جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 17
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار الجزء السابع عشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
[ 2 ]
1415 ه / 1995 م
[ 3 ]
سورة الانبياء مكية أوأياتها اثنتا عشرة ومائة بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) *. يقول تعالى ذكره: دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم، أجسامهم، ومطاعمهم، ومشاربهم، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم، ومسئلته إياهم ماذا عملوا فيها وهل أطاعوه فيها، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها، أم عصوه فخالفوا أمره فيها ؟ وهم في غفلة معرضون يقول: وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة، وعن دنو محاسبته إياهم منهم، واقترابه لهم في سهو وغفلة، وقد أعرضوا عن ذلك، فتركوا الفكر فيه والاستعداد له والتأهب، جهلا منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء وشديد الاهوال. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله وهم في غفلة معرضون قال أهل التأويل، وجاء الاثر عن رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثني أبو معاوية، قال: أخبرنا الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) وهم في غفلة معرضون قال: في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 4 ]
* (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) *. يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شئ من هذا القرآن للناس ويذكرهم به ويعظهم، إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث... الآية، يقول: ما ينزل عليهم من شئ من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون. القول في تأويل قوله تعالى: * (لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) *. يقول تعالى ذكره: لاهية قلوبهم غافلة، يقول: ما يستمع هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم. كما: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لاهية قلوبهم يقول: غافلة قلوبهم. وقوله: وأسروا النجوى الذين ظلموا يقول: وأسر هؤلاء الناس الذين اقتربت الساعة منهم وهم في غفلة معرضون، لاهية قلوبهم، النجوى بينهم، يقول: وأظهروا المناجاة بينهم فقالوا: هل هذا الذي يزعم أنه رسول من الله أرسله إليكم إلا بشر مثلكم ؟ يقولون: هل هو إلا إنسان مثلكم في صوركم وخلقكم ؟ يعنون بذلك محمدا (ص). وقال الذين ظلموا فوصفهم بالظلم بفعلهم وقيلهم الذي أخبر به عنهم في هذه الآيات إنهم يفعلون ويقولون من الاعراض عن ذكر الله والتكذيب برسوله. والذين من قوله: وأسروا النجوى الذين ظلموا في الاعراب وجهان: الخفض على أنه تابع للناس في قوله: اقترب للناس حسابهم والرفع على الرد على الاسماء الذين في قوله: وأسروا
[ 5 ]
النجوى من ذكر الناس، كما قيل: ثم عموا وصموا كثير منهم. وقد يحتمل أن يكون رفعا على الابتداء، ويكون معناه: وأسروا النجوى، ثم قال: هم الذين ظلموا. وقوله: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون يقول: وأظهروا هذا القول بينهم، وهي النجوى التي أسروها بينهم، فقال بعضهم لبعض: أتقبلون السحر وتصدقون به وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ يعنون بذلك القرآن كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال: قاله أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله، زعموا أنه ساحر، وأن ما جاء به سحر، قالوا: أتأتون السحر وأنتم تبصرون ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (قال ربي يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: قل ربي فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: قل ربي على وجه الامر. وقرأه بعض قراء مكة وعامة قراء الكوفة: قال ربي على وجه الخبر. وكأن الذين قرؤوه على وجه الامر أرادوا من تأويله: قل يا محمد للقائلين أتأتون السحر وأنتم تبصرون: ربي يعلم قول كل قائل في السماء والارض، لا يخفى عليه منه شئ وهو السميع لذلك كله ولما يقولون من الكذب، العليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه وباطل ما تقولون وغير ذلك من الاشياء كلها. وكأن الذين قرءوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا: قال محمد: ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم. والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الامصار، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله، وإذا قاله فعن أمر الله قاله، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 6 ]
* (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كمآ أرسل الاولون) *. يقول تعالى ذكره: ما صدقوا بحكمة هذا القرآن ولا أنه من عند الله، ولا أقروا بأنه وحي أوحى الله إلى محمد (ص) بل قال بعضهم: هو أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر. فليأتنا يقول: قالوا فليجئنا محمد إن كان صادقا في قوله إن الله بعثه رسولا إلينا وإن هذا الذي يتلوه علينا وحي من الله أوحاه إلينا، بآية يقول: بحجة ودلالة على حقيقة ما يقول ويدعي، كما أرسل الاولون يقول: كما جاءت به الرسل الاولون من قبله من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وكناقة صالح، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتي بها إلا الانبياء والرسل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أضغاث أحلام أي فعل حالم، إنما هي رؤيا رآها. بل افتراه بل هو شاعر كل هذا قد كان منهم. وقوله فليأتنا بآية كما أرسل الاولون يقول: كما جاء عيسى بالبينات وموسى بالبينات، والرسل. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: أضغاث أحلام قال: مشتبهة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: أضغاث أحلام قال أهاويلها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
[ 7 ]
وقال تعالى ذكره: بل قالوا ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق ب بل، لان الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فاجتزي بمعرفة السامعين بما دل عليه قوله بل من ذكر الخبر عنهم على ما قد بينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (مآ آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره: ما آمن قبل هؤلاء المكذبين محمدا من مشركي قومه الذين قالوا فليأتنا محمد بآية كما جاءت به الرسل قبله من أهل قرية عذبناهم بالهلاك في الدنيا، إذ جاءهم رسولنا إليهم بآية معجزة. أفهم يؤمنون يقول: أفهؤلاء المكذبون محمدا السائلوه الآية يؤمنون به إن جاءتهم آية ولم تؤمن قبلهم أسلافهم من الامم الخالية التي أهلكناها برسلها مع مجيئها ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أهلكناها أفهم يؤمنون يصدقون بذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون أي الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم يناظرو. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا إلى أمة من الامم التي خلت قبل أمتك إلا رجالا مثلهم نوحي إليهم ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا، لا ملائكة
[ 8 ]
فماذا أنكروا من إرسالناك إليهم، وأنت رجل كسائر الرسل الذين قبلك إلى أممهم ؟ وقوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يقول للقائلين لمحمد (ص) في تناجيهم بينهم هل هذا إلا بشر مثلكم: فإن أنكرتم وجهلتم أمر الرسل الذين كانوا من قبل محمد، فلم تعلموا أيها القوم أمرهم إنسا كانوا أم ملائكة، فاسألوا أهل الكتب من التوراة والانجيل ما كانوا يخبروكم عنهم كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يقول: فاسألوا أهل التوراة والانجيل قال أبو جعفر: أراه أنا قال: يخبروكم أن الرسل كانوا رجالا يأكلون الطعام، ويمشون في الاسواق. وقيل: أهل الذكر: أهل القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثني عبد الرحمن بن صالح، قال: ثني موسى بن عثمان، عن جابر الجعفي، قال: لما نزلت: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال علي: نحن أهل الذكر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال: أهل القرآن، والذكر: القرآن. وقرأ: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون القول في تأويل قوله تعالى: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) *. يقول تعالى ذكره: وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك يا محمد إلى الامم الماضية قبل أمتك، جسدا لا يأكلوا الطعام يقول: لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام يقول: ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال:
[ 9 ]
سمعت الضحاك يقول في قوله: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام يقول: لم أجعلهم جسدا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح يأكلون الطعام. قال أبو جعفر: وقال وما جعلناهم جسدا فوحد الجسد وجعله موحدا، وهو من صفة الجماعة، وإنما جاز ذلك لان الجسد بمعنى المصدر، كما يقال في الكلام: وما جعلناهم خلقا لا يأكلون. وقوله: وما كانوا خالدين يقول: ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا وذلك أنهم قالوا لرسول الله (ص)، كما قد أخبر الله عنهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا... إلى قوله: أو تأتي بالله والملائكة قبيلا قال الله تبارك وتعالى لهم: ما فعلنا ذلك بأحد قبلكم فنفعل بكم، وإنما كنا نرسل إليهم رجالا نوحي إليهم كما أرسلنا إليكم رسولا نوحي إليه أمرنا ونهينا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما كانوا خالدين: أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين) *. يقول تعالى ذكره: ثم صدقنا رسلنا الذين كذبتهم أممهم وسألتهم الآيات، فأتيناهم ما سألوه من ذلك ثم أقاموا على تكذيبهم إياها، وأصروا على جحودهم نبوتها بعد الذي أتتهم به من آيات ربها، وعدنا الذي وعدناهم من الهلاك على إقامتهم على الكفر بربهم بعد مجئ الآية التي سألوا. وذلك كقوله جل ثناؤه: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وكقوله: ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ونحو ذلك من المواعيد التي وعد الامم مع مجئ الآيات. وقوله: فأنجيناهم يقول تعالى ذكره: فأنجينا الرسل عند إصرار أممها على تكذيبها بعد الآيات، ومن نشاء وهم
[ 10 ]
أتباعها الذين صدقوها وآمنوا بها. وقوله: وأهلكنا المسرفين يقول تعالى ذكره: وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بكفرهم بربهم، كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وأهلكنا المسرفين والمسرفون: هم المشركون. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكر كم أفلا تعقلون) *. اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم، فيه حديثكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قوله: فيه ذكركم قال: حديثكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم قال: حديثكم: أفلا تعقلون قال: قد أفلح بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا سفيان: نزل القرآن بمكارم الاخلاق، ألم تسمعه يقول: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ؟ وقال آخرون: بل عني بالذكر في هذا الموضع: الشرف، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم. قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 11 ]
* (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ئ فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون) *. يقول تعالى ذكره: وكثيرا قصمنا من قرية. والقصم: أصله الكسر، يقال منه: قصمت ظهر فلان إذا كسرته، وانقصمت سنه: إذا انكسرت. وهو ههنا معني به أهلكنا، وكذلك تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وكم قصمنا قال: أهلكنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وكم قصمنا من قرية قال: أهلكناها. قال ابن جريج: قصمنا من قرية، قال: باليمن، قصمنا، بالسيف أهلكوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: قصمنا من قرية قال: قصمها أهلكها. وقوله: من قرية كانت ظالمة أجرى الكلام على القرية، والمراد بها أهلها لمعرفة السامعين بمعناه. وكأن ظلمها كفرها بالله وتكذيبها رسله. وقوله: وأنشأنا بعدها قوما آخرين يقول تعالى ذكره: وأحدثنا بعد ما أهلكنا هؤلاء الظلمة من أهل هذه القرية التي قصمناها بظلمها قوما آخرين سواهم. وقوله: فلما أحسوا بأسنا يقول: فلما عاينوا عذابنا قد حل بهم ورأوه قد وجدوا مسه، يقال منه: قد أحسست من فلان ضعفا، وأحسته منه. إذا هم منها يركضون يقول: إذا هم مما أحسوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عجلى يعدون منهزمين، يقال منه: ركض فلان فرسه: إذا كده بسياقته. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون) *. يقول تعالى ذكره: لا تهربوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه: يقول: إلى ما أنعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم كما:
[ 12 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون يعني من نزل به العذاب في الدنيا ممن كان يعصي الله من الامم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لا تركضوا: لا تفروا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وارجعوا إلى ما أترفتم فيه يقول: ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة: وارجعوا إلى ما أترفتم فيه قال: إلى ما أترفتم فيه من دنياكم. واختلف هل التأويل في معنى قوله: لعلكم تسئلون فقال بعضهم: معناه: لعلكم تفقهون وتفهمون بالمسألة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: لعلكم تسئلون قال: تفقهون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: لعلكم تسئلون قال: تفقهون. وقال آخرون: بل معناه لعلكم تسئلون من دنياكم شيئا على وجه السخرية والاستهزاء. ذكر من قال ذلك: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لعلكم تسئلون استهزاء بهم. حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لعلكم تسئلون من دنياكم شيئا، استهزاء بهم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 13 ]
* (قالوا يويلنآ إنا كنا ظالمين ئ فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) *. يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء الذين أحل الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله: يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا فما زالت تلك دعواهم يقول: فلم تزل دعواهم، حين أتاهم بأس الله، بظلمهم أنفسهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين حتى قتلهم الله، فحصدهم بالسيف كما يحصد الزرع ويستأصل قطعا بالمناجل. وقوله: خامدين يقول: هالكين قد انطفأت شرارتهم، وسكنت حركتهم، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فما زالت تلك دعواهم... الآية. فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم هجيري إلا قولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين حتى دمر الله عليهم وأهلكهم. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين يقول: حتى هلكوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: حصيدا الحصاد. خامدين خمود النار إذا طفئت. حدثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إنهم كانوا أهل حصون، وإن الله بعث عليهم بختنصر، فبعث إليهم جيشا فقتلهم بالسيف، وقتلوا نبيا لهم فحصدوا بالسيف وذلك قوله: فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين بالسيف. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين) *.
[ 14 ]
يقول تعالى ذكره: وما خلقنا الماء والارض وما بينهما إلا حجة عليكم أيها الناس، ولتعتبروا بذلك كله، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شئ، وأنه لا تكون الالوهة إلا له، ولا تصلح العبادة لشئ غيره، ولم يخلق ذلك عبثا ولعبا. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين يقول: ما خلقناهما عبثا ولا باطلا. القول في تأويل قوله تعالى: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين) *. يقول تعالى ذكره: لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا، ولكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله ولا ينبغي لانه لا ينبغي أن يكون لله ولد ولا صاحبة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سليمان بن عبيد الله الغيداني، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا سلام بن مسكين، قال: ثنا عقبة بن أبي حمزة، قال: شهدت الحسن بمكة، قال: وجاءه طاوس وعطاء ومجاهد، فسألوه عن قول الله تبارك وتعالى: لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخدناه قال الحسن: اللهو: المرأة. حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن محمد، عن ليث، عن مجاهد في قوله: لو أردنا أن نتخذ لهوا قال: زوجة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لو أردنا أن نتخذ لهوا... الآية، أي أن ذلك لا يكون ولا ينبغي. واللهو بلغة أهل اليمن: المرأة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لو أردنا أن نتخذ لهوا قال: اللهو في بعض لغة أهل اليمن: المرأة. لاتخذناه من لدنا. وقوله: إن كنا فاعلين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: إن كنا فاعلين يقول: ما كنا فاعلين.
[ 15 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قالوا مريم صاحبته، وعيسى ولده، فقال تبارك وتعالى: لو أردنا أن نتخذ لهوا نساء وولدا، لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين قال: من عندنا، ولا خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: لاتخذناه من لدنا من عندنا، وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) *. يقول تعالى ذكره: ولكن ننزل الحق من عندنا، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله، فيدمغه يقول: فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجه على رأسه شجة تبلغ الدماغ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة. وقوله فإذا هو زاهق يقول: فإذا هو هالك مضمحل كما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: فإذا هو زاهق قال: هالك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فإذا هو زاهق قال: ذاهب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق والحق كتاب الله القرآن، والباطل: إبليس، فيدمغه فإذا هو زاهق أي ذاهب. وقوله: ولكم الويل مما تصفون يقول: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته، وقيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا، وفريتكم عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أن بعضهم قال: معنى تصفون تكذبون. وقال آخرون: معنى ذلك: تشركون. وذلك وإن اختلفت به الالفاظ فمتفقة معانيه لان من
[ 16 ]
وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك، وأشرك به، ووصفه بغير صفته. غير أن أولى العبارات أن يعبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه. ذكر من قال ما قلنا في ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولكم الويل مما تصفون أي تكذبون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ولكم الويل مما تصفون قال: تشركون وقوله عما يصفون قال: يشركون قال: وقال مجاهد: سيجزيهم وصفهم قال: قولهم الكذب في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وله من في السماوات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) *. يقول تعالى ذكره: وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا، وله ملك جميع من في السموات والارض، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يعيون من طول خدمتهم له، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته، وكل من في السموات والارض عبيده، فأنى يكون له صاحبة وولد يقول: أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا يستحسرون لا يرجعون. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
[ 17 ]
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ولا يستحسرون لا يحسرون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا يستحسرون قال: لا يعيون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: ولا يستحسرون قال: لا يعيون. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون قال: لا يستحسرون، لا يملون ذلك الاستحسار، قال: ولا يفترون، ولا يسأمون. هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم: بعير حسير: إذا أعيا وقام ومنه قول علقمة بن عبدة: بها جيف الحسرى فأما عظامها * فبيض، وأما جلدها فصليب القول في تأويل قوله تعالى: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون ئ أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون) *. يقول تعالى ذكره: يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم الليل والنهار لا يفترون
[ 18 ]
من تسبيحهم إياه. كما: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا حميد، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله: يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويسبحون الليل والنهار لا يسأمون فقال: هل يئودك طرفك ؟ هل يئودك نفسك ؟ قال: لا قال: فإنهم ألهموا التسبيح كما ألهمتم الطرف والنفس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن حسان بن مخارق، عن عبد الله بن الحرث، قال: قلت: لكعب الاحبار: يسبحون الليل والنهار لا يفترون أما يشغلهم رسالة أو عمل ؟ قال: يا ابن أخي إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجئ وتذهب وأنت تنفس ؟ قلت: بلى قال: فكذلك جعل لهم التسبيح. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن وأبو داود، قالا: ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن عمرو البكالي، عن عبد الله بن عمر، قال: إن الله خلق عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء الملائكة وجزءا سائر الخلق. وجزأ الملائكة عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءا لرسالته. وجزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء الجن وجزءا سائر بني آدم. وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فجعل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزءا سائر بني آدم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يسبحون الليل والنهار لا يفترون يقول: الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون فيها. وذكر لنا أن نبي الله (ص) بينما هو جالس مع أصحابه، إذ قال: تسمعون ما أسمع ؟ قالوا: ما نسمع من شئ يا نبي الله قال: إني لاسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم.
[ 19 ]
وقوله: أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الارض هم ينشرون يعني بقوله هم: الآلهة. يقول: هذه الآلهة التي اتخذوها تنشر الاموات يقول: يحيون الاموات، وينشرون الخلق، فإن الله هو الذي يحيي ويميت. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى ح وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ينشرون يقول: يحيون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون يقول: أفي آلهتهم أحد يحيي ذلك ينشرون ؟ وقرأ قول الله: قل من يرزقكم من السماء والارض... إلى قوله: ما لكم كيف تحكمون. القول في تأويل قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) *. يقول تعالى ذكره: لو كان في السموات والارض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله الذي هو خالق الاشياء، وله العبادة والالوهة التي لا تصلح إلا له لفسدتا يقول: لفسد أهل السموات والارض. فسبحان الله رب العرش عما يصفون يقول جل ثناؤه: فتنزيه لله وتبرئة له مما يفتري به عليه هؤلاء المشركون به من الكذب. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون يسبح نفسه إذا قيل عليه البهتان. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) *. يقول تعالى ذكره: لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما
[ 20 ]
شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال وغير ذلك من حكمه فيهم لانهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شئ فوقه يسأله عما يفعل فيقول له لم فعلت ؟ ولم لم تفعل ؟ وهم يسئلون يقول جل ثناؤه: وجميع من في السموات والارض من عباده مسؤولون عن أفعالهم، ومحاسبون على أعمالهم، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه لانه فوقهم ومالكهم، وهم في سلطانه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون يقول: لا يسئل عما يفعل بعباده، وهم يسئلون عن أعمالهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قوله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون قال: لا يسئل الخالق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون قال: لا يسئل الخالق عما يقضي في خلقه، والخلق مسؤولون عن أعمالهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) *. يقول تعالى ذكره: أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضر وتخلق وتحيي وتميت ؟ قل يا محمد لهم: هاتوا برهانكم يعني حجتكم يقول: هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلا على صدقكم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل هاتوا برهانكم يقول: هاتوا بينتكم على ما تقولون. وقوله: هذا ذكر من معي يقول: هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل، ذكر من معي يقول: خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به وطاعتهم إياه وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به. وذكر من قبلي
[ 21 ]
يقول: وخبر من قبلي من الامم التي سلفت قبلي، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الآخرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: هذا ذكر من معي يقول: هذا القرآن فيه ذكر الجلال والحرام. وذكر من قبلي يقول: ذكر أعمال الامم السالفة وما صنع الله بهم وإلى ما صاروا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج هذا ذكر من معي قال: حديث من معي، وحديث من قبلي. وقوله: بل أكثرهم لا يعلمون الحق يقول: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون، فهم معرضون عن الحق جهلا منهم به وقلة فهم. وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون عن كتاب الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) *. يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الامم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السموات والارض تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول: فأخلصوا لي العبادة، وأفردوا لي الالوهة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون قال: أرسلت الرسل بالاخلاص والتوحيد، لا يقبل منهم قال أبو جعفر: أظنه أنا قال عمل حتى يقولوه ويقروا به والشرائع مختلفة، في التوراة شريعة وفي الانجيل شريعة وفي القرآن شريعة حلال وحرام. وهذا كله في الاخلاص لله والتوحيد له. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 22 ]
* (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ئ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) *. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بربهم: اتخذ الرحمن ولدا من ملائكته فقال جل ثناؤه استعظاما مما قالوا وتبريا مما وصفوه به سبحانه، يقول تنزيها له عن ذلك: ما ذلك من صفته بل عباد مكرمون يقول: ما الملائكة كما وصفهم به هؤلاء الكافرون من بني آدم، ولكنهم عباد مكرمون يقول: أكرمهم الله. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون قال: قالت اليهود: إن الله تبارك وتعالى صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة. قال الله تبارك وتعالى تكذيبا لهم وردا عليهم: بل عباد مكرمون وإن الملائكة ليس كما قالوا، إنما هم عباد أكرمهم بعبادته. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة. وحدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا قالت اليهود وطوائف من الناس: إن الله تبارك وتعالى خاتن إلى الجن والملائكة من الجن قال الله تبارك وتعالى: سبحانه بل عباد مكرمون. وقوله: لا يسبقونه بالقول يقول جل ثناؤه: لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يعملون عملا إلا به. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله: لا يسبقونه بالقول يثني عليهم وهم بأمره يعملون. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) *. يقول تعالى ذكره: يعلم ما بين أيدي ملائكته ما لم يبلغوه ما هو وما هم فيه قائلون وعاملون، وما خلفهم يقول: وما مضى من قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الازمان والدهور ما عملوا فيه، قالوا: ذلك كله محصى لهم وعليهم، لا يخفى عليه من ذلك شئ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 23 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم يقول: يعلم ما قدموا وما أضاعوا من أعمالهم. ولا يشفعون إلا لمن ارتضى يقول: ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى يقول: الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إلا لمن ارتضى قال: لمن رضي عنه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى يوم القيامة، وهم من خشيته مشفقون. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة يقول: ولا يشفعون يوم القيامة. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. ] وقوله: وهم من خشيته مشفقون يقول: وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحل بهم مشفقون، يقول: حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) *.
[ 24 ]
يقول تعالى ذكره: ومن يقل من الملائكة إني إله من دون الله، فذلك الذي يقول ذلك منهم نجزيه جهنم يقول: نثيبه على قيله ذلك جهنم. كذلك نجزي الظالمين يقول: كما نجزي من قال من الملائكة إني إله من دون الله جهنم، كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه فكفر بالله وعبد غيره. وقيل: عني بهذه الآية إبليس. وقال قائلو ذلك: إنما قلنا ذلك، لانه لا أحد من الملائكة قال إني إله من دون الله سواه ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ومن يقل منهم قال: قال ابن جريج: من يقل من الملائكة إني إله من دونه فلم يقله إلا إبليس دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه في إبليس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال لعنه الله وجعله رجيما، فقال: فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم قال: هي خاصة لابليس. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم، فيروا بها، ويعلموا أن السموات والارض كانتا رتقا: يقول: ليس فيهما ثقب، بل كانتا ملتصقتين يقال منه: رتق فلان الفتق: إذا شده، فهو يرتقه رتقا ورتوقا ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم: رتقاء. ووحد الرتق، وهو من صفة السماء والارض، وقد جاء بعد قوله: كانتا لانه مصدر، مثل قول الزور والصوم والفطر. وقوله: ففتقناهما يقول: فصدعناهما وفرجناهما.
[ 25 ]
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والارض بالرتق، وكيف كان الرتق، وبأي معنى فتق ؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات والارض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا يقول: ملتصقتين. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما... الآية، يقول: كانتا ملتصقتين، فرفع السماء ووضع الارض. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما كان ابن عباس يقول: كانتا ملتزقتين، ففتقهما الله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما قال: كان الحسن وقتادة يقولان: كانتا جميعا، ففصل الله بينهما بهذا الهواء. وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة، ففتقها الله فجعلها سبع سموات. وكذلك الارض كانت كذلك مرتتقة، ففتقها فجعلها سبع أرضين ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تبارك وتعالى: رتقا ففتقناهما من الارض ست أرضين معها فتلك سبع أرضين معها، ومن السماء ست سموات معها فتلك سبع سموات معها. قال: ولم تكن الارض والسماء متماستين.
[ 26 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: رتقا ففتقناهما قال: فتقهن سبع سموات بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن تحت بعض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، قال: سألت أبا صالح عن قوله: كانتا رتقا ففتقناهما قال: كانت الارض رتقا والسموات رتقا، ففتق من السماء سبع سموات، ومن الارض سبع أرضين. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كانت سماء واحدة ثم فتقها، فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لانه جمع فيه خلق السموات والارض، فذلك حين يقول: خلق السموات والارض في ستة أيام يقول: كانتا رتقا ففتقناهما. وقال آخرون: بل عني بذلك أن السموات كانت رتقا لا تمطر والارض كذلك رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والارض بالنبات. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما قال: كانتا رتقا لا يخرج منهما شئ، ففتق السماء بالمطر وفتق الارض بالنبات. قال: وهو قوله: والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع. حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا أبي، عن الفضيل بن مرزوق، عن عطية، في قوله: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما قال: كانت السماء رتقا لا تمطر والارض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر وفتق الارض بالنبات وجعل من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون ؟
[ 27 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما قال: كانت السموات رتقا لا ينزل منها مطر، وكانت الارض رتقا لا يخرج منها نبات، ففتقهما الله، فأنزل مطر السماء، وشق الارض فأخرج نباتها. وقرأ: ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون. وقال آخرون: إنما قيل ففتقناهما لان الليل كان قبل النهار، ففتق النهار. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خلق الليل قبل النهار. ثم قال: كانتا رتقا ففتقناهما. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أو لم ير الذي كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والارض بالنبات. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: وجعلنا من الماء كل شئ حي على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه. فإن قال قائل: فإن كان ذلك كذلك، فكيف قيل: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا قيل: إن ذلك مختلف فيه، قد قال قوم: إنما ينزل من السماء السابعة، وقال آخرون: من السماء الرابعة، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا، لم يكن في قوله: أن السموات والارض دليل على خلاف ما قلنا، لانه لا يمتنع أن يقال السموات والمراد منها واحدة فتجمع، لان كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وقميص أسمال. فإن قال قائل: وكيف قيل إن السموات والارض كانتا، فالسموات جمع، وحكم جمع الاناث أن يقال في قليلة كن، وفي كثيره كانت ؟ قيل: إنما قيل ذلك كذلك لانهما صنفان، فالسموات نوع، والارض آخر وذلك نظير قول الاسود بن يعفر:
[ 28 ]
إن المنية والحتوف كلاهما * توفي المخارم يرقبان سوادي فقال: كلاهما، وقد ذكر المنية والحتوف لما وصفت من أنه عنى النوعين. وقد أخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثني، قال: أنشدني غالب النفيلي للقطامي: ألم يحزنك أن حبال قيس * وتغلب قد تباينتا انقطاعا فجعل حبال قيس وهي جمع وحبال تغلب وهي جمع اثنين. وقوله: وجعلنا من الماء كل شئ حي يقول تعالى ذكره: وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شئ. كما: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وجعلنا من الماء كل شئ حي قال: كل شئ حي خلق من الماء. فإن قال قائل: وكيف خص كل شئ حي بأنه جعل من الماء دون سائر الاشياء غيره، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والاشجار وغير ذلك مما لا حياة له، ولا يقال له حي ولا ميت ؟ قيل: لانه لا شئ من ذلك إلا وله حياة وموت، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الارواح في أنه لا أرواح فيهن وأن في ذوات الارواح أرواحا فلذلك قيل: وجعلنا من الماء كل شئ حي. وقوله: أفلا يؤمنون يقول: أفلا يصدقون بذلك، ويقرون بألوهة من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون) *.
[ 29 ]
يقول تعالى ذكره: أو لم ير هؤلاء الكفار أيضا من حججنا عليهم وعلى جميع خلقنا، أنا جعلنا في الارض جبالا راسية ؟ والرواسي: جمع راسية، وهي الثابتة كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجعلنا في الارض رواسي أي جبالا. ] وقوله: أن تميد بهم يقول: أن لا تتكفأ بهم. يقول جل ثناؤه: فجعلنا في هذه الارض هذه الرواسي من الجبال، فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس، وليقدروا بالثبات على ظهرها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كانوا على الارض تمور بهم لا تستقر، فأصبحوا وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتادا للارض وجعلنا فيها فجاجا سبلا يعني مسالك، واحدها فج. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجعلنا فيها فجاجا: أي أعلاما. وقوله: سبلا أي طرقا، وهي جمع السبيل. وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقول: إنما عنى بقوله: وجعلنا فيها فجاجا وجعلنا في الرواسي، فالهاء والالف في قوله: وجعلنا فيها من ذكر الرواسي. حدثنا بذلك القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: وجعلنا فيها فجاجا سبلا، قال: بين الجبال. وإنما اخترنا القول الآخر في ذلك وجعلنا الهاء والالف من ذكر الارض، لانها إذا كانت من ذكرها دخل في ذلك السهل والجبل وذلك أن ذلك كله من الارض، وقد جعل الله لخلقه في ذلك كله فجاجا سبلا. ولا دلالة تدل على أنه عنى بذلك فجاج بعض الارض التي جعلها لهم سبلا دون بعض، فالعموم بها أولى. وقوله: لعلهم يهتدون يقول تعالى ذكره: جعلنا هذه الفجاج في الارض ليهتدوا إلى السير فيها. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 30 ]
* (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ئ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) *. يقول تعالى ذكره: وجعلنا السماء سقفا للارض مسموكا. وقوله: محفوظا يقول: حفظناها من كل شيطان رجيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: سقفا محفوظا قال: مرفوعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجعلنا السماء سقفا محفوظا... الآية: سقفا مرفوعا، وموجا مكفوفا. ] وقوله: وهم عن آياتها معرضون يقول: هؤلاء المشركون عن آيات السماء، ويعني بآياتها: شمسها وقمرها ونجومها. معرضون: يقول: يعرضون عن التفكر فيها وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم ودلالتها على وحدانية خالقها، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسواها، ولا تصلح إلا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وهم عن آياتها معرضون قال: الشمس والقمر والنجوم آيات السماء. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون يقول تعالى ذكره: والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار، نعمة منه عليكم وحجة ودلالة على عظيم سلطانه وأن الالوهة له دون كل ما سواه فهما يختلفان عليكم
[ 31 ]
لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الشمس والقمر أيضا كل في فلك يسبحون يقول: كل ذلك في فلك يسبحون. واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الآية، فقال بعضهم: هو كهيئة حديدة الرحى. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: كل في فلك يسبحون قال: فلك كهيئة حديدة الرحى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: كل في فلك قال: فلك كهيئة حديدة الرحى. حدثنا ابن حميد، قال: ثني جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: كل في فلك يسبحون قال: فلك السماء. وقال آخرون: بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول قي قوله: كل في فلك يسبحون الفلك: الجري والسرعة. وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقال آخرون: بل هو القطب الذي تدور به النجوم. واستشهد قائل هذا القول لقوله هذا بقول الراجز: باتت تناجي الفلك الدوارا * حتى الصباح تعمل الاقتارا وقال آخرون في ذلك، ما: حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: كل في فلك يسبحون: أي في فلك السماء.
[ 32 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: كل في فلك يسبحون قال: يجري في فلك السماء كما رأيت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: كل في فلك يسبحون قال: الفلك الذي بين السماء والارض من مجاري النجوم والشمس والقمر. وقرأ: تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وقال: تلك البروج بين السماء والارض وليست في الارض. كل في فلك يسبحون قال: فيما بين السماء والارض: النجوم والشمس والقمر. وذكر عن الحسن أنه كان يقول: الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل. والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزوجل: كل في فلك يسبحون وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرحى، وكما ذكر عن الحسن كطاحونة الرحى، وجائز أن يكون موجا مكفوفا، وأن يكون قطب السماء. وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شئ دائر، فجمعه أفلاك، وقد ذكرت قول الراجز: باتت تناجي الفلك الدوارا وإذ كان كل ما دار في كلامه فلكا، ولم يكن في كتاب الله ولا في خبر عن رسول الله (ص) ولا عمن يقطع بقوله العذر، دليل يدل على أي ذلك هو من أي كان الواجب أن نقول فيه ما قال ونسكت عما لا علم لنا به. فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا، فتأويل الكلام: والشمس والقمر، كل ذلك في دائر يسبحون. وأما قوله: يسبحون فإن معناه: يجرون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: كل في فلك يسبحون قال: يجرون.
[ 33 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يسبحون قال: يجرون. وقيل: كل في فلك يسبحون فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون، ولم يقل: يسبحن أو تسبح، كما قيل: والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين لان السجود من أفعال بني آدم، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ئ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وما خلدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رسلنا. أفإن مت فهم الخالدون يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ؟ لا، ما ذلك كذلك، بل هم ميتون بكل حال عشت أو مت فأدخلت الفاء في إن وهي جزاء، وفي جوابه لان الجزاء متصل بكلام قبله، ودخلت أيضا في قوله فهم لانه جواب للجزاء، ولو لم يكن في قوله فهم الفاء جاز على وجهين: أحدهما: أن تكون محذوفة وهي مرادة، والآخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء، فكأنه قال: أفهم الخالدون إن مت. وقوله: كل نفس ذائقة الموت يقول تعالى ذكره: كل نفس منفوسة من خلقه، معالجة غصص الموت ومتجرعة كأسها. وقوله: ونبلوكم بالشر والخير فتنة يقول تعالى ذكره: ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين: قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 34 ]
قال: قال ابن عباس، قوله: ونبلوكم بالشر والخير فتنة قال: بالرخاء والشدة، وكلاهما بلاء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، ع قتادة، قوله: ونبلوكم بالشر والخير فتنة يقول: نبلوكم بالشر بلاء، والخير فتنة وإلينا ترجعون. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون قال: نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون نختبرهم بذلك لننظر كيف شكرهم فيما يحبون، وكيف صبرهم فيما يكرهون. حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ونبلوكم بالشر والخير يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة. وقوله: وإلينا ترجعون يقول: وإلينا يردون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وإذا رآك يا محمد الذين كفروا بالله، إن يتخذونك إلا هزوا يقول: ما يتخذونك إلا سخريا يقول بعضهم لبعض: أهذا الذي يذكر آلهتكم يعني بقوله: يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها، تعجبا منهم من ذلك. يقول الله تعالى ذكره: فيعجبون من ذكرك يا محمد آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بسوء. وهم بذكر الرحمن الذي خلقهم وأنعم عليهم، ومنه نفعهم، وبيده ضرهم، وإليه مرجعهم بما هو أهله منهم أن يذكروه به كافرون والعرب تضع الذكر موضع المدح والذم، فيقولون: سمعنا فلانا يذكر فلانا، وهم يريدون سمعناه يذكره بقبيح ويعيبه ومن ذلك قول عنترة: لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الاجرب
[ 35 ]
يعني بذلك: لا تعيبي مهري. وسمعناه يذكر بخير. القول في تأويل قوله تعالى: * (خلق الانسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ئ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *. يقول تعالى ذكره: خلق الانسان يعني آدم من عجل. واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: من عجل في بنيته وخلقته كان من العجلة، وعلى العجلة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد في قوله: خلق الانسان من عجل قال: لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض، فقال الله: خلق الانسان من عجل. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما نفخ فيه يعني في آدم الروح، فدخل في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد لله فقال: الحمد لله. فقال الله له: رحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: خلق الانسان من عجل يقول: خلق الانسان عجولا. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: خلق الانسان من عجل قال: خلق عجولا. وقال آخرون: معناه: خلق الانسان من عجل، أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل. وقالوا: خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: خلق الانسان من عجل قال: قول آدم حين خلق بعد كل شئ آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم تبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
[ 36 ]
حدثني الحرث، قال ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: خلق الانسان من عجل قال آدم حين خلق بعد كل شئ ثم ذكر نحوه، غير أنه قال في حديثه: استعجل بخلقي فقد غربت الشمس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: خلق الانسان من عجل قال: على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين، يريد يوم الجمعة، وخلقه على عجل، وجعله عجولا. وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة: إنما قال: خلق الانسان من عجل وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الامر، لانه قال: إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون قال: فهذا العجل. وقوله: فلا تستعجلون إني سأريكم آياتي. وعلى قول صاحب هذه المقالة، يجب أن يكون كل خلق الله خلق على عجل، لان كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان. فإذا كان ذلك كذلك، فما وجه خصوص الانسان إذا بذكر أنه خلق من عجل دون الاشياء كلها وكلها مخلوق من عجل ؟ وفي خصوص الله تعالى ذكره الانسان بذلك الدليل الواضح، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. وقال آخرون منهم: هذا من المقلوب، وإنما خلق العجل من الانسان، وخلقت العجلة من الانسان. وقالوا: ذلك مثل قوله: ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إنما هو: لتنوء العصبة بها متثاقلة. وقالوا: هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور. قالوا: وإنما كلم القوم بما يعقلون. قالوا: وذلك مثل قولهم: عرضت الناقة، وكقولهم: إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحرباء أي استوت الحرباء على العود، كقول الشاعر:
[ 37 ]
وتركب خيلا لا هوادة بينها * وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر وكقول ابن مقبل: حسرت كفي عن السربال آخذه * فردا يجر على أيدي المفدينا يريد: حسرت السربال عن كفي، ونحو ذلك من المقلوب. وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره. قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه: خلق الانسان من عجل في خلقه أي على عجل وسرعة في ذلك. وإنما قيل ذلك كذلك، لانه بودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح. وإنما قلنا أولى الاقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، لدلالة قوله تعالى: سأريكم آياتي فلا تستعجلون علي ذلك، وأن أبا كريب: حدثنا قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إن في الجمعة لساعة يقللها، قال: لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا آتاه الله إياه فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة. قال الله: خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو، عن محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) بنحوه، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه.
[ 38 ]
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا خلق الانسان من عجل، ولذلك يستعجل ربه بالعذاب. سأريكم آياتي فلا تستعجلون أيها المستعجلون ربهم بالآيات القائلون لنبينا محمد (ص): بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الاولون آياتي، كما أريتها من قبلكم من الامم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل، إذا أتتها الآيات: فلا تستعجلون يقول: فلا تستعجلوا ربكم، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها. واختلفت القراء في قراءة قوله: خلق الانسان من عجل فقرأته عامة قراء الامصار: خلق الانسان من عجل بضم الخاء على مذهب ما لم يسم فاعله. وقرأه حميد الاعرج: خلق بفتحها، بمعنى: خلق الله الانسان. والقراءة التي عليها قراء الامصار، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها. وقوله: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المستعجلون ربهم بالآيات والعذاب لمحمد (ص): متى هذا الوعد ؟ يقول: متى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به من ذلك ؟ وقيل: هذا الوعد والمعنى الموعود لمعرفة السامعين معناه. وقيل: إن كنتم صادقين كأنهم قالوا ذلك لرسول الله (ص) وللمؤمنين به. ومتى في موضع نصب، لان معناه: أي وقت هذا الوعد وأي يوم هو فهو نصب على الظرف لانه وقت. القول في تأويل قوله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) *. يقول تعالى ذكره: لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون، فلا يكفون عن وجوههم النار التي تلفحها، ولا عن ظهورهم فيدفعونها عنها بأنفسهم ولا هم ينصرون يقول: ولا لهم ناصر ينصرهم، فيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله، ولسارعوا إلى التوبة منه والايمان بالله، ولما استعجلوا لانفسهم البلاء. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) *.
[ 39 ]
يقول تعالى ذكره: لا تأتي هذه النار التي تلفح وجوه هؤلاء الكفار الذين وصف أمرهم في هذه السورة حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها، ولكنها تأتيهم مفاجأة لا يشعرون بمجيئها فتبهتهم يقول: فتغشاهم فجأة، وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشئ، حتى يبقى المبهوت كالحيران منه. فلا يستطيعون ردها يقول: فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم. ولا هم ينظرون يقول: ولا هم وإن لم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بالعذاب بها لتوبة يحدثونها وإنابة ينيبون، لانها ليست حين عمل وساعة توبة وإنابة، بل هي ساعة مجازاة وإثابة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): إن يتخذك يا محمد هؤلاء القائلون لك: هل هذا إلا بشر مثلكم، أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، إذ رأوك هزوا ويقولون: هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بالله، واجتراء عليه. فلقد استهزئ برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلى أممهم، يقول: فوجب ونزل بالذين استهزءوا بهم، وسخروا منهم من أممهم ما كانوا به يستهزءون يقول جل ثناؤه: حل بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تخوفهم نزوله بهم، يستهزءون: يقول جل ثناؤه، فلن يعدو هؤلاء المستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الامم المكذبة رسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المستعجليك بالعذاب، القائلين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين: من يكلؤكم أيها القوم، يقول: من يحفظكم ويحرسكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرفتم من الرحمن ؟ يقول: من أمر الرحمن إن نزل بكم، ومن عذابه إن حل بكم. وترك ذكر الامر وقيل من الرحمن اجتزاء بمعرفة السامعين لمعناه من ذكره.
[ 40 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن قال: يحرسكم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن قل من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن. يقال منه: كلات القوم: إذا حرستهم، أكلؤهم كما قال ابن هرمة: إن سليمى والله يكلؤها * ضنت بشئ ما كان يرزؤها قوله: بل هم عن ذكر ربهم معرضون وقوله بل: تحقيق لجحد قد عرفه المخاطبون بهذا الكلام، وإن لم يكن مذكورا في هذا الموضع ظاهرا. ومعنى الكلام: وما لهم أن لا يعلموا أنه لا كالئ لهم من أمر الله إذا هو حل بهم ليلا أو نهارا، بل هم عن ذكر مواعظ ربهم وحججه التي احتج بها عليهم معرضون لا يتدبرون ذلك فلا يعتبرون به، جهلا منهم وسفها. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون) *. يقول تعالى ذكره: ألهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا من دوننا ؟ ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا ؟ ثم وصف جل ثناؤه الآلهة بالضعف والمهانة، وما هي به من صفتها، فقال: وكيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا وهي لا تستطيع نصر أنفسها. وقوله: ولا هم منا يصحبون اختلف أهل التأويل في المعني بذلك، وفي معنى يصحبون، فقال بعضهم: عني بذلك الآلهة، وأنها لا تصحب من الله بخير. ذكر من قال ذلك:
[ 41 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم يعني الآلهة. ولا هم منا يصحبون يقول: لا يصحبون من الله بخير. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا هم منا ينصرون. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولا هم منا يصحبون قال: لا ينصرون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا إلى قوله: يصحبون قال: ينصرون. قال: قال مجاهد: ولا هم يحفظون. حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا هم منا يصحبون يجارون... ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولا هم منا يصحبون يقول: ولا هم منا يجارون، وهو قوله: وهو يجير ولا يجار عليه يعني الصاحب، وهو الانسان يكون له خفير مما يخاف، فهو قوله يصحبون. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس، وأن هم من قوله: ولا هم من ذكر الكفار، وأن قوله: يصحبون بمعنى: يجارون يصحبون بالجوار لان العرب محكي عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك، وهم إذا لم يصحبوا بالجوار، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 42 ]
* (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) *. يقول تعالى ذكره: ما لهؤلاء المشركين من آلهة تمنعهم من دوننا، ولا جار يجيرهم من عذابنا، إذا نحن أردنا عذابهم، فاتكلوا على ذلك، وعصوا رسلنا اتكالا منهم على ذلك ولكنا متعناهم بهذه الحياة الدنيا وآباءهم من قبلهم حتى طال عليهم العمر، وهم على كفرهم مقيمون، لا تأتيهم منا واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب على كفرهم وخلافهم أمرنا وعبادتهم الاوثان والاصنام، فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا عليهم، ولم يعرفوا موضع الشكر. وقوله: أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها يقول تعالى ذكره: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله السائلو محمد (ص) الآيات المستعجلو بالعذاب، أنا نأتي الارض نخربها من نواحيها بقهرنا أهلها، وغلبتناهم، وإجلائهم عنها، وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به، ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الاطراف ؟ وقد تقدم ذكر القائلين بقولنا هذا ومخالفيه بالروايات عنهم في سورة الرعد بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: أفهم الغالبون يقول تبارك وتعالى: أفهؤلاء المشركون المستعجلو محمد بالعذاب الغالبونا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الارضين ؟ ليس ذلك كذلك، بل نحن الغالبون. وإنما هذا تقريع من الله تعالى لهؤلاء المشركين به بجهلهم، يقول: أفيظنون أنهم يغلبون محمدا ويقهرونه، وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الارض غيرهم ؟ كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أفهم الغالبون يقول: ليسوا بغالبين، ولكن رسول الله (ص) هو الغالب. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه مح مد (ص): قل يا محمد لهؤلاء القائلين فليأتنا بآية كما أرسل الاولون: إنما أنذركم أيها القوم بتنزيل الله الذي يوحيه إلى من عنده، وأخوفكم به بأسه. كما:
[ 43 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل إنما أنذركم بالوحي أي بهذا القرآن. وقوله: ولا يسمع الصم الدعاء اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: ولا يسمع بفتح الياء من يسمع بمعنى أنه فعل للصم، والصم حينئذ مرفوعون. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ: ولا تسمع بالتاء وضمها، فالصم على هذه القراءة مرفوعة، لان قوله: ولا تسمع لم يسم فاعله، ومعناه على هذه القراءة: ولا يسمع الله الصم الدعاء. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قراء الامصار لاجماع الحجة من القراء عليه. ومعنى ذلك: ولا يصغي الكافر بالله بسمع قلبه إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكر، فيتذكر به ويعتبر، فينزجر عما هو عليه مقيم من ضلاله إذا تلى عليه وأريد به ولكنه يعرض عن الاعتبار به والتفكر فيه، فعل الاصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون يقول: إن الكافر قد صم عن كتاب الله لا يسمعه، ولا ينتفع به ولا يعقله، كما يسمعه المؤمن وأهل الايمان. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يويلنآ إنا كنا ظالمين) *. يقول تعالى ذكره: ولئن مست هؤلاء المستعجلين بالعذاب يا محمد نفحة من عذاب ربك، يعني بالنفحة النصيب والحظ، من قولهم: نفح فلان لفلان من عطائه: إذا أعطاه قسما أو نصيبا من المال. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك... الآية، يقول: لئن أصابتهم عقوبة. ] وقوله: ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين يقول: لئن أصابتهم هذه النفحة من عقوبة ربك يا محمد بتكذيبهم بك وكفرهم، ليعلمن حينئذ غب تكذيبهم بك، وليعترفن على
[ 44 ]
أنفسهم بنعمة الله وإحسانه إليهم وكفرانهم أياديه عندهم، وليقولن يا ويلنا إنا كان ظالمين في عبادتنا الآلهة والانداد، وتركنا عبادة الله الذي خلقنا وأنعم علينا ووضعنا العبادة غير موضعها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) *. يقول تعالى ذكره: ونضع الموازين العدل وهو القسط. وجعل القسط وهو موحد من نعت الموازين، وهو جمع لانه في مذهب عدل ورضا ونظر. وقوله: ليوم القيامة يقول: لاهل يوم القيامة، ومن ورد على الله في ذلك اليوم من خلقه. وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك إلى في كأن معناه عنده: ونضع الموازين القسط في يوم القيامة. وقوله: فلا تظلم نفس شيئا يقول: فلا يظلم الله نفسا ممن ورد عليه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله وطاعة أطاعه بها ولكن يجازي المحسن بإحسانه، ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة... إلى آخر الآية، وهو كقوله: والوزن يومئذ الحق يعني بالوزن: القسط بينهم بالحق في الاعمال الحسنات والسيئات فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه، يقول: أذهبت حسناته سيئاته، ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه وأمه هاوية، يقول: أذهبت سيئاته حسناته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة قال: إنما هو مثل، كما يجوز الوزن كذلك يجوز الحق. قال الثوري: قال ليث عن مجاهد: ونضع الموازين القسط قال: العدل. ]
[ 45 ]
وقوله: وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها يقول: وإن كان الذي له من عمل الحسنات أو عليه من السيئات وزن حبة من خردل أتينا بها يقول: جئنا بها فأحضرناها إياه. كما: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها قال: كتبناها وأحصيناها له وعليه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها قال: يؤتي بها لك وعليك، ثم يعفو إن شاء أو يأخذ، ويجزي بما عمل له من طاعة. وكان مجاهد يقول في ذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها قال: جازينا بها. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه كان يقول: وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها قال: جازينا بها. وقال: أتينا بها فأخرج قوله بها مخرج كناية المؤنث، وإن كان الذي تقدم ذلك قوله مثقال حبة، لانه عني بقوله بها الحبة دون المثقال، ولو عني به المثقال لقيل به. وقد ذكر أن مجاهدا إنما تأول قوله: أتينا بها على ما ذكرنا عنه، لانه كان يقرأ ذلك: آتينا بها بمد الالف. وقوله: وكفى بنا حاسبين يقول: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين، لانه لا أحد أعلم بأعمالهم ومسلف في الدنا من صالح أو سيئ منا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء وذكرا للمتقين) *. يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان، يعني به الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل. وذلك هو التوراة في قول بعضهم ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
[ 46 ]
الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: الفرقان قال: الكتاب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان الفرقان: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما: حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان قال: الفرقان: الحق آتاه الله موسى وهارون، فرق بينهما وبين فرعون، فقضى بينهم بالحق. وقرأ: وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان قال: يوم بدر. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل، وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك، لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء لان الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم فبصرهم الحلال والحرام، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الابصار. وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء. فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان، وإن كانت فيه واو فيكون معناه: وضياء آتيناه ذلك، كما قال بزينة الكواكب وحفظا ؟ قيل له: إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله، فإن الاغلب من معانيه ما قلنا. والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الاغلب الاشهر من وجوهها المعروفة عند العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل.
[ 47 ]
وقوله: وذكرا للمتقين يقول: وتذكيرا لمن اتقى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ذكرهم بما آتى موسى وهارون من التوراة. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) *. يقول تعالى ذكره: آتينا موسى وهارون الفرقان الذكر الذي آتيناهما للمتقين الذين يخافون ربهم بالغيب، يعني في الدنيا أن يعاقبهم في الآخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته يحافظون على حدوده وفرائضه، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون، حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم قد فرطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قبل لهم به. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون) *. يقول جل ثناؤه: وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد (ص) ذكر لمن تذكر به، وموعظة لمن اتعظ به. مبارك أنزلناه كما أنزلنا التوراة إلى موسى وهارون ذكرا للمتقين. أفأنتم له منكرون يقول تعالى ذكره: أفأنتم أيها القوم لهذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد منكرون وتقولون هو أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الاولون وإنما الذي آتيناه من ذلك ذكر للمتقين، كالذي آتينا موسى وهارون ذكرا للمتقين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وهذا ذكر مبارك... إلى قوله: أفأنتم له منكرون: أي هذا القرآن. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد آتينآ إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ئ إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) *. يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل موسى وهارون، ووفقناه
[ 48 ]
للحق، وأنقذناه من بين قومه وأهل بيته من عبادة الاوثان، كما فعلنا ذلك بمحمد (ص) وعلى إبراهيم، فأنقذناه من قومه وعشيرته من عبادة الاوثان، وهديناه إلى سبيل الرشاد توفيقا منا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ح وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل قال: هديناه صغيرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل قال: هداه صغيرا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: آتينا إبراهيم رشده من قبل قال: هداه صغيرا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل يقول: آتيناه هداه. وقوله: وكنا به عالمين يقول: وكنا عالمين به أنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له، لا يشرك به شيئا. إذ قال لابيه وقومه يعني في وقت قيله وحين قيله لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون يقول: قال لهم: أي شئ هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون ؟ وكانت تلك التماثيل أصنامهم التي كانوا يعبدونها كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قال: الاصنام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا أن العاكف على الشئ المقيم عليه بشواهد ذلك، وذكرنا الرواية عن أهل التأويل. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 49 ]
* (قالوا وجدنا آبآءنا لها عابدين ئ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ئ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) *. يقول تعالى ذكره: قال أبو إبراهيم وقومه لابراهيم: وجدنا آباءنا لهذه الاوثان عابدين، فنحن على ملة آبائنا نعبدها كما كانوا يعبدون. قال إبراهيم: لقد كنتم أيها القوم أنتم وآباؤكم بعبادتكم إياها في ضلال مبين يقول: في ذهاب عن سبيل الحق، وجور عن قصد السبيل مبين يقول: بين لمن تأمله بعقل أنكم كذلك في جور عن الحق. قالوا أجئتنا بالحق ؟ يقول: قال أبوه وقومه له: أجئتنا بالحق فيما تقول أم أنت هازل لاعب من اللاعبين. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) *. يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لهم: بل جئتكم بالحق لا اللعب، ربكم رب السموات والارض الذي خلقهن، وأنا على ذلكم من أن ربكم هو رب السموات والارض الذي فطرهن دون التماثيل التي أنتم لها عاكفون ودون كل أحد سواه شاهد من الشاهدين، يقول: فإياه فاعبدوا لا هذه التماثيل التي هي خلقه التي لا تضر ولا تنفع. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ئ فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) *. ذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه حلف بهذه اليمين في سر من قومه وخفاء، وأنه لم يسمع ذلك منه إلا الذي أفشاه عليه حين قالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، فقالوا: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وتالله لاكيدن أصنامكم قال: قول إبراهيم حين استتبعه قومه إلى عيد لهم
[ 50 ]
فأبى وقال: إني سقيم، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر، وهو الذي يقول: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وتالله لاكيدن أصنامكم قال: نرى أنه قال ذلك حيث لم يسمعوه بعد أن تولوا مدبرين. ] وقوله: فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار سوى يحيى بن وثاب والاعمش والكسائي: فجعلهم جذاذا بمعنى جمع جذيذ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجذاذ، كما يجمع الخفيف خفاف، والكريم كرام. وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه: جذاذا بضم الجيم، لاجماع قراء الامصار عليه، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب وهو إذا قرئ كذلك مصدر مثل الرفات، والفتات، والدقاق لا واحد له، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ، والجذيذ: هو فعيل صرف من مجذوذ إليه، مثل كسير وهشيم، والمجذوذة: المكسورة قطعا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: فجعلهم جذاذا يقول: حطاما. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: جذاذا كالصريم.
[ 51 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فجعلهم جذاذا: أي قطعا. وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك، كما: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السدي: أن إبراهيم قال له أبوه: يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا فلما كان يوم العيد، فخرجوا إليه، خرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم، يقول: أشتكى رجلي. فتواطئوا رجليه وهو صريع فلما مضوا نادى في آخرهم، وقد بقي ضعفي الناس: وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فسمعوها منه. ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هن في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما، فوضعوه بين أيدي الآلهة، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا. فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال ألا تأكلون ؟ فلما لم تجبه، قال: ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأخذ فأس حديد، فنقر كل صنم في حافتيه، ثم علق الفأس في عنق الصنم الاكبر، ثم خرج. فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. وقوله: إلا كبيرا لهم يقول: إلا عظيما للآلهة، فإن إبراهيم لم يكسره، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: إلا كبيرا لهم قال: قال ابن عباس: إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم. قال ابن جريج، وقال مجاهد: وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك.
[ 52 ]
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أقبل عليهن كما قال الله تبارك وتعالى ضربا باليمين ثم جعل يكسرهن بفأس في يده، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده، ثم تركهن. فلما رجع قومه، رأوا ما صنع بأصنامهم، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. وقوله لعلهم إليه يرجعون يقول: فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم، فهي من أن تدفع عن غيرها من أراده بسوء أبعد، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله والبراءة من الاوثان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لعلهم إليه يرجعون قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا من فعل هذا بآلهتنآ إنه لمن الظالمين ئ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ئ قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) *. يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم لما رأوا آلهتهم قد جذت، إلا الذي ربط به الفأس إبراهيم: من فعل هذا بآلهتنا ؟ إن الذي فعل هذا بآلهتنا لمن الظالمين أي لمن الفاعلين بها ما لم يكن له فعله. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم يقول: قال الذين سمعوه يقول وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين سمعنا فتى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: قالوا سمعنا فتى يذكرهم قال ابن جريج: يذكرهم يعيبهم.
[ 53 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم سمعناه يسبها ويعيبها ويستهزئ بها، لم نسمع أحدا يقول ذلك غيره، وهو الذي نظن صنع هذا بها. وقوله: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون يقول تعالى ذكره: قال قوم إبراهيم بعضهم لبعض: فأتوا بالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتموه يذكرها بعيب ويسبها ويذمها على أعين الناس فقيل: معنى ذلك: على رؤس الناس، وقال بعضهم: معناه: بأعين الناس ومرأى منهم، وقالوا: إنما أريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الامر وشهر: كان ذلك على أعين الناس، يراد به كان بأيدي الناس. واختلف أهل التأويل قوله: لعلهم يشهدون فقال بعضهم: معناه لعل الناس يشهدون عليه أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا عليه. وقالوا: إنما فعلوا ذلك لانهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه أنه فعل ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قال: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به، فيعاينونه ويرونه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بلغ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود، وأشراف قومه، فقالوا: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون: أي ما يصنع به. وأظهر معنى ذلك أنهم قالوا: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه، لانه لو أريد بذلك ليشهدوا عليه بفعله كان يقال: انظروا من شهده يفعل ذلك، ولم يقل: أحضروه بمجمع من الناس. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ئ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) *.
[ 54 ]
يقول تعالى ذكره: فأتوا بإبراهيم، فلما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم ؟ فأجابهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق أو تعبر عن نفسها وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما أتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها، فكسرهن. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: بل فعله كبيرهم هذا... الآية، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها. وقد زعم بعض من لا يصدق بالآثار ولا يقبل من الاخبار إلا ما استفاض به النقل من العوام، أن معنى قوله: بل فعله كبيرهم هذا إنما هو: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق فإن كبيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الاخبار عن رسول الله (ص) أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله، قوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم، وقوله لسارة: هي أختي. وغير مستحيل أن يكون الله ذكره أذن لخليله في ذلك، ليقرع قومه به، ويحتج به عليهم، ويعرفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لانفسهم، كما قال مؤذن يوسف لاخوته: أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ئ ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) *. يقول تعالى ذكره: فذكروا حين قال لهم إبراهيم صلوات الله عليه: بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون في أنفسهم، ورجعوا إلى عقولهم، ونظر بعضهم إلى
[ 55 ]
بعض، فقالوا: إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون قال: ارعووا ورجعوا عنه يعني عن إبراهيم، فيما ادعوا عليه من كسرهن إلى أنفسهم فيما بينهم، فقالوا: لقد ظلمناه، وما نراه إلا كما قال. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: فرجعوا إلى أنفسهم قال: نظر بعضهم إلى بعض فقالوا إنكم أنتم الظالمون. وقوله: ثم نكسوا على رؤوسهم يقول جل ثناؤه: ثم غلبوا في الحجة، فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لابراهيم عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الاصنام ينطقون. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم قالوا: يعني قوم إبراهيم، وعرفوا أنها، يعني آلهتهم لا تضر ولا تنفع ولا تبطش: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون: أي لا تتكلم فتخبرنا من صنع هذا بها، وما تبطش بالايدي فنصدقك، يقول الله: ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لابراهيم حين جادلهم، فقال عند ذلك إبراهيم حين ظهرت الحجة عليهم بقولهم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال الله: ثم نكسوا على رؤوسهم أدركت الناس حيرة سوء. وقال آخرون: معنى ذلك: ثم نكسوا في الفتنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم نكسوا على رؤوسهم قال: نكسوا في الفتنة على رؤوسهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. وقال بعض أهل العربية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك، لان نكس الشئ على رأسه: قلبه على رأسه وتصيير أعلاه أسفله ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رءوس أنفسهم، وأنهم إنما نكست حجتهم، فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم. وإذ كان ذلك كذلك، فنكس
[ 56 ]
الحجة لا شك إنما هو احتجاج المحتج على خصمه بما هو حجة لخصمه. وأما قول السدي: ثم نكسوا في الفتنة، فإنهم لم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فيها. وأما قول من قال من أهل العربية ما ذكرنا عنه، فقول بعيد من الفهوم لانهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، ما احتجوا عليه بما هو حجة له، بل كانوا يقولون له: لا تسألهم، ولكن نسألك فأخبرنا من فعل ذلك بها، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك ولكن صدقوا القول فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون وليس ذلك رجوعا عما كانوا عرفوا، بل هو إقرار به. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ئ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) *. يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أفتعبدون أيها القوم ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، وأنتم قد علمتم أنها لم تمنع نفسها ممن أرادها بسوء، ولا هي تقدر أن تنطق إن سئلت عمن يأتيها بسوء فتخبر به، أفلا تستحيون من عبادة ما كان هكذا ؟ كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم... الآية، يقول يرحمه الله: ألا ترون أنهم لم يدفعوا عن أنفسهم الضر الذي أصابهم، وأنهم لا ينطقون فيخبرونكم من صنع ذلك بهم، فكيف ينفعونكم أو يضرون وقوله: أف لكم يقول: قبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون قبح ما تفعلون من عبادتكم ما لا يضر ولا ينفع، فتتركوا عبادته، وتعبدوا الله الذي فطر السموات والارض، والذي بيده النفع والضر ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ئ قلنا ينار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ئ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) *. يقول تعالى ذكره: قال بعض قوم إبراهيم لبعض: حرقوا إبراهيم بالنار وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين يقول: إن كنتم ناصريها ولم تريدوا ترك عبادتها. وقيل: إن الذي قال ذلك رجل من أكراد فارس. ذكر من قال ذلك:
[ 57 ]
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: حرقوه وانصروا آلهتكم قال: قالها رجل من أعراب فارس، يعني الاكراد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبئي، قال: إن الذي قال حرقوه هيزن فخسف الله به الارض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أجمع نمرود وقومه في إبراهيم فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين أي لا تنصروها منه إلا بالتحريق بالنار إن كنتم ناصريها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار ؟ قال: قلت لا. قال: رجل من أعراب فارس. قلت: يا أبا عبد الرحمن، أو هل للفرس أعراب ؟ قال: نعم الكرد هم أعراب فارس، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار. وقوله: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم في الكلام متروك اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: فأوقدوا له نارا ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وذكر أنهم لما أرادوا إحراقه بنوا له بنيانا كما: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قالوا ابنواله بنيانا فألقوه في الجحيم قال: فحبسوه في بيت، وجمعوا له حطبا، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لاجمعن حطبا لابراهيم فلما جمعوا له، وأكثروا من الحطب حتى إن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم (ص) رأسه إلى السماء، فقالت السماء والارض والجبال والملائكة: ربنا، إبراهيم يحرق فيك فقال: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه وقال إبراهيم حين رفع رأسه إلى السماء: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الارض ليس في
[ 58 ]
الارض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل فقذفوه في النار، فناداها فقال: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها. وقال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لما مات إبراهيم من شدة بردها، فلم يبق يومئذ نار في الارض إلا طفئت، ظنت أنها هي تعنى. فلما طفئت النار نظروا إلى إبراهيم، فإذا هو رجل آخر معه، وإذا رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظل. وأنزل الله نارا فانتفع بها بنو آدم، وأخرجوا إبراهيم، فأدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه. حدثني إبراهيم بن المقدام أبو الأشعث، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي، قال: ثنا قتادة، عن أبي سليمان، عن كعب، قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول: ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس. وكان كعب يقول: ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: وسلاما، قال: لا تضريه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل، عن المنهال بن عمرو، قال: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أياما قط أنعم مني من الايام التي كنت فيها في النار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: لما ألقي إبراهيم خليل الله (ص) في النار، قال الملك خازن المطر: رب خليلك إبراهيم رجا أن يؤذن له فيرسل المطر. قال: فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يبق في الارض نار إلا طفئت.
[ 59 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الحرث، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: إن أحسن شئ قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار، وجده يرشح جبينه، فقال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائ، قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيلياء على ميلين، ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بطنت يومين، وماتت اليوم الثالث. قال ابن جريج: قال كعب الاحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به. حدثنا الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يوثق أو يقمط ليلقى في النار، قال: يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. قال: ثنا معتمر، قال: ثنا ابن كعب، عن أرقم: أن إبراهيم قال حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال: السلام لا يؤذيه بردها، ولولا أنه قال: وسلاما لكان البرد أشد عليه من الحر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: بردا قال: بردت عليه وسلاما لا تؤذيه.
[ 60 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم قال: قال كعب: ما انتفع أحد من أهل الارض يومئذ بنار، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم. وقال قتادة: لم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ. وقال الزهري: أمر النبي (ص) بقتله، وسماه فويسقا. وقوله: وأرادوا به كيدا يقول تعالى ذكره: وأرادوا بإبراهيم كيدا، فجعلناهم الاخسرين يعني الهالكين. وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين قال: ألقوا شيخا منهم في النار لان يصيبوا نجاته، كما نجي إبراهيم (ص)، فاحترق. القول في تأويل قوله تعالى: * (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) *. يقول تعالى ذكره: ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرود وقومه من أرض العراق، إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين وهي أرض الشأم، فارق صلوات الله عليه قومه ودينهم وهاجر إلى الشأم. وهذه القصة التي قص الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد (ص) من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الاوثان، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ومخالفتهم دينه، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله، وفي دعائهم إلى البراءة من الاصنام، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم، ومسل بذلك نبيه محمدا (ص) عما يلقى من قومه من المكروه والاذى، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجى أباه إبراهيم من كفرة قومه. وقد اختلف أهل التأويل في الارض التي ذكر الله أنه نجى إبراهيم ولوطا إليها ووصفه أنه بارك فيها للعالمين. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار، قال: ثنا الفضل بن
[ 61 ]
موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين قال: الشأم، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن فرات القزاز، عن الحسن، في قوله: إلى الارض التي باركنا فيها قال: الشام. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين كانا بأرض العراق، فأنجيا إلى أرض الشام. وكان يقال للشأم عماد دار الهجرة، وما نقص من الارض زيد في الشأم، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين. وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذاب الدجال. وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله (ص) قال: رأيت فيما يرى النائم كأن الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشأم، فأولته أن الفتن إذا وقعت فإن الايمان بالشأم. وذكر لنا أن رسول الله (ص) قال ذات يوم في خطبه: إنه كائن بالشأم جند، وبالعراق جند، وباليمن جند. فقال رجل: يا رسول الله خر لي فقال: عليك بالشأم فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله، فمن أبى فليلحق بأمنه وليسق بقدره. وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا كعب ألا تحول إلى المدينة فأنها مهاجر رسول الله (ص) وموضع قبره ؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين قال: هاجرا جميعا من كوثى إلى الشام. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال:
[ 62 ]
انطلق إبراهيم ولوط قبل الشأم، فلقي إبراهيم سارة، وهي بنت ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على أن لا يغيرها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجرا، وتزوج سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والامان على عبادة ربه، حتى نزل حران، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث. ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر. ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة، أو أقرب من ذلك، فبعثه الله نبيا (ص). حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي با ركنا فيها للعالمين قال: نجاه من أرض العراق إلى أرض الشام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، أنه قال في هذه الآية: باركنا فيها للعالمين قال: ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس، قال: ثم يتفرق في الارض. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين قال: إلى الشأم. وقال آخرون: بل يعني مكة وهي الارض التي قال الله تعالى: التي باركنا فيها للعالمين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة ونزول إسماعيل البيت ألا ترى أنه يقول: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ؟ قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لانه لا خلاف بين جميع أهل
[ 63 ]
العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام وبها كان مقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر غير أنه لم يقم بها ولم يتخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الارض التي بارك فيها للعالمين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ئ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة وكانوا لنا عابدين) *. يقول تعالى ذكره: ووهبنا لابراهيم إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولده، نافلة له. واختلف أهل التأويل في المعني بقوله: نافلة فقال بعضهم: عني به يعقوب خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة يقول: ووهبنا له إسحاق ولدا، ويعقوب ابن ابن نافلة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة والنافلة: ابن ابنه يعقوب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة قال: سأل واحدا فقال: رب هب لي من الصالحين فأعطاه واحدا، وزاده يعقوب ويعقوب ولد ولده. وقال آخرون: بل عني بذلك إسحاق ويعقوب. قالوا: وإنما معنى النافلة: العطية، وهما جميعا من عطاء الله أعطاهما إياه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، في قوله: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة قال: عطية.
[ 64 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إسحاق ويعقوب نافلة قال: عطاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى قبل أن النافلة الفضل من الشئ يصير إلى الرجل من أي شئ كان ذلك، وكلا ولديه إسحاق ويعقوب كان فضلا من الله تفضل به على إبراهيم وهبة منه له. وجائز أن يكون عني به أنه آتاهما إياه جميعا نافلة منه له، وأن يكون عني أنه آتاه نافلة يعقوب ولا برهان يدل على أي ذلك المراد من الكلام، فلا شئ أولى أن يقال في ذلك مما قال الله ووهب الله لابراهيم إسحاق ويعقوب نافلة. وقوله: وكلا جعلنا صالحين يعني عاملين بطاعة الله، مجتنبين محارمه. وعني بقوله: كلا: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. وقوله: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا يقول تعالى ذكره: وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتم بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه ويقتدى بهم، ويتبعون عليه. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا جعلهم الله أئمة يقتدى بهم في أمر الله. وقوله: يهدون بأمرنا يقول: يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك، ويدعونهم إلى الله وإلى عبادته. وقوله: وأوحينا إليهم فعل الخيرات يقول تعالى ذكره: وأوحينا فيما أوحينا أن افعلوا الخيرات، وأقيموا الصلاة بأمرنا بذلك. وكانوا لنا عابدين يقول: كانوا لنا خاشعين، لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) *. يقول تعالى ذكره: وآتينا لوطا حكما وهو فصل القضاء بين الخصوم، وعلما يقول: وآتيناه أيضا علما بأمر دينه، وما يجب عليه لله من فرائضه.
[ 65 ]
وفي نصب لوط وجهان: أن ينصب لتعلق الواو بالفعل كما قلنا: وآتينا لوطا والآخر بمضمر بمعنى: واذكر لوطا. وقوله: ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث يقول: ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، وهي قرية سدوم التي كان لوط بعث إلى أهلها. وكانت الخبائث التي يعملونها: إتيان الذكران في أدبارهم، وخذفهم الناس، وتضارطهم في أنديتهم، مع أشياء أخر كانوا يعملونها من المنكر، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أخرجهم الله، يعني لوطا وابنتيه زيثا وزعرثا إلى الشام حين أراد إهلاك قومه. وقوله: إنهم كانوا قوم سوء فاسقين مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته وما يرضى من العمل. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين) *. يقول تعالى ذكره: وأدخلنا لوطا في رحمتنا بانجائنا مما أحللنا بقومه من العذاب والبلاء وإنقاذناه منه. إنه من الصالحين يقول: إن لوطا من الذين كانوا يعملون بطاعتنا وينتهون إلى أمرنا ونهينا ولا يعصوننا. وكان ابن زيد يقول في معنى قوله: وأدخلناه في رحمتنا ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وأدخلناه في رحمتنا قال: في الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ئ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) *.
[ 66 ]
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد نوحا إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل إبراهيم ولوط، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوا نوحا فيما أتاهم به من الحق من عند ربه وقال رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهله، يعني بأهله: أهل الايمان من ولده وحلائلهم من الكرب العظيم يعني بالكرب العظيم: العذاب الذي أحل بالمكذبين من الطوفان والغرق. والكرب: شدة الغم، يقال منه: قد كربني هذا الامر فهو يكربني كربا. وقوله: ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا يقول: ونصرنا نوحا على القوم الذي كذبوا بحججنا وأدلتنا، فأنجيناه منهم، فأغرقناهم أجمعين. إنهم كانوا قوم سوء يقول تعالى ذكره: إن قوم نوح الذين كذبوا بآياتنا كانوا قوم سوء، يسيئون الاعمال، فيعصون الله ويخالفون أمره. القول في تأويل قوله تعالى: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ئ ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث. واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم: كان نبتا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن إسحاق، عن مرة في قوله: إذ يحكمان في الحرث قال: كان الحرث نبتا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قال: ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا. وقال آخرون: بل كان ذلك الحرث كرما. ذكر من قال ذلك:
[ 67 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود، في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث قال: كرم قد أنبت عنا قيده. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن شريح، قال: كان الحرث كرما. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى: إذ يحكمان في الحرث والحرث: إنما هو حرث الارض. وجائز أن يكون ذلك كان زرعا، وجائز أن يكون غرسا، وغير ضائر الجهل بأي ذلك كان. وقوله: إذ نفشت فيه غنم القوم يقول: حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا، فرعته أو أفسدته. وكنا لحكمهم شاهدين يقول: وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث، شاهدين لا يخفى علينا منه شئ، ولا يغيب عنا علمه. وقوله: ففهمناها يقول: ففهمنا القضية في ذلك سليمان دون داود. وكلا آتينا حكما وعلما يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أول هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة، وعلما: يعني وعلما بأحكام الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الاصم قالا: ثنا المحاربي، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود، في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم قال: كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله قال: وما ذاك ؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها. فذلك قوله: ففهمناها سليمان.
[ 68 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث... إلى قوله: وكنا لحكمهم شاهدين يقول: كنا لما حكما شاهدين. وذلك أن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم يبق من حرثي شيئا. فقال له داود: اذهب فإن الغنم كلها لك فقضى بذلك داود. ومر صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت. فقال: كيف ؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفي على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال داود: قد أصبت، القضاء كما قضيت. ففهمها الله سليمان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن علي بن زيد، قال: ثني خليفة، عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لاصحاب الحرث، فخرج الرعاة معهم الكلاب، فقال سليمان: كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه، فقال: لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم ؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لاهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه، أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لاهل الحرث، وعليهم رعايتها على أهل الحرث، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم.
[ 69 ]
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثني ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. رق ] حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج بنحوه، إلا أنه قال: وعليهم رعيها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن إسحاق، عن مرة في قوله: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: كان الحرث نبتا، فنفشت فيه ليلا، فاختصموا فيه إلى داود، فقضى بالغنم لاصحاب الحرث. فمروا على سليمان، فذكروا ذلك له، فقال: لا، تدفع الغنم فيصيبون منها يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم، فإذا كان كما كان ردوا عليهم. فنزلت: ففهمناها سليمان. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن شريح، في قوله: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: كان النفش ليلا، وكان الحرث كرما، قال: فجعل داود الغنم لصاحب الكرم، قال: فقال سليمان: إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه، فاجعل له أصوافها وألبانها قال: فهو قول الله: ففهمناها سليمان. حدثنا ابن أبي زياد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل، عن عامر، قال: جاء رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلا لي، فقال شريح: نهارا أم ليلا ؟ قال: إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه، وإن كان ليلا فقد ضمن. ثم قرأ: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم قال: كان النفش ليلا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن شريح بنحوه. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن شريح، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وداود
[ 70 ]
وسليمان إذ يحكمان في الحرث.... الآية، النفش بالليل، والهمل بالنهار. وذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا، فرفع ذلك إلى داود، فقضى بالغنم لاصحاب الزرع، فقال سليمان: ليس كذلك، ولكن له نسلها ورسلها وعوارضها وجزازها، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه. فقال الله: ففهمناها سليمان. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة والزهري: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: نفشت غنم في حرث قوم. قال الزهري: والنفش لا يكون إلا ليلا، فقضى داود أن يأخذ الغنم، ففهمها الله سليمان، قال: فلما أخبر بقضاء داود، قال: لا، ولكن خذوا الغنم، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: في حرث قوم. قال معمر: قال الزهري: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار. قال قتادة: فقضي أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الاعلى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم... الآيتين، قال: انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته، فجاء إلى داود، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت وكأنه رأى أنه وجه ذلك. فمروا بسليمان، فقال: ما قضى بينكم نبي الله ؟ فأخبروه، فقال: ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا: نعم. فقال: أما أنت يا صاحب الحرث، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب، واحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك فأعطه حرثه وخذ غنمك فذلك قول الله تبارك وتعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم. وقرأ حتى بلغ قوله: وكلا آتينا حكما وعلما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، في قوله: إذ نفشت فيه غنم القوم قال: رعت.
[ 71 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: النفش: الرعية تحت الليل. قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن حرام بن محيصة بن مسعود، قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الانصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله (ص)، فقال: إذ نفشت فيه غنم القوم فقضى على البراء بما أفسدته الناقة، وقال: على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم بالنهار. قال الزهري: وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ما شيته زرعا لرجل فأفسدته، ولا يكون النفوش إلا بالليل، فارتفعا إلى داود، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع، فانصرفا، فمرا بسليمان، فقال: بماذا قضى بينكما نبي ؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الزرع. فقال: إن الحكم لعلى غير هذا، انصرفا معي فأتى أباه داود، فقال: يا نبي الله، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم. قال: يا نبي الله، إن الحكم لعلى غير هذا. قال: وكيف يا نبي الله ؟ قال: تدفع الغنم إلى صاحب الزرع فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حالة التي أصابته الغنم عليها ردت الغنم على صاحب الغنم ورد الزرع إلى صاحب الزرع. فقال داود: لا يقطع الله فمك فقضى بما قضى سليمان. قال الزهري: فذلك قوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث... إلى قوله: حكما وعلما. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، وعلي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من سمع الحسن يقول: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه. وقوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير يقول تعالى ذكره: وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح.
[ 72 ]
وكان قتادة يقول في معنى قوله: يسبحن في هذا الموضع ما: حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير: أي يصلين مع داود إذا صلى. وقوله: وكنا فاعلين يقول: وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك، ومسخروا الجبال والطير في أم الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) *. يقول تعالى ذكره: وعلمنا داود صنعة لبوس لكم، واللبوس عند العرب: السلاح كله، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدل على ذلك قول الهذلي: ومعي لبوس للبيس كأنه * روق بجبهة ذي نعاج مجفل وإنما يصف بذلك رمحا. وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا: عني الدروع. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وعلمناه صنعة لبوس لكم.... الآية، قال: كانت قبل داود صفائح، قال: وكان أول من صنع هذا الحلق وسرد داود. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: وعلمناه صنعة لبوس لكم قال: كانت صفائح، فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام. واختلفت القراء في قراءة قوله: لتحصنكم فقرأ ذلك أكثر قراء الامصار: ليحصنكم بالياء، بمعنى: ليحصنكم اللبوس من بأسكم، ذكروه لتذكير اللبوس. وقرأ
[ 73 ]
ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع: لتحصنكم بالتاء، بمعنى: لتحصنكم الصنعة، فأنث لتأنيث الصنعة. وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النجود: لنحصنكم بالنون، بمعنى: لنحصنكم نحن من بأسكم. قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالياء، لانها القراءة التي عليها الحجة من قراء الامصار، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني وذلك أن الصنعة هي اللبوس، واللبوس هي الصنعة، والله هو المحصن به من البأس، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك. ومعنى قوله: ليحصنكم ليحرزكم، وهو من قوله: قد أحصن فلان جاريته. وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل. والبأس: القتال، وعلمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه ولقيتم فيه أعداءكم من القتل. وقوله: فهل أنتم شاكرون يقول: فهل أنتم أيها الناس شاكروا الله على نعمته عليكم بما علمكم من صنعة اللبوس المحصن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم، يقول: فاشكروني على ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين) *. يقول تعالى ذكره: وسخرنا لسليمان بن داود الريح عاصفة وعصوفها: شدة هبوبها تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها يقول: تجري الريح بأمر سليمان إلى الارض التي باركنا فيها يعني: إلى الشام وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم تعود به إلى منزله بالشام، فلذلك قيل: إلى الارض التي باركنا فيها. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والانس حتى يجلس إلى سريره. وكان امرءا غزاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الارض بملك إلا أتاه حتى يذله. وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة
[ 74 ]
الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استقلت أمر الرخاء، فمدته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد، يقول الله عزوجل: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب قال: ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر. قال: فذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان، إما من الجن وإما من الانس. نحن نزلناه وما بنيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولسليمان الريح عاصفة... إلى قوله: وكنا لهم حافظين قال: ورث الله سليمان داود، فورثه نبوته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره قال: عاصفة شديدة تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها قال: الشام. واختلفت القراء في قراءة قوله: ولسليمان الريح فقرأته عامة قراء الامصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه. وقرأ ذلك عبد الرحمن الاعرج: الريح رفعا باللام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح. قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الامصار لاجماع الحجة من القراء عليه. وقوله: وكنا بكل شئ عالمين يقول: وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا، ونحن عالمون بكل شئ لا يخفي علينا منه شئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) *.
[ 75 ]
يقول تعالى ذكره: وسخرنا أيضا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر، ويعملون عملا دون ذلك من البنيان والتماثيل والمحاريب. وكنا لهم حافظين يقول: وكنا لاعمالهم ولاعدادهم حافظين، لا يئودنا حفظ ذلك كله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ئ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه وقد مسه الضر والبلاء. رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له يقول تعالى ذكره: فاستجبنا لايوب دعاءه إذ نادانا، فكشفنا ما كان به من ضر وبلاء وجهد. وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به، امتحانا من الله له واختبارا. وكان سبب ذلك كما: حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه، أنه كان صابرا نعم العبد. قال وهب: إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لاحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ثم تلقاه ميكائيل، وحوله الملائكة المقربون حافين من حول العرش. وشاع ذلك في الملائكة المقربين، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات، فإذا صلت عليه ملائكة السموات، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الارض. وكان إبليس لا يحجب بشئ من السموات، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة. فلم يزل على ذلك يصعد في السموات، حتى رفع الله عيسى ابن مريم، فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث. فلما بعث الله محمدا (ص)، حجب من الثلاث الباقية، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السموات إلى يوم القيامة إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب
[ 76 ]
ثاقب، ولذلك أنكرت الجن ما كانت تعرف حين قالت: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا ديدا... إلى قوله: شهابا رصدا. قال وهب: فلم يرع إبليس إلا تجاوب ملائكتها بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه. فلما سمع إبليس صلاة الملائكة، أدركه البغي والحسد، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه، فقال: يا إلهي، نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجربه بشدة ولم تجربه ببلاء، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك ولينسينك وليعبدن غيرك قال الله تبارك وتعالى له: انطلق، فقد سلطتك على ماله، فإنه الامر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني، ليس لك سلطان على جسده ولا على عقله فانقض عدو الله، حتى وقع على الارض، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لايوب البثنية من الشام كلها، بما فيها من شرقها وغربها، وكان له بها ألف شاة برعاتها، وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، وحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك. فلما جمع إبليس الشياطين، قال لهم: ماذا عندكم من القوة والمعرفة ؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال. قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرقت كل شئ آتي عليه. فقال له إبليس: فأت الابل ورعاتها. فانطلق يؤم الابل، وذلك حين وضعت رؤسها وثبتت في مراعيها، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الارض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها براعيها، ثم انطلق يؤم أيوب، حتى وجده قائما يصلي، فقال: يا أيوب قال: لبيك قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعائها ؟ قال أيوب: إنها ماله أعارنيه، وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء. قال إبليس: وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتها، حتى أتى
[ 77 ]
على آخر شئ منها ومن رعاتها، فتركت الناس مبهوتين، وهم وقوف عليها يتعجبون، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو فعل الذي فعل ليشمت به عدوه وليفجع به صديقه. قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الارواح، فآجرني فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فأخرك من أجله فعراك الله من المصيبة وخلصك من البلاء كما يخلص الزوان من القمح الخلاص. ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه. قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها فانطلق يؤم الغنم ورعاتها، حتى إذا وسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءها. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي، فقال له القول الاول، ورد عليه أيوب الرد الاول. ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فإني لم أكلم قلب أيوب ؟ فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة إذا شئت تحولت ريحا عاصفا تنسف كل شئ تأتي عليه حتى لا أبقي شيئا. قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث فانطلق يؤمهم، وذلك حين قربوا الفدادين وأنشئوا في الحرث، والاتن وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شئ من ذلك حتى كأنه لم يكن. ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الحرث، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الاول، ورد عليه أيوب مثل رده الاول. فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه، صعد سريعا، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه فقال: يا إلهي، إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده، فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده ؟ فإنها الفتنة المضلة، والمصيبة التي لا تقوم لها
[ 78 ]
قلوب الرجال، ولا يقوى عليها صبرهم. فقال الله تعالى له: انطلق، فقد سلطتك على ولده، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ولا على عقله فانقض عدو الله جوادا، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح الجدر بعضها ببعض، ويرميهم بالخشب والجندل، حتى إذا مثل بهم كل مثلة، رفع بهم القصر، حتى إذا أقلة بهم فصاروا فيه منكسين، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة، وهو جريج، مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه متغير لا يكاد يعرف من شدة التغير والمثلة التي جاء متمثلا فيها. فلما نظر إليه أيوب هاله وحزن ودمعت عيناه، وقال له: يا أيوب، لو رأيت كيف أفلت من حيث أفلت والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا، ولو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف مثل بهم وكيف قلبوا فكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم وتقطر من أشفارهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم، ولو رأيت كيف قذفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم، وكيف دق الخشب عظامهم وخرق جلودهم وقطع عصبهم، ولو رأيت العصب عريانا، ولو رأيت العظام متهشمة في الاجواف، ولو رأيت الوجوه مشدوخة، ولو رأيت الجدر تناطح عليهم، ولو رأيت ما رأيت، قطع قلبك فلم يزل يقول هذا ونحوه، ولم يزل يرققه حتى رق أيوب فبكي، وقبض قبضة من تراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس عند ذلك، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به. ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه، فبدروا إبليس إلى الله، فوجدوه قد علم بالذي رفع إليه من توبة أيوب، فوقف إبليس خازيا ذليلا، فقال: يا إلهي، إنما هون على أيوب خطر المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده ؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك، وليكفرن بك، وليجحدنك نعمتك قال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله. فانقض عدو الله جوادا، فوجد أيوب ساجدا، فعجل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قبل الارض في موضع وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده، فترهل، ونبتت ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة لا يملكها، فحك بأظفاره حتى سقطت
[ 79 ]
كلها، ثم حك بالعظام، وحك بالحجارة الخشنة وبقطع المسوح الخشنة، فلم يزل يحكه حتى نفد لحمه وتقطع. ولما نغل جلد أيوب وتغير وانتن، أخرجه أهل القرية، فجعلوه على تل وجعلوا له عريشا. ورفضه خلق الله غير امرأته، فكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه. وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه، يقال لاحدهم يلدد، وأليفر، وصافر. قال: فانطلق إليه الثلاثة وهو في بلائه، فبكتوه فلما سمع منهم أقبل على ربه، فقال أيوب (ص): رب لاي شئ خلقتني ؟ لو كنت إذ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ويا ليتني مت في بطنها فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري ؟ وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ؟ لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل بي، فأسوة لي بالسلاطين الذين صفت من دونهم الجيوش، يضربون عنهم بالسيوف، بخلا بهم عن الموت وحرصا على بقائهم، أصبحوا في القبور جاثمين، حتى ظنوا أنهم سيخلدون. وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز، وطمروا المطامير، وجمعوا الجموع، وظنوا أنهم سيخلدون. وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون، وعاشوا فيها المئين من السنين، ثم أصبحت خرابا، مأوى للوحوش ومثنى للشياطين. قال أليفر اليماني: قد أعيانا أمرك يا أيوب، إن كلمناك فما نرى للحديث منك موضعا، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء، فذلك علينا. قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا، فإنما يحصد امرؤ ما زرع ويجزى بما عمل. أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ولا يحصى عدد نعمه، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت ويرفع به الخافض ويقوي به الضعيف، الذي تضل حكمة الحكماء عند حكمته وعلم العلماء عند علمه حتى تراهم من العي في ظلمة يموجون، أن من رجا معونة الله هو القوي، وإن من توكل عليه هو المكفي، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي. قال أيوب: لذلك سكت فعضضت على لساني ووضعت لسوء الخدمة رأسي لاني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي، وأن قوته نزعت قوة جسدي، فأنا عبده، ما قضي علي
[ 80 ]
أصابني، ولا قوة لي إلا ما حمل علي لو كانت عظامي من حديد وجسدي من نحاس وقلبي من حجارة، لم أطق هذا الامر ولكن هو ابتلاني وهو يحمله عني أتيتموني غضابا، رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم: تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا لعل الله أن يتقبله مني ويرضى عني ؟ إذا استيقظت تمنيت النوم رجاء أن أستريح، فإذا نمت كادت تجود نفسي. تقطعت أصابعي، فإن لارفع اللقمة من الطعام بيدي جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لهواتي ونخر رأسي، فما بين أذني من سداد، حتى إن إحداهما لترى من الاخرى، وإن دماغي ليسيل من فمي. تساقط شعري عني، فكأنما حرق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على خدي، ورم لساني حتى يكتفي، فما أدخل فيه طعاما إلا غصني، وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني. تقطعت أمعائي في بطني، فإني لادخل الطعام فيخرج كما دخل، ما أحسه ولا ينفعني. ذهبت قوة رجلي، فكأنهما قربتا ماء ملئتا، لا أطيق حملهما. أحمل لحافي بيدي، وأسناني فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري. ذهب المال فصرت أسأل بكفي، فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنها علي ويعيرني. هلك بني وبناتي، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني. وليس العذاب بعذاب الدنيا، إنه يزول عن أهلها، ويموتون عنه، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها، ولا يتحولون عن منازلهم، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها قال يلدد: كيف يقوم لسانك بهذا القول وكيف تفصح به ؟ أتقول إن العدل يجور، أم تقول إن القوي يضعف ؟ ابك على خطيئتك، وتضرع إلى ربك عسى أن يرحمك ويتجاوز عن ذنبك، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك، ولن يأخذ فيك هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز، وهيهات أن ينبت البردي في الفلاة من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه، ومن جحد الحق كيف يرجو أن يوفى حقه ؟ قال أيوب: إني لاعلم أن هذا هو الحق، لن يفلج العبد على ربه ولا يطيق أن يخاصمه، فأي كلام لي معه وإن كان إلي القوة ؟ هو الذي سمك السماء فأقامها وحده، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له، وهو الذي سطح الارض فدحاها وحده، ونصب فيها الجبال الراسيات، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها وإن كان في
[ 81 ]
الكلام، فأي كلام لي معه ؟ من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة، فحشاه السموات والارض وما فيهما من الخلق، فوسعه وهو في سعة واسعة، وهو الذي كلم البحار ففهمت قوله وأمرها فلم تعد أمره، وهو الذي يفقه الحيتان والطير وكل دابة، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله، ويكلم الحجارة فتفهمه ويأمرها فتطيعه. قال أليفر: عظيم ما تقول يا أيوب، إن الجلود لتقشعر من ذكر ما تقول، إن ما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته، مثل هذه الحدة وهذا القول أنزلك هذه المنزلة عظمت خطيئتك، وكثر طلابك، وغصبت أهل الاموال على أموالهم، فلبست وهم عراة، وأكلت وهم جياع، وحبست عن الضعيف بابك، وعن الجائع طعامك، وعن المحتاج معروفك، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك، وكيف لا يطلع على ذلك وهو يعلم ما غيبت الارضون وما تحت الظلمات والهواء ؟ قال أيوب (ص): إن تكلمت لم ينفعني الكلام، وإن سكت لم تعذروني قد وقع علي كيدي، وأسخطت ربي بخطيئتي، وأشمت أعدائي، وأمكنتهم من عنقي، وجعلتني للبلاء غرضا، وجعلتني للفتنة نصبا لم تنفسني مع ذلك، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء. ألم أكن للغريب دارا، وللمسكين قرارا، ولليتيم وليا، وللارملة قيما ؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه، وما رأيت أيما إلا كنت لها قيما ترضى قيامه. وأنا عبد ذليل، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان، لان المن لربي وليس لي، وإن أسأت فبيده عقوبتي وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي ؟ قال أليفر: أتحاج الله يا أيوب في أمره، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ، أو تبرئها وأنت غير برئ ؟ خلق السموات والارض بالحق، وأحصى ما فيهما من الخلق، فكيف لا يعلم ما أسررت، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيك به ؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سمواته، ثم احتجب بالنور، فأبصارهم عنه كليلة، وقوتهم عنه ضعيفة، وعزيزهم عنه ذليل، وأنت تزعم أن لو خاصمك وأدلي إلى الحكم معك، وهل تراه فتناصفه ؟ أم هل تسمعه فتحاوره ؟ قد عرفنا فيك قضاءه، إنه من أراد أن يرتفع وضعه، ومن
[ 82 ]
اتضع له رفعه. قال أيوب (ص): إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره ؟ لا يرد غضبه شئ إلا رحمته، ولا ينفع عبده إلا التضرع له قال: رب أقبل علي برحمتك، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت أو لاي شئ صرفت وجهك الكريم عني، وجعلتني لك مثل العدو وقد كنت تكرمني ؟ ليس يغيب عنك شئ تحصى قطر الامطار وورق الاشجار وذر التراب، أصبح جلدي كالثوب العفن، بأيه أمسكت سقط في يدي، فهب لي قربانا من عندك، وفرجا من بلائي، بالقدرة التي تبعث موتى العباد وتنشر بها ميت البلاد، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي، ولا تفسد عمل يديك وإن كنت غنيا عني ليس ينبغي في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجل، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإنما يعجل من يخاف الفوت ولا تذكرني خطئي وذنوبي، اذكر كيف خلقتني من طين فجعلتي مضغة، ثم خلقت المضغة عظاما، وكسوت العظام لحما وجلدا، وجعلت العصب والعروق لذلك قواما وشدة، وربيتني صغيرا، ورزقتني كبيرا، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك فإن أخطأت فبين لي ولا تهلكني غما، وأعلمني ذنبي فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذبني، وإن كنت من بين خلقك تحصي علي عملي، وأستغفرك فلا تغفر لي. إن أحسنت لم أرفع رأسي، وإن أسأت لم تبلعني ريقي ولم تقلني عثرتي، وقد ترى ضعفي تحتك وتضرعي لك، فلم خلقتني ؟ أو لم أخرجتني من بطن أمي ؟ لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي، فليست الدنيا عندي تخطر لغضبك، وليس جسدي يقوم بعذابك، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الارض وغم الموت قال صافر: قد تكلمت يا أيوب وما يطيق أحد أن يحبس فمك تزعم أنك برئ، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك ؟ وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك، هل تعلم سمك السماء كم بعده ؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده ؟ أم هل تعلم أي الارض أعرضها ؟ أم هل عندك لها من مقدار تقدرها به ؟ أم هل تعلم أي البحر أعمقه ؟ أم هل تعلم بأي شئ تحبسه ؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه، فإن الله خلقه وهو يحصيه، لو تركت كثرة الحديث وطلبت إلى ربك رجوت أن يرحمك، فبذلك تستخرج رحمته، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مصر على ذنبك إصرار الماء الجاري في صبب لا يستطاع إحباسه، فعند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوه الاشرار وتظلم عيونهم، وعند ذلك يسر بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم، وتقدموا في التضرع، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها، وهم الذين كابدوا الليل واعتزلوا الفرش وانتظروا الاسحار.
[ 83 ]
قال أيوب: أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني، وأنا معروف حقي، منتصف من خصمي، قاهر لمن هو اليوم يقهرني، يسألني عن علم غيب الله لا أطلمه، ويسألني، فلعمري ما نصح الاخ لاخيه حين نزل به البلاء كذلك، ولكنه يبكي معه. وإن كنت جادا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه، فسل طير السماء هل تخبرك ؟ وسل وحوش الارض هل ترجع إليك ؟ وسل سباع البرية هل تجيبك ؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت ؟ تعلم أن الله صنع هذا بحكمته وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه وما طعم بفيه وما شم بأنفه ؟ وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه، له الحكمة والجبروت وله العظمة واللطف وله الجلال والقدرة ؟ إن أفسد فمن ذا الذي يصلح ؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يفصح ؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه، وإن أذن لها ابتلعت ارلاض، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبهت الملوك عند ملكه، وتطيش العلماء عند علمه، وتعيا الحكماء عند حكمته، ويخسأ المبطلون عند سلطانه. هو الذي يذكر المنسي، وينسى المذكور، ويجري الظلمات والنور. هذا علمي، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي. قال يلدد: إن المنافق يجزى بما أسر من نفاقه، وتضل عنه العلانية التي خادع بها، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة، ويوحش سبيله، وتوقعه في الاحبولة سريرته، وينقطع اسمه من الارض، فلا ذكر فيها ولا عمران، لا يرثه ولد مصلحون من بعده، ولا يبقى له أصل يعرف به، ويبهت من يراه، وتقف الاشعار عند ذكره قال أيوب: إن أكن غويا فعلي غواي، وإن أكن بريا فأي منعة عندي ؟ إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني ؟ وإن سكت فمن ذا الذي يعذرني ؟ ذهب رجائي، وانقضت أحلامي، وتنكرت علي معارفي دعوت غلامي فلم يجبني، وتضرعت لامتي فلم ترحمني، وقع علي البلاء فرفضوني، أنتم كنتم أشد علي من مصيبتي. انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي أما سمعتم بما أصابني وما شغلكم عني ما رأيتم بي ؟ لو كان عبد يخاصم ربه، رجوت أن أتغلب عند الحكم، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سمواته، وألقاني ها هنا، وهنت عليه، لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي. يسمعني ولا أسمعه ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلى لي لذابت كليتاي، وصعق روحي، ولو نفسني فأتكلم بمل ء فمي ونزع الهيبة مني، علمت بأي ذنب عذبني
[ 84 ]
نودي فقيل: يا أيوب قال: لبيك قال: أنا هذا قد دنوت منك، فقم فأشدد إزارك، وقم مقام جبار، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمام في فم الاسد، والسخال في فم العنقاء، واللجام في فم التنين، ويكيل مكيالا من النور، ويزن مثقالا من الريح، ويصر صرة من الشمس، ويرد أمس لغد لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه، تذكرت أي مرام رامت بك أردت أن تخاصمني بغيك، أم أردت أن تحاجني بخطابك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك ؟ أين كنت مني يوم خلقت الارض فوضعتها على أساسها ؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي تمد بأطرافها ؟ أم تعلم ما بعد زواياها ؟ أم على أي شئ وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل الماء الارض، أم بحكمتك كانت الارض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها، ولا يحملها دعم من تحتها ؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أين أنت مني يوم سخرت البحار وأنبعت الانهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها، أم قدر تك فتحت الارحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل لك من ذراع تطيق حملها ؟ أم هل تدري كم من مثقال فيها ؟ أم أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ هل تدري أم تلده أو أب يولده ؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الارزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود ؟ أم من أي شئ لهب البروق ؟ هل رأيت عمق البحور ؟ أم هل تدري ما بعد الهواء ؟ أم هل خزنت أرواح الاموات ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البر، أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل، وأين طريق النور، وبأي لغة تتكلم الاشجار، وأين خزانة الريح، وكيف تحبسه الاغلاق، ومن جعل العقول في أجواف الرجال، ومن شق الاسماع والابصار، ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدواب بحكمته ؟ ومن قسم للاسد أرزاقها وعرف الطير معايشها وعطفها على أفراخها ؟ من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالاصوات ولا تهاب المسلطين ؟ أمن حكمتك تفرعت أفراخ الطير وأولاد الدواب لامهاتها ؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها، وآثرتها بالعيش على نفوسها ؟ أم من حكمتك يبصر العقاب الصيد، فأصبح في أماكن القتلى ؟ أين
[ 85 ]
أنت مني يوم خلقت به موت، مكانه في منقطع التراب، والوتينان يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال، رؤسهما كأنها آكام الجبال، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد، وكأن جلودهما فلق الصخور، وعظامهما كأنها عمد النحاس، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال، أأنت ملات جلودهما لحما ؟ أم أنت ملات رؤسهما دماغا ؟ أم هل لك في خلقهما من شرك ؟ أم لك بالقوة التي عملتها يد ؟ أو هل يبلغ من قوتك أن تخطم على أنوفهما، أو تضع يدك على رؤسهما، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما، أو تصدهما مقوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت التنين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب ؟ عيناه توقدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه يلتهب، وزبده كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، أسراره لا تدخله الهموم، تمر به الجيوش وهو متكئ، لا يفزعه شئ ليس فيه مفصل الحديد عنده مثل التبن، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النشاب، ولا يحس وقع الصخور على جسده، ويضحك من النيازك، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كل شئ يمر به ملك الوحوش، وإياه آثرت بالقوة على خلقي هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه أو واضع اللجام في شدقه ؟ أتظنه يوفي بعهدك أو يسبح من خوفك ؟ هل تحصي عمره أم هل تدري أجله أو تفوت رزقه ؟ أم هل تدري ماذا خرب من الارض، أم ماذا يخرب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله وتعالى قال أيوب (ص): قصرت عن هذا الامر الذي تعرض لي ليت الارض انشقت بي فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشئ يسخط ربي اجتمع علي البلاء إلهي جعلتني لك مثل العدو وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت لا يعجزك شئ ولا يخفي عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يستر عنك سرا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن علم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف. إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأما الآن فهو بصر العين. إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني، كلمة زلت فلن أعود. قد وضعت يدي على
[ 86 ]
فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي، ودست وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشئ تكرهه مني قال الله تبارك وتعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي، وبحلمي صرفت عنك غضبي، إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، وغيره من أهل الكتب الاول: أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم، وكان الله قد اصطفاه ونبأه، وابتلاه في الغنى بكثرة الولد والمال، وبسط عليه من الدنيا فوسع عليه في الرزق. وكانت له البثنية من أرض الشأم، أعلاها وأسفلها وسهلها وجبلها. وكان له فيها من أصناف المال كله، من الابل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العدة والكثرة. وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء. وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يطعم المساكين ويحمل الارامل ويكفل الايتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل. وكان شاكرا لانعم الله عليه مؤديا لحق الله في الغنى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا. وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدقوه وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه، منهم رجل من أهل اليمن يقال له: أليفر، ورجلان من أهل بلاده يقال لاحدهما: صوفر، وللآخر: يلدد، وكانوا من بلاده كهولا. وكان لابليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كل سنة موقعا يسأل فيه فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه، فقال الله له أو قيل له عن الله: هل قدرت من أيوب عبدي على شئ ؟ قال: أي رب وكيف أقدر منه على شئ ؟ وإنما ابتليته بالرخاء والنعمة والسعة والعافية، وأعطيته الاهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به ؟ لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك ولترك عبادتك، ولخرج من طاعتك إلى غيرها أو كما قال عدو الله. فقال: قد سلطتك على أهله وماله وكان الله هو أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا
[ 87 ]
رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء، وليجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به، وليرجوا من عاقبة الصبر في عرض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب. فانحط عدو الله سريعا، فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين من جنوده، فقال: إني قد سلطت على أهل أيوب وماله، فماذا عليكم ؟ فقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار، فلا أمر بشئ من ماله إلا أهلكته قال: أنت وذاك. فخرج حتى أتى إبله، فأحرقها ورعاتها جميعا. ثم جاء عدو الله إلى أيوب في صورة قيمه عليها وهو في مصلى فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري، فجئتك أخبرك بذلك. فعرفه أيوب، فقال: الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزؤان من الحب النقي. ثم انصرف عنه، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء. حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده، وهم في قصر لهم معهم محظياتهم وخدامهم، فتمثل ريحا عاصفا، فاحتمل القصر من نواحيه فألقاه على أهله وولده، فشدخهم تحته. ثم أتاه في صورة قهرمانه عليهم، قد شدخ وجهه، فقال: يا أيوب قد أتت ريحا عاصف، فاحتملت القصر من نواحيه ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري، فجئتك أخبرك ذلك. فلم يجزع على شئ أصابه جزعه على أهله وولده، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه، ثم قال: ليت أمي لم تلدني ولم أك شيئا وسر بها عدو الله منه فأصعد إلى السماء جذلا. وراجع أيوب التوبة مما قال، فحمد الله، فسبقت توبته عدو الله إلى الله فلما جاء وذكر ما صنع، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته. قال: أي رب فسلطني على جسده قال: قد سلطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره. فأقبل إليه عدو الله وهو ساجد، فنفخ في جسده نفخا أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم فحك بأظفاره حتى ذهبت، ثم بالفخار والحجارة حتى تساقط لحمه، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل، ولم يخلص إلى شئ من حشو البطن، لانه لا بقاء للنفس إلا بها، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بن دينار، عن الحسن أنه كان يقول: مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية قال وهب بن منبه: ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، ولا يقدر عدو الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها وسئمها
[ 88 ]
الناس، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه قال وهب بن منبه: فحدثت أنها التمست له يوما من الايام تطعمه، فما وجدت شيئا حتى جزت قرنا من رأسها فباعته برغيف، فأتته به فعشته إياه، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين، حتى إن كان المار ليمر فيقول: لو كان لهذا عند الله خير لاراحه مما هو فيه حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وكان وهب بن منبه يقول: لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال ليس لها، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلي ؟ قالت نعم. قال: هل تعرفينني ؟ قالت لا. قال: فأنا إله الارض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه عليك كل ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه. قال: وقد سمعت أنه إنما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم. وأراد عدو الله أن يأتيه من قبلها. فرجعت إلى أيوب، فأخبرته بما قال لها وما أراها قال: أو قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة فلما طال عليه البلاء، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدقوه، معهم فتى حديث السن قد كان آمن به وصدقه، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء، فأعظموا ذلك وفظعوا به، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده، وذلك حين أراد الله أن يفرج عنه ما به فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه، قال: أي رب لاي شئ خلقتني ولو كنت إذ قضيت علي البلاء تركتني فلم تخلقني ؟ ليتني كنت دما ألقتني أمي. ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، إلى: وكابدوا الليل، واعتزلوا الفرش، وانتظروا الاسحار ثم زاد فيه: أولئك الآمنون الذي لا يخافون، ولا يهتمون ولا يحزنون، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم ؟ قال فتى حضرهم وسمع قولهم ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه، وإنما قيضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم، فأراد الله أن يصغر به إليهم أنفسهم وأن يسفه بصغره لهم أحلامهم فلما تكلم تمادى في الكلام، فلم يزدد إلا حكما. وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وعظوا أو ذكروا فقال: إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول، وكنتم أحق بالكلام وأولى به مني لحق أسنانكم، ولانكم جربتم قبلي ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم وعرفتم ما لم أعرف، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ومن الرأي
[ 89 ]
أصوب من الذي رأيتم ومن الامر أجمل من الذي أتيتم ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم، وقد كان لايوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، هل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ؟ ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الارض يومكم هذا، اختاره الله لوحيه واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوته، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه زع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم ليس بلاؤه لاولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوة ولا في الاثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكن يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول في أنفسكم قال: ثم أقبل على أيوب (ص) فقال، وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت: ما يقطع لسانك، ويكسب قلبك، وينسيك حججك ؟ ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الالباء العالمون بالله وبآياته ؟ ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت أسلنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالاعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لانزاه برآء، ومع المقصرين والمفرطين، وإنهم لاكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالاعمال فهم مروعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون متى ما رأيتهم يا أيوب. قال أيوب: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا الشبيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزله عند الحكماء وهم يرون عليه من الله نور الكرامة، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوفيتم باحسانكم، فهنالك
[ 90 ]
بغيتم وتعززتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي معروفا حقي منتصفا من خصمي قاهرا لمن هو اليوم يقهرني مهيبا مكاني والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي ورفع حذري وملني أهلي وعقني أرحامي وتنكرت لي معارفي ورغب عني صديقي وقطعني أصحابي وكفرني أهل بيتي وجحدت حقوقي ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، وإن قضاءه هو الذي أذلني وأقمأني وأخسأني، وإن سلطانه هو الذي أسقمني وأنحل جسمي. ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بمل ء فمي، ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببرأتي وأخاصم عن نفسي لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده، أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه، ثم قيل له: يا أيوب، إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك، ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت، وتكلم ببرأتك وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل، إلى آخره، وزاد فيه: ورحمتي سبقت غضبي، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم ومالك ومثله معه وزعموا: ومثله معه لتكون لمن خلفك آية، ولتكون عبرة لاهل البلاء وعزاء للصابرين فركض برجله، فانفجرت له عين، فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء. ثم خرج فجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان ههنا ؟ قال: لا ثم تبسم، فعرفته بمضحكه، فاعتنقته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: فحدثت عبد الله بن عباس حديثه واعتناقها إياه، فقال عبد الله: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه، فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت: نعم، ومالي لا أعرفه ؟ فتبسم، ثم قال: ها أنا هو، وقد فرج الله عني ما كنت فيه. فعند ذلك
[ 91 ]
اعتنقته. قال وهب: فأوحى الله إليه في قسمه ليضربنها في الذي كلمته، أن وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث أي قد برت يمينك. يقول الله تعالى: إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب يقول الله: ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب. حد ثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما على وجه الارض خلق أكرم على الله من أيوب. فيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا فعند ذلك دعا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب. حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن وهب بن منبه، قال: لم يكن بأيوب أكلة، إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا مخلد بن حسين، عن هشام، عن الحسن، وحجاج عن مبارك، عن الحسن: زاد أحدهما على الآخر قال: إن أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه، وله من النساء والبقر والغنم والابل. وإن عدو الله إبليس قيل له: هل تقدر أن تفتن أيوب ؟ قال: رب إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد، ولا يستطيع أن لا يشكرك، ولكن سلطني على ماله وولده فسترى كيف يطيعني ويعصيك قال: فسلطه على ماله وولده. قال: فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم، فيقول: يا أيوب تصلي لربك ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران، وكنت ناحية فجئت لاخبرك. قال: فيقول أيوب: اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت، مهما تبقي نفسي أحمدك على حسن بلائك فلا يقدر منه على شئ مما يريد ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب
[ 92 ]
فيقول له ذلك، ويرد عليه أيوب مثل ذلك. قال: وكذلك فعل بالابل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده، فقال: يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت حتى هلكوا فيقول أيوب مثل ذلك. قال: رب هذا حين أحسنت إلي الاحسان كله، قد كنت قبل اليوم يشغلني حب المال بالنهار ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم، فالآن أفرغ سمعي لك وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد والتقديس والتهليل فينصرف عدو الله من عنده لم يصب منه شيئا مما يريد. قال: ثم إن الله تبارك وتعالى قال: كيف رأيت أيوب ؟ قال إبليس: أيوب قد علم أنك سترد عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده، فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك قال: فسلط على جسده، فأتاه فنفخ فيه نفخة قرح من لدن قرنه إلى قدمه. قال: فأصابه البلاء بعد البلاء، حتى حمل فوضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل. فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير زوجته، صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله، والتحميد والثناء على الله والصبر على ما ابتلاه الله. قال الحسن: فصرخ إبليس عدو الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الارض جزعا من صبر أيوب فاجتمعوا إليه وقالوا له: جمعتنا، ما خبرك ؟ ما أعياك ؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل، لا يقربه إلا امرأته، فقد افتضحت بربي، فاستعنت بكم، فأعينوني عليه قال: فقالوا له: أين مكرك ؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى ؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب، فأشيروا علي قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، من أين أتيته ؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته، فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقربه غيرها. قال: أصبتم. فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدق، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه ويتردد الدواب في جسده. فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوقع في صدرها فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعم والمال والدواب، وذكرها جمال أيوب وشبابه، وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا. قال الحسن: فصرخت فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت، أتاها بسخلة، فقال: ليذبح هذا إلي أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ يا أيوب، يا أيوب، حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك ؟ أين الماشية ؟ أين المال ؟ أين الولد ؟
[ 93 ]
أين الصديق ؟ أين لونك الحسن ؟ قد تغير، وصار مثل الرماد ؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح قال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقا وأجبته، ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب ؟ من أعطانيه ؟ قالت: الله. قال: فكم متعنا به ؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمذكم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به ؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟ والله لئن شفاني الله لاجلدنك مئة جلدة هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله، طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام وأن أذوق ما تأتيني به بعد، إذ قلت لي هذا فاغربي عني فلا أراك فطردها، فذهبت، فقال الشيطان: هذا قد وطن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه فباء بالغلبة ورفضه. ونظر أيوب إلى امرأته وقد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق قال الحسن: ومر به رجلان وهو على تلك الحال، ولا والله ما على ظهر الارض يومئذ أكرم على الله من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة، ما بلغ به هذا فلم يسمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان لايوب أخوان، فأتياه، فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى، قال: فما جزع أيوب من شئ أصابه جزعه من كلمة الرجل. فقال أيوب: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني فصدق وهما يسمعان. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق وهما يسمعان. قال: ثم خر ساجدا. فحدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: فحدثني مخلد بن الحسين، عن
[ 94 ]
هشام، عن الحسن، قال: فقال: رب إني مسني الضر ثم رد ذلك إلى ربه فقال: وأنت أرحم الراحمين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن ومخلد، عن هشام، عن الحسن، دخل حديث أحدهما في الآخر، قالا: فقيل له: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين، فاغتسل منها، فلم يبق عليه من دائه شئ ظاهر إلا سقط، فأذهب الله كل ألم وكل سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان. ثم ضرب برجله، فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا، وكسي حلة. قال: فجعل يتلفت ولا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له، حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل به تطاير على صدره جرادا من ذهب. قال: فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه: يا أيوب ألم أغنك ؟ قال: بلى، ولكنها بركتك، فمن يشبع منها ؟ قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله ؟ أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع ؟ لارجعن إليه فرجعت، فلا كناسة ترى، ولا من تلك الحال التي كانت، وإذا الامور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيت كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيوب قال: وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأل عنه، فأرسل إليها أيوب فدعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلي الذي كان منبوذا على الكناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل. قال لها أيوب: ما كان منك ؟ فبكت وقالت: بعلي، فهل رأيته وهي تبكي إنه قد كان ها هنا ؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت: وهل يخفي على أحد رآه ؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا. قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان، فدعوت الله فرد على ما ترين. قال الحسن: ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه.
[ 95 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر... إلى آخر الآيتين، فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيرا، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان. فلما انتهى الاجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضر أذن له في الدعاء ويسره له، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له فلما دعا استجاب له، وأبدله بكل شئ ذهب له ضعفين، رد إليه أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال: إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب. واختلف أهل التأويل في الاهل الذي ذكر الله في قوله: وآتيناه أهله ومثلهم معهم أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة ؟ فقال بعضهم: إنما آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة. حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لايوب: وآتيناه أهله ومثلهم معهم فقال: قيل له: إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتى مثلهم في الدنيا. قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب. وقال آخرون: بل ردهم إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك، عن ابن مسعود: وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال: أهله بأعيانهم. حدثنى محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما دعا أيوب استجاب الله له، وأبدله بكل شئ ذهب له ضعفين رد إليه أهله ومثلهم معهم.
[ 96 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ووهبنا له أهله ومثلهم معهم قال: أحياهم بأعيانهم، ورد إليه مثلهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال: قيل له: إن شئت أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطي مثلهم في الدنيا. فاختار أن يكونوا في الآخرة ومثلهم في الدنيا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال الحسن وقتادة: أحيا الله أهله بأعيانهم، وزاده إليهم مثلهم. وقال آخرون: بل آتاه المثل من نسل ماله الذي رده عليه وأهله، فأما الاهل والمال فإنه ردهما عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل، عن الحسن: ومثلهم معهم قال: من نسلهم. ] وقوله: رحمة نصبت بمعنى: فعلنا بهم ذلك رحمة منا له. وقوله: وذكرى للعابدين يقول: وتذكره للعابدين ربهم فعلنا ذلك به ليعتبروا به ويعلموا أن الله قد يبتلي أولياءه ومن أحب من عباده في الدنيا بضروب من البلاء في نفسه وأهله وماله، من غير هوان به عليه، ولكن اختبارا منه له ليبلغ بصبره عليه واحتسابه إياه وحسن يقينه منزلته التي أعدها له تبارك وتعالى من الكرامة عنده. وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله: رحمة من عندنا وذكرى للعابدين قال: أيما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل: قد أصاب من هو خير منا نبيا من الانبياء. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 97 ]
* (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ئ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) *. يعني تعالى ذكره بإسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد، وبإدريس: أخنوخ، وبذي الكفل: رجلا تكفل من بعض الناس، إما من نبي وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الاعمال، فقام به من بعده، فأثني الله عليه حسن وفائه بما تكفل به وجعله من المعدودين في عباده، مع من حمد صبره على طاعة الله. وبالذي قلنا في أمره جاءت الاخبار عن سلف العلماء. ذكر الرواية بذلك عنهم: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحرث: أن نبيا من الانبياء، قال: من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ؟ فقام شاب فقال: أنا. فقال: اجلس: ثم عاد فقال: من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس ثم عاد فقال: من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب. فمات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس، فكان لا يغضب. فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضربا شديدا، فقال: من هذا ؟ فقال: رجل له حاجة. فأرسل معه رجلا، فقال: لا أرضى بهذا الرجل. فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا. فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه، حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب، فسمي ذا الكفل. حدثنا ابن المثني، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا داود، عن مجاهد، قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت على الناس رجلا يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل. قال: فجمع الناس، فقال: من يتقبل لي بثلاث أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب ؟ قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال: نعم. قال: فردهم ذلك اليوم،
[ 98 ]
وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل، فقال: أنا. فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم، فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب، فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا. فجعل يطول عليه، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، وقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك فانطلق وراح، فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فجعل يبتغيه. فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه. فلما رجع إلى القائلة، فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا ؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ فقال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينظر فلا يراه، فشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم فلما كان تلك الساعة جاء، فقال له الرجل وراءك، فقال: إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري، قال: والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب، قال: واستيقظ الرجل فقال: يا فلان، ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلى والله فلم تؤت، فانظر من أين أتيت قال: فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا هو معه في البيت، فعرفه فقال: أعدو الله ؟ قال: نعم أعييتني في كل شئ، ففعلت ما ترى لاغضبك. فسماه ذا الكفل، لانه تكفل بأمر فوفى به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: وذا الكفل قال رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمه لهم ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: ويقضي بينهم بالحق.
[ 99 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: كان في بني إسرائيل ملك صالح، فكبر، فجمع قومه فقال: أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ولا يغضب ؟ قال: فلم يقم أحد إلا فتى شاب، فازدراه لحداثة سنه، فقال: أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى قال: فازدراه. فلما كانت الثالثة قال مثل ذلك، فلم يقم إلا ذلك الفتى، فقال: تعال فخلى بينه وبين ملكه. فقالم الفتى ليلة فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل فلما انتصف النهار دخل ليقيل، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم، فجذب ثوبه، فقال: أتنام والخصوم ببابك ؟ قال: إذا كان العشية فأتني قال فانتظره بالعشي فلم يأته فلما انتصف النهار دخل ليقيل، جذب ثوبه وقال: أتنام والخصوم على بابك ؟ قال: قلت لك: ائتني العشي فلم تأتني، ائتني، بالعشي فلما كان بالعشي انتظره فلم يأت فلما دخل ليقيل جذب ثوبه، فقال: أتنام والخصوم ببابك ؟ قال: أخبرني من أنت، لو كنت من الانس سمعت ما قلت قال: هو الشيطان، جئت لافتنك فعصمك الله مني. فقضي بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلا، وهو ذو الكفل، سمي ذا الكفل لانه تكفل بالملك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي موسى الاشعري، قال وهو يخطب الناس: إن ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، تكفل بعمل رجل صالح عند وته، كان يصلي لله كل يوم مئة صلاة، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو، قال: أما ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل ملك فلما حضره الموت، قال: من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل ولا يغضب ويصلي كل يوم مئة صلاة ؟ فقال ذو الكفل: أنا. فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس، فإذا فرغ صلى مئة صلاة. فكاده الشيطان، فأمهله حتى إذا قضي بين الناس وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه، فخرج إليه، فقال:
[ 100 ]
ظلمت وصنع بي فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فأتني بصاحبك وانتظره، فأبطأ عليه الآخر، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه، أتى الباب أيضا كي يغضبه، فجعل يدقه، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء، فخرج إليه فقال: ما لك ؟ فقال: لم يتبعني، وضربت وفعل فأخذه ذو الكفل، وأنكر أمره، فقال: أخبرني من أنت ؟ وأخذه أخذا شديدا، قال: فأخبره من هو. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وذا الكفل قال: قال أبو موسى الاشعري: لم يكن ذو الكفل نبيا، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مئة صلاة، فوفى، فكفل بصلاته، فلذلك سمي ذا الكفل. ونصب إسماعيل وإدريس وذا الكفل، عطفا على أيوب، ثم استؤنف بقوله: كل فقال: كل من الصابرين ومعنى الكلام: كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله. وقوله: وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين يقول تعالى ذكره: وأدخلنا إسماعيل وإدريس وذا الكفل والهاء والميم عائدتان عليهم في رحمتنا إنهم من الصالحين يقول: إنهم ممن صلح، فأطاع الله وعمل بما أمره. القول في تأويل قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) *. يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون. والنون: الحوت. وإنما عنى بذي النون: يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغني عن ذكره في هذا الموضع، وقوله: إذ ذهب مغاضبا يقول: حين ذهب مغاضبا. واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه، فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وذا النون إذ ذهب مغاضبا يقول: غضب على قومه.
[ 101 ]
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إذ ذهب مغاضبا أما غضبه فكان على قومه. وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه. ذكر من قال ذلك: وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعثه الله يعني يونس إلى أهل قريته، فردوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه. فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذين وعده الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم. فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله، فاستقالوه، فأقالهم، وتنظر يونس الخبر عن القرية وأهلها، حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية ؟ فقال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الارض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها. وعجوا إلى الله وتابوا إليه. فقبل منهم، وأخر عنهم العذاب. قال: فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم ومضى على وجهه مغاضبا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضبا لربه، واستزله الشيطان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، في قوله: إذ ذهب مغاضبا قال: مغاضبا لربه. حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير فذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة، وزاد فيه: قال:
[ 102 ]
فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئا، قال: جربوا علي كذبا فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن وهب بن منبه اليماني، قال: سمعته يقول: إن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق. فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل، تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فقذفها بين يديه، وخرج هاربا منها. يقول الله لنبيه (ص): فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل واصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت: أي لا تلق أمري كما ألقاه. وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: فظن أن لن نقدر عليه على ذلك. على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الانبياء ربه واستعظاما له. وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذين فارقهم قتل من جربوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة يونس، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. وقال آخرون: بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم، فقيل له: الامر أسرع من ذلك ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا ليلبسها، فقيل له نحو القول الاول. وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا فذهب مغاضبا. وممن ذكر هذا القول عنه: الحسن البصري.
[ 103 ]
حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا الحسن بن موسى، عن أبي هلال، عن شهر بن حوشب، عنه. قال أبو جعفر: وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شئ إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه لان ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته ويحذرهم بأسه وعقوبته على تركهم الايمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه. ولولا أنه قد كان (ص) أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه (ص): ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ويقول: فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. ] وقوله: فظن أن لن نقدر عليه اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جل ثناؤه: ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: فظن أن لن نقدر عليه يقول: ظن أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فظن أن لن نقدر عليه يقول: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية: فظن أن لن نقدر عليه قال: فظن أن لن نعاقبه بذنبه.
[ 104 ]
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثني شعبة، عن مجاهد، ولم يذكر فيه الحكم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فظن أن لن نقدر عليه قال: يقول: ظن أن لن نعاقبه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والكلبي: فظن أن لن نقدر عليه قالا: ظن أن لن نقضي عليه العقوبة. حدثت عن الحسين. قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فظن أن لن نقدر يقول: ظن أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه وفراقه إياهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن ابن عباس، في قوله: فظن أن لن نقدر عليه قال: البلاء الذي أصابه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، قال: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضبا لربه، واستزله الشيطان، حتى ظن أن لن نقدر عليه. قال: وكان له سلف وعبادة وتسبيح. فأبى الله أن يدعه للشيطان، فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم، فأمسك الله نفسه، فلم يقتله هناك. فتاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه. قال: فقال: سبحانك إني كنت من الظالمين قال: فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته بما كان سلف من العبادة والتسبيح، فجعله من الصالحين. قال عوف: وبلغني أنه قال في دعائه: وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن: فظن أن لن نقدر عليه وكان له سلف من عبادة وتسبيح، فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن إياس بن معاوية المدني، أنه كان إذا ذكر عنده يونس، وقوله: فظن أن لن نقدر عليه يقول إياس: فلم فر ؟
[ 105 ]
وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظن أن لن نقدر عليه ؟ ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فظن أن لن نقدر عليه قال: هذا استفهام. وفي قوله: فما تغني النذر قال: استفهام أيضا. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عنى به: فظن يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لانه لا يجوز أن ينسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوته، ووصفه بأن ظن أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وصف له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لاحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لادلالة فيه على أن ذلك كذلك. والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلا على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: فظن أن لن نقدر عليه دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان، صح الثالث وهو ما قلنا. وقوله: فنادى في الظلمات اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون: فنادى في الظلمات قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وكذلك قال أيضا ابن جريج. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نادى في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا
[ 106 ]
محمد بن رفاعة، قال: سمعت محمد ابن كعب يقول في هذه الآية: فنادى في الظلمات قال: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فنادى في الظلمات قال: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فنادى في الظلمات قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقال آخرون: إنما عنى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر. قالوا: فذلك هو الظلمات. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد: فنادى في الظلمات قال: أوحى الله إلى الحوت أن لا تضر له لحما ولا عظما. ثم ابتلع الحوت حوت آخر، قال: فنادى في الظلمات قال: ظلمة الحوت، ثم حوت، ثم ظلمة البحر. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات: إن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالاخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر. ولا دليل يدل على أي ذلك من أي، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل. وقوله: لا إله إلا أنت سبحانك يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته إني كنت من الظالمين في معصيتي إياك. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين معترفا بذنبه، تائبا من خطيئته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: أبو معشر: قال محمد بن قيس: قوله: لا إله إلا أنت سبحانك ما صنعت من شئ فلم أعبد غيرك، إني كنت من الظالمين حين عصيتك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عوف
[ 107 ]
الاعرابي، قال: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات. ثم حرك رجله، فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة زوج النبي (ص)، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص): لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر عظما فأخذه، ثم هوى به إلى مسكنه من البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسا، فقال في نفسه: ما هذا ؟ قال: فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ؟ قال: ذاك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تبارك وتعالى: وهو سقيم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: فاستجبنا ليونس دعاءه إيانا، إذ دعانا في بطن الحوت، ونجيناه من الغم الذي كان فيه بحبسناه في بطن الحوت وغمه بخطيئته وذنبه وكذلك ننجي المؤمنين يقول جل ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الاثر. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا يحيى بن صالح قال: ثنا أبويحيى بن عبد الرحمن، قال: ثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى. قال: فقلت: يا رسول الله، هي
[ 108 ]
ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: هي ليونس بن متى خاصة، وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ؟ فهو شرط الله لمن دعاه بها. واختلفت القراء في قراءة قوله: ننجي المؤمنين فقرأت ذلك قراء الامصار، سوى عاصم، بنونين الثانية منهما ساكنة، من أنجيناه، فنحن ننجيه. وإنما قرءوا ذلك كذلك وكتابته في المصاحف بنون واحدة، لانه لو قرئ بنون واحدة وتشديد الجيم، بمعنى ما لم يسم فاعله، كان المؤمنون رفعا، وهم في المصاحف منصوبون، ولو قرئ بنون واحدة وتخفيف الجيم، كان الفعل للمؤمنين وكانوا رفعا، ووجب مع ذلك أن يكون قوله نجى مكتوبا بالالف، لانه من ذوات الواو، وهو في المصاحف بالياء. فإن قال قائل: فكيف كتب ذلك بنون واحد، وقد علمت أن حكم ذلك إذا قرئ: ننجي أن يكتب بنونين ؟ قيل: لان النون الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت كما فعلو ذلك ب إلا، فحذفوا النون من إن لخفائها، إذ كانت مندغمة في اللام من لا. وقرأ ذلك عاصم: نجي لمؤمنين بنون واحدة، وتثقيل الجيم، وتسكين الياء. فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلى قول العرب: ضرب الضرب زيدا، فكنى عن المصدر الذي هو النجاء، وجعل الخبر أعني خبر ما لم يسم فاعله المؤمنين، كأنه أراد: وكذلك نجي النجاء المؤمنين، مكنى عن النجاء فهو وجه، وإن كان غيره أصوب، وإلا فإن الذي قرأ من ذلك على ما قرأه لحن، لان المؤمنين اسم على القراءة التي قرأها ما لم يسم فاعله، والعرب ترفع ما كان من الاسماء كذلك. وإنما حمل عاصما على هذه القراءة أنه وجد المصاحف بنون واحدة وكان في قراءته إياه على ما عليه قراءة القراء إلحاق نون أخرى ليست في المصحف، فظن أن ذلك زيادة ما ليس في المصحف، ولم يعرف لحذفها وجها يصرفه إليه. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قراء الامصار، من قراءته بنونين وتخفيف الجيم، لاجماع الحجة من القراء عليها وتخطئتها خلافه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 109 ]
* (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ئ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر يا محمد زكريا حين نادى ربه رب لا تذرني وحيدا فردا لا ولد لي ولا عقب وأنت خير الوارثين يقول: فارزقني وارثا من آل يعقوب يرثني. ثم رد الامر إلى الله فقال: وأنت خير الوارثين يقول الله جل ثناؤه: فاستجبنا لزكريا دعاءه، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه، وأصلحنا له زوجه. واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي عناه الله جل ثناؤه بقوله: وأصلحنا له زوجه فقال بعضهم: كانت عقيما فأصلحها بأن جعلها ولودا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن حميد بن صخر، عن عمار، عن سعيد، في قوله: وأصلحنا له زوجه قال: كانت لا تلد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: وأصلحنا له زوجه قال: وهبنا له ولدها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأصلحنا له زوجه كانت عاقرا، فجعلها الله ولودا، ووهب له منها يحيى. وقال آخرون: كانت سيئة الخلق، فأصلحها الله له بأن رزقها حسن الخلق. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أصلح لزكريا زوجه، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولودا حسنة الخلق لان كل ذلك من معاني إصلاحه إياها. ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك بعضا دون بعض في كتابه ولا على لسان رسوله، ولا وضع على خصوص ذلك دلالة، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض.
[ 110 ]
وقوله: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات يقول الله: إن الذين سميناهم يعني زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا، والعمل بما يقربهم إلينا.) وقوله: ويدعوننا رغبا ورهبا يقول تعالى ذكره: وكانوا يعبدوننا رغبا ورهبا. وعنى بالدعاء في هذا الموضع: العبادة، كما قال: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ويعني بقوله: رغبا أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله. ورهبا يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا قال: رغبا في رحمة الله، ورهبا من عذاب الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ويدعوننا رغبا ورهبا قال: خوفا وطمعا. قال: وليس ينبغي لاحدهما أن يفارق الآخر. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: رغبا ورهبا بفتح الغين والهاء من الرغب والرهب. واختلف عن الاعمش في ذلك، فرويت عنه الموافقة في ذلك للقراء، وروي عنه أنه قرأها: رغبا ورهبا بضم الراء في الحرفين وتسكين الغين والهاء. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الامصار، وذلك الفتح في الحرفين كليهما. وقوله: وكانوا لنا خاشعين يقول: وكانوا لنا متواضعين متذللين، ولا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر التي أحصنت فرجها، يعني مريم بنت
[ 111 ]
عمران. ويعني بقوله: أحصنت: حفظت، ومنعت فرجها مما حرم الله عليها إباحته فيه. واختلف في الفرج الذي عنى الله جل ثناؤه أنها أحصنته، فقال بعضهم: عنى بذلك فرج نفسها أنها حفظته من الفاحشة. وقال آخرون: عنى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرئيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها وقبل أن تثبته معرفة. قالوا: والذي يدل على ذلك قوله: فنفخنا فيها ويعقب ذلك قوله: والتي أحصنت فرجها قالوا: وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام: والتي أحصنت جيبها فنفخنا فيها من روحنا. قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال: أحصنت فرجها من الفاحشة لان ذلك هو الاغلب من معنييه عليه والاظهر في ظاهر الكلام. فنفخنا فيها من روحنا يقول: فنفخنا في جيب درعها من روحنا. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله: فنفخنا فيها في غير هذا الموضع والاولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: وجعلناها وابنها آية للعالمين يقول: وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما، فيعلمون عظيم سلطاننا وقدرتنا على ما نشاء وقيل آية ولم يقل آيتين وقد ذكر آيتين لان معنى الكلام: جعلناهما علما لنا وحجة، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله وعلى عظيم قدرته يقوم مقام الآخر، إذ كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) *. يقول تعالى ذكره: إن هذه ملتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون دون الآلهة والاوثان وسائر ما تعبدون من دوني. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 112 ]
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: أمتكم أمة واحدة يقول: دينكم دين واحد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد، في قوله: إن هذه أمتكم أمة واحدة قال: دينكم دين واحد. ونصبت الامة الثانية على القطع، وبا لنصب قرأه جماعة قراء الامصار، وهو الصواب عندنا لان الامة الثانية نكرة والاولى معرفة وإذا كان ذلك كذلك، وكان الخبر قبل مجئ النكرة مستغنيا عنها كان وجه الكلام النصب، هذا مع إجماع الحجة من القراء عليه، وقد ذكر عن عبد الله بن أبي إسحاق رفع ذلك أنه قرأه: أمة واحدة بنية تكرير الكلام، كأنه أراد: إن هذه أمتكم هذه أمة واحدة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) *. يقول تعالى ذكره: وتفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا فهودت اليهود، وتنصرت النصارى وعبدت الاوثان. ثم أخبر جل ثناؤه عما هم إليه صائرون، وأن مرجع جميع أهل الاديان إليه متوعدا بذلك أهل الزيغ منهم والضلال، ومعلمهم أنه لهم بالمرصاد، وأنه مجاز جميعهم جزاء المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وتقطعوا أمرهم بينهم قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وتقطعوا أمرهم بينهم قال: تقطعوا: اختلفوا في الدين. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون) *. يقول تعالى ذكره: فمن عمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بواحدانية الله مصدق بوعده ووعيده
[ 113 ]
متبرئ من الانداد والآلهة فلا كفران لسعيه يقول: فإن الله يشكر عمله الذي عمل له مطيعا له، وهو به مؤمن، فيثيبه في الآخرة ثوابه الذي وعد أهل طاعته أن يثيبهموه، ولا يكفر ذلك له فيجحده ويحرمه ثوابه على عمله الصالح. وإنا له كاتبون يقول: ونحن نكتب أعماله الصالحة كلها فلا نترك منها شيئا، لنجزيه على صغير ذلك وكبيره وقليله وكثيره. قال أبو جعفر: والكفران مصدر من قول القائل: كفرت فلانا نعمته فأنا أكفره كفرا وكفرانا ومنه قوله الشاعر: من الناس ناس ما تنام خدودهم * وخدي ولا كفران لله نائم القول في تأويل قوله تعالى: * (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: وحرام فقرأته عامة قراء أهل الكوفة: وحرم بكسر الحاء. وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة: وحرام بفتح الحاء والالف. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متفقتا المعنى غير مختلفتيه وذلك أن الحرم هو الحرام والحرام هو الحرم، كما الحل هو الحلال والحلال هو الحل، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وكان ابن عباس يقرؤه: وحرم بتأويل: وعزم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا بن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقرؤها: وحرم على قرية قال: فقلت لسعيد: أي شئ حرم ؟ قال: عزم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي المعلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقرؤها: وحرم على قرية قلت لابي المعلى: ما الحرم ؟ قال: عزم عليها.
[ 114 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ هذه الآية: وحرم على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون فلا يرجع منهم راجع، ولا يتوب منهم تائب. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود عن عكرمة، قال: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون قال: لم يكن ليرجع منهم راجع، حرام عليهم ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، قال: ثنا جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر عن الرجعة، فقرأ هذه الآية: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون. فكأن أبا جعفر وجه تأويل ذلك إلى أنه: وحرام على أهل قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا. والقول الذي قاله عكرمة في ذلك أولى عند بالصواب وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن تفريق الناس دينهم الذي بعث به إليهم الرسل، ثم أخبر عن صنيعه بمن عمل بما دعته إليه رسله من الايمان به والعمل بطاعته، ثم أتبع ذلك قوله: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون فلان يكون ذلك خبرا عن صنيعه بمن أبى إجابة رسله وعمل بمعصيته وكفر به، أحرى، ليكون بيانا عن حال القرية الاخرى التي لم تعمل الصالحات وكفرت به. فإذا كان لك كذلك، فتأويل الكلام: حرام على أهل قرية أهلكناهم بطبعنا على قلوبهم وختمنا على أسماعهم وأبصارهم، إذ صدوا عن سبيلنا وكفروا بآياتنا، أن يتوبوا ويراجعوا الايمان بنا واتباع أمرنا والعمل بطاعتنا. وإذ كان ذلك تأويل قوله الله: وحرم وعزم، على ما قال سعيد، لم تكن لا في قوله: أنهم لا يرجعون صلة، بل تكون بمعنى النفي، ويكون معنى الكلام: وعزم منا على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا عن كفرهم. وكذلك إذا كان معنى قوله: وحرم نوجبه. وقد زعم بعضهم أنها في هذا الموضع صلة، فإن معنى الكلام: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا، وأهل التأويل الذين ذكرناهم كانوا أعلم بمعنى ذلك منه القول في تأويل قوله تعالى: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) *.
[ 115 ]
يقول تعالى ذكره: حتى إذا فتح عن يأجوج ومأجوج، وهما أمتان من الامم ردمهما كما: حدثني عصام بن داود بن الجراح، قال: ثني أبي، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: ثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله (ص): أول الآيات: الدجال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا. والدخان، والدابة، ثم يأجوج ومأجوج قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، وما يأجوج ومأجوج ؟ قال: يأجوج ومأجوج أمم، كل أمة أربع مئة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه، وهم ولد آدم، فيسيرون إلى خراب الدنيا، يكون مقدمتهم بالشام وساقتهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا، فيشربون الفرات والدجلة وبحيرة الطبرية حتى يأتوا بيت المقدس، فيقولون قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فترجع نشابهم مخضبة بالدم، فيقولون قد قتلنا من في السماء، وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين، فيوحي الله جل جلاله إلى عيسى: أن أحرز عبادي بالطو ر وما يلي أيلة ثم إن عيس يرفع رأسه إلى السماء، ويؤمن المسلمون فيبعث الله عليهم دابة يقال لها النغف، تدخل من مناخرهم فيصبحون موتى من حاق الشام إلى حاق العراق، حتى تنتن الارض من جيفهم ويأمر الله السماء فتمطر كأفواه القرب، فتغسل الارض من جيفهم ونتنهم، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الانس الضعف، وإن الجن يزيدون على الانس الضعف، وإن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت وهب بن جابر يحدث، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن يأجوج ومأجوج يمر أولهم بنهر مثل دجلة، ويمر آخرهم فيقول: قد كان في هذا مرة ماء. لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا. وقال: من بعدهم ثلاث أمم لا يعلم عددهم إلا الله: تأويل، وتاريس، وناسك أو منسك شك شعبة.
[ 116 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر الخيواني، قال: سألت عبد الله بن عمرو، عن يأجوج ومأجوج، أمن بني آدم هم ؟ قال: نعم، ومن بعدهم ثلاث أمم لا يعلم عددهم إلا الله: تاريس، وتاويل، ومنسك. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن حماد أبو عتاب، قال: ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، قال: سمعت نافع بن جبير بن مطعم يقول: قال عبد الله بن عمرو: يأجوج ومأجوج لهم أنهار يلقمون ما شاءوا، ونساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقمون ما شاءوا، ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا. حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا زكريا، عن عامر، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن سلام، قال: ما مات أحد من يأجوج ومأجوج إلا ترك ألف ذرء فصاعدا. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن عطية، قال: قال أبو سعيد: يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه، إلا أهل الحصون، فيمرون على البحيرة فيشربونها، فيمر المار فيقول: كأنه كان ههنا ماء، قال: فيبعث الله عليهم النغف حتى يكسر أعناقهم فيصيروا خبالا، فتقول أهل الحصون: لقد هلك أعداء الله، فيدلون رجلا لينظر، ويشترط عليهم إن وجدهم أحياء أن يرفعوه، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل الله ماء من السماء فيقذفهم في البحر، فتطهر الارض منهم، ويغرس الناس بعدهم الشجر والنخل، وتخرج الارض ثمرتها كما كانت تخرج في زمن يأجوج ومأجوج. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج.
[ 117 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: بلغنا أن ملكا دون الردم يبعث خيلا كل يوم يحرسون الردم لا يأمن يأجوج ومأجوج أن تخرج عليهم، قال: فيسمعون جلبة وأمرا شديدا. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، أن عبد الله بن عمرو، قال: ما يموت الرجل من يأجوج ومأجوج حتى يولد له من صلبه ألف، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عددهم إلا الله: منسك، وتاويل، وتاريس. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن عمرو البكالي، قال: إن الله جزأ الملائكة والانس والجن عشرة أجزاء فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذي يحملون العرش، ثم هم أيضا الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون. قال: ومن بقي من الملائكة لامر الله ووحيه ورسالته. ثم جزأ الانس والجن عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجن، لا يولد من الانس ولد إلا ولد من الجن تسعة. ثم جزأ الانس على عشرة أجزاء، فتسعة منهم يأجوج ومأجوج، وسائر الانس جزء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج قال: أمتان من وراء ردم ذي القرنين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن غير واحد، عن حميد بن هلال، عن أبي الصيف، قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل قالوا: نجئ غدا فنخرج، فيعيدها الله كما كانت، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجئ غدا فنخرج إن شاء الله. فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون ثم يخرجون. فتمر الزمرة الاولى بالبحيرة فيشربون ماءها، ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان ههنا مرة ماء. وتفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شئ، يرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون: غلبنا أهل الارض وأهل السماء. فيدعو عليهم عيسى ابن مريم، فيقول: اللهم لا طاقة ولا يدين لنا بهم، فاكفناهم بما شئت فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغف فتفرس رقابهم، ويبعث الله عليهم طيرا فتأخذهم بمناقرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عينا يقال لها الحياة تطهر الارض منهم وتنبتها، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن. قيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت. قال: فبينا الناس
[ 118 ]
كذلك، إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده، فيبعث عيسى طليعة سبع مئة، أو بين السبع مئة والثمان مئة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة، فيقبض الله فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج من الناس يتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع. فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا أو على هذا شيئا فهو المتلكف. حدثنا العباس بن الوليد البيروتي، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت ابن جابر، قال: ثني محمد بن جابر الطائي ثم الحمصي، ثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال: ثني أبي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي يقول: ذكر رسول الله (ص) الدجال، وذكر أمره، وأن عيسى ابن مريم يقتله، ثم قال: فبينا هو كذلك، أوحى الله إليه: يا عيسى، إني قد أخرجت عبادا لي لا يد لاحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور فيبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أحدهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ثم ينزل آخرهم، ثم يقول: لقد كان بهذه ماء مرة. فيحاصر بني الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لاحدهم من مئة دينار لاحدكم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى موت نفس واحدة، فيهبط نبي الله عيسى وأصحابه، فلا يجدون موضعا إلا قد ملاه زهمهم ونتنهم ودماؤهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الارض حتى يتركها كالزلفة.
[ 119 ]
وأما قوله: وهم من كل حدب ينسلون فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني به، فقال بعضهم: عني بذلك بنو آدم أنهم يخرجون من كل موضع كانوا دفنوا فيه من الارض، وإنما عني بذلك الحشر إلى موقف الناس يوم القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: من كل حدب ينسلون قال: جمع الناس من كل مكان جاءوا منه يوم القيامة، فهو حدب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وهم من كل حدب ينسلون، قال ابن جريج: قال مجاهد: جمع الناس من كل حدب من مكان جاءوا منه يوم القيامة فهو حدب. وقال آخرون: بل عني بذلك يأجوج، ومأجوج وقوله: وهم وكناية أسمائهم ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله أنه قال: يخرج يأجوج ومأجوج فيمرحون في الارض، فيفسدون فيها. ثم قرأ عبد الله: وهم من كل حدب ينسلون قال: ثم يبعث الله عليهم دابة مثل النغف، فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون منها فتنتن الارض منهم، فيرسل الله عز وجل ماء فيطهر الارض منهم. والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: عني بذلك يأجوج ومأجوج، وأن قوله: وهم كناية عن أسمائهم، للخبر الذي: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة الانصاري، ثم الظفري، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الاشهل، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: يفتح يأجوج ومأجوج يخرجون على الناس كما قال الله من كل حدب ينسلون فيغشون الارض.
[ 120 ]
حدثني أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن جبلة ابن سحيم، عن مؤثر، وهو ابن عفازة العبدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص) فيما يذكر عن عيسى ابن مريم، قال: قال عيسى: عهد إلي ربي أن الدجال خارج، وأنه مهبطي إليه، فذكر أن معه قضيبين، فإذا رآني أهلكه الله. قال: فيذوب كما يذوب الرصاص، حتى إن الشجر والحجر ليقول: يا مسلم هذا كافر فاقتله فيهلكهم الله تبارك وتعالى، ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون، لا يأتون على شئ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه. حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا المحاربي، عن أصبغ بن زيد، عن العوام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن موثر بن عفازة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله (ص) بنحوه. وأما قوله: من كل حدب فإنه يعني من كل شرف ونشز وأكمة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: من كل حدب ينسلون يقول: من كل شرف يقبلون. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر عن قتادة: من كل حدب ينسلون قال: من كل أكمة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وهم من كل حدب ينسلون قال: الحدب: الشئ المشرف. وقال الشاعر:.................. على الحداب تمور حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون قال: هذا مبتدأ يوم القيامة.
[ 121 ]
وأما قوله: ينسلون فإنه يعني: أنهم يخرجون مشاة مسرعين في مشيهم كنسلان الذئب، كما قال الشاعر: عسلان الذئب أمسى قاربا * برد الليل عليه فنسل القول في تأويل قوله تعالى: * (واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) *. يقول تعالى ذكره: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج، اقترب الوعد الحق، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب، وهو لا شك حق كما قال جل ثناؤه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، يعني ابن قيس، قال: ثنا حذيفة: لو أن رجلا افتلى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم القيامة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: واقترب الوعد الحق قال: اقترب يوم القيامة منهم. والواو فقوله: واقترب الوعد الحق مقحمة، ومعنى الكلام: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، وذلك نظير قوله: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه معناه: ناديناه، بغير واو، كما قال امرؤ القيس:
[ 122 ]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل يريد: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى بنا. وقوله: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ففي هي التي في قوله فإذا هي وجهان: أحدهما أن تكون كناية عن الابصار وتكون الابصار الظاهرة بيانا عنها، كما قال الشاعر: لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب فكنى عن الظعينة في: لعمرو أبيها، ثم أظهرها، فيكون تأويل الكلام حينئذ: فإذا الابصار شاخصة أبصار الذين كفروا. والثاني: أن تكون عمادا كما قال جل ثناؤه: فإنها لا تعمى الابصار وكقول الشاعر:
[ 123 ]
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس وقوله: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا يقول تعالى ذكره: فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجئ الوعد الحق بأهواله وقيام الساعة بحقائقها، وهم يقولون: يا ويلنا قد كنا قبل هذا الوقت في الدنيا في غفلة من هذا الذي نرى ونعاين ونزل بنا من عظيم البلاء. وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر عليه عنه، وذلك يقولون من قوله: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يقولون: يا ويلنا. وقوله: بل كنا ظالمين يقول مخبرا عن قيل الذين كفروا بالله يومئذ: ما كنا نعمل لهذا اليوم ما ينجينا من شدائده، بل كنا ظالمين بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنده في عبادة غير الله عز وجل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) *. يقول تعالى ذكره: إنكم أيها المشركون بالله، العابدون من دونه الاوثان والاصنام، وما تعبدون من دون الله من الآلهة. كما: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله يعني الآلهة ومن يعبدها، حصب جهنم. وأما حصب جهنم، فقال بعضهم: معناه: وقود جهنم وشجرها. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: حصب جهنم: شجر جهنم.
[ 124 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم يقول: وقودها. وقال آخرون: بل معناه: حطب جهنم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: حصب جهنم قال: حطبها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، وزاد فيه: وفي بعض القراءة: حطب جهنم يعني في قراءة عائشة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: حصب جهنم قال: حطب جهنم يقذفون فيها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن الحر، عن عكرمة، قوله: حصب جهنم قال: حطب جهنم. وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يرمى بهم في جهنم. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: حصب جهنم يقول: إن جهنم إنما تحصب بهم، وهو الرمي يقول: يرمي بهم فيها. واختلف في قراءة ذلك، فقرأته قراء الامصار: حصب جهنم بالصاد، وكذلك القراءة عندنا لاجماع الحجة عليه. وروي عن علي وعائشة أنهما كانا يقرآن ذلك: حطب جهنم بالطاء. وروي عن ابن عباس أنه قرأه: حضب بالضاد. حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأها كذلك.
[ 125 ]
وكأن ابن عباس إن كان قرأ ذلك كذلك، أراد أنهم الذين تسجر بهم جهنم ويوقد بهم فيها النار وذلك أن كل ما هيجت به النار وأوقدت به، فهو عند العرب حضب لها. فإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا، وكان المعروف من معنى الحصب عند العرب: الرمي، من قولهم: حصبت الرجل: إذا رميته، كما قال جل ثناؤه: إنا أرسلنا عليهم حاصبا كان الاولى بتأويل ذلك قول من قال: معناه أنهم تقذف جهنم بهم ويرمى بهم فيها. وقد ذكر أن الحصب في لغة أهل اليمين: الحطب، فإن يكن ذلك كذلك فهو أيضا وجه صحيح. وأما ما قلنا من أن معناه الرمي فإنه في لغة أهل نجد. وأما قوله: أنتم لها واردون فإن معناه: أنتم عليها أيها الناس أو إليها واردون، يقول: داخلون. وقد بينت معنى الورود فيما مضى قبل بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون) *. يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، وهم مشركو قريش: أنتم أيها المشركون، وما تعبدون من دون الله واردو جهنم، ولو كان ما تعبدون من دون الله آلهة ما وردوها، بل كانت تمنع من أراد أن يوردكموها إذ كنتم لها في الدنيا عابدين، ولكنها إذ كانت لا نفع عندها لانفسها ولا عندها دفع ضر عنها، فهي من أن يكون ذلك عندها لغيرها أبعد، ومن كان كذلك كان بينا بعده من الالوهة، وأن الاله هو الذي يقدر على ما يشاء ولا يقدر عليه شئ، فأما من كان مقدورا عليه فغير جائز أن يكون إلها. وقوله: وكل فيها خالدون يعني الآلهة ومن عبدها أنهم ماكثون في النار أبدا بغير نهاية وإنما معنى الكلام: كلكم فيها خالدون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون قال: الآلهة التي عبد القوم، قال: العابد والمعبود.
[ 126 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ئ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) *. يعني تعالى ذكره بقوله: لهم المشركين وآلهتهم، والهاء، والميم في قوله: لهم من ذكر كل التي في قوله: وكل فيها خالدون. يقول تعالى ذكره: لكلهم في جهنم زفير، وهم فيها لا يسمعون يقول: وهم في النار لا يسمعون. وكان ابن مسعود يتأول في قوله: وهم فيها لا يسمعون ما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن المسعودي، عن يونس بن خباب، قال: قرأ ابن مسعود هذه الآية: لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون قال: إذا ألقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره. ثم قرأ: لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون. ] وأما قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني به، فقال بعضهم: عني به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مبعد. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف بن سعد وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب، قال: سمعت عليا يخطب فقرأ هذه الآية: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. قال: عثمان رضي الله عنه منهم. وقال آخرون: بل عني: من عبد من دون الله، وهو لله طائع ولعبادة من يعبد كاره. ذكر من قال ذلك:
[ 127 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: أولئك عنها مبعدون قال: عيسى، وعزير، والملائكة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جريج: قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله ثم استثنى فقال: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، والحسن البصري قالا: قال في سورة الانبياء: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ثم استثنى فقال: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقد عبدت الملائكة من دون الله، وعزير وعيسى من دون الله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: أولئك عنها مبعدون قال: عيسى. حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا علي بن مسهر، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى قال: عيسى، وأمه، وعزير، والملائكة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جلس رسول الله (ص) فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله (ص)، فعرض له النضر بن الحارث، وكلمه رسول الله (ص) حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون.... إلى قوله: وهم فيها لا يسمعون. ثم قام رسول الله (ص)، وأقبل عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته
[ 128 ]
لخصمته فسلوا محمدا: أكل من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم. فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، (ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله (ص) من قول ابن الزبعري، فقال) رسول الله (ص): نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته. فأنزل الله عليه: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون... إلى: خالدون أي عيسى ابن مريم، وعزير، ومن عبدوا من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون... إلى قوله: نجزي الظالمين. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، قال: يقول ناس من الناس إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون يعني من الناس أجمعين. فليس كذلك، إنما يعني من يعبد من الآلهة وهو لله مطيع مثل عيسى وأمه وعزير والملائكة، واستثنى الله هؤلاء الآلهة المعبودة التي هي ومن يعبدها في النار. حدثنا ابن سنان القزاز، قال: ثنا الحسن بن الحسين الاشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال المشركون: فإن عيسى يعبد وعزير والشمس والقمر يعبدون فأنزل الله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لعيسى وغيره.
[ 129 ]
وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عني بقوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ما كان من معبود كان المشركون يعبدونه والمعبود لله مطيع وعابدوه بعبادتهم إياه بالله كفار لان قوله تعالى ذكره: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ابتداء كلام محقق لامر كان ينكره قوم، على نحو الذي ذكرنا في الخبر عن ابن عباس، فكأن المشركين قالوا لنبي الله (ص) إذ قال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم: ما الامر كما تقول، لانا نعبد الملائكة، ويعبد آخرون المسيح وعزيرا. فقال عزوجل ردا عليهم قولهم: بل ذلك كذلك، وليس الذين سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون، لانهم غير معنيين بقولنا: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فقول لا معنى له لان الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى منه، ولا شك أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة وإما إنس أو جان، وكل هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها ب من لا ب ما، والله تعالى ذكره إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حصب جهنم ب ما، قال: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم إنما أريد به ما كانوا يعبدونه من الاصنام والآلهة من الحجارة والخشب، لا من كان من الملائكة والانس. فإذا كان ذلك كذلك لما وصفنا، فقوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى جواب من الله للقائلين ما ذكرنا من المشركين مبتدأ. وأما الحسنى فإنها الفعلى من الحسن، وإنما عني بها السعادة السابقة من الله لهم. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى قال: الحسنى: السعادة. وقال: سبقت السعادة لاهلها من الله، وسبق الشقاء لاهله من الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون) *. يقول تعالى ذكره: لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى حسيس النار، ويعني بالحسيس: الصوت والحس. فإن قال قائل: فكيف لا يسمعون حسيسها، وقد علمت ما روي من أن جهنم يؤتي بها يوم القيامة فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفا منها ؟ قيل: إن الحال التي لا يسمعون فيها حسيسها هي غير تلك الحال، بل هي الحال التي:
[ 130 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفس خالدون يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة. ] وقوله: وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون يقول: وهم فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذاتها ماكثون فيها، لا يخافون زوالا عنها ولا انتقالا عنها. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) *. اختلف أهل التأويل في الفزع الاكبر أي الفزع هو ؟ فقال بعضهم: ذلك النار إذا أطبقت على أهلها. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: لا يحزنهم الفزع الاكبر قال: النار إذا أطبقت على أهلها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: لا يحزنهم الفزع الاكبر قال: حين تطبق جهنم، وقال: حين ذبح الموت. وقال آخرون: بل ذلك النفخة الآخرة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لا يحزنهم الفزع الاكبر يعني النفخة الآخرة. وقال آخرون: بل ذلك حين يؤمر بالعبد إلى النار. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن: لا يحزنهم الفزع الاكبر قال: انصراف العبد حين يؤمر به إلى النار.
[ 131 ]
وأولى الاقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الاكبر وأمن منه، فهو مما بعده أحرى أن لا يفزع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده. وقوله: وتتلقاهم الملائكة يقول: وتستقبلهم الملائكة يهنئونهم يقولون: هذا يومكم الذي كنتم توعدون فيه الكرامة من الله والحباء والجزيل من الثواب على ما كنتم تنصبون في الدنيا لله في طاعته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن زيد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: هذا يومكم الذي كنتم توعدون قال: هذا قبل أن يدخلوا الجنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) *. يقول تعالى ذكره: لا يحزنهم الفزع الاكبر، يوم نطوي السماء. ف يوم من صلة يحزنهم. واختلف أهل التأويل في معنى السجل الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اسم ملك من الملائكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا أبو الوفاء الاشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر، في قوله: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب قال: السجل: ملك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: سمع السدي يقول، في قوله: يوم نطوي السماء كطي السجل قال: السجل: ملك. وقال آخرون: السجل: رجل كان يكتب لرسول الله (ص). ذكر من قال ذلك:
[ 132 ]
حدثنا نصر بن علي، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في هذه الآية: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب قال: كان ابن عباس يقول: هو الرجل. قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: السجل: كاتب كان يكتب لرسول الله (ص). وقال آخرون: بل هو الصحيفة التي يكتب فيها. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: كطي السجل للكتاب يقول: كطي الصحيفة على الكتاب. حدثنى محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب يقول: كطي الصحف. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثناو رقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السجل: الصحيفة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب قال: السجل: الصحيفة. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة لان ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا (ص) كاتب كان اسمه السجل، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.
[ 133 ]
فإن قال قائل: وكيف تطوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجل صحيفة ؟ قيل: ليس المعنى كذلك، وإنما معناه: يوم نطوي السماء كطي السجل على ما فيه من الكتاب ثم جعل نطوي مصدرا، فقيل: كطي السجل للكتاب واللام في قوله للكتاب بمعنى على. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار، سوى أبي جعفر القارئ: يوم نطوي السماء بالنون. وقرأ ذلك أبو جعفر: يوم تطوي السماء بالتاء وضمها، على وجه ما لم يسم فاعله. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الامصار، بالنون، لاجماع الحجة من القراء عليه وشذوذ ما خالفه. وأما السجل فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام. وأما الكتاب، فإن قراء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد: كطي السجل للكتاب، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: للكتب على الجماع. وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب: قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب لما ذكرنا من معناه، فإن المراد منه: كطي السجل على ما فيه مكتوب. فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب، وعند قوله: كطي السجل انقضاء الخبر عن صلة قوله: لا يحزنهم الفزع الاكبر، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره: كما بدأنا أول خلق نعيده فالكاف التي في قوله: كما من صلة نعيد، تقدمت قبلها ومعنى الكلام: نعيد الخلق عراة حفاة غرلا يوم القيامة، كما بدأناهم أول مرة في حال خلقناهم في بطون أمهاتهم، على اختلاف من أهل التأويل في تأويل ذلك. وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وبه الخبر عن رسول الله (ص) فلذلك اخترت القول به على غيره. ذكر من قال ذلك والاثر الذي جاء فيه: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أول خلق نعيده قال: حفاة عراة غرلا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: أول خلق نعيده قال: حفاة غلفا. قال ابن جريج أخبرني إبراهيم بن
[ 134 ]
ميسرة، أنه سمع مجاهدا يقول: قال رسول الله (ص) لاحدى نسائه: يأتونه حفاة عراة غلفا فاستترت بكم درعها، وقالت واسوأتاه قال ابن جريج: أخبرت أنها عائشة قالت: يا نبي الله، لا يحتشم الناس بعضهم بعضا ؟ قال: لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (ص) قال: يحشر الناس حفاة عراة غرلا، فأول من يكسى إبراهيم ثم قرأ: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قام فينا رسول الله (ص) بموعظة فذكره نحوه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان النخعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قام فينا رسول الله (ص) فذكره نحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، قال: ثنا المغيرة بن النعمان النخعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه. حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبويحيى، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سمعت النبي (ص) يخطب فقال: إنكم ملاقو الله مشاة غرلا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله (ص) وعندي عجوز من بني عامر، فقال: من هذه العجوز يا عائشة ؟ فقلت: إحدى خالاتي. فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: إن الجنة لا يدخلها العجزة. قالت: فأخذ العجوز ما أخذها، فقال: إن الله ينشئهن خلقا غير
[ 135 ]
خلقهن، ثم قال: يحشرون حفاة عراة غلقا. فقالت: حاش لله من ذلك قال رسول الله (ص): بلى إن الله قال: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا... إلى آخر الآية، فأول من يكسى إبراهيم خليل الله. حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاة عراة، كما خلقوا أول يوم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عباد بن العوام، عن هلال بن حبان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، (عن رسول الله (ص)) قال: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة مشاة غرلا. قلت: يا أبا عبد الله ما الغرل ؟ قال: الغلف. فقال بعض أزواجه: يا رسول الله، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته ؟ فقال لكل امرئ منهم يومئذ ما يشغله عن النظر إلى عورة أخيه. قال هلال: قال سعيد بن جبير: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة قال: كيوم ولدته أمه، يرد عليه كل شئ انتقص منه مثل يوم ولد. وقال آخرون: بل معنى ذلك: كما كنا ولا شئ غيرنا قبل أن نخلق شيئا، كذلك نهلك الاشياء فنعيدها فانية، حتى لا يكون شئ سوانا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: كما بدأنا أول خلق نعيده... الآية، قال: نهلك كل شئ كما كان أول مرة. ] وقوله: وعدا علينا يقول: وعدناكم ذلك وعدا حقا علينا أن نوفي بما وعدنا، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس، لانه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله، على يقين بأن ذلك كائن، واستعدوا وتأهبوا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 136 ]
* (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) *. اختلف أهل التأويل في المعنى بالزبور والذكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني بالزبور: كتب الانبياء كلها التي أنزلها الله عليهم، وعني بالذكر: أم الكتاب التي عنده في السماء. ذكر من قال ذلك: حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الاعمش، قال: سألت سعيدا، عن قول الله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر قال: الذكر: الذي في السماء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الاعمش، عن سعيد بن جبير، في قوله: ولقد كتبنا في الزبور قال: قرأها الاعمش: الزبر قال: الزبور، والتوراة، والانجيل، والقرآمن بعد الذكر قال: الذكر الذي في السماء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقا جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الزبور قال: الكتاب. من بعد الذكر قال: أم الكتاب عند الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: الزبور قال: الكتاب. بعد الذكر قال: أم الكتاب عند الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولقد كتبنا في الزبور قال: الزبور: الكتب التي أنزلت على الانبياء. والذكر: أم الكتاب الذي تكتب فيه الاشياء قبل ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد، في قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر قال: كتبنا في القرآن من بعد التوراة. وقال آخرون: بل عني بالزبور: الكتب التي أنزلها الله على من بعد موسى من الانبياء، وبالذكر: التوراة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 137 ]
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر... الآية، قال: الذكر: التوراة، والزبور: الكتب. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر... الآية، قال: الذكر: التوراة، ويعني بالزبور من بعد التوراة: الكتب. وقال آخرون: بل عني بالزبور زبور داود، وبالذكر توراة موسى صلى الله عليهما. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر قال: زبور داود. من بعد الذكر: ذكر موسى التوراة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، أنه قال في هذه الآية: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر قال: في زبور داود، من بعد ذكر موسى. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد ومن قال بقولهما في ذلك، من أن معناه: ولقد كتبنا في الكتب من بعد أم الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه قبل خلق السموات والارض. وذلك أن الزبور هو الكتاب، يقال منه: زبرت الكتاب لذبرته: إذا كتبته، وأن كل كتاب أنزله الله إلى نبي من أنبيائه، فهو ذكر. فإذ كان ذلك كذلك، فإن في إدخاله الالف واللام في الذكر، الدلالة البينة أنه معني به ذكر بعينه معلوم عند المخاطبين بالآية، ولو كان ذلك غير أم الكتاب التي ذكرنا لم تكن التوراة بأولى من أن تكون المعنية بذلك من صحف إبراهيم، فقد كان قبل زبور داود. فتأويل الكلام إذن، إذ كان ذلك كما وصفنا: ولقد قضينا، فأثبتنا قضاءنا في الكتب من بعد أم الكتاب، أن الارض يرثها عبادي الصالحون يعني بذلك: أن أرض الجنة يرثها عبادي العاملون بطاعته المنتهون إلى أمره ونهيه من عباده، دون العاملين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. ذكر من قال ذلك:
[ 138 ]
حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس، قوله: أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: أرض الجنة. حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والارض، أن يورث أمة محمد (ص) الارض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير في قوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: كتبنا في القرآن بعد التوراة، والارض أرض الجنة. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: الارض: الجنة. حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الاعمش، قال: سألت سعيدا عن قول الله: أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: أرض الجنة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: أن الارض قال: الجنة، يرثها عبادي الصالحون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: الجنة. وقرأ قول الله جل ثناؤه: وقالوا الحمد
[ 139 ]
لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين قال: فالجنة مبتدؤها في الارض ثم تذهب درجات علوا، والنار مبتدؤها في الارض وبينهما حجاب سور ما يدري أحد ما ذاك السور، وقرأ: باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب قال: ودرجها تذهب سفالا في الارض، ودرج الجنة تذهب علوا في السموات. حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان، سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لانفس المؤمنين مجتمع ؟ قال: فقال: إن الارض التي يقول الله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون قال: هي الارض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقال آخرون: هي الارض يورثها الله المؤمنين في الدنيا. وقال آخرون: عني بذلك بنو إسرائيل وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفي لهم به. واستشهد لقوله ذلك بقول الله: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها. وقد ذكرنا قول من قال: أن الارض يرثها عبادي الصالحون أنها أرض الامم الكافرة، ترثها أمة محمد (ص). وهو قول ابن عباس الذي روى عنه علي بن أبي طلحة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ئ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *. يقول تعالى ذكره: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد (ص)، لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله، إلى رضوانه وإدراك الطلبة عنده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 140 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد الحضرمي، قال: ثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين إنهم لاهل أو أصحاب الصلوات الخمس، سماهم الله عابدين. حدثنا الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي الورد عن كعب، في قوله: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين قال: صوم شهر رمضان، وصلاة الخمس، قال: هي مل ء اليدين والبحر عبادة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن الحسين، عن الجريري، قال: قال كعب الاحبار: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين لامة محمد. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين يقول: عاملين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين قال: يقولون في هذه السورة لبلاغا. ويقول آخرون: في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين، قال: عاملين. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين قال: إن في هذا لمنفعة وعلما لقوم عابدين ذاك البلاغ. ] وقوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي. ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم ؟ أم أريد بها أهل الايمان خاصة دون أهل الكفر ؟ فقال بعضهم: عني بها جميع العالم المؤمن والكافر. ذكر من قال ذلك:
[ 141 ]
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا إسحاق بن يوسف الازرق، عن المسعودي، عن رجل يقال له سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قول الله في كتابه: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الامم من الخسف والقذف. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن المسعودي، عن أبي سعيد، عن سعيد جبير، عن ابن عباس، في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قال: تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الامم قبل. وقال آخرون: بل أريد بها أهل الايمان دون أهل الكفر. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قال: العالمون: من آمن به وصدقه. قال: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة، وقد جاء الامر مجملا رحمة للعالمين. والعالمون ههنا: من آمن به وصدقه وأطاعه. وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي روي عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا (ص) رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالايمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالامم المكذبة رسلها من قبله. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد: ما يوحي إلي ربي إلا أنه لا إله لكم يجوز أن يعبد إلا إله واحد لا تصلح العبادة إلا له ولا ينبغي ذلك لغيره. فهل أنتم
[ 142 ]
مسلمون يقول: فهل أنتم مذعنون له أيها المشركون العابدون الاوثان والاصنام بالخضوع لذلك، ومتبرئون من عبادة ما دونه من آلهتكم ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن تولوا فقل آذنتكم على سوآء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) *. يقول تعالى ذكره: فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عن الاقرار بالايمان، بأن لا إله لهم إلا إله واحد، فأعرضوا عنه وأبوا الاجابة إليه، فقل لهم: قد آذنتكم على سواء يقول: أعلمهم أنك وهم على علم من أن بعضكم لبعض حرب، لاصلح بينكم ولا سلم. وإنما عني بذلك قوم رسول الله (ص) من قريش، كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء فإن تولوا، يعني قريشا. وقوله: وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون يقول تعالى ذكره لنبيه: قل وما أدري متى الوقت الذي يحل بكم عقاب الله الذي وعدكم، فينتقم به منكم، أقريب نزوله بكم أم بعيد ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون قال: الاجل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ئ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المشركين، إن الله يعلم الجهر الذي يجهرون به من القول، ويعلم ما تخفونه فلا تجهرون به، سواء عنده خفيه وظاهره وسره وعلانيته، إنه لا يخفى عليه منه شئ فإن أخر عنكم عقابه على ما تخفون من الشرك به أو تجهرون به، فما أدري ما السبب الذي من أجله يؤخر ذلك عنكم ؟ لعل تأخيره ذلك عنكم مع وعده إياكم لفتنة يريدها بكم، ولتتمتعوا بحياتكم إلى أجل قد جعله لكم تبلغونه، ثم ينزل بكم حينئذ نقمته.
[ 143 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين يقول: لعل ما أقرب كم من العذاب والساعة، أن يؤخر عنكم لمدتكم، ومتاع إلى حين، فيصير قولي ذلك لكم فتنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد: يا رب افصل بيني وبين من كذبني من مشركي قومي وكفر بك وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك بهم وذلك هو الحق الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأل ربه الحكم به، وهو نظير قوله جل ثناؤه: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قال رب احكم بالحق قال: لا يحكم بالحق إلا الله، ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا، يسأل ربه على قومه. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن النبي (ص) كان إذا شهد قتالا قال: رب احكم بالحق. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: قال رب احكم بكسر الباء، ووصل الالف ألف احكم، على وجه الدعاء والمسألة، سوى أبي جعفر، فإنه ضم الباء من الرب، على وجه نداء المفرد، وغير الضحاك بن مزاحم، فإنه روي عنه أنه كان
[ 144 ]
يقرأ ذلك: ربي أحكم على وجه الخبر بأن الله أحكم بالحق من كل حاكم، فيثبت الياء في الرب، ويهمز الالف من أحكم، ويرفع أحكم، على أنه للرب تبارك وتعالى. والصواب من القراءة عندنا في ذلك: وصل الباء من الرب وكسرها ب احكم، وترك قطع الالف من احكم، على ما عليه قراء الامصار لاجماع الحجة من القراء عليه وشذوذ ما خالفه. وأما الضحاك فإن في القراءة التي ذكرت عنه زيادة حرف على خط المصاحف، ولا ينبغي أن يزاد ذلك فيها، مع صحة معنى القراءة بترك زيادته. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: رب احكم بالحق قل: رب احكم بحكمك الحق، ثم حذف الحكم الذي الحق نعت له وأقيم الحق مقامه. ولذلك وجه، غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل، فلذلك اخترناه. وقوله: وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون يقول جل ثناؤه: وقل يا محمد: وربنا الذي يرحم عباده ويعمهم بنعمته، الذي أستعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم لي فيما أتيتكم به من عند الله إن هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، وقولكم: بل افتراه بل هو شاعر، وفي كذبكم على الله جل ثناؤه وقيلكم: اتخذ الرحمن ولدا فإنه هين عليه تغيير ذلك وفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك. آخر تفسير سورة الانبياء عليهم السلام
[ 145 ]
سورة الحج مدنية وأياتها ثمان وسبعون بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم ئ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) *. قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته، فأطيعوه ولا تعصوه، فإن عقابه لمن عاقبه يوم القيامة شديد. ثم وصف جل ثناؤه هول أشراط ذلك اليوم وبدوه، فقال: إن زلزلة الساعة شئ عظيم. واختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة التي وصفها جل ثناؤه بالشدة، فقال بعضهم: هي كائنة في الدنيا قبل يوم القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، في قوله: إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال: قبل الساعة. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو عدنية، عن عطاء، عن عامر: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج في
[ 146 ]
قوله: إن زلزلة الساعة فقال: زلزلتها: أشراطها... الآيات يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن عامر: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال: هذا في الدنيا من آيات الساعة. وقد روي عن النبي (ص) بنحو ما قال هؤلاء خبر، في إسناده نظر وذلك ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الانصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الانصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): لما فرغ الله من خلق السموات والارض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور ؟ قال: قرن. قال: وكيف هو ؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الاولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله عزوجل إسرافيل بالنفخة الاولى، فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والارض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيديمها ويطولها، فلا يفتر، وهي التي يقول الله: ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله الجبال فتكون سرابا، وترج الارض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة، فتكون الارض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الامواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الارواح فتميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الاقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله: يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الارض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا عظيما، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وخسف
[ 147 ]
قمرها وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم قال رسول الله (ص): والاموات لا يعلمون بشئ من ذلك فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: ففزع من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ؟ قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الاحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم. وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم... إلى قوله: ولكن عذاب الله شديد. وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبي ومن ذكرنا ذلك عنه قول، لولا مجئ الصحاح من الاخبار عن رسول الله (ص) بخلافه، ورسول الله (ص) أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله. والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه. ذكر الرواية عن رسول والله (ص) بما ذكرنا: حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة، عن صاحب له حدثه، عن عمران بن حصين، قال: بينما رسول الله (ص) في بعض مغازيه وقد فاوت السير بأصحابه، إذ نادى رسول الله (ص) بهذه الآية: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم. قال: فحثوا المطي، حتى كانوا حول رسول الله (ص) قال: هل تدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم ينادى آدم، يناديه ربه: ابعث بعث النار، من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين إلى النار قال: فأبلس القوم، فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي (ص): ألا اعملوا وأبشروا، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه، فمن هلك من بني آدم، ومن هلك من بني إبليس ويأجوج ومأجوج. قال: أبشروا، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في جناح الدابة.
[ 148 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي (ص). وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي وحدثنا ابن أبي عدي، عن هشام جميعا، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن البني (ص) بمثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد عن عمران، عن رسول الله (ص)، بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله (ص) لما قفل من غزوة العسرة، ومعه أصحابه، بعد ما شارف المدينة، قرأ: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها... الآية، فقال رسول الله (ص): أتدرون أي يوم ذاكم ؟ قيل: الله ورسوله أعلم. فذكر نحوه، إلا أنه زاد: وإنه لم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعادهما أحد من أهل الارض إلا كثروهم، وهم يأجوج ومأجوج، وهم أهل النار، وتكمل العدة من المنافقين. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن أبي صالح عن أبي سعيد، عن النبي (ص) قال: يقال لآدم: أخرج بعث النار، قال: فيقول: وما بعث النار ؟ فيقول: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين. فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع الحامل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. قال: قلنا فأين الناجي يا رسول الله ؟ قال: أبشروا فإن واحدا منكم وألفا من يأجوج ومأجوج. ثم قال: إني لاطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا وحمدنا الله. ثم قال: إني لاطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا وحمدنا الله. ثم قال: إني لاطمع أن تكونوا نصف أهل الجنة إنما مثلكم في الناس كمثل الشعرة البيضاء في الثور الاسود، أو كمثل الشعرة السوداء في الثور الابيض. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): يقول الله لآدم يوم القيامة ثم ذكر نحوه.
[ 149 ]
حدثني عيسى عن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: ذكر رسول الله (ص) الحشر، قال: يقول الله يوم القيامة يا آدم فيقول: لبيك وسعديك والخير بيديك فيقول: ابعث بعثا إلى النار. ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: نزلت يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم... حتى إلى: عذاب الله شديد... الآية على النبي (ص) وهو في مسير، فرجع بها صوته، حتى ثاب إليه أصحابه، فقال: أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم يقول الله لآدم: يا آدم قم فابعث النار من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبي (ص): سددوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتفي الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانتا في شئ قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من كفرة الجو الانس. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: دخلت على ابن مسعود بيت المال، فقال: سمعت النبي (ص) يقول: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا: نعم قال: فوالذي نفسي بيده، إني لارجو ا أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن قلة المسلمين في الكفار يوم القيامة كالشعرة السوداء في الثور الاببض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الاسود. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال: هذا يوم القيامة. والزلزلة: مصدر من قوله القائل: زلزلت بفلان الارض أزلزلها زلزلة وزلزالا، بكسر الزاي من الزلزال، كما قال الله: إذا زلزلت الارض زلزالها وكذلك المصدر من كل
[ 150 ]
سليم من الافعال إذا جاءت على فعلال فبكسر أوله، مثل وسوس وسوسة ووسواسا، فإذا كان اسما كان بفتح أوله الزلزال والوسواس، وهو ما وسوس إلى الانسان، كما قال الشاعر: يعرف الجاهل المضلل أن الد * هر فيه النكراء والزلزال وقوله تعالى: يوم ترونها يقول جل ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت. ويعني بقوله: تذهل تنسى وتترك من شدة كربها، يقال: ذهلت عن كذا أذهل عنه ذهولا وذهلت أيضا، وهي قليلة، والفصيح: الفتح في الهاء، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحة في اللغتين، لم يسمع غير ذلك ومنه قول الشاعر. صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه، قلت: أذهله هذا الامر عن كذا يذهله إذهالا. وفي إثبات الهاء في قوله: كل مرضعة اختلاف بين أهل العربية وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: إذا أثبتت الهاء في المرضعة فإنما يراد أم الصبي المرضع، وإذا أسقطت فإنه يراد المرأة التي معها صبي ترضعه لانه أريد الفعل بها. قالوا: ولو أريد بها الصفة فيما يرى لقال مرضع. قال: وكذلك كل مفعل أو فاعل يكون للانثى ولا يكون للذكر، فهو بغير هاء، نحو: نقرب، وموقر، ومشدن، وحامل، وحائض. قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في ذلك لان العرب من شأنها إسقاط هاء التأنيث من كل فاعل ومفعل إذا وصفوا المؤنث به ولو لم يكن للمذكر فيه حظ، فإذا أرادوا الخبر عنها أنها ستفعله ولم تفعله، أثبتوا هاء التأنيث ليفرقوا بين الصفة والفعل. منه قول الاعشى فيما هو واقع ولم يكن وقع قبل:
[ 151 ]
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي ثمائم محول وربما أثبتوا الهاء في الحالتين وربما أسقطوهما فيهما غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت. فتأويل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة، تنسى وتترك كل والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت قال: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن: تذهل كل مرضعة عما أرضعت قال: ذهلت عن أولادها بغير فطام. وتضع كل ذات حمل حملها قال: ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام. وتضع كل ذات حمل حملها: يقول: وتسقط كل حامل من شدة كرب ذلك حملها. وقوله: وترى الناس سكارى قرأت قراء الامصار وترى الناس سكارى على وجه الخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا محمد الناس حينئذ سكارى وما هم بسكارى. وقد روي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير: وترى الناس بضم التاء ونصب الناس، من قول القائل: رؤيت ترى، التي تطلب الاسم والفعل، كظن وأخواتها.
[ 152 ]
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الامصار، لاجماع الحجة من القراء عليه. واختلف القراء في قراءة قوله: سكارى فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: سكارى وما هم بسكارى. وقرأته عامة قراء أهل الكوفة: وترى الناس سكرى وما هم بسكرى. والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الامصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. ومعنى الكلام: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدته سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: وما هم بسكارى قال: ما هم بسكارى من الشراب ولكن عذاب الله شديد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وترى الناس سكارى وما هم بسكارى قال: ما شربوا خمرا ولكن عذاب الله شديد وقوله: عذاب الله شديد يقول تعالى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدة عذاب الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) *. ذكر أن هذه الآية: نزلت في النضر بن الحارث. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم قال: النضر بن الحارث. ويعني بقوله: من يجادل في الله بغير علم من يخاصم في الله، فيزعم أن الله غير
[ 153 ]
قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا، بغير علم يعلمه، بل بجهل منه بما يقول. ويتبع في قيله القول في تأويل قوله تعالى: ذلك وجداله في الله بغير علم كل شيطان مريد * (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *. يقول تعالى ذكره: قضي على الشيطان فمعنى: كتب ههنا قضي، والهاء التي في قوله عليه من ذكر الشيطان. كما: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: كتب عليه أنه من تولاه قال: كتب على الشيطان، أنه من اتبع الشيطان من خلق الله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: كتب عليه أنه من تولاه قال: الشيطان اتبعه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد أنه من تولاه، قال: اتبعه. وقوله: فأنه يضله يقول: فإن الشيطان يضله، يعني: يضل من تولاه. والهاء التي في يضله عائدة على من التي في قوله: من تولاه وتأويل الكلام: قضي على الشيطان أنه يضل أتباعه ولا يهديهم إلى الحق. وقوله: ويهديه إلى عذاب السعير يقول: ويسوق من اتبعه إلى عذاب جهنم الموقدة وسياقه إياه إليه بدعائه إلى طاعته ومعصيته الرحمن، فذلك هدايته من تبعه إلى عذاب جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم) * وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم، اتباعا منه للشيطان المريد وتنبيه له على موضع خطأ قيله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتم في شك من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلائكم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم (ص) من تراب ثم إنشائناكم من نطفة
[ 154 ]
آدم ثم تصريفناكم أحوالا حالا بعد حال، منطفة إلى علقة، ثم من علقة إلى مضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلمو أن من قدر على ذلك فغير متعذر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: مخلقة وغير مخلقة فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سويا وأما غير مخلقة فما دفعته الارحام من النطف وألقته قبل أن يكون خلقا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال: غير مخلقة، مجتها الارحام دما، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة أذكر أم أنثى ؟ ما رزقها ما أجلها ؟ أشقي أو سعيد ؟ قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة قال: فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. وقال آخرون: معنى ذلك: تامة وغير تامة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله: مخلقة وغير مخلقة قال: تامة وغير تامة. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: مخلقة وغير مخلقة فذكر مثله. وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصورة إنسانا وغير مصورة، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصور فهي غير مخلقة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: مخلقة قال: السقط، مخلقة وغير مخلقة. حدثني محمد بن عمر، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
[ 155 ]
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: مخلقة وغير مخلقة قال: السقط، مخلوق وغير مخلوق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في النطفة والمضغة إذا نكست في الخلق الرابع كانت نسمة مخلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة. قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن أبي سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: مخلقة وغير مخلقة قال: السقط. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقا تاما، وغير مخلقة: السقط قبل تمام خلقه لان المخلق وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصيخلقا سويا إلا التصوير وذلك هو المراد بقوله: مخلقة وغير مخلقة خلقا سويا، وغير مخلقة بأن تلقيه الام مضغة ولا تصور ولا ينفخ فيها الروح. وقوله: لنبين لكم يقول تعالى ذكره: جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التام، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم ابتداءنا خلقكم. وقوله: ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى يقول تعالى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية، فانا نقره في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها، فيخرج. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى قال: التمام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
[ 156 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى قال: الاجل المسمى: أقامته في الرحم حتى يخرج. وقوله: ثم نخرجكم طفلا يقول تعالى ذكره: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الاجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلا صغارا ووحد الطفل، وهو صفة للجميع، لانه مصدر مثل عدل وزور. وقوله: ثم لتبلغوا أشدكم يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم. وقد ذكرت اختلاف المختلفين في الاشد، والصواب من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. يقول تعالى ذكره: ومنكم أيها الناس من يتوفى قبل أن يبلغ أشده فيموت، ومنكم من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل عمره، وذلك الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الاول شيئا. ومعنى الكلام: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشده لكيلا يعلم من بعد علم كان يعلمه شيئا. وقوله: وترى الارض هامدة يقول تعالى ذكره: وترى الارض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع. وأصل الهمود: الدروس والدثور، ويقال منه: همدت الارض تهمد همودا ومنه قول الاعشى ميمون بن قيس: قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا * وأرى ثيابك باليات همدا
[ 157 ]
والهمد: جمع هامد، كما الركع جمع راكع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: وترى الارض هامدة قال: لا نبات فيها. وقوله: فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت يقول تعالى ذكره: فإذا نحن أنزلنا على هذه الارض الهامدة التي لا نبات فيها المطر من السماء اهتزت يقول: تحركت بالنبات، وربت يقول: وأضعفت النبات بمجئ الغيث. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: اهتزت وربت قال: عرف الغيث في ربوها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: اهتزت وربت قال: حسنت، وعرف الغيث في ربوها. وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت. ويوجه المعنى إلى الزرع، وإن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الارض. وقرأت قراء الامصار: وربت بمعنى: الربو، الذي هو النماء والزيادة. وكان أبو جعفر القارئ يقرأ ذلك: وربأت بالهمز. حدثت عن الفراء، عن أبي عبد الله التميمي عنه. وذلك غلط، لانه لا وجه للرب ههنا، وإنما يقال ربأ بالهمز بمعنى: حرس من الربيئة، ولا معنى للحراسة في هذا الموضع. والصحيح من القراءة ما عليه قراء الامصار. وقوله: وأنبتت من كل زوج بهيج يقول جل ثناؤه: وأنبتت هذه الارض الهامدة بذلك الغيث من كل نوع بهيج يعني بالبهيج: البهج، وهو الحسن. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك:
[ 158 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وأنبتت من كل زوج بهيج قال: حسن. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير ئ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) *. يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خلقكم في بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده، طفلا، وكهلا، وشيخا هرما وتنبيهناكم على فعلنا بالارض الهامدة بما ننزل عليها من الغيث لتؤمنوا وتصدقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الحق لا شك فيه، وأن من سواه مما تعبدون من الاوثان والاصنام باطل لانها لا تقدر على فعل شئ من ذلك، وتعلموا أن القدرة التي جعل بها هذه الاشياء العجيبة لا يتعذر عليها أن يحيي بها الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب، وأن فاعل ذلك على كل ما أراد وشاء من شئ قادر لا يمتنع عليه شئ أراده، ولتوقنوا بذلك أن الساعة التي وعدتكم أن أبعث فيها الموتى من قبورهم جائية لا محالة لا ريب فيها يقول: لا شك في مجيئها وحدوثها، وأن الله يبعث من في القبور حينئذ من فيها من الاموات أحياء إلى موقف الحساب، فلا تشكوا في ذلك ولا تمتروا فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) *. يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله وإفراده بالالوهة بغير علم منه بما يخاصم به. ولا هدى يقول: وبغير بيان معه لما يقول ولا برهان. ولا كتاب منير يقول: وبغير كتاب من الله أتاه لصحة ما يقول. منير يقول بنير عن حجته، وإنما يقول ما يقول من الجهل ظنا منه وحسبانا. وذكر أن عني بهذه الآية والتي بعدها النضر بن الحارث من بني عبد الدار. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 159 ]
* (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ئ ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) *. يقول تعالى ذكره: يجادل هذا الذي يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله وصف بأنه يثني عطفه وما المراد من وصفه إياه بذلك، فقال بعضهم: وصفه بذلك لتكبره وتبختره. وذكر عن العرب أنها تقول: جاءني فلان ثاني عطفه: إذا جاء متبخترا من الكبر ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: ثاني عطفه يقول: مستكبرا في نفسه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لاو رقبته. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ثاني عطفه قال: رقبته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنئ حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: ثاني عطفه قال: لاو عنقه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك أنه يعرض عما يدعى إليه فلا يسمع له. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ثاني عطفه يقول: يعرض عن ذكري. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ثاني عطفه عن سبيل الله قال: لاويا رأسه، معرضا موليا، لا يريد أن يسمع ما قيل له. وقرأ: وإذا
[ 160 ]
قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ثاني عطفه قال: يعرض عن الحق. قال أبو جعفر: وهذه الاقوال الثلاثة متقاربات المعنى وذلك أن من كان ذا استكبار فمن شأنه الاعراض عما هو مستكبر عنه ولي عنقه عنه والاعراض. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هذا المخاصم في الله بغير علم أنه من كبره إذا دعي إلى الله أعرض عن داعيه لوى عنقه عنه ولم يسمع ما يقال له استكبارا. وقوله: ليضل عن سبيل الله يقول تعالى ذكره: يجادل هذا المشرك في الله بغير علم معرضا عن الحق استكبارا، ليصد المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم له ويستزلهم عنه. له في الدنيا خزي يقول جل ثناؤه: لهذا المجادل في الله بغير علم في الدنيا خزي وهو القتل والذل والمهانة بأيدي المؤمنين، فقتله الله بأيديهم يوم بدر. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، له: في الدنيا خزي قال: قتل يوم بدر. ] وقوله: ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق يقول تعالى ذكره: ونحرقه يوم القيامة بالنار. وقوله: ذلك بما قدمت يداك يقول جل ثناؤه: ويقال له إذا أذيق عذاب النار يوم القيامة: هذا العذاب الذي نذيقكه اليوم بما قدمت يداك في الدنيا من الذنوب والآثام واكتسبته فيها من الاجرام. وإن الله ليس بظلام للعبيد يقول: وفعلنا ذلك لان الله ليس بظلام للعبيد فيعاقب بعض عبيده على جرم وهو يعفو مثله عن آخر غيره، أو يحمل ذنب مذنب على غير مذنب فيعاقبه به ويعفو عن صاحب الذنب ولكنه لا يعاقب أحدا إلا على جرمه ولا يعذب أحدا على ذنب يغفر مثله لآخر إلا بسبب استحق به منه مغفرته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 161 ]
* (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) *. يعني جل ذكره بقوله: ومن الناس من يعبد الله على حرف أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله (ص)، مهاجرين من باديتهم، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الاسلام أقاموا على الاسلام، وإلا ارتدوا على أعقابهم فقال الله: ومن الناس من يعبد الله على شك، فإن أصابه خير اطمأن به وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطمأن به يقول: استقر بالاسلام وثبت عليه. وإن أصابته فتنة وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا انقلب على وجهه يقول: ارتد فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ومن الناس من يعبد الله على حرف... إلى قوله: انقلب على وجهه قال: الفتنة البلاء، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن إليه وقال: ما أصبت منذ كنت علي ديني هذا إلا خيرا وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرا وذلك الفتنة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن أبي بكر، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قول الله: ومن الناس من يعبد الله على حرف قال: على شك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: علحرف قال: على شك. فإن أصابه خير رخاء وعافية اطمأن به: استقر. وإن أصابته فتنة عذاب ومصيبة انقلب ارتد على وجهه كافرا.
[ 162 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. قال ابن جريج: كان ناس من قبائل العرب وممن حولهم من أهل القرى يقولون: نأتي محمدا (ص)، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه، وإلا لحقنا بأهلنا. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: من يعبد الله على حرف قال: شك. فإن أصابه خير يقول: أكثر ماله وكثرت ماشيته اطمأن قال: لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير وإن أصابته فتنة يقول: وإن ذهب ماله، وذهبت ماشيته انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية، كان ناس من قبائل العرب وممن حول المدينة من القرى كانوا يقولون: نأتي محمدا (ص) فننظر في شأنه، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا. وكانوا يأتونه فيقولون: نحن على دينك فإن أصابوا معيشة ونتجوا خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان، اطمأنوا وقالوا: هذا دين صدق وإن تأخر عنهم الرزق وأزلقت خيولهم وولدت نساؤهم البنات، قالوا: هذا دين سوء فانقلبوا على وجوههم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة قال: هذا المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه. وإذا أصابته شدة أو فتنة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر. ] وقوله: خسر الدنيا والآخرة يقول: غبن هذا الذي وصف جل ثناؤه صفته دنياه لانه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك، ووضع في تجارته فلم يربح والآخرة يقول: وخسر الآخرة، فإنه معذب فيها بنار الله الموقدة. وقوله: ذلك هو
[ 163 ]
الخسران المبين يقول: وخسارته الدنيا والآخرة هي الخسران، يعني الهلاك. المبين يقول: يبين لمن فكر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والآخرة. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء الامصار جميعا غير حميد الاعرج: خسر الدنيا والآخرة على وجه المضي. وقرأه حميد الاعرج: خاسرا نصبا على الحال على مثال فاعل. القول في تأويل قوله تعالى: * (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد) *. يقول تعالى ذكره: وإن أصابت هذا الذي يعبد الله على حرف فتنة، ارتد عن دين الله، يدعو من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها في الدنيا ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. ذلك هو الضلال البعيد يقول: ارتداده ذلك داعيا من دون الله هذه الآلهة هو الاخذ على غير استقامة والذهاب عن دين الله ذهابا بعيدا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه يكفر بعد إيمانه ذلك هو الضلال البعيد. القول في تأويل قوله تعالى: * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) *. يقول تعالى ذكره: يدعو هذا المنقلب على وجهه من إن أصابته فتنة آلهة لضرها في الآخرة له، أقرب وأسرع إليه من نفعها. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه: يدعو من ضره أقرب من نفعه. واختلف أهل العربية في موضع من، فكان بعض نحويي البصرة يقول: موضعه نصب ب يدعو، ويقول: معناه: يدعو لآلهة ضرها أقرب من نفعها، ويقول: هو شاذ لانه لم يوجد في الكلام: يدعو لزيدا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: اللام من صلة ما بعد من كأن معنى الكلام عنده: يدعو من لضره أقرب من نفعه وحكي عن العرب سماعا منها: عندي لما غيره خير منه، بمعنى: عندي ما لغيره خير منه وأعطيتك لما غيره خير
[ 164 ]
منه، بمعنى: ما لغيره خير منه. وقال: جائز في كل ما لم يتبين فيه الاعراب الاعتراض باللام دون الاسم. وقال آخرون منهم: جائز أن يكون معنى ذلك: هو الضلال البعيد يدعو فيكون يدعو صلة الضلال البعيد، وتضمر في يدعو الهاء ثم تستأنف الكلام باللام، فتقول لمن ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى كقولك في الكلام في مذهب الجزاء: لما فعلت لهو خير لك. فعلى هذا القول من في موضع رفع بالهاء في قوله ضره، لان من إذا كانت جزاء فإنما يعربها ما بعدها، واللام الثانية في لبئس المولى جواب اللام الاولى. وهذا القول الآخر على مذهب العربية أصح، والاول إلى مذهب أهل التأويل أقرب. وقوله: لبئس المولى يقول: لبئس ابن العم هذا الذي يعبد الله على حرف. ولبئس العشير يقول: ولبئس الخليط المعاشر والصاحب، هو، كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولبئس العشير قال: العشير: هو المعاشر الصاحب. وقد قيل: عني بالمولى في هذا الموضع: الولي الناصر. وكان مجاهد يقول: عني بقوله: لبئس المولى ولبئس العشير الوثن. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ولبئس العشير قال: الوثن. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد) *. يقول تعالى ذكره: إن الله يدخل الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله في الدنيا، وانتهوا عما نهاهم عنه فيها جنات يعني بساتين، تجري من تحتها الانهار يقول: تجري الانهار من تحت أشجارها. إن الله يفعل ما يريد فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته وما شاء من الهوان أهل معصيته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 165 ]
* (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ئ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) *. اختلف أهل التأويل في المعني بالهاء التي في قوله: أن لن ينصره الله. فقال بعضهم: عني بها نبي الله (ص). فتأويله على قوله بعض قائلي ذلك: من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل وهو السبب إلى السماء: يعني سماء البيت، وهو سقفه، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول: هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن علي، قال: ثني أبي، قال: ثني خالد بن قيس، عن قتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه، فليمدد بسبب يقول: بحبل إلى سماء البيت فليختنق به، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه (ص)، فليمدد بسبب يقول: بحبل إلى سماء البيت، ثم ليقطع يقول: ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه. وقال آخرون ممن قال الهاء في ينصره من ذكر اسم رسول الله (ص): السماء التي ذكرت في هذا الموضع هي السماء المعروفة. قالوا: معنى الكلام، ما: حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فقرأ حتى بلغ: هل يذهبن كيده ما يغيظ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه (ص) ويكابد هذا الامر ليقطعه عنه ومنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه، فإن أصله في السماء، فليمدد بسبب إلى السماء، ليقطع عن النبي (ص) الوحي الذي يأتيه من الله، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فكايد
[ 166 ]
ذلك حتى قطع أصله عنه. فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ما دخلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبي (ص) وما ينزل عليه. وقال آخرون ممن قال الهاء التي في قوله: ينصره من ذكر محمد (ص) معنى النصر ها هنا الرزق. فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام: من كان يظن أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا، ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب: من ينصرني نصره الله، بمعنى: من يعطني أعطاه الله. وحكوا أيضا سماعا منهم: نصر المطر أرض كذا: إذا جادها وأحياها. واستشهد لذلك ببيت الفقعسي: وإنك لا تعطي امرأ فوق حظه * ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره ذكر من قال ذلك: حدثني أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ؟ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا، فليربط حبلا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: من كان يظن أن لن ينصره الله قال: أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء والسبب: الحبل، والسماء:
[ 167 ]
سقف البيت فليعلق حبلا في سماء البيت ثم ليختنق فلينظر هل يذهبن كيده هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، مثله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء قال: سماء البيت. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت التميمي، يقول: سألت ابن عباس، فذكر مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة... إلى قوله: ما يغيظ قال: السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به، قال: فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله وقال آخرون: الهاء في ينصره من ذكر من. وقالوا: معني الكلام: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ، أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله أن لن ينصره الله قال: يرزقه الله. فليمدد بسبب قال: بحبل إلى السماء سماء ما فوقك. ثم ليقطع ليختنق، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: من كان يظن أن لن ينصره الله يرزقه الله. فليمدد بسبب إلى السماء قال: بحبل إلى السماء.
[ 168 ]
قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: إلى السماء إلى سماء البيت. قال ابن جريج: وقال مجاهد: ثم ليقطع قال: ليختنق، وذلك كيده ما يغيظ قال: ذلك خنقه أن لا يرزقه الله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فليمدد بسبب يعني: بحبل. إلى السماء يعني: سماء البيت. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: سئل عكرمة عن قوله: فليمدد بسبب إلى السماء قال: سماء البيت. ثم ليثقطع قال: يختنق. وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبي الله (ص) ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه وأنهم يرتدون عن دينهم لشدة تصيبهم فيها، ثم أتبع ذلك هذه الآية فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين أو على شكهم فيه نفاقهم، استبطاء منهم السعة في العيش أو السبوغ في الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم، فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا (ص) وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سني عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه: إما سقف بيت، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فاستعجل انكشاف ذلك عنه، فلينظر هل يذهبن كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ؟ فإن لم يذهب ذلك غيظه، حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يؤخر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجل قبل حينه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، تباطئوا عن الاسلام، وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد (ص) فينقطع الذي يننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يرووننا فقال الله تبارك وتعالى لهم: من استعجل من الله نصر محمد، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه.
[ 169 ]
واختلف أهل العربية في ما التي في قوله: ما يغيظ فقال بعض نحويي البصرة هي بمعنى الذي، وقال: معنى الكلام: هل يذهبن كيده الذي يغيظه. قال: وحذفت الهاء لانها صلة الذي، لانه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف. وقال غيره: بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء، هل يذهبن كيده غيظه. وقوله: وكذلك أنزلناه آيات بينات يقول تعالى ذكره: وكما بينت لكم حججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه فأوضحتها أيها الناس، كذلك أنزلنا إلى نبينا محمد (ص) هذا القرآن آيات بينات، يعني دلالات واضحات، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحق. وأن الله يهدي من يريد يقول جل ثناؤه: ولان الله يوفق للصواب ولسبيل الحق من أراد، أنزل هذا القرآن آيات بينات وأن في موضع نصب. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد) *. يقول تعالى ذكره: إن الفصل بين هؤلاء المنافقين الذين يعبدون الله على حرف، والذين أشركوا بالله فعبدوا الاوثان والاصنام، والذين هادوا، وهم اليهود والصابئين والنصارى والمجوس الذي عظموا النيران وخدموها، وبين الذين آمنوا بالله ورسله إلى الله، وسيفصل بينهم يوم القيامة بعدل من القضاء وفصله بينهم إدخاله النار الاحزاب كلهم والجنة المؤمنين به وبرسله فذلك هو الفصل من الله بينهم. وكان قتادة يقول في ذلك، ما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فقوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركو قال: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرءون الزبور. والمجوس: يعبدون الشمس والقمر والنيران. والذين أشركوا: يعبدون الاوثان. والاديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. وأدخلت إن في خبر إن الاولى لما ذكرت من المعنى، وأن الكلام بمعنى الجزاء، كأنه قيل: من كان على دين من هذه الاديان ففصل ما بينه وبين من خالفه على
[ 170 ]
الله. والعرب تدخل أحيانا في خبر إن إن إذا كان خبر الاسم الاول في اسم مضاف إلى ذكره، فتقول: إن عبد الله إن الخير عنده لكثير، كما قال الشاعر. إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم وكان الفراء يقول: من قال هذا لم يقل: إنك إنك قائم، ولا إن إياك إنه قائم لان الاسمين قد اختلفا، فحسن رفض الاول، وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ، فحسن للاختلاف وقبح للاتفاق. ] وقوله: إن الله على كل شئ شهيد يقول: إن الله على كل شئ من أعمال هؤلاء الاصناف الذين ذكرهم الله جل ثناؤه، وغير ذلك من الاشياء كلها شهيد لا يخفى عنه شئ من ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الارض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال، والشجر، والدواب في الارض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس وحين تزول إذا تحول ظل كل شئ فهو سجوده. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب قال: ظلال هذا كله. وأما سجود الشمس والقمر والنجوم، فإنه كما:
[ 171 ]
حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، قالا: ثنا عوف، قال: سمعت أبا العالية الرياحي يقول: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له وقوله: وكثير من فيأخذ ذات اليمين وزاد محمد: حتى يرجع إلى مطلعه الناس يقول: ويسجد كثير من بني آدم، وهم المؤمنون بالله. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وكثير من الناس قال: المؤمنون. وقوله: وكثير حق عليه العذاب يقول تعالى ذكره: وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله ظله. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وكثير حق عليه العذاب وهو يسجد مع ظله. فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد، وقع قوله: وكثير حق عليه العذاب بالعطف على قوله: وكثير من الناس ويكون داخلا في عداد من وصفه الله بالسجود له، ويكون قوله: حق عليه العذاب من صلة كثير، ولو كان الكثير الثاني ممن لم يدخل في عداد من وصفه بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله: حق عليه العذاب وكان معنى الكلام حينئذ: وكثير أتى السجود، لان قوله: حق عليه العذاب يدل على معصية الله وإبائه السجود، فاستحق بذلك العذاب. يقول تعالى ذكره: ومن يهنه الله من خلقه فيشقه، فما له من مكرم بالسعادة يسعده بها لان الامور كلها بيد الله، يوفق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء، ويشقي من أراد ويسعد من أحب. وقوله إن الله يفعل ما يشاء يقول تعالى ذكره: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لان الخلق خلقه والامر أمره. لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأه: فما له من مكرم بمعنى: فما من
[ 172 ]
إكرام، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لاجماع الحجة من القراء على خلافه. القول في تأويل قوله تعالى: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) *. اختلف أهل التأويل في المعني بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله، فقال بعضهم: أحد الفريقين: أهل الايمان، والفريق الآخر: عبدة الاوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجاز، عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية: هذان خصمان اختصموا في ربهم نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. قال: وقال علي: إني لاول أو من أول من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجاز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذر يقسم بالله قسما لنزلت هذه الآية في ستة من قريش: حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة هذان خصمان اختصموا في ربهم... إلى آخر الآية: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات... إلى آخر الآية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجاز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذر يقسم، ثم ذكر نحوه.
[ 173 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، قال: نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر: هذان خصمان اختصموا في ربهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هؤلاء الآيات: هذان خصمان اختصموا في ربهم في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. إلى قوله: وهدوا إلى صراط الحميد. قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: والله لانزلت هذه الآية: هذان خصمان اختصموا في ربهم في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة رحمة الله عليهم، وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة. وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الايمان: بل الفريق الآخر أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: هذان خصمان اختصموا في ربهم قال: هم أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد (ص)، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم. وقال آخرون منهم: بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أي ملة كانوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعطاء بن أبي رياح وأبي قزعة، عن الحسين، قال: هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: مثل
[ 174 ]
الكافر والمؤمن قال ابن جريج: خصومتهم التي اختصموا في ربهم، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في: هذان خصمان اختصموا في ربهم قال: أهل الشرك والاسلام حين اختصموا أيهم أفضل، قال: جعلا الشرك ملة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: هذان خصمان اختصموا في ربهم قال: مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث. وقال آخرون: الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية: الجنة والنار. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة: هذان خصمان اختصموا في ربهم قال: هما الجنة والنار اختصمتا، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته فقد قص الله عليك من خبرهما ما تسمع. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين. وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لانه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حق عليه العذاب، فقال: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر ثم قال: وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار وقال الله: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار فكان بينا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر في قوله: إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه ولكن الآية قد تنزل بسبب من الاسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب. وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له، فكل
[ 175 ]
كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لاهل الايمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الايمان منهما في أنه لاهل الشرك خصم. فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إيا على دينه. وقوله: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار قال: الكافر قطعت له ثياب من نار، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الانهار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار قال: ثياب من نحاس، وليس شئ من الآنية أحمى وأشد حرا منه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكفار قطعت لهم ثياب من نار، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الانهار. وقوله: يصب من فوق رؤسهم الحميم يقول: يصب على رؤسهم ماء مغلي. كما: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: ثنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد، عن أبي السمح، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، قال: إن الحميم ليصب على رؤسهم، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفحتى يبلغ قدميه، وهي الصهر، ثم يعاد كما كان.
[ 176 ]
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سعيد بن زيد، عن أبي السمح، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) بمثله، إلا أنه قال: فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه. وكان بعضهم يزعم أن قوله: ولهم مقامع من حديد من المؤخر الذي معناه التقديم، ويقول: وجه الكلام: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصب من فوق رؤسهم الحميم ويقول: إنما وجب أن يكون ذلك كذلك، لان الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه، ثم يصب فيه الحميم الذي انتهى حره فيقطع بطنه. والخبر عن رسول الله (ص) الذي ذكرنا، يدل على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه (ص) أخبر أن الحميم إذا صب على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صب الحميم عليها، لم يكن لقوله (ص): إن الحميم ينفذ الجمجمة معنى ولكن الامر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل. وقوله: يصهر به ما في بطونهم والجلود يقول: يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤسهم ما في بطونهم من الشحوم، وتشوى جلودهم منه فتتساقط. والصهر: هو الاذابة، يقال منه: صهرت الالية بالنار: إذا أذبتها أصهرها صهرا ومنه قول الشاعر. تروي لقى ألقي في صفصف * تصهره الشمس ولا ينصهر ومنه قول الراجز:. شك السفافيد الشواء المصطهر وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني
[ 177 ]
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يصهر به قال: يذاب إذابة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جريج يصهر به: قال: ما قطع لهم من العذاب. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: يصهر به ما في بطونهم قال: يذاب به ما في بطونهم. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار... إلى قوله: يصهر به ما في بطونهم والجلود يقول: يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال: قال هارون: إذا عام أهل النار وقال جعفر: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم يعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش، فيستغيثوا، فيغاثوا بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر به ما في بطونهم يعني أمعاءهم، وتساقط جلودهم، ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حاله، يدعون بالويل والثبور. وقوله: ولهم مقامع من حديد تضرب رؤسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها. وقوله: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها يقول: كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب، ردوا إليها. كما:
[ 178 ]
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الاعمش، عن أبي ظبيان، قال: النار سوداء مظلمة لا يضئ لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع: ذوقوا عذاب الحريق. وعني بقوله: ذوقوا عذاب الخريق ويقال لهم ذوقوا عذاب النار، وقيل عذاب الحريق والمعنى: المحرق، كما قيل: العذاب الاليم، بمعنى: المؤلم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ئ وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) *. يقول تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الاعمال، فإن الله يدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار، فيحليهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا. واختلفت القراء في قراءة قوله: ولؤلؤا فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة نصبا مع التي في الملائكة، بمعنى: يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا، عطفا باللؤلؤ على موضع الاساور لان الاساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول من فيها، فإنها بمعنى النصب قالوا: وهي تعد في خط المصحف بالالف، فذلك دليل على صحة القراءة بالنصب فيه. وقرأت ذلك عامة قراء العراق والمصرين: ولؤلؤ خفضا عطفا على إعراب الاساور الظاهر. واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك في وجه إثبات الالف فيه، فكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه يقول: أثبتت فيه كما أثبتت في قالوا وكالوا. وكان الكسائي يقول: أثبتوها فيه للهمزة، لان الهمزة حرف من الحروف. والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، متفقتا المعنى صحيحتا المخرج في العربية فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. ]
[ 179 ]
وقوله: ولباسهم فيها حرير يقول: ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير. وقوله: وهدوا إلى الطيب من القول يقول تعالى ذكره: وهداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله: وهدوا إلى الطيب من القول قال: هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله قال الله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه. حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وهدوا إلى الطيب من القول قال: ألهموا. وقوله: وهدوا إلى صراط الحميد يقول جل ثناؤه: وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الرب الحميد، وطريقه: دينه دين الاسلام الذي شرعه لخلقه وأمرهم أن يسلكوه والحميد: فعيل، صرف من مفعول إليه، ومعناه: أنه محمود عند أوليائه من خلقه، ثم صرف من محمود إلى حميد. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *. يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ويصدون عن سبيل الله يقول: ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض سواء العاكف فيه والباد يقول: معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام، وقضاء نسكه به، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه، وهو المقيم به والباد: وهو المنتاب إليه من غيره.
[ 180 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه والباد، في أنه ليس أحدهما بأحق بالمنزل فيه من الآخر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن سابط، قال: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل. ففشا فيهم السرق، وكل إنسان يسرق من ناحيته، فاصطنع رجل بابا، فأرسل إليه عمر: أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال: لا، إنما جعلته ليحرز متاعهم. وهو قوله: سواء العاكف فيه والباد قال: الباد فيه كالمقيم، ليس أحد أحق بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، قال: قلت لسعيد بن جبير: أعتكف بمكة ؟ قال: أنت عاكف. وقرأ: سواء العاكف فيه والباد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عمن ذكره، عن أبي صالح: سواء العاكف فيه والباد العاكف: أهله، والباد: المنتاب في المنزل سواء. حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: سواء العاكف فيه والباد يقول: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: سواء العاكف فيه والباد قال: العاكف فيه: المقيم بمكة والباد: الذي يأتيه هم في سواء في البيوت. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: سواء العاكف فيه والباد سواء فيه أهله وغير أهله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا ابن حميد، قال ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: سواء العاكف فيه والباد قال: أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء.
[ 181 ]
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: سواء العاكف فيه قال: الساكن، والباد الجانب سواء حق الله عليهما فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: سواء العاكف فيه قال: الساكن والبا: الجانب. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعطاء: سواء العاكف فيه قالا: من أهله، والباد الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك لان الله تعالى ذكره ذكر في أول الآية صد من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام، فقال: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ثم ذكر جل ثناؤه صفة المسجد الحرام، فقال: الذي جعلناه للناس فأخبر جل ثناؤه أنه جعله للناس كلهم، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه. ثم قال: سواء العاكف فيه والباد فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدوا عنه المؤمنين به وذلك لا شك طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم. وقيل: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله فعطف ب يصدون وهو مستقبل على كفروا وهو ماض، لان الصد بمعنى الصفة لهم والدوام. وإذا كان ذلك معنى الكلام، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال، ولا يكون بلفظ الماضي. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إن الذين كفروا من صفتهم الصد عن سبيل الله، وذلك نظير قول الله: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. وأما قوله: سواء العاكف فيه فإن قراء الامصار على رفع سواء ب العاكف، والعاكف به، وإعمال جعلناه في الهاء المتصلة به، واللام التي في قوله للناس، ثم استأنف الكلام ب سواء وكذلك تفعل العرب ب سواء إذا جاءت بعد حرف قد تم الكلام به، فتقول: مررت برجل سواء عنده الخير والشر، وقد يجوز في ذلك الخفض. وإنما يختار الرفع في ذلك لان
[ 182 ]
سواء في مذهب واحد عندهم، فكأنهم قالوا: مررت برجل واحد عنده الخير والشر. وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشر، ومن قال ذلك في سواء فاستأنف به ورفع لم يقله في معتدل، لان معتدل فعل مصرح، وسواء مصدر فاخراجهم إياه إلى الفعل كاخراجهم حسب في قولهم: مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل. وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه: سواء نصبا على إعمال جعلناه فيه، وذلك وإن كان له وجه في العربية، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لاجماع الحجة من القراء على خلافه. ] وقوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم يقول تعالى ذكره: ومن يرد فيه بإلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم. وأدخلت الباء في قوله بإلحاد والمعنى فيه ما قلت، كما أدخلت في قوله: تنبت بالدهن والمعنى: تنبت الدهن، كما قال الشاعر: بواد يمان ينبت الشث صدره * وأسفله بالمرخ والشبهان والمعنى: وأسفله ينبت المرخ والشبهان وكما قال أعشى بني ثعلبة: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا * بين المراجل والصريج الاجرد
[ 183 ]
بمعنى: ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين. وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول: أدخلت الباء فيه، لان تأويله: ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم. وكان يقول: دخول الباء في أن أسهل منه في إلحاد وما أشبهه، لان أن تضمر الخوافض معها كثيرا وتكون كالشرط، فاحتملت دخول الخافض وخروجه لان الاعراب لا يتبين فيها، وقال في المصادر: يتبين الرفع والخفض فيها، قال: وأنشدني أبو الجراح: فلما رجت بالشرب هز لها العصا * شحيح له عند الاداء نهيم وقال امرؤ القيس: ألا هل أتاها والحوادث جمة * بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا قال: فأدخل الباء على أن وهي في موضع رفع كما أدخلها على إلحاد وهو في موضع نصب. قال: وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر، كما قال الشاعر: ألم يأتيك والانباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد
[ 184 ]
وقال: وهو في ما أقل منه في أن، لان أن أقل شبها بالاسماء من ما. قال: وسمعت أعرابيا من ربيعة، وسألته عن شئ، فقال: أرجو بذاك يريد أرجو ذاك. واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الالحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الاليم، فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي بالبيت ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ومن يرد فيه بالحاد بظلم يقول: بشرك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم هو أن يعبد فيه غير الله. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال: هو الشرك، من أشرك في بيت الله عذبه الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، مثله وقال آخرون: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال: يعمل فيه عملا سيئا.
[ 185 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الاودي قالا: ثنا المحاربي، عن سفيان عن السدي، عن مرة عن عبد الله، قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت، لاذاقه الله من العذاب الاليم. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا شعبة، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله قال مجاهد، قال يزيد، قال لنا شعبة، رفعه، وأنا لا أرفعه لك في قول الله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال: لو أن رجلا هم فيه بسيئة وهو بعدن أبين، لاذاقه الله عذابا أليما. حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها، فتكتب عليه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال: الالحاد: الظلم في الحرم. وقال آخرون: بل معنى ذلك الظلم: استحلال الحرم متعمدا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: بإلحاد بظلم قال: الذي يريد استحلاله متعمدا، ويقال الشرك. وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بمكة. ذكر من قال ذلك: حدثني هارون بن إدريس الاصم، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن أشعث، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم قال: هم المحتكرون الطعام بمكة.
[ 186 ]
وقال آخرون: بل ذلك كل ما كان منهيا عنه من الفعل، حتى قول القائل: لا والله، وبلى والله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان له فسطاطان: أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فسئل عن ذلك، فقال: كنا نحدث أن من الالحاد فيه أن يقول الرجل: كلا والله، وبلى والله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن أبي ربعي، عن الاعمش، قال: كان عبد الله بن عمرو يقول: لا والله وبلى والله من الالحاد فيه. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس، من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله وذلك أن الله عم بقوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصى الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له. وقد ذكر عن بعض القراء أنه كان يقرأ ذلك: ومن يرد فيه بفتح الياء، بمعنى: ومن يرده بإلحاد من وردت المكان أرده. وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القراء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن يرد فعل واقع، يقال منه: هو يرد مكان كذا أو بلدة كذا غدا، ولا يقال: يرد في مكان كذا. وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب أن طيئا تقول: رغبت فيك، تريد: رغبت بك، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا: وأرغب فيها عن لقيط ورهطه * ولكنني عن سنبس لست أرغب بمعنى: وأرغب بها. فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا، فإنه يجوز في الكلام، فأما القراءة به غير جائزة لما وصفت. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) *.
[ 187 ]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص)، معلمه عظيم ما ركب قومه من قريش خاصة دون غيرهم من سائر خلقه بعبادتهم في حرمه، والبيت الذي أمر إبراهيم خليله (ص) ببنائه وتطهيره من الآفات والريب والشرك: واذكر يا محمد كيف ابتدأنا هذا البيت الذي يعبد قومك فيه غيري، إذ بوأنا لخليلنا إبراهيم، يعني بقوله: بوأنا: وطأنا له مكان البيت. كما: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة، قوله: وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت قال: وضع الله البيت مع آدم () حين أهبط آدم إلى الارض وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الارض، فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا. وإن آدم لما فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، شكا ذلك إلى الله، فقال الله: يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا يطاف به كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى حول عرشي، فانطلق إليه فخرج إليه، ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك حتى أتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الانبياء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول، واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الاساس فذلك حين يقول: وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت. ويعني بالبيت: الكعبة، أن لا تشرك بي شيئا في عبادتك إياي، وطهر بيتي الذي بنيته من عبادة الاوثان. كما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن سفيان عن ليث، عن مجاهد، في قوله: وطهر بيتي قال: من الشرك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: من الآفات والريب.
[ 188 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: طهرا بيتي قال: من الشرك وعبادة الاوثان. وقوله: للطائفين يعني للطائفين به. والقائمين بمعنى المصلين الذين هم قيام في صلاتهم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عطاء في قوله: وطهر بيتي للطائفين والقائمين قال: القائمون في الصلاة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: والقائمين قال: القائمون المصلون. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: والقائمين والركع السجود قال: القائم والراكع والساجد هو المصلي، والطائف هو الذي يطوف به. وقوله: والركع السجود يقول: والركع السجود في صلاتهم حول البيت. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ئ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ئ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) *. يقول تعالى ذكره: عهدنا إليه أيضا أن أذن في الناس بالحج يعني بقوله: وأذن أعلم وناد في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام. يأتوك رجالا يقول: فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجه مشاة على أرجلهم، وعلى كل ضامر يقول: وركبانا على كل ضامر، وهي الابل المهازيل. يأتين من كل فج عميق يقول: تأتي هذه الضوامر من كل فج عميق يقول: من كل طريق ومكان ومسلك بعيد. وقيل: يأتين، فجمع لانه أريد بكل ضامر: النوق. ومعنى الكل: الجمع، فلذلك قيل: يأتين. وقد زعم الفراء أنه قليل في كلام العرب: مررت على كل رجل قائمين قال: وهو صواب،
[ 189 ]
وقول الله: وعلى كل ضامر يأتين ينبئ عن صحة جوازه. وذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه لما أمره الله بالتأذين بالحج، قام على مقامه فنادى: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق. وقد اختلف في صفة تأذين إبراهيم بذلك. فقال بعضهم: نادى بذلك، كما: حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج قال: رب وما يبلغ صوتي ؟ قال: أذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحجوا قال: فسمعه ما بين السماء والارض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الارض يلبون ؟ حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما بنى إبراهيم البيت أوحى الله إليه، أن أذن في الناس بالحج قال: فقال إبراهيم: ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا، وأمركم أن تحجوه، فاستجاب له ما سمعه من شئ من حجر وشجر وأكمة أو تراب أو شئ: لبيك اللهم لبيك حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا ابن واقد، عن أبي الزبير، عن مجاهد، عن بن عباس:، قوله: وأذن في الناس بالحج قال: قام إبراهيم خليل الله على الحجر، فنادى: يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا قال: وقرت في قلب كل ذكر وأنثى.
[ 190 ]
حدثني ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، أوحى الله إليه، أن أذن في الناس بالحج قال: فخرج فنادى في الناس: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فلم يسمعه يومئذ من إنس، ولا جن، ولا شجر، ولا أكمة، ولا تراب، ولا جبل، ولا ماء، ولا شئ إلا قال: لبيك اللهم لبيك قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قام إبراهيم على المقام حين أمر أن يؤذن في الناس بالحج. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: وأذن في الناس بالحج قال: قام إبراهيم على مقامه، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا: لبيك اللهم لبيك فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، قام على المقام، فنادى نداء سمعه أهل الارض: إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه قال داود: فأرجوا من حج اليوم من إجابة إبراهيم عليه السلام. حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، قال: قال ابن عباس: هل تدري كيف كانت التلبية ؟ قلت: وكيف كانت التلبية ؟ قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج، خفضت له الجبال رؤسها، ورفعت القرى، فأذن في الناس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قوله: وأذن في الناس بالحج قال إبراهيم: كيف أقول يا رب ؟ قال: قل: يا أيها الناس استجيبوا لربكم قال: وقرت في قلب كل مؤمن. وقال آخرون في ذلك، ما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن
[ 191 ]
مجاهد، قال قيل لابراهيم: أذن في الناس بالحج قال: يا رب كيف أقول ؟ قال قل لبيك اللهم لبيك قال: فكانت أول التلبية. وكان ابن عباس يقول: عني بالناس في هذا الموضع: أهل القبلة. ذكر الرواية بذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وأذن في الناس بالحج يعني بالناس: أهل القبلة، ألم تسمع أنه قال: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا... إلى قوله: ومن دخله كان آمنا يقول: ومن دخله من الناس الذين أمر أن يؤذن فيهم، وكتب عليهم الحج، فإنه آمن، فعظموا حرمات الله تعالى، فإنها من تقوى القلوب. وأما قوله: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: يأتوك رجالا قال: مشاة. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطاة، قال: قال ابن عباس:: ما آسى على شئ فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، سمعت الله يقول: يأتوك رجالا. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس: يأتوك رجالا قال: على أرجلهم.
[ 192 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وعلى كل ضامر قال: الابل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: وعلى كل ضامر قال: الابل. حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، قال: قال مجاهد: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يأتوك رجالا وعلى كل ضامر قال: فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر. وقوله: من كل فج عميق. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: من كل فج عميق يعني: من مكان بعيد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: من كل فج عميق قال: بعيد. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: فج عميق قال: مكان بعيد. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. وقوله: ليشهدوا نافع لهم اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال بعضهم: هي التجارة ومنافع الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: ليشهدوا منافع لهم قال: هي الاسواق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر بن الحكم، عن مجاهد عن ابن عباس، قال: تجارة.
[ 193 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، في قوله: ليشهدوا منافع لهم قال: أسواقهم. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير: ليشهدوا منافع لهم قال: التجارة. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق عن سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن واقد، عن سعيد، مثله. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا سنان، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين: ليشهدوا منافع لهم قال: الاسواق. وقال آخرون: هي الاجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، وسوار بن عبد الله، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ليشهدوا منافع لهم قال: التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: ثنا إسحاق، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: ثنا سفيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ليشهدوا منافع لهم قال: الاجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل هي العفو والمغفرة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر: ليشهدوا منافع لهم قال: العفو.
[ 194 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، قال: قال محمد بن علي: مغفرة. وأولى الاقوال بالصواب قول من قال: عني بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة وذلك أن الله عم منافع لهم جميع ما يشهد له الموسم ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت. وقوله: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام يقول تعالى ذكره: وكي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها من الابل والبقر والغنم، في أيام معلومات وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل. وفي قول بعضهم أيام العشر. وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق. وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك بالروايات، وبينا الاولى بالصواب منها في سورة البقرة، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع غير أني أذكر بعض ذلك أيضا في هذا الموضع. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات يعني أيام التشريق. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: أيام معلومات يعني أيام التشريق، على ما رزقهم من بهيمة الانعام يعني البدن. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: في أيام معلومات قال: أيام العشر، والمعدودات: أيام التشريق. وقوله: فكلوا منها يقول: كلوا من بهائم الانعام التي ذكرتم اسم الله عليها أيها الناس هنالك. وهذا الامر من الله جل ثناؤه أمر إباحة لا أمر إيجاب وذلك أنه لا خلاف بين جميع الحجة أن ذابح هديه أو بدنته هنالك، إن لم يأكل من هديه أو بدنته، أنه لم يضيع
[ 195 ]
له فرضا كان واجبا عليه، فكان معلوما بذلك أنه غير واجب. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلم: حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، قوله: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير قال: كان لا يرى الاكل منها واجبا. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن مجاهد، أنه قال: هي رخصة: إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل، وهي كقوله: وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض يعني قوله: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر. قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: فكلوا منها قال: هي رخصة، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل. قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء في قوله: فكلوا منها قال: هي رخصة، فإن شاء أكلها وإن شاء لم يأكل. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد، في قوله: فكلوا منها قال: إنما هي رخصة. وقوله: وأطعموا البائس الفقير يقول: وأطعموا مما تذبحون أو تنحرون هنالك من بهيمة الانعام من هديكم وبدنكم البائس، وهو الذي به ضر الجوع والزمانة والحاجة، والفقير: الذي لا شئ له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير يعني: الزمن الفقير. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن رجل، عن مجاهد: البائس الفقير: الذي يمد إليك يديه.
[ 196 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: البائس الفقير قال: هو القانع. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، قال: البائس: المضطر الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفف. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: البائس الذي يبسط يديه. وقوله: ثم ليقضوا تفثهميقول: تعالى ذكره: ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم: من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بالبيت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثني يزيد، قال: أخبرنا الاشعث بن سوار، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: ثم ليقضوا تفثهم قال: ما هم عليه في الحج. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، قال: ثني الاشعث، عن نافع، عن ابن عمر، قال: التفث: المناسك كلها. قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه قال، في قوله: ثم ليقضوا تفثهم قال: التفث: حلق الرأس، وأخذ من الشاربين، ونتف الابط، وحلق العانة، وقص الاظفار، والاخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة. حدثنا حميد، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا خالد، عن عكرمة، قال: التفث: الشعر والظفر. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة، مثله.
[ 197 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، أنه كان يقول في هذه الآية: ثم ليقضوا تفثهم: رمي الجمار، وذبح الذبيحة، وأخذ من الشاربين واللحية والاظفار، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: ثم ليقضوا تفثهم قال: هو حلق الرأس. وذكر أشياء من الحج قال شعبة: لا أحفظها. قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم ليقضوا تفثهم قال: حلق الرأس، وحلق العانة، وقص الاظفار، وقص الشارب، ورمي الجمار، وقص اللحية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. إلا أنه لم يقل في حديثه: وقص اللحية. حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا المحاربي، قال: سمعت رجلا يسأل ابن جريج، عن قوله: ثم ليقضوا تفثهم قال: الاخذ من اللحية، ومن الشارب، وتقليم الاظفار، ونتف الابط، وحلق العانة، ورمي الجمار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن الحسن، وأخبرنا جويبر، عن الضحاك أنهما قالا: حلق الرأس. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ثم ليقضوا تفثهم يعني: حلق الرأس. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: التفث: حلق الرأس، وتقليم الظفر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ثم ليقضوا تفثهم يقول: نسكهم.
[ 198 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ثم ليقضوا تفثهم قال: التفث: حرمهم. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ثم ليقضوا تفثهم قال: يعني بالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس، ولبس الثياب، وقص الاظفار ونحو ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، قال: التفث: حلق الشعر، وقص الاظفار والاخذ من الشارب، وحلق العانة، وأمر الحج كله. وقوله: وليوفوا نذورهم يقول: وليوفوا الله بما نذرو من هدي وبدنة وغير ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وليوفوا نذورهم نحر ما نذروا من البدن. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وليوفوا نذورهم نذر الحج والهدي، وما نذر الانسان من شئ يكون في الحج. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وليوفوا نذورهم قال: نذر الحج والهدي، وما نذر الانسان على نفسه من شئ يكون في الحج. وقوله: وليطوفوا بالبيت العتيق يقول: وليطوفوا ببيت الله الحرام. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: العتيق في هذا الموضع، فقال بعضهم: قيل ذلك لبيت الله الحرام، لان الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه. ذكر من قال ذلك:
[ 199 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، أن ابن الزبير، قال: إنما سمي البيت العتيق، لان الله أعتقه من الجبابرة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن الزبير، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إنما سمي العتيق، لانه أعتق من الجبابرة. قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة: وليطوفوا بالبيت العتيق قال: أعتق من الجبابرة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: البيت العتيق قال: أعتقه الله من الجبابرة، يعني الكعبة. وقال آخرون: قيل له عتيق لانه لم يملكه أحد من الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبيد، عن مجاهد، قال: إنما سمي البيت العتيق لانه ليس لاحد فيه شئ. وقال آخرون: سمي بذلك لقدمه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: البيت العتيق قال: العتيق: القديم، لانه قديم، كما يقال: السيف العتيق، لانه أول بيت وضع للناس بناه آدم، وهو أول من بناه، ثم بوأ الله موضعه لابراهيم بعد الغرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل. قال أبو جعفر: ولكا هذه الاقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله: البيت العتيق وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر. غير أن الذي روي عن ابن الزبير أولى بالصحة، إن كان ما: حدثني به محمد بن سهل البخاري، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: أخبرني الليث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن محمد بن عروة،
[ 200 ]
عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله (ص): إنما سمي البيت العتيق لان الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه قط. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال الزهري: بلغنا أن رسول الله (ص) قال: إنما سمي البيت العتيق لان الله أعتقه ثم ذكر مثله. وعني بالطواف الذي أمر جل ثناؤه حاج بيته العتيق به في هذه الآية طواف الافاضة الذي يطاف به بعد التعريف، إما يوم النحر وإما بعده، لا خلاف بين أهل التأويل في ذلك. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك: حد ثنا عمرو بن سعيد القرشي، قال: ثنا الانصاري، عن أشعث، عن الحسن: وليطوفوا بالبيت العتيق قال: طواف الزيارة. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا خالد، قال: ثنا الاشعث، أن الحسن قال في قوله: وليطوفوا بالبيت العتيق قال: الطواف الواجب. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية عن علي، عن ابن عباس، قوله: وليطوفوا بالبيت العتيق يعني: زيارة البيت. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن حجاج وعبد الملك، عن عطاء، في قوله: وليطوفوا بالبيت العتيق قال: طواف يوم النحر. حدثني أبو عبد الرحمن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت زهيرا عن قول الله: وليطوفوا بالبيت العتيق قال: طواف الوداع. واختلف القراء في قراءة هذه الحروف، فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بتسكين اللام في كل ذلك طلب التخفيف، كما فعلوا في هو إذا كانت قبله واو، فقالوا وهو عليم بذات الصدور فسكنوا الهاء، وكذلك يفعلون
[ 201 ]
في لام الامر إذا كان قبلها حرف من حروف النسق كالواو والفاء وثم. وكذلك قرأت عامة قراء أهل البصرة، غير أن أبا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله: ثم ليقضوا خاصة من أجل أن الوقوف على ثم دون ليقضوا حسن، وغير جائز الوقوف على الواو والفاء. وهذا الذي اعتل به أبو عمرو لقراءته علة حسنة من جهة القياس، غير أن أكثر القراء على تسكينها. وأولى الاقوال بالصواب في ذلك عندي، أن التسكين في لام ليقضوا والكسر قراءتان مشهورتان ولغتان سائرتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. غير أن الكسر فيها خاصة أقيس، لما ذكرنا لابي عمرو من العلة، لان من قرأ: وهو عليم بذات الصدور فهو بتسكين الهاء مع الواو والفاء، ويحركها في قوله: ثم هو يوم القيامة من المحضرين فذلك الواجب عليه أن يفعل في قوله: ثم ليقضوا تفثهم فيحرك اللام إلى الكسر مع ثم وإن سكنها في قوله: وليوفوا نذورهم. وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري تحريكها مع ثم والواو، وهي لغة مشهورة، غير أن أكثر القراء مع الواو والفاء على تسكينها، وهي أشهر اللغتين في العرب وأفصحها، فالقراءة بها أعجب إلي من كسرها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور) *. يعني تعالى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت العتيق، هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم. ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه يقول: ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحرمه أن يستحلها، فهو خير له عند ربه في الآخرة. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 202 ]
قال: قال مجاهد، في قوله: ذلك ومن يعظم حرمات الله قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ومن يعظم حرمات الله قال: الحرمات: المشعر الحرام، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام هؤلاء الحرمات. وقوله: وأحلت لكم الانعام يقول جل ثناؤه: وأحل الله لكم أيها الناس الانعام أن تأكلوها إذا ذكيتموها، فلم يحرم عليكم منها بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حاما، ولا ما جعلتموه منها لآلهتكم. إلا ما يتلى عليكم يقول: إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله، وذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب فإن ذلك كله رجس. كما: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: إلا ما يتلى عليكم قال: إلا الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. وقوله: فاجتنبوا الرجس من الاوثان يقول: فاتقوا عبادة الاوثان، وطاعة الشيطان في عبادتها فإنها رجس. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فاجتنبوا الرجس من الاوثان يقول تعالى ذكره: فاجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الاوثان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: الرجس من الاوثان قال: عبادة الاوثان. وقوله: واجتنبوا قول الزور يقول تعالى ذكره: واتقوا قول الكذب والفرية على
[ 203 ]
الله بقولكم في الآلهة: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقولكم للملائكة: هي بنات الله، ونحو ذلك من القول، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: قول الزور قال: الكذب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابجريج، عن مجاهد مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به يعني: الافتراء على الله والتكذيب. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن وائل بن ربيعة، عن عبد الله، قاتعدل شهادة الزور بالشرك. وقرأ: فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم، عن وائل بن ربيعة، قال: عدلت شهادة الزور الشرك. ثم قرأ هذه الآية: فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا سفيان العصفري، عن أبيه، عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله (ص): عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ: فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبو قول الزور.
[ 204 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن سفيان العصفري، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم، أن النبي (ص) قام خطيبا فقال: أيها اناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله مرتين. ثم قرأ رسول الله (ص): فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور. ويجوز أن يكون مرادا به: اجتنبوا أن ترجسوا أنتم أيها الناس من الاوثان بعبادتكم إياها. فإن قال قائل: وهل من الاوثان ما ليس برجس حتى قيل: فاجتنبوا الرجس منها ؟ قيل: كلها رجس. وليس المعنى ما ذهبت إليه في ذلك، وإنما معنى الكلام: فاجتنبوا الرجس الذي يكون من الاوثان أي عبادتها، فالذي أمر جل ثناؤه بقوله: فاجتنبوا الرجس منها اتقاء عبادتها، وتلك العبادة هي الرجس على ما قاله ابن عباس ومن ذكرنا قوله قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) *. يقول تعالى ذكره: اجتنبوا أيها الناس عبادة الاوثان، وقول الشرك، مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له، وإفراد الطاعة والعبادة له خالصا دون الاوثان والاصنام، غير مشركين به شيئا من دونه فإنه من يشرك بالله شيئا من دونه فمثله في بعده من الهدى وإصابة الحق وهلاكه وذهابه عن ربه، مثل من خر من السماء فتخطفه الطير فهلك، أو هوت به الريح في مكان سحيق، يعني من بعيد، من قولهم: أبعده الله وأسحقه، وفيه لغتان: أسحقته الريح وسحقته، ومنه قيل للنخلة الطويلة: نخلة سحوق ومنه قول الشاعر: كانت لنا جارة فأزعجها * قاذورة تسحق النوى قدما
[ 205 ]
ويروى: تسحق. يقول: فهكذا مثل المشرك بالله في بعده من ربه ومن إصابة الحق، كبعد هذا الواقع من السماء إلى الارض، أو كهلاك من اختطفته الطير منهم في الهواء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فكأنما خر من السماء قال: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهدى وهلاكه فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: في مكان سحيق قال: بعيد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقيل: فتخطفه الطير وقد قيل قبله: فكأنما خر من السماء وخر فعل ماض، وتخطفه مستقبل، فعطف بالمستقبل على الماضي، كما فعل ذلك في قوله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله وقد بينت ذلك هناك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *. يقول تعالى ذكره: هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الاوثان واجتناب قول الزور، حنفاء لله، وتعظيم شعائر الله، وهو استحسان البدن واستسمانها وأداء مناسك الحج على ما أمر الله جل ثناؤه، من تقوى قلوبكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 206 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا محمد بن زياد، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب قال: استعظامها، واستحسانها، واستسمانها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد ابن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، في قوله: ومن يعظم شعائر الله قال: الاستسمان والاستعظام. وبه عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: والاستحسان. حدثنا عبد الحميد بن بيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ومن يعظم شعائر الله قال: استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قال: الوقوف بعرفة من شعائر الله، وبجمع من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، والبدن من شعائر الله، ومن يعظمها فإنها من شعائر الله في قوله: ومن يعظم شعائر الله فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ومن يعظم شعائر الله قال: الشعائر: الجمار، والصفا والمروة من شعائر الله، والمشعر الحرام والمزدلفة، قال: والشعائر تدخل في الحرم، هي شعائر، وهي حرم. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره، وهي ما جعله أعلاما لخلقه فيما تعبدهم به من مناسك حجهم، من الاماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها والاعمال التي ألزمهم عملها في حجهم: من تقوى قلوبهم لم يخصص من ذلك شيئا، فتعظيم كل ذلك من تقوى القلوب، كما قال جل
[ 207 ]
ثناؤه وحق على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك. وقال: إنها من تقوى القلوب وأنث ولم يقل: فإنه، لانه أريد بذلك. فإن تلك التعظيمة مع اجتناب الرجس من الاوثان من تقوى القلوب، كما قال جل ثناؤه: إن ربك من بعدها لغفور رحيم. وعني بقوله: فإنها من تقوى القلوب فإنها من وجل القلوب من خشية الله، وحقيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده. القول في تأويل قوله تعالى: * (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق) *. اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الآية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جل ثناؤه في قوله: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فقال الذين قالوا عني بالشعائر البدن. معنى ذلك: لكم أيها الناس في البدن منافع. ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع، وفي الاجل الذي قال عز ذكره: إلى أجل مسمى فقال بعضهم: الحال التي أخبر الله جل ثناؤه أن لهم فيها منافع، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلدها. قالوا: ومنافعها في هذه الحال: شرب ألبانها، وركوب ظهورها، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها. قالوا: والاجل المسمى الذي أخبر جل ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليه، هو إلى إيجابهم إياها، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شئ. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: ما لم يسم بدنا. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: الركوب واللبن والولد، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
[ 208 ]
الحكم، عن مجاهد، في هذه الآية: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها، حتى تصير بدنا. قال: ثنا ابن عدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، بمثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: في أشعارها وأوبارها وألبانها، قبل أن تسميها بدنة. قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، وزاد فيه: وهي الاجل المسمى. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء أنه قال في قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق قال: منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها، إلى أجل مسمى: إلى أن تقلد. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثل ذلك. حدثني يعقوب، قال: قال ابن علية: سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: إلى أن توجبها بدنة. قال: ثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن قتادة: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى يقول: في ظهورها وألبانها، فإذا قلدت فمحلها إلى البيت العتيق. وقال آخرون ممن قال الشعائر البدن في قوله: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب والهاء في قوله: لكم فيها من ذكر الشعائر، ومعنى قوله: لكم فيها منافع لكم في الشعائر إلتى تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هدايا، بأن تركبوا
[ 209 ]
ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها. قالوا: والاجل المسمى الذي قال جل ثناؤه: إلى أجل مسمى إلى أن تنحر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: هو ركوب البدن، وشرب لبنها إن احتاج. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبي رباح في قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: إلى أن تنحر، قال: له أن يحمل عليها المعيي والمنقطع به من الضرورة، كان النبي (ص) يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب عند منهوكه. قلت لعطاء: ما ؟ قال: الرجل الراجل، والمنقطع به، والمتبع وإن نتجت، أن يحمل عليها ولدها، ولا يشرب من لبنها إلا فضلا عن ولدها، فإن كان في لبنها فضل فليشرب من أهداها ومن لم يهدها. وأما الذين قالوا: معنى الشعائر في قوله: ومن يعظم شعائر الله: شعائر الحج، وهي الاماكن التي ينسك عندها لله، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله: لكم فيها منافع فقال بعضهم: معنى ذلك: لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوقكم. والاجل المسمى: الخروج من الشعائر إلى غيرها ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم. حدثني الحسن بن علي الصدائي، قال: ثنا أبو أسامة عن سليمان الضبي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن ابن عباس، في قوله: لكم فيها منافع قال: أسواقهم، فإنه لم يذكر منافع إلا للدنيا. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال: والاجل المسمى: الخروج منه إلى غيره. وقال آخرون منهم: المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع: العمل لله بما أمر من مناسك الحج. قالوا: والاجل المسمى: هو انقضاء أيام الحج التي ينسك لله فيهن. ذكر من قال ذلك:
[ 210 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق فقرأ قول الله: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم في تلك الشعائر منافع إلى أجل مسمى، إذا ذهبت تلك الايام لم تر أحدا يأتي عرفة يقف فيها يبتغي الاجر، ولا المزدلفة، ولا رمي الجمار، وقد ضربوا من البلدان لهذه الايام التي فيها المنافع، وإنما منافعها إلى تلك الايام، وهي الاجل المسمى، ثم محلها حين تنقضي تلك الايام إلى البيت العتيق. قال أبو جعفر: وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره: ومن يعظم شعائر الله معني به: كل ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حج خلقه، إذ لم يخصص من ذلك جل ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل. وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى، فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها، وما كان منها أوقاتا بأن يطاع الله فيها بعمل أعمال الحج وبطلب المعاش فيها بالتجارة، إلى أن يطاف بالبيت في بعض، أو يوافي الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض. وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى في تأويل قوله: ثم محلها إلى البيت العتيق فقال الذين قالوا عني بالشعائر في هذا الموضع البدن: معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة، وهي التي بها البيت العتيق. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء: ثم محلها إلى البيت العتيق إلى مكة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم محلها إلى البيت العتيق يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ثم محلها حين تسمى هديا إلى البيت العتيق، قال: الكعبة أعتقها من
[ 211 ]
الجبابرة. فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى ثم منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم. وقالوا: عني بالبيت العتيق أرض الحرم كلها. وقالوا: وذلك نظير قوله: فلا يقربوا المسجد الحرام والمراد: الحرم كله. وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى: ثم محلها إلى البيت العتيق قال: محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت. وقال آخرون: معنى ذلك: ثم محل منافع أيام الحج إلى البيت العتيق بانقضائها. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ثم محلها إلى البيت العتيق حين تنقضي تلك الايام، أيام الحج إلى البيت العتيق. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ثم محل الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم، وما كان من نسك فالطواف بالبيت. وقد بينا الصواب في ذلك من القول عندنا في معنى الشعائر. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) *. يقول تعالى ذكره: ولكل أمة ولكل جماعة سلف فيكم من أهل الايمان بالله أيها الناس، جعلنا ذبحا يهريقون دمه ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام
[ 212 ]
بذلك لان من البهائم ما ليس من الانعام، كالخيل والبغال والحمير. وقيل: إنما قيل للبهائم بهائم لانها لا تتكلم. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: جعلنا منسكا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولكل أمة جعلنا منسكا قال: إهراق الدماء ليذكروا اسم الله عليها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: فإلهكم إله واحد يقول تعالى ذكره: فاجتنبوا الرجس من الاوثان، واجتنبوا قول الزور، فإلهكم إله واحد لا شريك له، فإياه فاعبدوا وله أخلصوا الالوهة. وقوله: فله أسلموا يقول: فلالهكم فاخضعوا بالطاعة، وله فذلوا بالاقرار بالعبودية.) وقوله: وبشر المخبتين يقول تعالى ذكره: وبشر يا محمد الخاضعين لله بالطاعة، المذعنين له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة. وقد بينا معنى الاخباث بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا. وقد اختلف أهل التأويل في المراد به في هذا الموضع، فقال بعضهم: أريد به: وبشر المطمئنين إلى الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وبشر المخبتين قال: المطمئنين. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وبشر المخبتين المطمئنين إلى الله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وبشر المخبتين قال: المطمئنين. حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وبشر المخبتين قال: المتواضعين.
[ 213 ]
وقال آخرون في ذلك بما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن عمرو بن أوس، قال: المخبتون: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. حدثني محمد بن عثمان الواسطي، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا محمد بن مسلم الطائفي، قال: ثني عثمان بن عبد الله بن أوس، عن عمرو بن أوس مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *. فهذا من نعت المخبتين يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وبشر يا محمد المخبتين الذين تخشع قلوبهم لذكر الله وتخضع من خشيته، وجلا من عقابه وخوفا من سخطه. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: لا تقسو قلوبهم. والصابرين على ما أصابهم من شدة في أمر الله، ونالهم من مكروه في جنبه. والمقيمي الصلاة المفروضة. ومما رزقناهم من الاموال. ينفقون في الواجب عليهم إنفاقها فيه، في زكاة ونفقة عيال ومن وجبت عليه نفقته وفي سبيل الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) *.
[ 214 ]
يقول تعالى ذكره: والبدن وهي جمع بدنة، وقد يقال لواحدها: بدن، وإذا قيل بدن احتمل أن يكون جمعا وواحدا، يدل على أنه قد يقال ذلك للواحد قول الراجز: علي حين تملك الامور * اصوم شهور وجبت نذورا وحلق رأسي وافيا مضفورا * وبدنا مدرعا موفورا والبدن: هو الضخم من كل شئ، ولذلك قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنوالسدير $: البدن، لضخمه واسترخاء لحمه، فإنه يقال: قد بدن تبدينا. فمعنى الكلام: والابل العظام الاجسام الضخام، جعلناها لكم أيها الناس من شعائر الله يقول: من أعلام أمر الله الذي أمركم به في مناسك حجكم إذا قلدتموها وجللتموها وأشعرتموها، علم بذلك وشعر أنكم فعلتم ذلك من الابل والبقر. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله قال: البقرة والبعير. ]
[ 215 ]
وقوله: لكم فيها خير يقول: لكم في البدن خير وذلك الخير هو الاجر في الآخرة بنحرها والصدقة بها، وفي الدنيا: الركوب إذا احتاج إلى ركوبها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: لكم فيها خير قال: أجر ومنافع في البدن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: لكم فيها خير قال: اللبن والركوب إذا احتاج. حدثنا عبد الحميد ابن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور، عن إبراهيم: لكم فيها خير قال: إذا اضطررت إلى بدنتك ركبتها وشربت من لبنها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: لكم فيها خير من احتاج إلى ظهر البدنة ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. وقوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف يقول تعالى ذكره: فاذكروا اسم الله على البدن عند نحركم إياها صواف. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: فاذكروا اسم الله عليها صواف بمعنى مصطفة، واحدها: صافة، وقد صفت بين أيديها. وروي عن الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة أخر معهم، أنهم قرءوا ذلك: صوافي بالياء منصوبة، بمعنى: خالصة لله لا شريك له فيها صافية له. وقرأ بعضهم ذلك: صواف بإسقاط الياء وتنوين الحرف، على مثال: عوار وعواد. وروي عن ابن مسعود أنه قرأه: صوافن بمعنى: معقلة. والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفاء ونصبها، لاجماع الحجة من القراء عليه بالمعنى الذي ذكرناه لمن قرأه كذلك. ذكر من تأوله بتأويل من قرأه بتشديد الفاء ونصبها:
[ 216 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن الاعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، في قوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف قال: الله أكبر الله أكبر، اللهم منك ولك. صواف: قياما على ثلاث أرجل. فقيل لابن عباس: ما نصنع بجلودها ؟ قال: تصدقوا بها، واستمتعوا بها. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، في قوله: صواف قال: قائمة، قال: يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، اللهم منك ولك. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس: فاذكروا اسم الله عليها صواف قال: قياما على ثلاث قوائم معقولة باسم الله، الله أكبر، اللهم منك ولك. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: صواف قال: معقولة إحدى يديها، قال: قائمة على ثلاث قوائم. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف يقول: قياما. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف والصواف: أن تعقل قائمة واحدة، وتصفها على ثلاث فتنحرها كذلك. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، قال: أخبرنا بجير بن سالم، قال: رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته، قال: فقال: صواف كما قال الله، قال: فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث، عن مجاهد، قال: الصواف: إذا عقلت رجلها وقامت على ثلاث.
[ 217 ]
قال: ثنا ليث، عن مجاهد، في قوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف قال: صواف بين أوظافها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: صواف قال: قيام صواف على ثلاث قوائم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فاذكروا اسم الله عليها صواف قال: بين وظائفها قياما. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن نافع، عن عبد الله: أنه كان ينحر البدن وهي قائمة مستقبلة البيت تصف أيديها بالقيود، قال: هي التي ذكر الله: فاذكروا اسم الله عليها صواف. حدثنا ابن حميد، قال: ثني جرير، عن منصور، عن رجل، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: قلت له: قول الله فاذكروا اسم الله عليها صواف ؟ قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فانحرها، وقل: الله أكبر، لا إله إلا الله، اللهم منك ولك، ثم سم ثم انحرها. قلت: فأقول ذلك للاضحية ؟ قال: وللاضحية. ذكر من تأوله بتأويل من قرأه: صوافي بالياء: حدثنا ابن عبد الاعلئ، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن أنه قال: فاذكروا اسم الله عليها صوافي قال: مخلصين. قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: صوافي: خالصة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن: صوافي: خالصة لله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن شقيق الضبي: فاذكروا اسم الله عليها صوافي قال: خالصة.
[ 218 ]
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أيمن بن نابل، قال: سألت طاوسا عن قوله: فاذكروا اسم الله عليها صوافي قال: خالصا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فاذكروا اسم الله عليها صوافي قال: خالصة ليس فيها شريك كما كان المشركون يفعلون، يجعلون لله ولآلهتهم صوافي صافية لله تعالى. ذكر من تأوله بتأويل من قرأه صوافن: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: في حرف ابن مسعود: فا ذكروا اسم الله عليها صوافن: أي معقلة قياما. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: في حرف ابن مسعود: فاذكروا اسم الله عليها صوافن قال: أي معقلة قياما. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: من قرأها صوافن قال: معقولة. قال: ومن قرأها: صواف قال: تصف بين يديها. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فاذكروا اسم الله عليها صواف يعني صوافن، والبدنة إذا نحرت عقلت يد واحدة، فكانت على ثلاث، وكذلك تنحر. قال أبو جعفر: وقد تقدم بيان أولى هذه الاقوال بتأويل قوله: صواف وهي المصطفة بين أيديها المعقولة إحدى قوائمها. وقوله: فإذا وجبت جنوبها يقول: فإذا سقطت فوقعت جنوبها إلى الارض بعد النحر، فكلوا منها وهو من قولهم: قد وجبت الشمس: إذا غابت فسقطت للتغيب، ومنه قول أوس ابن حجر: ألم تكسف الشمس والبدر وال * كواكب للجبل الواجب يعني بالواجب: الواقع.
[ 219 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فإذا وجبت جنوبها سقطت إلى الارض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، في قوله: فإذا وجبت جنوبها قال: إذا فرغت ونحرت. حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: فإذا وجبت نحرت. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فإذا وجبت جنوبها قال: إذا نحرت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فإذا وجبت جنوبها قال: فإذا ماتت. وقوله: فكلوا منها وهذا مخرجه مخرج الامر ومعناه الاباحة والاطلاق يقول الله: فإذا نحرت فسقطت ميتة بعد النحر فقد حل لكم أكلها، وليس بأمر إيجاب. وكان إبراهيم النخعي يقول في ذلك ما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: المشركون كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين، فأكلوا منها، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد، قال: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، فهي بمنزلة: فإذا حللتم فاصطادوا.
[ 220 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر يقول: يأكل منها ويطعم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن. وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وأخبرنا حجاج، عن عطاء. وأخبرنا حصين، عن مجاهد، في قوله: فكلوا منها قال: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، قال مجاهد: هي رخصة، هي كقوله: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ومثل قوله: وإذا حللتم فاصطادوا، وقوله: وأطعموا القانع والمعتر يقول: فأطعموا منها القانع. واختلف أهل التأويل في المعني بالقانع والمعتر، فقال بعضهم: القانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل، والمعتر: الذي يتعرض لك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل. وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البدن. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، قال: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ولا يسألك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: وأطعموا القانع والمعتر القانع: الذي يقنع بالشئ اليسير يرضى به، والمعتر: الذي يمر بجانبك لا يسأل شيئا فذلك المعتر. وقال آخرون: القانع: الذي يقنع بما عنده ولا يسأل والمعتر: الذي يعتريك فيسألك. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: القانع والمعتر يقول: القانع المتعفف والمعتر
[ 221 ]
يقول: السائل. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا خصيف، قال: سمعت مجاهدا يقول القانع: أهل مكة والمعتر: الذي يعتريك فيسألك. حدثني أبو السائب، قال: ثنا عطاء، عن خصيف، عن مجاهد فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثني كعب بن فروخ، قال: سمعت قتادة يحدث، عن عكرمة، في قوله: القانع والمعتر قال: القانع: الذي يقعد في بيته، والمعتر: الذي يسأل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: القانع: المتعفف الجالس في بيته والمعتر: الذي يعتريك فيسألك. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: القانع والمعتر قال: القانع: الطامع بما قبلك ولا يسألك والمعتر: الذي يعتريك ويسألك. حدثني نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا: القانع: الجالس في بيته والمعتر: الذي يسألك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في القانع والمعتر، قال: القانع: الذي يقنع بما في يديه والمعتر: الذي يعتريك، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع الذي يجلس في بيته. والمعتر: الذي يعتريك. وقال آخرون: القانع: هو السائل، والمعتر: هو الذي يعتريك ولا يسأل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا يونس، عن الحسن، قال: القانع: الذي يقنع إليك ويسألك والمعتر: الذي يتعرض لك ولا يسألك. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، في هذه الآية: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: الذي يقنع، والمعتر: الذي يعتريك. قال: وقال الكلبي: القانع: الذي يسألك والمعتر: الذي يعتريك، يتعرض ولا يسألك.
[ 222 ]
حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، في قوله: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: الذي يسألك، والمعتر: الذي يتعرض لك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، قال: قال سعيد بن جبير: القانع: السائل. حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: ثني غالب، قال: ثني شريك، عن فرات القزاز، عن سعيد بن جبير، في قوله: القانع قال: هو السائل، ثم قال: أما سمعت قول الشماخ. لمال المرء يصلحه فيغنى * مفاقره أعف من القنوع قال: من السؤال. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، أنه قال في قوله: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: الذي يقنع إليك يسألك، والمعتر: الذي يريك نفسه ويتعرض لك ولا يسألك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشام، قال: أخبرنا منصور ويونس، عن الحسن، قال: القانع: السائل، والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال: قال زيد بن أسلم: القانع: الذي يسأل الناس. وقال آخرون: القانع: الجار، والمعتر: الذي يعتريك من الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: القانع: جارك وإن كان غنيا، والمعتر: الذي يعتريك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، قال: قال مجاهد، في قوله: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: جارك الغني، والمعتر: من اعتراك من الناس.
[ 223 ]
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: وأطعموا القانع والمعتر أنه قال: أحدهما السائل، والآخر الجار. وقال آخرون: القانع: الطواف، والمعتر: الصديق الزائر. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، قال: قال زيد بن أسلم، في قول الله تعالى: القانع والمعتر فالقانع: المسكين الذي يطوف، والمعتر: الصديق والضعيف الذي يزور. وقال آخرون: القانع: الطامع، والمعتر: الذي يعتر بالبدن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: القانع قال: الطامع والمعتر: من يعتر بالبدن من غني أو فقير. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، قال: القانع: الطامع. وقال آخرون: القانع: هو المسكين، والمعتر: الذي يتعرض للحم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وأطعموا القانع والمعتر قال: القانع: المسكين، والمعتر: الذي يعتر للقوم للحمهم وليس بمكسين، ولا تكون له ذبيحة، يجئ إلى القوم من أجل لحمهم، والبائس الفقير: هو القانع. وقال آخرون بما: حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن فرات، عن سعيد بن جبير، قال: القانع: الذي يقنع، والمعتر: الذي يعتريك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن بمثله. قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد: القانع والمعتر القانع: الجالس في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك.
[ 224 ]
وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: عني بالقانع: السائل لانه لو كان المعني بالقانع في هذا الموضع المكتفي بما عنده والمستغني به، لقيل: وأطعموا القانع والسائل، ولم يقل: وأطعموا القانع والمعتر. وفي إتباع ذلك قوله: والمعتر الدليل الواضح على أن القانع معني به السائل، من قولهم: قنع فلان إلى فلان، بمعنى سأله وخضع إليه، فهو يقنع قنوعا ومنه قول لبيد: وأعطاني المولى على حين فقره * إذا قال أبصر خلتي وقنوعي وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي، فإنه من قنعت به بكسر النون أقنع قناعة وقنعا وقنعانا. وأما المعتر: فإنه الذي يأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه. وقوله: كذلك سخرناها لكم يقول هكذا سخرنا البدن لكم أيها الناس لعلكم تشكرون يقول: لتشكروني على تسخيرها لكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) *. يقول تعالى ذكره: (لن) يصل إلى الله لحوم بدنكم ولا دماؤها، ولكن يناله اتقاؤكم إياه إن اتقيتموه فيها فأردتم بها وجهه وعملتم فيها بما ندبكم إليه وأمركم به في أمرها وعظمتم بها حرماته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، في قول الله: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم قال: ما أريد به وجه الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم قال: إن اتقيت الله في هذه البدن، وعملت فيها لله، وطلبت ما قال الله تعظيما لشعائر الله ولحرمات الله، فإنه قال:
[ 225 ]
ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب قال: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه قال: وجعلته طيبا، فذلك الذي يتقبل الله. فأما اللحوم والدماء، فمن أين تنال الله ؟ وقوله: كذلك سخرها لكم يقول: هكذا سخر لكم البدن لتكبروا الله على ما هداكم يقول: كي تعظموا الله على ما هداكم، يعني على توفيقه إياكم لدينه وللنسك في حجكم. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لتكبروا الله على ما هداكم قال: على ذبحها في تلك الايام. وبشر المحسنين يقول: وبشر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) *. يقول تعالى ذكره: إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله، إن الله لا يحب كل خوان يخون الله فيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان كفور يقول: جحود لنعمه عنده، لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها. وقيل: إنه عني بذلك دفع الله كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) *. يقول تعالى ذكره: أذن الله للمؤمنين الذين يقاتلون المشركين في سبيله بأن المشركين ظلموهم بقتالهم. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة: أذن بضم الالف، يقاتلون بفتح التاء بترك تسمية الفاعل في أذن ويقاتلون جميعا. وقرأ ذلك بعض الكوفيين وعامة قراء البصرة: أذن بترك تسمية الفاعل، ويقاتلون بكسر التاء، بمعنى
[ 226 ]
يقاتل المأذون لهم في القتال المشركين. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض المكيين: أذن بفتح الالف، بمعنى: أذن الله، ويقاتلون بكسر التاء، بمعنى: إن الذين أذن الله لهم بالقتال يقاتلون المشركين. وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعنى لان الذين قرءوا أذن على وجه ما لم يسم فاعله يرجع معناه في التأويل إلى معنى قراءة من قرأه على وجه ما سمي فاعله. وإن من قرأ يقاتلون ويقاتلون بالكسر أو الفتح، فقريب معنى أحدهما من معنى الآخر وذلك أن من قاتل إنسانا فالذي قاتله له مقاتل، وكل واحد منهما مقاتل. فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القارئ فمصيب الصواب. غير أن أحب ذلك إلي أن أقرأ به: أذن بفتح الالف، بمعنى: أذن الله، لقرب ذلك من قوله: إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن الله في الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم، فيرد أذن على قوله: إن الله لا يحب، وكذلك أحب القراءات إلي في يقاتلون كسر التاء، بمعنى: الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم، فيكون الكلام متصلا معنى بعضه ببعض. وقد اختلف في الذين عنوا بالاذن لهم بهذه الآية في القتال، فقال بعضهم: عني به: نبي الله وأصحابه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير يعني محمدا وأصحابه إذا أخرجوا من مكة إلى المدينة يقول الله: فإن الله على نصرهم لقدير وقد فعل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، قال: لما خرج النبي (ص) من مكة، قال رجل: أخرجوا نبيهم فنزلت: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا... الآية، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق النبي (ص) وأصحابه. حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن الاعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما خرج
[ 227 ]
النبي (ص) من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن قال ابن عباس: فأنزل الله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وهي أول آية نزلت. قال ابن داود: قال ابن إسحاق: كانوا يقرءون: أذن ونحن نقرأ: أذن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق، عن سفيان، عن الاعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما خرج النبي (ص)، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال أبو بكر: قد علمت أنه يكون قتال. وإلى هذا الموضع انتهى حديثه، ولم يزد عليه. حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن الاعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما خرج رسول الله (ص) من مكة، قال أبو بكر: إنا لله وإنا إليه راجعون، أخرج رسول الله (ص)، والله ليهلكن جميعا فلما نزلت: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا... إلى قوله: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق عرف أبو بكر أنه سيكون قتال. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا قال: أذن لهم في قتالهم بعد ما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق وقال: هؤلاء المؤمنون. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق. وقال آخرون: بل عني بهذه الآية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الحرب يريدون الهجرة، فمنعوا من ذلك. ذكر من قال ذلك:
[ 228 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا قال: أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فكانوا يمنعون، فأذن الله للمؤمنين بقتال الكفار، فقاتلوهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا قال: ناس من المؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، وكانوا يمنعون، فأدركهم الكفار، فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم. قال ابن جريج: يقول: أول قتال أذن الله به للمؤمنين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: في حرف ابن مسعود: أذن للذين يقاتلون في سبيل الله قال قتادة: وهي أول آية نزلت في القتال، فأذن لهم أن يقاتلوا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا قال: هي أول آية أنزلت في القتال، فأذن لهم أن يقاتلوا. وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال: أذن للذين يقاتلون بالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله (ص)، كانوا استأذنوا رسول الله (ص) في قتل الكفار إذ آذوهم واشتدوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة سرا فأنزل الله في ذلك: إن الله لا يحب كل خوان كفور فلما هاجر رسول الله (ص) وأصحابه إلى المدينة، أطلق لهم قتلهم وقتالهم، فقال: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وهذا قول ذكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت. ] وقوله: وإن الله على نصرهم لقدير يقول جل ثناؤه: وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله لقادر، وقد نصرهم فأعزهم ورفعهم وأهلك عدوهم وأذلهم بأيديهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) *.
[ 229 ]
يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ف الذين الثانية رد على الذين الاولى. وعنى بالمخرجين من دورهم: المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة. وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الايمان بالله ورسوله، وسبهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم، حتى اضطروهم إلى الخروج عنهم. وكان فعلهم ذلك بهم بغير حق لانهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحق، فلذلك قال جل ثناؤه: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق. وقوله: إلا أن يقولوا ربنا الله يقول تعالى ذكره: لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم: ربنا الله وحده لا شريك له ف أن في موضع خفض ردا على الباء في قوله: بغير حق، وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء. وقوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض دفع المشركين بالمسلمين. وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا القتال والجهاد في سبيل الله. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض قال: لولا القتال والجهاد. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله (ص) عمن بعدهم من التابعين. ذكر من قال ذلك: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، عن سيف بن عمرو، عن أبي روق، عن ثابت بن عوسجة الحضرمي، قال: ثني سبعة وعشرون من أصحاب علي وعبد الله منهم لاحق ابن الاقمر، والعيزار بن جرول، وعطية القرظي، أن عليا رضي الله عنه قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله (ص): ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت صوامع وبيع.
[ 230 ]
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز قبول شهادته وغيره، فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا، وتركوا المظالم من أجله، لتظالم الناس فهدمت صوامع. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض يقول: دفع بعضهم بعضا في الشهادة، وفي الحق، وفيما يكون من قبل هذا. يقول: لولاهم لاهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض، لهدم ما ذكر، من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض، كفه المشركين بالمسلمين عن ذلك ومنه كفه ببعضهم التظالم، كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق، ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض، لولا ذلك لتظالموا، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم وما سمى جل ثناؤه. ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عني من ذلك بعضا دون بعض، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بينته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا. وقوله: لهدمت صوامع اختلف أهل التأويل في المعني بالصوامع، فقال بعضهم: عني بها صوامع الرهبان. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رفيع في هذه الآية: لهدمت صوامع قال: صوامع الرهبان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: لهدمت صوامع قال: صوامع الرهبان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: لهدمت صوامع قال: صوامع الرهبان.
[ 231 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لهدمت صوامع قال: صوامع الرهبان. حدثت عن الحسين، قال: ثنا سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: لهدمت صوامع وهي صوامع الصغار يبنونها. وقال آخرون: بل هي صوامع الصابئين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: صوامع قال: هي للصابئين حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. واختلفت القراء في قراءة قوله: لهدمت. فقرأ ذلك عامة قراء المدينة: لهدمت خفيفة. وقرأته عامة قراء أهل الكوفة والبصرة: لهدمت بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرة بعد مرة. والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إلي. لان ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك. وأما قوله وبيع فإنه يعني بها: بيع النصارى. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن رفيع: وبيع قال: بيع النصارى. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وبيع للنصارى. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: البيع: بيع النصارى. وقال آخرون: عني بالبيع في هذا الموضع: كنائس اليهود. ذكر من قال ذلك:
[ 232 ]
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: وبيع قال: وكنائس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وبيع قال: البيع الكنائس. قوله: وصلوات اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: عني بالصلوات الكنائس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد ابن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: وصلوات قال: يعني بالصلوات الكنائس. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وصلوات: كنائس اليهود، ويسمون الكنيسة صلوتا. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: وصلوات كنائس اليهود. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. وقال آخرون: عني بالصلوات مساجد الصابئين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، قال: سألت أبا العالية عن الصلوات، قال: هي مساجد الصابئين. قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رفيع، نحوه. وقال آخرون: هي مساجد للمسلمين ولاهل الكتاب بالطرق. ذكر من قال ذلك:
[ 233 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وصلوات قال: مساجد لاهل الكتاب ولاهل الاسلام بالطرق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وصلوات قال: الصلوات صلوات أهل الاسلام، تنقطع إذا دخل العدو عليهم، انقطعت العبادة، والمساجد تهدم، كما صنع بختنصر. وقوله: ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول، فقال بعضهم: أريد بذلك مساجد المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رفيع، قوله: ومساجد قال: مساجد المسلمين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا قال: المساجد: مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، نحوه. وقال آخرون: عني بقوله: ومساجد: الصوامع والبيع والصلوات. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: ومساجد يقول في كل هذا يذكر اسم الله كثيرا، ولم يخص المساجد. وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول الصلوات لا تهدم، ولكن حمله على
[ 234 ]
فعل آخر، كأنه قال: وتركت صلوات. وقال بعضهم: إنما يعني: مواضع الصلوات. وقال بعضهم: إنما هي صلوات، وهي كنائس اليهود، تدعى بالعبرانية: صلوتا. وأولى هذه الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى، وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك لان ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه من وجهه إليه. وقوله: ولينصرن الله من ينصره يقول تعالى ذكره: وليعينن الله من يقاتل في سبيله، لتكون كلمته العليا على عدوه فنصر الله عبده: معونته إياه، ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله، لتكون كلمته العليا. وقوله: إن الله لقوي عزيز يقول تعالى ذكره: إن الله لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته، عزيز في ملكه، يقول: منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) *. يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة. والذين ها هنا رد على الذين يقاتلون. ويعني بقوله: إن مكناهم في الارض إن وطنا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها، وهم أصحاب رسول الله (ص). يقول: إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة، أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة بحدودها وآتوا الزكاة يقول: وأعطوا زكاة أموالهم من جعلها الله له. وأمروا بالمعروف يقول: ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الايمان بالله. ونهوا عن المنكر يقول: ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه، الذي ينكره أهل الحق والايمان بالله. ولله عاقبة الامور يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني: أن إليه مصيرها في الثواب عليها والعقاب في الدار الآخرة.
[ 235 ]
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث، قال: ثنا الحسين الاشيب، قال: ثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان، الذي يقال له الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الاخلاص لله وحده لا شريك له ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الاوثان وعبادة الشيطان. قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الاوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ئ وقوم إبراهيم وقوم لوط ئ وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير) *. يقول تعالى ذكره مسليا نبيه محمدا (ص) عما يناله من أذى المشركين بالله، وحاضا له على الصبر على ما يلحقه منهم من السب والتكذيب. وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به من الحق والبرهان، وما تعدهم من العذاب على كفرهم بالله، فذلك سنة إخوانهم من الامم الخالية المكذبة رسل الله المشركة بالله ومنهاجهم من قبلهم، فلا يصدنك ذلك، فإن العذاب المهين من ورائهم ونصري إياك وأتباعك عليهم آتيهم من وراء ذلك، كما أتى عذابي على أسلافهم من الامم الذين من قبلهم بعد الامهال إلى بلوغ الآجال. فقد كذبت قبلهم يعني مشركي قريش قوم نوح، وقوم عاد وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وهم قوم شعيب. يقول: كذب كل هؤلاء رسلهم. وكذب موسى فقيل: وكذب موسى ولم يقل: وقوم موسى، لان قوم موسى بنو إسرائيل، وكانت قد استجابت له ولم تكذبه، وإنما كذبه فرعون وقومه من القبط. وقد قيل: إنما قيل ذلك كذلك لانه ولد فيهم كما ولد في أهل مكة. وقوله: فأمليت للكافرين يقول: فأمهلت لاهل الكفر بالله من هذه الامم، فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب. ثم أخذتهم يقول: ثم أحللت بهم العقاب بعد الاملاء
[ 236 ]
فكيف كان نكير يقول: فانظر يا محمد كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة وتنكري لهم عما كنت عليه من الاحسان إليهم، ألم أبدلهم بالكثرة قلة وبالحياة موتا وهلاكا وبالعمارة خرابا ؟ يقول: فكذلك فعلي بمكذبيك من قريش، وإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإني منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم، فأهلكناهم وأنجيتهم من بين أظهرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *. يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يعبد، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه. وقوله: فهي خاوية على عروشها يقول: فباد أهلها وخلت، وخوت من سكانها، فخربت وتداعت، وتساقطت على عروشها يعني على بنائها وسقوفها. كما: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: فهي خاوية على عروشها قال: خواؤها: خرابها، وعروشها: سقوفها. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: خاوية قال: خربة ليس فيها أحد. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة. مثله. وقوله: وبئر معطلة يقول تعالى: فكأين من قرية أهلكناها، ومن بئر عطلناها، بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فاندفنت وتعطلت، فلا واردة لها ولا شاربة منها. ومن قصر مشيد رفيع بالصخور والجص، قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم. والبئر والقصر مخفوضان بالعطف على القرية. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هما معطوفان على العروش بالعطف عليها خفضا، وإن لم يحسن فيهما، على أن العروش أعالي البيوت والبئر في الارض، وكذلك القصر لان القرية لم تخو على القصر، ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال: وحور عين كأمثال اللؤلؤ فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكرنا قوله في ذلك: فكأين من قرية
[ 237 ]
أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها، ولها بئر معطلة وقصر مشيد ولكن لما لم يكن مع البئر رافع ولا عامل فيها، أتبعها في الاعراب العروش، والمعنى ما وصفت. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: وبئر معطلة قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: وبئر معطلة قال: التي قد تركت. وقال غيره: لا أهل لها. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: وبئر معطلة قال: عطلها أهلها، تركوها. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وبئر معطلة قال: لا أهل لها. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: وقصر مشيد فقال بعضهم: معناه: وقصر مجصص. ذكر من قال ذلك: حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن هلال بن خباب عن عكرمة، في قوله: وقصر مشيد قال: مجصص. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، مثله. حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: ثني غالب بن فائد، قال: ثنا سفيان، عن هلال بن خباب عن عكرمة، مثله. حدثني الحسين بن محمد العنقزي، قال: ثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عكرمة، في قوله: وقصر مشيد قال: مجصص. حدثني مطر بن محمد، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا جعفر بن برقان، قال: كنت أمشي مع عكرمة، فرأى حائط آجر مصهرج، فوضع يده عليه وقال: هذا المشيد الذي قال الله.
[ 238 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة: وقصر مشيد قال: المجصص. قال عكرمة: والجص بالمدينة يسمى الشيد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وقصر مشيد قال: بالقصة أو الفضة. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وقصر مشيد قال: بالقصة يعني بالجص. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن بن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا بن جريج، عن عطاء، في قوله: وقصر مشيد قال: مجصص. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن هلال بن خباب، عن سعيد بن جبير، في قوله: وقصر مشيد قال: مجصص. هكذا هو في كتابي عن سعيد بن جبير. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقصر رفيع طويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وقصر مشيد قال: كان أهله شيدوه وحصنوه، فهلكوا وتركوه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: وقصر مشيد يقول: طويل. وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: عني بالمشيد المجصص، وذلك أن الشيد في كلام العرب هو الجص بعينه ومنه قول الراجز:
[ 239 ]
كحبة الماء بين الطي والشيد فالمشيد: إنما هو مفعول من الشيد ومنه قول امرئ القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة * ولا أطما إلا مشيدا بجندل يعني بذلك: إلا بالبناء بالشيد والجندل. وقد يجوز أن يكون معنيا بالمشيد: المرفوع بناؤه بالشيد، فيكون الذين قالوا: عني بالمشيد الطويل نحوا بذلك إلى هذا التأويل ومنه قول عدي بن زيد: شاده مرمرا وجلله كل * سا فللطير في ذراه وكور وقد تأوله بعض أهل العلم بلغات العرب بمعنى المزين بالشيد من شدته أشيده: إذا زينته به، وذلك شبيه بمعنى من قال مجصص. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) *. يقول تعالى ذكره: أفلم يسيروا هؤلاء المكذبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذبي رسل الله الذين خلوا من قبلهم، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، وأوطانهم ومساكنهم، فيتفكروا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذب رسله، فينيبوا من عتوهم وكفرهم، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحق قلوب يعقلون بها حجج الله على خلقه وقدرته على ما بينا، أو آذان يسمعون بها يقول: أو آذان تصغي لسماع الحق فتعي ذلك وتميز بينه وبين الباطل. وقوله: فإنها لا تعمى الابصار يقول: فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الاشخاص ويروها، بل يبصرون ذلك بأبصارهم
[ 240 ]
ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن أنصار الحق ومعرفته. والهاء في قوله: فإنها لا تعمى هاء عماد، كقول القائل: إنه عبد الله قائم. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: فإنه لا تعمى الابصار. وقيل: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والقلوب لا تكون إلا في الصدور، توكيدا للكلام، كما قيل: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. يقول تعالى ذكره: ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بما تعدهم من عذاب الله على شركهم به وتكذيبهم إياك فيما أتيتهم به من عند الله في الدنيا، ولن يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه ونقمته بهم في عاجل الدنيا. ففعل ذلك، ووفى لهم بما وعدهم، فقتلهم يوم بدر. واختلف أهل التأويل في اليوم الذي قال جل ثناؤه: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون أي يوم هو ؟ فقال بعضهم: هو من الايام التي خلق الله فيها السموات والارض. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون قال: من الايام التي خلق الله فيها السموات والارض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: وإن يوما عند ربك... الآية، قال: هي مثل قوله في الم تنزيل سواء، هو هو الآية. وقال آخرون: بل هو من أيام الآخرة. ذكر من قال ذلك:
[ 241 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة عن سمير بن نهار، قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الاغنياء بمقدار نصف يوم. قلت: وما نصف يوم ؟ قال: أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى. قال: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون. حدثنا ابن بشار، قال: ثني عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد: وإن يوما عند ربك كألف سنة قال: من أيام الآخرة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، أنه قال في هذه الآية: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون قال: هذه أيام الآخرة. وفي قوله: ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون قال: يوم القيامة وقرأ: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا. وقد اختلف في وجه صرف الكلام من الخبر عن استعجال الذين استعجلوا العذاب إلى الخبر عن طول اليوم عند الله، فقال بعضهم: إن القوم استعجلوا العذاب في الدنيا، فأنزل الله: ولن يخلف الله وعده في أن ينزل ما وعدهم من العذاب في الدنيا، وإن يوما عند ربك من عذابهم في الدنيا والآخرة كألف سنة مما تعدون في الدنيا. وقال آخرون: قيل ذلك كذلك إعلاما من الله مستعجليه العذاب أنه لا يعجل، ولكنه يمهل إلى أجل أجله، وأن البطئ عندهم قريب عنده، فقال لهم: مقدار اليوم عندي ألف سنة مما تعدونه أنتم أيها القوم من أيامكم، وهو عندكم بطئ وهو عندي قريب. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يوما من الثقل وما يخاف كألف سنة. والقول الثاني عندي أشبه بالحق في ذلك وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن استعجال المشركين رسول الله (ص) بالعذاب، ثم أخبر عن مبلغ قدر اليوم عنده، ثم أتبع ذلك قوله: وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة فأخبر عن إملائه أهل القرية الظالمة
[ 242 ]
وتركه معاجلتهم بالعذاب، فبين بذلك أنه عنى بقوله: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون نفي العجلة عن نفسه ووصفها بالاناة والانتظار. وإذ كاذلك كذلك، كان تأويل الكلام: وإن يوما من الآيام التي عند الله يوم القيامة يوم واحد كألف سنة من عددكم، وليس ذلك عنده ببعيد وهو عندكم بعيد فلذلك لا يعجل بعقوبة من أراد عقوبته حتى يبلغ غاية مدته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير) *. يقول تعالى ذكره: وكأين من قرية أمليت لها يقول: أمهلتهم وأخرت عذابهم، وهم بالله مشركون ولامره مخالفون وذلك كان ظلمهم الذي وصفهم الله به جل ثناؤه فلم أعجل بعذا بهم. ثم أخذتها يقول: ثم أخذتها بالعذاب، فعذبتها في الدنيا بإحلال عقوبتنا بهم. وإلي المصير يقول: وإلي مصيرهم أيضا بعد هلاكهم، فيلقون من العذاب حينئذ ما لا انقطاع له يقول تعالى ذكره: فكذلك حال مستعجليك بالعذاب من مشركي قومك، وإن أمليت لهم إلى آجالهم التي أجلتها لهم، فإني آخذهم بالعذاب فقاتلهم بالسيف ثم إلي مصيرهم بعد ذلك فموجعهم إذن عقوبة على ما قدموا من آثامهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ئ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لمشركي قومك الذين يجادلونك في الله بغير علم، اتباعا منهم لكل شيطان مريد: يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين أنذركم عقاب الله أن ينزل بكم في الدنيا وعذابه في الآخرة أن تصلوه مبين يقول: أبين لكم إنذاري ذلك وأظهره لتنيبوا من شرككم وتحذروا ما أنذركم من ذلك لا أملك لكم غير ذلك، فأما تعجيل العقاب وتأخيره الذي تستعجلونني به فإلى الله، ليس ذلك إلي ولا أقدر عليه. ثم وصف نذارته وبشارته، ولم يجر للبشارة ذكر، ولما ذكرت النذارة على عمل علم أن البشارة على خلافه، فقال: والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات منكم
[ 243 ]
أيها الناس ومن غيركم، لهم مغفرة يقول: لهم من الله ستر ذنوبهم التي سلفت منهم في الدنيا عليهم في الآخرة. ورزق كريم يقول: ورزق حسن في الجنة كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم قال: الجنة. ] وقوله: والذين سعوا في آياتنا معاجزين يقول: والذين عملوا في حججنا فصدوا عن اتباع رسولنا والاقرار بكتابنا الذي أنزلناه. وقال في آياتنا فأدخلت فيه في كما يقال: سعى فلان في أمر فلان. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: معاجزين فقال بعضهم: معناه: مشاقين. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، أنه قرأها: معاجزين في كل القرآن، يعني بألف، وقال: مشاقين. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: في آياتنا معاجزين قال: كذبوا بآيات الله فظنوا أنهم يعجزون الله، ولن يعجزوه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. وهذان الوجهان من التأويل في ذلك على قراءة من قرأه: في آياتنا معاجزين بالالف، وهي قراءة عامة قراء المدينة والكوفة. وأما بعض قراء أهل مكة والبصرة فإنه قرأه: معجزين بتشديد الجيم، بغير ألف، بمعنى أنهم عجزوا الناس وثبطوهم عن اتباع رسول الله (ص) والايمان بالقرآن. ذكر من قال ذلك كذلك من قراءته: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: معجزين قال: مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي (ص).
[ 244 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، متقاربتا المعنى وذلك أن من عجز عن آيات الله فقد عاجز الله، ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله والعمل بمعاصيه وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين أنزل الله هذه الآيات فيهم أنهم كانوا يبطئون الناس عن الايمان بالله واتباع رسوله ويغالبون رسول الله (ص)، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه، وقد ضمن الله له نصره عليهم، فكان ذلك معاجزتهم الله. فإذ كان ذلك كذلك، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك. وأما المعاجزة فإنها المفاعلة من العجز، ومعناه: مغالبة اثنين أحدهما صاحبه أيهما يعجزه فيغلبه الآخر ويقهره. وأما التعجيز: فإنه التضعيف وهو التفعيل من العجز. وقوله: أولئك أصحاب الجحيم يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم سكان جهنم يوم القيامة وأهلها الذين هم أهلها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) *. قيل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله (ص)، أن الشيطان كان ألقى على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه، فاشتد ذلك على رسول الله (ص) واغتم به، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول الله (ص) في ناد من أندية قريش كثير أهله، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شئ فينفروا عنه، فأنزل الله عليه: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فقرأها رسول الله (ص)، حتى إذا بلغ: أفرأيتم اللات
[ 245 ]
والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى عليه الشيطان كلمتين: تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترجى، فتكلم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبا، فنحن معك قالا: فلما أمسى أتاه جبرائيل عليهما السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين فقال رسول الله (ص): افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره... إلى قوله: ثم لا تجد لك علينا نصيرا. فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما رأى رسول الله (ص) تولي قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه. وكان يسره، مع حبه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم، حين حدث بذلك نفسه وتمنى وأحبه، فأنزل الله: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فلما انتهى إلى قول الله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضي. فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم،
[ 246 ]
وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خط ولا وهم ولا زلل. فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة، سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقا لما جاء به واتباعا لامره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغير هم لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلي وأن شفاعتهن ترتضي وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله (ص)، وقيل: أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتخلف آخرون. وأتى جبرائيل النبي (ص)، فقال: يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك فحزن رسول الله (ص) عند ذلك، وخاف من الله خوفا كبيرا، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه وكان به رحيما يعزيه ويخفض عليه الامر ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبي تمنى كما تمنى ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه (ص)، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، أي فأنت كبعض الانبياء والرسل فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته... الآية. فأذهب الله عن نبيه الحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتضي. يقول الله حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، إلى قوله: وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده. فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن أبي العالية، قال: قالت قريش لرسول الله (ص): إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشئ جالسناك، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك قال: فألقى الشيطان في أمنيته، فنزلت هذه الآية: أفرأيتم اللات
[ 247 ]
والعزى ومناة الثالثة الاخرى قال: فأجرى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا ينسى. قال: فسجد النبي (ص) حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون. فلما علم الذي أجري على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته... إلى قوله: والله عليم حكيم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قال: قالت قريش: يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفاق فقرأ رسول الله (ص) سورة النجم فلما انتهى على هذه الآية: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى فألقى الشيطان على لسانه: وهي الغرانقة العلى، وشفاعتهن ترتجى. فلما فرغ منها سجد رسول الله (ص) والمسلمون والمشركون، إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص، أخذ كفا من تراب وسجد عليه وقال: قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله (ص) من المسلمين أن قريشا قد أسلمت، فاشتد على رسول الله (ص) ما ألقى الشيطان على لسانه، فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي... إلى آخر الآية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الآية: أفرأيتم اللات والعزى قرأها رسول الله (ص)، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي. فسجد رسول الله (ص). فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه، فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته... إلى قوله: عذاب يوم عقيم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: أفرأيتم اللات والعزى، ثم ذكر نحوه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 248 ]
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله: والله عليم حكيم وذلك أن نبي الله (ص) بينما هو يصلي، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه، فبينما هو يتلوها وهو يقول: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى الشيطان: إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى. فجعل يتلوها، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها، ثم قال له: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته... إلى قوله: والله عليم حكيم. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي... الآية أن نبي الله (ص) وهو بمكة، أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبي (ص): تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى. فقرأها النبي (ص) كذلك، فأنزل الله عليه: وما أرسلنا من قبلك من رسول... إلى: والله عليم حكيم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي... الآية، قال ابن شهاب: ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. أن رسول الله (ص) وهو بمكة قرأ عليهم: والنجم إذا هوى، فلما بلغ: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى قال: إن شفاعتهن ترتجى. وسها رسول الله (ص). فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان. فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي... حتى بلغ: فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
[ 249 ]
فتأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الامم ولا نبي محدث ليس بمرسل، إلا إذا تمنى. واختلف أهل التأويل في معنى قوله تمنى في هذا الموضع، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال: ذلك التمني من النبي (ص) ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الاحوال أن لا تذكر بسوء. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدث. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: إذا تمنى قال: إذا قال. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إلا إذا تمنى يعني بالتمني: التلاوة والقراءة. وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته على ذلك لان الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم أن الذي ألقي فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه. فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدث وتكلم، وألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو في حديثه الذي حدث وتكلم. فينسخ الله ما يلقي الشيطان يقول: تعالى فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله. كما:
[ 250 ]
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فينسخ الله ما يلقي الشيطان فيبطل الله ما ألقى الشيطان. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي (ص)، وأحكم الله آياته. ] وقوله: ثم يحكم الله آياته يقول: ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه. والله عليم بما يحدث في خلقه من حدث، لا يخفى عليه منه شئ. حكيم في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) *. يقول تعالى ذكره: فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته، كي يجعل ما يلقي الشيطان في أمنية نبيه من الباطل، كقول النبي (ص): تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي. فتنة يقول: اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق وذلك الشك في صد رسول الله (ص) وحقيقة ما يخبرهم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن النبي (ص) كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين، فألقى الشيطان في أمنيته، فقال: إن الآلهة التي تدعي أن شفاعتها لترتجي وإنها للغرانيق العلى. فنسخ الله ذلك، وأحكم الله آياته: أفرأيتم اللات والعزى حتى بلغ: من سلطان قال قتادة: لما ألقى الشيطان ما ألقى، قال المشركون: قد ذكر الله آلهتهم بخير ففرحوا بذلك، فذكر قوله: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض.
[ 251 ]
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض يقول: وللذين قست قلوبهم عن الايمان بالله، فلا تلين ولا ترعوي، وهم المشركون بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: والقاسية قلوبهم قال: المشركون. وقوله: وإن الظالمين لفي شقاق بعيد يقول تعالى ذكره: وإن مشركي قومك يا محمد لفي خلاف الله في أمره، بعيد من الحق. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) *. يقول تعالى ذكره: وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها لرسوله ونسخ ما ألقي الشيطان فيه، أنه الحق من عند ربك يا محمد فيؤمنوا به يقول: فيصدقوا به. فتخبت له قلوبهم يقول: فتخضع للقرآن قلوبهم، وتذعن بالتصديق به والاقرار بما فيه. وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحق القاصد والحق الواضح، بنسخ ما ألقي الشيطان في أمنية رسوله، فلا يضرهم كيد الشيطان وإلقاؤه الباطل على لسان نبيهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك قال: يعني القرآن. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 252 ]
* (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) *. يقول تعالى ذكره: ولا يزال الذين كفرا بالله في شك. ثم اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: منه من ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم: هي من ذكر قول النبي (ص): تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه من قوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه قال: مما جاءك به إبليس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة. وقال آخرون: بل هي من ذكر سجود النبي (ص) في النجم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه قال: في مرية من سجودك. وقال آخرون: بل هي من ذكر القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه قال: من القرآن. وأولى هذه الاقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله: وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك أقرب منه من ذكر قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان والهاء من قوله أنه من ذكر القرآن، فإلحاق الهاء في قوله: في مرية منه بالهاء من قوله: أنه الحق من ربك أولى من إلحاقها ب ما التي في قوله: ما يلقي الشيطان مع بعد ما بينهما.
[ 253 ]
وقوله: حتى تأتيهم الساعة يقول: لا يزال هؤلاء الكفار في شك من أمر هذا القرآن إلى أن تأتيهم الساعة بغتة وهي ساعة حشر الناس لموقف الحساب بغتة، يقول: فجأة. أو يأتيهم عذاب يوم عقيم. واختلف أهل التأويل في هذا اليوم أي يوم هو ؟ فقال بعضهم: هو يوم القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا شيخ من أهل خراسان من الازد يكني أبا ساسان، قال: سألت الضحاك، عن قوله: عذاب يوم عقيم قال: عذاب يوم لا ليلة بعده. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة. أن يوم القيامة لا ليلة له. وقال آخرون: بل عني به يوم بدر. وقالوا: إنما قيل له يوم عقيم، أنهم لم ينظروا إلى الليل، فكان لهم عقيما. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، قال: عذاب يوم عقيم يوم بدر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: أو يأتيهم عذاب يوم عقيم قال ابن جريج: يوم ليس فيه ليلة، لم يناظروا إلى الليل. قال مجاهد: عذاب يوم عظيم. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، قال: قال مجاهد: يوم بدر. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو إدريس، قال: أخبرنا الاعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، في قوله: عذاب يوم عقيم قال: يوم بدر. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: عذاب يوم عقيم قال: هو يوم بدر. ذكره عن أبي بن كعب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: عذاب يوم عقيم قال: هو يوم بدر. عن أبي بن كعب.
[ 254 ]
وهذا القول الثاني أولى بتأويل الآية لانه لا وجه لان يقال: لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو تأتيهم الساعة وذلك أن الساعة هي يوم القيامة، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرتين باختلاف الالفاظ، وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين به أصحهما معنى وأشبههما بالمعروف في الخطاب، وهو ما ذكرناه من معناه. فتأويل الكلام إذن: ولا يزال الذين كفروا في مرية منه، حتى تأتيهم الساعة بغتة فيصيروا إلى العذاب الدائم، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم له فلا ينظر وا فيه إلى الليل ولا يؤخروا فيه إلى المساء، لكنهم يقتلون قبل المساء. القول في تأويل قوله تعالى: * (الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ئ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) *. يقول تعالى ذكره: السلطان والملك إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له ولا ينازعه يومئذ منازع وقد كان في الدنيا ملوك يدعون بهذا الاسم ولا أحد يومئذ يدعي ملكا سواه. يحكم بينهم يقول: يفصل بين خلقه المشركين به والمؤمنين. فالذين آمنوا بهذا القرآن، وبمن أنزله، ومن جاء به، وعملوا بما فيه من حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه في جنات النعيم يومئذ. والذين كفروا بالله ورسوله، وكذبوا بآيات كتابه وتنزيله، وقالوا: ليس ذلك من عند الله، إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون فأولئك لهم عذاب مهين يقول: فالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القيامة عذاب مهين، يعني عذاب مذل في جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين) *. يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقا
[ 255 ]
حسنا يعني بالحسن: الكريم وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل. وإن الله لهو خير الرازقين يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (ص) اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله، فقال بعضهم: سواء المقتول منهم الميت، وقال آخرون: المقتول أفضل. فأنزل الله هذه الآية على نبيه (ص)، يعلمهم استواء أمر الميت في سبيله والمقتول فيها في الثواب عنده. وقد: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن شريح، عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا على الارباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل والآخر متوفي فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه على أخيه المتوفي ؟ (فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله. فقال) فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرءوا قول الله تعالى: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا... إلى قوله: وإن الله لعليم حليم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم) *. يقول تعالى ذكره: ليدخلن الله المقتول في سبيله من المهاجرين والميت منهم مدخلا يرضونه وذلك المدخل هو الجنة. وإن الله لعليم بمن يهاجر في سبيله ممن يخرج من داره طلب الغنيمة أو عرض من عروض الدنيا. حليم عن عصاة خلقه، بتركه معاجلتهم بالعقوبة والعذاب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) * يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك لهذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله، ثم قتلوا أو
[ 256 ]
ماتوا، ولهم مع ذلك أيضا أن الله يعدهم النصر على المشركين الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به قال: هم المشركون بغوا على النبي (ص)، فوعده الله أن ينصره، وقال في القصاص أيضا. وكان بعضهم يزعم أن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الاشهر الحرم، فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم فبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه بأن بدئ بالقتال وهو له كاره، لينصرنه الله. (وقوله: إن الله لعفو غفور يقول تعالى ذكره: إن الله لذو عفو وصفح لمن انتصر ممن ظلمه من بعد ما ظلمه الظالم بحق، غفور لما فعل ببادئه بالظلم مثل الذي فعل به غير معاقبه عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير) *. يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك هذا النصر الذي أنصره على من بغى عليه على الباغي، لاني القادر على ما أشاء. فمن قدرته أن الله يولج الليل في النهار يقول: يدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار، فما نقص من هذا زاد في هذا. ويولج النهار في الليل ويدخل ما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا زاد في طول هذا، وبالقدرة التي يفعل ذلك ينصر محمدا (ص) وأصحابه على الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم. وأن الله سميع بصير يقول: وفعل ذلك أيضا بأنه ذو سمع لما يقولون من قول لا يخفى عليه منه شئ، بصير بما يعملون، لا يغيب عنه منه شئ، كل ذلك منه بمرأى ومسمع، وهو الحافظ لكل ذلك، حتى يجازى جميعهم على ما قالوا وعملوا من قول وعمل جزاءه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 257 ]
* (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) *. يعني تعالى ذكره بقوله ذلك هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي الليل في النهار وإيلاجي النهار في الليل لاني أنا الحق الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ند، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلها من دونه هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شئ، بل هو المصنوع يقول لهم تعالى ذكره: أفتتركون أيها الجهال عبادة من منه النفع وبيده الضر وهو القادر على كل شئ وكل شئ دونه، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وقوله: وأن الله هو العلي الكبير يعني بقوله: العلي ذو العلو على كل شئ، هو فوق كل شئ وكل شئ دونه. الكبير يعني العظيم، الذي كل شئ دونه ولا شئ أعظم منه. وكان ابن جريج يقول في قوله: وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، في قوله: وأن ما يدعون من دونه هو الباطل قال: الشيطان. واختلفت القراء في قراءة قوله: وأن ما يدعون من دونه فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز: تدعون بالتاء على وجه الخطاب وقرأته عامة قراء العراق غير عاصم بالياء على وجه الخبر، والياء أعجب القراءتين إلي، لان ابتداء الخبر على وجه الخطاب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير) *. يقول تعالى ذكره: ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء ماء يعني مطرا، فتصبح الارض مخضرة بما ينبت فيها من النبات. إن الله لطيف باستخراج النبات من الارض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه. خبير بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وبه. قال: فتصبح الارض فرفع، وقد تقدمه قوله: ألم تر
[ 258 ]
وإنما قيل ذلك كذلك لان معنى الكلام الخبر، كأنه قيل: أعلم يا محمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الارض ونظير ذلك قول الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق * وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق لان معناه: قد سألته فنطق. القول في تأويل قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الارض وإن الله لهو الغني الحميد) *. يقول تعالى ذكره: له ملك ما في السموات وما في الارض من شئ هم عبيده ومماليكه وخلقه، لا شريك له في ذلك ولا في شئ منه، وإن الله هو الغني عن كل ما في السموات وما في الارض من خلقه وهم المحتاجون إليه، الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم) *. يقول تعالى ذكره: ألم تر أن الله سخر لكم أيها الناس ما في الارض من الدواب والبهائم، فذلك كله لكم تصرفونه فيما أردتم من حوائجكم. والفلك تجري في البحر بأمره يقول: وسخر لكم السفن تجري في البحر بأمره، يعني بقدرته، وتذليله إياها لكم كذلك. واختلفت القراء في قراءة قوله: والفلك تجري فقرأته عامة قراء الامصار: والفلك نصبا، بمعنى سخر لكم ما في الارض، والفلك عطفا على ما، وعلى تكرير أن وأن الفلك تجري. وروي عن الاعرج أنه قرأ ذلك رفعا على الابتداء. والنصب هو القراءة عندنا في ذلك لاجماع الحجة من القراء عليه. ويمسك السماء أن تقع على
[ 259 ]
الارض يقول: ويمسك السماء بقدرته كي لا تقع على الارض إلا بأذنه. ومعنى قوله: أن تقع: أن لا تقع. إن الله بالناس لرءوف بمعنى: أنه بهم لذو رأفة ورحمة فمن رأفته بهم ورحمته لهم أمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه، وسخر لكم ما وصف في هذه الآية تفضلا منه عليكم بذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الانسان لكفور لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) *. يقول تعالى ذكره: والله الذي أنعم عليكم هذه النعم، هو الذي جعلكم أجساما أحياء بحياة أحدثها فيكم، ولم تكونوا شيئا، ثم هو يميتكم من بعد حياتكم فيفنيكم عند مجئ آجالكم ثم يحييكم بعد مماتكم عند بعثكم لقيام الساعة. إن الانسان لكفور يقول: إن ابن آدم لجحود لنعم الله التي أنعم بها عليه من حسن خلقه إياه، وتسخيره له ما سخر مما في الارض والبر والبحر، وتركه إهلاكه بإمساكه السماء أن تقع على الارض بعبادته غيره من الآلهة والانداد، وتركه إفراده بالعبادة وإخلاص التوحيد له. وقوله: لكل أمة جعلنا منسكا يقول: لكل جماعة قوم هي خلت من قبلك، جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه وقضاء فرائضي وعملا يلزمونه. وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر يقال: إن لفلان منسكا يعتاده: يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وإنما سميت مناسك الحج بذلك، لتردد الناس إلى الاماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وفيه لغتان: منسك بكسر السين وفتح الميم، وذلك من لغة أهل الحجاز، ومنسك بفتح الميم والسين جميعا، وذلك من لغة أسد. وقد قرئ باللغتين جميعا. وقد اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: لكل أمة جعلنا منسكا: أي المناسك عني به ؟ فقال بعضهم: عني به: عيدهم الذي يعتادونه. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه يقول: عيدا. وقال آخرون: عني به ذبح يذبحونه ودم يهريقونه. ذكر من قال ذلك:
[ 260 ]
حدثني أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه قال: إراقة الدم بمكة. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: هم ناسكوه قال: إهراق دماء الهدي. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: منسكا قال: ذبحا وحجا. والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى لان المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله (ص) كانت إراقة الدم في هذه الايام، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الانعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الانعام. غير أن تلك لم تكن مناسك، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا ولذلك قلنا: عني بالمنسك في هذا الموضع الذبح الذي هو بالصفة التي وصفنا. وقوله: فلا ينازعنك في الامر يقول تعالى ذكره: فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ؟ فأنك أولى بالحق منهم، لانك محق وهم مبطلون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فلا ينازعنك في الامر قال: الذبح. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: فلا ينازعنك في الامر فلا تتحام لحمك. وقوله: وادع إلى ربك يقول تعالى ذكره: وادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك في ذلك بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعد اتباعك وبعد التصديق بما جئتهم به من عند الله، وتجنبوا الذبح للآلهة والاوثان وتبرءوا منها، إنك لعلى طريق مستقيم غير زائل عن مجة الحق والصواب في نسكك الذي جعله لك ولامتك ربك، وهم الضلال على قصد السبيل، لمخالفتهم أمر الله في ذبائحهم ومطاعمهم وعبادتهم الآلهة. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 261 ]
* (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ئ الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وإن جادلك يا محمد هؤلاء المشركون بالله في نسكك، فقل: الله أعلم بما تعملون ونعمل. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني جحاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وإن جادلوك قال: قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بيمينه. فقل الله أعلم بما تعملون لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. وقوله: الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون يقول تعالى ذكره: والله يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه من أمر دينكم تختلفون، فتعلمون حينئذ أيها المشركون المحق من المبطل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) *. يقول تعالى ذكره: ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم كل ما في السموات السبع والارضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شئ، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة، على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا، فمجازي المحسن منهم بإحسانه والمسئ بإساءته. إن ذلك في كتاب يقول تعالى ذكره: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جل ثناؤه قبل أن يخلق خلقه ما هو كائن إلى يوم القيامة. إن ذلك على الله يسير. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ميسر بن إسماعيل الحلبي، عن الاوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: علم الله ما هو خالق وما الخلق عاملون ثم كتبه، ثم قال لنبيه: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني ميسر، عن أرطاة بن المنذر، قال: سمعت ضمرة بن حبيب يقول: إن الله كان على عرشه على الماء، وخلق السموات
[ 262 ]
والارض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام، قبل أن يبدأ شيئا من الخلق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن سيار، عن ابن عباس، أنه سأل كعب الاحبار عن أم الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا. وكان ابن جريج يقول في قوله: إن ذلك في كتاب ما: حدثنا به القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: إن ذلك في كتاب قال: قوله: الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. وإنما اخترنا القول الذي قلنا في ذلك، لان قوله: إن ذلك إلى قوله: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض أقرب منه إلى قوله: الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون، فكان إلحاق ذلك بما هو أقرب إليه أولى منه بما بعد. وقوله: إن ذلك على الله يسير اختلف في ذلك، فقال بعضهم: معناه: إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على الله يسير. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: إن ذلك على الله يسير قال: حكمه يوم القيامة، ثم قال بين ذلك: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض إن ذلك في كتاب. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن على الله يسير يعني هين. وهذا القول الثاني أولى بتأويل ذلك، وذلك أن قوله: إن ذلك على الله يسير... إلى قوله: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والارض بينهما فإلحاقه بما هو أقرب أولى ما وجد للكلام، وهو كذلك مخرج في التأويل صحيح. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير) *. يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه ما لم ينزل به جل ثناؤه لهم
[ 263 ]
حجة من السماء في كتاب من كتبه التي أنزلها إلى رسله، بأنها آلهة تصلح عبادتها فيعبدوها، بأن الله أذن لهم في عبادتها، وما ليس لهم به علم أنها آلهة. وما للظالمين من نصير يقول: وما للكافرين بالله الذين يعبدون هذه الاوثان من ناصر ينصرهم يوم القيامة، فينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد عقابهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) *. يقول تعالى ذكره: وإذا تتلى على مشركي قريش العابدين من دون الله ما لم ينزل به سلطانا آياتنا يعني: آيات القرآن، بينات يقول: واضحات حججها وأدلتها فيما أنزلت فيه. تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يقول: تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الايمان بالله من تغيرها، لسماعهم بالقرآن. وقوله: يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا يقول: يكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات كتاب الله من أصحاب النبي (ص)، لشدة تكرههم أن يسمعوا القرآن ويتلى عليهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله يسطون قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: يكادون يسطون يقول: يبطشون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يكادون يسطون يقول: يقعون بمن ذكرهم. حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قال: يكادون يقعون بهم.
[ 264 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: يكادون يسطون قال: يبطشون كفار قريش. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا يقول: يكادون يأخذونهم بأيديهم أخذا. وقوله: قل أفأنبئكم بشر من ذلكم يقول: أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من هؤلاء الذين تتكرهون قراءتهم القرآن عليكم، هي النار وعدها الله الذين كفروا. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول: إن المشركين قالوا: والله إن محمدا وأصحابه لشر خلق الله فقال الله لهم: قل أفأنبئكم أيها القائلون هذا القول بشر من محمد (ص) ؟ أنتم أيها المشركون الذين وعدهم الله النار. ورفعت النار على الابتداء، ولانها معرفة لا تصلح أن ينعت بها الشر وهو نكرة، كما يقال: مررت برجلين: أخوك وأبوك، ولو كانت مخفوضة كان جائزا وكذلك لو كان نصبا للعائد من ذكرها في وعدها وأنت تنوي بها الاتصال بما قبلها. يقول تعالى ذكره: فهؤلاء هم أشرار الخلق لا محمد وأصحابه.) وقوله: وبئس المصير يقول: وبئس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس جعل لله مثل وذكر. ومعنى ضرب في هذا الموضع: جعل من قولهم: ضرب السلطان على الناس البعث، بمعنى: جعل عليهم. وضرب الجزية على النصارى، بمعنى جعل ذلك عليهم والمثل: الشبه، يقول جل ثناؤه: جعل لي شبه أيها الناس، يعني بالشبه والمثل: الآلهة، يقول: جعل لي المشركون
[ 265 ]
والاصنام شبها، فعبدوها معي وأشركوها في عبادتي. فاستمعوا له يقول: فاستمعوا حال ما مثلوه وجعلوه في عبادتهم إياه شبها وصفته. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا يقول: إن جميع ما تعبدون من دون الله من الآلهة والاصنام لو جمعت لم يخلقوا ذبابا في صغره وقلته، لانها لا تقدر على ذلك ولا تطيقه، ولو اجتمع لخلقه جميعها. والذباب واحد، وجمعه في القلة أذبة وفي الكثير ذبان، نظير غراب يجمع في القلة أغربة وفي الكثرة غربان. ] وقوله: وإن يسلبهم الذباب شيئا يقول: وإن يسلب الآلهة والاوثان الذباب شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه من شئ لا يستنقذوه منه: يقول: لا تقدر الآلهة أن تستنقذ ذلك منه. واختلف في معنى قوله: ضعف الطالب والمطلوب فقال بعضهم: عني بالطالب: الآلهة، وبالمطلوب: الذباب. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس، في قوله: ضعف الطالب قال: آلهتهم. والمطلوب: الذباب. وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: ضعف الطالب من بني آدم إلى الصنم حاجته، والمطلوب إليه الصنم أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله، يقول: ضعف عن ذلك وعجز. والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه، وهو الطيب وما أشبهه والمطلوب: الذباب. وإنما قلت هذا القول أولى بتأويل ذلك، لان ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا عما هو عنه منقطع. وإنما أخبر جل ثناؤه عن الآلهة بما أخبر به عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها، تقريعا منه بذلك عبدتها من مشركي قريش، يقول تعالى ذكره: كيف يجعل مثل في العبادة ويشرك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ له الذباب فسلبه شيئا عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الخالق ما في السموات والارض ومالك جميع ذلك،
[ 266 ]
والمحيي من أردت والمميت ما أردت ومن أردت. إن فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل. وقوله: ما قدروا الله حق قدره يقول: ما عظم هؤلاء الذين جعلوا الآلهة لله شريكا في العبادة حق عظمته حين أشركوا به غيره، فلم يخلصوا له العبادة ولا عرفوه حق معرفته من قولهم: ما عرفت لفلان قدره إذا خاطبوا بذلك من قصر بحقه وهم يريدون تعظيمه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإن يسلبهم الذباب شيئا... إلى آخر الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لآلهتهم. وقرأ: ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه. وقوله: إن الله لقوي يقول: إن الله لقوي على خلق ما يشاء من صغير ما يشاء من خلقه وكبيره. عزيز يقول: منيع في ملكه لا يقدر شئ دونه أن يسلبه من ملكه شيئا، وليس كآلهتكم أيها المشركون الذين تدعون من دونه الذين لا يقدرون على خلق ذباب ولا على الامتناع من الذباب إذا استلبها شيئا ضعفا ومهانة. القول في تأويل قوله تعالى: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير) *. يقول تعالى ذكره: الله يختار من الملائكة رسلا كجبريل وميكائيل اللذين كانا يرسلهما إلى أنبيائه ومن شاء من عباده ومن الناس، كأنبيائه الذين أرسلهم إلى عباده من بني آدم. ومعنى الكلام: الله يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس أيضا رسلا. وقد قيل: إنما أنزلت هذه الآية لما قال المشركون: أنزل عليه الذكر من بيننا، فقال الله لهم: ذلك إلي وبيدي دون خلقي، أختار من شئت منهم للرسالة. وقوله: إن الله سميع بصير يقول: إن الله سميع لما يقول المشركون في محمد (ص)، وما جاء به من عند ربه، بصير بمن يختاره لرسالته من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 267 ]
* (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور) *. يقول تعالى ذكره: الله يعلم ما كان بين أيدي ملائكته ورسله، من قبل أن يخلقهم وما خلفهم، يقول: ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. وإلى الله ترجع الامور يقول: إلى الله في الآخرة تصير إليه أمور الدنيا، وإليه تعود كما كان منه البدء. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اركعوا لله في صلاتكم واسجدوا له فيها واعبدوا ربكم يقول: وذلوا لربكم، واخضعوا له بالطاعة، وافعلوا الخير الذي أمركم ربكم بفعله لعلكم تفلحون يقول: لتفلحوا بذلك، فتدركوا به طلباتكم عند ربكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وجاهدوا في الله حق جهاده فقال بعضهم: معناه: وجاهدوا المشركين في سبيل الله حق جهاده. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن عبد الله بن عباس، في قوله: وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فقال عمر: من أمر بالجهاد ؟ قال: قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس. فقال عمر: صدقت. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تخافوا في الله لومة لائم. قالوا: وذلك هو حق الجهاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: وجاهدوا في الله حق جهاده لا تخافو في الله لومة لائم.
[ 268 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: اعملوا بالحق حق عمله. وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر. والصواب من القول في ذلك: قول من قال: عنى به الجهاد في سبيل الله لان المعروف من الجهاد ذلك، وهو الاغلب على قول القائل: جاهدت في الله. وحق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه. وقوله: هو اجتباكم يقول: هو اختاركم لدينه، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله وقال ابن زيد في ذلك، ما: حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: هو اجتباكم قال: هو هداكم. وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج يقول تعالى ذكره: وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم به من ضيق، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه بل وسع عليكم، فجعل التوبة من بعض مخرجا، والكفارة من بعض، والقصاص من بعض، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الاسلام مخرج. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد، عن ابن شهاب، قال: سأل عبد الملك بن مروان علي بن عبد الله بن عباس عن هذه الآية: وما جعل عليكم في الدين من حرج فقال علي بن عبد الله: الحرج: الضيق، فجعل الله الكفارات مخرجا من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك. قال: أخربنا ابن وهب، قال: ثني سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس يسأل عن: ما جعل عليكم في الدهين من حرج، قال: ما ها هنا من هذيل أحد ؟ فقال رجل: نعم، قال: ما تعدون الحرجة فيكم ؟ قال: الشئ الضيق. قال ابن عباس: فهو كذلك.
[ 269 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس، وذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال ابن عباس: أها هنا أحد من هذيل ؟ فقال رجل: أنا، فقال أيضا: ما تعدون الحرج ؟ وسائر الحديث مثله. حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا يحيى بن حمزة، عن الحكم بن عبد الله، قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله (ص) عن هذه الآية: وما جعل عليكم حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن في الدين من حرج قال: هو الضيق زريع، قال: ثنا أبو خلدة، قال: قال لي أبو العالية: أتدري ما الحرج ؟ قلت: لا أدري. قال: الضيق. وقرأ هذه الآية: وما جعل عليكم في الدين من حرج. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، في قوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج قال: من ضيق. حدثنا عمرو بن بندق، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة، قال: قال لي أبو العالية: هل تدري ما الحرج ؟ قلت لا، قال: الضيق، إن الله لم يضيق عليكم، لم يجعل عليكم في الدين من حرج. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن القاسم أنه تلا هذه الآية: وما جعل عليكم في الدين حرج قال: تدرون ما الحرج ؟ قال: الضيق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا تعاجم شئ من القرآن، فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي. ثم دعا ابن عباس أعرابيا، فقال: ما الحرج ؟ قال: الضيق. قال: صدقت
[ 270 ]
حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: في الدين من حرج قال: من ضيق. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: ما جعل عليكم في الدين من حرج من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم، ولكنه قد وسع عليكم حتى تيقنوا محلها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عثمان بن بشار، عن ابن عباس، في قوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج قال: هذا في هلال شهر رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الهلال، وفي الفطر والاضحى إذا التبس عليهم، وأشباهه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما جعل في الاسلام من ضيق، بل وسعه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج يقول: ما جعل عليكم في الاسلام من ضيق، هو واسع، وهو مثل قوله في الانعام: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا يقول: من أراد أن يضله يضيق عليه صدره، حتى يجعل عليه الاسلام ضيقا، والاسلام واسع. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج يقول: من ضيق، يقول: جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيقا. وقوله: ملة أبيكم إبراهيم نصب ملة بمعنى: وما جعل عليكم في الدين من حرج، بل وسعه، كملة أبيكم فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت. وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الامر بها، لان الكلام قبله أمر، فكأنه قيل: اركعوا واسجدوا والزموا ملة أبيكم إبراهيم. وقوله: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا يقول تعالى ذكره: سماكم يا معشر من آمن بمحمد (ص) المسلمين من قبل.
[ 271 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: هو سماكم المسلمين يقول: الله سماكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء بن ابن أبي رباح، أنه سمع ابن عباس يقول: الله سماكم المسلمين من قبل. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، وحدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن معمر، عن قتادة: هو سماكم المسلمين قال: الله سماكم المسلمين من قبل. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: هو سماكم المسلمين قال: الله سماكم. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: هو سماكم المسلمين من قبل يقول: الله سماكم المسلمين. وقال آخرون: بل معنا: إبراهيم سماكم المسلمين وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيم (ص): ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد هو سماكم المسلمين قال: ألا ترى قول إبراهيم واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: هذا قول إبراهيم هو سماكم المسلمين ولم يذكر الله بالاسلام والايمان غير هذه الامة، ذكرت بالايمان والاسلام جميعا، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالايمان. ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك لانه معلوم أن إبراهيم لم يسم أمة محمد مسلمين
[ 272 ]
في القرآن، لان القرآن أنزل من بعده بدهر طويل، وقد قال الله تعالى ذكره: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله الذي لم يزل ولا يزال. وأما قوله: من قبل فإن معناه: من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله. وفي هذا يقول: وفي هذا الكتاب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: من قبل قال: في الكتب كلها والذكر وفي هذا يعني القرآن. وقوله: ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس يقول تعالى ذكره: اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته، من أمة محمد (ص) مسلمين، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: هو سماكم المسلمين من قبل قال: الله سماكم المسلمين من قبل. وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم بأنه بلغكم. وتكونوا شهداء على الناس أن رسلهم قد بلغتهم. وبه عن قتادة، قال: أعطيت هذه الامة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج وقال الله: وما جعل عليكم في الدين من حرج، وكان يقال للنبي (ص): أنت شهيد على قومك وقال الله لتكونوا شهداء على الناس وكان يقال للنبي (ص): سل تعطه وقال الله: ادعوني أستجب لكم. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أعطيت هذه الامة ثلاثا لم يعطها إلا نبي، كان يقال للنبي (ص): اذهب فليس عليك حرج شهيدا عليكم بأنه بلغكم. وتكونوا شهداء على الناس أن رسلهم قد بلغتهم. وبه عن قتادة، قال: أعطيت هذه الامة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج وقال الله: وما جعل عليكم في الدين من حرج، وكان يقال للنبي (ص): أنت شهيد على قومك وقال الله لتكونوا شهداء على الناس وكان يقال للنبي (ص): سل تعطه وقال الله: ادعوني أستجب لكم. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أعطيت هذه الامة ثلاثا لم يعطها إلا نبي، كان يقال للنبي (ص): اذهب فليس عليك حرج
[ 273 ]
فقال الله: وما جعل عليكم في الدين من حرج قال: وكان يقال للنبي (ص): أنت شهيد على قومك وقال الله: لتكونوا شهداء على الناس وكان يقال للنبي (ص): سل تعطه وقال الله ادعوني أستجب لكم. القول في تأويل قوله تعالى: (فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واعتصموا بالله هو مولئاكم فنعم المولى ونعم النصير (78). يعنى تعالى ذكره بقوله: (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) يقول: فأدوا الصلاة المفروضة لله عليكم بحدودها، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم. (واعتصموا بالله) يقول: وثقوا بالله، وتوكلوا عليه في أموركم. (فنعم المولى) يقول: فنعم الولي الله لمن فعل ذلك منكم. فأقام الصلاة واتى الزكاة وجاهد في سبيل الله حق جهاده واعتصم به. (ونعم النصير) يقول: ونعم الناصر هو له على من بغاه بسوء. تم الجزء السابع عشر من تفسير الامام محمد بن جرير الطبري ويليه: الجزء الثامن عشر وأوله: سورة المؤمنون