) والمفضل والأعشى ونصير وخلف وأبو بكر إلا يحيى. انظر التبيان: ج 4 ص 234، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 407، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 265. (*)
[ 606 ]
قبله، والمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون بها البتة، ومنهم من جعل " لا " مزيدة في قراءة الفتح (1) * (ونقلب أفدتهم... ونذرهم) * عطف على * (لا يؤمنون) * داخل في حكم * (وما يشعركم) * بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون * (و) * مايشعركم أنا * (نقلب أفدتهم وأبصرهم) * أي: نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلايفقهون ولايبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا على قلوبهم * (و) * مايشعركم أنا * (نذرهم في طغينهم) * أي: نخليهم وشأنهم لانكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه. * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111) وكذا لك جعلنا لكل نبى عدوا شيطين الانس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون) * (113) سورة الأنعام / 111 و 112 * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة) * يشهدون لنبينا بالرسالة، وأحيينا * (الموتى) * حتى شهدوا له، وهذا كقولهم: * (لولا أنزل علينا الملئكة) * (2) * (فأتوا بابآئنآ) * (3) * (وحشرنا عليهم كل شئ) * كقولهم: * (أو تأتى بالله (1) وهو منسوب للكسائي، نسبها إليه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 90. قال الزجاج: والذي ذكر أن " لا " لغو غالط، لأن ماكان لغوا لا يكون غير لغو. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 283. (2) الفرقان: 21. (3) الدخان: 36. (*)
[ 607 ]
والملئكة قبيلا) * (1)، ومعنى قوله: * (قبلا) * كفلاء (2) بصحة مابشرنا به وأنذرنا، أو جماعات (3)، أو مقابلة (4)، وقرئ: " قبلا " (5) أي: عيانا (6) * (إلا أن يشآء الله) * مشية إكراه وقسر * (ولكن أكثرهم يجهلون) * فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون طوعا ولو أتوا بكل آية * (وكذا لك جعلنا لكل نبى عدوا) * وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم لم نمنعهم عن العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر، و * (شيطين) * بدل من * (عدوا) *، أو هما مفعولا * (جعلنا) * (7)، و * (يوحى بعضهم إلى بعض) * يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وبعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض * (زخرف القول) * ما يزينه من القول والإغراء على المعاصي ويموهه * (غرورا) * أخذا على غرة وخدعا * (ولو شآء ربك ما فعلوه) * أي: ماعادوك أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن (1) الاسراء: 92. (2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 350، والزجاج أيضا في معاني القرآن: ج 2 ص 283، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 58. (3) وهو قول مجاهد وابن زيد. انظر التبيان: ج 4 ص 239، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 157، واختاره الأخفش في معاني القرآن: ج 2 ص 501. (4) وهو قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن إسحاق ومحمد بن يزيد. انظر التبيان: ج 4 ص 239، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 157، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 66. (5) قرأه ابن عامر ونافع وأبو جعفر. راجع التبيان: ج 4 ص 238، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 408، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 205. وانظر وجوه قراءتها في القرطبي: ج 7 ص 66. (6) وهو قول هارون القارئ على ما حكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 91. (7) انظر تفصيل ذلك في إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 91، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 215. (*)
[ 608 ]
يكفهم عنه اضطرارا * (ولتصغى) * جوابه محذوف تقديره: وليكون ذلك الإصغاء * (جعلنا لكل نبى عدوا) * على أن اللام لام الصيرورة، والضمير في * (إليه) * وفي * (فعلوه) * واحد، أي: وليميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين * (أفدة) * الكفار * (وليرضوه) * لأنفسهم * (وليقترفوا ماهم مقترفون) * من الآثام. * (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتب مفصلا والذين ءاتينهم الكتب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمته وهو السميع العليم) * (115) سورة الأنعام / 115 - 117 أي: أأطلب غير الله حاكما يحكم بيني وبينكم، ويميز المحق منا من المبطل * (وهو الذى أنزل إليكم الكتب) * المعجز * (مفصلا) * مبينا فيه الحلال والحرام والكفر والإيمان، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء * (والذين ءاتينهم الكتب) * يعني: التوراة والإنجيل * (يعلمون) * أن القرآن * (منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) * هو من باب التهييج والإلهاب كقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * (1)، أو فلا تشكن في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق وإن جحده أكثرهم، ويجوز أن يكون * (فلا تكونن) * خطابا لكل أحد (2)، على معنى أنه إذا تظاهرت الحجج على صحته فلاينبغي أن يمتري فيه أحد * (وتمت كلمت ربك) * أي: حجة ربك وأمره ونهيه ووعده ووعيده * (صدقا وعدلا) *، وقيل: هي القرآن (3) * (لا مبدل لكلمته) * أي: لاأحد يبدل شيئا من ذلك بما هو أصدق (1) الأنعام: 14، يونس: 105، القصص: 87. (2) وهو قول الشيخ في التبيان: ج 4 ص 246 قال: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) والمراد به الامة. (3) قاله الطبري في تفسيره: ج 5 ص 318، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 160، واختاره الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 219. (*)
[ 609 ]
وأعدل * (صدقا وعدلا) * نصب على الحال، وقرئ: " كلمات ربك " (1). * (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * (117) أي: * (وإن تطع أكثر) * الناس أضلوك، لأن الأكثر في الغالب يتبعون الأهواء، ثم قال: * (إن يتبعون إلا الظن) * وهو ظنهم أن آباءهم كانوا محقين فهم يقلدونهم، وفيه: أنه لا عبرة في معرفة الحق بالكثرة وإنما الاعتبار بالحجة (2)، و * (يخرصون) * يقدرون أنهم على شئ أو يكذبون * (من يضل) * يجوز أن يكون استفهاما فيكون تعليقا (3)، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر يدل عليه قوله: * (أعلم) * لأن " أفعل من كذا " لا يتعدى إلى المفعول به (4)، ويجوز أن يكون على حذف الباء ليقابل قوله: * (وهو أعلم بالمهتدين) * (5). * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بايته مؤمنين (118) (1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 266. (2) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 249: وفي الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، وبطلان قولهم: إن الله تعالى لايتوعد من لا يعلم الحق، لأن الله بين في هذه الآية أنهم يتبعون الظن ولا يعرفونه، وتوعدهم على ذلك، وذلك بخلاف مذهبهم. (3) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 352، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 386. قال الرماني: هذا لا يجوز، لأنه لا يطابق قوله: * (وهو أعلم بالمهتدين) * فمعنى الآية: أن الله تعالى أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك بالعقاب، ومن سلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة والثواب. انظر التبيان: ج 4 ص 251. (4) احتمله الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 220. (5) حكاه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 72 ونسبه إلى بعض البصريين. (*)
[ 610 ]
ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوآئهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119) وذروا ظهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون) * (120) سورة الأنعام / 120 و 121 * (فكلوا) * مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، وذلك أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم أنتم ولاتأكلون ما قتل ربكم ؟ ! فقيل: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله * (ومالكم ألا تأكلوا) * وأي شئ عرض لكم في أن لا تأكلوا وقد فصل لكم ما حرم عليكم مما لم يحرم على لسان الرسول، وقرئ: * (فصل لكم ما حرم عليكم) * على البناء للفاعل وهو الله عزوجل * (إلاما اضطررتم إليه) * مما حرم عليكم فإنه يحل لكم في حال الضرورة * (وإن كثيرا ليضلون) * فيحرمون ويحللون * (بأهوآئهم) * وشهواتهم، ومن قرأ بالضم أراد يضلون أشياعهم * (بغير علم) * بغير تعلق بشرع * (وذروا ظهر الاثم وباطنه) * أي: ماأعلنتم منه وما أسررتم (1)، وقيل: ما عملتم بجوارحكم ومانويتم بقلوبكم (2)، وقيل: الظاهر الزنا والباطن اتخاذ الأخدان (3)، و (1) وهو قول قتادة والربيع بن أنس ومجاهد على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 255، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 161، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 287، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 61. (2) قاله الجبائي على ما حكاه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 255، واختاره القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 74. (3) قاله السدي والضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 161، والتبيان: ج 4 ص 255، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 352 وفيه: " المخالة " بدل " الأخدان " قال: المخالة: أن تتخذ المرأة الخليل وأن يتخذها. (*)
[ 611 ]
* (يكسبون الاثم) * يرتكبون القبيح، والاقتراف: الاكتساب. * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمت ليس بخارج منها كذا لك زين للكفرين ما كانوا يعملون) * (122) * (وإنه لفسق) * الضمير يرجع إلى مصدر الفعل، أي: وإن الأكل منه لفسق (1)، أو إلى * (ما لم يذكر اسم الله عليه) * على: وإن أكله لفسق (2) وفيه دلالة على تحريم ذبائح أهل الكتاب أيضا، لأنه لا يصح منهم القصد إلى ذكر اسم الله تعالى (3)، وأما المسلم فإذا لم يسم الله تعالى متعمدا لم تحل ذبيحته، وإذا كان ناسيا حل أكلها (4) * (وإن الشيطين ليوحون) * أي: يوسوسون * (إلى أوليائهم) * (1) وهو اختيار النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 94، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 61. (2) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 352، والشيخ في التبيان: ج 4 ص 257. (3) قال الشيخ في الخلاف: ج 6 كتاب الصيد والذبائح مسألة (23): لا تجوز ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى عند المحصلين من أصحابنا، وقال شذاذ منهم: إنه يجوز أكله، انتهى. وأراد بالشذاذ ابن أبي عقيل وابن الجنيد على ما حكاه عنهما العلامة في المختلف: ج 2 ص 679 ط قديم، وقال: المشهور عند علمائنا تحريم ذبائح الكفار مطلقا سواء كانوا أهل ملة كاليهود والنصارى والمجوس أو لا كعباد الأوثان والنيران وغيرهما، ذهب إليه الشيخان والسيد المرتضى وسلار وابن البراج وأبو الصلاح وابن حمزة وابن إدريس. (4) قال الشيخ في الخلاف: ج 6 كتاب الصيد والذبائح مسألة (6): التسمية واجبة عند إرسال السهم وإرسال الكلب وعند الذبيحة، فمتى لم يسم مع الذكر لم يحل أكله، وإن نسيه لم يكن به بأس، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. انظر احكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 310 و 318، والمبسوط للسرخسي: ج 11 ص 236، واللباب: ج 3 ص 116، وعمدة القارئ: ج 21 ص 93، وفتح الباري: ج 9 ص 601، وبدائع الصنائع: ج 5 ص 46، والحاوي الكبير: ج 15 ص 11، والبحر الزخار: ج 5 ص 296. (*)
[ 612 ]
من المشركين * (ليجدلوكم) * بقولهم: ولاتأكلون مما قتله الله * (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به، ثم مثل سبحانه من هداه بعد الضلالة ب * (من كان ميتا) * فأحياه وجعل * (له نورا) * يستضئ به بين * (الناس) *، ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا يخرج منها، وقوله: * (كمن مثله) * معناه: كمن صفته هذه وهي قوله: * (في الظلمت ليس بخارج منها) * بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج، كقوله: * (مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهر) * (1) أي: صفتها هذه وهي قوله: * (فيها أنهر) *، * (كذا لك زين للكفرين) * عن الحسن: زينه - والله - لهم الشيطان وأنفسهم (2). * (وكذا لك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وم ايشعرون (123) وإذا جاءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآأوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) * (124) سورة الأنعام / 124 و 125 المعنى: خليناهم وشأنهم * (ليمكروا فيها) * ولم نكفهم عن المكر، وخص الأكابر لأنهم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، وهو كقوله: * (أمرنا مترفيها) * (3) تقول: هو أكبر قومه، وهم أكابر قومهم * (وما يمكرون إلا بأنفسهم) * لأن مكرهم يحيق بهم (4)، روي: أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في (1) محمد: 15. (2) حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 13 ص 171. (3) الاسراء: 16. (4) حاق بهم الأمر: لزمهم ووجب عليهم ونزل. (القاموس المحيط: مادة حاق). (*
[ 613 ]
الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولانتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت (1). ونحوها قوله: * (بل يريد كل امرى منهم أن يؤتى صحفا منشرة) * (2)، * (الله أعلم) * كلام مستأنف للإنكار عليهم، أي: إن الله لايصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بموضعها * (سيصيب) * أكابر الذين أجرموا * (صغار) * وقمأة (3) بعد كبرهم وعظمهم * (وعذاب شديد) * في الدارين. * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذا لك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * (125) * (فمن يرد الله أن يهديه) * أي: يلطف به ويوفقه، ولا يفعل ذلك إلا بمن يعلم أن له لطفا * (يشرح صدره للاسلم) * بأن يثبت عزمه عليه ويقوي دواعيه على التمسك به، لطفا له بذلك ومنا عليه حتى يحب الدخول فيه وتسكن نفسه إليه * (ومن يرد أن يضله) * أي: يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لالطف له * (يجعل صدره ضيقا حرجا) * بأن يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو من قبول الحق، وينسد فلا يدخله الإيمان، وقرئ: * (حرجا) * بفتح الراء وكسرها (4)، فالفتح على (1) رواها الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 63، والرازي في تفسيره: ج 13 ص 173 عن مقاتل، وأشار إليها الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 288. (2) المدثر: 52. (3) قمأ قمأة وقماءة وقمأة: ذل وصغر. (القاموس المحيط: مادة قمأ). (4) وهي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر. انظر التبيان: ج 4 ص 263، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 268، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 410. وحكاها الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 353 ونسبها إلى ابن عباس وعمر. (*)
[ 614 ]
الوصف بالمصدر * (كأنما يصعد في السماء) * أي: يتصعد في السماء، أي: كأنما يزاول أمرا غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة، وقرئ: " يصاعد " (1) أي: يتصاعد * (كذا لك يجعل الله الرجس) * أي: الخذلان ومنع التوفيق (2)، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب، أو أراد الفعل الذي يؤدي إلى الرجس وهو العذاب (3). سورة الأنعام / 127 و 128 * (وهذا صرا ط ربك مستقيما قد فصلنا الايت لقوم يذكرون (126) لهم دار السلم عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون (127) ويوم يحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنآ أجلنا الذى أجلت لنا قال النار مثويكم خلدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) * (128) * (وهذا) * طريق * (ربك) * وعادته في التوفيق والخذلان * (مستقيما) * عادلا مطردا لااعوجاج فيه، وانتصب على أنه حال مؤكدة نحو قوله: * (وهو الحق مصدقا) * (4)، * (لهم دار السلم) * أي: للذين تذكروا وعرفوا الحق دار الله يعني الجنة (5)، أضافها إلى نفسه تعظيما لها، أو دار السلامة من كل آفة وبلية (6) * (عند (1) قرأه أبو بكر عن عاصم والنخعي. راجع التبيان: ج 4 ص 263، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 269، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 83. (2) وهو اختيار أبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 206، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 64. (3) وهو قول ابن زيد على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 83. (4) البقرة: 91. (5) وهو قول الحسن والسدي. انظر تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 364، والتبيان: ج 4 ص 271، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 167، واختاره البغوي في تفسيره: ج 2 ص 130، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 83. (6) وهو قول الزجاج والجبائي على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 4 ص 271، = (*)
[ 615 ]
ربهم) * أي: هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم إليها لا محالة، كما تقول: لفلان عندي حق لا ينسى * (وهو وليهم) * مواليهم ومحبهم * (بما كانوا يعملون) * أي: بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون، " ويوم نحشرهم " (1) منصوب بمحذوف، أي: واذكر يوم نحشرهم، أو يوم نحشرهم * (جميعا) * قلنا: * (يمعشر الجن) *، أو يوم نحشرهم وقلنا: * (يمعشر الجن) * كان مالايوصف لفظاعته، والجن هم الشياطين * (قد استكثرتم من الانس) * أضللتم منهم كثيرا كما يقال: استكثر فلان من الأشياع * (وقال أولياؤهم من الانس) * الذين اتبعوهم وأطاعوهم: * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) * أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات ومايوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم * (وبلغنآ أجلنا الذى أجلت لنا) * يعنون يوم البعث * (قال) * الله تعالى لهم: * (النار مثويكم) * أي: مقامكم * (خلدين فيها) * مؤبدين * (إلا ما شاء الله) * من أوقات حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم (2)، وقيل: إن الاستثناء لغير الكفار من عصاة المسلمين فإنهم في مشية الله إن شاء سبحانه عذبهم وإن شاء عفا عنهم، أو لمن آمن من الكفار (3). = والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 167 عن الزجاج، وانظر معاني القرآن: ج 2 ص 290 - 291. (1) وهي قراءة الجمهور غير عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح. انظر التبيان: ج 4 ص 272، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 269، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 410، والتيسير للداني: ص 107، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 451 - 452. (2) وهو اختيار الرماني والبلخي والطبري والزجاج والجبائي على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 274. (3) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 131، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 84. (*)
[ 616 ]
* (وكذا لك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون (129) يمعشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم ءايتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيوة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين) * (130) أي: * (و) * مثل ذلك * (نولي بعض الظلمين بعضا) * نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضا كما فعل الشياطين وغواة الإنس * (بما كانوا يكسبون) * أي: بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي * (ألم يأتكم رسل منكم) * اختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم ؟ فقال بعضهم: بعث إليهم رسول من جنسهم (1)، وتعلق بظاهر هذه الآية، وقال الآخرون: الرسل من الإنس خاصة (2)، وإنما قيل: * (رسل منكم) * لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (3) وإن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب، وعن ابن عباس: إنما بعث الرسول من الإنس، ثم كان هو يرسل إلى الجن رسولا منهم (4) * (يقصون) * أي: يتلون * (عليكم) * حججي ودلائلي ويخوفونكم * (لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا) * هذا حكاية لتصديقهم وإيجابهم (1) وهو قول الضحاك على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 170، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 131، والشيخ في التبيان: ج 4 ص 277 وقال: وبه قال الطبري واختاره البلخي أيضا وهو الأقوى. وفي تفسير القرطبي: ج 7 ص 86: قاله الضحاك ومقاتل. (2) وهو قول ابن جريج والفراء والزجاج والرماني والبلخي والطبري على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 276 - 277، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 170. وحكاه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 131، والقرطبي أيضا: ج 7 ص 86 ونسباه إلى مجاهد والكلبي وابن عباس على رواية. (3) الرحمن: 22. (4) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 277، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 170، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 86، وانظر تفسير الطبري: ج 5 ص 343 - 344. (*)
[ 617 ]
قوله، وإقرارهم بأن حجة الله لازمة لهم. * (ذا لك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غفلون (131) ولكل درجت مما عملوا وما ربك بغفل عما يعملون (132) وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين (133) إن ما توعدون لات ومآأنتم بمعجزين (134) قل يقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظلمون) * (135) * (ذا لك) * إشارة إلى ما تقدم من بعثه الرسل إليهم، وتقديره: الأمر ذلك * (أن لم يكن ربك) * تعليل، أي: الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك * (مهلك القرى بظلم) * أي: بسبب ظلم أقدموا عليه (1)، أو ظالما على معنى: أنه لو أهلكهم من غير تنبيه برسول وكتاب لكان ظالما وهو متعال عن الظلم (2) * (ولكل) * من المكلفين * (درجت مما عملوا) * أي: مراتب من أعمالهم على حسب ما يستحقونه، وقيل: أراد درجات ودركات من جزاء أعمالهم فغلب منازل أهل الجنة (3) * (وما ربك بغفل) * أي: بساه * (عما يعملون) * فلا يخفى عليه مقاديره وما يستحق عليه * (وربك الغنى) * عن عباده وعن عبادتهم * (ذو الرحمة) * يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع العظيمة التي لا يحسن إيصالهم إليها إلا بالاستحقاق لاقترانها بالتعظيم والإجلال * (إن يشأ يذهبكم) * أيها العصاة (1) وهو قول مقاتل على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 172. (2) وهو قول مجاهد والفراء والجبائي. راجع التبيان: ج 4 ص 278، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 172، ومعاني القرآن: ج 1 ص 355. (3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 67، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 230. (*)
[ 618 ]
* (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) * أي: وينشئ من بعد إهلاككم وإذهابكم خلقا غيركم يطيعونه يكونون خلفا لكم * (كمآ أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين) * تقدموكم * (إن ما توعدون) * من الحشر والثواب والعقاب وتفاوت أهل الجنة والنار في الدرجات والدركات * (لات) * لا محالة * (ومآأنتم) * بخارجين من ملكه * (اعملوا على مكانتكم) * المكانة تكون مصدرا ل " مكن ": إذا تمكن أبلغ التمكن، ويكون بمعنى المكان يقال: مكان ومكانة ومقام ومقامة، أي: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم (1)، أو اعملوا على حالكم التي أنتم عليها (2) * (إنى عامل) * على مكانتي التي أنا عليها، والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم * (فسوف تعلمون) * أينا تكون له العاقبة المحمودة، وهذا نحو قوله: * (اعملوا ما شئتم) * (3) في أنه على طريق التهديد والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر، فكأنه واجب عليه وهو مأمور به ليس له أن يعمل بخلافه * (من تكون له عقبة الدار) * إن كان بمعنى " أي " فمحله الرفع ويكون تعليقا، وإن كان بمعنى " الذي " فمحله النصب (4)، و * (عقبة الدار) * العاقبة: الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها، وهو وعيد. سورة الأنعام / 136 و 137 * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعم نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله (1) وهو قول أبو زيد على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 283، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 293، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 231. (2) وهو اختيار النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 97. (3) فصلت: 40. (4) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 355، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 231. (*)
[ 619 ]
فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) * (136) يعني: كفار مكة وأسلافهم، كانوا يعينون أشياء * (من الحرث والانعم) * لله وأشياء منهما لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوه لله ناميا زاكيا رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للآلهة تركوه لها، واعتلوا لذلك بأن الله غني (1)، وقوله: * (مما ذرأ) * فيه أن الله هو الذي ذرأه وزكاه، فكان أولى بأن يجعل له الزاكي، وقرئ: " بزعمهم " بضم الزاي (2) وفتحها، أي: زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك، وسمي الأوثان شركاءهم لأنهم أشركوهم في أموالهم وفي أنعامهم * (ساء ما يحكمون) * في إيثار آلهتهم على الله سبحانه، وعملهم على ما لم يشرع لهم. * (وكذا لك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137) وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لايطعمهآ إلا من نشاء بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) * (138) أي: ومثل ذلك التزيين الذي هو تزيين الشرك في قسمة القربات بين الله وآلهتهم * (زين) * لهم * (شركاؤهم) * من الشياطين (3)، أو من سدنة الأصنام (4) (1) انظر تفسير البغوي: ج 2 ص 133. (2) وهي قراءة يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي. راجع تفسير القرطبي: ج 7 ص 90، والتبيان: ج 4 ص 284، وتفسير البغوي: ج 2 ص 133، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 270. (3) وهو قول الحسن ومجاهد والسدي. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 365، والتبيان: ج 4 ص 287. (4) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 357، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 294، وحكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 4 ص 287، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 174. (
[ 620 ]
* (قتل أولدهم) * بالوأد خيفة العيلة أو العار، وقرئ: " زين " على البناء للمفعول الذي هو قتل " أولادهم " بالنصب " شركائهم " بالجر على إضافة " قتل " إلى " شركائهم " (1) والفصل بينهما بغير الظرف كما جاء في الشعر: فزججتها بمزجة * زج القلوص أبي مزاده (2) سورة الأنعام / 138 و 139 والتقدير: زين لهم أن قتل شركاؤهم أولادهم * (ليردوهم) * أي: ليهلكوهم بالإغواء * (وليلبسوا عليهم دينهم) * وليخلطوه عليهم ويشبهوه، ودينهم هو ما كانوا عليه من دين إسماعيل، وقيل: دينهم الذي كان يجب أن يكونوا عليه (3) * (ولو شآء الله) * مشية قسر * (ما فعلوه) * أي: ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل * (فذرهم وما يفترون) * أي: وافتراءهم أو ما يفترونه من الإفك * (حجر) * فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن بمعنى المذبوح والمطحون، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات (4)، وعن ابن مسعود وأبي: " حرج " (5) وهو من التضييق، وكانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم (1) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 286، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 270، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 411. (2) البيت من الكامل، ولم نقف على قائله فيما توفرت لدينا من مصادر، قال الشيخ في التبيان: أنشده بعض الحجازيين ذكره أبو الحسن. وفي خزانة الأدب: قال ابن خلف: هذا البيت يروى لبعض المدنيين المولدين. والمزجة: الرمح القصير، وأبو مزادة: كنية رجل، أراد أنه طعن الناقة أو الجماعة، وقيل: امرأته كطعن أبي مزادة القلوص في السير. انظر التبيان: ج 4 ص 286، وخزانة الأدب: ج 4 ص 415، وكتاب سيبويه: ج 1 ص 88، والخصائص: ج 2 ص 406، والقاموس المحيط: مادة (زج). (3) حكاه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 70. (4) انظر الكشاف: ج 2 ص 71. (5) حكاه عنهما ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 46، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 94، وأبو حيان الأندلسي في بحره: ج 4 ص 231. وانظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 99. (*)
[ 621 ]
لآلهتهم قالوا: * (لايطعمهآ إلا من نشاء) * يعنون خدم الأصنام والرجال دون النساء * (بزعمهم) * من غير حجة لهم فيه * (وأنعم حرمت ظهورها) * هي البحائر والسوائب والحوامي * (وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها) * في الذبح والنحر وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام، وقيل: لا يحجون عليها ولايلبون على ظهورها (1)، والمعنى: أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر وهذه أنعام محرمة الظهور وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله، فجعلوها أجناسا بدعواهم الباطلة، ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله * (افتراء عليه) * أي: فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء، فهو مفعول له أو حال (2). * (وقالوا مافى بطون هذه الانعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوا جنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139) قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) * (140) كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: إن ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث، وأنث * (خالصة) * للحمل على المعنى، لأن * (ما) * في معنى الأجنة، وذكر * (محرم) * للحمل على اللفظ (3)، ويجوز أن يكون التاء للمبالغة كالتاء في " راوية الشعر " (4)، وأن يكون مصدرا (1) قاله أبو وائل على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 289، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 176، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 95. (2) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 236. (3) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 358، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 295، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 237. (4) وهو اختيار الكسائي والأخفش على ما حكاه عنهما القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 95، = (*)
[ 622 ]
وقع موقع الخالص كالعافية أي: ذو خالصة، ويدل عليه قراءة من قرأ: " خالصة " بالنصب (1) على أن قوله: * (لذكورنا) * هو الخبر و " خالصة " مصدر مؤكد * (وإن يكن ميتة) * وإن يكن ما في بطونها ميتة، وقرئ: " وإن تكن " (2) على: وإن تكن الأجنة ميتة، وقرئ: " وإن تكن " بالتأنيث " ميتة " بالرفع (3) على " كان " التامة، وذكر الضمير في قوله: * (فهم فيه شركاء) * لأن الميتة لكل ميت ذكرا أو أنثى، فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء * (سيجزيهم وصفهم) * أي: جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله: * (وتصف ألسنتهم الكذب) * (4) * (هذا حلل وهذا حرام) * (5)، * (سفها بغير علم) * أي: جهلا وخفة حلم وذهابا عن الصواب، جهلوا أن الله هو رازق أولادهم لاهم، وقرئ: " قتلوا " بالتشديد (6) * (وحرموا ما رزقهم) * من البحائر والسوائب وغيرهما. سورة الأنعام / 141 * (وهو الذى أنشأ جنت معروشت وغير معروشت والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشبها وغير متشبه كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب = وراجع معاني القرآن: ج 2 ص 506. (1) وهي قراءة ابن عباس وقتادة وابن جبير والأعرج. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 231، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 99، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 96. (2) قرأه ابن عامر إلا الداحوني عن هشام وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر. راجع التبيان: ج 4 ص 290، وتفسير البغوي: ج 2 ص 135، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 271، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 412. (3) وهي قراءة ابن عامر. انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 270، والتبيان: ج 4 ص 303. (4) النحل: 62. (5) النحل: 116. (6) قرأه ابن كثير وابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 292، وتفسير البغوي: ج 2 ص 135، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 271. (*)
[ 623 ]
المسرفين) * (141) ثم ذكر سبحانه إنشاءه الأشياء فقال: * (وهو الذى أنشأ جنت) * من الكروم * (معروشت) * مسموكات مرفوعات بالدعائم * (وغير معروشت) * متروكات على وجه الأرض لم تعرش * (والنخل والزرع) * أي: وأنشأ النخل والزرع * (مختلفا أكله) * في اللون والطعم والحجم والرائحة وهو ثمره الذي يؤكل، والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه، و * (مختلفا) * حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك * (و) * أنشأ * (الزيتون والرمان متشبها) * في الطعم واللون والحجم * (وغير متشبه) * فيها، وإنما قال: * (إذا أثمر) * ليعلم أن وقت إباحة الأكل * (من ثمره) * وقت الإطلاع (1)، ولا يتوهم أنه غير مباح أكله قبل وقت الإيناع * (وءاتوا حقه يوم حصاده) * وهو ما تيسر إعطاؤه المساكين من الضغث (2) بعد الضغث والحفنة (3) بعد الحفنة وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (4)، وقيل: إنه الزكاة: العشر أو نصف العشر (5)، أي: لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء * (ولا تسرفوا) * بأن تتصدقوا بالجميع ولاتبقوا للعيال شيئا. * (ومن الانعم حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوا ت الشيطن إنه لكم عدو مبين (142) ثمنية أزوا ج من الضأن اثنين ومن (1) طلع النخل: خرج طلعه، والطلع ما يبدو من الثمرة في أول ظهورها. (القاموس المحيط: مادة طلع). (2) الضغث: قبضة حشيش. (القاموس المحيط: مادة ضغث). (3) الحفنة: ملء الكف. (القاموس المحيط: مادة حفن). (4) انظر التبيان: ج 4 ص 295. (5) وهو قول ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن وسعيد بن المسيب وطاووس وجابر بن عبد الله وبريد وقتادة والضحاك. راجع التبيان: ج 4 ص 295، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 99. (*)
[ 624 ]
المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الانثيين أمااشتملت عليه أرحام الانثيين نبونى بعلم إن كنتم صدقين (143) ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين أم كنتم شهداء إذ وصيكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظلمين) * (144) سورة الأنعام / 143 و 144 عطف * (حمولة وفرشا) * على * (جنت) * أي: * (و) * أنشأ * (من الانعم) * ما تحمل عليه الأثقال ومايفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش (1)، وقيل: الحمولة: الكبار التي تصلح للحمل، والفرش: الصغار لدنوها من الأرض فهي كالفرش المفروش عليها (2) * (ثمنية أزوا ج) * بدل من * (حمولة وفرشا) *، * (اثنين) * أي: زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى كالكبش والنعجة (3) والتيس (4) والعنز (5) والجمل والناقة والثور والبقرة، فإن الواحد يسمى فردا إذا كان وحده وإذا كان معه غيره من جنسه فهما زوجان، يدل عليه قوله: * (خلق الزوجين الذكر والانثى) * (6) وقوله: * (ثمنية أزوا ج) * ثم فسرها بقوله: * (من (1) وهو اختيار النحاس في إعراب القرآن: ج ص 101، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 73. (2) قاله ابن مسعود وابن عباس على رواية والحسن ومجاهد على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 297، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 179. وهو اختيار أبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 207، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 298. (3) النعجة: الانثى من الضأن. (القاموس المحيط: مادة نعج). (4) التيس: الذكر من الظباء والمعز والوعول، أو إذا أتى عليه سنة. (القاموس المحيط: مادة تيس). (5) العنز: الانثى من المعز. (القاموس المحيط: مادة عنز). (6) النجم: 45. (*)
[ 625 ]
الضأن اثنين ومن المعز اثنين) * و * (من الابل اثنين ومن البقر اثنين) *، والضأن والمعز جمع ضائن وماعز، والهمزة في * (ءآلذكرين) * للإنكار، والمراد ب " الذكرين " الذكر من الضأن ومن المعز وب * (الانثيين) * الأنثى من الضأن ومن المعز، والمعنى: إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم: ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولامما تحمل إناث الجنسين، وكذلك القول في * (ءآلذكرين) * من جنسي الإبل والبقر و * (الانثيين) * منهما وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها كيفما كانت ذكرا (1) أو إناثا أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون: قد حرمها الله، فأنكر ذلك عليهم * (نبونى بعلم) * أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم * (إن كنتم صدقين) * في أن الله حرمه * (أم كنتم شهداء) * بل أكنتم شهداء حين أمركم ربكم بهذا التحريم ؟ ! ومعناه: أعرفتم توصية الله به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون: إن الله حرم هذا الذي تحرمونه ؟ ! * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * فنسب إليه تحريم ما لم يحرم * (ليضل الناس) * وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب، فقوله: * (وهو الذى أنشأ جنت) * تمامه عند قوله: * (وصيكم الله بهذا) *، وقوله: * (كلوا من ثمره) * إلى قوله: * (المسرفين) * اعتراض، وكذلك قوله: * (كلوا مما رزقكم الله) * و * (نبونى بعلم) * إلى تمام الآيتين، والاعتراضات لتأكيد التحليل والاحتجاج على من ذهب إلى التحريم. * (قل لاأجد في مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به (1) كذا في جميع النسخ، والأصح والأنسب " ذكورا ". (*)
[ 626 ]
فمن اضطر غير باغ ولاعاد فإن ربك غفور رحيم) * (145) ثم أخذ في بيان المحرمات، وقوله: * (في مآ أوحى إلى) * إيذان بأن التحريم إنما يثبت بوحي من الله لا بما تهواه النفوس * (محرما) * أي: طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها * (إلا أن يكون ميتة) * أي: إلا أن يكون الشئ المحرم ميتة * (أو دما مسفوحا) * مصبوبا سائلا كالدم في العروق لاكالكبد أو المختلط باللحم لا يمكن تخليصه منه * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * أي: نجس * (أو فسقا) * عطف على المنصوب قبله و * (أهل) * صفة له * (فمن اضطر) * فمن دعته الضرورة إلى أكل شئ من هذه المحرمات * (غير باغ) * على مضطر مثله * (ولاعاد) * أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله. * (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلاماحملت ظهورهمآ أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذا لك جزينهم ببغيهم وإنا لصدقون (146) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة وا سعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) * (147) ذو الظفر: كل ماله إصبع من دابة أو طائر * (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) * هو كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط، والمعنى: أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شئ منه، ولم يحرم عليهم من البقر والغنم إلا الشحوم الخاصة وهي الثروب (1) وشحوم الكلى، وقوله: * (إلاماحملت ظهورهمآ) * معناه: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب * (أو سورة الأنعام / 146 - 148 الحوايآ) * أو ما اشتمل على الأمعاء * (أو ما اختلط بعظم) * وهو شحم الألية (1) الثرب: شحم رقيق يغشي الكرش والأمعاء. (القاموس المحيط: مادة ثرب). (
[ 627 ]
* (ذا لك) * الجزاء * (جزينهم ببغيهم) * بسبب ظلمهم * (وإنا لصدقون) * فيما أوعدنا به العصاة، وفي الإخبار عن بغيهم * (فإن كذبوك) * فيما تقول * (فقل ربكم ذو رحمة وا سعة) * لا يعجل بالعقوبة، ولا يدفع عذابه إذا جاء وقته. * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله مآأشركنا ولاء ابآؤنا ولاحرمنا من شئ كذا لك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البلغة فلو شآء لهديكم أجمعين (149) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بايتنا والذين لا يؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون) * (150) هذا إخبار بماسوف يقولونه، ثم لما قالوه قال: * (وقالوا لو شآء الرحمن ماعبدنهم) * (1) زعموا أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ماحرموه بمشيئة الله تعالى وإرادته، ولولا أنه شاء ذلك لم يكن شئ منه، وهذا مذهب المجبرة بعينه * (كذا لك) * جاء (2) * (الذين من قبلهم) * بالتكذيب المطلق، لأن الله سبحانه ركب في العقول مادل على علمه بالقبائح، وبغناه عنها وبراءته عن مشيئة القبائح وإرادتها، وأخبر أنبياءه بذلك، فمن علق وجود الكفر بمشيئته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره * (كذا لك) * أي: مثل ذلك التكذيب الذي صدر من هؤلاء * (كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا (1) الزخرف: 20. (2) في بعض النسخ: حال. (*)
[ 628 ]
بأسنا) * حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم * (قل هل عندكم من علم) * من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم * (فتخرجوه لنآ) * وهذا من التهكم والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة * (إن تتبعون) * أي: ماتتبعون في قولكم هذا * (إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) * تقدرون أن الأمر كما تزعمون، أو تكذبون * (قل فلله الحجة البلغة) * أي: فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم، فإنه يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئة الله * (فلو شآء لهديكم أجمعين) * منكم ومن مخالفيكم (1) في الدين، فينبغي أن توالوهم ولا تعادوهم لأن المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وماهم عليه * (هلم) * يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وبنو تميم تؤنث وتجمع (2)، والمعنى: هاتوا * (شهداءكم الذين يشهدون) * بصحة ما تدعونه من * (أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * أي: لاتسلم لهم ما شهدوا به ولاتصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد مثل شهادتهم وكان واحدا منهم. سورة الأنعام / 151 * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألاتشركوا به شيا وبالوا لدين إحسنا ولا تقتلوا أولدكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفوا حش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذا لكم وصبكم به لعلكم تعقلون) * (151) * (ما حرم) * منصوب ب * (أتل) * بمعنى: أتل الذي حرمه ربكم، أو ب * (حرم) * بمعنى: أتل أي شئ حرم ربكم لأن التلاوة من القول (3)، و " أن " في " أن (1) في نسخة: مخالفتكم. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 246. (3) قال الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 248: و " ما " على هذا تكون = (*)
[ 629 ]
لا تشركوا " مفسرة و " لا " للنهي (1)، وإن جعلت " أن " الناصبة للفعل كان * (ألا تشركوا) * بدلا من * (ما حرم) *، إلا أن القول الأول أوجه ليكون " لا تشركوا "، * (ولا تقربوا) *، * (ولا تقتلوا) *، * (ولا تتبعوا السبل) * نواهي وتنعطف الأوامر عليها وهي قوله: * (وبالوا لدين إحسنا) * فإن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا * (وأوفوا) *، * (وإذا قلتم فاعدلوا) *، ويجوز أن تقف على قوله: * (حرم ربكم) * ثم تبتدئ فتقول: * (عليكم ألاتشركوا) * أي: عليكم ترك الإشراك، على أن يكون " أن " الناصبة للفعل * (ولا تقتلوا أولدكم من إملق) * أي: من أجل إملاق وخشيته، وهو الفقر (2) * (الفوا حش) * المعاصي والقبائح * (ما ظهر منها وما بطن) * مثل قوله: * (وذروا ظهر الاثم وباطنه) * (3)، وعن الباقر (عليه السلام): " ما ظهر هو الزنا، وما بطن هو المخالة " (4)، وأعاد ذكر النهي عن القتل وإن كان داخلا في الفواحش تعظيما لأمره * (إلا بالحق) * كالقصاص والقتل على الردة والرجم، و * (النفس التى حرم الله) * هي نفس المسلم والمعاهد. * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذا لكم وصبكم به لعلكم تذكرون (152) وأن هذا صرا طى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن = استفهامية، و " عليكم " يحتمل أن يكون من صلة التلاوة، وأن يكون من صلة التحريم. (1) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 364، وحكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 106، واختاره الزمخشري أيضا في الكشاف: ج 2 ص 78 - 79. (2) وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن جريج والضحاك على ما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 315، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 186. (3) الأنعام: 120. (4) التبيان: ج 4 ص 316. (*)
[ 630 ]
سبيله ذا لكم وصيكم به لعلكم تتقون) * (153) المراد بالقرب التصرف فيه * (إلا بالتى هي أحسن) * بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره، والمعنى: احفظوه عليه * (حتى يبلغ أشده) * وهو بلوغ الحلم وكمال العقل، ثم ادفعوه إليه * (بالقسط) * بالتسوية (1) والعدل * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * وهو ما يسعها ولا تعجز عنه، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والوزن ذلك، لأن مراعاة التعديل فيهما على الحد الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يتعذر، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه * (وإذا قلتم فاعدلوا) * أي: فقولوا الحق * (ولو كان) * المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها * (ذا سورة الأنعام / 153 قربى) * من القائل، أي: من أهل قرابته * (وأن هذا صرا طى مستقيما) * قرئ بالفتح على تقدير: ولأن هذا صراطي مستقيما * (فاتبعوه) *، وهذا على قياس قول سيبويه في نحو قوله: * (وأن المسجد لله فلا تدعوا) * (2) و * (لا يلف قريش... فليعبدوا) * (3) فيكون - على هذا - قوله: * (وأن هذا صرا طى مستقيما) * علة للاتباع (4)، وقرئ: " وأن هذا " بالتخفيف (5) على: وأنه هذا صراطي على أن الهاء ضمير الشأن، وقرئ: " وإن " بالكسر (6) فيكون كأنه قيل: واتبعوا صراطي إنه مستقيم * (ولا تتبعوا السبل) * الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية (1) في نسخة: بالسوية. (2) الجن: 18. (3) قريش: 1 - 3. (4) كتاب سيبويه: ج 1 ص 464، وحكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 107. (5) وهي قراءة ابن عامر ويعقوب. راجع التبيان: ج 4 ص 319، وتفسير البغوي: ج 2 ص 142، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 273، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 413، والتيسير للداني: ص 108. (6) قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 319، وتفسير البغوي: ج 2 ص 142، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 273، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 413. (*)
[ 631 ]
والمجوسية وسائر البدع والشبهات * (فتفرق بكم) * أصله تتفرق، أي: فتفرقكم أيادي سبأ (1) * (عن سبيله) * عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام، وقرئ: " فتفرق " بإدغام التاء في التاء (2). وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله) خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية: * (وأن هذا صرا طى مستقيما) * (3). وعن ابن عباس: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شئ من جميع الكتب (4). * (ثم ءاتينا موسى الكتب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154) وهذا كتب أنزلنه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155) أن تقولوا إنما أنزل الكتب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغفلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من (1) ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيدي سبأ. مثل يضرب في من تفرقوا تفرقا لااجتماع معه، وسبأ هو رجل من العرب ولد عشرة، تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تيامنوا: فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وإنما رمنهم بجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام وهم الذين أرسل عليهم سيل العرم بفعل جرد بعثه الله سبحانه فنقبت ردمهم الذي ابتنوه بعدما كذبوا رسولهم، فانتقض الردم فدخل الماء جنتيهم فغرقهما ودفن السيل بيوتهم، فذلك قوله تعالى: * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) *. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 287. (2) قرأه ابن فليح والبزي إلا القواس. انظر التبيان: ج 4 ص 319، وكتاب العنوان في القراءات لابن خلف الأندلسي: ص 93. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 2 ص 318 باسناده عن عبد الله، وليس فيه لفظ " الرشد "، والتلخيص للذهبي المطبوع بهامش المستدرك. (4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 80، والهمداني في الفريد: ج 2 ص 252. (*)
[ 632 ]
ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بايت الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن ءايتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون) * (157) سورة الأنعام / 157 و 158 عطف * (ثم ءاتينا) * على * (وصيكم به) * والمعنى: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ثم إنا آتينا * (موسى الكتب) *، وقيل: هو عطف على ما تقدم من قوله: * (ووهبنا له إسحق ويعقوب) * (1) (2)، * (تماما على الذى أحسن) * أي: تماما للكرامة والنعمة على من كان محسنا صالحا يريد جنس المحسنين (3)، أو أراد به موسى (عليه السلام) أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به (4)، أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع (5)، من أحسن الشئ: إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه على وجه التتميم * (أن تقولوا) * كراهة أن تقولوا: * (إنما أنزل الكتب على طائفتين) * يريدون اليهود والنصارى * (وإن كنا) * هي المخففة من المثقلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي: وإنه * (كنا عن دراستهم لغفلين) * والهاء ضمير الشأن (6)، والدراسة: القراءة، أي: لم نعرف مثل دراستهم * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتب لكنا (1) الأنعام: 84. (2) حكاه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 321 ونسبه الى أبي مسلم وقال: واستحسنه المغربي. (3) وهو قول مجاهد كما في التبيان: ج 4 ص 321، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 80. (4) وهو قول الربيع، واختاره الفراء والزجاج. انظر التبيان: ج 4 ص 321، ومعاني القرآن للفراء: ج 1 ص 365، ومعاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 306. (5) وهو اختيار أبي علي الجبائي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 321. (6) وهو مذهب البصريين، وعند الكوفيين " إن " النافية بمعنى " ما "، واللام بمعنى " إلا ". انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 255. (*)
[ 633 ]
أهدى منهم) * في المبادرة إلى قبوله والتمسك به لجودة أذهاننا وثقابة (1) أفهامنا، فإن العرب كانوا يدلون بحدة الذهن وذكاء (2) الحدس وحفظ أيامهم ووقائعهم وخطبهم وأشعارهم * (فقد جاءكم بينة من ربكم) * تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ: " يقولوا " بالياء (3) على لفظ الغيبة أحسن لما فيه من الالتفات، والمعنى: إن صدقتم فيما كنتم تعدونه من أنفسكم * (فقد جاءكم بينة من ربكم) * فحذف الشرط * (فمن أظلم ممن كذب بايت الله) * بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك * (وصدف عنها) * الناس فضل وأضل. * (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض ءايت ربك يوم يأتي بعض ءايت ربك لا ينفع نفسا إيمنها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) * (158) أي: ما ينتظر هؤلاء * (إلا أن تأتيهم) * ملائكة الموت أو العذاب * (أو يأتي ربك) * أي: كل آيات ربك بدلالة قوله: * (أو يأتي بعض ءايت ربك) * يريد آيات القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات (4): أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك * (يوم يأتي بعض ءايت ربك) * التي يزول التكليف عندها * (لا ينفع نفسا إيمنها لم تكن ءامنت) * أي: لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها * (من قبل) * ظهور الآيات، ولا ينفع الكسب للخيرات في الإيمان حينئذ (1) ثقب رأيه: نفذ، وهو مثقب أي نافذ الرأي. (القاموس المحيط: مادة ثقب). (2) الذكاء: سرعة الفطنة. (القاموس المحيط: مادة ذكى). (3) وهي قراءة ابن محيصن. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 47. (4) انظر الأقوال الواردة فيها في التبيان: ج 4 ص 327. (*)
[ 634 ]
نفسا غير كاسبة لها * (في إيمنها) * من قبل ظهورها، وفي هذا دلالة على أن كسب الخير الذي هو عمل الجوارح غير الإيمان الذي هو عمل القلب، ألا ترى أنه عطف هذا على ذاك، والشئ لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره * (قل انتظروا إنا منتظرون) * وعيد وتهديد، وقرئ: * (تأتيهم الملئكة) * بالتاء والياء (1). * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبهم بما كانوا يفعلون (159) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) * (160) * (فرقوا دينهم) * بأن جعلوه أديانا * (وكانوا شيعا) * أي: أحزابا وفرقا يكفر بعضهم بعضا كل فرقة تشيع إماما لها. وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة " (2). سورة الأنعام / 159 - 162 وقرئ: " فارقوا دينهم " (3) أي: تركوه * (لست منهم في شئ) * أي: من السؤال عنهم وعن تفرقهم (4)، وقيل: معناه: أنك على المباعدة التامة من (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 326، وتفسير البغوي: ج 2 ص 144، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 273، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 413. (2) مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 332، المعجم الكبير للطبراني: ج 18 ص 70، سنن البيهقي: ج 10 ص 208. (3) قرأه حمزة والكسائي والأعشى، وهو المروي عن علي (عليه السلام) على ما حكاه عنه (عليه السلام) الشيخ في التبيان: ج 4 ص 328، وراجع تفسير البغوي: ج 2 ص 145، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 274، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 413. (4) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 82. (*)
[ 635 ]
الاجتماع معهم في شئ من مذاهبهم الفاسدة (1) * (إنما أمرهم) * والحكم بينهم في اختلافهم * (إلى الله) *، * (فله عشر أمثالها) * أقيمت الصفة مقام الموصوف، تقديره: عشر حسنات أمثالها، وقرئ: " عشر أمثالها " برفعهما (2) جميعا على الوصف، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، فقد وعد بالواحد سبعمائة، ووعد أضعافا مضاعفة بغير حساب، ومضاعفة الحسنات فضل ومكافأة السيئات عدل * (وهم لا يظلمون) * لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم. * (قل إننى هديني ربى إلى صرا ط مستقيم دينا قيما ملة إبرا هيم حنيفا وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العلمين (162) لا شريك له وبذا لك أمرت وأنا أول المسلمين) * (163) * (دينا) * بدل من موضع قوله: * (إلى صرا ط) * فإن المعنى: هداني صراطا، والقيم فيعل من " قام " كالسيد والهين، وقرئ: * (قيما) * وهو مصدر بمعنى القيام وصف به، و * (ملة إبرا هيم) * عطف بيان و * (حنيفا) * حال من * (إبرا هيم) * أي: هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته (3) * (إن صلاتي ونسكى) * أي: عبادتي وتقربي كله (4)، وقيل: وذبحي فجمع بين الصلاة والذبح (5)، ونحوه: (1) وهو قول الشيخ في التبيان: ج 4 ص 329. (2) قرأه الحسن ويعقوب وسعيد بن جبير والأعمش وعيسى بن عمر. راجع التبيان: ج 4 ص 329 - 330، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 414، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 151، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 5 ص 284. (3) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 258. (4) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 84، وحكاه الماوردي في تفسيره: ج 1 ص 195 ونسبه الى الزجاج. (5) قاله سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك. انظر التبيان: ج 4 ص 335، = (*)
[ 636 ]
* (فصل لربك وانحر) * (1)، وقيل: ومناسك حجي (2) * (ومحياى ومماتي) * وماآتيه في حال حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح * (لله رب العلمين) * خالصة لوجهه * (وبذا لك) * الإخلاص * (أمرت وأنا أول المسلمين) * لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته. * (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164) وهو الذى جعلكم خلئف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجت ليبلوكم في مآ ءاتبكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * (165) سورة الأنعام / 165 هذا جواب عن دعائهم إياه إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أي: منكر أن * (أبغى ربا) * غيره وهو رب كل شئ، فكل من دونه مربوب، ليس في الوجود من له الربوبية غيره، ونحوه: * (أفغير الله تأمروني أعبد) * (3)، * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * جواب عن قولهم: * (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطيكم) * (4)، * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * معناه: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى * (جعلكم خلئف الارض) * يخلف أهل كل عصر أهل العصر الذي قبله، كلما مضى قرن خلفهم قرن، يجري ذلك على انتظام واتساق إلى يوم القيامة (5)، وقيل: المراد بذلك أمة نبينا = وتفسير الماوردي: ج 2 ص 195، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 311. (1) الكوثر: 2. (2) وهو قول مقاتل على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 146. (3) الزمر: 64. (4) العنكبوت: 12. (5) وهو قول الحسن والسدي على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 4 ص 338. (*)
[ 637 ]
محمد (صلى الله عليه وآله) لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم (1) * (ورفع بعضكم فوق بعض درجت) * في الشرف والرزق (2)، وقيل: في الصورة والعقل والمال والعمر (3) * (ليبلوكم في مآ ءاتيكم) * كيف تشكرون نعمه، وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير * (إن ربك سريع العقاب) * بمن كفر نعمته * (وإنه لغفور رحيم) * لمن قام بشكرها، ووصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب. (1) قاله الطبري في تفسيره: ج 5 ص 422، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 84، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 147، وبه أكثر المفسرين. (2) وهو اختيار الشيخ في التبيان: ج 4 ص 338، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 84، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 260. (3) قاله السدي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 338، واختاره الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 197. (*)
[ 638 ]
سورة الأعراف مكية (1)، مائتان وست آيات كوفي، خمس بصري، عد الكوفي * (المص) * (2) و * (كما بدأكم تعودون) * (3)، وعد البصري * (مخلصين له الدين) * (4). في حديث أبي: " من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا وكان آدم له شفيعا يوم القيامة " (5). الصادق (عليه السلام): " من قرأها في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون، فإن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة " (6). (1) قال الماوردي: هي مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا خمس آيات وهي قوله: * (وسلهم عن القرية) * الى آخر الخمس. وقال الشيخ الطوسي (قدس سره): قال قوم: هي محكمة كلها، وقال آخرون: حرفان منها منسوخان: أحدهما: قوله: * (خذ العفو) * يريد من أموالهم وذلك قبل الزكاة، والآخر: قوله: * (وأعرض عن الجهلين) * نسخ بآية السيف، وقال قوم: ليس واحد منهما منسوخا بل لكل منهما موضع والسيف له موضع، وهو الأقوى لأن النسخ يحتاج الى دليل. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 198، والتبيان: ج 4 ص 340، والناسخ والمنسوخ لابن الجوزي: ص 33، والناسخ والمنسوخ لابن البارزي: ص 33، والناسخ والمنسوخ في القرآن لابن حزم: ص 38، والناسخ والمنسوخ لابن العربي: ج 2 ص 221. (2) الآية: 1. (3 و 4) الآية: 29. (5) مصباح الكفعمي: ص 439، الكشاف: ج 2 ص 193، وأورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 393. (6) ثواب الأعمال للصدوق: ص 132 ح 1، تفسير العياشي: ج 2 ص 2 ح 1. (*)
[ 639 ]
P * (المص (1) كتب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) * (3) أي: هو * (كتب أنزل إليك) * بأمر الله تعالى * (فلا يكن في صدرك حرج منه) * أي: من تبليغه، والحرج: الضيق، لأنه (عليه السلام) كان يخاف تكذيب قومه له وإعراضهم عن قبول قوله وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأذاء (1) ولاينبسط له، فأمنه الله سبحانه وأمره بترك المبالاة بهم * (لتنذر به) * تعلق ب * (أنزل إليك) * أي: أنزل إليك لإنذارك به * (وذكرى) * يحتمل النصب على معنى: لتنذر به وتذكر تذكيرا فإن الذكرى في معنى التذكير، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو عطف على * (كتب) *، والجر للعطف على محل " أن تنذر " أي: للإنذار والذكرى (2) * (اتبعوا (1) كذا في النسخ، والصحيح " الايذاء " إذ لم يرد في لسان العرب الأذاء مصدرا لأذى. قال ابن منظور: آذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية وتأذيت به، قال ابن البري: صوابه آذاني إيذاء فأما أذى فمصدر أذي أذى وكذلك أذاه وأذية يقال: أذيت بالشئ آذى أذى وأذاة وأذية فأنا أذ... الى أن قال: والاسم الأذية والأذاة. انظر لسان العرب: مادة (أذي). (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 266. (*)
[ 640 ]
ما أنزل إليكم) * من القرآن والوحي * (ولا تتبعوا من دونه) * الضمير ل * (ما أنزل) * أي: ولا تتبعوا من دون دين الله دين * (أولياء) * كم، أو ل * (ربكم) * أي: ولا تتبعوا من دون الله أولياء، أي: ولا تتولوا من دونه من شياطين الإنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وعما أمركم باتباعه، وعن الحسن: يابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة نبيه، والله ما أنزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت ومامعناها (1)، * (قليلا ما تذكرون) * أي: " تتذكرون " فأدغم (2)، وقرئ: * (تذكرون) * خفيفة الذال بحذف التاء، وقرئ: " يتذكرون " بياء وتاء (3) أي: يتذكرون تذكرا قليلا حيث يتركون دين الله ويتبعون غيره. * (وكم من قرية أهلكنها فجاءها بأسنا بيتا أو هم قائلون (4) فما كان دعويهم إذ جاءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظلمين) * (5) سورة الأعراف / 5 - 8 * (فجاءها) * أي: فجاء أهلها * (بأسنا) * أي: عذابنا * (بيتا) * مصدر وضع موضع الحال أي: بائتين أو قائلين، ويجوز أن لا يقدر حذف المضاف في القرية ويكون الضمير في * (أهلكنها) * للقرية، لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها، فلا حاجة بنا إلى الإضمار (4)، وقوله: * (أو هم قائلون) * لم يحتج فيه إلى الواو، لأن (1) حكاه عنه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 86. (2) لا يخفى أن المصنف (قدس سره) قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف ليست على " قراءة عاصم برواية حفص " وهي القراءة المشهورة في بلاد الشام والعراق وبعض الجزيرة العربية، وهنا في نسخة مصحفه " ما تذكرون " فقال بعدها: أي تتذكرون فادغم. وتجدر الاشارة الى أن " ما تذكرون " بتشديد الذال هي قراءة عاصم برواية أبي بكر. (3) وهي قراءة ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 343، وتفسير البغوي: ج 2 ص 148، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 278، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 417. (4) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 87، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 268 - 269. (*)
[ 641 ]
الضمير العائد قد أغنى عنه، ولأنها إذا عطفت على حال قبلها يحذف الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل (1)، والمعنى: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها عذابنا في هذين الوقتين: وقت البيات ووقت القيلولة، لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد * (فما كان دعويهم) * ما كانوا يدعون من دينهم إلا اعترافهم ببطلانه وقولهم: * (إنا كنا ظلمين) * فيما كنا عليه، أو فما كان دعاءهم ربهم إلا اعترافهم بظلمهم وتحسرهم على ماكان منهم (2)، و * (دعويهم) * خبر * (كان) *، و * (أن قالوا) * رفع لأنه اسمه، ويجوز العكس (3). * (فلنسلن الذين أرسل إليهم ولنسلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7) والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موا زينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موا زينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بايتنا يظلمون) * (9) أي: * (فلنسلن) * المرسل * (إليهم) * وهم الأمم، نسألهم عما أجابوا به رسلهم * (ولنسلن المرسلين) * عما أجيبوا به وعما عملت أممهم فيما جاءوا به * (فلنقصن عليهم) * على الرسل والمرسل إليهم ماكان منهم * (بعلم) * أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة * (وما كنا غائبين) * عنهم وعما وجد منهم، وأما المعني في سؤالهم مع علمه بأحوالهم فالتوبيخ والتقرير عليهم وازدياد سرور المثابين بالثناء عليهم وغم المعاقبين بإظهار قبائحهم (4) * (والوزن يومئذ الحق) * يعني: (1) وهو ما ذهب إليه الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 372، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 317. (2) وهو اختيار الشيخ في التبيان: ج 4 ص 346، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 318. (3) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 270. (4) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 88، وانظر تفصيل ذلك في التبيان: ج 4 = (*)
[ 642 ]
وزن الأعمال والتمييز بين خفيفها وراجحها، ورفعه على الابتداء و * (الحق) * صفته و * (يومئذ) * خبر المبتدأ (1)، أي: والوزن الحق يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق أي: العدل. واختلف في كيفية الوزن: فقيل: إنه عبارة عن القضاء الحق والحكم بالعدل (2)، وقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له كفتان تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة (3) * (فمن ثقلت موا زينه) * جمع ميزان أو موزون، فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها قدر ووزن وهي الحسنات، أو ماتوزن به حسناتهم * (بايتنا يظلمون) * أي: يكذبون بها ظلما كقوله: * (فظلموا بها) * (4). سورة الأعراف / 10 - 12 * (ولقد مكنكم في الارض وجعلنا لكم فيها معيش قليلا ما تشكرون (10) ولقد خلقنكم ثم صورنكم ثم قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من السجدين (11) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * (12) * (مكنكم في الارض) * جعلنا لكم فيها مكانا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم = ص 349 - 350. (1) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 373، وانظر تفصيله في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 272. (2) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 201 عن مجاهد، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 319 عن جرير عن الضحاك. واختاره الشيخ في التبيان: ج 4 ص 352 ونسبه الى مجاهد والبلخي والجبائي. (3) قاله ابن عمر، وذهب إليه أبو علي وعبيد بن عمير. راجع التبيان: ج 4 ص 352. واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 319. (4) الأعراف: 103. (*)
[ 643 ]
على التصرف فيها * (وجعلنا لكم فيها معيش) * جمع معيشة، وهي ما يعاش به من أنواع الرزق ووجوه النعم والمنافع، أو ما يتوصل به إلى ذلك (1)، والوجه التصريح بالياء (2)، وقرأ بعضهم بالهمزة (3) على التشبيه ب " صحائف "، * (ولقد) * خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور * (ثم) * صورناه بعد ذلك * (ثم قلنا للملئكة اسجدوا لادم) *، و " لا " في قوله: * (ألا تسجد) * صلة بدليل قوله: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى) * (4)، والفائدة في زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه (5)، كأنه قيل: ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك * (إذ أمرتك) *، لأن أمري لك بالسجود قد أوجبته عليك لابد لك منه، قال: * (أنا خير منه خلقتني من نار) * وعن ابن عباس: قاس إبليس فأخطأ القياس، وهو أول من قاس (6). وإنما دخلت الشبهة عليه من حيث ظن أن النار أشرف من الطين ومن حق الأشرف أن لا يؤمر بالسجود للأدون، فكأنه قال: من كان على مثل صفتي يستبعد (1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 89. (2) قال أبو جعفر النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحد معيشة فزدت ألف الجمع وهي ساكنة والياء ساكنة فلابد من تحريك، إذ لاسبيل الى الحذف والألف لا تحرك فحركت الياء بما كان يجب لها في الواحد، ونظيره من الواو منارة ومناور ومقامة ومقاوم. راجع إعراب القرآن: ج 2 ص 115، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 373، وقال الزجاج: وأكثر القراء على ترك الهمز... وجميع البصريين يزعمون أن همزها خطأ وذكروا أن الهمز إنما يكون في هذه الياء إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف، فأما معايش فمن العيش الياء أصلية. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 320. (3) وهي قراءة خارجة عن نافع والأعرج والأعمش. راجع معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 320، وشواذ القرآن لابن خالويه: ص 48، والتبيان: ج 4 ص 353. (4) ص: 75. (5) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 89. (6) حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 14 ص 34، ونقل الطبري في تفسيره: ج 5 ص 441 هذا القول ونسبه الى الحسن وابن سيرين. (*)
[ 644 ]
أن يؤمر بما أمرت به. * (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15) قال فبمآ أغويتني لاقعدن لهم صرا طك المستقيم (16) ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شكرين (17) قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين) * (18) سورة الأعراف / 16 - 18 * (فاهبط منها) * أي: من الجنة (1)، أو من السماء (2)، أو من الدرجة أو المنزلة التي أنت عليها (3) * (فما يكون لك أن تتكبر) * عن أمر الله * (فيها فاخرج إنك من الصغرين) * أي: من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس لباس الصغار. وفي الحديث: " من تكبر وضعه الله، ومن تواضع رفعه الله " (4). * (قال أنظرني) * أي: أمهلني وأخرني في الأجل * (إلى يوم يبعثون) * أي: يبعث الخلق من قبورهم * (قال فبمآ أغويتني) * أي: بسبب إغوائك إياي وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت (5) الملائكة، وعن بعضهم: (1) وهو اختيار أبي علي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 360. (2) وهو قول الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 371، وعنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 360، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 90، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 276. (3) وهو قول ابن بحر على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 204. (4) اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 1 ص 295. (5) في نسخة: ثبت. (*)
[ 645 ]
أمرتني بالسجود فحملتني الانفة على معصيتك (1)، فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم، والباء يتعلق بفعل القسم المحذوف (2) أي: فبسبب إغوائك إياي أقسم * (لاقعدن لهم صرا طك المستقيم) * أي: لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على المارة، وانتصب * (صرا طك) * على الظرف * (ثم لاتينهم) * من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم على كل وجه يقدر عليه، وعن الباقر (عليه السلام): * (من بين أيديهم) * أهون عليهم أمر الآخرة * (ومن خلفهم) * آمرهم بجمع الأموال ومنعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم * (وعن أيمنهم) * أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة * (وعن شمائلهم) * بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم (3) * (ولا تجد أكثرهم شكرين) * قاله تظنيا بدليل قوله: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) * (4) (5)، وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله لهم (6) * (قال اخرج منها مذءوما) * من ذأمه: إذا ذمه * (مدحورا) * مطرودا * (لمن تبعك منهم) * اللام فيه موطئة للقسم، و * (لاملان) * جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط (7) * (منكم) * أي: منك ومنهم فغلب (1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 91 ونسبه الى الأصم. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 277. (3) التبيان: ج 4 ص 365، وفي تفسير القمي: ج 1 ص 224 ما يقرب منه. (4) سبأ: 20. (5) وهو قول الحسن كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 365، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 93. (6) قاله أبو علي كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 365. (7) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 279. (*)
[ 646 ]
ضمير المخاطب كما في قوله: * (إنكم قوم تجهلون) * (1). * (ويادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين (19) فوسوس لهما الشيطن ليبدى لهما ماوورى عنهما من سوءا تهما وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخلدين (20) وقاسمهما إنى لكما لمن النصحين (21) فدلبهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءا تهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطن لكما عدو مبين) * (22) سورة الأعراف / 21 و 22 أي: * (و) * قلنا: * (يادم) *، * (فوسوس لهما الشيطن) * أي: تكلم كلاما خفيا يكرره ومنه " وسوس الحلي "، وهو فعل غير متعد، ورجل موسوس بكسر الواو ولايقال: موسوس بالفتح ولكن موسوس له أو إليه، ومعنى " وسوس له " فعل الوسوسة لأجله، و " وسوس إليه " ألقاها إليه * (ليبدى لهما) * جعل ذلك غرضا له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره مكشوفا، وفيه دليل على أن كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول، والمواراة: جعل الشئ وراء ما يستره، ولم يهمز الواو المضمومة في " ووري " كما همز واو " أويصل " لأن الواو الثانية مدة (2) * (إلا أن تكونا) * إلا كراهة أن تكونا * (ملكين) * أوهمهما أنهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيرت صورتهما إلى صورة الملك (3) * (أو تكونا من الخلدين) * من الذين لا (1) الأعراف: 138. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 281. (3) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 370: واستدل جماعة من المعتزلة بهذه الآية على أن = (*)
[ 647 ]
يموتون ويبقون في الجنة * (وقاسمهما) * وأقسم لهما: * (إنى لكما لمن النصحين) * أي: المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة، ولذلك تأكدت شبهتهما إذ ظنا أن أحدا لا يقسم بالله كاذبا * (فدلبهما بغرور) * من تدلية الدلو وهو إرسالها في البئر، أي: نزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله عزوجل، وعن قتادة: وإنما يخدع المؤمن بالله (1)، وعن ابن عمر: أنه كان إذا رأى من عبده حسن صلاة أعتقه، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له (2) * (فلما ذاقا الشجرة) * وجدا طعمها آخذين في الأكل منها * (بدت لهما سوءا تهما) * ظهرت لهما عوراتهما * (وطفقا) * يقال: طفق يفعل كذا بمعنى جعل يفعل * (يخصفان) * ورقة فوق ورقة على عوراتهما (3) كما يخصف النعل * (من ورق الجنة) * قيل: كان ورق التين (4) * (ألم أنهكما) * عتاب من الله وتنبيه على الخطأ حيث لم يحذرا ماحذرهما الله من عداوة إبليس ومكره. * (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض = الملائكة أفضل من البشر، والانبياء منهم. وهذا ليس بشئ، لأنه لم يجر هاهنا ذك لكثرة الثواب وأن الملائكة اكثر ثوابا من البشر بل كان قصد إبليس أن يقول لآدم: ما نهاك الله عن أكل الشجرة الا أن تكونا ملكين، فإن كنتما ملكين فقد نهاكما، وحيث لستما من الملائكة فما نهاكما الله عن أكلها، فتلخيص الكلام أن المنهي من اكل الشجرة هم الملائكة فقط، ومن ليس منهم فليس بمنهي، ولا تعلق لذلك بكثرة الثواب ولا بقلته. (1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 95، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 153. (2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 95. (3) وفيه دلالة على أن ستر العورة كان واجبا في ذلك الزمان. (4) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 125، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 211، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 181. (*)
[ 648 ]
مستقر ومتع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) * (25) سميا خطأهما ظلما لأنفسهما وقالا: * (لنكونن من الخسرين) * وإن كان ذلك تركا للمندوب عندنا، لأن الأنبياء معصومون منزهون عن ارتكاب القبائح على عادة أولياء الله في استعظام الصغير من الزلات واستصغار العظيم من الحسنات (1) * (اهبطوا) * الخطاب لآدم وحواء وإبليس (2)، و * (بعضكم لبعض عدو) * في محل النصب على الحال، أي: متعادين (3) يعاديهما إبليس ويعاديانه * (ولكم في الارض مستقر) * أي: موضع استقرار، أو استقرار (4) * (ومتع إلى حين) * وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم * (قال) * الله سبحانه * (فيها) * في الأرض * (تحيون) * تعيشون * (وفيها تموتون ومنها تخرجون) * عند البعث. * (يبنئ ادم قد أنزلنا عليكم لباسا يوا رى سوءا تكم وريشا ولباس التقوى ذا لك خير ذا لك من ءايت الله لعلهم يذكرون (26) يبنئ ادم لا يفتننكم الشيطن كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءا تهمآ إنه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشيطين أولياء للذين لا يؤمنون) * (27) سورة الأعراف / 26 و 27 جعل ما في الأرض منزلا من السماء لأنه ثم قضي وكتب، ومنه (5): * (وأنزل (1) انظر تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى: ص 3 - 9، وقصص الأنبياء للجزائري: في بيان عصمة الأنبياء ص 13 - 25. (2) وهو قول السدي والجبائي وابن الأخشيد كما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 375. (3) في نسخة: متعادين. (4) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 97، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 285. (5) في نسخة: مثله. (*)
[ 649 ]
لكم من الانعم ثمنية أزوا ج) * (1)، والريش: لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته، والمعنى: * (أنزلنا عليكم) * لباسين: * (لباسا يوا رى) * عوراتكم، ولباسا يزينكم * (ولباس التقوى) * وهو الورع والخشية من الله، وهو مبتدأ وخبره الجملة التي هي * (ذا لك خير) * (2)، كأنه قيل: هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر، وقيل: لباس التقوى خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، ثم قيل: * (ذا لك خير) * (3)، وقيل: المراد بلباس التقوى ما يلبس من الدروع والمغافر وغيرهما مما يتقى به في الحرب (4)، وقرئ: " ولباس التقوى " بالنصب (5) عطفا على * (لباسا) * و * (ريشا) *، * (ذا لك من ءايت الله) * الدالة على فضله ورحمته على عباده، يعني: إنزال اللباس عليهم * (لعلهم يذكرون) * فيعرفوا عظيم النعمة فيه، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت إظهارا لنعمته فيما خلق من اللباس * (لا يفتننكم الشيطن) * أي: لايضلنكم عن الدين ولايصرفنكم عن الحق بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها نفوسكم، ولايمحننكم بأن لا تدخلوا الجنة كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها * (ينزع عنهما لباسهما) * في موضع نصب على الحال، أي: أخرجهما نازعا (1) الزمر: 6. (2) وهو اختيار الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 375، والنحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 120، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 97. (3) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 286. (4) قاله زيد بن علي (عليه السلام) كما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 155، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 185 واستحسنه. (5) وهي قراءة نافع وأهل المدينة وابن عامر والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 377، وتفسير البغوي: ج 2 ص 155، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 280، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 185. (*)
[ 650 ]
لباسهما عنهما بأن كان السبب في نزع لباسهما عنهما * (إنه يريكم هو) * تعليل للنهي والتحذير من فتنة الشيطان بأنه بمنزلة العدو المداجي (1) الذي يكيدكم من حيث لا تشعرون * (وقبيله) * وجنوده من الشياطين * (من حيث لا ترونهم) * عن ابن عباس: إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم (2)، وعن قتادة: والله إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤونة إلا من عصمه الله (3) * (إنا جعلنا الشيطين أولياء للذين لا يؤمنون) * أي: خلينا بينهم وبينهم، لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من مخالفة الله. * (وإذا فعلوا فحشة قالوا وجدنا عليها ءابآءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضللة إنهم اتخذوا الشيطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) * (30) سورة الأعراف / 29 - 31 أي: * (وإذا فعلوا) * معصية كبيرة اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها، وكلاهما عذر باطل، لأن أحدهما تقليد والآخر كذب وافتراء على الله * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) * لأنه لا يفعل القبيح فكيف يأمر بفعله * (أتقولون على الله ما لا تعلمون) * إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة عليهم بالجهل * (قل أمر ربى بالقسط) * أي: بالعدل (4) وبما يشهد العقل أنه مستقيم حق (1) المداجاة: المداراة، يقال: داجيته إذا داريته، كأنك ساترته العداوة. (الصحاح: مادة دجا). (2) انظر تفسير ابن عباس: ص 125. (3) أورده المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 409، وفي معظم التفاسير أن القائل مالك بن دينار. راجع على سبيل المثال تفسير البغوي: ج 2 ص 155، والكشاف: ج 2 ص 98. (4) وهو قول مجاهد والسدي وأكثر المفسرين كما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 383، = (*)
[ 651 ]
حسن، وقيل بالتوحيد (1)، * (وأقيموا وجوهكم) * أي وقل: أقيموا وجوهكم، أي: اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها * (عند كل مسجد) * في كل وقت سجود (2)، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة (3) * (وادعوه) * واعبدوه * (مخلصين له الدين) * أي: الطاعة مبتغين بها وجهه خالصا * (كما بدأكم تعودون) * كما أنشأكم ابتداء يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة * (فريقا هدى) * وهم المؤمنون وفقهم للإيمان * (وفريقا حق عليهم الضللة) * أي: الخذلان إذ لم يقبلوا الهدى ولم يكن لهم لطف فهم يضلون ولا يهتدون، وانتصب قوله: * (وفريقا) * بفعل مضمر يفسره ما بعده، والتقدير: وخذل فريقا (4) * (حق عليهم الضللة إنهم) * إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة * (اتخذوا الشيطين أولياء) * أطاعوهم فيما أمروهم به. * (يبنئ ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31) قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبت من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيمة كذا لك نفصل الايت لقوم يعلمون (32) قل إنما حرم ربى الفوا حش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (33) أي: * (خذوا) * ثيابكم التي تتزينون بها * (عند كل) * صلاة. = والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 156، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 330. (1) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 156. (2) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 330. (3) انظر الكشاف: ج 2 ص 100. (4) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 288 - 289. (
[ 652 ]
سورة الأعراف / 33 - 36 وروي: أن الحسن بن علي (عليهما السلام) كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، وقرأ الآية (1). وقيل: هو أمر بلبس الثياب في الصلاة والطواف، وكانوا يطوفون عراة وقالوا: لانعبد الله في ثياب أذنبنا فيها (2)، وقيل: أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة (3) * (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) * عن ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة (4) (5)، * (قل من حرم زينة الله) * أي: من حرم الثياب التي يتزين بها الناس وكل مايتجمل به مما أخرجه الله من الأرض * (لعباده والطيبت من الرزق) * المستلذات من المآكل والمشارب، ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء * (قل هي للذين ءامنوا في الحيوة الدنيا) * غير خالصة لهم لأن المشركين يشركونهم فيها * (خالصة يوم القيمة) * لهم لا يشركهم فيها أحد، ولم يقل: هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا، لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا وأن الكافرين تبع لهم، وقرئ: * (خالصة) * بالنصب على الحال وبالرفع (6) على أنها خبر بعد خبر * (إنما حرم ربى الفوا حش) * أي: لم يحرم ربي (1) تفسير العياشي: ج 2 ص 14 ح 29. (2) وهو قول ابن عباس وعطاء وإبراهيم والحسن وقتادة وسعيد بن جبير وطاووس. راجع التبيان: ج 4 ص 386، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 218، والكشاف: ج 2 ص 100، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 332. (3) وهو القول المنسوب الى الصادق (عليه السلام). راجع تفسير العياشي: ج 2 ص 13 ح 25، وعنه تفسير البرهان: ج 2 ص 10 ح 11، والبحار: ج 18 ص 317. (4) المخيلة: الكبر. (القاموس المحيط: مادة خيل). (5) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 157، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 191. (6) قرأه ابن عباس ونافع. راجع التبيان: ج 4 ص 387، وتفسير البغوي: ج 2 ص 157، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 418، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 199. (*
[ 653 ]
إلا الفواحش، والفاحشة: ما تزايد قبحه * (ما ظهر منها وما بطن) * ماعلن منها وما خفي * (والاثم) * عام في كل ذنب، وقيل: شرب الخمر (1) * (والبغى) * الظلم والكبر * (بغير الحق) * تأكيد * (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا) * فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل سلطانا وبرهانا بأن يشرك به غيره * (وأن تقولوا) * أي: تتقولوا على الله وتفتروا الكذب من التحريم وغيره. * (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34) يبنئ ادم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءايتى فمن اتقى وأصلح فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون (35) والذين كذبوا بايتنا واستكبروا عنها أولئك أصحب النار هم فيها خلدون (36) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بايته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين) * (37) * (ولكل أمة أجل) * وعيد لكفار قريش بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم قبلهم * (يبنئ ادم) * خطاب لجميع المكلفين من بني آدم * (إما يأتينكم) * إن يأتكم * (رسل) * من جنسكم، وإنما ضمت " ما " إلى " إن " الشرطية توكيدا لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة، وجزاء الشرط الفاء ومابعده من الشرط والجزاء (2)، والمعنى: * (فمن اتقى) * منكم، * (والذين (1) وهو قول الحسن وعطاء. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 376، وزاد المسير لابن الجوزي: ج 3 ص 191. (2) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 4 ص 102، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: = (*)
[ 654 ]
كذبوا) * منكم * (فمن أظلم) * أي: فمن أشنع ظلما * (ممن) * قال * (على الله) * ما لم يقله * (أو كذب) * ماقاله * (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتب) * أي: مما كتب لهم من الأعمار (1) والأرزاق * (حتى إذا جاءتهم رسلنا) *: * (حتى) * غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم إياه، أي: إلى وقت وفاتهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام، والمستأنف هنا الجملة الشرطية، و * (يتوفونهم) * حال من الرسل، والمراد بالرسل هنا: ملك الموت وأعوانه * (قالوا) * أي: الرسل * (أين) * الآلهة اللاتي كنتم تدعونها * (قالوا ضلوا عنا) * أي: غابوا عنا فلا نراهم ولاننتفع بهم، اعترافا منهم بأنهم لم يكونوا على شئ فيما كانوا عليه. * (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخريهم لأولبهم ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أوليهم لأخربهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) * (39) سورة الأعراف / 38 - 40 أي: يقول الله جل جلاله للكفار يوم القيامة: * (ادخلوا في أمم) * أي: كائنين في جملة * (أمم) * وفي غمارهم (2) مصاحبين لهم، والمعنى: ادخلوا في النار مع أمم * (قد خلت من قبلكم) * وتقدم زمانهم زمانكم * (كلما دخلت أمة) * من هذه الأمم النار * (لعنت أختها) * التي ضلت بالاقتداء بها * (حتى إذا اداركوا) * أي: تداركوا * (فيها) * بمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النار * (قالت أخربهم) * منزلة وهي = ج 2 ص 294. (1) في نسخة: الأعمال. (2) بضم الغين وفتحها: جماعتهم. (القاموس المحيط: مادة غمر). (*)
[ 655 ]
الأتباع والسفلة * (لأولبهم) * منزلة وهي القادة والرؤساء، ومعنى * (لأولبهم) * لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله لامعهم * (ربنا هؤلاء أضلونا) * أي: دعونا إلى الضلال وحملونا عليه * (فاتهم عذابا ضعفا) * أي: مضاعفا * (قال لكل ضعف) * أي: لكل من رؤساء الضلالة وأتباعهم عذاب مضاعف، لأن جميعهم كانوا ضالين مضلين * (ولكن لا تعلمون) * قرئ بالتاء والياء (1) * (وقالت أوليهم لأخربهم) * أي: وقال الرؤساء للأتباع: * (فما كان لكم علينا من فضل) * عطفوا هذا الكلام على قول الله سبحانه للأتباع: * (لكل ضعف) * أي: فقد ثبت أن لافضل * (لكم علينا) * فإنا قد استوينا في استحقاق الضعف * (فذوقوا العذاب) * من قول الرؤساء أو من قول الله لكلا الفريقين جميعا * (بما كنتم تكسبون) * - ه باختياركم لا باختيارنا لكم. * (إن الذين كذبوا بايتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبوا ب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذا لك نجزى المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذا لك نجزى الظلمين (41) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لا نكلف نفسا إلاوسعهآ أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون (42) ونزعنا مافى صدورهم من غل تجرى من تحتهم الانهر وقالوا الحمد لله الذى هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) * (43) * (لا تفتح لهم أبوا ب السماء) * أي: لا يصعد لهم عمل صالح، ونحوه * (إليه (1) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. راجع التبيان: ج 4 ص 398، وتفسير البغوي: ج 2 ص 159، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 418، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 296. (*)
[ 656 ]
يصعد الكلم الطيب) * (1)، وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين (2)، وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون (3) كما قال: * (ففتحنا أبوا ب السماء) * (4)، وقرئ: * (لا تفتح) * بالتشديد والتخفيف والتاء والياء (5)، [ * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) * ] (6) أي: لا يدخلون الجنة حتى يكون مالا يكون أبدا من ولوج الجمل الذي لا يلج إلا في باب واسع في ثقب الإبرة، والخياط والمخيط: ما يخاط به وهو الإبرة * (وكذا لك) * أي: ومثل ذلك الجزاء الفظيع * (نجزى) * سائر * (المجرمين) * وقد كرره فقال: * (وكذا لك نجزى الظلمين) * عن ابن عباس: يريد الذين أشركوا به واتخذوا من دونه إلها (7)، سورة الأعراف / 43 و 44 والمهاد: الفراش، والغواشي: الأغطية * (لا نكلف نفسا إلاوسعهآ) * جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب مالايبلغه وصف الوصاف من النعيم الدائم (8) مع الإجلال والتعظيم بما هو في الوسع وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح * (ونزعنا مافى صدورهم) * قلوبهم * (من غل) * على إخوانهم في الدنيا، فسلمت قلوبهم وطهرت من الحقد والحسد والشحناء ولم يكن (1) فاطر: 10. (2) قاله ابن عباس والسدي. راجع التبيان: ج 4 ص 400، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 222، وتفسير البغوي: ج 2 ص 160، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 379، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 337. (3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 103، والرازي في تفسيره: ج 14 ص 76. (4) القمر: 11. (5) قرأ أبو عمرو بالتاء والتخفيف، وحمزة والكسائي وخلف بالياء والتخفيف. انظر التبيان: ج 4 ص 399، وتفسير البغوي: ج 2 ص 160، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 280. (6) مابين المعقوفتين ليس في النسخ، أضفناها لضرورة إتمام سياق الجملة. (7) راجع تفسير ابن عباس: ص 127. (8) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 301 - 302. (
[ 657 ]
بينهم إلا التعاطف والتراحم والتواد * (الحمد لله الذى هدينا لهذا) * أي: وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم والذخر الجسيم * (وما كنا لنهتدي) * اللام لتأكيد النفي، أي: وما كان يصح لنا أن نهتدي * (لولا) * هداية الله وتوفيقه، وقرئ: " ماكنا لنهتدي " بغير واو (1) على أنها جملة موضحة للأولى * (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) * من جهة الله تعالى ونبهونا على الاهتداء فاهتدينا باتباع قولهم، يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تعبدا * (ونودوا أن تلكم الجنة) *: * (أن) * مخففة من الثقيلة، تقديره: * (ونودوا) * بأنه تلكم الجنة، والضمير ضمير الشأن، ويجوز أن يكون بمعنى " أي " لأن المناداة من القول كأنه قيل: وقيل لهم: أي تلكم الجنة (2) * (أورثتموها) * بسبب أعمالكم. * (ونادى أصحب الجنة أصحب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظلمين (44) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كفرون) * (45) * (أن) * في قوله: * (أن قد وجدنا) * يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي ذكرت قبل (3)، وكذلك * (أن لعنة الله على الظلمين) *، وإنما قالوا لهم ذلك ابتهاجا واغتباطا بحالهم وشماتة بأصحاب النار، ولتكون هذه الحكاية لطفا لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم: * (أن لعنة الله على (1) قرأه ابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 280، والتذكرة لابن غلبون: ج 2 ص 419، وتفسير البغوي: ج 2 ص 161، والتبيان: ج 4 ص 403 وقال: وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. (2) انظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 126، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 302 - 303. (3) وهي الآية: 43 فراجع. (*)
[ 658 ]
الظلمين) *، وقيل: هو مالك خازن النار يأمره الله تعالى بذلك فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار (1). وروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: " أنا ذلك المؤذن " (2). وقرئ: " أن " بالتشديد " لعنة الله " بالنصب (3)، وقرئ: " نعم " بكسر العين كل القرآن (4)، ولم يقل: " وعدكم ربكم " كما قيل: * (وعدنا) * وأطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب، لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع * (يصدون) * أي: يعرضون عن دين الله وشريعته أو يصرفون غيرهم عنها * (ويبغونها عوجا) * أي: يطلبون لها الاعوجاج بالشبه التي يتوهمون أنها قادحة فيها * (وهم ب) * الدار * (الاخرة) * وهي القيامة جاحدون. * (وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيميهم ونادوا أصحب الجنة أن سلم عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون (46) وإذا صرفت أبصرهم تلقاء أصحب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظلمين) * (47) سورة الأعراف / 46 و 47 " وبين " الجنة والنار أو بين أهليهما * (حجاب) * أي: ستر، ونحوه: * (فضرب (1) قاله الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 106. (2) معاني الأخبار للصدوق: ص 59 ح 9، ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 1 ص 202 باسناده عن محمد بن الحنفية عنه (عليه السلام). (3) وهي قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وابن كثير برواية شبل والبزي. راجع التبيان: ج 4 ص 406، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 281، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 419، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 210. (4) وهي قراءة الأعمش والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 406، وتفسير البغوي: ج 2 ص 161، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 281، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 419، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 127، وتفسيرالقرطبي: ج 7 ص 209. (
[ 659 ]
بينهم بسور) * (1)، * (وعلى الاعراف) * أي: وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه، جمع عرف مستعار من عرف الفرس (2) والديك * (رجال) * الصادق (عليه السلام): الأعراف: كثبان (3) بين الجنة والنار يوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سيق (4) المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا (5) إلى الجنة، فيسلم عليهم المذنبون، وذلك قوله: * (سلم عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) * أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والإمام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون: * (ربنا لا تجعلنا) * إلى آخره (6)، وقيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ما شاء ويدخلهم الجنة (7) * (يعرفون كلا) * من زمر السعداء والأشقياء * (بسيميهم) * بعلامتهم التي أعلمهم الله بها * (وإذا صرفت أبصرهم تلقاء أصحب النار) * ورأوا ماهم فيه من العذاب استعاذوا بالله و * (قالوا ربنا لا تجعلنا) * معهم (8)، وفي هذا أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا (9)، الصادق (عليه السلام): وإذا قلبت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: عائذا (1) الحديد: 13. (2) عرف الفرس: شعر عنقه. (القاموس المحيط: مادة عرف). (3) جمع كثيب وهو تل من الرمل. (القاموس المحيط: مادة كثب). (4) في بعض النسخ: سبق. (5) في بعض النسخ: سبقوا. (6) تفسير القمي: ج 1 ص 231 - 232. (7) وهو قول ابن مسعود. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 226. (8) في نسخة: منهم. (9) وهو قول الزمخشري أيضا في الكشاف: ج 2 ص 107. (*)
[ 660 ]
بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين (1)، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود (2). * (ونادى أصحب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيميهم قالوا مآأغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون (48) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون) * (49) الصادق (عليه السلام): وينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء * (رجالا) * من أهل النار ورؤساء الكفار يقولون لهم مقرعين: * (مآأغنى عنكم جمعكم) * واستكباركم * (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) * إشارة لهم إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهم لفقرهم، ويستطيلون عليهم بدنياهم، ويقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة * (ادخلوا الجنة) * يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله عزوجل لهم بذلك: * (ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون) * أي: لاخائفين ولامحزونين (3). وروى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار " (4). سورة الأعراف / 50 - 52 * (ونادى أصحب النار أصحب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكفرين (50) الذين (1) تفسير القمي: ج 1 ص 231 - 232. (2) أوردها المصنف في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 424. (3) انظر تفسير القمي: ج 1 ص 231 - 232. (4) تفسير فرات: ص 49، شواهد التنزيل: ج 1 ص 198 ح 256، وعنه إحقاق الحق: ج 14 ص 396 - 397. (*)
[ 661 ]
اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننسهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بايتنا يجحدون) * (51) * (أفيضوا علينا) * فيه دليل على أن الجنة فوق النار (1) * (أو مما رزقكم الله) * من الأطعمة والفواكه (2) * (قالوا إن الله حرمهما) * حرم شراب الجنة وطعامها * (على الكفرين الذين اتخذوا دينهم) * الذي كان يلزمهم التدين به * (لهوا ولعبا) * فحرموا ما شاءوا واستحلوا ما شاءوا * (فاليوم ننسهم) * أي: نعاملهم معاملة المنسي في النار فلانجيب لهم دعوة ولا نرحم لهم عبرة * (كما نسوا لقاء يومهم هذا) * فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به، و * (ما) * في الموضعين مصدرية، والتقدير: كنسيانهم وكونهم جاحدين * (بايتنا) *. * (ولقد جئنهم بكتب فصلنه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلاتأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) * (53) * (بكتب) * يعني: القرآن * (على علم) * أي: عالمين، كيف نفصل أحكامه ومواعظه وجميع معانيه حتى جاء قيما غير ذي عوج، و * (هدى ورحمة) * حال من الهاء في * (فصلنه) * كما أن * (على علم) * حال من " نا " في * (فصلنه) * (3)، (1) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 108. (2) قال الزجاج: فأعلم الله عزوجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذبا. معاني القرآن: ج 2 ص 344. (3) انظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 417، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 308. (*)
[ 662 ]
* (إلاتأويله) * إلا عاقبة أمره، وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد * (يوم يأتي) * عاقبة ما وعدوا به * (يقول الذين نسوه) * أي تركوا العمل به ترك الناسي له * (قد جاءت رسل ربنا بالحق) * اعترفوا بأنهم جاءوا بالحق * (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنآ) * في إزالة العقاب (1) * (أو نرد) * أو هل نرد إلى الدنيا * (فنعمل غير الذى كنا) * نعمله، وارتفع * (نرد) * لوقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول ابتداء: هل يضرب زيد. * (إن ربكم الله الذى خلق السموا ت والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرا ت بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العلمين (54) ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الارض بعد إصلحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين) * (56) سورة الأعراف / 54 - 56 * (إن) * سيدكم ومالككم * (الله الذى) * أنشأ * (السموا ت والارض) * وأوجدهما * (في ستة أيام) * في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، لأن إنشاء الشئ بعد الشئ على ترتيب أدل على كون فاعله عليما حكيما يدبره على مقتضى حكمته، أو لأنه أراد تعليم خلقه التثبت والتأني في الأمور * (يغشى اليل النهار) * وقرئ بالتخفيف، أي: يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر * (يطلبه حثيثا) * بأن يأتي في أثره كما يأتي الشئ في أثر الشئ طالبا له، و * (حثيثا) * حال من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعا (2)، ومثله * (تحمله) * في (1) في بعض النسخ: العذاب. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 312 - 313. (
[ 663 ]
قوله: * (فأتت به قومها تحمله) * (1)، * (والشمس والقمر والنجوم مسخرا ت) * قرئ الجميع بالنصب حملا على * (خلق) * أي: خلقهن جاريات على حسب تدبيره، وقرئ - أيضا - جميعا بالرفع (2) على الابتداء والخبر * (بأمره) * أي: بمشيئته وتصريفه، وسمي ذلك أمرا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك * (ألا له الخلق والامر) * أي: هو الذي خلق الأشياء وهو الذي صرفها على حسب إرادته * (تضرعا وخفية) * نصب على الحال أي: ذوي تضرع وخفية، وكذا قوله: * (خوفا وطمعا) *، والتضرع من الضراعة وهي الذل أي: تذللا وتملقا، وقرئ: " خفية " بكسر الخاء (3) وهما لغتان (4) * (إنه لا يحب المعتدين) * أي: المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات، وقيل: التضرع: رفع الصوت والخفية: السر أي: ادعوه علانية وسرا (5)، وقيل: معناهما تخشعا وسرا (6) * (ولا تفسدوا في الارض) * بالعمل بالمعاصي * (بعد إصلحها) * بعد أن أصلحها الله بالكتب والرسل * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) * إنما ذكر * (قريب) * على معنى الترحم (7)، (1) مريم: 27. (2) وهي قراءة ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 421، وتفسير البغوي: ج 2 ص 165، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 282، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 221. (3) قرأه أبو بكر عن عاصم. راجع التبيان: ج 4 ص 424، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 283. (4) حكاهما الأخفش كما في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 314، وانظر معاني القرآن: ج 2 ص 491. (5) قاله ابن عباس والحسن وابن جريج. راجع تفسير ابن عباس: ص 129، وتفسير الحسن البصري: ج 1 ص 380، والتبيان: ج 4 ص 424، والكشاف: ج 2 ص 111. (6) حكاه ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 212 ونسبه الى ابن جرير، وراجع تفسير الطبري: ج 5 ص 514. (7) واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 380، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 111. (*)
[ 664 ]
أو لأنه صفة موصوف محذوف أي: شئ قريب (1)، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي (2)، والمحسن: فاعل الإحسان. * (وهو الذى يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقنه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرا ت كذا لك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذا لك نصرف الايت لقوم يشكرون) * (58) سورة الأعراف / 57 - 59 قرئ: " نشرا " (3) مصدر " نشر "، لأن " أرسل " و " نشر " متقاربان فكأنه قال: ينشر الرياح نشرا، ويجوز أن يكون واقعا موقع الحال بمعنى " منتشرات " (4)، و " نشرا " (5) جمع نشور، و " نشرا " بتخفيفه (6) كرسل ورسل، وقرئ: " بشرا " (7) جمع بشيرة و * (بشرا) * بتخفيفه * (بين يدى رحمته) * أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أحسن النعم أثرا وأجلها قدرا * (حتى إذا أقلت) * أي: حملت ورفعت * (سحابا ثقالا) * بالماء جمع سحابة * (سقنه) * الضمير للسحاب على اللفظ * (لبلد (1) وهو مذهب أبي عبيدة. راجع مجاز القرآن: ج 1 ص 216. (2) ذهب إليه الأخفش في معاني القرآن: ج 2 ص 519، والزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 344. (3) قرأه حمزة والكسائي والأعمش. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 133، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 283، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 420. (4) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 315. (5) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع. راجع التبيان: ج 4 ص 427، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 283، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 229. (6) وهي قراءة الحسن وقتادة وابن عامر. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 133، وكتاب السبعة في القراءات: ص 283. (7) وهي قراءة ابن عباس والسلمي وعاصم بخلاف. راجع المحتسب لابن جني: ج 1 ص 255، وانظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 133. (*)
[ 665 ]
ميت) * لأجل بلد ليس فيه حيا (1) ولسقيه * (فأنزلنا به) * بالبلد أو بالسحاب * (الماء فأخرجنا به) * بهذا الماء * (من كل الثمرا ت كذا لك نخرج الموتى) * أي: مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نحيي الأموات بعد موتها * (لعلكم تذكرون) * فيؤديكم التذكر إلى أنه لافرق بين الإخراجين، إذ كل واحد منهما إعادة للشئ بعد إنشائه * (والبلد الطيب) * الأرض العذاة (2) الكريمة التربة * (يخرج نباته) * زرعه خروجا زاكيا ناميا بأمر * (ربه والذى خبث) * وهو السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به * (لا يخرج) * نباته * (إلا نكدا) * فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه مقامه فاستكن في الفعل، أو يكون التقدير: ونبات الذي خبث (3)، والنكد: العسر الممتنع من الخروج * (كذا لك) * أي: مثل ذلك التصريف (4) * (نصرف الايت) * نرددها ونكررها * (لقوم يشكرون) * نعمة الله تعالى. * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59) قال الملا من قومه إنا لنريك في ضلل مبين (60) قال يقوم ليس بى ضللة ولكني رسول من رب العلمين (61) أبلغكم رسلت ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجينه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بايتنآ إنهم كانوا قوما عمين) * (64) * (لقد أرسلنا) * جواب قسم محذوف، هو نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ (1) الحيا - بالقصر -: الخصب. (القاموس المحيط: مادة حيا)، وفي بعض النسخ: حياة. (2) الأرض الطيبة البعيدة عن الماء والوخم. (القاموس المحيط: مادة عذا). (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 319. (4) في بعض النسخ: التصرف. (*)
[ 666 ]
وهو إدريس النبي (عليه السلام)، وقرئ: " غيره " بالجر (1) على اللفظ وبالرفع على محل سورة الأعراف / 63 - 65 * (من إله) *، وقوله: * (مالكم من إله غيره) * بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، وقوله: * (إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * بيان للداعي إلى عبادته بأنه هو الذي يحذر عقابه دون من كانوا يعبدونه من دونه، واليوم العظيم: هو يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم (2)، و * (الملا) *: السادة والأشراف * (في ضلل) * أي: ذهاب عن الحق والصواب، والمراد بالرؤية رؤية القلب الذي هو العلم، وقيل: رؤية البصر أي: نراك بأبصارنا على هذه الحال (3) * (ليس بى ضللة) * أي: ليس بي شئ من الضلال * (أبلغكم) * بيان لكونه رسول رب العالمين، وهي جملة مستأنفة * (رسلت ربى) * ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة، وفي المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي * (وأنصح لكم) * في زيادة اللام دلالة على إمحاض النصيحة للمنصوح له * (وأعلم من الله) * أي: من صفاته وأحواله وشدة بطشه على أعدائه * (ما لا تعلمون) *، * (أوعجبتم) * الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف (4)، كأنه قال: أكذبتم وعجبتم من * (أن جاءكم ذكر) * أي: موعظة * (من ربكم على رجل) * على لسان رجل * (منكم) * مثل قوله: * (ما وعدتنا على رسلك) * (5) وذلك أنهم تعجبوا من نبوة نوح وقالوا: * (ماهذآ إلابشر مثلكم) * (6)، * (لينذركم) * ليحذركم عاقبة الكفر * (ولتتقوا) * ولتوجد منكم التقوى وهي (1) وهي قراءة أبي جعفر والكسائي والأعمش وابن وثاب. راجع التبيان: ج 4 ص 434، وتفسير البغوي: ج 2 ص 168، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 320. (2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 113، والرازي في تفسيره: ج 14 ص 149. (3) انظر التبيان: ج 4 ص 436، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 321. (4) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 322، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 135. (5) آل عمران: 194. (6) المؤمنون: 24 و 33. (*)
[ 667 ]
خشية الله بسبب الإنذار * (ولعلكم ترحمون) * ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم * (فأنجينه والذين معه) * وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وقيل: كانوا عشرة (1): بنوه: سام وحام ويافث وستة ممن آمن به (2)، وتعلق قوله * (في الفلك) * ب * (معه) * كأنه قال: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه فيه، أو ب " أنجيناه " أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان * (قوما عمين) * أي: عمي القلوب غير مستبصرين. * (وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلاتتقون (65) قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنريك في سفاهة وإنا لنظنك من الكذبين (66) قال يقوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العلمين (67) أبلغكم رسلت ربى وأنا لكم ناصح أمين (68) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا ءالاء الله لعلكم تفلحون) * (69) * (أخاهم) * في النسب يعني واحدا منهم من قولك: " يا أخا العرب " للواحد منهم، وإنما جعل واحدا منهم ليكونوا به أسكن وبحاله أعرف في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وعطف * (أخاهم) * على * (نوحا) * (3)، و * (هودا) * (4) عطف بيان له، وحذف العاطف من قوله: * (قال (1) في نسخة: تسعة، وكذا في الكشاف. (2) قاله ابن إسحاق على ما حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 5 ص 522، وراجع الكشاف: ج 2 ص 115. (3) الآية: 59. (4) قال الهمداني: فإن قلت: " هود " أعجمي أو عربي ؟ قلت: قد جوز أن يكون أعجميا وأن = (*)
[ 668 ]
يقوم) * لأنه على تقدير سؤال سائل سأل فقال: ما قال لهم هود ؟ فقيل: * (قال يقوم اعبدوا الله) *، وكذلك قوله: * (قال الملا الذين كفروا) *، والسفاهة: خفة الحلم وسخافة العقل، وصفوه بالسفه حيث هجر دينهم إلى دين الله، وقالوا: * (في سفاهة) * وجعلوا السفاهة ظرفا على طريق المجاز، يريدون أنه متمكن فيها غير خال عنها، وفي إجابة نوح وهود وغيرهما من الأنبياء (عليهم السلام) من نسبوهم إلى الضلالة والسفاهة بالكلام الصادر عن الإغضاء والمجاملة - مع علمهم بأن خصومهم أضل الخلق وأسفههم - أدب حسن، وحكاية الله ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء ويدارونهم * (وأنا لكم ناصح) * فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته * (أمين) * ثقة مأمون في تأدية الرسالة فلا أكذب ولاأغير * (إذ جعلكم) * أي: وقت جعلكم * (خلفاء من بعد قوم نوح) * أي: خلفتموهم في الأرض من بعد هلاك قوم نوح بالعصيان * (وزادكم في الخلق بصطة) * فيما خلق من أجرامكم ذهابا في الطول والبدانة، قال الباقر (عليه السلام): " كانوا كالنخل الطوال، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيده فيهد (1) منه قطعة " (2) * (فاذكروا ءالاء الله) * في استخلافكم وبسطة أجسامكم وما سواهما من نعمه، وواحد الآلاء إلي (3) ونحوه: إني وآناء (4). سورة الأعراف / 70 - 72 * (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد أآباؤنا فأتنا بما = يكون عربيا من هاد يهود. فإن قلت: إذا جعل أعجميا فلم صرف وفيه العجمة والتعريف ؟ قلت: لخفته كنوح ولوط. الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 324، وراجع إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 136. (1) الهد: الهدم الشديد والكسر. (القاموس المحيط: مادة هد). (2) التبيان: ج 4 ص 436. (3) الآلاء: النعم، واحدها إلي وألو وألي وألى وإلى. (القاموس المحيط: مادة ألى). (4) الأني ويكسر والأناء والإنو بالكسر: الوهن والساعة من الليل أو ساعة ما منه، والإني كإلي وعلي: كل النهار جمع آنار. (القاموس المحيط: مادة أنى). (*)
[ 669 ]
تعدنا إن كنت من الصدقين (70) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجدلوننى في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطن فانتظروا إنى معكم من المنتظرين (71) فأنجينه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بايتنا وما كانوا مؤمنين) * (72) أنكروا اختصاصه لله بالعبادة وتركه دين آبائهم في ترك عبادة الأصنام إلفا منهم بما نشأوا عليه * (فأتنا بما تعدنا) * استعجال منهم بالعذاب * (قال قد وقع عليكم) * أي: وجب عليكم أو نزل عليكم، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع (1) * (رجس) * أي: عذاب، من الارتجاس وهو الاضطراب * (أتجدلوننى في أسماء سميتموها) * أي: في أشياء ماهي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم سميتموها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم، ونحوه قوله: * (ما يدعون من دونه من شئ) * (2)، * (فانتظروا) * عذاب الله فإنه نازل بكم * (إنى معكم من المنتظرين) * لنزوله بكم * (وقطعنا دابر الذين كذبوا بايتنا) * أي: دمرناهم واستأصلناهم عن آخرهم. * (وإلى ثمود أخاهم صلحا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين) * (74) (1) قال الهمداني: والوقوع والسقوط والنزول نظائر في اللغة. الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 325. (2) العنكبوت: 42. (*)
[ 670 ]
أي: * (و) * أرسلنا * (إلى ثمود) * قرئ بمنع الصرف على تأويل القبيلة (1)، وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وصالح من ولد ثمود * (قد جاءتكم بينة) * أي: دلالة معجزة وآية ظاهرة شاهدة على صحة نبوتي * (هذه ناقة الله) * كأنه قيل: ما هذه البينة ؟ فقال: * (هذه ناقة الله) * أضافها إلى * (الله) * لأنه خلقها بلا واسطة، وخرجت من صخرة ملساء تمخضت بها تمخض النتوج (2) بولدها، ثم انصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء (3) لا يعلم مابين جنبيها إلا الله عظما وهم سورة الأعراف / 74 و 75 ينظرون، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم، وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم اللبن بدله، ولهم شرب يوم يخصهم لاتقرب فيه ماءهم، و * (ءاية) * نصب على الحال، والعامل فيها مادلت عليه اسم الإشارة التي هي * (هذه) * من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية، و * (لكم) * بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسمع غيرهم خبرها وليس الخبر كالمعاينة، فكأنه قال: لكم خصوصا * (فذروها تأكل في أرض الله) * أي: الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولامافيها من النبات من إنباتكم * (ولا تمسوها بسوء) * أي: بعقر أو نحر أو شئ من الأذى إكراما لآية الله * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء... في الارض) * بأن مكنكم فيها * (من بعد عاد وبوأكم) * ونزلكم وجعل لكم فيها مساكن تأوون إليها (1) وثمود اسم قبيلة، وقد جاء مصروفا وغير مصروف، فمن صرفه فعلى انه اسم لحي مذكر، ومن ترك الصرف فعلى انه اسم قبيلة كما في قوله تعالى: * (ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) * فصرف الأول ولم يصرف الثاني. انظر إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 136. (2) نتجت الناقة: حان نتاجها فهي نتوج. (القاموس المحيط: مادة نتج). (3) العشراء من النوق: التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هي كالنفساء من النساء، وجوفاء: ذو الجوف الواسع مؤنث أجوف، ووبراء مؤنث أوبر: ماله وبر أي صوف. (القاموس المحيط: مادة عشر وجوف ووبر). (*)
[ 671 ]
* (تتخذون من سهولها قصورا) * أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن والآجر * (وتنحتون الجبال بيوتا) * تسكنونها في الشتاء، و * (بيوتا) * نصب على الحال كما يقال: خط هذا الثوب قميصا، وهي من الحال المقدرة (1) لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت، ولا الثوب قميصا في حال الخياطة (2) * (فاذكروا ءالاء الله) * أي: نعمه عليكم بما أعطاكم من القوة والتمكن في الأرض * (ولا تعثوا) * أي: ولاتبالغوا في الفساد. * (قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعلمون أن صلحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذئ امنتم به كفرون (76) فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يصلح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جثمين (78) فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون النصحين) * (79) قرأ ابن عامر (3) " وقال الملا " بإثبات الواو (4)، و * (الذين استكبروا) * أي: (1) الحال المقدرة: حال لم يكن صاحبه متلبسا به في حال الإخبار، بل يقدر وقوعه نحو " صائدا " في مثل " جاء زيد معه صقر صائدا به غدا "، ومنه * (فادخلوها خلدين) * و * (لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله ءامنين) *. انظر مغني اللبيب: ص 605 - 606. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 327. (3) هو عبد الله بن عامر اليحصبي، إليه انتهت مشيخة الإقراء بالشام، وأحد القراء السبعة، كان عالما متقنا، روى عنه القراءة عرضا يحيى بن الحارث الزماري، وأخوه عبد الرحمن بن عامر وخلاد بن يزيد وغيرهم، تولى إمامة الجامع بدمشق وائتم به الخليفة عمر بن عبد العزيز، توفي سنة 118 ه. (تاريخ الاسلام للذهبي: ج 2 ص 266، الاعلام للزركلي: ج 4 ص 95). (4) راجع التبيان: ج 4 ص 451 وقال: وكذلك في مصاحف أهل الشام، وتفسير البغوي: = (*)
[ 672 ]
تعظموا وأنفوا (1) من اتباع الرسول الداعي إلى الله * (للذين استضعفوا) * للذين استضعفوهم واستذلوهم، و * (لمن ءامن منهم) * بدل من * (للذين استضعفوا) *، والضمير في * (منهم) * يعود إلى * (قومه) * (2) أو إلى " الذين استضعفوا " (3)، * (أتعلمون أن صلحا مرسل من ربه) * إنما قالوه على سبيل السخرية * (فعقروا الناقة) * أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يعقرها إلا بعضهم وهو قدار بن سالف مع أصحابه، وكان أحمر أزرق قصيرا، وكانوا تسعة رهط. قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي من أشقى الأولين ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال (عليه السلام): عاقر الناقة، أتدري من أشقى الآخرين ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: الذي يخضب هذه من هذا، وأشار إلى لحيته ورأسه (4). سورة الأعراف / 79 - 81 * (وعتوا عن أمر ربهم) * تولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربهم هو ما أمر به على لسان صالح من قوله: * (فذروها تأكل في أرض الله) * (5) أو شأن ربهم وهو دينه (6) * (ائتنا بما تعدنا) * أي: من العذاب، وإنما استعجلوه لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما كانوا به كافرين وهو كونه * (من المرسلين) *، * (فأخذتهم الرجفة) * أي: الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها * (فأصبحوا في دارهم) * (7) أي: في بلادهم ومساكنهم * (جثمين) * أي: ميتين = ج 2 ص 174، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 284، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 421. (1) في بعض النسخ: اتقوا. (2) وهو مذهب الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 123. (3) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 328. (4) كنز العمال: ج 13 ص 196 ح 36587، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 35. (5) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 123. والآية: 73. (6) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 351. (7) قال الماوردي: قال محمد بن مروان السدي: كل ما في القرآن من " دارهم " فالمراد به = (*)
[ 673 ]
هامدين (1) لا يتحركون، يقال: الناس جثم، أي: قعود لاحراك بهم * (فتولى عنهم) * تولي متحسر على ما فاته من إيمانهم متحزن لهم * (وقال يقوم لقد) * بذلت فيكم وسعي ولم آل جهدا في النصيحة لكم، والظاهر يدل على أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ماأبصرهم موتى صرعى. * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغبرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عقبة المجرمين) * (84) أي: * (و) * أرسلنا * (لوطا) * (2)، و * (إذ) * ظرف ل " أرسلنا "، * (أتأتون الفحشة) * أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وهي إتيان الرجال في أدبارهم * (ما سبقكم بها) * أي: ما عملها قبلكم أحد، والباء للتعدية ومنه قوله (عليه السلام): " سبقك بها عكاشة " (3)، و * (من) * في * (من أحد) * مزيدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، و * (من) * الثانية للتبعيض (4) أ * (إنكم لتأتون الرجال) * من أتى المرأة: إذا غشيها * (شهوة) * مفعول له أي: للاشتهاء لاحامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من = مدينتهم، وكل ما فيه من " ديارهم " فالمراد به مساكنهم. انظر تفسيره: ج 2 ص 236. (1) في نسخة: خامدين. (2) زعم بعض أهل اللغة: لوط مشتق من لطت الحوض إذا ملسته بالطين. قال الزجاج: وهذا غلط، لأن لوطا من الأسماء الأعجمية ليس من العربية، والعجمي لا يشتق من العربي. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 351. (3) مجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 407. (4) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 329. (*)
[ 674 ]
غير داع آخر، ويجوز أن يكون حالا أي: مشتهين تابعين للشهوة (1) * (من دون النساء) * في موضع الحال أيضا، أي: تاركين إتيان النساء اللاتي أباح الله إتيانهن * (بل أنتم قوم مسرفون) * متجاوزون الحد في الفساد حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد * (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا) * يعني: ماأجابوا لوطا عما كلمهم به بما يكون جوابا ولكنهم جاءوا بما لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم * (إنهم أناس يتطهرون) * من الفواحش والخبائث * (فأنجينه) * أي: فخلصنا لوطا * (وأهله) * المختصين به من الهلاك * (إلا امرأته كانت من الغبرين) * الذين غبروا في ديارهم أي: بقوا فيها فهلكوا (2)، أو (3) كانت كافرة موالية لأهل سدوم * (وأمطرنا عليهم مطرا) * أي: أرسلنا عليهم الحجارة إرسال المطر نحو قوله: * (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) * (4)، والمعنى: وأمطرنا عليهم نوعا من المطر عجيبا، ونحوه قوله: * (فسآء مطر المنذرين) * (5). سورة الأعراف / 85 * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد إصلحها ذا لكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكل صرا ط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا (1) انظر الكشاف: ج 2 ص 125. (2) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 126، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 330. (3) كذا في النسخ، والظاهر أن الانسب " و " لسياق الجملة. (4) هود: 82. (5) الشعراء: 173، والنمل: 58. (*)
[ 675 ]
كيف كان عقبة المفسدين (86) وإن كان طائفة منكم ءامنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحكمين) * (87) * (و) * أرسلنا * (إلى مدين أخاهم شعيبا) * وكان يقال لشعيب: " خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته قومه (1)، وكانوا أهل بخس للمكيال والميزان * (قد جاءتكم بينة من ربكم) * أي: معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بي (2) * (فأوفوا الكيل والميزان) * أريد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أوسمي ما يكال به بالكيل كما قيل: العيش لما يعاش به، أو أريد أوفوا الكيل ووزن الميزان، أو يكون الميزان بمعنى المصدر كالميعاد والميلاد (3) * (ولا تبخسوا) * ولا تنقصوا، وإنما قيل: * (أشياءهم) * لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شئ في مبايعاتهم * (بعد إصلحها) * بعد الإصلاح فيها، أي: * (لا تفسدوا) * فيها * (بعد) * ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم، فيكون هذه الإضافة (4) كما في (1) روى الطبري بإسناده قال: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكره قال: ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. راجع تاريخ الطبري: ج 1 ص 229. (2) زعم الفراء في معانيه: ج 1 ص 385 أن لم يكن لشعيب آية إلا النبوة. قال الزجاج: وهذا غلط فاحش، قال تعالى: * (قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل) * فجاء بالفاء جوابا للجزاء، فكيف يقول: قد جاءتكم بينة من ربكم ولم يكن له آية إلا النبوة ؟ ! فإن كان مع النبوة آية فقد جاءهم بها، وقد أخطأ القائل بقوله: لم تكن له آية، ولو ادعى مدع النبوة بغير آية لم تقبل منه، ولكن القول في شعيب أن آيته كما قال بينة، إلا أن الله جل ثناؤه ذكر بعض آيات الأنبياء في القرآن وبعضهم لم يذكر آيته، فمن لم تذكر آيته لا يقال: لا آية له، وآيات محمد النبي (صلى الله عليه وآله) لم تذكر كلها في القرآن ولا أكثرها وإن كانت له آيات كثيرة، ولم يوجب ذلك نفيها. انظر معاني القرآن: ج 2 ص 353 - 354، والتبيان: ج 4 ص 462. (3) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 127. (4) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 354، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 127. (*)
[ 676 ]
قوله: * (بل مكر اليل والنهار) * (1) أي: مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف (2) * (ذا لكم) * إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض * (خير لكم) * في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما تطلبونه من الربح، لأن الناس إذا عرفوا منكم النصفة والأمانة رغبوا في متاجرتكم * (إن كنتم مؤمنين) * مصدقين لي في قولي * (ولا تقعدوا بكل) * منهج من مناهج الدين مقتدين بالشيطان في قوله: * (لاقعدن لهم صرا طك المستقيم) * (3) تتوعدون من آمن بالله * (وتصدون عن سبيل الله) * وكانوا يجلسون على الطرق فيقولون لمن يمر بها: إن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريش بمكة * (وتبغونها عوجا) * أي: وتطلبون لسبيل الله عوجا، والمعنى: تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة لتصدوهم عن سلوكها والدخول فيها * (واذكروا إذ كنتم قليلا) *: * (إذ) * مفعول به غير ظرف، أي: واذكروا على وجه الشكر وقت كونكم قليلا عددكم، قالوا: إن مدين بن إبراهيم الخليل سورة الأعراف / 88 و 89 تزوج بنت لوط فولدت له فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا (4)، ويجوز: إذ كنتم فقراء مقلين فجعلكم أغنياء مكثرين (5) * (وانظروا كيف كان عقبة) * من أفسد قبلكم كقوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي العهد بهم * (وإن كان) * جماعة * (منكم ءامنوا) * وصدقوا * (بالذى أرسلت به) * وقبلوا قولي وجماعة لم يصدقوني * (فاصبروا) * فتربصوا وانتظروا * (حتى يحكم الله) * بين الفريقين بأن ينصر المحق على المبطل، وهذا وعيد للكافرين. (1) سبأ: 33. (2) انظر الكشاف: ج 2 ص 127. (3) الأعراف: 16. (4) حكاه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 247 ونسب هذا القول الى مكي. (5) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 355. (*)
[ 677 ]
* (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كرهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا الله منها وما يكون لنآ أن نعود فيها إلا أن يشآء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفتحين) * (89) أي: * (قال) * الذين رفعوا أنفسهم فوق مقدارها من قوم شعيب: ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجكم من بلدتنا أو عودكم في الكفر، وقد يكون العود بمعنى الصيرورة (1) كما في قول الشاعر: تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (2) * (قال) * شعيب: * (أولو كنا كرهين) * الواو واو الحال والهمزة للاستفهام (3)، أي: أتعيدوننا في ملتكم وتردوننا إليها في حال كوننا كارهين للدخول فيها ؟ يريد أنا مع كراهتنا لذلك لما عرفناه من بطلانه لا نرجع (4)، أو أنكم لا تقدرون على ردنا إلى دينكم على كره منا، فيكون * (كرهين) * على هذا بمعنى: مكرهين * (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) * معناه: إن عدنا في ملتكم * (بعد إذ نجينا الله منها) * بأن أقام لنا الدلائل على بطلانها وأوضح الحق لنا فقد افترينا على الله كذبا فيما دعوناكم إليه (5) * (وما يكون لنآ) * أي: وما ينبغي لنا وما يصح لنا * (أن (1) انظر معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 355، والكشاف: ج 2 ص 129. (2) البيت لامية بن أبي الصلت الثقفي، أراد أن لقومه مآثر ومكارم ليست عند غيرهم ثم قال: هذه هي المكارم لا ما يفتخر به غيرهم من السماحة والضيافة بلبن ممزوج بالماء الذي يصير بعد ذلك أبوالا. انظر دلائل النبوة للبيهقي: ج 1 ص 296. (3) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 130. (4) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 4 ص 466. (5) وهو قول القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 250. (*)
[ 678 ]
نعود فيها إلا أن يشآء الله) * خذلاننا ومنعنا الألطاف بأن يعلم أنها لا تنفع فينا فيكون فعلها بنا عبثا والله عزاسمه متعال عن فعل العبث، ويدل على هذا قوله: * (وسع ربنا كل شئ علما) * أي: هو عالم لذاته، يعلم كل شئ مما كان ويكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب * (على الله توكلنا) * في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان (1)، ويجوز أن يكون قوله: * (إلا أن يشآء الله) * تعليقا لما لا يكون بما علم أنه لا يكون على وجه التبعيد، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة (2) * (ربنا افتح بيننا) * أي: احكم بيننا * (وبين قومنا بالحق) * والفتاحة: الحكومة (3)، أو أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف بأن تنزل عليهم عذابا يتبين معه أنا على الحق وأنهم على الباطل (4) * (وأنت خير الفتحين) * الحاكمين. سورة الأعراف / 90 - 95 * (وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخسرين (92) فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كفرين (93) وما أرسلنا في قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا (1) وإليه ذهب الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 356، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 130. (2) انظر التبيان: ج 4 ص 467. (3) وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي كما حكاه عنهم الشيخ في التبيان: ج 4 ص 468، وهو اختيار أبي عبيدة والفراء. انظر تفسير ابن عباس: ص 133، وتفسير الحسن البصري: ج 1 ص 382، ومجاز القرآن: ج 1 ص 220، ومعاني القرآن: ج 1 ص 384. (4) انظر الكشاف: ج 2 ص 130. (*)
[ 679 ]
مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءابآءنا الضراء والسرآء فأخذنهم بغتة وهم لا يشعرون) * (95) أي: * (قال) * أشراف * (الملا الذين كفروا من قومه) * للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان: * (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخسرون) * لاستبدالكم الضلالة بالهدى، وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف، لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية (1)، واللام في * (لئن اتبعتم) * موطئة للقسم، وجواب القسم * (إنكم إذا لخسرون) * وقد سد مسد جواب الشرط (2) * (الذين كذبوا شعيبا) * مبتدأ وخبره * (كأن لم يغنوا فيها) * وكذلك * (كانوا هم الخسرين) *، وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بالهلاك والاستئصال كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الذين اتبعوا شعيبا أنجاهم الله * (الذين كذبوا شعيبا) * هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه لأنهم الرابحون، وفي هذا الابتداء والتكرير تسفيه لرأي الملا ورد لمقالتهم ومبالغة في ذلك * (فتولى عنهم) * شعيب لما رأى إقبال العذاب عليهم * (وقال يقوم لقد) * أعذرت إليكم في النصيحة وإبلاغ الرسالة والتحذير مما حل بكم فلم تصدقوني * (فكيف ءاسى) * أي: فكيف أحزن * (على قوم) * ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم العذاب النازل بهم، والبأساء: البؤس والفقر، والضراء: الضر والمرض * (لعلهم يضرعون) * أي: ليتضرعوا ويتوبوا ويتذللوا * (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) * أي: رفعنا السيئة يعني: ما كانوا فيه من البلاء والمحنة، ووضعنا الحسنة مكانها يعني: الرخاء والسعة والصحة * (حتى عفوا) * أي: كثروا ونموا في أنفسهم (1) وهو قول الشيخ في التبيان: ج 4 ص 469 - 470، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 182. (2) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 333. (*)
[ 680 ]
وأموالهم من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر: إذا كثرت، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): " واعفوا اللحى " (1) * (وقالوا قد مس ءابآءنا الضراء والسرآء) * يريد أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك فلم ينتقلوا عما كانوا عليه، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم كذلك * (فأخذنهم بغتة) * فجاءة عبرة لمن بعدهم * (وهم لا يشعرون) * أن العذاب نازل بهم إلا بعد حلوله. * (ولو أن أهل القرئ امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاالقوم الخسرون) * (99) سورة الأعراف / 97 - 99 اللام في * (القرى) * إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله: * (وما أرسلنا في قرية من نبى) * (2) فكأنه قال: * (ولو أن أهل) * تلك * (القرى) * الذين كذبوا وأهلكوا * (ءامنوا) * بدل كفرهم * (واتقوا) * الشرك والمعاصي * (لفتحنا عليهم بركت) * أي: خيرات نامية * (من السماء والارض) * بإنزال المطر وإخراج النبات، والمعنى: لآتيناهم بالخير من كل وجه * (ولكن كذبوا فأخذنهم) * بسوء كسبهم، ومعنى " فتح البركات ": تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المغلقة (1) مسند أحمد: ج 2 ص 366 و 378، مسند أبي عوانة: ج 1 ص 188، سنن البيهقي: ج 1 ص 149، الترغيب والترهيب للمنذري: ج 3 ص 435، الكشاف: ج 2 ص 132، قال في النهاية: مادة عفا: هو أن يوفر شعرها ولا يقص كالشوارب. (2) الأعراف: 94. (*)
[ 681 ]
بفتحها، ومنه قولهم: فتحت على القارئ: إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين * (أفأمن أهل القرى) * المكذبون لنبينا * (أن يأتيهم) * عذابنا * (بيتا) * أي: بائتين أو وقت بيات، ويجوز أن يكون البيات بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم فيكون - أيضا - حالا أو ظرفا (1)، و * (ضحى) * نصب على الظرف وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت، والفاء والواو في * (أفأمن) * و * (أو أمن) * حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار، والمعطوف عليه قوله: * (فأخذنهم بغتة) * (2) وما بينهما اعتراض أي: * (أ) * بعد ذلك * (أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا) * وأمنوا * (أن يأتيهم بأسنا ضحى) * (3)، وقرئ: " أو أمن " بسكون الواو (4) على العطف ب " أو "، * (وهم يلعبون) * أي: يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون، وقوله: * (أفأمنوا مكر الله) * تكرير لقوله: * (أفأمن أهل القرى) *، و * (مكر الله) * استعارة لأخذه العبد من حيث لايشعر ولاستدراجه إياه بالصحة والسلامة وظاهر النعمة، وعن الربيع بن خيثم (5) أن ابنته قالت له: مالي أرى (1) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 133. (2) الأعراف: 95. (3) انظر الكشاف: ج 2 ص 134. (4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 287، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 421، وفي تفسير البغوي: ج 2 ص 184: هي قراءة أهل الحجاز والشام. (5) هو الربيع بن خيثم بن عبد الله بن موهب بن منقذ الثوري، أبو يزيد الكوفي، روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) مرسلا وعن ابن مسعود وأبي أيوب وغيرهم، وعنه ابنه عبد الله ومنذر الثوري والشعبي وابراهيم النخعي وغيرهم، وقال منذر الثوري: شهد مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) صفين، وعن غير واحد أنه تخلف عن قتال علي (عليه السلام) مع معاوية وشك في جواز ذلك، فاسترخصه فرخص (عليه السلام) له. مات بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) سنة 63 ه. (تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 3 ص 242، كتاب الجرح والتعديل: ج 3 ص 459، معجم رجال الحديث: ج 7 ص 168). (*)
[ 682 ]
الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ قال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات (1) * (فلا يأمن مكر الله إلاالقوم الخسرون) * فيه تنبيه على ما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله، فيكون كالمحارب الذي يخاف من أعدائه البيات والغيلة، ليسارع إلى الطاعة واجتناب المعصية، ولا يستشعر الأمن من ذلك فيكون قد خسر دنياه وآخرته بالوقوع في المعاصي. سورة الأعراف / 101 و 102 * (أولم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبنهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (100) تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذا لك يطبع الله على قلوب الكفرين (101) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفسقين) * (102) المعنى: * (أولم يهد للذين) * يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن وهو أنا * (لو نشاء أصبنهم بذنوبهم) * كما أصبنا من قبلهم وأهلكناهم كما أهلكنا أولئك، وقد قرئ: " أولم نهد " بالنون (2)، وعلى ذلك فيكون * (أن لو نشاء أصبنهم) * منصوب الموضع، بمعنى: أولم نبين لهم هذا الشأن، ولذلك عدي الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين * (ونطبع على قلوبهم) * معطوف على مادل عليه معنى * (أولم يهد) * فكأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم * (تلك القرى) * مبتدأ وخبر و * (نقص عليك من أنبائها) * حال، ويجوز أن يكون * (القرى) * صفة ل * (تلك) * و * (نقص) * خبرا (3)، أي: تلك القرى المذكورة (1) الكشاف: ج 2 ص 134. (2) وهي قراءة ابن عباس وقتادة ويعقوب والسلمي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 184، وشواذ القرآن لابن خالويه: ص 50، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 350. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 336 - 337. (
[ 683 ]
نقص عليك من أنبائها لتخبر قومك بها فيعتبروا ويحذروا عن الإصرار على مثل حالهم * (فما كانوا ليؤمنوا) * عند مجئ الرسل بالبينات * (بما كذبوا) * به من قبل مجيئهم (1)، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل، أي: استمروا على التكذيب إلى أن ماتوا مصرين (2)، ومعنى اللام تأكيد النفي وأن الإيمان كان منافيا لحالهم * (كذا لك) * أي: مثل ذلك الطبع الشديد * (يطبع الله على قلوب الكفرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * الضمير للناس على الإطلاق، أي: وما وجدنا لأكثر الناس من عهد فإن الأكثر ينقض عهد الله في الإيمان والتقوى * (وإن وجدنا) * وإن الشأن والحديث وجدنا * (أكثرهم لفسقين) * خارجين عن الطاعة، والآية اعتراض، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم (3) المذكورين وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر: لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم لما نجاهم نكثوا، والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدت زيدا ذا الحفاظ. * (ثم بعثنا من بعدهم موسى بايتنآ إلى فرعون وملايه فظلموا بها فانظر كيف كان عقبة المفسدين (103) وقال موسى يفرعون إنى رسول من رب العلمين (104) حقيق على أن لاأقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى إسرا ءيل (105) قال إن كنت جئت باية فأت بها إن كنت من الصدقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للنظرين) * (108) (1) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 135. (2) وهو قول الحسن والجبائي على ما حكاه عنهما الشيخ في التبيان: ج 4 ص 485، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 361. (3) انظر الكشاف: ج 2 ص 136. (*)
[ 684 ]
* (فظلموا بها) * معناه: فكفروا * (بايتنآ) *، أجرى الظلم مجرى الكفر (1) كما قال: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (2)، أو فظلموا الناس بسببها حين صدوهم عنها وآذوا الذين آمنوا بها (3) * (حقيق على أن لاأقول) * جائز أن يكون ضمن * (حقيق) * معنى " حريص " (4) كما ضمن " هيجني " معنى " ذكرني " في بيت النابغة: إذا تغنى الحمام الورق هيجني * ولو تعزيت عنها أم عمار (5) ويجوز أن يكون موسى (عليه السلام) أغرق في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فقال: أنا حقيق على قول الحق (6)، أي: واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا مثلي ناطقا به، وقرأ نافع: " حقيق علي أن لاأقول " (7) ومعناه: واجب علي * (فأرسل معى بنى إسرا ءيل) * أي: خلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم، وذلك أن فرعون والقبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل واستخدموهم في الأعمال الشاقة، فأنقذهم الله بموسى، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام * (قال إن كنت جئت) * من عند من أرسلك * (باية فأت بها) * لتصح دعواك ويثبت صدقك سورة الأعراف / 108 و 109 * (فألقى) * موسى * (عصاه فإذا هي ثعبان مبين) * ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان، (1) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 362، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 136. (2) لقمان: 13. (3) انظر الكشاف: ج 2 ص 136. (4) وهو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 224، وحكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 185. (5) راجع ديوان النابغة الذبياني: ص 36، وفيه: " تغربت ". (6) وهو اختيار الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 137. (7) راجع التبيان: ج 4 ص 488، وتفسير البغوي: ج 2 ص 185، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 287، والكشاف: ج 2 ص 136. (*)
[ 685 ]
وروي: أنه كان ثعبانا ذكرا أشعر (1) فاغرا فاه (2) بين لحييه كذا ذراعا، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، فوثب فرعون من سريره وهرب وأحدث (3) وصاح: يا موسى خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه موسى فعاد عصا (4) * (ونزع يده فإذا هي بيضاء) * بياضا نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى (عليه السلام) آدم فيما يروى (5) * (للنظرين) * أي: للنظارة هناك. * (قال الملا من قوم فرعون إن هذا لسحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حشرين (111) يأتوك بكل سحر عليم (112) وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغلبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114) قالوا يموسى إمآ أن تلقى وإمآ أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجآءو بسحر عظيم) * (116) في سورة الشعراء * (قال للملا حوله) * (6) وهنا * (قال الملا) * ويمكن أن يكون قاله هو وقالوه هم فحكي قوله هنالك وقولهم هنا، أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما يفعله الملوك يبلغ خواصهم ما يرونه من الرأي إلى العامة، ويدل (1) أي كثير الشعر طويله. (القاموس المحيط: مادة شعر). (2) أي فاتحا فمه. (القاموس المحيط: مادة فغر). (3) أراد أنه تغوط من شدة ذعره وفزعه. (4) انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 286، والكشاف: ج 2 ص 138. (5) وهو ما يرويه مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 6 ص 17 ح 14931. (6) آية: 34. (*)
[ 686 ]
عليه أنهم أجابوه في قولهم: * (أرجه وأخاه) *، وقوله: * (فماذا تأمرون) * من آمرته فأمرني بكذا: إذا شاورته فأشار عليك برأي * (قالوا أرجه) * أي: أخره * (وأخاه) * وأصدرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما، وقرئ: " أرجئه " بالهمزة (1)، وأرجأه وأرجاه لغتان (2) * (قالوا إن لنا لاجرا) * أي: جعلا على الغلبة، وقرئ: * (إن لنا لاجرا) * على الإخبار (3) وإثبات الأجر العظيم وإيجابه كأنهم قالوا: لابد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، قالت العرب: إن له لابلا، يقصدون الكثرة، وقوله: * (وإنكم لمن المقربين) * معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب، أي: نعم إن لكم لأجرا وإنكم لمن المقربين، يعني لاأقتصر بكم على الأجر وحده وإن لكم مع الأجر ما يقل عنده الأجر وهو التبجيل والتقريب، وروي أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج (4). سورة الأعراف / 116 و 117 وتخيير السحرة موسى (عليه السلام) مراعاة منهم لأدب حسن معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، وقولهم: * (وإمآ أن نكون نحن الملقين) * فيه ما يدل على (1) قرأه ابن كثير والداحوني عن هشام ويحيى وابن عامر وأهل البصرة. راجع التبيان: ج 4 ص 494 - 495، وتفسير البغوي: ج 2 ص 186، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 559، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 287، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 421. ونسب النحاس في إعراب القرآن: ج 2 ص 142 هذه القراءة الى عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء. (2) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 340. (3) قرأ أهل الحجاز (ابن كثير ونافع) وعاصم برواية حفص بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ بهمزتين مخففتين ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر، إلا أن الحلواني عن هشام يفصل بينهما بألف، وأبو عمرو ورويس بالمد ولا يفصل. راجع التبيان: ج 4 ص 498، وتفسير البغوي: ج 2 ص 187، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 289، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 472. (4) انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 287، وتفسير البغوي: ج 2 ص 187. (*)
[ 687 ]
رغبتهم في أن يلقوا قبله، وهو تأكيد الضمير المستكن بالمنفصل وتعريف الخبر، وقد سوغ لهم موسى ما رغبوا فيه قلة مبالاة بهم وثقة بما كان بصدده من المعجز الإلهي والتأييد السماوي * (فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس) * بما أروهم من الحيل والشعوذة (1)، فقد روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي أمثال الحيات قد ملات الأرض وركب بعضها بعضا (2) * (واسترهبوهم) * وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم استدعوا رهبتهم * (وجآءو بسحر عظيم) * أي: عظيم في باب السحر، وذلك أنهم جعلوا في حبالهم وخشبهم ما يوهم الحركة وخيل إلى الناس أنها تسعى. * (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صغرين (119) وألقى السحرة سجدين (120) قالوا ءامنا برب العلمين (121) رب موسى وهرون (122) قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منهآ أهلها فسوف تعلمون (123) لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ثم لاصلبنكم أجمعين (124) قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منآ إلا أن ءامنا بايت ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) * (126) معناه: فألقاها فصارت حية عظيمة * (فإذا هي تلقف ما يأفكون) *: * (ما) * مصدرية أو موصولة (3)، أي: تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك، أو ما يأفكونه (1) الشعوذة أو الشعبذة: وهي الحركة السريعة بحيث يوجب على الحس الانتقال من الشئ الى شبهه كما تري النار المتحركة على الاستدارة دائرة متصلة. انظر المكاسب للشيخ الأعظم: ج 3 ص 117. (2) راجع تاريخ الطبري: ج 1 ص 287 - 288. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 342. (*)
[ 688 ]
أي: يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه. روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من سورة الأعراف / 126 و 127 الخشب والحبال ورفعها موسى فعادت عصا كما كانت (1)، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة، وكلا الأمرين يعلم كل عاقل أنه لايدخل تحت مقدور البشر * (فوقع الحق) * فحصل وثبت * (وانقلبوا صغرين) * أي: صاروا أذلاء مبهوتين * (وألقى السحرة) * أي: وخروا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، وقيل: إنهم لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا (2) * (قال فرعون ءامنتم به) * على الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل، وقرئ: " أآمنتم " بحرف الاستفهام (3) ومعناه الإنكار * (قبل أن ءاذن لكم) * قبل أن آمركم بالإيمان به وآذن لكم فيه * (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة) * إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء، وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان ذلك الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان * (فسوف تعلمون) * وعيد مجمل وقد فصل الإجمال بقوله: * (لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف) * أي: من كل شق طرفا، وعن الحسن: هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى (4)، وقيل: إن أول من قطع من خلاف وصلب: فرعون (5) * (إنآ إلى ربنا منقلبون) * أي: لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، أو إنا جميعا ننقلب (1) انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 288، وتفسير البغوي: ج 2 ص 188. (2) حكاه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 188 عن الأخفش، وقاله الهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 343. (3) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 290، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 365. (4) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 510، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 261. (5) وهو قول ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 6 ص 24، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 261. (*)
[ 689 ]
إلى الله فيحكم بيننا (1) * (وما تنقم منآ إلا أن ءامنا) * أي: وماتعيب منا إلا الإيمان * (بايت) * الله وهو أصل كل منقبة (2) وخير، ومثله قول الشاعر: ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (3) * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * أفض علينا صبرا واسعا كثيرا حتى يغمرنا كما يفرغ الماء إفراغا * (وتوفنا مسلمين) * ثابتين على الإسلام. * (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الارض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبنائهم ونستحى ى نساءهم وإنا فوقهم قهرون (127) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله يورثها من يشآء من عباده والعقبة للمتقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون) * (129) لما أسلم السحرة قال الملا ذلك تحريصا لفرعون على موسى * (ويذرك) * عطف على * (ليفسدوا) * لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم وكان ذلك مؤديا إلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. وروي عن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " ويذرك وإلهتك " (4) أي: عبادتك. (1) انظر الكشاف: ج 2 ص 141. (2) في بعض النسخ: منفعة. (3) البيت من قصيدة للنابغة الذبياني، مدح بها عمرو بن الحارث الأصغر من ملوك الشام الغسانيين وذلك لما هرب من النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وهذا البيت مشهور تداوله علماء البديع شاهدا لتأكيد المدح بما يشبه الذم، إذ يصف فرسانا وشجاعتهم ثم يقول: إن كانت فلول السيف من ذلك عيبا فأثبته ولا أنكر، لكنها ليست عيبا فتثلم السيوف انما هو من شدة مضاربة الجيوش، وهو مبالغة في المدح. انظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 3 ص 327، والكامل لابن المبرد: ج 1 ص 71 و 446، وديوان النابغة: ص 51. (4) ذكرها ابن خالويه في شواذه: ص 50، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 262، والبحر = (*)
[ 690 ]
وعن ابن عباس أنه لما آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستمائة ألف نفس فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك، وخافوا أن يغلبوا على الملك (1)، وقيل: إن فرعون صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه، ولذلك قال: * (أنا ربكم الاعلى) * (2) (3)، * (سنقتل أبنائهم) * أي: سنعيد عليهم ماكنا نفعله بهم من قتل الأبناء ليعلموا أنا على ماكنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لاأثر لها في ملكنا * (قال موسى) * عند ذلك * (لقومه استعينوا بالله) * يسكنهم ويسليهم ويعدهم النصر من الله، وقوله: * (إن الارض لله يورثها من يشآء) * يجوز أن يكون اللام للعهد ويعني: أرض مصر خاصة، ويجوز أن يكون للجنس فيتناول أرض مصر أيضا (4) * (والعقبة للمتقين) * بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتمسكين بالتقوى، وأن المشيئة متناولة لهم * (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) * يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى وإعادته عليهم من بعد نبوته وتأييده بالمعجزات، وقوله: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) * تصريح بما أشار إليه من البشارة ورمز به قبل، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر * (فينظر كيف تعملون) * فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. سورة الأعراف / 130 و 131 * (ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرا ت لعلهم يذكرون (130) فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة = المحيط: ج 4 ص 367. (1) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 514، والطبري في تفسيره: ج 6 ص 28. (2) النازعات: 24. (3) قاله السدي راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 189. (4) انظر الكشاف: ج 2 ص 143. (*)
[ 691 ]
يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طئرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) * (131) أي: عاقبنا قوم * (فرعون) * الذين يؤول أمرهم إليه * (بالسنين) * بسني القحط، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم، وقالوا: أسنت القوم: أقحطوا، وعن ابن عباس: إن السنين كانت لباديتهم وأهل مواشيهم، وكان نقص الثمرات في أمصارهم (1) * (لعلهم يذكرون) * فيتنبهوا أن ذلك لإصرارهم على الكفر * (فإذا جاءتهم الحسنة) * من الخصب والرخاء * (قالوا لنا هذه) * أي: هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها، واللام مثلها في قولك: الجل للفرس * (وإن تصبهم سيئة) * من جدب وضيقة * (يطيروا) * أي: يتطيروا * (بموسى ومن معه) * ويتشاءموا بهم ويقولوا: لولا مكانهم لما أصابتنا، كما قال الكفار لرسول الله (صلى الله عليه وآله): * (هذه من عندك) * (2)، * (ألا إنما طئرهم عند الله) * أي: سبب خيرهم وشرهم عند الله وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم وليس شؤم أحد ولايمنه بسبب فيه، كقوله: * (قل كل من عند الله) * (3). * (وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايت مفصلت فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرا ءيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بلغوه إذا هم ينكثون (135) فانتقمنا منهم (1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 144. (2 و 3) النساء: 78. (*)
[ 692 ]
فأغرقنهم في اليم بأنهم كذبوا بايتنا وكانوا عنها غفلين) * (136) سورة الأعراف / 134 * (مهما) * هي " ما " المتضمنة معنى الجزاء ضمت إليها " ما " المزيدة المؤكدة للجزاء في نحو: * (أينما تكونوا) * (1) و * (إما نرينك) * (2) إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين (3) ومحل * (مهما) * الرفع بمعنى: أيما شئ تأتنا به، أو النصب بمعنى: أيما شئ تحضرنا تأتنا به (4)، و * (من ءاية) * تبيين ل * (مهما) * وذكر الضمير في * (به) * على اللفظ وفي * (بها) * على المعنى، وقد رجع كلاهما إلى * (مهما) * وهو في معنى الآية، ونحوه قول زهير (5): ومهما يكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم (6) والمعنى: أنهم قالوا لموسى: أي شئ * (تأتنا به من) * الآيات * (لتسحرنا) * لتموه علينا * (بها فما نحن لك) * بمصدقين، أرادوا أنهم مصرون على تكذيبه وإن أتى بجميع الآيات * (فأرسلنا عليهم الطوفان) * وهو ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل، قيل: إنه أرسل عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، إذ امتلات بيوتهم ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة (7)، وقيل: الطوفان: الجدري (8)، وهم أول من عذبوا بذلك فبقي في الأرض، (1) النساء: 78. (2) يونس: 46، غافر: 77. (3) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 369، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 146، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 347. (4) راجع تفصيله في الكشاف: ج 2 ص 146. (5) زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، من مضر، حكيم الشعراء في الجاهلية، ولد في بلاد " مزينة " بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر من بلاد نجد، توفي بحدود 13 قبل الهجرة. (الأغاني: ج 10 ص 288 - 324، جمهرة الأنساب: ص 25 - 47). (6) راجع ديوان زهير بن أبي سلمى: ص 88، وهو من الأبيات المشهورة التي لا تحتاج الى توضيح. (7) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 191. (8) قاله أبو قلابة. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 191، والكشاف: ج 2 ص 147. (*
[ 693 ]
وقيل: هو الموت الذريع (1)، ف * (قالوا) * ل * (موسى ادع لنا ربك) * يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع، فلم يؤمنوا، فبعث الله عليهم * (الجراد) * فأكلت عامة زروعهم (2) وثمارهم، ثم أكلت كل شئ حتى الأبواب وسقوف البيوت، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شئ، ففزعوا إلى موسى فدعا فكشف عنهم، فما آمنوا، فسلط الله عليهم * (القمل) * وهو الحمنان كبار القردان، وقيل: الدبى وهو أولاد الجراد (3)، وقيل: البراغيث (4)، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، ففزعوا إلى موسى، فرفع عنهم العذاب، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله عليهم * (الضفادع) * فامتلات منها آنيتهم (5) وأطعمتهم، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يتكلم وثب الضفدع إلى فيه، فضجوا وفزعوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة ونتوب ولانعود، فدعا فكشف عنهم، ولم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم * (الدم) * فصارت مياههم دما، وإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، وكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك وصبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي تحول دما، وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا (6)، وروي: أن موسى (عليه السلام) مكث فيهم بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات (7) * (ءايت مفصلت) * (1) وهو قول مجاهد وعطاء. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 251، وتفسير البغوي: ج 2 ص 191. (2) في بعض النسخ: زرعهم. (3) قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد وعكرمة والكلبي. راجع تفسير الطبري: ج 6 ص 33 - 34، وتفسير البغوي: ج 2 ص 192. (4) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 6 ص 34، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 252. (5) في بعض النسخ: أبنيتهم. (6) انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 289، وتفسير البغوي: ج 2 ص 191 - 193. (7) رواه القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 267 عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن منجاب. (*)
[ 694 ]
مبينات ظاهرات (1)، أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بما وعدوا من أنفسهم أم ينكثون، إلزاما للحجة عليهم (2) * (بما عهد عندك) * " ما " مصدرية أي: بعهده عندك وهو النبوة، والباء: إما أن يتعلق بقوله: * (ادع لنا ربك) * على وجهين: أحدهما: أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله، أو ادع الله متوسلا إليه بعهده عندك، وإما أن يكون قسما أي: أقسمنا بعهد الله عندك (3) * (لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك) *، وقوله: * (إلى أجل) * إلى حد من الزمان * (هم بلغوه) * لا محالة فيعذبون فيه * (إذا هم ينكثون) * جواب " لما " يعني: * (فلما كشفنا عنهم) * فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخروه * (فانتقمنا منهم) * فأردنا الانتقام منهم * (فأغرقنهم في اليم) * أي: البحر الذي لا يدرك قعره (4)، وقيل: هو لجة البحر (5) * (بأنهم كذبوا) * أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم * (بايتنا) * وغفلتهم عنها. سورة الأعراف / 137 و 138 * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشرق الارض ومغربها التى بركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى إسرا ءيل بما صبروا ودمرنا ماكان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137) (1) وهو قول مجاهد كما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 522، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 148. (2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 393، والزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 2 ص 370، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 193. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 349. (4) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 371 وقال: وكذلك هو في الكتب الاول، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 148. (5) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 148، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 350، والرازي في تفسيره: ج 14 ص 220. (*)
[ 695 ]
وجوزنا ببنى إسرا ءيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يموسى اجعل لنآ إلها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلاء متبر ماهم فيه وبطل ما كانوا يعملون (139) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العلمين) * (140). * (القوم) * هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه، و * (الارض) * أرض مصر والشام ملكها بنو إسرائيل بعد العمالقة والفراعنة فتصرفوا في نواحيها الشرقية والغربية كيف شاءوا * (التى بركنا فيها) * بأنواع الخصب من الزروع والثمار والعيون والأنهار * (وتمت كلمت ربك الحسنى) * وهو قوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) * إلى قوله: * (ما كانوا يحذرون) * (1)، و * (الحسنى) * تأنيث " الأحسن " صفة للكلمة * (و) * معنى * (تمت... على بنى إسرا ءيل) * مضت عليهم، من قولك: تم على الأمر: إذا مضى عليه واستمر * (بما صبروا) * بسبب صبرهم * (ودمرنا ماكان يصنع فرعون وقومه) * ما كانوا يعملونه من العمارات وبناء القصور * (وما كانوا يعرشون) * من الجنات، وقرئ: * (يعرشون) * بضم الراء (2) وكسرها، وهذا آخر مااقتص الله سبحانه من نبأفرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله. ثم اقتص سبحانه نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام * (وجوزنا ببنى إسرا ءيل البحر) * يعني: النيل (3) نهر (1) القصص: 5 - 6. (2) وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم. راجع التبيان: ج 4 ص 525، وتفسير البغوي: ج 2 ص 194، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 424. (3) النيل: نيل مصر، قيل: هو تعريب نيلوس، وهو أهم نهر في أفريقيا، وثاني أطول نهر في العالم، يبلغ طوله: 6500 كم، ومساحة حوضه 2900000 كم 2، يتألف من رافدين كبيرين: النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا في وسط أفريقيا، والنيل الأزرق الذي ينبع = (*)
[ 696 ]
مصر * (فأتوا) * فمروا * (على قوم يعكفون على أصنام لهم) * قرئ بضم الكاف وكسرها (1)، يواظبون على عبادتها، وقيل: كانت تماثيل بقر (2)، وذلك أول شأن العجل * (قالوا يموسى اجعل لنآ إلها) * صنما نعكف عليه * (كما لهم ءالهة) * أصنام يعكفون عليها، و " ما " كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها * (قال إنكم قوم تجهلون) * فوصفهم بالجهل المطلق لتعجبه من قولهم عقيب ما رأوا من الآيات الباهرة * (إن هؤلاء) * يعني: عبدة التماثيل * (متبر ماهم فيه) * أي: مدمر مكسر ماهم فيه من عبادة الأصنام، أي: يتبر الله دينهم ويهدمه على يدي ويحطم أصنامهم هذه ويجعلها رضاضا * (وبطل ما كانوا يعملون) * أي: ما عملوا شيئا من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به * (قال أغير الله أبغيكم إلها) * أغير الله المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وهو فعل بكم ما فعل من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحدا غيركم لتخصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره ؟ ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب من طلبهم عبادة غير الله مع كونهم مغمورين في نعمة الله. سورة الأعراف / 141 و 142 * (وإذ أنجينكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفى ذا لكم بلاء من ربكم عظيم (141) = من بحيرة تانا في الحبشة، ويلتقي هذان الرافدان عند مدينة الخرطوم في السودان يجري النيل في بلاد النوبة ومصر، ويصب في البحر المتوسط. (معجم البلدان: ج 4 ص 862، مراصد الاطلاع: ج 3 ص 1413، المنجد في الاعلام: ص 721). (1) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 527، وتفسير البغوي: ج 2 ص 194، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 292، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 424. (2) قاله ابن جريج على ما حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 6 ص 46، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 150. (*)
[ 697 ]
ووا عدنا موسى ثلثين ليلة وأتممنها بعشر فتم ميقت ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هرون اخلفنى في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * (142) وقرئ: " أنجاكم " (1)، * (يسومونكم سوء العذاب) * أي: يبغونكم شدة العذاب، من سام السلعة: إذا طلبها، وهي جملة في موضع الحال من المخاطبين أو من آل فرعون، أو جملة مستأنفة لامحل لها (2) * (وفى ذا لكم) * إشارة إلى الإنجاء أو العذاب (3)، والبلاء: النعمة أو المحنة، وقرئ: " يقتلون " بالتخفيف (4) كان موسى (عليه السلام) وعد بني إسرائيل بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون ومايذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة، ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها (5)، وعن الحسن: كان الموعد أربعين ليلة فأجمل في سورة البقرة وفصل هاهنا (6)، و * (ميقت ربه) * ماوقت له من الوقت (7) وضربه له، و * (أربعين ليله) * نصب على (1) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 4 ص 530، وتفسير البغوي: ج 2 ص 195، وقال: وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 379. (2) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 151. (3) انظر الكشاف: ج 2 ص 151، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 355. (4) وهي قراءة نافع. راجع التبيان: ج 4 ص 530، وتفسير البغوي: ج 2 ص 195، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425. (5) انظر تفسير القمي: ج 1 ص 239. (6) راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 388، وعنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 532. (7) ولا يخفى بأن بين " الميقات " و " الوقت " فرقا واختلافا، إذ ان الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، بينما الوقت: وقت الشئ وقدره مقدر أو لم يقدر، ولذلك قيل: مواقيت الحج وهي المواضع التي قدرت للإحرام فيها. ولتفصيل ذلك انظر معجم الفروق اللغوية: ص 525 - 526 برقم 2116 و 2117 ط جامعة المدرسين. (*)
[ 698 ]
الحال، أي: تم الميقات بالغا هذا العدد * (وقال موسى) * وقت خروجه إلى الميقات، و * (هرون) * جر عطف بيان ل * (لأخيه) *، * (اخلفنى في قومي) * كن خليفتي فيهم * (وأصلح) * وكن مصلحا أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل في حال غيبتي، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تطعه ولا تتبعه. وفي هذا دلالة على أن منزلة الإمامة غير داخلة في النبوة، إذ لو كانت داخلة فيها لما احتاج هارون إلى استخلاف موسى إياه في القيام بأمر أمته مع كونه نبيا. * (ولما جاء موسى لميقتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترينى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترينى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلمآ أفاق قال سبحنك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) * (143) سورة الأعراف / 143 * (لميقتنا) * أي: لوقتنا الذي وقتنا له وحددناه، ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قال: واختص مجيئه لميقاتنا، كما تقول: أتيته لخمس خلون من الشهر * (وكلمه ربه) * من غير واسطة كما يكلم الملك، وتكليمه أن ينشئ الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح، لأن الكلام عرض لابد له من محل يقوم به، وروي: أنه (عليه السلام) كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة (1) * (قال رب أرنى أنظر إليك) * المفعول الثاني محذوف، يعني: أرني نفسك أنظر إليك، أي: اجعلني متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك (2)، وإنما طلب الرؤية (1) الكشاف: ج 2 ص 152. (2) قال الشيخ في التبيان: ج 4 ص 534 - 535: فإن قيل: على هذا ينبغي أن يجوزوا أن يسأل الله تعالى هل هو جسم أم لا... وغير ذلك مما لا يجوز عليه ؟ ! قلنا عنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز ذلك إذا علم أن في ورودالجواب من جهة الله مصلحة وأنه أقرب الى زوال الشبهة = (*)
[ 699 ]
لقومه حين قالوا له: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (1) ولذلك دعاهم سفهاء وضلالا، وقال لما أخذتهم الرجفة: * (أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ) * (2)، ولم يسأل ذلك إلا بعد أن أنكر عليهم ونبههم على الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة الرؤية عليه وهو قوله: * (لن ترينى) * ليتيقنوا وتزول شبهتهم، ومعنى * (لن) *: تأكيد النفي الذي يعطيه " لا "، وذلك أن " لا " لنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكدت النفي قلت: لن أفعل غدا (3)، والمعنى: أن فعله ينافي حالي، كقوله سبحانه: * (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * (4)، فقوله: * (لا تدركه الابصر) * (5) نفي للرؤية فيما يستقبل، وقوله: * (لن ترينى) * تأكيد وبيان أن الرؤية منافية لصفاته * (ولكن انظر إلى الجبل) * معناه: أن النظر إلي محال فلاتطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به، وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية لتستعظم ماأقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه جل جلاله حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: * (وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا) * (6)، * (فإن استقر مكانه) * كما كان مستقرا ثابتا * (فسوف ترينى) * تعليق لوجود الرؤية بوجود مالا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه = عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى كما جاز ذلك في مسألة الرؤية... والثاني انه انما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحته بالسمع، وما يكون الشك فيه لايمنع من العلم بصحة السمع، وانما يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه... الى آخر قوله الشريف. (1) البقرة: 55. (2) الأعراف: 155. (3) انظر تفصيل ذلك في الكشاف: ج 2 ص 153 - 154. (4) الحج: 73. (5) الانعام: 103. (6) مريم: 90 - 91. (*)
[ 700 ]
بالأرض * (فلما تجلى ربه للجبل) * أي: ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته * (جعله دكا) * أي: مدكوكا، مصدر بمعنى مفعول، والدك والدق مثلان، وقرئ: " دكآء " (1)، والدكاء: الربوة الناشزة من الأرض لا تبلغ أن تكون جبلا، أو يريد أرضا دكاء: مستوية، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية السنام (2) * (وخر موسى صعقا) * من هول ما رأى، وصعق من باب فعلته ففعل، تقول: صعقته فصعق وأصله من الصاعقة، ومعناه: خر مغشيا عليه غشية كالموت * (فلمآ أفاق) * من صعقته * (قال سبحنك) * أنزهك مما لا يجوز عليك * (تبت إليك) * من طلب الرؤية * (وأنا أول المؤمنين) * بأنك لا ترى. سورة الأعراف / 143 - 145 وقيل (3): في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بقوله: * (أرنى أنظر إليك) * عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطر الخلق إلى معرفتك * (أنظر إليك) * أعرفك معرفة ضرورية كأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " (4) بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلا واستوى بدرا، قال: * (لن ترينى) * لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ولن تحتمل قوتك تلك الآية * (ولكن انظر إلى الجبل) * فإني أورد عليه آية من تلك الآيات * (فإن) * ثبت لتجليها و * (استقر مكانه فسوف) * تثبت لها وتطيقها * (فلما تجلى ربه) * فلما ظهرت للجبل آية من آيات ربه * (جعله دكا وخر موسى صعقا) * لعظم ما رأى * (فلمآ أفاق قال سبحنك (1) قرأه حمزة والكسائي. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 197، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 293، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 384، وفي التبيان: ج 4 ص 533: هي قراءة أهل الحجاز إلا عاصما. (2) انظر لسان العرب: مادة " دكك "، ومفردات الراغب الاصفهاني: ص 171. (3) نسب هذا القول في مجمع البيان: ج 3 - 4 ص 475 الى أبي القاسم البلخي. (4) مسند أبي عوانة: ج 1 ص 376، مسند أبي حنيفة: ص 19 (*)
[ 701 ]
تبت إليك) * مما اقترحت * (وأنا أول المؤمنين) * بعظمتك وجلالك. * (قال يموسى إنى اصطفيتك على الناس برسلتى وبكلمي فخذ مآ ءاتيتك وكن من الشكرين (144) وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفسقين) * (145) * (قال) * الله سبحانه * (يموسى إنى) * اتخذتك صفوة وفضلتك * (على) * أهل زمانك من * (الناس برسلتى) * وهي أسفار التوراة، وقرئ: " برسالتي " على التوحيد (1)، * (وبكلمي) * وبتكليمي إياك * (فخذ مآ ءاتيتك) * أي: أعطيتك من شرف النبوة والحكمة * (وكن من الشكرين) * على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم، وقيل: خر موسى صعقا يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر (2) * (وكتبنا له في الالواح) * يريد ألواح التوراة، واختلف في عددها وفي جوهرها: فقيل: كانت سبعة ألواح (3)، وقيل: عشرة (4)، وقيل: لوحين (5)، وأنها كانت من زمرد (6)، (1) وهي قراءة نافع وابن كثير. راجع التبيان: ج 4 ص 538، وتفسير البغوي: ج 2 ص 198، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 293، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 280. (2) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 259، والكلبي على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 198. (3) قاله سعيد بن جبير عن ابن عباس كما في تفسير السمرقندي: ج 1 ص 569، وذكره السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 549 عنه وعزاه لابن أبي حاتم. (4) رواه جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله) على ما ذكره السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 569، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 551 وعزاه لابن مردويه وأبي نعيم في الحلية وابن لال في مكارم الأخلاق. (5) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 375 وقال: ويجوز في اللغة أن يقال للوحين: ألواح. وحكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 539. (6) قاله مجاهد وابن جريج. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 260، وتفسير البغوي: ج 2 = (*)
[ 702 ]
وقيل: من زبرجدة خضراء (1) أو ياقوتة حمراء (2)، وقيل: كانت من خشب نزل سورة الأعراف / 146 و 147 من السماء (3) * (من كل شئ) * في محل النصب مفعول * (كتبنا) *، و * (موعظة وتفصيلا) * بدل منه (4)، والمعنى: كتبنا له فيها كل شئ احتاجت إليه بنو إسرائيل في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام والحلال والحرام وذكر الجنة والنار وغير ذلك من العبر والأخبار * (فخذها بقوة) * أي: بجد واجتهاد وإقبال وعزيمة، فعل أولي العزم من الرسل، وهو عطف على * (كتبنا له) * والتقدير: فقلنا له: خذها، ويجوز أن يكون بدلا من قوله: * (فخذ مآ ءاتيتك) *، والضمير في * (فخذها) * ل * (الالواح) * أو ل * (كل شئ) * لأنه في معنى الأشياء أو ل " الرسالات " (5)، * (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) * أي: فيها ما هو حسن وأحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب (6)، كقوله: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) * (7)، وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنه أحسن من المباح (8) * (سأوريكم دار الفسقين) * أي: منازل القرون الماضية المخالفة لأمر الله لتعتبروا بها (9)، وقيل: دار الفاسقين نار = ص 199، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 281. (1) قاله أبو العالية والكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 2 ص 260، وتفسير البغوي: ج 2 ص 199. (2) وهو قول سعيد بن جبير على ما نسبه إليه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 260، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 199، والقرطبي أيضا في تفسيره: ج 7 ص 281. (3) قاله الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 387، وعنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 260، والبغوي في تفسيره: ج 2 ص 199، وابن الجوزي في زاد المسير: ج 3 ص 258. (4) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 158. (5) انظر تفصيله في الكشاف: ج 2 ص 158. (6) وهو قول الزجاج: ج 2 ص 375، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 158. (7) الزمر: 55. (8) قاله الشيخ في التبيان: ج 4 ص 540. (9) وهو قول قتادة كما حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 200، والقرطبي في تفسيره: = (*)
[ 703 ]
جهنم (1)، فلتكن منكم على ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم. * (سأصرف عن ءايتى الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذا لك بأنهم كذبوا بايتنا وكانوا عنها غفلين (146) والذين كذبوا بايتنا ولقآء الاخرة حبطت أعملهم هل يجزون إلاما كانوا يعملون) * (147) * (سأصرف) * المتكبرين * (عن ءايتى) * بالطبع على قلوبهم وخذلانهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وفي الحديث: " إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي " (2). وقيل: معناه: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال آية موسى فأبى الله إلا علو أمره (3) * (بغير الحق) * فيه وجهان: أحدهما: أن يكون حالا أي: يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحق لله وحده، والآخر: أن يكون صلة للتكبر أي: يتكبرون بما ليس بحق (4) * (وإن يروا كل ءاية) * من الآيات المنزلة عليهم * (لا يؤمنوا بها) *، * (ذا لك) * رفع أو نصب (5)، أي: ذلك الصرف بسبب = ج 7 ص 282، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 158. (1) قاله الحسن ومجاهد. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 388، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 261، وزاد المسير لابن الجوزي: ج 3 ص 260، وفتح القدير للشوكاني: ج 2 ص 247، والدر المنثور للسيوطي: ج 3 ص 562. (2) الكشاف: ج 2 ص 158، الدر المنثور: ج 3 ص 127، اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 4 ص 515. (3) قاله البلخي. راجع التبيان: ج 4 ص 543. (4) انظر الكشاف: ج 2 ص 159. (5) لمزيد من التفصيل راجع الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 360. (*)
[ 704 ]
تكذيبهم، أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه * (ولقآء الاخرة) * من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي: ولقائهم الآخرة وما وعد الله فيها. * (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولايهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظلمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخسرين) * (149) سورة الأعراف / 148 و 149 * (من بعده) * أي: من بعد خروجه إلى الطور * (من حليهم) * التي استعاروها من قوم فرعون وبقيت في أيديهم بعد هلاك فرعون وقومه، فاتخذ السامري منها * (عجلا جسدا) * لاروح فيه، وهو بدل من * (عجلا) *، * (له خوار) * أي: صوت، والحلي جمع حلي (1)، وقرئ: " حليهم " بكسر الحاء (2) على الإتباع، و " من حليهم " على التوحيد (3)، وهو اسم مايتحسن به من الذهب والفضة (4)، وقيل: كان جسدا ذالحم ودم كسائر الأجساد (5)، وعن الحسن: أن السامري قبض قبضة من تراب أثر حافر فرس جبرئيل يوم قطع البحر فقذفه في في (6) العجل فكان عجلا (1) انظر معاني القرآن للأخفش: ج 2 ص 533، ولسان العرب لابن منظور: مادة (حلا). (2) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 4 ص 544، وتفسير البغوي: ج 2 ص 201، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 294، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 425، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 477، والتيسير للداني: ص 113. (3) وهي قراءة يعقوب. راجع التبيان: ج 4 ص 544، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 150، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 392. (4) انظر معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 377. (5) قاله ابن عباس والحسن وقتادة كما في تفسير البغوي: ج 2 ص 201، واختاره الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 159 - 160، والهمداني في الفريد في إعراب القرآن: ج 2 ص 361. (6) في نسخة: فم. (*)
[ 705 ]
له خوار (1) * (ألم يروا) * حين اتخذوه إلها * (أنه لا) * يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يتخذوه معبودا، ثم ابتدأ فقال: * (اتخذوه) * أي: أقدموا على ماأقدموا عليه من الأمر المنكر * (وكانوا ظلمين) * في كل شئ، فلم تكن عبادة العجل أمرا بديعا منهم * (ولما سقط في أيديهم) * ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتدت حسرته أن يعض على يديه غما فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها (2) * (ورأوا أنهم قد ضلوا) * وتبينوا ضلالهم بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى * (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) * وقرئ: " لئن لم ترحمنا " بالتاء " ربنا " بالنصب على النداء " وتغفر لنا " بالتاء (3) أيضا. وعن الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون بدلالة قول موسى: * (رب اغفر لى ولأخي) * (4)، وقال غيره: لم يعبده الكل (5). * (ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلاتشمت بى الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظلمين (150) قال رب اغفر لى ولأخي وأدخلنا (1) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 2 ص 545. (2) وهو من باب الكناية على شدة الندم، فيقال للرجل النادم على ما فعل الخسر على ما فرط منه: قد سقط في يده واسقط. (3) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 294، والتيسير للداني: ص 113، وتفسير البغوي: ج 2 ص 201، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 286، وفي التبيان: ج 4 ص 545: هي قراءة أهل الكوفة إلا عاصما. (4) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 546. (5) قال الجبائي: إنما عبد بعضهم بدلالة ما ورد من الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) فيما روي عنه في هذا المعنى. راجع التبيان: ج 4 ص 546. (*)
[ 706 ]
في رحمتك وأنت أرحم الرا حمين) * (151) سورة الأعراف / 150 - 152 الأسف: الشديد الغضب (1)، وقيل: الحزين (2) * (قال بئسما خلفتموني) * أي: قمتم مقامي وكنتم خلفائي * (من بعدى) * حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، وفاعل " بئس " مضمر يفسره " ما خلفتموني "، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم (3) * (أعجلتم أمر ربكم) * تقول: عجلت عن الأمر: إذا تركته غير تام، وأعجلني عنه غيري، ويضمن معنى سبق فيقال: عجلت الأمر، فالمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره وحدثتم أنفسكم بموتي ففعلتم ما فعلتم، روي: أن السامري قال لهم: إن موسى لن يرجع وأنه قد مات (4) * (وألقى الالواح) * أي: طرحها لما لحقه من الضجر غضبا لله وحمية لدينه * (وأخذ برأس أخيه) * أي: بشعر رأسه * (يجره إليه) * لشدة ما ورد عليه من الأمر * (قال) * هارون * (ابن أم) * قرئ بالفتح تشبيها ب " خمسة عشر " وبالكسر (5) على طرح ياء الإضافة (6)، وعن الحسن: والله لقد كان أخاه لأبيه وأمه، وإنما نسبه إلى الأم (1) وهو قول أبي الدرداء فيما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 547، وقول الأخفش كما في تفسير الماوردي: ج 2 ص 262، وأبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 228، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 160. (2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 138، وحكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 547، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 262. وهو قول الحسن على ما في تفسيره: ج 1 ص 388. (3) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 363. (4) حول السامري ونسبه وقصته انظر تاريخ الطبري: ج 1 ص 298 - 299. (5) وهي قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع التبيان: ج 4 ص 547، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 295، وفي تفسير البغوي: ج 2 ص 202: هي قراءة أهل الكوفة والشام. (6) قال الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 394: وذلك أنه كثر في الكلام فحذفت العرب منه = (*)
[ 707 ]
لأن ذكر الأم أبلغ وأنسب في الاستعطاف (1) * (إن القوم) * الذين تركتني بين أظهرهم * (استضعفوني) * قهروني واتخذوني ضعيفا، ولم آل جهدا في كفهم بالإنذار والوعظ * (وكادوا يقتلونني) * أي: هموا بقتلي لشدة إنكاري عليهم * (فلاتشمت بى الاعداء) * فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الإساءة بي * (ولا تجعلني مع القوم الظلمين) * أي: قرينا لهم في إظهار الموجدة علي * (قال رب اغفر لى ولأخي) * بين بهذا الدعاء أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه، وإنما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه عند شدة الغضب على غيره (2) * (وأدخلنا في رحمتك) * أي: نعمتك وجنتك. * (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذا لك نجزى المفترين (152) والذين عملوا السيات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153) ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) * (154) * (غضب من ربهم وذلة) * الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: خروجهم من ديارهم، لأن الغربة ذلة (3)، وقيل: هي الجزية المضروبة عليهم (4) = الياء، ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادي الى نفسه، إلا قولهم: يابن عم ويابن أم وذلك انه يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء مالايستعمل أثبتوا الياء فقالوا: يابن أبي ويابن أخي ويابن خالتي فأثبتوا الياء. (1) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 4 ص 549. (2) وهو اختيار أبي علي الجبائي كما في التبيان: ج 4 ص 550. (3) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 162. (4) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 138، وحكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 202. (*)
[ 708 ]
* (وكذا لك نجزى المفترين) * على الله، ولافرية أعظم من قول السامري: * (هذا إلهكم وإله موسى) * (1)، * (والذين عملوا السيات) * من الكفر والمعاصي * (ثم تابوا) * رجعوا * (من بعدها) * إلى الله وأخلصوا الإيمان * (إن ربك من) * بعدتلك العظائم * (لغفور رحيم) *. * (ولما سكت عن موسى الغضب) * هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: ألق الألواح وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، والمعنى: ولما طفئ غضبه * (أخذ الالواح) * التي ألقاها * (وفى نسختها) * وفيما نسخ فيها وكتب، والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة * (هدى) * دلالة وبيان لما يحتاج إليها (2) من أمور الدين * (ورحمة) * ونعمة ومنفعة * (للذين هم لربهم يرهبون) * دخلت اللام لتقدم المفعول (3)، تقول: لك ضربت، ونحوه: * (للرءيا تعبرون) * (4). * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقتنا فلمآ أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيى أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغفرين) * (155) سورة الأعراف / 155 تقديره: * (واختار موسى) * من * (قومه) * فحذف الجار * (سبعين رجلا) * خرج بهم إلى طور سيناء (5) لميقات ربه، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود (1) طه: 88. (2) في بعض النسخ: إليه. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 367. (4) يوسف: 43. (5) الطور في كلام العرب: الجبل، وقال بعض أهل اللغة: لا يسمى طورا حتى يكون ذا شجر. وقيل: سمي طور ببطور بن إسماعيل (عليه السلام) اسقطت باؤه للاستثقال. ويقال لجميع بلاد الشام: الطور، وذكر بعض العلماء: إن الطور هذا الجبل المشرف على نابلس، ولهذا يحجه السامرة، = (*)
[ 709 ]
الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه ودخلوا وسجدوا فسمعوا كلام الله، ثم انكشف الغمام فطلبوا الرؤية فأنكر عليهم، فقالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * (1)، ف * (قال رب أرنى أنظر إليك) * فأجيب ب * (لن ترينى) * (2)، ورجف بهم الجبل فصعقوا * (فلمآ أخذتهم الرجفة قال) * موسى * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيى) * وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية * (أتهلكنا) * يعني: نفسه وإياهم * (بما فعل السفهآء منآ) * لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوه سفها وجهلا * (إن هي إلا فتنتك) * أي: محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا * (تضل بها) * بالمحنة الجاهلين أي: غير الثابتين في معرفتك * (وتهدى) * العالمين بك، وجعل ذلك إضلالا وهدى من الله، لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم * (أنت ولينا) * مولانا والقائم بأمورنا (3). * (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم بايتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوربة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبت = وقيل: هو مايطل على طبرية الاردن بينهما أربعة فراسخ، على رأسه بيعة واسعة محكمة البناء موثقة الأرجاء، وقد بني عليها قلعة حصينة ومحكمة، وقد خربها الافرنج سنة 615 م عند طلبهم بيت المقدس. (معجم البلدان: ج 3 ص 556). (1) البقرة: 55. (2) الأعراف: 143. (3) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري: ج 1 ص 300 - 301. (*)
[ 710 ]
ويحرم عليهم الخبئث ويضع عنهم إصرهم والاغلل التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) * (157) سورة الأعراف / 157 و 158 أي: * (و) * أثبت * (لنا في هذه الدنيا حسنة) * أي: عافية وحياة طيبة * (وفى الاخرة) * الجنة * (إنا هدنا إليك) * أي: تبنا إليك، من هاد إليه: إذا رجع وتاب، والهود جمع هائد وهو التائب * (قال عذابي) * من صفته أني * (أصيب به من أشاء) * ممن عصاني واستحقه بعصياني * (ورحمتي وسعت كل شئ) * فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولاعاص إلا وهو متقلب في نعمتي، فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل * (للذين) * يكونون في آخر الزمان من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) * (والذين هم ب) * جميع * (ءايتنا) * وكتبنا * (يؤمنون) * لا يكفرون بشئ منها * (الذين يتبعون الرسول) * الذي نوحي إليه كتابا مختصا به وهو القرآن * (النبي) * المؤيد بالمعجزات * (الذى يجدونه) * أي: يجدون نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل * (مكتوبا عندهم في التورية والانجيل) *، * (ويحل لهم) * ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة * (ويحرم عليهم الخبئث) * ما يستخبث نحو الميتة والدم ولحم الخنزير، أو ما خبث في الحكم من المكاسب الخبيثة * (ويضع عنهم إصرهم) * والإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه أي: يحبسه من الحراك لثقله، وهو مثل لثقل تكليفهم نحو قتل الأنفس في التوبة * (و) * كذلك * (الاغلل) * مثل لما كان في شرائعهم من التكاليف الشاقة نحو قرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وتحريم السبت (1) * (وعزروه) * ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو، أصل العزر: المنع، ومنه (1) انظر معاني القرآن للزجاج: ج 2 ص 381، وتفسير البغوي: ج 2 ص 206. (*)
[ 711 ]
التعزير للضرب دون الحد لأنه يمنع من معاودة القبيح، و * (النور) * القرآن * (أنزل معه) * أي: مع نبوته، أو تعلق * (معه) * ب * (اتبعوا) * أي: واتبعوا القرآن الذي أنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، أو: واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي يصاحبونه في اتباعه (1). * (قل يأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السموا ت والارض لاإله إلا هو يحى ى ويميت فامنوا بالله ورسوله النبي الامي الذى يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون (158) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159) وقطعنهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقيه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمم وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبت ما رزقنكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * (160) * (جميعا) * نصب على الحال من * (إليكم) * (2)، * (الذى له ملك السموا ت والارض) * في موضع الجر على الوصف لله، أو النصب على المدح بإضمار " أعني " (3)، و * (لاإله إلا هو) * بدل من الصلة التي هي * (له ملك السموا ت والارض) *، وكذلك * (يحى ى ويميت) *، وفي * (لاإله إلا هو) * بيان للجملة قبلها، لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة، وفي * (يحى ى ويميت) * بيان لاختصاصه بالإلهية، لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره * (وكلمته) * يريد (1) راجع تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 371. (2) انظر التبيان: ج 5 ص 5، والكشاف: ج 2 ص 166. (3) راجع تفصيله في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 372. (*)
[ 712 ]
بها ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل * (لعلكم تهتدون) * إرادة أن تهتدوا * (ومن قوم موسى أمة) * هم المؤمنون التائبون (1) من بني إسرائيل * (يهدون) * الناس * (ب) * كلمة * (الحق) * ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم * (و) * بالحق * (يعدلون) * بينهم في الحكم لايجورون، أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) وآمن به من أعقابهم (2)، وقيل: إنهم قوم من بني إسرائيل فتح الله لهم نفقا في الأرض حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا (3) * (وقطعنهم) * وصيرناهم قطعا أي: فرقا، وميزنا بعضهم من بعض، والأسباط: أولاد الولد جمع سبط، والأسباط في ولد يعقوب بن (4) إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، وكانوا اثني عشر سبطا، وقوله: * (أسباطا) * بدل من * (اثنتى عشرة) * والمميز محذوف والتقدير: اثنتي عشرة فرقة (5)، و * (أمما) * نصب على الحال، يعني: أن كل سبط من الأسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيرة * (فانبجست) * فانفجرت وهو الانفتاح بسعة وكثرة، قال العجاج: وكيف غربي دالج تبجسا (6) سورة الأعراف / 161 - 163 * (قد علم كل أناس) * أي: كل أمة من تلك الأمم * (مشربهم) *، والأناس اسم (1) في نسخة: الثابتون. (2) وهو قول الكلبي كما حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 270. (3) قاله ابن عباس والسدي كما حكاه عنهما الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 270، ونسبه البغوي في تفسيره: ج 2 ص 206 الى الكلبي والضحاك والربيع، واختاره القرطبي في تفسيره: ج 7 ص 302. (4) في بعض النسخ: من. (5) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 373. (6) وصدره: وانحلبت عيناه من فرط الأسى. يقول: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض تفجر السعة. انظر ديوان العجاج: ص 123، والعين للفراهيدي: ج 5 ص 413 مادة " ولف ". (*)
[ 713 ]
جمع غير تكسير نحو: رخال (1) وتناء (2) وتؤام وأخوات لها. * (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162) وسلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذا لك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) * (164) * (القرية) * بيت المقدس (3)، وقرئ: " تغفر لكم خطيئاتكم " (4) و " خطيئتكم " (5) أيضا، وقرئ: * (نغفر لكم) * بالنون * (خطيتكم) * و " خطاياكم " (6)، " وسلهم " وسل اليهود، وقرئ: * (وسلهم) * وهو سؤال تقرير وتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله * (حاضرة البحر) * قريبة منه * (إذ (1) جمع رخل بالكسر: الانثى من أولاد الضأن. (القاموس المحيط: مادة رخل). (2) تنأ تنوءا: أقام. (القاموس المحيط: مادة تنأ). (3) انظر معجم البلدان: ج 4 ص 590 - 594 ففيه كلام مفصل حول بيت المقدس والمسجد الأقصى مما لاغنى عن مراجعته. (4) وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب والمفضل عن عاصم. راجع التبيان: ج 5 ص 9، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 295، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 426، والتيسير في القراءات للداني: ص 114. (5) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 5 ص 9، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 427، والعنوان في القراءات السبع لابن خلف الأندلسي: ص 98. (6) وهي قراءة أبي عمرو. راجع التبيان: ج 5 ص 9، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 295، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 427. (*)
[ 714 ]
يعدون في السبت) * إذ يتجاوزون حد (1) الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت سورة الأعراف / 155 و 156 وقد نهوا عنه، والسبت مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، وكذلك قوله: * (يوم سبتهم) * معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، و * (إذ يعدون) * محله جر (2) بدل من * (القرية) * والمراد بالقرية أهلها، والتقدير: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو بدل الاشتمال، ويجوز أن يكون منصوب المحل ب * (كانت) * أو ب * (حاضرة) *، و * (إذ تأتيهم) * منصوب ب * (يعدون) *، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل (3) * (شرعا) * ظاهرة على وجه الماء، وعن الحسن: تشرع الحيتان على أبوابهم كأنها الكباش البيض (4) يقال: شرع علينا فلان: إذا دنا منا وأشرف علينا * (كذا لك) * أي: مثل ذلك البلاء نبلوهم بسبب فسقهم * (وإذ قالت) * معطوف على * (إذ يعدون) * وإعرابه إعرابه * (أمة منهم) * أي: جماعة من أهل القرية من صلحائهم (5) يئسوا من قبولهم وعظهم لآخرين كانوا ينهونهم ويعظونهم * (لم تعظون قوما الله مهلكهم) * أي: مخترمهم في الدنيا بسبب معصيتهم * (أو معذبهم عذابا شديدا) * في الآخرة، قال الواعظون: * (معذرة إلى ربكم) * أي: موعظتنا (6) معذرة إلى الله وتأدية لفرضه في النهي عن المنكر * (ولعلهم يتقون) * ولطمعنا أن يتقوا ويرجعوا، وقرئ: * (معذرة) * بالنصب (7)، أي: وعظناهم معذرة، أو اعتذرنا معذرة. (1) في نسخة: حدود. (2) في بعض النسخ: مجرور. (3) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 374. (4) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 272، والزمخشري في كشافه: ج 2 ص 171. (5) في بعض النسخ: علمائهم. (6) في نسخة: معذرتنا. (7) وهي قراءة حفص وحده عن عاصم. راجع التبيان: ج 5 ص 13، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 296. (*)
[ 715 ]
* (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن مانهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خسين) * (166) * (فلما نسوا) * يعني: أهل القرية، أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه * (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بيس) * أي: شديد، ولم يذكر الفرقة الثالثة التي قالت: * (لم تعظون) * أهي من الناجية أم من الهالكة، واختلف في ذلك: فقيل: هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الناهية، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (1)، وقيل: نجت الفرقتان وهلكت الواحدة وهي الآخذة للحيتان (2)، لأن الناهي إذا علم أن النهي لا يؤثر في المنهي سقط عنه النهي، وقرئ: " بعذاب بيس " (3) على تخفيف العين من " بئس " ونقل حركتها إلى الفاء وقلب الهمزة ياء كذيب في " ذئب "، وقرئ - أيضا - بالهمزة (4)، وقرئ: " بيئس " (5) على وزن فيعل فيكون وصفا كضيغم (6) * (فلما عتوا عن مانهوا عنه) * (1) انظر الكافي: ج 8 ص 158 ح 151. (2) وهو قول ابن عباس والسدي. راجع تفسير ابن عباس: ص 140، والتبيان: ج 5 ص 14، وحكاه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 172 ونسبه الى الحسن. (3) قرأه نافع وأبو جعفر. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 296، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 427، وتفسير البغوي: ج 2 ص 209، وفي التبيان: ج 5 ص 14: هي قراءة أهل المدينة والداحوني عن هشام. (4) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 5 ص 14، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 296، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 412. (5) وهي قراءة ابن عباس والأعمش وعاصم برواية أبي بكر. راجع التبيان: ج 5 ص 14، وتفسير البغوي: ج 2 ص 209، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 427، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 412. (6) وفي هذا إحدى عشرة قراءة، ذكر المصنف (رحمه الله) ثلاثا منها، ولمزيد التفصيل انظر إعراب = (*)
[ 716 ]
أي: تكبروا عن ترك مانهوا عنه * (قلنا لهم كونوا قردة) * عبارة عن مسخهم قردة * (خسين) * مطرودين مبعدين، وقيل: إنهم بقوا كذلك ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا ولم يتناسلوا (1). * (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167) وقطعنهم في الارض أمما منهم الصلحون ومنهم دون ذا لك وبلونهم بالحسنت والسيات لعلهم يرجعون) * (168) سورة الأعراف / 168 و 169 هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، ومعناه: * (و) * اذكر * (إذ) * عزم * (ربك) * لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم ك " علم الله " و " شهد الله "، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله: * (ليبعثن) *، فكأنه قال: * (وإذ) * كتب * (ربك) * على نفسه وأوجب * (ليبعثن) * على اليهود * (إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب) * فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) ثم ضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، ومعنى * (ليبعثن) *: ليسلطن عليهم كقوله: * (بعثنا عليكم عبادا لنآ) * (2)، * (وقطعنهم في الارض أمما) * أي: فرقناهم في البلاد فرقا وجماعات شتى، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم * (منهم الصلحون) * وهم الذين آمنوا بالله ورسوله (3) * (ومنهم دون ذا لك) * أي: ومنهم ناس دون ذلك الوصف أي: منحطون عنه، فقوله: * (دون ذا لك) * في محل الرفع لأنه صفة لموصوف محذوف، ونحوه = القرآن للنحاس: ج 2 ص 158 - 159، والتيسير في القراءات للداني: ص 114. (1) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي: ج 2 ص 209. (2) الاسراء: 5. (3) في نسخة: ورسله. (*)
[ 717 ]
قوله: * (ومامنآ إلا له مقام معلوم) * (1) أي: وما منا أحد إلا له مقام * (وبلونهم بالحسنت والسيات) * بالنعم والنقم والمنح والمحن * (لعلهم يرجعون) * ينتهون فينيبون (2). * (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169) والذين يمسكون بالكتب وأقاموا الصلوة إنالانضيع أجر المصلحين) * (170) * (فخلف من بعدهم) * أي: من بعد المذكورين * (خلف) * وهم الذين كانوا في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال الفراء: يقال: " خلف صدق " و " خلف سوء " بالسكون (3)، قال لبيد: وبقيت في خلف كجلد الاجرب (4) * (ورثوا الكتب) * بقيت التوراة في أيديهم بعد سلفهم يقرؤونها ويدرسونها ولا يعملون بها * (يأخذون عرض هذا الادنى) * أي: متاع هذا الشئ الأدنى، يريد الدنيا ومايتمتع به منها، وفي قوله: * (هذا الادنى) * تحقير وتخسيس، وهو: إما من الدنو بمعنى القرب، وإما من الدناءة وسقوط الحال، والمراد: ما كانوا يأخذونه من (1) الصافات: 164. (2) في نسخة: يتنبهون فينتهون. (3) انظر معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 399. (4) وصدره: ذهب الذين يعاش في أكنافهم. والبيت من الكامل، والمعنى: ذهب الكرام الذين ينتفع بهم، وبقيت في قوم لاخير فيهم كجلد الأجرب، وجلد الأجرب من الجمال لا ينتفع به. انظر ديوان لبيد: ص 55، وخزانة الأدب: ج 2 ص 249، والكامل للمبرد: ج 3 ص 1394، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 310، ولسان العرب: مادة " خلف ". (*)
[ 718 ]
الرشى في الأحكام وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة * (ويقولون سيغفر لنا) * أي: لا يؤاخذنا الله بما أخذنا * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم * (ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب) * ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين الميثاق في التوراة أن لايكذبوا على الله ولايضيفوا (1) إليه إلا ما أنزله، كأنه قيل: ألم يقل لهم: * (أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه) * وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك * (والدار الاخرة خير) * من ذلك العرض الحقير * (للذين يتقون) * محارم الله * (أفلا تعقلون) * قرئ بالياء (2) والتاء * (والذين يمسكون بالكتب) * مرفوع بالابتداء وخبره: * (إنالانضيع أجر المصلحين) * (3)، والمعنى: لا نضيع أجرهم، وضع الظاهر موضع المضمر، لأن المصلحين في معنى * (الذين يمسكون بالكتب) *، ويجوز أن يكون مجرورا عطفا على " الذين يتقون " ويكون قوله: * (إنا لا نضيع) * اعتراضا (4). * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) * (171) سورة الأعراف / 171 و 172 * (نتقنا الجبل فوقهم) * قلعناه ورفعناه كقوله: * (ورفعنا فوقهم الطور) * (5)، والظلة: كل ماأظلك من سقيفة أو سحاب * (وظنوا أنه واقع بهم) * وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع الله الطور على (1) في بعض النسخ: ينسبوا. (2) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي. انظر الكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 429، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 397 و 428. (3) وهو مذهب المشهور. انظر على سبيل المثال إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 160، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 382. (4) راجع الكشاف: ج 2 ص 175. (5) النساء: 154. (*)
[ 719 ]
رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خروا سجدا على أحد شقي وجوههم ينظرون إلى الجبل فرقا (1) من سقوطه (2) * (خذوا مآ ءاتينكم بقوة) * على إرادة القول، أي: وقلنا: خذوا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة أي: بجد وعزم على احتمال تكاليفه * (واذكروا ما فيه) * من الأوامر والنواهي ولاتنسوه. * (وإذ أخذ ربك من بنئ ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غفلين (172) أو تقولوا إنما أشرك أآباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذا لك نفصل الايت ولعلهم يرجعون) * (174) وقرئ: " ذرياتهم " (3)، ومن أفرد فللاستغناء عن جمعه لوقوعه على الجمع، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وكنا ذرية من بعدهم) *، * (من ظهورهم) * بدل من * (بنى ءادم) * بدل البعض من الكل، ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم، وقوله: * (وأشهدهم على أنفسهم) * وقوله: * (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) * من باب التمثيل، والمعني في ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية، فكأنه * (أشهدهم على أنفسهم) * وقررهم وقال لهم: * (ألست بربكم) *، وكأنهم * (قالوا بلى) * أنت ربنا * (شهدنا) * على أنفسنا وأقررنا بربوبيتك * (أن تقولوا) * مفعول له، (1) فرق: فزع. (لسان العرب: مادة فرق). (2) راجع قصة موسى (عليه السلام) وقومه في تاريخ الطبري: ج 1 ص 270 - 303. (3) وهي قراءة نافع وابن عامر والبصريان (أبو عمرو ويعقوب). راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 298، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 428. (*
[ 720 ]
أي: نصبنا الأدلة التي تشهد العقول على صحتها كراهة أن تقولوا * (يوم القيمة إنا كنا عن هذا غفلين) * لم ننبه عليه * (أو) * كراهة أن * (تقولوا) *: * (إنما أشرك أآباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) * فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلاعذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء والاقتداء بهم، سورة الأعراف / 175 كما لا عذر لآبائهم في الشرك وقد نصبت الأدلة لهم على التوحيد * (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * أي: كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك لنا وتقدمهم فيه (1) * (وكذا لك) * أي: ومثل ذلك التفصيل البليغ * (نفصل الايت) * لهم * (ولعلهم يرجعون) * وارادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها، وقرئ: " أن يقولوا " بالياء (2). (1) قال في تفسير القرطبي: ج 7 ص 314: قلت: وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم (عليه السلام)، وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية * (وإذ أخذ ربك من بنئ ادم... غفلين) * فقال عمر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون... الى أن قال: قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الاسناد لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر، وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لايعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم هذا غير معروف بحمل العلم. انتهى قوله. قال الشيخ الطوسي (قدس سره): فأما ماروي أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم وهم كالذر فان ذلك غير جائز، لأن الأطفال فضلا عمن هو كالذر لاحجة عليهم ولا يحسن خطابهم بما يتعلق بالتكليف، ثم إن الآية تدل على خلاف ما قالوه لأن الله تعالى قال: * (وإذ أخذ ربك من بنئ ادم) * وقال: * (من ظهورهم) * ولم يقل: من ظهره، وقال: * (ذريتهم) * ولم يقل: ذريته، ثم قال: * (أو تقولوا إنما أشرك أآباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) * فأخبر أن هذه الذرية قد كان قبلهم آباء مبطلون وكانوا هم بعدهم. على أن راوي هذا الخبر سليمان بن بشار الجهني، وقيل: مسلم بن بشار عن عمر بن الخطاب، وقال يحيى بن معين: سليمان هذا لا يدري أين هو. راجع التبيان: ج 5 ص 28 - 29. (2) وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع التبيان: ج 5 ص 26، وكتاب السبعة في القراءات = (*)
[ 721 ]
* (واتل عليهم نبأ الذئ اتينه ءايتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطن فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعنه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هويه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذا لك مثل القوم الذين كذبوا بايتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) ساء مثلاالقوم الذين كذبوا بايتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخسرون) * (178) * (واتل عليهم) * على اليهود خبر * (الذئ اتينه ءايتنا فانسلخ منها) * هو عالم من علماء بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب الله (1)، وقيل: هو من الكنعانيين (2)، واسمه بلعم بن باعورا (3) * (فانسلخ منها) * من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره * (فأتبعه الشيطن) * فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له، أو فأتبعه خطواته * (فكان من الغاوين) * أي: من الضالين الكافرين. = لابن مجاهد: ص 298، والبحر المحيط لأبي حيان: ج 4 ص 421. (1) وعليه مذهب الجمهور. انظر التبيان: ج 5 ص 31. (2) قاله علي بن أبي طلحة ومقاتل قال: هو من مدينة بلقاء. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 213. وقال ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 254: قال قتادة عن كعب: كان رجلا من أهل البلقاء يعلم الاسم الاكبر وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين. (3) وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد. راجع تفسير ابن عباس: ص 141، وتفسير مجاهد: ص 347، وتفسير الماوردي: ج 2 ص 279، وتفسير البغوي: ج 2 ص 213. وفي تفسير القمي: ج 1 ص 248: أنها نزلت في بلعم بن باعورا وكان من بني إسرائيل، وحدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): أنه أعطي الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيستجاب له، فمال الى فرعون، فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها فأنطقها الله عزوجل فقالت: ويلك على ماتضربني ؟ أتريد أجئ معك لتدعو على موسى نبي الله وقوم مؤمنين ؟ فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه. (*)
[ 722 ]
قال الباقر (عليه السلام): " الأصل فيه بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة " (1). * (ولو شئنا لرفعنه بها) * أي: لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات * (ولكنه أخلد إلى الارض) * مال إلى الدنيا ورغب فيها، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلقه بفعله الذي يستحق به الرفع، لأن مشيئة الله رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ماهي تابعة له، فكأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها، ألا ترى إلى قوله: * (ولكنه أخلد إلى الارض) * فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون * (ولو شئنا) * في معنى ما هو فعله * (فمثله كمثل الكلب) * أي: فصفته كصفة الكلب في أخس أحواله، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه أي: شد عليه وهيج فطرد أو ترك غير محمول عليه، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج وحرك وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعا، فكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض فحططناه، ولكن تمثيله بالكلب في أخس أحواله في معنى ذلك، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين. سورة الأعراف / 177 - 179 وقيل: إن بلعم طلب منه قومه أن يدعو على موسى ومن معه، فأبى وقال: كيف أدعوا على من معه الملائكة ! فألحوا عليه حتى فعل، فخرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب (2) * (ذا لك مثل القوم الذين كذبوا (1) التبيان: ج 5 ص 32. (2) وهو ماقاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي في رواياتهم عنه. انظر تفسير البغوي: ج 2 ص 213 - 214، وتفسير ابن كثير: ج 2 ص 255 - 256. (*)
[ 723 ]
بايتنا) * من اليهود بعد ماقرأوا نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التوراة، وبشروا الناس بقرب مبعثه وكانوا يستفتحون به * (فاقصص) * قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم * (لعلهم يتفكرون) * فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا بسيرته وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي فتزداد الحجة لزوما لهم * (ساء مثلاالقوم) * أي: مثل القوم * (وأنفسهم كانوا يظلمون) * تقديم المفعول به للاختصاص، فكأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها * (فهو المهتدى) * فهو محمول على اللفظ * (فأولئك هم الخسرون) * محمول على المعنى. * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالانعم بل هم أضل أولئك هم الغفلون (179) ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمئه سيجزون ما كانوا يعملون (180) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) * (181) أي: خلقنا * (كثيرا من الجن والانس) * على أن مصيرهم إلى جهنم بسوء اختيارهم، وهم الذين علم الله أنه لالطف لهم، جعلهم سبحانه في أنهم لا يتدبرون أدلة الله وبيناته بعقولهم، ولا ينظرون إلى مخلوقاته نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من المواعظ والأذكار، ولا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار * (أولئك كالانعم) * في عدم التدبر والتفكر والنظر للاعتبار * (بل هم أضل) * فإن البهائم إذا زجرت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت، وهؤلاء لا يهتدون إلى شئ من أمور الديانات مع ما ركب فيهم من العقول الدالة على الرشاد الصارفة عن العناد * (أولئك هم الغفلون) * الكاملون في الغفلة
[ 724 ]
* (ولله الاسماء الحسنى) * التي هي أحسن الأسماء، لأنها تتضمن معاني حسنة، بعضها يرجع إلى صفات ذاته كالعالم والقادر والحي والإله، وبعضها يرجع إلى صفات فعله كالخالق والرازق والبارئ والمصور، وبعضها تفيد التمجيد والتقديس كالقدوس والغني والواحد (1) * (فادعوه بها) * فسموه بتلك الأسماء * (وذروا الذين يلحدون في أسمئه) * أي: واتركوا الذين يعدلون بأسمائه عما هي عليه فيسمون بها أصنامهم، أو يصفونه بمالايليق به ويسمونه بمالايجوز تسميته به (2) * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق) * عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول إذا قرأها: " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها * (ومن قوم موسى أمة) * الآية " (3). سورة الأعراف / 182 - 185 وعن علي (عليه السلام) قال: " والذي نفسي بيده، لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة * (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق) * الآية، (1) قال العلامة الطباطبائي (قدس سره): تنقسم الصفات الواجبية بالقسمة الأولية الى ماتكفي في ثبوته الذات المتعالية من غير حاجة إلى فرض أمر خارج كحياته تعالى وعلمه بنفسه وتسمى الصفة الذاتية، وما لا يتم الاتصاف به إلا مع فرض أمر خارج من الذات كالخلق والرزق والاحياء وتسمى الصفة الفعلية، والصفات الفعلية كثيرة وهي على كثرتها منتزعة من مقام الفعل... الى أن قال: فلننظر في أقسام الصفات ونحو اتصافه فنقول: تنقسم الصفة الى ثبوتية كالعالم والقادر وسلبية تفيد معنى سلبيا... الى أن قال: ثم الصفات الثبوتية تنقسم الى حقيقية كالعالم وإضافية كالقادرية والعالمية، وتنقسم الحقيقية الى محضة كالحي وحقيقية ذات إضافة كالعالم بالغير... الى آخر قوله الشريف. راجع بداية الحكمة: المرحلة الثانية عشر الفصل الرابع في صفات الواجب الوجود تعالى ومعنى اتصافه بها. (2) انظر مبحث: هل أسماء الله توقيفية ؟ ضمن مباحث الإلهيات التي بحثها الاستاذ السبحاني وتعرض لها وفصل، تجد تفصيل أقوال المتكلمين المسلمين فيها، وأشبع الرد عليها وبيان الحق منها. (3) رواها الطبري باسناده: ج 6 ص 134 ح 15471، وابن الجوزي في زاد المسير: ج 3 ص 294. والآية: 159 من سورة الأعراف. (*)
[ 725 ]
فهذه التي تنجو " (1). وعن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: " نحن هم " (2). * (والذين كذبوا بايتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) وأملى لهم إن كيدى متين (183) أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السموا ت والارض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون (185) من يضلل الله فلا هادى له ويذرهم في طغينهم يعمهون) * (186) الاستدراج من الدرجة بمنزلة الاستصعاد والاستنزال درجة بعد درجة، والمعنى: سنستدنيهم قليلا قليلا إلى الهلاك حتى يقعوا فيه بغتة * (من حيث لا يعلمون) * ما يراد بهم * (وأملى لهم) * عطف على * (سنستدرجهم) * وهو داخل في حكم السين * (إن كيدى متين) * سماه كيدا لأنه شبيه بالكيد، لأنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان * (أولم يتفكروا) * هؤلاء الكفار فيعلموا * (ما بصاحبهم) * بمحمد (صلى الله عليه وآله) * (من جنة) * أي: جنون، وكانوا يقولون: شاعر مجنون، وعن قتادة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) علا الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت (3) إلى الصباح (4) * (أولم (1) تفسير العياشي: ج 2 ص 43 ح 122، وعنه تفسير البرهان: ج 2 ص 52 - 53، والبحار: ج 8 ص 2. (2) الكافي: ج 1 ص 414 ب 108 ح 13، تفسير العياشي: ج 2 ص 42 ح 120 و 121، وعنه تفسير البرهان: ج 2 ص 52، والبحار: ج 7 ص 120، وإثبات الهداة: ج 3 ص 50. (3) هوت به تهويتا: أي صاح. (القاموس المحيط: مادة هوت). (4) انظر تفسير الطبري: ج 6 ص 134 - 135 ح 15472، والكشاف: ج 2 ص 182. (*)
[ 726 ]
ينظروا) * نظر استدلال * (في ملكوت السموا ت والارض) * فيما يدلان عليه من عظم الملك * (وما خلق الله من شئ) * وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشئ من أجناس خلقه التي لا يحصرها العدد، * (و) * في * (أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * ولعلهم يموتون عن قريب فيسارعوا إلى النظر فيما ينجيهم قبل مغافصة (1) الأجل، و * (أن) * هذه مخففة من الثقيلة، وأصله: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن (2) * (فبأى حديث بعده) * أي: بعد القرآن * (يؤمنون) * والمعنى: لعل أجلهم قد اقترب فمالهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ؟ ! وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا ؟ ! وقرئ: * (ويذرهم) * بالياء والنون وبالرفع (3) والجزم (4)، والرفع على الاستئناف، والجزم عطف على محل * (فلا هادى له) * كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم. سورة الأعراف / 187 * (يسلونك عن الساعة أيان مرسبها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموا ت والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسلونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187) قل لاأملك لنفسي نفعا ولاضرا إلا ما شآء الله ولو كنت (1) في نسخة: مفاوضة. والمغافصة: المفاجأة والأخذ على غرة. (القاموس المحيط: مادة غفص). (2) انظر الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 389. (3) قرأ ابن كثير ونافع (الحرميان) وابن عامر بالنون والرفع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 298، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 485، والعنوان في القراءات السبع لابن خلف: ص 98. (4) وقرأ حمزة والكسائي وخلف وعاصم برواية بالياء والجزم. راجع التبيان: ج 5 ص 45، وتفسير البغوي: ج 2 ص 219، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 298، والكشف عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 485. (*)
[ 727 ]
أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) * (188) الساعة: من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأنها على طولها عند الله كساعة من ساعات الخلق (1)، و * (أيان) * بمعنى متى، وقيل: اشتقاقه من أي، لأن معناه أي وقت (2)، و * (مرسبها) * إرساؤها أو وقت إرسائها أي: إثباتها، ورسو كل شئ ثباته واستقراره، والمعنى: متى يرسيها الله ؟ * (قل إنما علمها) * أي: علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر أحدا من خلقه ليكون العباد على حذر منه، وذلك أدعى لهم إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، كما أخفى سبحانه وقت الموت لذلك * (لا يجليها لوقتها إلا هو) * أي: لا تزال خفية لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها * (ثقلت في السموا ت والارض) * أي: أهم شأن الساعة أهل السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس، فكل منهم يود أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه (3)، أو ثقلت فيهما لأن أهليهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها (4) * (لا تأتيكم إلا بغتة) * أي: فجاءة على غفلة منكم. وفي الحديث: " إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه، والرجل (1) انظر تفصيله في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 390. (2) قاله ابن جني على ما حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 183، والرازي في تفسيره: ج 15 ص 80. (3) وهو قول السدي على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 5 ص 47، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 285، واختاره الفراء في معاني القرآن: ج 1 ص 399، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 185. (4) وهو قول ابن جريج على ما حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 5 ص 47، والماوردي في تفسيره: ج 2 ص 285، واختاره الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 393. (*)
[ 728 ]
يسقي ماشيته، والرجل يقوم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه " (1). سورة الأعراف / 188 و 189 * (كأنك حفى عنها) * أي: كأنك عالم بها، وأصله: كأنك أحفيت في السؤال عنها حتى علمتها، أي: استقصيت وألحفت، وقيل: إن * (عنها) * يتعلق ب * (يسئلونك) * أي: يسألونك عنها كأنك حفي أي: عالم بها (2)، وقيل: كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره (3)، يعني: أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أنه المختص بالعلم بها (4) * (قل لاأملك لنفسي) * هو إظهار العبودية، أي: أنا عبد ضعيف لاأملك لنفسي اجتلاب نفع ولادفع ضرر * (إلاماشآء) * ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني * (ولو كنت أعلم الغيب) * لكانت حالي على خلاف ماهي عليه، فكنت أستكثر (1) الكشاف: ج 2 ص 184، الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر: ص 66. (2) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 143، وحكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 285. (3) نسب السمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 587 هذا القول الى مقاتل، وذكره السيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 621 عن مجاهد وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. (4) قال الجبائي: وفي الآية دليل على بطلان قول الرافضة من أن الأئمة معصومون منصوص عليهم واحدا بعد الآخر الى يوم القيامة، لأن على هذا لابد أن يعلم آخر الأئمة ان القيامة تقوم بعده ويزول التكليف عن الخلق، وذلك خلاف قوله: * (قل إنما علمها عند الله) *. قال الشيخ الطوسي (قدس سره): وهذا الذي ذكره باطل، لأنه لا يمتنع أن يكون آخر الأئمة يعلم انه لاإمام بعده وإن لم يعلم متى تقوم الساعة، لأنه لا يعلم متى يموت، فهو يجوز أن يكون موته عند قيام الساعة إذا أردنا بذلك أنه وقت فناء الخلق، وإن قلنا: إن الساعة عبارة عن وقت قيام الناس في الحشر فقد زالت الشبهة، لأنه إذا علم أنه يغني الخلق بعده لا يعلم متى يحشر الخلق، على أنه قد روي أن بعد موت آخر الأئمة يزول التكليف لظهور أشراط الساعة وتواتر أماراتها نحو طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك ومع ذلك فلا يعلم وقت قيام الساعة، ولهذا قال الحسن وجماعة من المفسرين: بادروا بالتوبة قبل ظهور الست: طلوع الشمس من مغربها والدجال والدابة...، وغير ذلك مما قدمناه، فعلى هذا سقط السؤال. انظر التبيان: ج 5 ص 49. (*)
[ 729 ]
المنافع وأجتنب المضار ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ورابحا وخاسرا في المتاجر * (إن أنا إلا) * عبد أرسلت بشيرا ونذيرا، وما من شأني علم الغيب. * (هو الذى خلقكم من نفس وا حدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشيها حملت حملا خفيفا فمرت به فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صلحا لنكونن من الشكرين (189) فلمآ ءاتبهما صلحا جعلا له شركاء فيما ءاتبهما فتعلى الله عما يشركون (190) أيشركون مالايخلق شيا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لايتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون) * (193) * (خلقكم) * خطاب لبني آدم * (من نفس وا حدة) * وهي نفس آدم (عليه السلام) * (وجعل منها زوجها) * وهي حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه أو من جنسها كقوله: * (جعل لكم من أنفسكم أزوا جا) * (1)، * (ليسكن إليها) * ليطمئن إليها ويأنس بها، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وذكر * (ليسكن) * ذهابا إلى معنى النفس ليتبين أن المراد بها آدم، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، والتغشي كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان * (حملت حملا خفيفا) * وهو الماء الذي حصل في رحمها خف عليها ولم تستثقله * (فمرت به) * أي: استمرت بالحمل على الخفة وقامت به وقعدت كما كانت قبل ذلك، لم يمنعها الحمل عن شئ من التصرف * (فلمآ أثقلت) * أي: حان وقت ثقل حملها كما يقال: أقربت (2) (1) النحل: 72. (2) أقربت الحامل: قرب ولادها فهي مقرب. (أقرب الموارد: مادة قرب). (*)
[ 730 ]
* (دعوا الله) * أي: دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يلتجأ إليه فقالا: * (لئن ءاتيتنا صلحا) * لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه وبرئ، وقيل: ولدا ذكرا (1) لأن الذكورة من الصلاح والجودة، والضمير في * (ءاتيتنا) * و * (لنكونن) * لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما * (فلمآ ءاتبهما) * ماطلباه من الولد الصالح السوي * (جعلا له شركاء) * أي: جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك * (فيما ءاتبهما) * أي: آتى أولادهما (2)، وقد دل على ذلك قوله: * (فتعلى الله عما يشركون) * حيث جمع الضمير، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد يغوث وما أشبه ذلك مكان عبد الله وعبد الرحمن، وقرئ: " جعلا له شركا " (3) أي: ذوي شرك وهم الشركاء. وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون الخطاب لقريش وهم آل قصي، أي: خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار (4). سورة الأعراف / 192 - 195 * (أيشركون مالا) * يقدر على خلق شئ * (وهم يخلقون) * لأن عبدتهم يخلقونهم فهم أعجز من عبدتهم * (ولا يستطيعون) * لعبدتهم * (نصرا ولا أنفسهم (1) وهو قول الحسن. راجع تفسيره: ج 1 ص 395، وحكاه عنه ابن كثير في تفسيره: ج 2 ص 263. (2) وهو مذهب الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 187. (3) وهي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر وعكرمة والأعرج. راجع التبيان: ج 5 ص 51، وإعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 167، وتفسير البغوي: ج 2 ص 221، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 299. (4) قال هذا الوجه سعيد بن جبير والحسن وعكرمة. راجع تفسير الحسن البصري: ج 1 ص 396، والتبيان: ج 5 ص 55، وتفسيرالبغوي: ج 2 ص 221، والدر المنثور: ج 3 ص 626. (*)
[ 731 ]
ينصرون) * فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث * (وإن تدعوهم إلى الهدى) * أي: إلى ما هو هدى، أو إلى أن يهدوكم (1) * (لايتبعوكم) * إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله * (سوآء عليكم أدعوتموهم أم) * صمتم عن دعائهم في أنه لافلاح معهم. * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صدقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) * (195) * (إن الذين) * تعبدونهم وتسمونهم آلهة * (من دون الله عباد أمثالكم) * استهزاء بهم، أي: نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم * (فادعوهم) * في مهماتكم ولصرف الأسواء عنكم، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم بقوله: * (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها) * ثم قال: * (قل ادعوا شركاءكم) * واستعينوا بهم في عداوتي * (ثم كيدون) * - ي جميعا أنتم وشركاؤكم * (فلا تنظرون) * - ي فإني لا أبالي بكم، وهذا لا يقوله إلا من هو واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوفوه بآلهتهم فأمر أن يجيبهم بذلك. * (إن ولى الله الذى نزل الكتب وهو يتولى الصلحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولاأنفسهم ينصرون (197) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتريهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198) خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن (1) انظر الكشاف: ج 2 ص 188. (*)
[ 732 ]
الجهلين) * (199) * (إن) * ناصري وحافظي ودافع شركم عني * (الله الذى نزل) * القرآن وأعزني برسالته * (وهو يتولى الصلحين) * ومن عاداته أن ينصر المطيعين له الصالحين من عباده * (وتريهم ينظرون إليك) * أي: يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من يقلب حدقته إلى الشئ ليراه * (وهم لا يبصرون) * وهم لا يدركون المرئي * (خذ العفو) * أي: خذ ماعفاك من أفعال الناس وأخلاقهم وما يأتي منهم من غير كلفة، ولاتداقهم، واقبل الميسور منهم (1)، ونحوه قوله (عليه السلام): " يسروا ولا تعسروا " (2)، أمر سبحانه بالتسامح وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء * (وأمر بالعرف) * بالمعروف والجميل من الأفعال والحميد من الخصال * (وأعرض عن الجهلين) * ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، وأعرض عما يسوؤك منهم. وقيل: إنه لما نزلت الآية سأل جبرئيل، فقال: " لاأدري حتى أسأل "، ثم أتاه فقال: " يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك " (3). سورة الأعراف / 200 - 202 وعن الصادق (عليه السلام): " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الاخلاق منها " (4). (1) وهو اختيار الزجاج في معاني القرآن: ج 2 ص 396، وأبي عبيدة في مجاز القرآن: ج 1 ص 236، والزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 189. (2) مسند أحمد: ج 4 ص 417، السنن الكبرى للبيهقي: ج 8 ص 155. (3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 6 ص 154 من طريق سفيان بن عيينة عن امي، والسيوطي في الدر المنثور: ج 3 ص 628 وعزاه الى ابن مردويه عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة، والسمرقندي في تفسيره: ج 1 ص 590 باسناده عن سفيان عن أبي هريرة. (4) رواه الزمخشري في كشافه: ج 2 ص 190، والقرطبي في تفسيره: ج 7 ص 345. (*
[ 733 ]
* (وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطن تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوا نهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون (202) وإذا لم تأتهم باية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * (203) * (وإما) * ينخسنك * (من الشيطن) * نخس في القلب يوسوسك على خلاف ما أمرت به * (فاستعذ بالله) * ولاتطعه، وجعل النزغ نازغا مثل قولهم: جد جده، والنزغ والنسغ والنخس بمعنى، كأنه ينخس الإنسان حين يغريه على المعاصي، وقرئ: " طيف " (1) و * (طئف) * وهو مصدر قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفا، أو هو تخفيف طيف فيعل من طاف يطيف كلين، أو من طاف يطوف كهين (2)، وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم * (إذا) * أصابهم أدنى لمة (3) * (من الشيطن تذكروا) * ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا الرشد ودفعوا الوسوسة * (و) * أما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين فإن الشياطين * (يمدونهم في الغى) * أي: يكونون مددا لهم ويزيدونهم فيه، وقرئ: " يمدونهم " (4) من (1) وهي قراءة ابن كثير والبصريين (أبي عمرو ويعقوب) والكسائي. راجع التبيان: ج 5 ص 64، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 590، وتفسير البغوي: ج 2 ص 224، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 301، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 430، وفي تفسير القرطبي: ج 7 ص 349: هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة. (2) راجع تفصيل ذلك في إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 171، والفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 398. (3) يقال: أصابته من الجن لمة أي مس. (القاموس المحيط: مادة لمم). (4) قرأه نافع وحده. راجع التبيان: ج 5 ص 65، وتفسير السمرقندي: ج 1 ص 590، وكتاب = (*)
[ 734 ]
الإمداد (1)، وفي الشواذ: " يمادونهم " (2) والمعنى: يعاونونهم * (ثم لا يقصرون) * أي: لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولايرجعوا، وقوله: * (وإخوا نهم يمدونهم) * كقول الشاعر: قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها (3) سورة الأعراف / 204 و 205 في أن الخبر جرى على غير من هو له، ويجوز أن يراد بالإخوان: الشياطين ويرجع الضمير إلى * (الجهلين) * فيكون الخبر جاريا على من هو له (4)، والأول أوجه، لأن * (إخوا نهم) * في مقابلة * (الذين اتقوا) *، وجاز جمع الضمير في * (إخوا نهم) * والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس، فهو كقوله: * (أولياؤهم الطغوت) * (5)، * (وإذا لم تأتهم باية) * مقترحة * (قالوا لولا اجتبيتها) * اجتبى الشئ: إذا جباه لنفسه بمعنى جمعه، كقوله: " اجتمعته ": أوجبى إليه فاجتباه أي: أخذه، والمعنى: هلا اجتمعتها افتعالا من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون: " إن هذا إلا إفك مفترى "، أو هلا أخذتها منزلة عليك مقترحة * (قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى) * ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها * (هذا بصائر) * أي: هذا = السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 301، وفي إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 172، وتفسير البغوي: ج 2 ص 225: هي قراءة أهل المدينة. (1) قال النحاس: وجماعة من أهل اللغة ينكرون هذه القراءة منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لاأعرف لها وجها إلا أن يكون المعنى: يزيدونهم من الغي، وهذا غير ما يسبق الى القلوب. انظر إعراب القرآن: ج 2 ص 172. (2) وهي قراءة عاصم والجحدري. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 2 ص 172، ومختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 53. (3) وعجزه: فوارس الخيل لاميل ولاقدم. لم نعثر على قائله فيما توفرت لدينا من مصادر، وأنشده الزمخشري في الكشاف: ج 2 ص 191. (4) انظر تفصيل ذلك في الفريد في إعراب القرآن للهمداني: ج 2 ص 399. (5) البقرة: 257. (*)
[ 735 ]
القرآن حجج بينة ودلائل واضحة يعود الناس بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب. * (وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204) واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغفلين (205) إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * (206) هذا بظاهره يوجب استماع القرآن والإنصات له وقت قراءته في الصلاة وغير الصلاة، وقيل: إنه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتم به إذا سمعت قراءته، وكان المسلمون يتكلمون في الصلاة فنزلت (1)، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم في المجلس الذي يقرأ فيه القرآن (2)، وقيل: معناه: إذا تلى عليكم الرسول القرآن عند نزوله * (فاستمعوا له) * (3). قال الصادق (عليه السلام): " إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع " (4). * (لعلكم ترحمون) * لترحموا بذلك * (واذكر ربك في نفسك) * هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل والتحميد * (تضرعا وخيفة) * أي: (1) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 188 - 189، وتفسير البغوي: ج 2 ص 226، وتفسير (1) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 188 - 189، وتفسير البغوي: ج 2 ص 226، وتفسير القرطبي: ج 7 ص 353. (2) وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة والزهري وعطاء وعبيد الله بن أبي عمير ومجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم والشعبي وابن عباس وابن زيد، واختاره الجبائي. راجع التبيان: ج 5 ص 67، وزاد في تفسير القرطبي: ج 7 ص 353: عمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد الله بن المبارك. (3) قاله الجبائي. راجع التبيان: ج 5 ص 68. (4) تفسير العياشي: ج 2 ص 44 ح 132، وعنه البرهان: ج 2 ص 57، والبحار: ج 18 ص 615 - 616. (*)
[ 736 ]
متضرعا وخائفا * (ودون الجهر) * ومتكلما كلاما دون الجهر، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأبعد من الرياء وأقرب إلى القبول * (بالغدو والاصال) * بالغدوات والعشيات لفضل هذين الوقتين، وقيل: المراد به دوام الذكر واتصاله (1) * (ولا تكن من الغفلين) * عن ذكر الله اللاهين عنه * (إن الذين عند ربك) * وهم الملائكة، والمعني في * (عند) *: دنو المنزلة والزلفة والقرب من فضل الله ورحمته، لتوفرهم على طاعته * (لا يستكبرون عن عبادته) * مع جلالة قدرهم وعلو أمرهم * (ويسبحونه) * ينزهونه عما لا يليق به * (وله يسجدون) * ويختصونه بالسجود والعبادة، وهذا أول سجدات القرآن (2). (1) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 15 ص 109. (2) قال الشيخ الطوسي: وهذه أول سجدات القرآن، وهي عندنا مستحبة غير واجبة، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء. انظر التبيان: ج 5 ص 70. (*)