جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 11
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القران تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخرير صدقي جميل العطار الجزء الخامس عشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
[ 2 ]
جميع حقوق اعادة الطبع محفوظة للناشر 1415 ه / 1995 م
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) *. يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنوك في التخلف خلافك وترك الجهاد معك وهم أهل غنى وقوة وطاقة للجهاد والغزو، نفاقا وشكا في وعد الله ووعيده. رضوا بأن يكونوا مع الخوالف يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء وهن الخوالف خلف الرجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك. وطبع الله على قلوبهم يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب. فهم لا يعلمون سوء عاقبتهم بتخلفهم عنك وتركهم الجهاد معك وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا وعظيم البلاء في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *. يقول تعالى ذكره يعتذر إليكم أيها المؤمنون بالله هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله (ص)، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين بالاباطيل والكذب إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم قل لهم يا محمد: لا تعتذروا لن نؤمن لكم يقول: لن نصدقكم على ما تقولون. قد نبأنا الله من أخباركم يقول: قد أخبرنا الله من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبكم. وسيرى الله عملكم ورسوله يقول: وسيرى الله ورسوله فيما بعد عملكم، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ثم تردون إلى عالم
[ 4 ]
الغيب والشهادة يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم الغيب والشهادة يعني الذي يعلم السر والعلانية الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها. فينبئكم بما كنتم تعلمون فيخبركم بأعمالكم كلها سيئها وحسنها، فيجازيكم بها الحسن منها بالحسن والسيئ منها بالسيئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) *. يقول تعالى ذكره: سيحلف أيها المؤمنون بالله لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، إذا انقلبتم إليهم يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم. فأعرضوا عنهم يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم وخلوهم، وما اختاروا لانفسهم من الكفر والنفاق. إنهم رجس ومأواهم جهنم يقول: إنهم نجس ومأواهم جهنم، يقول: ومصيرهم إلى جهنم وهي مسكنهم الذي يأوونه في الآخرة. جزاء بما كانوا يكسبون يقول: ثوابا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله. وذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين قالا ما: حدثنا به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا... إلى: بما كانوا يكسبون وذلك أن رسول الله (ص) قيل له: ألا تغزو بني الاصفر لعلك أن تصيب بنت عظيم الروم، فإنهم حسان فقال رجلان: قد علمت يا رسول الله أن النساء فتنة، فلا تفتنا بهن، فأذن لنا فأذن لهما فلما انطلقا، قال أحدهما: إن هو إلا شحمة لاول آكل. فسار رسول الله (ص)، ولم ينزل عليه في ذلك شئ، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة، ونزل عليه: عفا الله عنك لم أذنت لهم، ونزل عليه: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ونزل عليه: إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما
[ 5 ]
كانوا يكسبون فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي (ص)، فأتاهم وهم خلفهم، فقال: تعلمون أن قد أنزل على رسول الله (ص) بعدكم قرآن، قالوا: ما الذي سمعت ؟ قال ما أدري، غير أني سمعت أنه يقول: إنهم رجس، فقال رجل يدعى مخشيا: والله لوددت أني أجلد مئة جلدة وأني لست معكم فأتى رسول الله (ص): ما جاء بك ؟ فقال: وجه رسول الله (ص) تسفعه الريح وأنا في الكن، فأنزل الله عليه: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني وقالوا لا تنفروا في الحر ونزل عليه في الرجل الذي قال: لوددت أني أجلد مئة جلدة، قول الله: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم فقال رجل مع رسول الله: لئن كان هؤلاء كما يقولون ما فينا خير. فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فقال له: أنت صاحب الكلمة التي سمعت ؟ فقال: لا والذي أنزل عليك الكتاب فأنزل الله فيه: ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وأنزل فيه: وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب، قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لما قدم رسول الله (ص) من تبوك، جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله (ص) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله وصدقته حديثي. فقال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للاسلام أعظم في نفسك من صدق رسول الله (ص) أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، شر ما قال لاحد: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون... إلى قوله: فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 6 ]
* (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) *. يقول تعالى ذكره: يحلف لكم أيها المؤمنون بالله هؤلاء المنافقون اعتذارا بالباطل والكذب لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين يقول: فإن أنتم أيها المؤمنون رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم، إذا كنتم لا تعلمون صدقهم من كذبهم، فإن رضاكم عنهم غير نافعهم عند الله لان الله يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون، ومن خفي اعتقادهم ما تجهلون، وأنهم على الكفر بالله، يعني أنهم الخارجون من الايمان إلى الكفر بالله ومن الطاعة إلى المعصية. القول في تأويل قوله تعالى: * (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *.. يقول تعالى ذكره: الاعراب أشد جحودا لتوحيد الله وأشد نفاقا من أهل الحضر في القرى والامصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لاهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقل علما بحقوق الله. وقوله: وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك فيما قال قتادة: السنن. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله قال: هم أقل علما بالسنن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مقرن عن الاعمش، عن إبراهيم، قال جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني فقال زيد: وما يريبك من يدي، إنها الشمال ؟ فقال الاعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم
[ 7 ]
الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. وقوله: والله عليم حكيم يقول: والله عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله، والمنافق من خلقه والكافر منهم، لا يخفى عليه منهم أحد، حكيم في تدبيره إياهم، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه. / شا ] القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم) *. يقول تعالى ذكره: ومن الاعراب من يعد نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك أو في معونة مسلم أو في بعض ما ندب الله إليه عباده مغرما يعني غرما لزمه لا يرجو له ثوابا ولا يدفع به عن نفسه عقابا. ويتربص بكم الدوائر يقول: وينتظرون بكم الدوائر أن تدور بها الايام والليالي إلى مكروه ونفي محبوب، وغلبة عدو لكم. يقول الله تعالى ذكره: عليهم دائرة السوء يقول: جعل الله دائرة السوء عليهم، ونزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون، ولا بكم، والله سميع لدعاء الداعين، عليم بتدبيرهم وما هو بهم نازل من عقاب الله وما هم إليه صائرون من أليم عقابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر قال: هؤلاء المنافقون من الاعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا، أو يحاربوا، أو يقاتلوا، ويرون نفقتهم مغرما، إلا تراه يقول: ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة والكوفة: عليهم دائرة السوء بفتح السين، بمعنى النعت للدائرة، وإن كانت الدائرة مضافة إليه، كقولهم: هو
[ 8 ]
رجل السوء، وامرؤ الصدق، كأنه إذا فتح مصدر من قولهم: سؤته أسوءة سوءا ومساءة ومسائية. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين: عليهم دائرة السوء بضم السين كأنه جعله اسما، كما يقال عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال: عليهم دائرة السوء فضم، لم يقل هذا رجل السوء بالضم، والرجل السوء، وقال الشاعر: وكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين، بمعنى: عليهم الدائرة التي تسوءهم سوءا كما يقال هو رجل صدق على وجه النعت. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم) *. يقول تعالى ذكره: ومن الاعراب من يصدق الله ويقر بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول الله (ص) قربات عند الله القربات جمع قربة، وهو ما قربه من رضا الله ومحبته. وصلوات الرسول، يعني بذلك: ويبتغي بنفقة ما ينفق مع طلب قربته من الله دعاء الرسول واستغفاره له.
[ 9 ]
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وصلوات الرسول يعني استغفار النبي عليه الصلاة والسلام. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول قال: دعاء الرسول، قال: هذه ثنية الله من الاعراب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر قال: هم بنو مقرن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لاأجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا قال: هم بنو مقرن من مزينة. قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: الاعراب أشد كفرا ونفاقا ثم استثنى فقال: ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر... الآية. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا جعفر، عن البختري بن المختار العبدي، قال: سمعت عبد الله بن مغفل قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا: ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر... إلى آخر الآية. قال الله: ألا إنها قربة لهم يقول تعالى ذكره: ألا إن صلوات الرسول قربة لهم من الله، وقد يحتمل أن يكون معناه: ألا إن نفقته التي ينفقها كذلك قربة لهم عند الله. سيدخلهم الله في رحمته يقول: سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة، إن الله غفور لما اجترموا، رحيم بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 10 ]
* (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) *. يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولا إلى الايمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والانصار الذين نصروا رسول الله (ص) على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله: والذين اتبعوهم بإحسان يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الايمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام، طلب رضا الله، رضي الله عنهم ورضوا عنه. واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: والسابقون الاولون فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله (ص) بيعة الرضوان أو أدركوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن إسماعيل، عن عامر: والسابقون الاولون قال: من أدرك بيعة الرضوان. قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر، قال: المهاجرون الاولون من أدرك البيعة تحت الشجرة. حدثنا ابن بشار، قال ثنا يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: المهاجرون الاولون الذين شهدوا بيعة الرضوان. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، قال: المهاجرون الاولون: من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الاولون، ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الاولين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل ومطرف عن الشعبي، قال: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار هم الذين بايعوا بيعة الرضوان. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عداود، عن عامر، قال: فصل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية
[ 11 ]
حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرف، عن الشعبي، قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبثر أبو زبيد، عن مطرف، الشعبي، قال: المهاجرون الاولون: من أدرك بيعة الرضوان. وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عثمان الثقفي، عن مولى لابي موسى، عن أبي موسى، قال: المهاجرون الاولون: من صلى القبلتين مع النبي (ص). حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن مولى لابي موسى، قال: سألت أبا موسى الاشعري، عن قوله: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سموا المهاجرين الاولين ؟ قال: من صلى من النبي (ص) القبلتين جميعا، فهو من المهاجرين الاولين. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: المهاجرون الاولون: الذين صلوا القبلتين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قوله: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عباس بن الوليد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
[ 12 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، وعن أشعث، عن ابن سيرين في قوله: السابقون الاولون قال: هم الذين صلوا القبلتين. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن معاذ، قال: ثنا ابن عون، عن محمد، قال: المهاجرون الاولون: الذين صلوا القبلتين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا. وأما الذين اتبعوا المهاجرون الاولين والانصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما: حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: مر عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان قال: من أقرأك هذه الآية ؟ قال أقرأنيها أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية ؟ قال نعم، قال: وسمعتها من رسول الله (ص) ؟ قال: لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. قال: وتصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، وأوسط الحشر، وآخر الانفال أما أول الجمعة: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وأوسط الحشر: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، وأما آخر الانفال: والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم. حدثنا أبو كريب، ثنا الحسن بن عطية، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ: السابقون الاولون من المهاجرين
[ 13 ]
والانصار... حتى بلغ: ورضوا عنه قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا ؟ قال: أبي بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال: نعم، قال: أنت سمعتها من رسول الله (ص) ؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم... إلى: وهو العزيز الحكيم، وفي سورة الحشر: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، وفي الانفال: والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فألئك منكم... إلى آخر الآية. وروي عن عمر في ذلك ما: حدثني به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن حبيب بن الشهيد، وعن ابن عامر الانصاري، أن عمر بن الخطاب قرأ: السابقون الاولون من المهاجرين والانصار الذين اتبعوهم بإحسان فرفع الانصار ولم يلحق الواو في الذين، فقال له زيد بن ثابت: والذين اتبعوهم بإحسان، فقال عمر: الذين اتبعوهم بإحسان. فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك، فقال أبي: والذين اتبعوهم بإحسان فقال عمر: إذا نتابع أبيا. والقراءة على خفض الانصار عطفا بهم على المهاجرين. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: الانصار بالرفع عطفا بهم على السابقين. والقراءة التي لا أستجيز غيرها الخفض في الانصار، لاجماع الحجة من القراء عليه، وأن السابق كان من الفريقين جميعا من المهاجرين والانصار. وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين دون الخبر عن الجميع، وإلحاق الواو في الذين اتبعوهم بإحسان،
[ 14 ]
لان ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعا، على أن التابعين بإحسان غير المهاجرين والانصار. وأما السابقون فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: رضي الله عنهم ورضوا عنه ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الاولون من المهاجرين والانصار، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام، وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار يدخلونها خالدين فيها لابثين فيها أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، ذلك الفوز العظيم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) *. يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الاعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون. وقوله: مردوا على النفاق يقول: مرنوا عليه ودربوا به، ومنه شيطان مارد ومريد: وهو الخبيث العاتي، ومنه قيل: تمرد فلان على ربه: أي عتا ومرد على معصيته واعتادها. وقال ابن زيد في ذلك، ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق قال: أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق أي لجوا فيه وأبو غيره. لا تعلمهم يقول لنبيه محمد (ص): لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الاعراب ومن أهل المدينة، ولكنا نحن نعلمهم. كما: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وممن حولكم من الاعراب منافقون... إلى قوله: نحن نعلمهم قال: فما بال أقوام يتكلفو علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته
[ 15 ]
الانبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام: وما علمي بما كانوا يعملون، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ، وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا تعلمهم نحن نعلمهم. وقوله: سنعذبهم مرتين يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين: إحداهما في الدنيا، والاخرى في القبر. ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي فقال بعضهم: هي فضيحتهم فضحهم الله بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، في قول الله: وممن حولكم من الاعراب منافقون من أهل المدينة مردوا على النفاق... إلى قوله: عذاب عظيم قال: قام رسول الله (ص) خطيبا يوم الجمعة، فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فلقيهم عموهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قال انصرفوا واختبئوا هم من عمر، ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم فهذا العذاب الاول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني: عذاب القبر. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: سنعذبهم مرتين قال: كان رسول الله (ص) يخطب، فيذكر المنافقين فيعذبهم بلسانه، قال: وعذاب القبر. ذكر من قال ذلك:
[ 16 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سنعذبهم مرتين قال: القتل والسباء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سنعذبهم مرتين بالجوع، وعذاب القبر. قال: ثم يردون إلى عذاب عظيم يوم القيامة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا جعفر بن عون والقاسم ويحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: سنعذبهم مرتين قال: بالجوع والقتل، وقال يحيى: بالخوف والقتل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: بالجوع والقتل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: سنعذبهم مرتين قال: بالجوع، وعذاب القبر حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سنعذبهم مرتين قال: بالجوع والقتل. وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: سنعذبهم مرتين عذاب الدنيا وعذا ب القبر. ثم يردون إلى عذاب عظيم ذكر لنا أن نبي الله (ص) أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: ستة منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله كان إذا مات رجل يرى أنه منهم ونظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك الله أمنهم أنا ؟ قال: لا والله، ولا أؤمن منها أحدا بعدك
[ 17 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: سنعذبهم مرتين قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر. حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء، قالا: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة: سنعذبهم مرتين قال: عذابا في الدنيا وعذابا في القبر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب النار. وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم، والمرة الاخرى في جهنم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: سنعذبهم مرتين قال: أما عذاب في الدنيا: فالاموال والاولاد، وقرأ قول الله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة في النار. ثم يردون إلى عذاب عظيم قال: النار. وقال آخرون: بل إحدى المرتين: الحدود، والاخرى: عذاب القبر. ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرضي. وقال آخرون: بل إحدى المرتين: أخذ الزكاة من أموالهم، والاخرى: عذاب القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم، عن الحسن. وقال آخرون: بل إحدى المرتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: سنعذبهم مرتين قال: العذاب الذي وعدهم مرتين فيما بلغني عنهم ما هم فيه من أمر الاسلام وما يدخل عليهم من ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه.
[ 18 ]
قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأي ذلك من بأي. على أن في قوله جل ثناؤه: ثم يردون إلى عذاب عظيم دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار، والاغلب من إحدى المرتين أنها في القبر. وقوله: ثم يردون إلى عذاب عظيم يقول: ثم يرد هؤلاء المنافقون بعد تعذيب الله إياهم مرتين إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) *. يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ومنهم آخرون اعترفوا بذنوبهم، يقول: أقروا بذنوبهم. خلطوا عملا صالحا يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ: اعترافهم بذنوبهم وتوبتهم منها، والآخر السيئ هو تخلفهم عن رسول الله (ص) حين خرج غازيا، وتركهم الجهاد مع المسلمين، فإن قال قائل: وكيف قيل: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وإنما الكلام: خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ ؟ قيل: قداختلف أهل العربية في ذلك، فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك، وجائز في العربية أن يكون بآخر كما تقول: استوى الماء والخشبة أي بالخشبة، وخلطت الماء واللبن. وأنكر آخرون أن يكون نظير قولهم: استوى الماء والخشبة. واعتل في ذلك بأن الفعل في الخلط عامل في الاول والثاني، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه، وأن تقديم الخشبة على الماء غير جائز في قولهم: استوى الماء والخشبة، وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك الخلط. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنه بمعنى قولهم: خلطت الماء واللبن، بمعنى خلطته باللبن. عسى الله أن يتوب عليهم يقول: لعل الله أن يتوب عليهم. وعسى من الله واجب، وإنما معناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت. إن الله غفور رحيم يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه وساتر له عليها رحيم أن يعذبه بها.
[ 19 ]
وقد اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية والسبب الذي من أجله أنزلت فيه، فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلفوا عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، منهم أبو لبابة، فربط سبعة منهم أنفسهم إلى السواري عند مقدم النبي (ص) توبة منهم من ذبنهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي (ص) في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي (ص) أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي (ص) إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري ؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن بالله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا فأنزل الله تبارك وتعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم وعسى من الله واجب. فلما نزلت. أرسل إليهم النبي (ص)، فأطلقهم وعذرهم. وقال آخرون: بل كانوا ستة، أحدهم أبو لبابة، ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله... إلى قوله: إن الله غفور رحيم وذلك أن رسول الله (ص) غزا غزوة تبوك، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي (ص). ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلكة، وقالوا: نكون في الكن والطمأنينة مع النساء، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد ؟ والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله (ص) هو يطلقنا ويعذرنا فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد، وبقي ثلاثة نفر لم
[ 20 ]
يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله (ص) من غزوته، وكان طريقه في المسجد، فمر عليهم فقال: من هولاء الموثقو أنفسهم بالسواري ؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عن رسول الله (ص)، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله (ص): والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم فأنزل الله برحمته: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم وعسى من الله واجب. فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله (ص) وعذرهم، وتجاوز عنهم. وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم كردم ومرداس وأبو لبابة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال، أبو لبابة، وكردم، ومرداس، وأبو قيس. وقال آخرون: كانوا سبعة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك، فأما أربعة فخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا: جد بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وكلهم من الانصار، وهم الذين قيل فيهم: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم... الآية. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال: هم نفر ممن تخلف عتبوك: منهم أبو لبابة، ومنهم جد بن قيس تيب عليهم. قال قتادة: وليسوا بثلاثة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:
[ 21 ]
وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال: هم سبعة، منهم أبو لبابة كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك، وليسوا بالثلاثة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معا، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقو ل في قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا نزلا في أبي لبابة وأصحابه تخلفوا عن نبي الله (ص) في غزوة تبوك فلما قفل رسول الله (ص) من غزوته، وكان قريبا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله، وقالوا: نكون في الظلال والاطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللاواء ؟ والله لنوثقن أنفسنا بالسواري ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله (ص) يطلقنا ويعذرنا وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم، فقدم رسول الله (ص) من غزوته، فمر في المسجد وكان طريقه، فأبصرهم، فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال نبي الله (ص): لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين. فأنزل الله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم... إلى: عسى الله أن يتوب عليهم وعسى من الله واجب. فأطلقهم نبي الله وعذرهم. وقال آخرون: بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه منه ما كان من أمره في بني قريظة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال: نزلت في أبي لبابة قال لبني قريظة ما قال. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، أشار إلى حلقه: إن محمدا ذابحكم إن نزلتم على حكم الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخرون اعترفوا بذنوبهم فذكره نحوه إلا أنه قال: إن نزلتم على حكمه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ربط أبو لبابة
[ 22 ]
نفسه إلى سارية، فقال لا أحل نفسي حتى يحلني الله ورسوله قال: فحله النبي (ص)، وفيه أنزلت هذه الآية: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال: نزلت في أبي لبابة. وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة بسبب تخلفه عن تبوك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي (ص) في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، فقال: والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه. قال: ثم تاب الله عليه، ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله (ص) وهو يحلني قال: فجاء النبي (ص) فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث. وقال بعضهم: عني بهذه الآية الاعراب. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال: فقال إنهم من الاعراب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حجاج بن أبي ذئب، قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الامة من قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم... إلى: إن الله غفور رحيم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله (ص) وتركهم الجهاد معه والخروج لغزو الروم حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل فيهم جماعة أحدهم أبو لبابة،
[ 23 ]
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك، لان الله جل ثناؤه قال: وآخرون اعترفوا بذنوبهم فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم بالاعتراف بذنوبهم جماعة، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك فيما نقله أهل السير والاخبار وأجمع عليه أهل التأويل إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك صح ما قلنا في ذلك، وقلنا: كان منهم أبو لبابة لاجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم وتزكيهم بها يقول: وتنميهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها، إلمنازل أهل الاخلاص. وصل عليهم يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم، واستغفر لهم منها. إن صلاتك سكن لهم يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم. والله سميع عليم يقول: والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم ولغير ذلك من كلام خلقه، عليم بما تطلب بهم بدعائك ربك لهم وبغير ذلك من أمور عباده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: جاءوا بأموالهم يعني أبا لبابة وأصحابة حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها يعني بالزكاة: طاعة الله والاخلاص. وصل عليهم يقول: استغفر لهم.
[ 24 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما أطلق رسول الله (ص) أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا برسول الله (ص)، فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق به عنا، وصل علينا يقولون: استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول الله (ص): لا آخذ منها شيئا حتى أومر فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله (ص) جزءا من أموالهم، فتصدق بها عنهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، قال: لما أطلق النبي (ص) أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسواري، قالوا: يا رسول الله خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها فأنزل الله: خذمن أموالهم صدقة تطهرهم... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا الله عنهم با نبي الله طهر أموالنا فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الآخران مثله، وكان عمى منهم اثنان، فلم يزل الآخر يدعوا حتى عمى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الاربعة: جد بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وهم الذين قيل: فيهم: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي وقار لهم. وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدقوا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، قال: لما أطلق نبي الله (ص) أبا لبابة وأصحابه، أتوا نبي الله بأموالهم، فقالوا: يا نبي الله خذ من أموالنا فتصدق به عنا، وطهرنا وصل علينا يقولون: استغفر لنا. فقال نبي الله: لا آخذ من أموالكم شيئا حتى أومر فيها. فأنزل الله عزوجل: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من ذنوبهم التي أصابوا. وصل عليهم يقول: استغفر لهم. ففعل نبي الله عليه الصلاة والسلام ما أمره الله به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 25 ]
قال: قال ابن عباس، قوله: خذ من أموالهم صدقة أبو لبابة وأصحابه. وصل عليهم يقول: استغفر لهم لذنوبهم التي كانوا أصابوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم قال: هؤلاء ناس من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي (ص) في غزوة تبوك، اعترفوا بالنفاق وقالوا: يا رسول الله قد ارتبنا ونافقنا وشككنا، ولكن توبة جديدة وصدقة نخرجها من أموالنا فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها بعد ما قال: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. واختلف أهل العربية في وجه رفع تزكيهم، فقال بعض نحويي البصرة: رفع تزكيهم بها في الابتداء وإن شئت جعلته من صفة الصدقة، ثم جئت بها توكيدا، وكذلك تطهرهم. وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: تطهرهم للنبي عليه الصلاة والسلام فالاختيار أن تجزم بأنه لم يعد على الصدقة عائد، وتزكيهم مستأنف، وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما. قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن قوله: تطهرهم من صلة الصدقة، لان القراء مجمعة على رفعها، وذلك دليل على أنه من صلة الصدقة. وأما قوله: وتزكيهم بها فخبر مستأنف، بمعنى: وأنت تزكيهم بها، فلذلك رفع. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: إن صلاتك سكن لهم فقال بعضهم: رحمة لهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: إن صلاتك سكن لهم يقول: رحمة لهم. وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقار لهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: إن صلاتك سكن لهم: أي وقار لهم. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء المدينة: إن صلواتك سكن لهم بمعنى
[ 26 ]
دعواتك. وقرأة قراء العراق وبعض المكيين: إن صلاتك سكن لهم بمعنى إن دعاءك. وكأن الذين قرءوا ذلك على التوحيد رأوا أن قراءته بالتوحيد أصح لان في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: إن صلواتك سكن لهم إذ كانت الصلوات هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد دون ما هو أكثر من ذلك، والذي قالوا من ذلك عندنا كما قالوا. وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد أكثر من الصلوات، ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبي (ص) وصلاته أنه سكن لهؤلاء القوم لا الخبر عن العدد، وإذا كان ذلك كذلك كان التوحيد في الصلاة أولى. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره أخبر المؤمنين به أن قبول توبة من تاب من المنافقين وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها ليسا إلى نبي الله (ص)، وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه (ص)، وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد، وأن محمدا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جل ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين الموثقو أنفسهم بالسواري، القائلون لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله (ص) هو الذي يطلقنا، السائلو رسول الله (ص) أخذ الصدقة أموالهم أن ذلك ليس إلى محمد، وأن ذلك إلى الله، وأن الله هو الذي يقبل من تاب عباده أو يردها، ويأخذ صدقة من تصدق منهم، أو يردها عليه دون محمد، فيوجهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله، ويقصدوا بذلك قصد وجهه دون محمد وغيره، ويخلصوا التوبة له ويريدوه بصدقتهم، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم ؟ يقول: المرجع بعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال الآخرون، يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء يعني الذين تابوا كانوا بالامس معنا
[ 27 ]
لا يكلمون ولا يجالسون، فمالهم، فقال الله: إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله التواب الرحيم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني رجل كان يأتي حمادا ولم يجلس إليه قال شعبة: قال العوام بن حوشب: هو قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب قال سمعت عبد الله بن السائب وكان جاره، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما من عبد تصدق بصدقة إلا وقعت في يد الله، فيكون هو الذي يضعها في يد السائل. وتلا هذه الآية: هيقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي، عن عبد الله بن مسعود قال: ما تصدق رجل بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن ابن مسعود، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: قال عبد الله: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ هذه الآية: هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عباد بن منصور، عن القاسم أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله (ص): إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لاحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله: أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربي الصدقات. حدثنا سليمان بن عمر بن الاقطع الربى، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه، قال: إن الله يقبل الصدقة، ثم ذكر نحوه.
[ 28 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال: إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيب، ويأخذها بيمينه، وإن الرجل يتصدق بمثل اللقمة، فيربيها الله له، كما يربى أحدكم فصيله أو مهره، فتربو في كف الله أو قال في يد الله حتى تكون مثل الجبل. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: والذي نفس محمد بيده، لا يتصدق رجل بصدقة فتقع في يد السائل حتى تقع في يد الله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وأن الله هو التواب الرحيم يعني إن استقاموا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وقل يا محمد لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك اعملوا لله بما يرضيه من طاعته وأداء فرائضه، فسيرى الله عملكم ورسوله يقول فسيرى الله إن عملتم عملكم، ويراه رسوله. والمؤمنون في الدنيا وستردون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شئ من باطن أموركم وظواهرها. فينبئكم بما كنتم تعملون يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون، وما منه خالصا وما منه رياء وما منه طاعة وما منه لله معصية، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون قال: هذا وعيد. القول في تأويل قوله تعالى: [ / يم ]
[ 29 ]
* (وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) *. يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم شخصتم لعدوكم أيها المؤمنون آخرون. ورفع قوله آخرون عطف على قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وآخرون مرجون يعني مرجئون لامر الله وقضائه، يقال منه أرجأته أرجئه إرجاء وهو مرجأ بالهمز وترك الهمز، وهما لغتان معناهما واحد، وقد قرأت القراء بهما جميعا. وقيل: عنى بهؤلاء الآخرين نفر ممن كان تخلف عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، فندموا على ما فعلوا ولم يتعذروا إلى رسول الله (ص) عند مقدمه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحت توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: وكان ثلاثة منهم يعني من المتخلفين عن غزوة تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري أرجئوا سبتة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم. فأنزل الله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين... إلى قوله: إن الله هو التواب الرحيم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكهم بها أخذ رسول الله (ص) من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا، ولم يذكروا بشئ، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الارض بما رحبت. وهم الذين قال الله: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم فجعل الناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لامر الله، حتى نزلت: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة الذين خرجوا معه إلى الشام من بعد ما كاد يزيغ قلوب
[ 30 ]
فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. ثم قال: وعلى الثلاثة الذين خلفوا يعني المرجئين لامر الله نزلت عليهم التوبة فعموا بها، فقال: حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم... إلى قوله: إن الله هو التواب الرحيم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة وآخرون مرجون لامر الله قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخرون مرجون لامر الله قال: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الاوس والخزرج. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآخرون مرجون لامر الله هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الاوس والخزرج. قال: ثنا إسحاق قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وآخرون مرجون لامر الله هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينزل الله عذرهم، فضاقت عليهم الارض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله (ص) فيهم فرقتين: فرقة تقول: هلكوا حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه، وتقول فرقة أخرى: عسى الله أن يعفو عنهم وكانوا
[ 31 ]
مرجئين لامر الله. ثم أنزل الله رحمته ومغفرته، فقال: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين... الآية، وأنزل الله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وآخرون مرجون لامر الله قال: كنا نحدث أنهم الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، رهط من الانصار. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وآخرون مرجون لامر الله قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم وهم الثلاثة الذين خلوا، وأرجأ رسول الله (ص) أمرهم حتى أتتهم توبتهم من الله. وأما قوله: إما يعذبهم فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه إياهم فيعذبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة. وإما يتوب عليهم يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم، فيغفر لهم. والله عليم حكيم يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب، حكيم في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه، لا يدخل حكمه خلل. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) *. يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا، وهم فيما ذكرنا اثنا عشر نفسا من الانصار. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمربن قتادة وغيرهم، قالوا: أقبل
[ 32 ]
رسول الله (ص) يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانو أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه فقال: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال رسول الله (ص) ولو قد قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله (ص) مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الازعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وأبناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحرث وهم من بني ضبيعة، وبخدج وهو إلى بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.. فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله (ص) وكفرا بالله لمحادتهم بذلك رسول الله (ص) ويفرقوا به المؤمنين ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله (ص)، وبعضهم في مسجد رسول الله (ص)، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا. وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل يقول: وإعدادا له، لابي عامر الكافر الذي
[ 33 ]
خالف الله ورسوله، وكفر بهما وقاتل رسول الله من قبل يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزب الاحزاب، يعني حزب الاحزاب لقتال رسول الله (ص)، فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانو بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك. وهذا منقول الله جل ثناؤه: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا الحسنى يقول جل ثناؤه: وليحلفن بانوه إن أردنا إلا الحسنى ببنائناه إلا الرفق بالمسلمين والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة وعن عجز عن المسير إلى مسجد رسول الله (ص) للصلاة فيه. وتلك هي الفعلة الحسنة. والله يشهد إنهم لكاذبون في حلفهم ذلك، وقيلهم ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السوآى ضرارا لمسجد رسول الله (ص) وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لابي عامر الفاسق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وهم أناس من الانصار ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله فيه: لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه... إلى قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين قال: لما بنى رسول الله (ص) مسجد قباء، خرج رجال من الانصار منهم بخدج جد عبد الله بن حنيف، ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الانصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله (ص) لبخدج: ويلك ما أردت إلى ما أرى ؟ فقال:
[ 34 ]
يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب. فصدقه رسول الله وأراد أن يعذره، فأنزل الله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني رجلا منهم يقال له أبو عامر كان محاربا لرسول الله (ص)، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون أبا عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ورسوله. وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل قال: أبو عامر الراهب انطلق إلى قيصر، فقالوا: إذا جاء يصلي فيه. كانوا يرون أنه سيظهر على محمد (ص). حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا قال المنافقون لمن حارب الله ورسوله لابي عامر الراهب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا أبو إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين قال: نزلت في المنافقين. وقوله: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل قال: هو أبو عامر الراهب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا قال: هم بنو غنم بن عوف. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب،
[ 35 ]
عن سعيد بن جبير: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا قال: هم حي يقال لهم بنو غنم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب عن سعيد بن جبير، في قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا قال: هم حي يقال لهم بنو غنم. قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم، فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا... الآية، عمد ناس من أهل النفاق، فابتنوا مسجدا بقباء ليضاهوا به مسجد رسول الله (ص)، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم حتى أطلعه الله على ذلك. وأما قوله: وإرصادا لمن حارب الله ورسوله فإنه كان رجلا يقال له أبو عامر، فر من المسلمين فلحق بالمشركين فقتلوه بإسلامه، قال: إذا جاء صلى فيه، فأنزل الله: لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى... الآية. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا هم ناس من المنافقين بنوا مسجدا بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين. وإرصادا لمن حارب الله ورسوله كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه. وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبي الله (ص). حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل قال مسجد قباء، كانوا يصلون فيه كلهم، وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له أبو عامر أبو حنظلة غسيل الملائكة وضيفي وأخيه، وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين فخرج أبو عامر هاربا هو وابن بالين من ثقيف وعلقمة بن علاثة من قيس من رسول الله (ص)، حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن بالين فرجعا فبايعا النبي (ص)
[ 36 ]
وأسلما، وأما أبو عامر فتنصر وأقام. قال: وبنى ناس من المنافقين مسجد الضرار لابي عامر، قالوا: حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه وتفريقا بين المؤمنين يفرقون بين جماعتهم لانهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي (ص) فقالوا: يا رسول الله ربما جاء السيل يقطع بيننا وبين الوادي ويحول بيننا وبين القوم فنصلي في مسجدنا فإذا ذهب السيل صلينا معهم قال: وبنوه على النفاق. قال: وأنهار مسجدهم على عهد رسول الله (ص). قال: وألقى الناس عليه النتن والقمامة. فأنزل الله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل أبي عامر، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن أبي جعفر، عن ليث: أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد فقال: لا أحب أصلي فيه فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني ضرارا أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): لا تقم يا محمد في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم أنت فيه. يعني بقوله: أسس على التقوى ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته من أول يوم ابتدئ في بنائه أحق أن تقوم فيه يقول: أولى أن تقوم فيه مصليا. وقيل: معنى قوله: من أول يوم مبدأ أول يوم كما تقول العرب: لم أره من يوم كذا، بمعنى مبدؤه، ومن أول يوم يراد به من أول الايام، كقول القائل: لقيت كل رجل، بمعنى كل الرجال. واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم فقال بعضهم: هو مسجد رسول الله (ص) الذي فيه منبره وقبره اليوم. ذكر من قال ذلك:
[ 37 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عثمان بن عبيد الله، قال: أرسلني محبن أبي هريرة إلى ابن عمر أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أي مسجد هو ؟ مسجد المدينة، أو مسجد قباء ؟ قال: لا، مسجد المدينة. قال: ثنا القاسم بن عمرو العنقزي، عن الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله، عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد، قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد الرسول. قال: ثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال: هو مسجد الرسول. قال: ثنا أبي عيينة، عن ابي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد، قال: هو مسجد النبي (ص). قال: ثنا أبي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد، قال: هو مسجد الرسول. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا حميد الخراط المدني، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد، فقلت: كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال لي: أتيت رسول الله (ص) فدخلت عليه في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أي مسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال: فأخذ كفا من حصباء فضرب به الارض، ثم قال: هو مسجدكم هذا هكذا سمعت أباك يذكره. حدثنا ابوكيع، قال: ثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: المسجد الذي أسس على التقوى: هو مسجد النبي الاعظم. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن
[ 38 ]
سعيد بن المسيب، قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، هو مسجد المدينة الاكبر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، قال: قال سعيد بن المسيب، فذكر مثله، إلا أنه قال: الاعظم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: هو مسجد النبي (ص). حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال: أحسبه عن أبيه قال: مسجد النبي (ص) الذي أسس على التقوى. وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قباء،. ذكر من قال ذلك حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم يعني مسجد قباء. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، نحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، قال: مسجد قباء الذي أسس على التقو، بناه نبي الله (ص). حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد قباء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 39 ]
عن الزهري، عن عروة بن الزبير: الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى، بنو عمرو بن عوف. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو مسجد الرسول (ص) لصحة الخبر بذلك عن رسول الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قال أبو كريب: ثنا وكيع، وقال ابن وكيع: ثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس رجل من الانصار، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله (ص) في المسجد الذي أسس في التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبي وقال الآخر: هو مسجد قباء. فأتيا رسول الله (ص)، فسألاه، فقال: هو مسجدي. هذا اللفظ لحديث أبي كريب، وحديث سفيان نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو نعيم، عن عبد الله بن عامر الاسلمي عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب: أن النبي (ص) سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى، فقال: مسجدي هذا. حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: ثني الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال آخر: هو مسجد رسول الله (ص)، فقال رسول الله: هو مسجدي هذا. حدثني بحر بن نصر الخولاني، قال: قرئ على شعيب بن الليث، عن أبيه، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري، قال: تمارى رجلان، فذكر مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني سجل بن محمد بن أبي
[ 40 ]
يحيى، قال: سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدث، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا، وفي كل خير. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد العزيز، عن أنيس، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي ص) بنحوه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: أخبرنا أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن رجلا من بني خدرة ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله (ص)، وقال العوفي: هو مسجد قباء، فأتيا النبي (ص) وسألاه، فقال: هو مسجدي هذا، وفي كل خير. القول في تأويل قوله تعالى: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم رجال يحبون أن ينظفوا مقاعدهم بالماء إذا أتوا الغائط والله يحب المتطهرين بالماء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال: لما نزل: فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال رسول الله (ص): ما الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ قالوا: يا رسول الله نغسل أثر الغائط. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال لاهل قباء: إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما تصنعون ؟ قالوا: إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال النبي (ص): يا معشر الانصار ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم فيه ؟ قالوا: إنا نستطيب بالماء إذ جئنا من الغائط.
[ 41 ]
حدثني جابر بن الكردي، قال: ثنا محمد بن سابق، قال: ثنا مالك بن مغول، عن سيار أبي الحكم، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، قال: قام علينا رسول الله (ص)، فقال: ألا أخبروني، فإن الله قد أثنى عليكم بالطهور خير فقالوا: يا رسول الله إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة الاستنجاء بالماء. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يحيى بن رافع، عن مالك بن مغول، قال: سمعت سيارا أبا الحكم غير مرة، يحدث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي (ص) على أهل قباء قال: إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا، يعني قوله: فيه رجال يحبون أن يتطهروا قالوا: إنا نجده مكتوبا عندنا في التوراة: الاستنجاء بالماء. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن رافع، قال: ثنا مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، قال: يحيى: ولا أعلمه إلا عن أبيه، قال: قال النبي (ص) لاهل قباء: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرا قالوا: إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة: الاستنجاء بالماء. وفيه نزلت: فيه رجال يحبون أن يتطهروا. حدثني عبد الاعلى بن واصل، قال: ثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، قال: ثنا أبو أويس المدني، عن شرحبيل بن سعد، عن عويم بن ساعدة وكان من أهل بدر، قال: قال رسول الله (ص) لاهل قباء: إني أسمع الله قد أثنى عليكم الثناء في الطهور، فما هذا الطهور ؟ قالوا: يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا إبراهيم بن
[ 42 ]
محمد، عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بثابت يقول: نزلت هذه الآية: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي ليلى، عن عامر، قال: كان ناس من أهل قباء يستنجون بالماء، فنزلت: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن مسلم القري، قال: قلت لابن عباس: أصب على رأسي ؟ وهو محرم قال: ألم تسمع الله يقول: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن داود بن أبي ليلى، عن الشعبي، قال: لما نزلت: فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال رسول الله (ص) لاهل قباء ما هذا الذي أثنى الله عليكم ؟ قالوا: ما منا من أحد إلا وهو يستنجي من الخلاء. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الحميد المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل الانصاري، أن رسول الله (ص) قال لعويم بن ساعدة: ما هذا الذي أثنى الله عليكم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ؟ قال: نوشك أن نغسل الادبار بالماء. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن حصين، عن موسى بابي كثير، قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الانصار من أهل قباء: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فسألهم النبي (ص)، قالوا: نستنجي بالماء. حدثني المثنى، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن أبي الزناد، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف، ومعن بن عدي من بني العجلان، وأبي الدحداح، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قال لرسول الله (ص): من الذين قال الله فيهم: فيرجال يحبون أن
[ 43 ]
يتطهروا والله يحب المطهرين ؟ فقال رسول الله (ص): نعم الرجال منهم عويم بن ساعدة لم يبلغنا أنه سمى منهم رجلا غير عويم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن حسان، قال: ثنا الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال رسول الله (ص): ما هذا الذي ذكركم الله به في أمر الطهور، فأثنى به عليكم ؟ قالوا: نغسل أثر الغائط والبول. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن مغول، قال: سمعت سيارا أبا الحكم يحدث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم رسول الله (ص) المدينة، أو قال: قدم علينا رسول الله فقال: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني ؟ قالوا: يا رسول الله، إنا نجد علينا مكتوبا في التوراة: الاستنجاء بالماء. قال مالك: يعني قوله: فيه رجال يحبون أن يتطهروا. حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، قال: لما نزلت هذه الآية: فيه رجال يحبون أن يتطهروا سألهم رسول الله (ص): ما طهوركم هذا الذي ذكر الله ؟ قالوا: يا رسول الله كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الاسلام لم ندعه قال: فلا تدعوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان في مسجد قباء رجال من الانصار يوضئون سفلتهم بالماء يدخلون النخل والماء يجري، فيتوضئون. فأثنى الله بذلك عليهم، فقال: فيه رجال يحبون أن يتطهروا... الآية. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. وقيل: والله يحب المطهرين وإنما هو المتطهرين، ولكن أدغمت التاء في الطاء، فجعلت طاء مشددة لقرب مخرج إحداهما من الاخرى. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 44 ]
* (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: أفمن أسس بنيانه فقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على وجه ما لم يسم فاعله في الحرفين كليهما. وقرأت ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على وصف من بناء الفاعل الذي أسس بنيانه. وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى من إذا كان هو المؤسس أعجب إلي. فتأويل الكلام إذا: أي هؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء الله بطاعتهم في بنائه وأداء فرائضه ورضا من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك وفعلهم ما فعلوه خير، أم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على شفا جرف هار، يعني بقوله: على شفا جرف على حرف جر، والجرف من الركي ما لم يبن له جول. هار يعني متهور، وإنما هو هائر ولكنه قلب، فأخرت ياؤها، فقيل هار كما قيل: هو شاك السلاح وشائك، وأصله من هار يهور فهو هائر وقيل: هو من هار يهار: إذا انهدم، ومن جعله من هذه اللغة قال: هرت يا جرف ومن جعله من هار يهور قال: هرت يا جرف وإنما هذا مثل. يقول تعالى ذكره: أي هذين الفريقين خير، وأي هذين البناءين أثبت، أمن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله وعلم منه بأن بناءه لله طاعة والله به راض، أم من ابتدأه بنفاق وضلال وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه فيهدمه، كما يأتي البناء على جرف ركية لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ترى به التراب متناثرا لا تلبثه السيول أن تهدمه وتنثره ؟ يقول الله جل ثناؤه: فانهار به في جهنم يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما
[ 45 ]
: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فانهار به قواعده في نار جهنم. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فانهار به يقول: فخر به. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله،.. إلى قوله: فانهار به في نار جهنم قال: والله ما تناهى أن وقع في النار. ذكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي منها الدخان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أن بنو عمرو بن عوف استأذنوا النبي (ص) في بنيانه، فأذن لهم ففرغوا منه يوم الجمعة فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الاحد. قال: وانهار يوم الاثنين. قال: وكان قد استنظرهم ثلاثا: السبت والاحد والاثنين، فانهار به في نار جهنم، مسجد المنافقين انهار فلم يتناه دون أن وقع في النار. قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه، فأبصروا الدخان يخرج منه. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، عن طلق ابن حبيب، عن جابر، قوله: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي (ص). حدثنا محمد بن مرزوق البصري، قال: ثنا أبو سلمة، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، قال: ثني طلق العنزي، عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار. حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: ثنا خلف بن ياسين الكوفي، قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني زمان بني أمية فمررنا بالمدينة، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس. فلما كان زمان أبي جعفر، قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة، فهذا البناء الذي يرون جرى على يد عبد الصمد بن
[ 46 ]
علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن، وفيه حجر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مزبلة. قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين يقول: والله لا يوفق للرشاد في أفعاله من كان بانيا بناءه في غير حقه وموضعه، ومن كان منافقا مخالفا بفعله أمر الله وأمر رسوله. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) *. يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا ريبة يقول: لا يزا مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يعني شكا ونفاقا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين. إلا أن تقطع قلوبهم يعني إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا، والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الآخرة وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم يعني شكا إلا أن تقطع قلوبهم يعني الموت. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ريبة في قلوبهم قال: شكا في قلوبهم، إلا أن تقطع قلوبهم إلى أن يموتوا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم يقول: حتى يموتوا.
[ 47 ]
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: إلا أن تقطع قلوبهم قال: إلا أن يموتوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلا أن تقطع قلوبهم قال: يموتوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلا أن تقطع قلوبهم قال: يموتوا. رق ] حدثني المثنى، قال ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا سويد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة والحسن: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم قالا شكا في قلوبهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق الرازي، قال: ثنا أبو سنان، عن حبيب: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم قال: غيظا في قلوبهم. قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلا أن تقطع قلوبهم قال: يموتوا. قال: ثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن حبيب: إلا أن تقطع قلوبهم: إلا أن يموتوا. قال ثنا قبيصة، عن سفيان، عن السدي: ريبة في قلوبهم قال: كفر. قلت: أكفر مجمع ابن جارية ؟ قال: لا، ولكنها حزازة. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن السدي: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم قال: حزازة في قلوبهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا، كما حبب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ: وأشربوا في قلوبه العجل بكفرهم
[ 48 ]
قال: حبه. إلا أن تقطع قلوبهم قال: لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس عن السدي، عن إبراهيم: ريبة في قلوبهم قال: شكا. قال: قلت يا أبا عمر اتقول هذا وقد قرأت القرآن ؟ قال: إنما هي حزازة. واختلفت القراء في قراءة قوله: إلا أن تقطع قلوبهم فقرأ ذلك بعض قراء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: إلا أن تقطع قلوبهم بضم التاء من تقطع، على أنه لم يسم فاعله، وبمعنى: إلا أن يقطع الله قلوبهم. وقرأ ذلك بعض قراء المدينة والكوفة: إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء من تقطع على أن الفعل للقلوب. بمعنى: إلا أن تنقطع قلوبهم، ثم حذفت إحدى التاءين. وذكر أن الحسن كان يقرأ: إلا أن تقطع قلوبهم بمعنى: حتى تتقطع قلوبهم. وذكر أنها في قراءة عبد الله: ولو قطعت قلوبهم وعلى الاعتبار بذلك قرأ من ذلك: إلا أن تقطع بضم التاء. والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى، لان القلوب لا تتقطع إذا تقطعت إلا بتقطيع الله إياها، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته. وأما قراءة من قرأ ذلك: إلى أن تقطع، فقراءة لمصاحف المسلمين مخالفة، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) *. يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاع من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة وعدا عليه حقا، يقول: وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدا عليه حقا أن يوفي لهم به في كتبه المنزلة التوراة والانجيل والقرآن، إذا هم وفوا بما عاهدوا الله فقاتلوا في سبيله ونصرة دينه أعداء فقتلوا وقتلوا ومن أوفى بعهده من الله يقول جل ثناؤه: ومن أحسن وفاء بما ضمن وشرط من
[ 49 ]
الله. فاستبشروا يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله فيما عاهدوا ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم، فإن ذلك هو الفوز العظيم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بيعة وفى بها أو مات عليها في قول الله: إن الله اشترى من المؤمنين... إلى قوله: وذلك هو الفوز العظيم ثم حلاهم فقال: التائبون العابدون... إلى: وبشر المؤمنين. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم يعني بالجنة. قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة أنه تلا هذه الآية: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة قال: ثامنهم الله فأغلى لهم الثمن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن أنه تلا هذه الآية: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم قال: بايعهم فأغلى لهم الثمن. حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله (ص): اشترط لربك ونفسك ما شئت قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا ؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت: إن الله اشترى من المؤمنين... الآية. قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا عبيد بن طفيل العبسي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قوله: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم...
[ 50 ]
الآية، قال الرجل: ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ؟ قال: ويلك أين الشرط: التائبون العابدون ؟. القول في تأويل قوله تعالى: * (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع، إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها، والعرب تفعل ذلك، وقد تقدم بياننا ذلك في قوله: صم بكم عمي بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ومعنى التائبون: الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبه ويرضاه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن في قول الله: التائبون قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها، حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: ثني أبي، عن أبي الاشهب، عن الحسن، أنه قرأ: التائبون العابدون قال: تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي الاشهب، قال: قرأ الحسن: التائبون العابدون قال: تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا منصور، بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء عن الحسن، قال: التائبون من الشرك. حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: التائبون العابدون قال الحسن: تابوا والله من الشرك، وبرئوا من النفاق. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: التائبون قال: تابوا من الشرك ثم لم ينافقوا في الاسلام.
[ 51 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج: التائبون قال: الذين تابوا من الذنوب ثم لم يعودوا فيها. وأما قوله: العابدون فهم الذين ذلوا خشية لله وتواضعا له، فجدوا في خدمته. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: العابدون: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن في قول الله العابدون قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: العابدون قال: العابدون لربهم. وأما قوله: الحامدون فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر. كما: حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: الحامدون قوم حمدوا الله على كل حال حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن ثعلبة، قال: قال الحسن: الحامدون: الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الحامدون قال: الحامدون على الاسلام. وأما قوله: السائحون فإنهم الصائمون. كما: حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع، قالا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عبيد بن عمير وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن عمرو، عن عبيد بن عمير، قال: سئل النبي (ص) عن السائحين، فقال: هم الصائمون.
[ 52 ]
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا حكيم بن حزام، قال: ثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال لرسول الله (ص): السائحون هم الصائمون. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: السائحون: الصائمون. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: السائحون الصائمون. قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني عاصم، عن زر، عن عبد الله، بمثله. حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله، قال: أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، قال: السياحة: الصيام. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: السائحون: الصائمون. حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبيه، وإسرائيل عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السائحون: الصائمون. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، قال: السائحون: الصائمون. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن زر، عن عبد الله، مثله. قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن إسحاق، عن عبد الرحمن، قال: السائحون: هم الصائمون
[ 53 ]
. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: السائحون قال: يعني بالسائحين الصائمين. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السائحون هم الصائمون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السائحون الصائمون. قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون. قال: ثنا أبي عن المسعودي، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن أبي عمرو العبدي، قال: السائحون: الذي يديمون الصيام من المؤمنين. حدثنا ابن حميد قال: ثنا حكام عن ثعلبة بن سهيل، قال: قال الحسن: السائحون الصائمون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن، قال: السائحون: الصائمون، شهر رمضان. حدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: السائحون الصائمون. قال: ثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كل شئ في القرآن السائحون فإنه الصائمون. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: السائحون الصائمون. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال سمعت الضحاك يقول في قوله: السائحون يعني: الصائمين. حدثنا ابن وكيع قال: ثنا ابن نمير ويعلى وأبو أسامة، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: السائحون الصائمون.
[ 54 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا عمرو أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله، فساح ولد بغي أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: أي رب أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا ؟ قال: فأري ما رأي السائحون قبله. قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: السائحون قوم أخذوا من أبدانهم صوما لله. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إبراهيم بن زيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة، قالت: سياحة هذه الامة: الصيام. وقوله: الراكعون الساجدون يعني: المصلين الراكعين في صلاتهم الساجدين فيها. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الراكعون الساجدون قال: الصلاة المفروضة. وأما قوله: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم، واتباع الرشد والهدى والعمل، وينهونهم عن المنكر وذلك نهيهم الناس عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه. وقد روي عن الحسن في ذلك ما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: الآمرون بالمعروف لا إله إلا الله. والناهون عن المنكر عن الشرك.
[ 55 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل، قال الحسن، في قوله: الآمرون بالمعروف قال: أما إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها. والناهون عن المنكر قال: أما إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كل ما ذكر في القرآن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالامر بالمعروف: دعاء من الشرك إلى الاسلام والنهي عن المنكر: نهي عن عبادة الاوثان والشياطين. وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا من أن الامر بالمعروف هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله (ص)، والنهي عن المنكر هو كل ما نهى الله عنه عباده أو رسوله. وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية دلالة على أنها عنى بها خصوص دون عموم ولا خبر عن الرسول ولا في فطرة عقل، فالعموم بها أولى لما قد بينا في غير موضع من كتبنا. وأما قوله: والحافظون لحدود الله فإنه يعني: المؤدون فرائض الله، المنتهون إلى أمره ونهيه، الذين لا يضيعون شيئا ألزمهم العمل به ولا يركبون شيئا نهاهم عن ارتكابه. كالذي: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عبا س: والحافظون لحدود الله يعني: القائمين على طاعة الله، وهو شرط اشترطه على أهل الجهاد إذا وفوا الله بشرطه وفى لهم شرطهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس والحافظون لحدود الله قال: القائمون على طاعة الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن ثعلبة، بن سهيل، قال: الحسن، في قوله: والحافظون لحدود الله قال: القائمون على أمر الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: والحافظون لحدود الله قال: لفرائض الله. وأما قوله: وبشر المؤمنين فإنه يعني: وبشر المصدقين بما وعدهم الله إذا هم وفوا الله بعهده أنه موف لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة. كما:
[ 56 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هودة بن خليفة، قال: ثنا عوف، عن الحسن: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم... حتى ختم الآية، قال: الذين وفوا ببيعتهم التائبون العابدون الحامدون، حتى ختم الآية، فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء، ثم لقوا العدو فصدقوا ما عاهدوا الله عليه. وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الافعال، يعني قوله: التائبون العابدون... إلى آخر الآية، وإن لم يغزوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: وبشر المؤمنين قال: الذين لم يغزوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم) *. يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمد (ص) والذين إمنوا به أن يستغفروا، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم أولي قربى، ذوي قرابة لهم. من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الاوثان تبين لهم أنهم من أهل النار لان الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لابيه وهو مشرك، فلم يكن استغفار إبراهيم لابيه إلا لموعدة وعدها إياه فلما تبين له وعلم أنه لله عدو خلاه وتركه وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمره عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره. واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي (ص) لان النبي (ص) أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك. ذكر من قال ذلك:
[ 57 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي (ص) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال النبي (ص): لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين، ونزلت: إنك لا تهدي من أحببت. حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: ثني يونس، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله (ص)، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله (ص): يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله (ص) يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله (ص): والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله: إنك لا تهدي من أحببت... الآية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين قال: يقول المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لابيه كافرا، فأنزل الله: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عمرو بن دينار: أن النبي (ص) قال: استغفر إبراهيم لابيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لابي طالب حتى
[ 58 ]
ينهاني عنه ربي فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي (ص) لعمه فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... إلى قوله: تبرأ منه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاة أتاه رسول الله (ص)، وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله (ص): أي عم إنك أعظم الناس علي حقا وأحسنهم عندي يدا، ولانت أعظم علي حقا من والدي، فقل كلمة تجيب لي بها الشفاعة يوم القيامة، قل لا إله إلا الله ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الاعلى، عن محمد بن ثور. وقال آخرون: بل نزلت في سبب أم رسول الله (ص)، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها فمنع من ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فضيل، عن عطية قال: لما قدم رسول الله (ص) مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس، رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، حتى نزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى... إلى قوله: تبرأ منه. قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا قيس، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي (ص) أتى رسما قال: وأكثر ظني أنه قال قبرا فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلت: يارسول الله، إنا رأينا ما صنعت قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا... إلى: أنهم أصحاب الجحيم أن رسول الله (ص) أراد أن يستغفر لامه، فنهاه عن ذلك، فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لابيه فأنزل الله: وما كان استغفار إبراهيم... إلى: لاواه حليم.
[ 59 ]
وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الايمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... الآية، فكانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لامواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للاحياء حتى يموتوا. ثم أنزل الله: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... الآية، ذكر لنا أن رجلا من أصحاب النبي (ص) قال: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الارحام ويفك العاني ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم ؟ قال: فقال النبي (ص): بلى والله لاستغفرن كما استغفر إبراهيم لابيه قال: فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... حتى بلغ: الجحيم ثم عذر الله إبراهيم فقال: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. قال: وذكر لنا أن نبي الله قال: أوحي إلي كلمات، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي، أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له، ومن أمسك فهو شر له، ولا يلوم الله على كفاف. واختلف أهل العربية في معنى قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار، وكذلك معنى قوله: وما كان لنفس أن توءمن وما كان لنفس الايمان إلا بإذن الله. وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت أن مع كان، فكلها بتأويل ينبغي ما كان لنبي أن يغل ما كان ينبغي له ليس هذا من أخلاقه، قال: فلذلك إذا دخلت أن تدل على الاستقبال، لان ينبغي تطلب الاستقبال. وأما قوله: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فإن أهل العلم
[ 60 ]
اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه، فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبي (ص) وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين ظنا منهم أن إبراهيم خليل الرحمن، قد فعل ذلك حين أنزل الله قوله خبرا عن إبراهيم، قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره، وسنذكره عمن لم نذكره. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان ؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لابيه ؟ قال: فأتيت النبي (ص)، فذكرت ذلك له، فأنزل الله: وما كان استغفار إبراهيم... إلى تبرأ منه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي: أن النبي (ص) كان يستغفر لابويه وهما مشركان، حتى نزلت: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلى قوله: تبرأ منه. وقيل: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: ما كان هذا الامر إلا عن سبب كذا، بمعنى: من بعد ذلك السبب أو من أجله، فكذلك قوله: إلا عن موعدة: من أجل موعدة وبعدها. وقد تأول قوم قول الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى... الآية، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وقالوا: ذلك لا يتبينه أحد إلا بأن يموت على كفره، وأما هو حي فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا سليمان بن عمر الرقي، ثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس، فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيا، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه لم يدع.
[ 61 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا فضيل، عن ضرار بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: مات رجل نصراني، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس، فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنه واستغفر له ثم تلا: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه... الآية. وتأول آخرون الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: ثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: ثنا حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاء بن أبي رباح، قال: مكنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا، لاني لم أسمع الله يحجب الصلاة إلا عن المشركين، يقول الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. وتأوله آخرون بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عصمة بن راشد، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لابي هريرة ولامه قلت: ولابيه ؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك. قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى الاستغفار: مسألة العبد ربه غفر الذنوب وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدا، لان الله عم بالنهي عن الاستغفار للمشرك بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص من ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له. وأما قوله: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم فإن معناه: ما قد بينت من أنه من بعد ما يعلمون بموته كافرا أنه من أهل النار. وقيل: أصحاب الجحيم لانهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: هؤلاء أصحاب هذه الدار، بمعنى سكانها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: من بعد ما تبين أنهم أصحاب الجحيم قال: تبين للنبي (ص) أن أبا طالب حين مات أن التوبة قد انقطعت عنه.
[ 62 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: تبين له حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه، يعني في قوله: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... الآية، يقول: إذا ماتوا مشركين، يقول الله: ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة... الآية. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال بعضم: معناه: فلما تبين له بموته مشركا بالله تبرأ منه وترك الاستغفار له. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لابيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لابيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لابيه حتى مات، فلما مات لم يستغفر له. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه يعني استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له. حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن
[ 63 ]
قتيبة، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال: لما مات. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فلما تبين له أنه عدو لله قال: موته وهو كافر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا البراء بن عتبة، عن أبيه، عن الحكم: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال: حين مات ولم يؤمن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عمرو بن دينار: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه: موته وهو كافر. قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشى عن جويبر، عن الضحاك في قوله: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال: لما مات. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلما تبين لانه عدو لله تبرأ منه لما مات على شركه تبرأ منه. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وما كان استغفار إبراهيم لابيه كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيا فلما مات على شركه تبرأ منه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه قال: موته وهو كافر. حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لابيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فلما تبين له أنه عدو لله قال: فلما مات.
[ 64 ]
وقال آخرون: معناه تبين له في الآخرة وذلك أن أباه يتعلق به إذا أراد أن يجوز الصراط فيمر به عليه، حتى إذا كاد يجاوزه حانت من إبراهيم التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة قرد أو ضبع، فخلى عنه وتبرأ منه حينئذ. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا عبد الله بن سليمان، قال: سمعت سعيد ابن جبير يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي فإذا كان الثالثة أخذ بيده، فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة بن عمير، قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد يسمعكم الداعي وينفذكم البصر، قال: فتزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه. قال: فحسبته يقول: نفسي نفسي قال: ويضرب الصراط على جسر جهنم كحد السيف، وحضر من له وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السعدان. قال: فيمضون كالبرق وكالريح وكالطير، وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال، والملائكة يقولون: رب سلم سلم فناج سالم، ومخدوش ناج، ومكدوس في النار. يقول إبراهيم لابيه: إني آمرك في الدنيا فتعصيني ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوي فيأخذ بضبعيه، فيمسخ ضبعا، فإذا رآه قد مسخ تبرأ منه. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول الله، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدو تبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدو وهو به مشرك، وهو حال موته على شركه. القول في تأويل قوله تعالى: إن إبراهيم لاواه حليم. اختلف أهل التأويل في الاواه، فقال بعضهم: هو الدعاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: الاواه: الدعاء. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا: ثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: الاواه: الدعاء.
[ 65 ]
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: سألت عبد الله عن الاواه، فقال: هو الدعاء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله مثله. قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: الاواه: الدعاء. قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله مثله. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان وإسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، قال: ثنا داود بن أبي هند، قال: نبئت عن عبيد بن عمير، قال: الاوا: الدعاء. حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا داود، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه، قال: الاواه: الدعاء. وقال آخرون: بل هو الرحيم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سئل عبد الله عن الاواه، فقال: الرحيم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن أبي العبيدين رجل ضرير البصر، أنه سأل عبد الله عن الاواه فقال: الرحيم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر بن شميل جميعا، عن المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود، فقال: ما الاواه ؟ قال: الرحيم. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن إدريس، عن الاعمش، عن
[ 66 ]
الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، أنه جاء إلى عبد الله، وكان ضرير البصر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له، قال: أخبرني عن الاواه، قال: الرحيم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم، عن البطين، عن أبي العبيدين، قال: سألت عبد الله عن الاواه، فقال: هو الرحيم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، قال: جاء أبو العبيدين إلى عبد الله، فقال له ما حاجتك ؟ قال: ما الاواه ؟ قال: الرحيم. قال: ثنا ابن إدريس، عن الاعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، أبي العبيدين رجل من بني سوأة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن الاواه، فقال: له عبد الله: الرحيم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد الله، قال: الاواه: الرحيم. حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزارأن أبا العبيدين رجل من بين نمير قال: يعقوب كان ضرير البصر وقال ابن وكيع: كان مكفوف البصر سأل ابن مسعود فقال: ما الاواه ؟ قال: الرحيم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: الاواه: الرحيم. قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: هو الرحيم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدث أن الاواه: الرحيم
[ 67 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إن إبراهيم لاواه قال: رحيم. وقال عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعمثل ذلك. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: الاواه: الرحيم. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، أنه سأل عبد الله عن الاواه، فقال الرحيم. قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: الاواه: الرحيم. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك، عن الحسن، قال: الاواه: الرحيم بعباد الله. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو خيثمة زهير، قال: ثنا أبو إسحاق الهمداني، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، قال: الاواه: الرحيم بلحن الحبشة. وقال آخرون: بل هو الموقن. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الاواه: الموقن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الاواه: الموقن بلسان الحبشة. قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الاواه: الموقن بلسان الحبشة. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: سمعت سفيان، يقول: الاواه: الموقن وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
[ 68 ]
حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء، قال: الاواه: الموقن بلسا الحبشة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو الموقن بلسان الحبشة. قال: ثنا ابن نمير، عن الثوري، عن مجالد، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: الاواه: الموقن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الاواه: الموقن. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: الاواه: الموقن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أواه: موقن. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أواه، قال: مؤتمن موقن. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إن إبراهيم لاواه حليم قال: الاواه: الموقن. وقال آخرون: هي كلمة بالحبشية معناه: المؤمن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لاواه حليم قال: الاواه: هو المؤمن بالحبشية. حدثنا علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إن إبراهيم لاواه يعني: المؤمن التواب. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا حسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن عباس، قال: الاواه: المؤمن.
[ 69 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: الاواه: المؤمن بالحبشية. وقال آخرون: هو المسبح الكثير الذكر لله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: الاواه: المسبح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق، أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي (ص)، فقال: إنه أواه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن حيان، عن ابن لهيعة، عن الحرث بن يزيد، عن علي برباح عن عقبة بن عامر، قال: الاواه: الكثير الذكر لله. وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا المنهال بن خليفة، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء عن ابن عباس: أالنبي (ص) دفن ميتا، فقال: يرحمك الله إن كنت لاواها يعني: تلاء للقرآن. وقال آخرون: هو من التأوه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي يونس القشيري، عن قاص كان بمكة: أرجلا كان في الطواف، فجعل يقول: أوه قال: فشكاه أبو ذر للنبي (ص) فقال: دعه إنه أواه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبي يونس الباهلي، قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميا يحدث عن أبي ذر، قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه فذكر للنبي (ص) فقال: إنه
[ 70 ]
أواه. زاد أبو كريب في حديثه، قال فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله (ص) يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، قال: ثنا عمران، عن عبيد الله برباح، عن كعب، قال: الاواه: إذا ذكر النار قال: أوه حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد القمى، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: كان إذا ذكر النار قال: أواه. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، قال: أخبرنا أبوعمران، قال سمعت عبد الله بن رباح الانصاري يقول: سمعت كعبا يقول: إن إبراهيم لاواه قال: إذا ذكر النار قال: أوه من النار. وقال آخرون: معناه أنه فقيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: إن إبراهيم لاواه قال: فقيه: وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عبد الحميد بن بهرام، قال: ثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: بينما رسول الله (ص) جالس، قال رجل: يا رسول الله ما الاواه ؟ قال: المتضرع. قال: إن إبراهيم لاواه حليم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن عبد الحميد، عن شهر، عن عبد الله بن شداد، قال: قال رسول الله (ص): الاواه: الخاشع المتضرع. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زر أنه الدعاء.
[ 71 ]
وإنما قلنا ذلك أولى بالصوا ب، لان الله ذكر ذلك ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لابيه، فقال: وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وترك الدعاء والاستغفار له، ثم قال: أن إبراهيم لدعاء لربه شاك له حليم عمن سبه وناله بالمكروه وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاء الله له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم بعد ما رد عليه نصيحته في الله، وقوله: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا فقال له صلوات الله عليه: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا فوفى لابيه بالاستغفار له حتى تبين له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دعاء لربه حليم عمن سفه عليه. وأصله من التأوه وهو التضرع والمسألة بالحزن والاشفاق، كما روى عبد الله بن شداد عن النبي (ص)، وكما روى عقبة بن عامر الخبر الذي: حدثنيه يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثني الحرث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله (ص) قال لرجل يقال له ذو البجادين: إنه أواه وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ويرفع صوته. ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لم تتأوه ؟ كما قال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين ومنه قول الجعدي: ضروح مروح يتبع الورق بعدما يعرسن تشكو آهة وتذمرا
[ 72 ]
ولا تكاد العرب تنطق منه بفعل يفعل، وإنما تقول فيه: تفعل يتفعل، مثل تأوه يتأوه، وأوه يؤوه، كما قال الراجز: (فأواه الراعي وضوضى أكلبه) وقالوا أيضا: أوه منك ذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده: فأوه من الذكرى إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بيننا وسماء قال: وربما أنشدنا: فأو من الذكرى بغير هاء. ولو جاء فعل منه على الاصل لكان آه يؤه أوها. ولان معنى ذلك توجع وتحزن وتضرع، اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال ما قال: معناه الرحمة، إن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس. وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة الله وتواضعه له. وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله الذي أنزل عليه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر به. وكل ذلك عائد إلى ما قلت، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض لان الحزين المتضرع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجه المفسرون إليها تأويل قول الله: أن إبراهيم لاواه حليم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 73 ]
* (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم) *. يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للايمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا الانتهاء عنه فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لان الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهى، فأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه. إن الله بكل شئ عليم يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم عن الاستغفار لموتاكم المشركين من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها، فبين لكم حلمه في ذلك عليكم ليضع عنكم ثقل الوجد بذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ليضقو ما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته، فافعلوا أو ذروا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون قال: بيان الله للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذروا. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته، فافعلوا أو ذروا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 74 ]
* (إن الله له ملك السماوات والارض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) *. يقول تعالى ذكره إن الله أيها الناس له سلطان السماوات والارض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه، بيده حياتهم وموتهم، يحيي من يشاء منهم ويميت من يشاء منهم، فلا تجزعوا أيها المؤمنون من قتال من كفر بي من الملوك، ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة أو غيرهم، واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي، فأني المعز من أشاء منهم ومنكم والمذل من أشاء. وهذا حض من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كل من كفر به من المماليك، وإغراء منه لهم بحربهم. وقوله: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليف من دون الله يظاهركم عليه إن أنتم خالفتم أمر الله فعاقبكم على خلافكم أمره يستنقذكم من عقابه، ولا نصير ينصركم منه إن أراد بكم سوءا. يقول: فبالله فثقوا، وإياه فارهبوا، وجاهدوا في سبيله من كفر به، فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة، تقاتلون في سبيله فتقتلون وتقتلون. القول في تأويل قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم) *. يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الانابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدا (ص)، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الاسلام، وأنصار رسوله في الله، الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق ويشك في دينه ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدة في سفره وغزوه. ثم تاب عليهم يقول: ثم رزقهم جل ثناؤه الانابة والرجوع إلى الثبات على دينه وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم. إنه بهم رءوف رحيم يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة، رءوف بهم، رحيم أن يهلكهم، فينزع منهم الايمان بعد ما قد أبلوا في الله ما أبلو مع رسوله وصبروا عليه من البأساء والضراء.
[ 75 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في ساعة العسرة في غزوة تبوك. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: في ساعة العسرة قال: خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، كان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ساعة العسرة قال: غزوة تبوك، قال: العسرة: أصابهم جهد شديد حتى أن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وإنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال: غزوة تبوك. قال: ثنا زكريا بن علي، عن ابن مبارك، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال: عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة... الآية، الذين اتبعوا رسول الله (ص) في غزو تبوك قبل الشأم في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
[ 76 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله (ص) إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع جتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع لنا قال: تحب ذلك ؟ قال: نعم. فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء، فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم رجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. حدثني إسحاق بن زيادة العطار، قال: ثنا يعقوب بن محمد، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: ثنا عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدثنا عن شأن جيش العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) *. يقول تعالى ذكره: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قبل، هم الآخرون الذين قال جل ثناؤه: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم فتاب عليهم عز ذكره وتفضل عليهم. وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام إذا: ولقد تاب الله على
[ 77 ]
الثلاثة الذين خلفهم الله عن التوبة، فأرجأهم عمن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله (ص). كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عمن سمع عكرمة، في قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: خلف عن التوبة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أما قوله: خلفوا فخلفوا عن التوبة. حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت يقول: بسعتها غما وندما على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله (ص). وضاقت عليهم أنفسهم بما نالهم من الوجد والكرب بذلك. وظنوا أن لا ملجأ يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شئ لهم يلجئون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء بتخلفهم خلاف رسول الله (ص) ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب الله إلا الله. ثم رزقهم الانابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه. أن الله هو التواب الرحيم يقول: إن الله هو الوهاب لعباده الانابة إلى طاعته الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبة والانابة ولا يتوب عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، في قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا: قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكلهم من الانصار. حدثني عبيد بن الوراق، قال: ثنا أبو أسامة، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بنحوه، إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة، شك أبو أسامة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: أرجئوا في أوسط براءة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 78 ]
مجاهد: الثلاثة الذين خلفوا قال: الذين أرجئوا في أوسط براءة، قوله: وآخرون مرجون لامر الله هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وعلى الثلاثة الذين خلفوا الذين أرجئوا في وسط براءة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: كلهم من الانصار: هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك. قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: الذين أرجئوا. قال: ثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك وكان شاعرا، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم أنصار. قال: ثنا أبو خالد الاحمر والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كلهم من الانصار: هلابن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هاشم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع كلهم من الانصار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا... إلى قوله: ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية، فقال: لا أطلقها أو لا أطلق نفسي حتى يطلقني رسول الله (ص) فقال رسول الله: والله لا أطلقه حتى يطلقه ربه إشاء. وأما الآخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك، فجعله صدقة في سبيل الله، وقال: والله لا أطعمه وأما الآخر فركب المفاوز يتبع رسول الله ترفعه أرض وتضعه أخرى، وقدماه تشلشلان دما. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، قال: الثلاثة الذين خلفوا: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة.
[ 79 ]
قال: ثنا أبو داود الحفري، عن سلام أبي الاحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: هلال بن أمية، ومر، وكعب بن مالك. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن عون، عن عمر بن كثير بن أفلح، قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغزاة. قال كعب بن مالك: لما خرج رسول الله (ص) قلت: أتجهز غدا ثم ألحقه فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ فلما كان اليو الثالث أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات، سار الناس ثلاثا فأقمت. فلما قدم رسول الله (ص) جعل الناس يعتذرون إليه، فجئت حتى قمت بين يديه فقلت: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة. فأعرض عني رسول الله (ص)، فأمر الناس أن لا يكلمونا، وأمرت نساؤنا أن يتحولن عنا. قال: فتسورت حائطا ذات يوم فإذا أنا بجابر بن عبد الله، فقلت: أي جابر، نشدتك بالله هل علمتني غششت الله ورسوله يوما قط ؟ فسكت عني، فجعل لا يكلمني. فبينا أنا ذات يوم، إذ سمعت رجلا على الثنية يقول: كعب كعب حتى دنا مني، فقال: بشروا كعبا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله (ص) غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، صالحهم رسول الله (ص) على الجزية. ثم قفل رسول الله (ص) من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة... الآية، والثلاثة الذين خلفوا: رهط منهم: كعب بن مالك وهو أحد بني سلمة، ومرارة بن ربيعة وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية وهو من بني واقف. وكانوا تخلفوا عن رسول الله (ص) في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلا فلما رجع رسول الله (ص) إلى المدينة، صدقه أولئك حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول الله (ص) ما حبسهم إلا العذر، فقبل منهم رسول الله وبايعهم، ووكلهم في سرائرهم إلى الله. نهي رسول الله (ص) عن كلام الذين خلفوا، وقال لهم حين حدثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: قد صدقتم فقوموا حتى يقضي الله فيكم فلما أنزل الله القرآن تاب على الثلاثة، وقال للآخرين: سيحلفون بالله
[ 80 ]
لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم... حتى بلغ: لا يرضى عن القوم الفاسقين. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله (ص) في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله (ص) والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله (ص) ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدرأذكر في الناس منها. فكان من خبري حين تخلفت عن النبي (ص) في غزوة تبو ك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله (ص) في حشديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمر هل يتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبي (ص) كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا يظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وغزا رسول الله (ص) تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعر. فتجهز رسول الله (ص) والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فلم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي (ص) يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله (ص) حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فسكت رسول الله (ص). فبينا هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب، فقال رسول الله (ص): كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الانصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر، فلمزه المنافقون. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله (ص) قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم
[ 81 ]
أخرج من سخطه غدا ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله (ص) قد أظل قادما زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشئ أبدا، فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله (ص) قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله (ص) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ قال: قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لارجو فيه عفو الله والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله (ص): أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني وقالوا: والله معلمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله (ص) بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (ص) لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله (ص) فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما ؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله (ص) المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الارض فما هي بالارض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الاسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله (ص) فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي معه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب النا س إلي، فسلمت عليه، فوالله ما ر د علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت، قال: فعدت فناشدته فسكت، فعدت
[ 82 ]
فنا شدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسور ت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك ؟ ال: فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني، فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء. فتأممت به التنور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله (ص) يأتيني فقال: إن رسول الله (ص) يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها قال: وأرسل إلى صاحبي بذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك تكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر قال: فجاءت امرأة هلال رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه ؟ فقال: لا، ولكن لا يقربنك قالت: فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شئ، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يوم هذا قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله (ص) في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال: فقلت لا أستأذن فيها رسول الله (ص)، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله (ص) عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الارض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: وأذن رسول الله (ص) بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما. وانطلقت أتأمم رسول الله (ص)، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله (ص) جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله (ص) قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك فقلت: أمن عندك
[ 83 ]
يا رسول الله، أم من عند الله ؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله (ص) إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله (ص): أمسك بعض مالك فهو خير لك قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن مما ابتلاني، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله (ص) إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقى. قال: فأنزل الله: لقد تاب الله على النبي... حتى بلغ: وعلى الثلاثة الذين خلفوا.... إلى: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله (ص) أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم أنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون... إلى قوله: لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب: خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل رسول الله (ص) توبتهم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله (ص) أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منهم. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف، عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، فذكر نحوه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري،
[ 84 ]
عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: لم أتخلف عن النبي (ص) في غزاة غزاها إلا بدرا، ولم يعاتب النبي (ص) أحدا تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الانصاري، ثم السلمي، عن أبيه. أن أباه عبد الله بن كعب، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول الله (ص) في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: [ / يم ] * (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *. يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده، وكونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة. يعني مع من صدق الله الايمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذب قيلهم فعلهم. وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جل ثناؤه: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لان كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأي وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملا عملهم، وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو مع النبي (ص) والمهاجرين رحمة الله عليهم. ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع، في قول الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال: مع النبي (ص) وأصحابه.
[ 85 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع، قال: للثلاثة الذين خلفوا: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين محمد وأصحابه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن إسماعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: وكونوا مع الصادقين قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمة الله عليهم. قال: ثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، في قول الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال: مع أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال: مع المهاجرين الصادقين. وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: وكونوا من الصادقين ويتأوله أن ذلك نهي من الله عن الكذب. ذكر الرواية عنه بذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقو: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحل منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود من الصادقين، فهل ترون في الكذب رخصة ؟ قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد الله، نحوه. قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا عبيدة يحدث، عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين وهي كذلك في قراءة عبد الله، فهل ترون من رخصة في الكذب ؟ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله،
[ 86 ]
قال: لا يصلح الكذب في هزل ولا جد، ثتلا عبد الله: اتقوا الله وكونوا ما أدري أقال من الصادقين أو مع الصادقين وهو كتابي: مع الصادقين. قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، مثله. قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، مثله. والصحيح من التأويل في ذلك هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك، وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على: وكونوا مع الصادقين، $ وهالقراءة التي لا أستجيز لاحد القراءة بخلافها، وتأويل عبد الله رحمة الله عليه في ذلك على قراءته تأويل صحيح غير، أن القراءة بخلافها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) *. يقول تعالى ذكره: لم يكن لاهل المدينة، مدينة رسول الله (ص)، ومن حولهم من الاعراب سكان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، وهم من أهل الايمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. يقول: إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه ظمأ وهو العطش ولا نصب، يقول: ولا تعب، ولا مخمصة في سبيل الله يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدم منار الكفر. ولا يطئون موطئا يعني أرضا، يقول: ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها. ولا ينالون من عدو نيلا يقول ولا يصيبون من عدو الله وعدوهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ثواب عمل صالح
[ 87 ]
قد ارتضاه. إن الله لا يضيع أجر المحسنين يقول: إن الله لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه، أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: هي محكمة، وإنما كان ذلك لرسول الله (ص) خاصة، لم يكن لاحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر، فأما غيره من الائمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه هذا إذا غزا نبي الله بنفسه، فليس لاحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال: لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سرية تغزو في سبيل الله، لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي، ويشق على أو أكره أن أدعهم بعدي. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت الاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والفزاري، والسبيعي، وابن جابر، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله... إلى آخر الآية. إنها لاول هذه الامة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله. وقال آخرون: هذه الآية نزلت وفي أهل الاسلام قلة، فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء، فقال: وما كان المؤمنون لينفروا كافة. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله فقرأ حتى بلغ: ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون قال: هذا حين كان الاسلام قليلا، فلما كثر الاسلام بعد قال: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفمن كل فرقة منهم طائفة... إلى آخر الآية.
[ 88 ]
والصواب من القول في ذلك عندي، أن الله عني بها الذين وصفهم بقوله: وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم... الآية، ثم قال جل ثناؤه: ما كان لاهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الاعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله (ص) كان ندب في غزوته تلك كل من أطاق النهو ض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف، فعدد جل ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شك ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه (ص) ذلك، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بد للاسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته. وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخة للاخرى، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الاخرى من كل وجوهه، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للاخرى. وقد بينا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا، فأغني ذلك عن إعادته ههنا. وأما النيل: فهو مصدر من قول القائل: نالني ينالني، ونلت الشئ: فهو منيل، وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من التناول، وذلك أن التناول من النوال، يقال منه: نلت له أنول له من العطية. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: النيل مصدر من قول القائل: نالني بخير ينولني نوالا، وأنالني خيرا إنالة وقال: كأن النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب، بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها، كقولهم: القول، والعول، والحول، ولو جاز ما قال لجاز القيل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *.
[ 89 ]
يقول تعالى ذكره: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، وسائر ما ذكر، ولا ينالون من عدو نيلا، ولا ينفقون نفقة صغيرة في سبيل الله، ولا يقطعون مع رسول الله في غزوه واديا إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك، جزاء لهم عليه كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة... الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *. يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا. وقد بينا معنى الكافة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين، فقال بعضهم: هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله (ص) يعلمون الناس الاسلام، فلما نزل قوله: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله انصرفوا عن البادية إلى النبي (ص) خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة قال: ناس من أصحاب محمد (ص) خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي (ص)، فقال الله: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يبتغون الخير، ليتفقهوا وليسمعوا ما في الناس، وما أنزل الله بعدهم، ولينذروا قومهم الناس كلهم، إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
[ 90 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال في حديثه: فقال الله: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة خرج بعض وقعد بعض، يبتغون الخير. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحو حديثه، عن أبي حذيفة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة، غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم، وقال: ليتفقهوا ليسمعوا ما في الناس. وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوهم ويتركوا نبيهم (ص) وحده. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة قال: ليذهبوا كلهم، فلولا نفر من كل حي وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين، ليتفقه المتخلفون مع النبي (ص) في الدين، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي (ص) وحده. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتسروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي (ص)، قالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: ليتفقهوا في الدين يقول: يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما كان
[ 91 ]
المؤمنون لينفروا كافة.... إلى قوله: لعلهم يحذرون قال: هذا إذا بعث نبي الله الجيوش أمرهم أن لا يعروا نبيه وتقيم طائفة مع رسول الله (ص) تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم. حدثنا الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة... الآية، كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحل لاحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرير قال لهم الذي أقاموا مع رسول الله (ص): إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم، ويفقهونهم في الدين. وهو قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة يقول: إذا أقام رسول الله (ص)، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا وقعد معه معظم الناس. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله (ص) على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلوا بالاسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب النبي (ص) وأجهدوهم. وأنزل الله يخبر رسول الله (ص) أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث، وهو ما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة... إلى قوله: لعلهم
[ 92 ]
يحذرون قال: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي (ص) فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهو في دينهم، ويقولون لنبي الله: ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: إن من أسلم فهو منا وينذرونهم، حتى إن الرجل ليعرف أباه وأمه. وكان رسول الله (ص) يخبرهم وينذرون قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الاسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة. وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزروهم في تخلفهم خلاف رسول الله (ص)، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف. ذكر من قال ذلك: حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان الاحول، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله... إلى: إن الله لا يضيع أجر المحسنين قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف فنزلت: وما كان المؤمنون لينفروا كافة... إلى: لعلهم يحذرون، ونزلت: والذين يحاجون في الله من بعدما استجيب له حجتهم داحضة... الآية. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قا: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا سليمان الاحول عن عكرمة، قال: سمعته يقول: لما نزلت: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما وما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب... إلى قوله: ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله (ص) خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة... إلى قوله: لعلهم يحذرون، ونزلت: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له... الآية. واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبي عليه
[ 93 ]
الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم فقال بعضهم: عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله (ص). وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة. وقد: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين... الآية، قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله. ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم يقول: لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن وقتادة: وما كان المؤمنون لينفروا كافة قالا: كافة، ويدعوا النبي (ص). وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرة المتخلفة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين قال: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله (ص) وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله (ص) وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة. طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جل ثناؤه: فلولا نفر من كل فرقة منها طائفة يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الاقوال التي رويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك وقتادة. وإنما قلنا هذا القول أولى الاقوال في ذلك بالصواب، لان الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله (ص) على المؤمنين به من أهل المدينة، مدينة الرسول (ص)، ومن الاعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله:
[ 94 ]
ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ثم عقب ذلك جل ثناؤ بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله (ص) وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله (ص) بمدينته وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم. وأما قوله: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. فإن أولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الاسلام وظهوره على الاديان من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لعلهم يحذرون يقول: لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون، فيؤمنون بالله ورسوله، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لان النفر قد بينا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشئ أن الاغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الاغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين علم أن قوله: ليتفقهوا إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذ كان يليه دون غيره من الكلام. فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين ؟ قيل: ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم عطفا به على قوله: ليتفقهوا في الدين ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والانذار قد تقدم من الله إليها، وللانذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة
[ 95 ]
الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما ؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الاخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة، لانها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة، ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) *. يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بعد منهم، يقول لهم: ابدءوا بقتال الاقرب فالاقرب إليكم دارا دون الابعد فالابعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لانهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الاعداء دون الابعد منهم ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الاسلام، فإن اضطروا إليهم لزم عونهم ونصرهم، لان المسلمين يد على من سواهم. ولصحة كون ذلك، تأول كل من تأول هذه الآية أن معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الاعداء. ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي، عن رجل من بني تميم، قال: سألت ابن عمر عن قتال الديلم، قال: عليك بالروم. حدثنا ابن بشار وأحمد بن إسحاق وسفيان بن وكيع، قالوا: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن يونس عن الحسن: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قال: الديلم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عمران أخي، قال: سألت
[ 96 ]
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، فقلت: ما ترى في قتال الديلم ؟ فقال: قاتلوهم ورابطوهم، فإنهم من الذين قال الله: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الربيع، عن الحسن أنه سئل عن الشام والديلم، فقال: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار: الديلم. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد، قال: سمعت أبا عمرو وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مسالحهم وحصونهم. ويتأولان قول الله: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قال: كان الذين يلونهم من الكفار العرب، فقاتلوهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... حتى بلغ: وهم صاغرون قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب أمره بجهاد أهل الكتاب، قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله. وأما قوله: وليجدوا فيكم غلظة فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم فيكم أي منكم شدة عليهم. واعلموا أن الله مع المتقين يقول: وأيقنوا عند قتالكم إياهم أن الله معكم وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) *. يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل الله سورة مسور القرآن على نبيه محمد (ص)، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ يقول تصديقا بالله وبآياته. يقول الله: فأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، فزادتهم السورة التي أنزلت إيمانا وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الايمان واليقين.
[ 97 ]
فإن قاقائل: أو ليس الايمان في كلام العرب التصديق والاقرار ؟ قيل: بلى. فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقا وإقرارا ؟ قيل: زادتهم إيمانا حين نزلت، لانهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الاقرار بها والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم (ص) من عند الله فحق فلما أنزل الله السورة لزمهم فرض الاقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الايمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نزول السور حين نزلت من الايمان والتصديق بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا قال: كان إذا نزلت حدثني المثنى، سورة آمنوا بها، فزادهم الله إيمانا وتصديقا، وكانوا يستبشرون قال حدثنا المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: فزادتهم إيمانا قال: خشية. القوفي تأويل قوله تعالى: * (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) *. يقول تعالى ذكره: وأما الذين في قلوبهم مرض، نفاوشك في دين الله، فإن السورة التي أنزلت زادتهم رجسا إلى رجسهم وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، فلم يؤمنوا بها ولم يصدقوا، فكان ذلك زيادة شك حادثة في تنزيل الله لزمهم الايمان به عليهم بل ارتابوا بذلك، فكان ذلك زياد نتن من أفعالهم إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق، وذلك معنى قوله: فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا يعني هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا، وهم كافرون يعني وهم كافرون بالله وآياته. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: أو لا يرون فقرأته عامة قراء الامصار: أو لا
[ 98 ]
يرون بالياء، بمعنى أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرض النفاق. وقرأ ذلك حمزة: أو لا ترون بالتاء، بمعنى أو لا ترون أنتم أيها المؤمنون أنهم يفتنون ؟ والصواب عندنا من القراءة في ذلك: الياء، على وجه التوبيخ من الله لهم، لاجماع الحجة من قراء الامصار عليه وصحة معناه: فتأويل الكلام إذا: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أن الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الاعوام مرة، وفي بعضها مرتين. ثم لا يتوبون يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحل بهم من الله والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيعظوا بها ولكنهم مصرون على نفاقهم. واختلف $ أهالتأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها، فقال بعضهم: ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قال: بالسنة والجوع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يفتنون قال: يبتلون، في كل عام مرة أو مرتين قال: بالسنة والجوع. حدثني المثنى، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قال: يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قال: بالسنة والجوع. وقال آخرون: بل معناه أنهم يختبرون بالغزو والجهاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قال: يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله.
[ 99 ]
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يشيع المشركون من الاكاذيب على رسول الله (ص) وأصحابه، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئام من الناس كثير. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة، قال: كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان. وأولى الاقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين، ووبخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي ينزلها بهم من الجوع والقحط، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله (ص) وأصحابه. ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك، دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله، وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين بما يكون زاجرا لهم ثم لا ينزجرون ولا يتعظون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) * يقول تعالى ذكره: وإذا ما أنزلت سورة من القرآن فيها عيب هؤلاء المنافقين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول الله (ص) نظر بعضهم إلى بعض، فتناظروا هل يراكم من أحد إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله (ص) ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: صرف الله قلوبهم فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والايمان بالله
[ 100 ]
ورسوله قلوب هؤلاء المنافقين ذلك بأنهم قوم لا يفقهو يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه، استكبارا ونفاقا. واختلف أهل العربية في الجالب حرف الاستفهام، فقال بعض نحويي البصرة، قال: نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ؟ كأنه قال: قال بعضهم لبعض لان نظرهم في هذا المكان كان إيماء وتنبيها به، والله أعلم. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد ؟ وقال آخر منهم: هذا النظر ليس معناه القول، ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام كقول العرب: تناظروا أيهم أعلم، واجتمعوا أيهم أفقه أي اجتمعوا لينظروا، فهذا الذي يجلب الاستفهام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا: انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة. قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمير بن تميم الثعلبي، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا: انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم. قال: ثنا أبو معاوية عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض... الآية، قال: هم المنافقون. وكان ابن زيد يقول في ذلك، ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ممن سمع خبركم رأكم أحد أخبره إذا نزل شئ يخبر عن كلامهم، قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: وإذا ما
[ 101 ]
أنزلت سورة فمنهم من يقول إيكم زادته هذه إيمانا... حتى بلغ: نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد أخبره بهذا، أكان معكم أحد سمع كلامكم، أحد يخبره بهذا ؟ حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إسحاق الهمداني، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: لا تقل انصرفنا من الصلاة، فإن الله عير قوما فقال: انصرفوا صرف الله قلوبهم ولكن قل: قد صلينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *. يقول تعالى ذكره للعرب: لقد جاءكم أيها القوم رسول الله إليكم من أنفسكم تعرفونه لا من غيركم، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم. عزيز عليه ما عنتم: أي عزيز عليه عنتكم، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والاذى. حريص عليكم يقول: حريص على هدى ضلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق. بالمؤمنين رءؤف: أي رفيق رحيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، في قوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم قال: لم يصبه شئ من شرك في ولادته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، في قوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم قال: لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي (ص): إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، بنحوه.
[ 102 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم قال: جعله الله من أنفسهم، يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. وأما قوله: عزيز عليه ما عنتم فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، قال: ثنا الحكم بن ظهير عن السدي، عن ابن عباس، في قوله: عزيز عليه ما عنتم قال: ما ضللتم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عنت مؤمنكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: عزيز عليه ما عنتم عزيز عليه عنت مؤمنهم. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس وذلك أن الله عم بالخبر عن نبي الله أنه عزيز عليه ما عنت قومه، ولم يخصص أهل الايمان به، فكان (ص) كما وصفه الله به عزيزا عليه عنت جميعهم. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف (ص) بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم ؟ قيل: إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحب إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من الله، وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم، لانه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي. وأما ما التي في قوله: ما عنتم فإنه رفع بقوله: عزيز عليه لان معنى الكلام: ما ذكرت عزيز عليه عنتكم. وأما قوله: حريص عليكم فإن معناه: ما قد بينت، وهو قول أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: حريص عليكم حريص على ضالهم أن يهديه الله. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
[ 103 ]
قتادة، في قوله: حريص عليكم قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *. يقول تعالى ذكره: فإن تولى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله وما دعوتهم إليه من النور والهدى، فقل حسبي الله، يكفيني ربي لا إله إلا هو لا معبود سواه، عليه توكلت وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس. وهو رب العرش العظيم الذي يملك كل ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. وإنما عني بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم، الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده وفي ملكه وسلطانه لان العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش دون سائر خلقه وأنه الملك العظيم دون غيره وأن من دون في سلطانه وملكه جار عليه حكمه وقضاؤه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: فإن تولوا فقل حسبي الله يعني الكفار تولوا عن رسول الله (ص)، وهذه في المؤمنين. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عبيد بن عمير، قال: كان عمر رحمة الله عليه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان، فجاء رجل من الانصار بهاتين الآيتين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه فقال عمر: لا أسألك عليهما بينة أبدا، كذا كان رسول الله (ص) حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن الاعمش، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله (ص): إن الله رحيم يحب كل رحيم، يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا قال: وأراه قال: وأزواجنا. قال: ليس كذلك، ولكن كونوا كما قال الله: لقد
[ 104 ]
جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم أراه قرأ هذه الآية كلها. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: آخر آية نزلت من القرآن لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم... إلى آخر الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبي، قال: آخر آية نزلت على النبي (ص): لقد جاءكم رسول من أنفسكم... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن أبي، قال: أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم... إلى آخر الآيتين. حدثني أبو كريب، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبي بن كعب، قال: أحدث القرآن عهدا بالله الآيتان: لقد جاءكم رسول من أنفسكم... إلى آخر السورة.
[ 105 ]
سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة القول في تفسير السورة التي يذكر فيها يونس (ص) بسم الله الرحمن الرحيم تأويل قوله تعالى: * (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: تأويله أنا الله أرى. ذكر من قال ذلك: حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله: الر: أنا الله أرى. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى عن ابن عباس، قوله: الر قال: أنا الله أرى. وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو الرحمن. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: ثنا علي بن الحسين، قال: ثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة عن ابن عباس: الر، وحم، ونون حروف الرحمن مقطعة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان، قال: ذكر سالم بن عبد الله: الر، وحم ونون فقال: اسم الرحمن مقطع. ثم قال: الرحمن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبي حماد، قال: ثنا مندل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: الر، وحم، ونون هو اسم الرحمن.
[ 106 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر أنه سئل عن: الر، وحم، وص قال: هي أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسما من أسماء الله تعالى. وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: الر اسم من أسماء القرآن. وقد ذكرنا اختلاف الناس وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه، وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول سورة البقر، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدر الذي ذكرنا لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا قول في الم، فأما الذين وفقوا بين معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك مكتفيا عن الاعادة ههنا. القول في تأويل قوله تعالى: تلك آيات الكتاب الحكيم. واختلف في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تلك آيات التوراة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد: تلك آيات الكتاب الحكيم قال: التوراة والانجيل. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: تلك آيات الكتاب قال: الكتب التي كانت قبل القرآن. وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: هذه آيات القرآن، ووجه معنى تلك إلى معنى هذه، وقد بينا وجه توجيه تلك إلى هذا المعنى في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. والآيات الاعلام، والكتاب اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. وإنما قلنا هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لانه لم يجئ للتوراة والانجيل قبل ذكر ولا تلاوة بعده فيوجه إليه الخبر فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن هذه
[ 107 ]
آيات القرآن الحكيم. ومعنى الحكيم في هذا الموضع: المحكم صرف مفعل إلى فعيل، كما قيل عذاب أليم، بمعنى مؤلم، وكما قال الشاعر: أمن ريحانة الداعي السميع وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. فمعناه إذا: تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. القول في تأويل قوله تعالى: * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) *. يقول تعالى ذكره: أكان عجبا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقاب الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فتعجبوا من وحينا إليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم... وقال: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 108 ]
قال: عجبت قريش أن بعث رجل منهم قال: ومثل ذلك: وإلى عاد أخاهم هودا وإلى ثمود أخاهم صالحا قال الله: أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم. القول في تأويل قوله تعالى: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم. يقول جل ثناؤه: أكان عجبا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله أن لهم قدم صدق عطف على أنذر. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: قدم صدق فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرا حسنا بما قدموا من صالح الاعمال. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: أن لهم قدم صدق عند ربهم قال: ثواب صدق. قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: أن لهم قدم صدق عند ربهم قال: الاعمال الصالحة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يقول: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن مجاهد: أن لهم قدم صدق عند ربهم قال: صلاتهم، وصومهم، وصدقتهم، وتسبيحهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قدم صدق قال: خير.
[ 109 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قدم صدق مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: قدم صدق ثواب صدق عند ربهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني يونس، قال: أخبر ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق قال: القدم الصدق: الثواب الصدق بما قدموا من الاعمال. وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عبا س قوله: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يقول: سبقت لهم السعادة في الذكر الاول. وقال آخرون: معنى ذلك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قدم صدق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة أو الحسن: أن لهم قدم صدق عند ربهم قال: محمد شفيع لهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم: أي سلف صدق عند ربهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابي عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: أن لهم قدم صدق عند ربهم قال: محمد (ص).
[ 110 ]
قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثواب وذلك أنه محكي عن العرب: هؤلاء أهل القدم في الاسلام أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا، فكان لهم فيه تقديم، ويقال: له عندي قدم صدق وقدم سوء، وذلك ما قدم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لنا القدم الاولى إليك وخلفنا لاولنا في طاعة الله تابع وقول ذي الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر فتأويل الكلام إذا: وبشر الذين آمنوا أن لهم تقدمة خير من الاعمال الصالحة عن ربهم. القول في تأويل قوله تعالى: قال الكافرون إن هذا لسحر مبين. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: إن هذا لسحر مبين بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به، يعنون القرآن لسحر مبين. وقرأ ذلك مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قراء الكوفيين: إن هذا لسحر مبين وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك أن كل موصوف بصفة نزل الموصوف على صفته، وصفته عليه، فالقارئ مخير في القراءة في ذلك وذلك نظير هذا الحرف: قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ولساحر مبين وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه ساحر، ووصفهم ما جاءهم به أنه سحر يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذا كان ذلك كذلك فسواء بأي ذلك قرأ القارئ لاتفاق معنى القراءتين. وفي الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره وهو: فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي، قال الكافرون إن هذا الذي جاءنا به لسحر مبين.
[ 111 ]
فتأويل الكلام إذا: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم، أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمد لسحر مبين أي يبين لكم عنه أنه مبطل فيما يدعيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر مامن شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) *. يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شئ، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع والارضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهير، ثم استوى على عرشه مدبرا للامور وقاضيا في خلقه ما أحب، لا يضاده في قضائه أحد ولا يتعقب تدبيره متعقب ولا يدخل أموره خلل. ما من شفيع إلا من بعد إذنه يقول: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة. ذلكم الله ربكم يقول جل جلاله: هذا الذي هذه صفته سيدكم ومولاكم لا من لا يسمع، ولا يبصر، ولا يدبر، ولا يقضي من الآلهة والاوثان. فاعبدوه يقول: فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الالوهة والربوبية بالذلة منكم له دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة. أفلا تذكرون يقول: أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج، فتنيبون إلى الاذعان بتوحيد ربكم وإفراده بالعبادة، وتجمعون الانداد وتبرءون منها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يدبر الامر قال: يقضيه وحده. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الاعلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: يدبر الامر مامن شفيع إلا من بعد إذنه قال: يقضيه وحده.
[ 112 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يدبر الامر قال: يقضيه وحده. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *. يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصف جل ثناؤه في الآية قبل هذه معادكم أيها الناس يوم القيامة جميعا. وعد الله حقا فأخرج وعد الله مصدرا من قوله: إليه مرجعكم لان فيه معنى الوعد، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدا حقا، فلذلك نصب وعد الله حقا. إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ثم يعيده، فيوجده حيا كهيئته يوم ابتدأه بعد فنائه وبلائه. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يبدأ الخلق ثم يعيده قال: يحييه ثم يميته. قال أبو جعفر: وأحسبه أنه قال: ثم يحييه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: يبدأ الخلق ثم يعيده قال: يحييه ثم يميته ثم يحييه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنه يبدأ الخلق ثم يعيده: يحييه ثم يميته، ثيبدؤه ثم يحييه. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
[ 113 ]
وقرأت قراء الامصار ذلك: إنه يبدأ الخلق بكسر الالف من إنه على الاستئناف. وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه أنه بفتح الالف من أنه كأنه أراد: حقا أن يبدأ الخلق ثم يعيده، ف أن حينئذ تكون رفعا، كما قال الشاعر: أحقا عباد الله أن لست زائرا أبا حبة إلا علي رقيب وقوله: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره، ليجزي الذين آمنوا يقول: ليثيب من صدق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الاعمال واجتنبوا ما نهاهم عنه على أعمالهم الحسنة بالقسط يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسن من الثواب والصالح من الجزاء في الآخرة، وذلك هو القسط. والقسط العدل والانصاف كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بالقسط بالعدل. وقوله: والذين كفروا لهم شراب من حميم فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعد الله للذين كفروا من العذاب. وفيه معنى العطف على الاول، لانه تعالى ذكره عم بالخبر عن معاد جميعهم كفارهم ومؤمنيهم إليه، ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كل فريق بما عمل، المحسن منهم بالاحسان والمسئ بالاساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنف عما أعد للذين كفروا من العذاب ما يدل سامع ذلك على المراد ابتدأ الخبر والمعني العطف، فقال: والذين جحدوا الله ورسوله وكذبوا بآيات الله، لهم شراب في جهنم من حميم، وذلك شراب قد أغلي واشتد حره حتى أنه فيما ذكر عن النبي (ص) ليتساقط من أحدهم حين يدنيه منه فروة رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: كالمهل يشوي الوجوه. وأصله مفعول صرف إلى فعيل، وإنما هو محموم: أي مسخن، وكل مسخن عند العرب فهو حميم، ومنه قول المرقش: في كل يوم لها مقطرة فيها كباء معد وحميم
[ 114 ]
يعني بالحميم: الماء المسخن. وقوله: عذاب أليم يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع سوى الشراب من الحميم بما كانوا يكفرون بالله ورسوله. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) *. يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض هو الذي جعل الشمس ضياء بالنهار والقمر نورا بالليل، ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمس وأنار القمر، وقدره منازل يقول: قضاه فسواه منازل لا يجاوزها، ولا يقصر دونها على حال واحدة أبدا. وقال: وقدره منازل فوحده، وقد ذكر الشمس والقمر، فإن في ذلك وجهين: أحدهما أن تكون الهاء في قوله: وقدره للقمر خاصة، لان بالاهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس. والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: والله ورسوله أحق أن يرضوه وكما قال الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن جول الطوي رماني وقوله: لتعلموا عدد السنين والحساب يقول: وقدر ذلك منازل لتعلموا أنتم أيها الناس عدد السنين: دخول ما يدخل منها، وانقضاء ما يستقبل منها وحسابها، يقول: وحساب أوقات السنين وعدد أيامها وحساب ساعات أيامها. ما خلق الله ذلك إلا بالحق يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق، يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحق وحدي بغير عون ولا شريك. يفصل الآيات يقول: يبين
[ 115 ]
الحجج والادلة لقوم يعلمون إذا تدبروها، حقيقة وحدانية الله، وصحة ما يدعوهم إليه محمد (ص) من خلع الانداد والبراءة من الاوثان. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والارض لآيات لقوم يتقون) *. يقول تعالى ذكره منبها عباده على موضع الدلالة على ربوبيته وأنه خالق كل ما دونه. إن في اعتقاب الليل والنهار واعتقاب النهار الليل. إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب هذا، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم وفي الارض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شئ، لآيات يقول لادلة وحججا وأعلاما واضحة لقوم يتقون الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم. فإن قال قائل: أو لادلالة فيما خلق الله في السماوات والارض على صانعه إلا لمن اتقى الله ؟ قيل: في ذلك الدلالة الواضحة على صانعه لكل من صحت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه، وليقصد بذلك الخبر عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعر نفسه تقوى الله، وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتقى عقاب الله فلم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق، لان ذلك يدل كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبرا يستحق عليه الاذعان له بالعبودة دون ما سواه من الآلهة والانداد. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) *. يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضون بها عوضا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين. والذين هم عن آيات الله، وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له غافلون معرضون عنها لاهون، لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلتهم عليه، ويعرفوا بها بطول ما هم عليه مقيمون. أولئك مأواهم النار يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم مأواهم مصيرها إلى النار نا جهنم في الآخرة. بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام والاجرام ويجترحون من السيئات.
[ 116 ]
والعرب تقول: فلان لا يرجو فلانا: إذا كان لا يخافه. ومنه قول الله جل ثناؤه: ما لكم لا ترجون لله وقارا. ومنه قول أبي ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واطمأنوا بها قال: هو مثل قوله: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها قال: هو مثل قوله: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون قال: إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها... الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من
[ 117 ]
تحتهم الانهار في جنات النعيم ئ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *. يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره. يهديهم ربهم بإيمانهم يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم بلغنا أن نبي الله (ص) قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة، فيقول له: ما أنت، فو الله إني لاراك امرأ صدق ؟ فيقول: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة، فيقول: ما أنت فوالله إني لاراك أمرأ سوء ؟ فيقول: أنا عملك. فينطلق به حتى يدخله النار. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يكون لهم نورا يمشون به. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال ابن جريج: يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يمثل له عمله في صورة حسنة
[ 118 ]
وريح طيبة، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: يهديهم ربهم بإيمانهم. والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويلاده حتى يقذفه في النار. وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه، يقول: بتصديقهم هداهم. ذكر من قال ذلك: وقوله: تجري من تحتهم الانهار يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم أنهار الجنة. في جنات النعيم يقول: في بساتين النعيم الذي نعم الله به أهل طاعته والايمان به. فإن قال قائل: وكيف قيل تجري من تحتهم الانهار، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات ؟ وكيف يمكن الانهار أن تجري من تحتهم إلا أن يكونوا فوق أرضها والانهار تجري من تحت أرضها، وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لان صفتها أنها تجري على وجه الارض في غير أخاديد ؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الانهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: قد جعل ربك تحتك سريا ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة، إذ كان السري هو الجدول، وإنما عني به جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرا عن قيل فرعون: أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي بمعنى: من دوني بين يدي وأما قوله: دعواهم فيها سبحانك اللهم فإن معناه: دعاؤهم فيها سبحانك اللهم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن قوله: دعواهم فيها سبحانك اللهم قال: إذا مر بهم الطير فيشتهونه،
[ 119 ]
قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم، فيردون عليه، فذلك قوله: وتحيتهم فيها سلام. قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: دعواهم فيها سبحانك اللهم يقول: ذلك قولهم فيها وتحيتهم فيها سلام. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله الاشجعي، قال: سمعت سفيان يقول: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام قال: إذا أرادوا الشئ قالوا: اللهم فيأتيهم ما دعوا به. وأما قوله: سبحانك اللهم فإن معناه: تنزيها لك يا رب مما أضاف إليك أهل الشرك بك من الكذب عليك والفرية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن غير واحد عطية فيهم: سبحان الله تنزيه لله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت موسى بن طلحة، قال: سئل رسول الله (ص) عن سبحان الله، قال: إبراء الله عن السوء. حدثنا أبو كريب وأبو السائب وخلاد بن أسلم، قالوا: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه عن سبحان الله قال: كلمة رضيها الله لنفسه. حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة، قال: سئل رسول الله (ص)، عن سبحان الله، فقال: تنزيها لله عن السوء حدثني علي بن عيسى البزار، قال: ثنا عبيد الله بن محمد، قال: ثنا عبد الرحمن بن حماد، قال: ثني حفص بن سليمان، قال: ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة،
[ 120 ]
عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله، قال: سألت رسول الله (ص) عن تفسير سبحان الله فقال: هو تنزيه الله من كل سوء. حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي، قال: ثنا سليمان بن أيوب، قال: ثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله قول سبحان الله ؟ قال: تنزيه الله عن السوء. وتحيتهم يقول: وتحية بعضهم بعضا فيها سلام: أي سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار. والعرب تسمى الملك التحية ومنه قول عمرو بن معد يكرب: أزور بها أبا قابوس حتى أنيخ على تحيته بجندي ومنه قول زهير بن جناب الكلبي: من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه وقوله: وآخر دعواهم يقول: وآخر دعائهم أن الحمد لله رب العالمين يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين ولذلك خففت أن ولم تشدد، لانه أريد بها الحكاية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) *. يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس أجابة دعائهم في الشر، وذلك فيما عليهم مضرة في نفس أو مال استعجالهم بالخير يقول: كاستعجاله لهم في الخير
[ 121 ]
بالاجابة إذا دعوه به. لقضي إليهم أجلهم يقول: لهلكوا وعجل لهم الموت، وهو الاجل. وعني بقوله: لقضي لفرغ إليهم من أجله وتبدى لهم، كما قال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع فنذر الذين لا يرجون لقاءنا يقول: فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، في طغيانهم يقول: في تمردهم وعتوهم، يعمهون يعني يترددون. وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشر لو استجاب لهم أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال: قول الانسان إذا غضب لولده وماله: لا بارك الله فيه ولعنه حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال: قول الانسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل الله الاستجابة لهم في ذلك كما يستجاب في الخير لاهلكهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، فقوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال: قول الانسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه: لقضي إليهم أجلهم قال: لاهلك من دعا عليه ولاماته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال: قول الرجل لولده
[ 122 ]
إذا غضب عليه أو ماله: اللهم لا تبارك فيه والعنه قال الله: لقضي إليهم أجلهم قال: لاهلك من دعا عليه ولاماته. قال: فنذر الذين لا يرجون لقاءنا قال: يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: لقضي إليهم أجلهم قال: لاهلكناهم، وقرأ: ما ترك على ظهرها من دابة قال: يهلكهم كلهم. ونصب قوله استعجالهم بوقوع يعجل عليه، كقول القائل قمت اليوم قيامك، بمعنى قمت كقيامك، وليس بمصدر من يعجل، لانه لو كان مصدرا لم يحسن دخول الكاف، أعني كاف التشبيه فيه. واختلفت القراء في قراءة قوله: لقضي إليهم أجلهم فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: لقضي إليهم أجلهم على وجه ما لم يسم فاعله بضم القاف من قضي ورفع الاجل. وقرأ عامة أهل الشأم: لقضي إليهم أجلهم بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم. وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أقرؤه على وجه ما لم يسم فاعله، لان عليه أكثر القراء. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) *. يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الانسان الشدة والجهد دعانا لجنبه يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه، لجنبه: يعني مضطجعا لجنبه. أو قاعدا أو قائما الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضر به. فلما كشفنا عنه ضره يقول: فلما فرجنا عنه الجهد الذي أصابه، مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه يقول: استمر على طريقته الاولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء، أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرج
[ 123 ]
عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودعوى الآلهة والاوثان أربابا معه. يقول تعالى ذكره: كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون يقول: كما زين لهذا الانسان الذي وصفنا صفته استمراره على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زين للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: دعانا لجنبه قال: مضطجعا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) *. يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الامم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم لما ظلموا يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه. وجاءتهم رسلهم من عند الله، بالبينات وهي الآيات والحجج التي تبين عن صدق من جاء بها. ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق. وما كانوا ليؤمنوا يقول: فلم تكن هذه الامم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له. كذلك نجزي القوم المجرمين يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم أيها المشركون بظلمهم أنفسهم وتكذيبهم رسلهم وردهم نصيحتهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدا (ص)، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم، فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي أن أهلكه بسخطي في الدنيا وأورده النار في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) *. يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم أيها الناس خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا تخلفونهم في الارض وتكونون فيها بعدهم. لننظر كيف تعملون يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الامم بذنوبهم
[ 124 ]
وكفرهم بربهم، تحذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلهم، فتؤمنون بالله ورسوله، وتقرون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر كيف أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا، بالليل والنهار والسر والعلانية. حدثني المثنى، قال: ثنا يزيد بن عوف أبو ربيعة بهذا، قال: ثنا حماد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لابي بكر رضي الله عنه: رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء فانتشط رسول الله (ص)، ثم دلي فانتشط أبو بكر، ثم ذرع الناس حول المنبر، ففضل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال: يا عوف رؤياك ؟ قال: وهل لك في رؤياي من حاجة، أو لم تنتهرني ؟ قال: ويحك إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله (ص) نفسه فقص عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الاذرع، قال: أما إحداهن فإنه كائن خليفة، وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فمن شاء الله، وأما قوله: فاني شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به ثم قال إن الله على ما يشاء قدير. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) *.
[ 125 ]
يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات واضحات على الحق دالات. قال الذين لا يرجون لقاءنا يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالمعاد إلينا ولا يصدقون بالبعث لك: ائت بقرآن غير هذا أو بدله يقول: أو غيره. قل لهم يا محمد: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أي من عندي. والتبديل الذي سألوه فيما ذكر، أيحول آية الوعيد آية وعد وآية الوعد وعيدا والحرام حلالا والحلال حراما، فأمر النبيه (ص) أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يرد حكمه ولا يتعقب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلغ ومأمور متبع. وقوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلي يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم به أيها القوم وأنهاكم عنه إلا ما ينزله إلي ربي ويأمرني به. إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يقول إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك، عذاب يوم عظيم هوله، وذلك يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون *. يقول تعالى ذكره لنبيه معرفه الحجة على هؤلاء المشركين الذين قالوا له ائت بقرآن غير هذا أو بدله: قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوته عليكم أي ما تلوت هذا القرآن عليكم أيها الناس بأن كان لا ينزل علي فيأمرني بتلاوته عليكم، ولا أدراكم به يقول: ولا أعلمكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوه عليكم ومن قبل أن يوحيه إلي ربي، أفلا تعقلو أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحداثتي وقبل الوقت الذي تلوته عليكم ؟ فقد كان لي اليوم لو لم يوح إلي وأومر بتلاوته عليكم مندوحة عن معاداتكم ومتسع في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 126 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا أدراكم به: ولا أعلمكم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به يقول: ما حذرتكم به. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي (ص)، ثم قال لنبيه (ص): لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون لبث أربعين سنة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ولا أعلمكم به. حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: ولا أدرأتكم به يقول: ما أعلمتكم به. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ولا أدراكم به يقول: ولا أشعركم الله به. وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن عند أهل العربية غلط، وكان الفراء يقول في ذلك قد ذكر عن الحسن أنه قال: ولا أدرأتكم به، قال: فإن يكن فيها لغة سوى دريت وأدريت، فلعل الحسن ذهب إليها، وأما أن يصلح من دريت أو أدريت فلا، لان الياء والوا إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف مثل قضيت ودعوت، ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لانها تضارع درأت الحد وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز، فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طي تقول: رثأت زوجي بأبيات، ويقولون: لبأت بالحج وحلات السويق يتغلطون، لان حلات قد يقال في دفع العطاش من الابل، ولبأت: ذهبت به إلى اللبأ، لبأ الشاة، ورثأت زوجي: ذهبت به إلى رثأت اللبن إذ أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك
[ 127 ]
الرثيئة. وكان بعض البصريين يقول: لاوجه لقراءة الحسن هذه لانها من أدريت مثل أعطيت، إلا أن لغة بني عقيل أعطأت يريدون أعطيت، تحول الياء ألفا، قال الشاعر: لقد آذنت أهل اليمامة طيئ بحرب كناصاة الاغر المشهر يريد كناصية حكي ذلك عن المفضل. وقال زيد الخيل: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقاعلى الارض قيسي يسوق الاباعرا فقال بقا. وقال الشاعر: لزجرت فقلنا لا نريع لزاجر إن الغوي إذا نها لم يعتب يريد نهي. قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصير كل ياء انكسر ما قبلها ألفا، يقولون: هذه جاراة، وفي الترقوة: ترقاة، والعرقوة: عرقاة، قال: وقال بعض طيئ: قد لقت فزارة، حذف الياء من لقيت لما لم يمكنه أن
[ 128 ]
يحولها ألفا لسكون التاء فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن نسا ورضا لغة معروفة، قال الشاعر: وأبنيت بالاعراض ذا البطن خالدا نسا أو تناسى أن يعد المواليا وروى عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضا رواية أخرى، وهي ما: حدثنا به المثنى، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا خالد بن حنظلة، عن شهر بن حوشب، عن ان عباس أنه كان يقرأ: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أنذرتكم به والقراءة التي لا أستجيز أن تعدوها هي القراءة التي عليها قراء الامصار: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربك إلى الكذب: أي خلق أشر بعدنا وأوضع لقيله في غير موضعه، ممن اختلف على الله كذبا وافترى عليه باطلا أو كذب بآياته يعني بحججه ورسله وآيات كتابه. يقول له جل ثناؤه: قل لهم ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم وافترائكم عليه وتكذيبكم بآياته. إنه لا يفلح المجرمون يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة إذا لقوا ربهم، ولا ينالون الفلاح. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
[ 129 ]
يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم من دون الله الذي لا يضرهم شيئا ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والاصنام التي كانوا يعبدونها. ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله يعني أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله، قال الله لنبيه محمد (ص): قل لهم أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الارض وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الارض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه (ص): قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الارض يشفع لكم فيهما، وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون وأنها لا تشفع لاحد ولا تنفع ولا تضر. سبحانه وتعالى عما يشركون يقول: تنزيها لله وعلوا عما يفعله هؤلاء المشركون من إشراكهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع وافترائهم عليه الكذب. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) *. يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة، فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك. ولولا كلمة سبقت من ربك يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم، لقضي بينهم فيما فيه يختلفون يقول: لقضي بينهم بأن يهلك أهل الباطل منهم وينجي أهل الحق. وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في سورة البقرة، وذلك في قوله: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين وبينا الصواب من القول فيه بشواهده فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه. حدثني المثنى، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
[ 130 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: / * (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) *. يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد آية من ربه يقول: علم ودليل نعلم به أن محمدا محق فيما يقول. قال الله له: فقل يا محمد إنما الغيب لله، أي لا يعلم أحد بفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لانه لا يعلم الغيب وهو السر والخفي من الامور إلا الله، فانتظروا أيها القوم قضاء الله بيننا بتعجيل عقوبته للمبطل منا وإظهاره المحق عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدر بالسيف. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) *. يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدة أصابتهم. وقيل: عنى به المطر بعد القحط، والضراء: وهي الشدة، والرحمة: هي الفرج. يقول: إذا لهم مكر في إياتنا استهزاء وتكذيب. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إذا لهم مكر في آياتنا قال: استهزاء وتكذيب. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: قل الله أسرع مكرا يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا يا محمد: الله أسرع مكرا، أي أسرع محالا بكو استدراجا لكم
[ 131 ]
وعقوبة منكم من المكر في آيات الله. والعرب تكتفي بإذا من فعلت وفعلوا، فلذلك حذف الفعل معها. وإنما معنى الكلام: وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم مكروا في آياتنا، فاكتفى من مكروا، ب إذا لهم مكر. إن رسلنا يكتبون ما تمكرون يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم أيها الناس يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) *. يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم أيها الناس في البر على الظهر وفي البحر في الفلك حتى إذا كنتم في الفلك وهي السفن، وجرين بهم يعني: وجرت الفلك بالناس، بريح طيبة في البحر، وفرحوا بها يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها. والهاء في قوله: بها عائدة على الريح الطيبة. جاءتها ريح عاصف يقول: جاءت الفلك ريح عاصف، وهي الشديدة، والعرب تقول: ريح عاصف وعاصفة، وقد أعصفت الريح وعصفت وأعصفت في بني أسد فيما ذكر، قال بعض بني دبير: حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل وجاءهم الموج من كل مكان يقول تعالى ذكره: وجاء ركبان السفينة الموج من كل مكان. وظنوا أنهم أحيط بهم يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. دعوا الله مخلصين له الدين يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذ إلى الله دونها. كما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: دعوا الله مخلصين له الدين قال: إذا مسهم الضر في البحر أخلصوا له الدعاء.
[ 132 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، في قوله: مخلصين له الدين هياشراهيا، تفسيره: يا حي يا قوم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم... إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعو إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نحن فيها لنكونن من الشاكرين لك على نعمك وتخليصك إيانا مما نحن فيه بإخلاصنا العبادة لك وإفراد الطاعة دون الآلهة والانداد. واختلفت القراء في قراءة قوله: هو الذي يسيركم فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: هو الذي يسيركم من السير بالسين. وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: هو الذي ينشركم من النشر، وذلك البسط من قول القائل: نشرت الثوب، وذلك بسطه ونشره من طيه. فوجه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده، فيبسطهم برا وبحرا، وهو قريب المعنى من التسيير. وقال: وجرين بهم بريح طيبة وقال في موضع آخر: في الفلك المشحون فوحد، والفلك: اسم للواحدة والجماع ويذكر ويؤنث. قال: وجرين بهم وقد قال: هو الذي يسيركم فخاطب ثم عاد إلى الخبر عن الغائب وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وجواب قوله: حتى إذا كنتم في الفلك: جاءتها ريح عاصف. وأما جواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم فدعوا الله مخلصين له الدين. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) *. يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا في البحر أنهم أحيط بهم من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدوه، وبغوا في الارض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه من الكفر به والعمل بمعاصيه على ظهرها. يقول الله: يا أيها الناس إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم وإياها تظلمون، وهذا الذي أنتم فيه متاع الحياة
[ 133 ]
الدنيا يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. وعلى هذا التأويل، البغي يكون مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله: على أنفسكم ويكون قوله: متاع الحياة الدنيا مرفوعا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ بمعنى: هذا بلاغ، وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لانكم بكفركم تكسبونها غضب الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا، فيكون البغي مرفوعا بالمتاع، وعلى أنفسكم من صلة البغي. وبرفع المتاع قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق فإنه نصبه بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعا في الحياة الدنيا، فجعل، البغي مرفوعا بقوله: على أنفسكم والمتاع منصوبا على الحال. وقوله: ثم إلينا مرجعكم يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات. فننبئكم بما كنتم تعملون يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) *. يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها مع ما قد وكل بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، كمثل ماء أنزلناه من السماء يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الارض، فاختلط به نبات الارض يقول: فنبت بذلك المطر أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس كالحنطة
[ 134 ]
والشعير وسائر حبوب الارض والبقول والثمار، وما يأكله الانعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وقوله: حتى إذا أخذت الارض زخرفها يعني: ظهر حسنها وبهاؤها. وازينت يقول: وتزينت. وظن أهلها يعني: أهل الارض أنهم قادرون عليها يعني: على ما أنبتت. وخرج الخبر عن الارض، والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عنى به. وقوله: أتاها أمرنا ليلا أو نهارا يقول: جاء الارض أمرنا يعني قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارا. فجعلناها يقول: فجعلنا ما عليها، حصيدا يعني مقطوعة مقلوعة من أصولها، وإنما هي محصودة صرفت إلى حصيد، كأن لم تغن بالامس يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الارض نابته قائمة على الارض قبل ذلك بالامس، وأصله: من غني فلان بمكان كذا، يغنى به: إذا أقام به، كما قال النابغة الذبياني: غنيت بذلك إذ هم لي جيرة منها بعطف رسالة وتودد يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الارض بعد حسنها وبهجتها حتى صارت كأن لم تغن بالامس كأن لم تكن قبل ذلك نباتا على ظهرها. يقول الله جل ثناؤها: كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون يقول: كما بينا لكم أيها الناس مثل الدنيا وعرفناكم حكمها وأمرها، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ونظر. وخص به أهل الفكر، لانهم أهل التمييز بين الامور والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: حتى إذا أخذت الارض زخرفها... الآية: أي والله لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها لتوشكن الدنيا أن تلفظه وتقضى منه.
[ 135 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وازينت قال: أنبتت وحسنت. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. قال: قد قرأتها، وليست في المصحف، فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبي بن كعب. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: كأن لم تغن بالامس يقول: كأن لم تعش، كأن لم تنعم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أبو أسامة، عن إسماعيل، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: في قراءة أبي: كأن لم تغن بالامس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. واختلفت القراء في قراءة قوله: وازينت فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: وازينت بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذا كانت التاء قد سكنت والساكن لا يبتدأ به. وحكى عن أبي العالية وأبي رجاء والاعرج وجماعة أخر غيرهم أنهم قرءوا ذلك: وأزينت على مثال أفعلت. والصواب من القراءة في ذلك: وازينت لاجماع الحجة من القراء عليها. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم) *. يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس لا تطلبوا الدنيا وزينتها، فإن مصيرها إلى فناء وزوال كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاك وبوار، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته
[ 136 ]
التي أعدها لاوليائه، تسلموا من الهموم والاحزان فيها وتأمنوا من فناء ما فيها من النعيم والكرامة التي أعدها لمن دخلها، وهو يهدى من يشاء من خلقه فيوفقه لاصابة الطريق المستقيم، وهو الاسلام الذي جعله جل ثناؤه سببا للوصول إلى رضاه وطريقا لمن ركبه وسلك فيه إلى جنانه وكرامته كما: حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: الله السلام، وداره الجنة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: والله يدعو إلى دار السلام قال: الله هو السلام، وداره الجنة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي (ص)، قال: قيل لي: لتنم عينك، وليعقل قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: سيد بني دارا، ثم صنع مأدبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد، فالله السيد، والدار الاسلام والمأدبة الجنة، والداعي محمد (ص). حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا: يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انته حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة، قال: ثنا عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا عباد بن راشد، عن قتادة، قال: ثني خليد العصري، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله (ص): ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[ 137 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله، قال خرج علينا رسول الله (ص) يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك، والدار الاسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول من أجابك دخل الاسلام، ومن دخل الاسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها. القول في تأويل قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *. يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه فأطاعوه فيما أمر ونهى الحسنى. ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحسنى والزيادة اللتين وعدهما المحسنين مخلقه، فقال بعضهم: الحسنى: هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء، والزيادة عليها النظر إلى الله تعالى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أببكر الصديق: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا سفيان، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر ابن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه الله تعالى.
[ 138 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، قال: في هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: وزيادة قال: النظر إلى وجه الرحمن. حدثني علي بن عيسى، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، قال: سمعت أبا تميمة الهجيمي يحدث عن أبي موسى الاشعري، قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديا ينادي: هل أنجزكم الله ما وعدكم ؟ فينطرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقول: نعم، فيقول: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى وجه الرحمن. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي، قال: سمعت أبا موسى الاشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة ملكا إلى أهل الجنة، فيقول: يا أهل الجنة هل أنجزكم الله ما وعدكم ؟ فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيرون الحلي والحلل والثمار والانهار والازواج المطهرة، فيقولون: نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا. ثم يقول الملك: هل أنجزكم الله ما وعدكم ؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئا مما وعدوا، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي لكم شئ، إن الله يقول: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الاشعري يحدث عن رسول الله (ص): إن الله
[ 139 ]
يبعث يوم القيامة مناديا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال: بعد النظر إلى وجه ربهم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، قال: أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قوله: وزيادة قال: قيل له: أرأيت قوله: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم قال: نودوا يا أهل الجنة إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم. قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثقلت موازينهم، وحين صارت الصحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم ؟ كل ذلك لم يكن شيئا فيما رأوا. قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه ربهم. قال: ثنا الحجاج ومعلى بن أسد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شئ لم تعطوه. قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شئ أعطوه. قال: ثم قال: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى: الجنة، والزيادة،: النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد ذلك. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قول الله: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى الرب.
[ 140 ]
حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار، قالا: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي (ص) في هذه الآية للذين احسنوا الحسنى وزيادة قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نودوا: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا قالوا: ما هو ؟ ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار ؟ فيكشف الحجاب، فيتجلى لهم فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولفظ الحديث لعمرو. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال: تلا رسول الله (ص) هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو ؟ ألم يثقل الله موازيننا، ويبيض وجوهنا ؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي وابن بشار، عن عبد الرحمن. قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة بلغنا أن المؤمنين لما دخلوا الجنة ناداهم مناد: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة وأما الزيادة: فالنظر إلى وجه الرحمن. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي (ص) في قوله: تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى.
[ 141 ]
قال: ثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: الحسنى: النضرة، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى. حدثنا ابن البرقى، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية، قال: ثنا أبي بن كعب: أنه سأل رسول الله (ص) عن قول الله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى: الجنة والزيادة: النظر إلى وجه الله. وقال آخرون في الزيادة بما: حدثنا به يحيى بن طلحة، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب. قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل سواء. وقال آخرون: الحسنى واحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة: التضعيف إلى تمام العشر. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: هو مثل قوله: ولدينا مزيد يقول: يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله. وقال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن
[ 142 ]
قيس: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة ؟ قال: ألم تر أن الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. وقال آخرون: الحسنى: حسنة مثل حسنة، والزيادة: زيادة مغفرة من الله ورضوان. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: للذين أحسنوا الحسنى مثلها حسنى وزيادة مغفرة ورضوان. وقال آخرون: الزيادة ما أعطوا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال: الحسنى: الجنة، وزيادة: ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرأ وآتيناه أجره في الدنيا قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا عجل له أجره فيها. وكان ابن عباس يقول في قوله: للذين أحسنوا الحسنى بما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: للذين أحسنوا الحسنى يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى أن يجزيهم على طاعتهم إياه الجنة وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها، ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غرفا من لآلئ، وأن يزيدهم غفرانا ورضوانا كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لاهل جناته. وعم ربنا جل ثناؤه بقوله: وزيادة الزيادات على الحسنى، فلم يخصص منها شيئا دون شئ، وغير مستنكر من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يعم كما عمه عز ذكره.
[ 143 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. يعني جل ثناؤه بقوله: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة لا يغشى وجوههم كآبة ولا كسوف حتى تصير من الحزن كأنما علاها قتر. والقتر: الغبار وهو جمع قترة، ومنه قول الشاعر: متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا يعني بالقتر: الغبار. ولا ذلة. ولا هوان. أولئك أصحاب الجنة يقول هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أهل الجنة وسكانها ومن هم فيها خالدون يقول هم فيها ماكثون أبدا لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغص عليهم لذتهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: ولا يرهق وجوههم قتر ما: حدثنا محمد بن منصور الطوسى، قال: ثنا عفان، قال: ثنحماد بن زيد، قال: ثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال: بعد نظرهم إلى ربهم. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج ومعلى بن أسد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه. حدثنا قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ولا يرهق وجوههم قتر قال: سواد الوجوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *.
[ 144 ]
يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله، جزاء سيئة من عمله السئ الذي عمله في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الآخرة. وترهقهم ذلة يقول: وتغشاهم ذلة وهوان بعقاب الله إياهم. ما لهم من الله من عاصم يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم إذا عاقبهم يحول بينه وبينهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قا أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وترهقهم ذلة قال: تغشاهم ذلة وشدة. واختلف أهل العربية في الرافع للجزاء، فقال بعض نحويي الكوفة: رفع بإضمار لهم، كأنه قيل: ولهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال: فصيام ثلاثة أيام في الحج والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام. قال: وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله: وجزاء سيئة بمثلها. وقال بعض نحويي البصرة: الجزاء مرفوع بالابتداء: وخبره بمثلها. قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت الياء كما زيدت في قوله: بحسبك قول السوء. وقد أنكر ذلك من قول بعضهم فقال: يجوز أن تكون الباء في حسب (زائدة)، لان التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك، فلما لم تدخل في الجزاء أدخلت في حسب بحسبك أن تقوم إن قمت فهو حسبك، فإن مد ما بعد حسب أدخلت الباء فيما بعدها كقولك: حسبك بزيد، ولا يجوز: بحسبك زيد، لان زيدا الممدوح فليس بتأويل جزاء. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها لان الله قال في الآية التي قبلها: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فوصف ما أعد لاوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعد الله لاعدائه، فأشبه بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة. وإذا وجه ذلك إلى هذا المعنى كانت الياء للجزاء. القول في تأويل قوله تعالى: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات قطعا من الليل، وهي جمع قطعة. وكان قتادة يقول في تأويل ذلك، ما:
[ 145 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة كأنما وجوههم قطعا من الليل مظلما قال: ظلمة من الليل. واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: قطعا فقرأته عامة قراء الامصار: قطعا بفتح الطاء على معنى جمع قطعة، وعلى معنى أن تأويل ذلك: كأنما أغشيت وجه كل إنسان منهم قطعة من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جمع الوجه. وقرأه بعض متأخري القراء: قطعا بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادا من الليل، وبقية من الليل، ساعة منه، كما قال: فأسر بأهلك بقطع من الليل أي ببقية قد بقيت منه، ويعتل لتصحيح قراءته ذلك كذلك أنه في مصحف أبي: ويغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي قراءة ذلك بفتح الطاء، لاجماع الحجة من قراء الامصار على تصويبها وشذوذ ما عداها. وحسب الاخرى دلالة على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل الامصار والاسلام. فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير المظلم وتوحيده، وهو من نعت القطع والقطع جمع لمؤنث ؟ قيل في تذكيره ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون قطعا من الليل، وإن يكون من نعت الليل، فلما كان نكرة والليل معرفة نصب على القطع. فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل المظلم، ثم حذفت الالف واللام من المظلم، فلما صار نكرة وهو من نعت الليل نصب على القطع وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك حالا، والكوفيون قطعا. والوجه الآخر على نحو قول الشاعر: لو أن مدحة حي منشر أحدا والوجه الاول أحسن وجهيه.
[ 146 ]
وقوله: أولئك أصحاب النار يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهل النار الذين أهلها، هم فيها خالدون يقول: هم فيها ماكثون. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) *. يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعا، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهة والانداد: مكانكم أي امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم أنتم أيها المشركون، وشركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والاوثان. فزيلنا بينهم يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به وبين غيره وأبنته منه. وقال: فزيلنا إرادة تكثير الفعل وتكريره. ولم يقل: فزلنا بينهم. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: فزايلنا بينهم، كما قيل: ولا تصعر خدك ولا تصاعر خدك، والعرب تفعل ذلك كثيرا في فعلت، يلحقون فيها أحيانا ألفا مكان التشديد، فيقولون: فاعلت إذا كان الفعل لواحد. وأما إذا كان لاثنين فلا تكاد تقول إلا فاعلت. وقال شركاؤهم ما كنتم أيانا تعبدون وذلك حين تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذا ب وتقطعت بهم الاسباب لما قيل للمشركين اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: كنا نعبد هؤلاء، فقالت الآلهة لهم: ما كنتم إيانا تعبدون. كما: حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يكون يوم القيامة ساعة فيها شدة تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله، فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا فيقولون: والله لاياكم كنا نعبد فتقول لهم الآلهة: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم قال:
[ 147 ]
فرقنا بينهم. وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون قالوا: بلى قد كنا نعبدكم، (ف) قالوا كفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم. فقال الله: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت... الآية. وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول الحشر في هذا الموضع: الموت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الاعمش، قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد، في قوله: ويوم نحشرهم جميعا قال: الحشر: الموت. والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله لان الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلوم أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبر عما يقال لهم ويقولون في الموقف بعد البعث. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) *. يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والاوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد، كفى بالله شهيدا بيننا وبينكم أي إنها تقول: حسبنا الله شاهدا بيننا وبينكم أيها المشركون، فإنه قد علم أنا ما علمنا ما تقولون. إنا كنا عن عبادتكم لغافلين يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إن كنا عن عبادتكم لغافلين قال: ذلك كل شئ يعبد من دون الله. حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: إن كنا عن عبادتكم لغافلين قال: يقول ذلك كل شئ كان يعبد من دون الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (هنالك تبلوا كنفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *
[ 148 ]
. اختلفت القراء في قراءة قوله: هنالك تبلو كل نفس بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كل نفس بما قدمت من خير أو شر. وكان ممن يقرؤه ويتأوله كذلك مجاهد حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت قال: تختبر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: تتلو كل نفس ما أسلفت بالتاء. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا لذلك اليوم. وروي بنحو ذلك خبر عن النبي (ص) من وجه وسند غير مرتضى أنه قال: يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتبعونهم حتى يوردوهم النار قال: ثم تلا رسول الله (ص) هذه الآية: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت. وقال بعضهم: بل معناه: تتلو كتاب حسناته وسيئاته، يعني تقرأ، كما قال جل ثناؤه: ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. وقال آخرون: تبلو: تعاين. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت قال: ما عملت. تبلو: تعاينه. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلف من العمل في الدنيا، هجم به على مورده، فيخبر هنالك ما أسلف من صالح أو سيئ في الدنيا، وإن من خير من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبر بعد مصيره إلى
[ 149 ]
حيث أحله ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين متبع ما أسلف من عمله مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا فمصيب الصواب في ذلك. أما قوله: وردوا إلى الله مولاهم الحق فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم الحق لا شك فيه دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والانداد. وضل عنهم ما كانوا يفترون يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقربهم منه زلفى. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون قال: ما كانوا يدعون معه من الانداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادا وآلهة مع الله افتراء وكذبا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الاوثان والاصنام من يرزقكم من السماء الغيث والقطر ويطلع لكم شمسها ويغطش ليلها ويخرج ضحاها. ومن الارض أقواتكم وغذاءكم الذي ينبته لكم وثمار أشجارها. أم من يملك السمع والابصار يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها أن يزيد في قواها أو يسلبكموها فيجعلكم صما، وأبصاركم التي تبصرون بها أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها فيجعلكم عميا لا تبصرون. ومن يخرج الحي من الميت يقول: ومن يخرج الشئ الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي يقول: ويخرج الشئ الميت من الحي. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل والصواب من القول عندنا في ذلك بالادلة الدالة على صحته في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ومن يدبر الامر وقل لهم: من يدبر أمر السماء والارض وما فيهن وأمركم وأمر الخلق. فسيقولون الله يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا الذي يفعل ذلك
[ 150 ]
كله الله. فقل أفلا تتقون يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربا غير من هذه الصفة صفته، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئا ولا يملك لكم ضرا ولا نفعا ولا يفعل فعلا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فذلكم اللربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) *. يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الافعال، فيرزقكم من السماء والارض ويملك السمع والابصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الامر الله ربكم الحق لا شك فيه. فماذا بعد الحق إلا الضلال يقول: فأي شئ سوى الحق إلا الضلال وهو الجور عن قصد السبيل. يقول: فإذا كان الحق هو ذا، فادعاؤكم غيره إلها وربا هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه. فأنى تصرفون يقول: فأي وجه عن الهدى والحق تصرفون وسواهما تسلكون وأنتم مقرون بأن الذي تصرفون عنه هو الحق. القول في تأويل قوله تعالى: * (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون). يقول تعالى ذكره: كما قد صرف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال، كذلك حقت كلمة ربك يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه، على الذين فسقوا فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به أنهم لا يؤمنون يقول: لا يصدقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد هل من شركائكم يعني من الآلهة والاوثان من يبدأ الخلق ثم يعيده ؟ يقول: من ينشئ خلق شئ من غير أصل، فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه ؟ فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أرباب وهي لله في العبادة شركاء كاذبون مفترون. فقل لهم حينئذ يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شئ ويحدثه من غير أصل ثم يفنيه إذا
[ 151 ]
شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء. فأني تؤفكون يقول: فأي وجه عن قصد السبيل وطريق الرشد تصرفون وتقلبون. كما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: فأنى تؤفكون قال: أنتصرفون. وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: أنى تؤفكون والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده في سورة الانعام. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أيتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل من شركائكم الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانهم، من يهدي إلى الحق يقول: من يرشد ضالا من ضلالته إلى قصد السبيل، ويسدد جائزا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم فإنهم لا يقدرون أيدعوا أن آلهتهم وأوثانهم ترشد ضالا أو تهدي حائرا. وذلك أنهم إن ادعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة وأبان عجزها عن ذلك الاختبار بالمعاينة، فإذا قالوا لا وأقروا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضال عن الهدى إلى الحق. أفمن يهدي أيها القوم ضالا إلى الحق وجائرا عن الرشد إلى الرشد، أحق أن يتبع إلى ما يدعو إليه أم من لا يهدي إلا أن يهدى ؟ واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة: أم من لا يهدي بتسكين الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خط المصحف بغير ما قرروا وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقروا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشددوا الدال طلبا لادغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وفي قوله: يخصمون. وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة: يهدي بفتح الهاء وتشديد الدال. وأموا ما أمه المدنيون من الكلمة،
[ 152 ]
غير أنهم نقلوا حركة التاء من يهتدي إلى الهاء الساكنة، فحركوا بحركتها وأدغموا التاء في الدال فشددوها. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: يهدي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، بنحو ما قصده قراء أهل المدينة غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من يهتدي استثقالا للفتحة بعدها كسرة في حرف واحد. وقرأ ذلك بعض عامة قراء الكوفيين: أم من لا يهدي بتسكين الهاء وتخفيف الدال، وقالوا: إن العرب تقول: هديت بمعنى اهتديت، قالوا: فمعنى قوله: أم من لا يهدي: أم من لا يهتدي إلا أن يهدى. وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: أم من لا يهدي بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب وفيهم المنكر غيره، وأحق الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلام الله تبارك وتعالى. فتأويل الكلام إذا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شئ إلا أن يهدى. وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن ينقل. وكان مجاهد يقول في تأويا ذلك ما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى قال: الاوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لما شاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: أمن لا يهدي إلا أن يهدى قال: قال: الوثن. وقوله: فما لكم كيف تحكمون ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحق أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شئ إلا أن يهديه إليه هاد غيره، فتتركوا اتباع من لا يهتدي إلى شئ وعبادته وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم ؟ القول في تأويل قوله تعالى:
[ 153 ]
* (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *. يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شك وريبة. إن الظن لا يغني من الحق شيئا يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئا، ولا يقوم في شئ مقامه، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. إن الله عليم بما يفعلون يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *. يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرصه أحد من عند غير الله، وذلك نظير قوله: وما كان لنبي أن يغل بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغله أصحابه. وإنما هذا خبر من الله جل ثناؤه أن هذا القرآن من عنده أنزله إلى محمد عبده، وتكذيب منه للمشركين الذين قالوا: هو شعر وكهانة، والذين قالوا: إنما يتعلمه محمد من يعيش الرومي. يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحد من عند غير الله، لان ذلك لا يقدر عليه أحد من الخلق. ولكن تصديق الذي بين يديه يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنزله مصدقا لما بين يديه أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله كالتوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه. وتفصيل الكتاب يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في السابق من علمه. لا ريب فيه يقول: لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لاافتراء من عند غيره ولا اختلاق. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 154 ]
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *. يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه، فاختلقه وافتعله. قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العرب، ولساني وكلامي مثل لسانكم، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن. والهاء في قوله مثله كناية عن القرآن. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته، ثم ألقيت سورة وأضيف المثل إلى ما كان مضافا إليه السورة، كما قيل: واسئل القرية يراد به: واسأل أهل القرية. وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. والصواب من القول في ذلك عندي أن السورة إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن، فقيل لهم: فأتوا بسورة من مثله ولم يقل: مثلها، لان الكناية أخرجت على المعنى، أعني معنى السورة، لا على لفظها، لانها لو أخرجت على لفظها لقيل: فأتوا بسورة مثلها. وادعوا من استطعتم من دون الله يقول: وادعوا أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها من قدر تم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم من دون الله يقول: من عند غير الله، فأجمعوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورة مثله أبدا. وقوله: إن كنتم صادقين يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الاتيان بها، فإن لم تفعلوا ذلك فلا شك أنكم كذبة في زعمكم أن محمدا افتراه لان محمدا لن يعدو أن يكون بشرا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورة مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) *. يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك، ولكن بهم التكذيب بما
[ 155 ]
لم يحيطوا بعلمه مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم، ولما يأتهم تأويله يقول: ولما يأتهم بعد بيان ما يئول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن. كذلك كذب الذين من قبلهم يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله، كذلك كذب الامم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم. فانظر كيف كان عاقبة الظالمين يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): فانظر يا محمد كيف كان عقبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالغرق ؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الامم، إن لم ينيبوا من كفرهم ويسارعوا إلى التوبة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) *. يقول تعالى ذكره: ومن قومك يا محمد من قريش من سوف يؤمن به، يقول: من سوف يصدق بالقرآن، ويقر أنه من عند الله. ومنهم من لا يؤمن به أبدا، يقول: ومنهم من لا يصدق به، ولا يقر أبدا. وربك أعلم بالمفسدين يقول: والله أعلم بالمكذبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدمن كل أحد لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبت له أن يؤمن به منهم فإني سأتوب عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: وإن كذبك يا محمد هؤلاء المشركون وردوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم لي ديني وعملي ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم ولا يضركم عملي، وإنما يجازي كل عامل بعمله. أنتم بريئون مما أعمل لا تؤاخذون بجريرته، وأنا برئ مما تعملون لا أؤاخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جل ثناؤه: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد. وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والامر بالقتال. ذكر من قال ذلك:
[ 156 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم... الآية، قال: أمره بهذا ثم نسخه وأمره بجهادهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك. أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون يقول: أفأنت تخلق لهم السمع ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا ؟ وإنما هذا إعلام من الله عباده أن التوفيق للايمان به بيده لا إلى أحد سواه، يقول لنبيه محمد (ص): كما أنك لا تقدر أن تسمع يا محمد من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبا سلبته فهم ذلك، لاني ختمت عليه أنه لا يؤمن. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) *. يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومك، من ينظر إليك يا محمد ويرى أعلامك وحججك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيق فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدث للاعمى بصرا يهتدي به. أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون يقول: أفأنت يا محمد تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا لو كانوا عميا يهتدون بها ويبصرون ؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحد سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصرهم سبيل الرشاد، أنت ولا أحد غيري، لان ذلك بيدي وإلي. وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه (ص) عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الايمان بالله. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) *. يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إياه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به ولكن الناس يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم باجترامهم ما يورثها غضب الله وسخط. وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) والمؤمنين به، أنه لم يسلب هؤلاء الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لا
[ 157 ]
يؤمنون الايمان ابتداء منه بغير جرم سلف منهم، وإخبار أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاق منهم سلبه لذنوب اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) *. يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، ثم انقطعت المعرفة وانقضت تلك الساعة. يقول الله: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين، قد غبن الذين جحدوا ثواب الله وعقابه وحظوظهم من الخير، وهلكوا. وما كانوا مهتدين يقول: وما كانوا موفقية لاصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله لانه أكسبهم ذلك ما لا قبل لهم به من عذاب الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) *. يقول تعالى ذكره: وإما نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك فيهم. فإلينا مرجعهم يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا ومنقلبهم. ثم الله شهيد على ما يفعلون يقول جل ثناؤه ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى علي شئ منها، وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إلي ومرجعهم جزاءهم الذي يستحقونه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب في حياتك، أو نتوفينك قبل، فإلينا مرجعهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 158 ]
* ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *. يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم أيها الناس رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدا إليكم يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته. فإذا جاء رسولهم يعني في الآخرة كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قال: يوم القيامة. وقوله: قضي بينهم بالقسط يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل وهم لا يظلمون من جزاء أعمالهم شيئا، ولكن يجازي المحسن بإحسانه والمسئ من أهل الايمان إما أن يعاقبه الله وأما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النار فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شك عدل لا ظلم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قضي بينهم بالقسط قال: بالعدل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): ويقول هؤلاء المشركون من قومك يا محمد متى هذا الوعد الذي تعدنا أنه يأتينا من عند الله ؟ وذلك قيام الساعة إن كنتم صادقين أنت ومن تبعك فيما تعدوننا به مذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لمستعجليك وعيد الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين: لا أملك لنفسي أيها القوم أي لا أقدر لها على ضر ولا نفع في دنيا ولا دين إلا ما شاء الله أن أملكه فأجلبه إليها بأذنه. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل لهم: فإذا كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك. لكل أمة أجل
[ 159 ]
يقول: لكل قوم ميقات لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم، لا يستأخرون عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لان الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدره وقضاه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتا، يقول: ليلا أو نهارا، وجاءت الساعة، وقامت القيامة أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم ؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجل من نزول العذاب المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحر دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم. القول في تأويل قوله تعالى: * أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون) *. يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون آمنتم به، يقول: صدقتم به في حال لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: الآن تصدقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنزوله مكذبون فذوقوا الآن ما كنتم به تكذبون. ومعنى قوله: أثم في هذا الموضع: أهنالك وليست ثم هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هتجزون إلا بما كنتم تكسبون) *. يقول تعالى ذكره: ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله: ذوقوا عذاب الخلد تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، الذي لا فناء له ولا زوال. هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون أي هل تثابون إلا بما كنتم تكسبون ؟ يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين) *. يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك يا محمد فيقولون لك:
[ 160 ]
أحق ما تقول وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاء على ما كنا نكسب من معاصي الله في الدنيا ؟ قل لهم يا محمد إي وربي إنه لحق لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم بهرب أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذ أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم يظلمون) *. يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله. وظلمها في هذا الموضع: عبادتها غير من يستحق عبادة وتركها طاعة من يجب عليها طاعته. ما في الارض من قليل أو كثير، لافتدت به يقول: لافتدت بذلك كله من عذاب الله إذا عاينته. وقوله: وأسروا الندامة لما رأوا العذاب يقول: وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامة حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم. وقضي بينهم بالقسط يقول: وقضى الله يؤمئذ بين الاتباع والرؤساء منهم بالعدل. وهم لا يظلمون وذلك أنه لا يعاقب أحدا منهم إلا بجريرته ولا يأخذه بذنب أحد ولا يعذب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا إن لله ما في السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) *. يقول جل ذكره: ألا إن كل ما في السموات وكل ما في الارض من شئ لله ملك، لا شئ فيه لاحد سواه. يقول: فليس لهذا الكافر بالله يومئذ شئ يملكه فيفتدى به من عذاب ربه، وإنما الاشياء كلها للذي إليه عقابه، ولو كانت له الاشياء التي هي في الارض ثم افتدى بما لم يقبل منه بدلا من عذابه فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شئ له يفتدى به منه وقد حق عليه عذاب الله. يقول الله جل ثناؤه: ألا إن وعد الله حق يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حق، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به فإنه بهم واقع لا شك. ولكن أكثرهم لا يعلمون يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقة وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذبون. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 161 ]
* (هو يحيي ويميت وإليه ترجعون) *. يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت لا يتعذر عليه فعل ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيد الله وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) *. يقول تعالى ذكره لخلقه: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم يعني ذكرى تذكركم عقاب الله وتخوفكم وعيده من ربكم. يقول: من عند ربكم لم يختلقها محمد (ص) ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحة لها. وإنما يعني بذلك جل ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله. وقوله: وشفاء لما في الصدور يقول: ودواء لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهل الجهال، فيبرئ به داءهم ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به. وهدى يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليل على طاعته ومعصيته. ورحمة يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لان من كفر به فهو عليه عمى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلود في لظى. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين بك وبما أنزل إليك من عند ربك: بفضل الله أيها الناس الذي تفضل به عليكم، وهو الاسلام، فبينه لكم ودعاكم إليه، وبرحمته التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصركم بها معالم دينكم وذلك القرآن. فبذلك فليفرحوا هو خير مما
[ 162 ]
يجمعون يقول: فإن الاسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن الحسن الازدي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، في قوله: قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا قال: بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من أهله. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا قال: بالاسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علمكم. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: قل بفضل الله وبرحمته قال: بالاسلام والقرآن: فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون من الذهب والفضة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: قل بفضل الله وبرحمته قال: فضل الله: الاسلام، ورحمته: القرآن. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: قل بفضل الله وبرحمته قال: الاسلام والقرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم وقبيصة، قالا: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا أما فضله: فالاسلام، وأما رحمته: فالقرآن. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: قل بفضل الله وبرحمته قال: فضله: الاسلام، ورحمته: القرآن.
[ 163 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قل بفضل الله وبرحمته قال: القرآن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وبرحمته قال: القرآن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: هو خير مما يجمعون قال: الاموال وغيرها. حدثنا علي بن داود، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قل بفضل الله وبرحمته يقول: فضله: الاسلام، ورحمته: القرآن. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن هلال: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا قال: بكتاب الله وبالاسلام. هو خير مما يجمعون. وقال آخرون: بل الفضل: القرآن، والرحمة: الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قال: بفضل الله: القرآن، وبرحمته: حين جعلهم من أهل القرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: فضل الله: القرآن، ورحمته: الاسلام. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: قل بفضل الله وبرحمته قال: بفضل الله: القرآن، وبرحمته، الاسلام. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا قال: كان أبي يقول: فضله: القرآن، ورحمته: الاسلام. واختلفت القراء في قراءة قوله: فبذلك فليفرحوا. فقرأ ذلك عامة قراء الامصار: فليفرحوا بالياء، هو خير مما يجمعون بالياء أيضا على التأويل الذي تأولناه من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالاسلام والقرآن الذي دعاهم إليه فليفرح هؤلاء
[ 164 ]
المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الاسلام والقرآن خير من المال الذي يجمعون. وكذلك: حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التياح: فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون يعني الكفار. وروي عن أبي بن كعب في ذلك ما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: فبذلك فلتفرحوا هو خير مما يجمعون بالتاء. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم عن الاجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن أبي بن كعب مثل ذلك. وكذلك كان الحسن البصري يقول غير أنه فيما ذكر عنه كان يقرأ قوله: هو خير مما يجمعون بالياء الاول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن غائب. وكان أبو جعفر القارئ فيما ذكر عنه يقرأ ذلك نحو قراءة أبي بالتاء جميعا. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الامصار من قراءة الحرفين جميعا بالياء: فليفرحوا هو خير مما يجمعون لمعنيين: أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه، والثاني: صحته في العربية. وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: افعل ولا تفعل. وبعد: فإني لا أعلم أحدا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها غير الفراء، فإنه كان يزعم أن اللام في ذي التاء الذي خلق له واجهت به أم لم تواجه، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجه لكثرة الامر خاصة في كلامهم، كما حذفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والالف، فلما حذفت التاء ذهبت اللام وأحدثت الالف في قولك: اضرب وافرح، لان الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف
[ 165 ]
ساكن، فأدخلوا ألفا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: اداركوا واثاقلتم. وهذا الذي اعتل به الفراء عليه لا له وذلك أن العرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يدخل فيها ما ليس منه ما دام متكلما بلغتها، فإن فعل ذلك كان خارجا عن لغتها، وكلام الله الذي أنزله على محمد بلسانها، فليس لاحد أن يتلوه إلا بالافصح من كلامها، وإن كان معروفا بعض ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حي ولا قبيلة منها ؟ وإنما هو دعوى لا ثبت بها ولا حجة. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم أيها الناس ما أنزل الله لكم من رزق يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخولكموه، وذلك ما تتغذون به من الاطعمة فجعلتم منه حراما وحلالا يقول: فحللتم بعض ذلك لانفسكم، وحرمتم بعضه عليها وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرمونه من حروثهم التي كانوا يجعلونها لاوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. ومن الانعام ما كانوا يحرمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدمناه فيما مضى من كتابنا هذا. يقول الله لنبيه محمد (ص): قل يا محمد آلله أذن لكم بأن تحرمو ما حرمتم منه أم على الله تفترون: أي تقولون الباطل وتكذبون ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول
[ 166 ]
الله: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وهو هذا، فأنزل الله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.... الآية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم... إلى قوله: أم على الله تفترون قال: هم أهل الشرك. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: فجعلتم منه حراما وحلالا قال: الحرث والانعام. قال ابن جريج: قال مجاهد: البحائر والسيب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد فجعلتم منه حراما وحلالا قال: في البحيرة والسائبة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا... الآية، يقول: كل رزق لم أحرم حرمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك أم على الله تفترون ؟ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا. فقرأ حتى بلغ: أم على الله تفترون. وقرأ وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا. وقرأ: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر... حتى بلغ: لا يذكرون اسم الله عليها. فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقا، فجعلوا منه حراما وحلالا، وحرموا بعضه وأحلوا بعضه. وقرأ: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين أي هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون
[ 167 ]
وأحل لهؤلاء ؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا... إلى آخر الآيات. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا هو الذي قال الله: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا... إلى قوله: ساء ما يحكمون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) *. يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرمه عليهم من الارزاق والاقوات التي جعلها الله لهم غذاء، أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه، أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر ؟ كلا بل يصليهم سعيرا خالدين فيها أبدا. إن الله لذو فضل على الناس يقول: إن الله لذو تفضل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة. ولكن أكثرهم لا يشكرون يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضله عليهم بذلك وبغيره من سائر نعمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وما تكون يا محمد في شأن يعني في عمل من الاعمال، وما تتلو منه من قرآن يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن، ولا تعملون من عمل يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس من خير أو شر إلا كنا عليكم شهودا يقول: إلا ونحن شهود لاعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذو فيها.
[ 168 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس وجماعة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: إذ تفيضون فيه يقول: إذ تفعلون. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذب ذكر من قال ذلك: حدثت عن المسيب بن شريك عن أبي روق، عن الضحاك: إذ تفيضون فيه يقول: فتشيعون في القرآن من الكذب. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد: إذ تفيضون فيه في الحق ما كان. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لانه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهده، ثم وصل ذلك بقوله: إذ يفيضون فيه فكان معلوما أن قوله: إذ تفيضون فيه إنما هو خبر منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وقت تلاوة النبي (ص) القرآن لان ذلك لو كان خبرا عن شهوده تعالى ذكره وقت إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: إذ تفيضون فيه خبرا منه عن المكذبين فيه. فإن قال قائل: ليس ذلك خبرا عن المكذبين، ولكن خطاب للنبي (ص) أنه شاهده إذ تلا القرآن فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل: إذ تفيض فيه، لان النبي (ص) واحد لا جمع، كما قال: وما تتلوا منه من قرآن فأفرده بالخطاب، ولكن ذلك في ابتدائه خطابه (ص) بالافراد ثم عوده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، وذلك أن في قوله: إذا طلقتم النساء دليلا واضحا على صرفه
[ 169 ]
الخطاب إلى جماعة المسلمين مع النبي (ص) مع جماعة الناس غيره لانه ابتدأ خطابه ثم صرف الخطاب إلى جماعة الناس، والنبي (ص) فيهم، وخبر عن أنه لا يعمل أحد من عباده عملا إلا وهو له شاهد يحصى عليه ويعلمه، كما قال: وما يعزب عن ربك يا محمد عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شئ حيث كان من أرض أو سماء. وأصله من عزوب الرجل عن أهله في ماشيته، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: عزب الرجل عن أهله يعزب ويعزب لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب غير أني أميل إلى الضم فيه لانه أغلب على المشهورين من القراء. وقوله: من مثقال ذرة يعني: من زنة نملة صغيرة، يحكى عن العرب: خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك أي أخف وزنا. والذرة واحدة الذر، والذر: صغار النمل. وذلك خبر عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الاشياء، وإن خف في الوزن كل الخفة، ومقادير ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضى ربكم عنكم، فإنا شهود لاعمالكم، لا يخفى علينا شئ منها، ونحن محصوها ومجازوكم بها. واختلفت القراء في قراءة قوله: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من أصغر وأكبر على أن معناها الخفض، عطفا بالاصغر على الذرة وبالاكبر على الاصغر، ثم فتحت راؤهما لانهما لا يجريان. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر رفعا، عطفا بذلك على معنى المثقال لان معناه الرفع. وذلك أن من لو ألقيت من الكلام لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذ: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر من مثقال ذرة ولا أكبر، وذلك نحو قوله: من خالق غير الله وغير الله. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بالفتح على وجه الخفض والرد على الذرة لان ذلك قراءة قراء الامصار وعليه عوام القراء، وهو أصح في العربية مخرجوإن كان للاخرى وجه معروف. وقوله: إلا في كتاب يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله مبين عن حقيقة خبر
[ 170 ]
الله لمن نظر فيه أنه لا شئ كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزب عن الله علم شئ من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وما يعزب يقول: لا يغيب عنه. حدثني محمد بن عمارة قال: ثنا عبد الله، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: وما يعزب عن ربك قال: ما يغيب عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله لان الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. والاولياء جمع ولي، وهو النصير. وقد بينا ذلك بشواهده. واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم، فقال بعضهم: هم قوم يذكر الله لرؤيتهم لما عليهم من سيما الخير والاخبات. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن يمان، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال: الذين يذكر الله لرؤيتهم. حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا: ثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي (ص)، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال: الذين يذكر الله لرؤيتهم. قال: ثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي
[ 171 ]
الضحى، قال: سمعته يقول في هذه الآية: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال: من الناس مفاتيح أذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم. قال: ثنا أبي، عن مسعر، عن سهل بن الاسد، عن سعيد بن جبير، قال: سئل رسول الله (ص) عن أولياء الله، فقال الذين إذا رؤوا ذكر الله. قال: ثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال: الذين إذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم. قال: ثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن النبي (ص) قال هم الذين إذا رؤوا ذكر الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا فرات، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير، قال: سئل النبي (ص) عن أولياء الله، قال: هم الذين إذا رؤوا ذكر الله. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون... الآية، قال: إن ولي الله إذا رؤي ذكر الله. وقال آخرون في ذلك بما: حدثنا أبو هاشم الرفاعي، قال: ثنا أبو فضيل، قال: ثنا أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال
[ 172 ]
رسول الله (ص): إن من عباد العبادا يغبطهم الانبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله، فلعلنا نحبهم ؟ قا: هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم من نور، على منابر منور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله (ص): إن من عباد الله لاناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الانبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم، وما أعمالهم، فإنا نحبهم لذلك ؟ قال: هم قوم تحابوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا عبد الحميد بن بهرام، قال: ثنا شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الاشعري، قال: قال رسول الله (ص): يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم يتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[ 173 ]
والصواب من القول في ذلك أن يقال: الولي، أعني ولي الله، هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذ آمن واتقى، كما قال الله: الذين آمنوا وكانوا يتقون. وبنحو الذي قلنا في ذلك، كان ابن زيد يقول: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون من هم يا رب ؟ قال: الذين آمنوا وكانوا يتقون قال: أبى أن يتقبل الايمان إلا بالتقوى. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) *. يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وقوله: الذين آمنوا من نعت الاولياء. ومعنى الكلام: ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك أفي موضع رفع الذين آمنوا أم في موضع نصب ؟ قيل: في موضع رفع، وإنما كان كذلك وإن كان من نعت الاولياء لمجيئه بعد خبر الاولياء، والعرب كذلك تفعل خاصة في إن، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه، فقالوا: إن أخاك قائم الظريف، كما قال الله: قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب وكما قال: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار. وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب وليس هذا من مواضع الابانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) *. يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة لاولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون.
[ 174 ]
ثم اختلف أهل التأويل في البشرى التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي، وما صفتها ؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبي الدرداء، قال: سألت رسول الله (ص) عن هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال النبي (ص): [ الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له. حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرنا الاوزاعي، قال: أخبرني يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سأل عبادة بن الصامت رسول الله (ص)، عن هذه الآية: الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال رسول الله (ص): لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك، أو قال: غيرك. قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو داود عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله (ص)، عن قول الله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال رسول الله (ص): هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. حدثنا أبو قلابة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابي سلمة، عن عبادة عن النبي (ص)، نحوه.
[ 175 ]
حدثنا ابن المثنى وأبو عثمان بن عمر، قالا: ثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة، قال: نبئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله (ص) عن هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال: سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية، فقال: لقد سألتني عن شئ ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله (ص)، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله (ص) غيرك، إلا رجلا واحدا سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: ما سألني عنها أحد منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلا واحدا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع عطاء بن يسار، يخبر عن رجل من أهل مصر، أنه سأل أبا الدرداء عن: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: ثنا عمر بن عمرو بن عبد الاخموشي، عن حميد بن عبد الله المزني، قال: أتى رجل عبادة بن الصامت، فقال: آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحد قبلك، سألت عنها رسول الله (ص) فقال مثل ذلك: ما سألني عنها أحد قبلك الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن في المنام أو ترى له. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن
[ 176 ]
أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم، أو ترى له. قال: ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، قال: قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي المبشرات. حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، قال: ثنا عمار بن محمد، قال: ثنا الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي (ص): لهم البشرى في الحياة الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وهي في الآخرة الجنة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن يزيد، قال: ثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحرث، عن أبي الشيخ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي (ص) أنه قال لهم البشرى في الحياة الدنيا: الرويا الصالحة يبشر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة بن الصامت، أنه قال لرسول الله (ص): لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقد عرفنا بشرى الآخرة، فما بشرى الدنيا ؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا، أو سبعين جزءا من النبوة. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله (ص) عن هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا فقال: لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد من أمتي قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة.
[ 177 ]
حدثنا أحمد بن حماد الدولابي، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز الكعبية، سمعت رسول الله (ص) يقول: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الاعمش، عن ذكوان، عن رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي (ص)، في قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله (ص)، فقال النبي (ص): ما سألني عنها أحد قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء، قال: سألت النبي (ص) عن قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: ما سألني عنها أحد غيرك هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: ما سألني عنها أحد قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، قال ابن عيينة ثم سمعته من عبد العزيز، عن أبي صالح السمان، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: له البشرى في الحياة الدنيا قال: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: ما سألني عنها أحد منذ أنزلت علي إلا رجل واحد هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له.
[ 178 ]
قال: ثنا عبد الله بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيها قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال: قلت: ألا تخبرني عن قول الله تعالى: لهم البشرى في الحيا الدنيا ؟ قال: سألت عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله (ص) فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو ترى له. قال: ثنا أبي، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله (ص) عن قول الله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي، قالا: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؟ فقال: لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك أو أحد من أمتي قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له. قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا الدرداء، وسئل عن: الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: ما سألني عنها أحد قبلك منذ سألت رسول الله (ص) عنها، فقال: ما سألني عنها أحد قبلك هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي (ص)، في قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الانسان أو ترى له. وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء، أو ابن جريج عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، قال: سألت النبي (ص) عنها، فقال: هي الرؤيا الصالحة. وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: هي الرؤيا يراها الرجل.
[ 179 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح. قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لهم البشرى فالحياة الدنيا قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون: الرؤيا من المبشرات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد. أن رجلا سأل النبي (ص) عنها، فقال: ما سألني عنها أحد من أمتي منذ أنزلت علي قبلك. قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو ترى له. قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات، قيل: وما المبشرات ؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا فهو قوله لنبيه: وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا قال: هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو ترى له. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن
[ 180 ]
خالد بن يزيد، عن عطاء، في قوله: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشر بها في حياته. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن دراجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله (ص) أنه قال: لهم البشرى في الحياة الدنيا: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة. حدثني يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه في هذه الآية: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا صفوان، قال: ثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى: لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحد قبلك، ولقد سألت رسول الله (ص) عما سألتني فقال لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحد من أمتي تلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له. وقال آخرون: هي بشارة يبشر بها المؤمن في الدنيا عند الموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري وقتادة: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن الضحاك: لهم البشرى في الحياة الدنيا قال: يعلم أين هو قبل الموت. وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن لاوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له منها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي (ص):
[ 181 ]
إن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه. ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله (ص) من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار... الآية. وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وأما في الآخرة فالجنة. وأما قوله: لا تبديل لكلمات الله فإن معناه: إن الله لا خلف لوعده ولا تغيير لقوله عما قال ولكنه يمضي لخلقه مواعيده وينجزها لهم. وقد: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية عن أيوب، عن نافع، قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسه في حجري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدل كتاب الله فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير لا تبديل لكلمات الله. فقال الحجاج لقد أوتيت علما أن تفعل. قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت وقوله: ذلك هو الفوز العظيم يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة هي الفوز العظيم، يعني الظفر بالحاجة والطلبة والنجاة من النار القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): لا يحزنك يا محمد قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الاوثان والاصنام فإن العزة لله جميعا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحد، لانه لا يعازه شئ. وهو السميع العليم يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه،
[ 182 ]
وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، محصي ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد. وكسرت إن من قوله: إن العزة لله جميعا لان ذلك خبر من الله مبتدأ، ولم يعمل فيها القول، لان القول عني به قول المشركين وقوله: إن العزة لله جميعا لم يكن من قيل المشركين، ولا هو خبر عنهم أنهم قالوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا إن لله من في السماوات ومن في الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *. يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كل من في السموات ومن في الارض ملكا وعبيدا لا مالك لشئ من ذلك سواه، يقول: فكيف يكون إلها معبودا من يعبده هؤلاء المشركون من الاوثان والاصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يقول جل ثناؤه: وأي شئ يتبع من يدعو من دون الله، يعني غير الله وسواه شركاء. ومعنى الكلام: أي شئ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا، والله المنفرد بملك كل شئ في سماء كان أو أرض. إن يتبعون إلا الظن يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين. وإن هم إلا يخرصون يقول: وإن هم يتقولون الباطل تظننا وتخرصا للافك عن غير علم منهم بما يقولون. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) *. يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التعب والنصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار. والنهار مبصرا يقول: وجعل النهار مبصرا، فأضاف الابصار إلى النهار، وإنما يبصر فيه، وليس النهار مما يبصر ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم، وذلك كما قال جرير:
[ 183 ]
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم فأضاف النوم إلى الليل ووصفه به، ومعناه نفسه أنه لم يكن نائما فيه هو ولا بعيره. يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئا وقوله: إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما دلالة وحججا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل والنهار وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق سكنا وهذا لهم معاشا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئا ولا يضر ولا ينفع. وقال: لقوم يسمعون لان المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها فيعتبرون بها ويتعظون، ولم يرد به الذين يسمعون بآذانهم ثم يعرضون عن عبره وعظاته. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون) *. يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك يا محمد: اتخذ الله ولدا، وذلك قولهم: الملائكة بنات الله. يقول الله منزها نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: سبحان الله، تنزيها لله عما قالوا وادعوا على ربهم. هو الغني يقول: الله غني عن خلقه جميعا، فلا حاجة به إلى ولد، لان الولد إنما يطلبه من يطلبه ليكون عونا له في حياته وذكرا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك غني، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره ولا يبيد فيكون به حاجة إلى خلف بعده. له ما في السموات وما في الارض يقول تعالى ذكره: لله ما في السماوات وما في الارض ملكا والملائكة عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدا ؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون ؟ إن عندكم من سلطان بهذا يقول: ما عندكم أيها القوم بما تقولون وتدعون من أن الملائكة بنات الله من حجة تحتجون بها، وهي السلطان. أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته،
[ 184 ]
وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه جهلا منكم بغير حجة ولا برهان. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ئ متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهم إن الذين يفترون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل، ويدعون له ولدا لا يفلحون يقول: لا يبقون في الدنيا، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الاجل الذي كتب فناؤهم فيه. ثم إلينا مرجعهم يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم إلينا مصيرهم ومنقلبهم. ثم نذيقهم العذاب الشديد وذلك إصلاؤهم جهنم بما كانوا يكفرون بالله في الدنيا، فيكذبون رسله ويجحدو آياته. ورفع قوله: متاع بمضمر قبله إما ذلك وإما هذا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واتل على هؤلاء المشركين الذي قالوا: اتخذ الله ولدا من قومك نبأ نوح يقول: خبر نوح، إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم، وتذكيري بآيات الله يقول: ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك. فعلى الله توكلت يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي وظهري. فأجمعوا أمركم يقول: فأعدوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه في أمري يقال منه: أجمعت على كذا، بمعنى: عزمت عليه، ومنه قول النبي (ص): من لم يجمع على الصوم من الليل فلا صوم له بمعنى: من لم يعزم، ومنه قول الشاعر:
[ 185 ]
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع وروي عن الاعرج في ذلك ما: حدثني بعض أصحابنا عن عبد الوهاب عن هارون، عن أسيد، عن الاعرج: فأجمعوا أمركم وشركاءكم يقول: أحكموا أمركم وادعوا شركاؤكم ونصب قوله: وشركاءكم بفعل مضمر له، وذلك: وادعوا شركاءكم، وعطف بالشركاء على قوله: أمركم على نحو قول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا فالرمح لا يتقلد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليل على ما حذف، فاكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف، فكذلك ذلك في قوله: وشركاءكم. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء الامصار: وشركاءكم نصبا، وقوله: فأجمعوا بهم الالف وفتحها، من أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعا. وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: فأجمعوا أمركم بفتح الالف وهمزها وشركاؤكم بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرهم أيضا معكم شركاؤكم. والصواب من القول في ذلك قراءة من قرأ: فأجمعوا أمركم وشركاءكم بفتح الالف من أجمعوا، ونصب الشركاء، لانها في المصحف بغير واو، ولاجماع الحجة على القراءة بها ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو. وعني بالشركاء آلهتهم وأوثانهم. وقوله: ثم لا يكن أمركم عليكم غمة يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسا مشكلا مبهما من قولهم: غم على الناس الهلال، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبينوه، ومنه قول العجاج: بل لو شهدت الناس إذ تكموابغمة لو لم تفرج غموا
[ 186 ]
وقيل: إن ذلك من الغم، لان الصدر يضيق به ولا يتبين صاحبه لامره مصدرا يصدره يتفرج عنه بقلبه، ومنه قول خنساء: وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه وغمته عن وجهه فتجلت وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة: أمركم عليكم غمة قالا: لا يكبر عليكم أمركم. وأما قوله: ثم اقضوا إلي فإن معناه: ثم امضوا إلي ما في أنفسكم وافرغوا منه. كما: حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ثم اقضوا إلي ولا تنظرون قال: اقضوا إلي ما كنتم قاضين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ثم اقضوا إلي ولا تنظرون قال: اقضوا إلي ما في أنفسكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: ثم اقضوا إلي فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: قد قضى فلان، يراد: قد مات ومضى. وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إلي، وقالوا: القضاء: الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأن قضى دينه من ذلك إنما هو فرغ منه. وقد حكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: ثم أفضوا إلي بمعنى: توجهوا إلي حتى تصلوا إلي، من قولهم: قد أفضى إلي الوجع وشبهه. وقوله: ولا تنظرون يقول: ولا تؤخرون، من قول القائل: أنظرت فلانا بما لي عليه من الدين. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنصرة الله له عليهم واثق ومن كيدهم وتواثقهم غير خائف، وإعلام منه لهم أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع، يقول لهم: امضوا ما تحدثون أنفسكم به في على عزم منكم
[ 187 ]
صحيح، واستعينوا من شايعكم علي بآلهتكم التي تدعون من دون الله، ولا تؤخروا ذلك فإني قد توكلت على الله وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي. وهذا وإن كان خبرا من الله تعالى عن نوح، فإنه حث من الله لنبيه محمد (ص) على التأسي به وتعريف منه سبيل الرشاد فيما قلده من الرسالة والبلاغ عنه. القول في تأويل قول تعالى: * (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين) *. يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه: فإن توليتم أيها القوم عني بعد دعائي إياكم وتبليغ رسالة ربي إليكم مدبرين، فأعرضتم عما دعوتكم إليه من الحق والاقرار بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وترك إشراك الآلهة في عبادته، فتضييع منكم وتفريط في واجب حق الله عليكم، لا بسبب من قبلي فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرا ولا عوضا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابا ولا جزاء. إن أجري إلا على الله يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي لا عليكم أيها القوم ولا على غيركم. وأمرت أن أكون من المسلمين وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة المنقادين لامره ونهيه المتذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه وبأمره آمركم بترك عبادة الاوثان. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *. يقول تعالى ذكره: فكذب نوحا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي، فنجيناه ومن معه ممن حمل معه في الفلك، يعني في السفينة، وجعلناهم خلائف يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الارض من قومه الذين كذبوه بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح. يقول الله لنبيه محمد (ص): فانظر يا محمد كيف كان عاقبة المنذرين، وهم الذين أنذرهم نوح عقاب الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الاصنام، يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولهم، فإن عاقبة من كذبك من قومك أن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم
[ 188 ]
نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه، يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحل بهم مثل الذي حل بهم إن لم يتوبوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *. يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلقومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والادلة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حق. فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل يقول: فما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلهم من الامم الخالية من قبلهم. كذلك نطبع على قلوب المعتدين يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها فلم يكونوا يقبلون من أنبياء الله نصيحتهم ولا يستجيبون لدعائهم إياهم إلى ربهم بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربه، فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، عقوبة لهم على معصيتهم ربهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) *. يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم موسى وهارون ابني عمران إلى فرعون مصر وملئه، يعني: وأشراف قومه وسادتهم، بآياتنا يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الاذعان لله بالعبودية، والاقرار لهما بالرسالة. فاستكبروا، يقول: فاستكبروا عن الاقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون. وكانوا قوما مجرمين، يعني: آثمين بربهم بكفرهم بالله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ئ قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون) *. يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم الحق من عندنا يعني: فلما جاءهم بيان ما دعاهم
[ 189 ]
إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله قالوا إن هذا لسحر مبين يعنون: أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له. قال موسى لهم: أتقولون للحق لما جاءكم من عند الله: أسحر هذا ؟. واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: أسحر هذا، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم لانهم قالوا: أسحر هذا ؟ فقال: أتقولون: أسحر هذا ؟ وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا هذا سحر، ولم يقولوه بالالف، لان أكثر ما جاء بغير ألف. قال: فيقال: فلم أدخلت الالف ؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قيلهم وهم يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحق هذا ؟ وقد علم أنه حق. قال: قد يجوز أن تكون على التعجب منهم: أسحر هذا، ما أعظمه وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المقول محذوفا، ويكون قوله: أسحر هذا من قيل موسى منكرا على فرعون وملئه قولهم للحق لما جاءهم سحر، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قال موسى لهم: أتقولون للحق لما جاءكم وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه، سحر، أسحر هذا الحق الذي ترونه ؟ فيكون السحر الاول محذوفا اكتفاء بدلالة قول موسى أسحر هذا على أنه مراد في الكلام، كما قال ذو الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاء بدلالة الكلام عليه، وكما قال جل ثناؤه: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم والمعنى: بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما ذكرنا كثيرة يتعب إحصاؤها. وقوله: ولا يفلح الساحرون يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يبقون. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 190 ]
* (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملؤه لموسى: أجئتنا لتلفتنا يقول: لتصرفنا وتلوينا، عما وجدنا عليه آباءنا من قبل مجيئك من الدين يقال منه: لفت فلان عنق فلان إذا لواها، كما قال ذو الرمة: (لفتا وتهزيعا سواء اللفت) التهزيع: الدق، واللفت: اللي. كما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لتلفتنا قال: لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا. وقوله: وتكون لكما الكبرياء في الارض يعني العظمة، وهي الفعلياء من الكبر. ومنه قول ابن الرقاع: سؤددا غير فاحش لا يدانيه تجباره ولا كبرياء حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وتكون لكما الكبرياء في الارض قال: الملك. قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن مجاهد: وتكون لكما الكبرياء في الارض قال: السلطان في الارض. قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد، قال: الملك في الارض. قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: وتكون لكما الكبرياء في الارض قال: الطاعة.
[ 191 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وتكون لكما الكبرياء في الارض قال: الملك. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد، قال: السلطان في الارض. وهذه الاقوال كلها متقاربات المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك غير أن معنى الكبرياء هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك. وقوله: وما نحن لكما بمؤمنين يقول: وما نحن لكما يا موسى وهارون بمؤمنين، يعني بمقرين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ئ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون) *. يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر. فلما جاء السحرة فرعون، قال موسى: ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: فأتوه بالسحرة فلما جاء السحرة ولكن اكتفى بدلالة قوله: فلما جاء السحرة على ذلك، فترك ذكره. وكذلك بعد قوله: ألقوا ما أنتم ملقون محذوف أيضا قد ترك ذكره، وهو: فألقوا حبالهم وعصيهم، فلما ألقوا قال موسى ولكن اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه، فترك ذكره. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين) *. يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه قال لهم موسى ما جئتم به السحر
[ 192 ]
. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق ما جئتم به السحر على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون أنه سحر كأن معنى الكلام على تأويلهم، قال موسى: الذي جئتم به أيها السحرة هو السحر. وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين: ما جئتم به السحر على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاءوا به، أسحر هو أم غيره ؟ وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لان موسى صلوات الله وسلامه عليه لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه أي شئ هو، وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدقونه في الخبر عما جاءوا به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاءوا به من ذلك بالحق الذي أتاه ومبطل كيدهم بجده، وهذه أولى بصفة رسول الله (ص) من الآخرى. فإن قال قائل: فما وجه دخول الالف واللام في السحر إن كان الامر على ما وصفت وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: ما جاءني به عمرو درهم، والذي أعطاني أخوك دينار، ولا يكادون أن يقولوا الذي أعطاني أخوك الدرهم، وما جاءني به عمرو الدينار ؟ قيل له: بلى كلام العرب إدخال الالف واللام في خبر ما والذي إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطب والمخاطب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالالف واللام، لان الخبر حينئذ خبر عن شئ بعينه معروف عند الفريقين وإنما يأتي ذلك بغير الالف إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصد شئ بعينه، فحينئذ لا تدخل الالف واللام في الخبر، وخبر موسى كان خبرا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله علما له على صدقه ونبوته إلى أنه سحر، فقال لهم موسى: السحر الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتبه أنتم لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: إن الله سيبطله يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره بأن سلط عليه عصا موسى قد حولها ثعبانا يتلقفه حتى لم يبق منه شئ. إن الله لا يصلح عمل المفسدين يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه وعمل فيها بمعاصيه. وقد ذكر أن ذلك في قراءة
[ 193 ]
أبي بن كعب: ما أتيتم به سحر، وفي قراءة ابن مسعود: ما جئتم به سحر، وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) *. يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى أنه قال للسحرة: ويحق الله الحق يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه بكلماته، يعني بأمره ولو كره المجرمون يعني الذين اكتسبوا الاثم بربهم بمعصيتهم إياه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) *. يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى مع ما أتاهم به من الحجج والادلة إلا ذرية من قومه خائفين من فرعون وملئهم. ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع، فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه قال: كان ابن عباس يقول: الذرية: القليل. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه الذرية: القليل، كما قال الله تعالى: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان لان الآباء ماتوا وبقي الابناء، فقيل لهم ذرية، لانهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
[ 194 ]
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ومات آباؤهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم قا: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه. وقد روي عن ابن عباس خبر يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما: حدثني به المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ذرية من قومه يقول: بني إسرائيل. فهذا الخبر ينبئ عنه أنه كان يرى أن الذرية في هذا الموضع هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون. وأولى هذه الاقوال عندي بتأويل الآية القول الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن الذرية في هذا الموضع أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقروا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريتهم فآمن منهم من ذكر الله بموسى.
[ 195 ]
وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب في ذلك لانه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى، فلان تكون الهاء في قوله من قومه من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر. وبعد، فإن في قوله: على خوف من فرعون وملئهم الدليل الواضح على أن الهاء في قوله: إلا ذرية من قومه من ذكر موسى لا من ذكر فرعون لانها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام: على خوف منه، ولم يكن على خوف من فرعون. وأما قوله: على خوف من فرعون فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى. فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه من بني إسرائيل وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم. وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، لان الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط، فقيل لهم الذرية من أجل ذلك، كما قيل لابناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: أبناء. والمعروف من معنى الذرية في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: ذرية من حملنا مع نوح وكما قال: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف ثم قال بعد: وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم. وأما قوله: وملئهم فإن الملا: الاشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم. واختلف أهل العربية فيمن عني بالهاء والميم اللتين في قوله: وملئهم فقال بعض نحويي البصرة: عني بها الذرية. وكأنه وجه الكلام إلى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون، وملا الذرية من بني إسرائيل. وقال بعض نحويي الكوفة: عني بهما فرعون، قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد لان الملك إذا ذكر لخوف أو سفر أو قدوم من سفر ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد بمن معه، وقدم فغلت الاسعار ؟ لانا ننوي بقدومه قدوم من معه. قال: وقد
[ 196 ]
يكون يريد أن بفرعون آل فرعون، ويحذف آل فرعون فيجوز، كما قال: واسئل القرية يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: يا أالنبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصوا ب قول من قال: الهاء والميم عائدتان على الذرية. ووجه معنى الكلام إلى أنه على خوف من فرعون، وملا الذرية لانه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيا وأمه إسرائيلية، فمن كان كذلك منهم كان مع فرعون على موسى. وقوله: أن يفتنهم يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون أن يفتنهم بالعذاب، فيصدهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. وقال: أن يفتنهم فوحد ولم يقل: أن يفتنوهم، لدليل الخبر عن فرعون بذلك أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه لما قد تقدم من قوله: على خوف من فرعون وملئهم. وقوله: وإن فرعون لعال في الارض يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبار مستكبر على الله في أرضه. وإنه لمن المسرفين وإنه لمن المتجاوزين الحق إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الايمان به وجحوده وحدانية الله وادعاؤه لنفسه الالوهة وسفكه الدماء بغير حلها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقال موسى يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) *. يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى نبيه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وصدقتم بربوبيته. فعليه توكلوا يقول: فبه فثقوا، ولامره فسلموا، فإنه لن يخذل وليه ويسلم من توكل عليه. وإن كنتم مسلمين يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) *. يقول تعالى ذكره: فقال قوم موسى لموسى: على الله توكلنا أي به وثقنا، وإليه فوضنا أمرنا. وقوله: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين يقول جل ثناؤه مخبرا عن
[ 197 ]
قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا يعنون قوم فرعون. وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربهم من إعادته ابتلاء قوم فرعون بهم، فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنوا أنهم خير منهم وأنهم إنما سلطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: لا يظهروا علينا فيروا أنهم خير منا. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز في قوله: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: لا تسلطهم علينا فيزدادوا فتنة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين لا تسلطهم علينا فيفتنونا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله: ربنلا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وقال أيضا: فيفتنونا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما سلطنا عليهم ولا عذبوا، فيفتنوا بنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا
[ 198 ]
بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما سلطنا عليهم ولا عذبوا، فيفتتنوا بنا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، قوله: لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم فيفتتنوا ويقولوا: لو كانوا على حق ما سلطنا عليهم وما عذبوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله تعالى: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين لا تبتلنا ربنا فتجهدنا وتجعله فتنة لهم هذه الفتنة. وقرأ: فتنة للظالمين قال المشركون حين كانوا يؤذون النبي (ص) والمؤمنين ويرمونهم:: أليس ذلك فتنة لهم، وسوءا لهم ؟ وهي بلية للمؤمنين. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاء، وكل ما كان من أحر لهم مصدة عن اتباع موسى والاقرار به وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم فتنة، وكان من أعظم الامور لهم إبعادا من الايمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدة كان لهم عن الايمان، أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنة في أنفسهم من بلية تنزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادا لقوم فرعون عن الايمان بالله بأسبابهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) *. يقول تعالى ذكره: ونجنا يا ربنا برحمتك، فخلصنا من أيدي القوم الكافرين قوم فرعون لانهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الاشياء القذرة من خدمتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذ لقومكما بمصر بيوتا، يقال
[ 199 ]
منه: تبوأ فلان لنفسه بيتا: إذا اتخذه، وكذلكتبوأ مصحفا: إذا اتخذه، وبوأته أنا بيتا: إذا اتخذته له. واجعلوا بيوتكم قبلة يقول: واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: مساجد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: أمروا أن يتخذوها مساجد. قال: ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، قال: ثنا زهير، قال: ثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا، فقال لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة، يقول: اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: خافوا فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. قال: ثنا جرير عن ليث، عن مجاهد، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: واجعلوا
[ 200 ]
بيوتكم قبلة قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة يقول: مساجد. قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا قال: مساجد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: قال أبي زيد: اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلون فيها تلك القبلة. وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم قبلة يعني الكعبة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة. فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة. حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس في قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة يقول: وجهوا بيوتكم مساجدكم نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: في بيوت أذن الله أن ترفع ؟
[ 201 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: قبل القبلة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: بيوتكم قبلة قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واجعلوا بيوتكم قبلة ثم ذكر مثله سواء. قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا مساجد. قال: ثنا إسحاق قال: ثنا عبد الله، عن ورقا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في قوله: أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا قال: مصر، الاسكندرية. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عقتادة، قوله: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: بيوتكم قبلة قال: نحو القبلة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا قال: مساجد. واجعلوا بيوتكم قبلة قال: قبل القبلة. وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: واجعلوا بيوتكم قبلة قال: يقابل بعضها بعضا. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الاغلب من
[ 202 ]
معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا، البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لان المساجد لها اسم هي به معروفة خاص لها، وذلك المساجد. فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشئ ولا إضافتها إلى شئ، فالبيوت المسكونة، وكذلك القبلة الاغلب من استعمال الناس إياها في قبل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الاغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك، ولم يكن على قوله: واجعلوا بيوتكم قبلة دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب، لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله: قبلة وأقيموا الصلاة يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. وقوله: وبشر المومنين يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) *. يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، وهم الملا، زينة من متاع الدنيا وأثاثها، وأمولا من أعيان الذهب والفضة في الحياة الدنيا. ربنا ليضلوا عن سبيلك يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلوا عن سبيلك. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: ليضلوا عن سبيلك بمعنى: ليضلوا الناس عن سبيلك ويصدوهم عن دينك. وقرأ ذلك آخرون: ليضلوا عن سبيلك بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجوروا عن طريق الهدى. فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه أعطى فرعون وقومه ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ليضلوا الناس عن دينه، أو ليضلوا هم عنه ؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لاجله، فلا عتب عليهم في ذلك ؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت.
[ 203 ]
وقد اختلفت أهل العلم بالعربية في معنى هذه اللام التي في قوله: ليضلوا فقال بعض نحويي البصر: معنى ذلك: ربنا فضلوا عن سبيلك، كما قال: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون عدوا وحزنا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه اللام تجئ في هذا المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه اللام كي ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم كي يضلوا، ثم دعا عليهم وقال آخر: هذه اللامات في قوله ليضلوا وليكون لهم عدوا، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضلالهم، والتقطوه لكونه لانه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل لام كي في معنى لام الخفض، ولام الخفض في معنى لام كي لتقارب المعنى، قال الله تعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم لاعراضكم، ولم يحلفوا لاعراضهم وقال الشاعر: سموت ولم تكن أهلا لتسمو ولكن المضيع قد يصاب قال: وإنما يقال: وما كنت أهلا للفعل، ولا يقال لتفعل إلا قليلا. قال: وهذا منه. والصواب من القول في ذلك عندي: أنها لا م كي، ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والاموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وقوله: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها، يقال منه: طمست عينه أطمسها وأطمسها طمسا وطموسا، وقد تستعمل العرب الطمس في العفو والدثور وفي الاندقاق والدروس، كما قال كعب بن زهير:
[ 204 ]
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الاعلام مجهول وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع، فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: ثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: بلغنا عن القرظي، في قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: اجعل سكرهم حجارة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن القرظي، قال: اجعل سكرهم حجارة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: اطمس على أموالهم قال: اجعلها حجارة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: ثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس، في قوله: اطمس على أموالهم قال: صارت حجارة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ربنا اطمس على أموالهم قال: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة. حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان: ربنا اطمس على أموالهم قال: يقولون: صارت حجارة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق. قال: ثنا يحيى الحماني، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح، في قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: صارت حجارة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة.
[ 205 ]
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: جعلها الله حجارة منقوشة على هيئة ما كانت. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ربنا اطمس على أموالهم قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك طمس على أموالهم، فصارت حجارة ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شئ. وقال آخرون: معنى ذلك: أهلكها. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ربنا اطمس على أموالهم قال: أهلكها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ربنا اطمس على أموالهم يقول: دمر عليهم وأهلك أموالهم. وأما قوله: واشدد على قلوبهم فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالايمان. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: ربنا واشدد على قلوبهم فلا يوءمنوا حتى يروا العذاب الاليم فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الايمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الايمان. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: واشدد على قلوبهم يقول واطبع على قلوبهم، حتى يروا العذاب الاليم وهو الغرق. حدثني المثنى، قال ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واشدد على قلوبهم بالضلالة.
[ 206 ]
قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واشدد على قلوبهم قال: بالضلالة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: واشدد على قلوبهم يقول: أهلكهم كفارا. وأما قوله: فلا يوءمنوا حتى يروا العذاب الاليم فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقروا بوحدانيته حتى يروا العذاب الموجع. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فلا يوءمنوا بالله فيما يرون من الآيات، حتى يروا العذاب الاليم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: فلا يوءمنوا يقول: دعا عليهم. واختلف أهل العربية في موضع يوءمنوا فقال بعض نحويي البصرة: هو نصب لان جواب الامر بالفاء أو يكون دعا عليهم إذا عصوا. وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصب عطفا على قوله: ليضلوا عن سبيلك. وقال آخر منهم، وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزم على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم بمعنى: فلا انبسط من بين عينيك من انزوى، ولا لقيتني على الدعاء. وكان بعض
[ 207 ]
نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابا لمسئلته إياه، لان المسألة خرجت على لفظ الامر، فتجعل فلا يوءمنوا في موضع نصب على الجواب، وليس بسهل. قال: ويكون كقول الشاعر: يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا قال: وليس الجواب بسهل في الدعاء لانه ليس بشرط. والصواب من القول في ذلك أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا. وإنما اخترت ذلك لان ما قبله دعاء، وذلك قوله: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم، فإلحاق قوله: فلا يؤمنوا إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبه وأولى. وأما قوله: حتى يروا العذاب الاليم فإن ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: فلا يوءمنوا حتى يروا العذاب الاليم قال: الغرق. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون) *. وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى (ص) وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه: قال الله لهما قد أجيبت دعوتكما في فرعون وملئه وأموالهم. فإن قائل قائل: وكيف نسبت الاجابة إلى اثنين والدعاء إنما كان من واحد ؟ قيل: إن
[ 208 ]
الداعي وإن كان واحدا فإن الثاني كان مؤمنا وهو هارون، فلذلك نسبت الاجابة إليهما، لان المؤمن داع. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: قد أجيبت دعوتكما قال: كان موسى يدعوا وهارون يؤمن، فذلك قوله: قد أجيبت دعوتكما. وقد زعم بعض أهل العربية أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين، وأنشد في ذلك: فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله واجتز شيحا حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: قد أجيبت دعوتكما قال: دعا موسى، وأمن هارون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، قال: دعا موسى، وأمن هارون. قال: ثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن كعب، قال: دعا موسى، وأمن هارون. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قد أجيبت دعوتكما قال: دعا موسى، وأمن هارون. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا موسى وأمن هارون، فذلك قوله: قد أجيبت دعوتكما.
[ 209 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: قال قد أجيبت دعوتكما قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فذلك قوله قد أجيبت دعوتكما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قد أجيبت دعوتكما لموسى وهارون. قال ابن جريج: قال عكرمة: أمن هارون على دعاء موسى، فقال الله: قد أجيبت دعوتكما فاستقيما. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين، فقال الله: قد أجيبت دعوتكما فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها. وأما قوله: فاستقيما فإنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرها من دعاء فرعون وقومه إلى الاجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجابهما فيه. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: فاستقيما: فامضيا لامري، وهي الاستقامة. قال ابن جريج يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وقوله: ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون يقول: ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خالف له، وإن وعيدي نازل بفرعون وعذابي واقع به وبقومه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) *. يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه. فأتبعهم فرعون يقول: فتبعهم فرعون وجنوده يقال منه: أتبعته وتبعته بمعنى واحد. وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه أتبعهم خيرا أو شرا فالكلام أتبعهم بهمز الالف، وإذا أريد اتبع أثرهم أو اقتدى بهم فإنه من اتبعت مشددة التاء غير مهموزة الالف.
[ 210 ]
بغيا على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل. وعدوا يقول: واعتداء عليهم، وهو مصدر من قولهم: عدا فلان على فلان في الظلم يعدو عليه عدوا، مثل غزا يغزو غزوا. وقد روي عن بعضهم أنه كان يقرأ: بغيا وعدوا وهو أيضا مصدر من قولهم: عدا يعدو عدوا، مثل علا يعلو علوا. حتى إذا أدركه الغرق يقول: حتى إذا أحاط به الغرق. وفي الكلام متروك قد ترك ذكره بدلالة ما ظهر من الكلام عليه وذلك: فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا فيه، فغرقناه حتى إذا أدركه الغرق. وقوله: قال آمنت أنه لاإله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل فرعون حين أشرف على الغرق وأيقن بالهلكة: آمنت يقول: أقررت، أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ بعضهم وهو قراءة عامة المدينة والبصرة: أنه بفتح الالف من أنه على إعمال آمنت فيها ونصبها به. وقرأ آخرون: آمنت إنه بكسر الالف من أنه على ابتداء الخبر، وهي قراءة عامة الكوفيين. والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد، قال: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ستمائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه، قالوا: يا موسى أين المخرج ؟ فقد أدركنا قد كنا نلقى من فرعون البلاء ؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ويبس لهم البحر، وكشف الله عن وجه الارض، وخرج فرعون على فر س حصان أدهم على لونه من الدهم ثمان مئة ألف سوى ألوانها من الدواب، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرس وديق ليس فيها أنثى غيرها. وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلا ضمه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل دنا منه جبريل ولصق به، فوجد الحصان ريح الانثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئا، وقال: أقدموا فليس القوم أحق بالبحر منكم ثم أتبعهم
[ 211 ]
فرعون حتى إذا هم أولهم أن يخرجوا ارتطم ونادى فيها: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ونودي: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: رفعه أحدهما إلى النبي (ص) فقال: إن جبرائيل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (ص)، قال: جعل جبرائيل عليه السلام يدس أو يحشو في ففرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي (ص): قال لي جبرائل: يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من حمئه في فيه مخافة أتدركه رحمة الله فيغفر له يعني فرعون. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن النبي (ص) قال: لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبرائيل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حمأة البحر وأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة. حدثني المثنى، قال: ثني عمرو، عن حكام، قال: ثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (ص) قال: لما قال فرعون لا إله إلا الله، جعل جبرائيل يحشوا في فيه الطين والتراب.
[ 212 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال: أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها فاه أو قال: ملا بها فاه مخافة أن تدركه رحمه الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا الحسين بن علي. عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين قال الله: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. قال: ثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبرائيل يحثو في فيه التراب خشية أن يغفر له. قال: ثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة، عن إبراهيم التيمي، أن جبرائيل عليه السلام قال: ما خشيت على أحد من بني آدم الرحمة إلا فرعون، فإنه حين قال ما قال خشيت أن تصل إلى الرب فيرحمه، فأخذت من حمأة البحر وزبده فضربت به عينيه ووجهه. قال: أخبرنا أبو خالد الاحمر، عن عمر بن يعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال جبرائيل عليه السلام لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة. القول في تأويل قوله تعالى: * (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *. يقول تعالى ذكره معرفا فرعون قبح صنيعه أيام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه ومعصيته ربه حين فزع إليه في حال حلول سخطه به ونزول عقابه، مستجيرا به من عذابه الواقع به لما ناداه وقد علته أمواج البحر وغشيته كرب الموت: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية: الآن تقر لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الالوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك وكنت من المفسدين في الارض الصادين
[ 213 ]
عن سبيله ؟ فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) *. يقول تعالى ذكره لفرعو: فاليوم نجعلك على نجوة من الارض ببدنك، ينظر إليك هالكا من كذب بهلاكك. لتكون لمن خلفك آية يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، فينزجرون عن معصية الله والكفر به والسعي في أرضه بالفساد. والنجوة: الموضع المرتفع على محوله من الارض، ومنه قوله أوس بن حجر: فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون. قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الاحمر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد، قال: وكان من أكثر الناس، أو أحدث الناس عن بني إسرائيل. قال: فحدثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر هابت الخيل اللهب، قال: ومثل لحصان منها فرس وديق، فوجد ريحها أحسبه أنا قال: فانسل فاتبعته قال: فلما تتام آخر جنود فرعون في البحر وخرج آخر بني إسرائيل أمر البحر فانطبق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدا فسمع الله تكذيبهم نبيه. قال: فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمر يتراءآه بنو إسرائيل.
[ 214 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: فاليوم ننجيك ببدنك قال: بدنه: جسده رمى به البحر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن مجاهد: فاليوم ننجيك ببدنك قال: بجسدك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا الاصغر بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما جاوز موسى البحر بجميع من معه، التقى البحر عليهم يعني على فرعون وقومه فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه فدعا ربه فأخرجه، فنبذه البحر حتى استيقنوا بهلاكه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لتكون لمن خلفك آية قال: لما أغرق الله فرعون لم تصدق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آية وعظة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل عن قيس بن عباد أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الاعلى، عن معمر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: فاليوم ننجيك ببدنك قال: بجسدك.
[ 215 ]
قال: ثنا محمد بن بكير، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد: فاليوم ننجيك ببدنك قال: بجسدك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال: كأنه ثور أحمر. وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر فتخرج منه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق. فإن قال قائل: وما وجه قوله: ببدنك ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه ببدنك ؟ قيل: كان جائزا أن ينجيه بالبدن بغير الروح، ولكن ميتا. وقوله: وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون يقول تعالى ذكره: وإن كثيرا من الناس عن آياتنا يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والالوهة لنا خالصة، لغافلون يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *. يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازل صدق. قيل: عنى بذلك الشأم وبيت المقدس. وقيل: عنى به الشام ومصر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: مبوأ صدق قال: منازل صدق: مصر والشام. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: مبوأ صدق قال: بوأهم الله الشام وبيت المقدس.
[ 216 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق الشام. وقرأ: إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين. وقوله: ورزقناهم من الطيبات يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو الطيب. وقوله: فما اختلفوا حتى جاءهم العلم يقول جل ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبي (ص) مجمعين على نبوة محمد والاقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددا قليلا، فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيا لله، فوضع العلم مكان المعلوم. وكان بعضهم يتأول العلم ههنا كتاب الله ووحيه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيا بينهم قال: العلم: كتاب الله الذي أنزله وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيا بينهم أهل هذه الاهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي ؟ قال: والبغي وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغى في العلم يرى هذا جاهلا مخطئا ويرى نفسه مصيبا عالما، فيبغي بإصابته وعلمه على هذا المخطئ. وقوله: إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): إن ربك يا محمد يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار والمؤمنين بك منهم الجنة. فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا يختلفون من أمر محمد (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) *.
[ 217 ]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزل إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لانهم يجدونك عندهم مكتوبا ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والانجيل فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والانجيل كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والايمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قال: التوراة والانجيل الذين أدركوا محمدا (ص) من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسئلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله (ص). حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قال: هم أهل الكتاب. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت إبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يعني أهل التقوى وأهل الايمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبي الله (ص). فإن قال قائل: أو كان رسول الله (ص) في شك من خبر الله أنه حق يقين حتى قيل له: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فقال: لم يشك النبي (ص) ولم يسأل.
[ 218 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك قال: ما شك وما سأل. حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال: لم يشك (ص) ولم يسأل. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ذكر لنا أن رسول الله (ص قال: لا أشك ولا أسأل. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتا ب من قبلك قال: بلغنا أن رسول الله (ص) قال: لا أشك ولا أسأل. فإن قال: فموجه مخرج هذا الكلام إذن إن كان الامر على ما وصفت ؟ قيل: قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا استجازة العرب قول القائل منهم لملوكه: إن كنت مملوكي فانته إلى أمري والعبد المأمور بذلك لا يشك سيده القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: إن كنت ابني فبرني وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهد، وأن منه قول الله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. وهذا من ذلك، لم يكن (ص) شاكا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى بذلك من أمره كان عالما، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضا، إذ كان القرآن بلسانهم نزل. وأما قوله: لقد جاءك الحق من ربك... الآية، فهو خبر من الله مبتدأ، يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسول، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم. فلا تكونن من الممترين يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. ولو قال قائل: إن هذه
[ 219 ]
الآية خوطب بها النبي (ص) والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوته (ص) ممن كان قد أظهر الايمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما كان قولا غير مدفوعة صحته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ولا تكونن يا محمد من الذين كذبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غبن حظه وباع رحمة الله ورضاه بسخطه وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ئ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم) *. يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد كلمة ربك، وهي لعنته إياهم بقوله: ألا لعنة الله على الظالمين فثبتت عليهم، يقال منه: حق على فلان كذا يحق عليه: إذا ثبت ذلك عليه ووجب. وقوله: لا يوءمنون ولو جاءتهم كل آية لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرون بوحدانية ربهم ولا بأنك لله رسول، ولو جاءتهم كل آية وموعظة وعبرة فعاينوها حتى يعاينوا العذاب الاليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه، إذا حقت عليهم كلمة ربك حتى عاينوا العذاب الاليم، فحينئذ قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل حين لم ينفعه قيله، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك، من عبدة الاوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح،
[ 220 ]
عن مجاهد، في قوله: أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يوءمنون قال: حق عليهم سخط الله بما عصوه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يوءمنون حق عليهم سخط الله بما عصوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلولا كانت قرية آمنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) *. يقول تعالى ذكره فهلا كانت قرية آمنت وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبي. ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ونزول سخط الله بها بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيه واستحقاقه سخط الله بمعصيته. إلا قوم يونس فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم إيمانهم خاصة من بين سائر الامم غيرهم. فإن قال قائل: فإن كان الامر على ما وصفت من أن قوله: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها بمعنى: فما كانت قرية آمنت بمعنى الجحود، فكيف نصب قوم وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدا كان ما بعده مرفوعا، وأن الصحيح من كلام العرب: ما قام أحد إلا أخوك، وما خرج أحد إلا أبوك ؟ قيل: إن ذلك إنما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله وذلك أن الاخ من جنس أحد، وكذلك الاب. ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله كان الفصيح من كلامهم النصب، وذلك لو قلت: ما بقي في الدار أحد إلا الوتد، وما عندنا أحد إلا كلبا أو حمارا لان الكلب والوتد والحمار من غير جنس أحد، ومنه قول النابغة الذبياني:............ أعيت جوابا وما بالربع من أحد
[ 221 ]
ثم قال: إلا أواري لايا ما أبينها والنوءى كالحوض بالمظلومة الجلد فنصب الاواري إذ كان مستثنى من غير جنسه، فكذلك نصب قوم يونس لانهم أمة غير الامم الذين استثنوا منهم من غير جنسهم وشكلهم وإن كانوا من بني آدم، وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع. ولو كان قوم يونس بعض الامة الذين استثنوا منهم كان الكلام رفعا، ولكنهم كما وصفت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الايمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس. قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين يقول: لم يكن هذا في الامم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت، إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: إلا قوم يونس قال: بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل وفرقوا بين كل بهيمة وولدها يدعون الله أربعين ليلة، حتى تاب عليهم.
[ 222 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الحميد الحماني، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشف الله عنهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس متعناهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمربن الخطاب رضي الله عنه، فحدث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذبوه، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ففارقهم، فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب لكنهم، خرجوا من مساكنهم وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب وأن يرجع إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنزل: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة فلما رأى ذلك يونس، لكنه ذهب عاتبا على ربه وانطلق مغاضبا وظن أن لن نقدر عليه، حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف الريح. فذكر قصة يونس وخبره. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، قال: لما رأوا العذاب ينزل فرقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والانعام، ثم قاموا جميعا فدعوا الله وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم
[ 223 ]
العذاب: أرجع إليهم وقد كذبتهم ؟ وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثة، فعند ذلك خرج مغضبا وساء ظنه. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الاسلام وترك ما هم عليه، قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبا فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشئ وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ مخلاته فتزود فيها شيئا، ثم خرج. فلما أصبحوا تغشاهم العذاب كما يتغشى الانسان الثوب في القبر، ففرقوا بين الانسان وولده وبين البهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله، فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدقنا فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا، قال: جربوا علي كذبا. فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: ثنا ابن مسعود في بيت المال، قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه فكف عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل. فانطلق مغاضبا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال: قولوا يا حي حين لا حي، ويا حي محي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت فكشف عنهم العذاب ومتعوا إلى حين. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: بلغني في حرف ابن مسعود: فلولا يقول فهلا. وقوله: لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا يقول: لما صدقوا رسولهم وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلهم العذاب وغشيهم أمر الله ونزل بهم البلاء، كشفنا
[ 224 ]
عنهم عذاب الهوان والذل في حياتهم الدنيا. ومتعناهم إلى حين يقول: وأخرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ووقت فناء أعمارهم التي قضيت فناءها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو شآء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) *. يقول تعالى ذكر لنبيه: ولو شاء يا محمد ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا بك، فصدقوك أنك لي رسول وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له حق، ولكن لا يشاء ذلك لانه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ولا يتبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور إلا من سبقت له السعادة في الكتاب الاول قبل أن يخلق السماوات والارض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صدإيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ممن قد سبق له عندي أنهم يؤمنون بك في الكتاب السابق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله (ص) كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الاول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الاول. فإن قال قائل: فما وجه قوله: لآمن من في الارض كلهم جميعا ؟ فالكل يدل على الجميع، والجميع على الكل، فما وجه تكرار ذلك وكل واحدة منهما تغنى عن الاخرى ؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله جميعا في هذا الموضع توكيدا كما قال: لا تتخذوا إلهين اثنين ففي قوله: إلهين دليل على الاثنين. وقال غيره: جاء بقوله جميعا بعد كلهم، لان جميعا لا تقع إلا توكيدا،
[ 225 ]
وكلهم يقع توكيدا واسما فلذلك جاء ب (جميع) بعد كلهم. قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد لجاز ههنا. قال: وكذلك: إلهين اثنين العدد كله يفسر به، فيقال: رأيت قوما أربعة، فما جاء باثنين وقد اكتفى بالعدد منه لانهم يقولون: عندي درهم ودرهمان، فيكفي من قولهم: عندي درهم واحد ودرهمان اثنان، فإذا قالوا دراهم قالوا ثلاثة، لان الجمع يلتبس والواحد والاثنان لا يلتبسان، لم يثن الواحد والتثنية على تنافي في الجمع، لانه ينبغي أن يكون مع كل واحد واحد، لان درهما يدل على الجنس الذي هو منه، وواحد يدل على كل الاجناس، وكذلك اثنان يدلان على كل الاجناس، ودرهمان يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالاعداد لانه الاصل. وقوله: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): إنه لن يصدقك يا محمد ولن يتبعك ويقر بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدقك، لا بإكراهك إياه ولا بحرصك على ذلك، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين لك مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك ؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتها من سبيل إلى تصديقك يا محمد إلا بإن آذن لها في ذلك، فلا تجهدن نفسك في طلب هداها، وبلغها وعيد الله وعرفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلها، فإن هداها بيد خالقها. وكان الثوري يقول في تأويل قوله: إلا بأذن الله ما: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، في قوله: وما كان لنفس أن توءمن إلا بإذن الله قال: بقضاء الله. وأما قوله: ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله
[ 226 ]
يهدي من يشاء من خلقه للايمان بك يا محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقر بما جئت به من عند ربك، ويجعل الرجس، وهو العذاب، وغضب الله على الذين لا يعقلون يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دل بها جل ثناؤه على نبوة محمد (ص) وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله وخلع الانداد والاوثان. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ويجعل الرجس قال: السخط. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل انظروا ماذا في السماوات والارض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، السائليك الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الانداد والاوثان: انظروا أيها القوم ماذا في السموات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الارض من جبالها وتصدعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبرا، ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات. يقول الله جل ثناؤه: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون يقول جل ثناؤه: وما تغنى الحجج والعبر والرسل المنذرة عباد الله عقابه عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار لا يؤمنون بشئ من ذلك ولا يصدقون به. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) محذرا مشركي قومه من حلول عاجل نقمة بساحتهم نحو الذي حل بنظرائهم من قبلهم من سائل الامم الخالية من قبلهم السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربهم سبيلهم: فهل ينتظر يا محمد هؤلاء المشركون من قومك
[ 227 ]
المكذبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب الذين مضوا قبلهم فخلوا من قوم نوح وعاد وثمود، قل لهم يا محمد: إن كانوا ذلك ينتظرون، فانتظروا عقاب الله إياكم ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبواركم بالعقوبة التي تحل بكم من الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بانس، في قوله: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين قال: خوفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر أنجى الله رسله والذين آمنوا معه، فقال الله: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الامم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجي هناك رسولنا محمدا (ص) ومن آمن به وصدقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برسلنا الذين أهلكنا أممهم فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حق على أممهم. كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك يا محمد وبالمؤمنين فننجيك وننجي المؤمنين بك حقا علينا غير شك. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك الذين
[ 228 ]
عجبوا أن أوحيت إليك إن كنتم في شك أيها الناس من ديني الذي أدعوكم إليه فلم تعلموا أنه حق من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والاوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئا، فتشكوا في صحته. وهذا تعريض ولحن من الكلام لطيف. وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، لا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الاصنام التي لا تعقل شيئا ولا تضر ولا تنفع، فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، لاني أ عبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء وينفعهم ويضر من يشاء وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة، وأما عبادة الاوثان فينكرها كل ذي لب وعقل صحيح. وقوله: ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم يقول: ولكن أ عبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم. وأمرت أن أكون من المؤمنين يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدقين بما جاءني من عنده. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين) *. يقول تعالى ذكره: وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأن أقم. وأن الثانية عطف على أن الاولى. ويعني بقوله: أقم وجهك للدين أقم نفسك على دين الاسلام حنيفا مستقيما عليه، غير معوج عنه إلى يهودية ولا نصرانية ولا عبادة وثن. ولا تكونن من المشركين يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والانداد فتكون من الهالكين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) *. يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والاصنام، يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها، فأنها لا تنفع ولا تضر، فإن فعلت ذلك فدعوتها من
[ 229 ]
دون الله فإنك إذا من الظالمين يقول: من المشركين بالله، الظالم لنفسه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم) *. يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله يا محمد بشدة أو بلاء فلا كاشف لذلك إلا ربك الذي أصابك به دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والانداد. وإن يردك بخير يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور، فلا راد لفضله يقول: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين ذلك ولا يردك عنه ولا يحرمه لانه الذي بيده السراء والضراء دون الآلهة والاوثان ودون ما سواه. يصيب به من يشاء يقول: يصيب ربك يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء من يشاء ويريد من عباده، وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الايمان به وطاعته، الرحيم بمن آمن به منهم وأطاعه أن يعذبه بعد التوبة والانابة. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للناس يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم يعني: كتاب الله، فيه بيا كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم، فمن اهتدى يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحق، وصدق بما جاء من عند الله من البيان. فإنما يهتدي لنفسه يقول: فإنما يستقيم على الهدى، ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخير بفعله ذلك لا غيرها. ومن ضل يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله، وخالف دينه، وما بعث به محمدا والكتاب الذي أنزله عليه. فإنما يضل عليها يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها لانه لا يؤخذ بذلك غيرها ولا يورد بضلاله ذلك المهالك سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى. وما أنا عليكم بوكيل يقول: وما أنا عليكم بمسلط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله، وهو الذي يقوم
[ 230 ]
من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلغ أبلغكم ما أرسلت به إليكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *. يقول تعالى ذكره: واتبع يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك وتنزيله الذي ينزله عليك، فاعمل به واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الاذى والمكاره وعلى ما نالك منهم حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعل فاصل. وهو خير الحاكمين يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين. فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بدر، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه (ص) فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم أو يتوبوا وينيبوا إلى طاعته. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وما أنت عليهم بوكيل واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين قال: هذا منسوخ حتى يحكم الله، حكم الله بجهادهم وأمره بالغلظة عليهم. والله الموفق للصواب، والحمد لله وحده، والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[ 231 ]
سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة القول في تفسير السورة التي يذكر فيها هود * (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *. قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله الر والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: كتاب أحكمت آياته يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد (ص)، وهو القرآن. ورفع قوله: كتاب بنية: هذا كتاب. فأما على قول من زعم أن قوله: الر مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها، وأن معنى الكلام: هذه الحروف كتاب أحكمت آياته، فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعا بقوله: الر. وأما قوله: أحكمت آياته ثم فصلت فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالامر والنهي، ثم فصلت بالثواب والعقاب. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني أبو محمد الثقفي، عن الحسن، في قوله: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت قال: أحكمت بالامر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني، عن أبي بكر
[ 232 ]
الهذلي، عن الحسن: الر كتاب أحكمت آياته قال: أحكمت في الامر والنهي وفصلت بالوعيد. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: الر كتاب أحكمت آياته قال: بالامر والنهي ثم فصلت قال: بالثواب والعقاب. وروي عن الحسن قول خلاف هذا. وذلك ما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال: وحدثنا عباد بن العوام، عن رجل، عن الحسن: أحكمت بالثواب والعقاب ثم فصلت بالامر والنهي. وقال آخرون: معنى ذلك: أحكمت آياته من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أحكمت آياته ثم فصلت قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها: بينها. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدخل والخلل والباطل، ثم فصلها بالامر والنهي. وذلك أن إحكام الشئ إصلاحه وإتقانه، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قبله. وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعض بالبيان عما فيها من حلال وحرام وأمر ونهي. وكان بعض المفسرين يفسر قوله: فصلت بمعنى: فسرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ثم فصلت قال: فسرت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فصلت قال: فسرت.
[ 233 ]
قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد: ثم فصلت قال: فسرت. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال قتادة: معناه: بينت، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبل، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد. وأما قوله: من لدن حكيم خبير فإن معناه: حكيم بتدبير الاشياء وتقديرها، خبير بما يؤول إليه عواقبها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: من لدن حكيم خبير يقول: من عند حكيم خبير. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) *. يقول تعالى ذكره: ثم فصلت بأن تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وتخلعوا الآلهة والانداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للناس: إنني لكم من عند الله نذير ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الاصنام، وبشير يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والالوهة له. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولو فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) *. يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته بأن لا تعبدوا إلا الله وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: وأن استغفروا ربكم وأن اعملوا أيها الناس من الاعمال ما يرضي ربكم عنكم،
[ 234 ]
فيستر عليكم عظيم ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الاوثان والاصنام وإشراككم الآلهة والانداد في عبادته. وقوله: ثم توبوا إليه يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الانداد وبراءتكم من عبادتها. ولذلك قيل: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ولم يقل: وتوبوا إليه لان التوبة معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعمل لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك فإن عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لان أهل الشرك كانوا يرون أنهم يطيعون الله بكثير من أفعالهم وهم على شركهم مقيمون. وقوله: يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحب الشاكرين وأهل الشكر في مزيد من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى. وقوله: إلى أجل مسمى يعني الموت. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قا: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلى أجل مسمى قال: الموت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إلى أجل مسمى وهو الموت. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: إلى أجل مسمى قال: الموت. وأما قوله: ويؤت كل ذي فضل فضله فإنه يعني يثيب كل من تفضل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبا مريدا به وجه الله، أجزل ثوابه وفضله في الآخرة. كما:
[ 235 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ويوءت كل ذي فضل فضله قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده أو رجله، أو كلمه، أو ما تطوع به من أمره كله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: وحدثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: أو عمل بيديه أو رجليه وكلامه، وما تطول به من أمره كله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ويوءت كل ذي فضل فضله أي في الآخرة. وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما: حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود، في قوله: ويوءت كل ذي فضل فضله قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشاره. وقوله: وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الآلهة وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه فأدبروا مولين عن ذلك، فإني أيها القوم أخاف عليكم عذاب يوم كبير شأنه عظيم هوله، وذلك يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. وقال جل ثناؤه: وإن تولوا فإن أخاف عليكم عذاب يوم كبير ولكنه مما قد تقدمه قوله، والعرب إذا قدمت قبل الكلام قولا خاطبت ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ثم رجعت بعد إلى الخطاب، وقد بينا ذلك في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير) *.
[ 236 ]
يقول تعالى ذكره: إلى الله أيها القوم ما بكم ومصيركم، فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والاصنام، فإنه مخلدكم نار جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه. وهو على كل شئ قدير يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الاوثان وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادر. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *. اختلف القراء في قراءة قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم فقرأته عامة الامصار: ألا إنهم يثنون صدورهم على تقدير يفعلون من ثنيت، والصدور منصوبة. واختلفت قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله (ص) غطى وجهه وثنى ظهره. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم قال: كان أحدهم إذا مر برسول الله (ص) قال حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، بثوبه على وجهه وثنى ظهره قال: أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه قال: من رسول الله (ص) قال: كان المنافقون إذا مروا به ثنى أحدهم صدره ويطأطئ رأسه، فقال الله: ألا إنهم يثنون صدورهم... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن حصين، قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول، في قوله: يثنون صدورهم قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي (ص) ثنى صدره، وتغشى بثوبه كي لا يراه النبي (ص). وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك. ذكر من قال ذلك:
[ 237 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يثنون صدورهم قال: شكا وامتراء في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يثنون صدورهم شكا وامتراء في الحق. ليستخفوا منه قال: من الله إن استطاعوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يثنون صدورهم قال: تضيق شكا. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يثنون صدورهم قال: تضيق شكا وامتراء في الحق، قال: ليستخفوا منه قال: من الله إن استطاعوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم قال: من جهالتهم به، قال الله: ألا حين يستغثون ثيابهم في ظلمة الليل في أجوف بيوتهم، يعلم تلك الساعة ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه. وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كلام الله تعالى. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ألا إنهم يثنون صدورهم... الآية، قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى صدره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه.
[ 238 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: يستغشون ثيابهم قال: أخفى ما يكو الانسان إذا أسر في نفسه شيئا وتغطى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون. وقال آخرون: إنما هذا إخبار من الله نبيه (ص) عن المنافقين الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ويبدون له المحبة والمودة، وأنهم معه وعلى دينه. يقول جل ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم. وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضا. وقرأ: ألا حين يستغشون ثيابهم... الآية. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: ألا إنهم يثنوني صدورهم على مثال: تحلو لي التمرة: تفعوعل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس يقرأ ألا إنهم تثنوني صدورهم قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: سمعت ابن عباس يقرؤها: ألا إنهم تثنوني صدورهم قال: سألته عنها، فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيفضوا إلى السماء. وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما: حدثنا به محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: أخبرت عن عكرمة، أن ابن عباس، قرأ ألا إنهم تثنوني صدورهم وقال ابن عباس:
[ 239 ]
تثنوني صدورهم: الشك في الله وعمل السيئات. يستغشون ثيابهم يستكبر، أو يستكن من الله والله يراه، يعلم ما يسرون وما يعلنون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأ: ألا إنهم تثنوني صدورهم قال عكرمة: تثنوني صدورهم، قال: الشك في الله وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه ويستكن من الله، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون. والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الامصار، وهو: ألا إنهم يثنون صدورهم على مثال يفعلون، والصدور نصب بمعنى: يحنون صدورهم ويكنونها. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: يثنون صدورهم يقول: يكنون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنعمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم يقول: يكتمون ما في قلوبهم. ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ألا إنهم يثنون صدورهم يقول: تثنوني صدورهم. وهذا التأويل الذي تأوله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا هكذا ذكر القراءة في الرواية. فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب لاجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويل من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم أو تناجوه بينهم. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لان قوله: ليستخفوا منه بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله: منه عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمد ذكر قبل،. فيجعل من ذكره (ص) وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صح أن ذلك كذلك، كان معلوما أنهم لم يحدثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله إلا بجهلهم به، فلما أخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سر أمورهم
[ 240 ]
وعلانيتها على أي حال كانوا تغشوا بالثياب أو ظهروا بالبراز، فقال: ألا حين يستغشون ثيابهم يعني: يتغشون ثيابهم يتغطونها ويلبسون، يقال منه: استغشى ثوبه وتغشاه، قال الله: واستغشوا ثيابهم وقالت الخنساء: أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري يعلم ما يسرون يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسر هؤلاء الجهلة بربهم، الظانون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها وثنوه، وما تناجوه بينهم فأخفوه وما يعلنون سواء عنده سرائر عباده وعلانيتهم إنه عليم بذات الصدور يقول تعالى قبل،. فيجعل من ذكره (ص) وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صح أن ذلك كذلك، كان معلوما أنهم لم يحدثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله إلا بجهلهم به، فلما أخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سر أمورهم
[ 240 ]
وعلانيتها على أي حال كانوا تغشوا بالثياب أو ظهروا بالبراز، فقال: ألا حين يستغشون ثيابهم يعني: يتغشون ثيابهم يتغطونها ويلبسون، يقال منه: استغشى ثوبه وتغشاه، قال الله: واستغشوا ثيابهم وقالت الخنساء: أرعى النجوم وما كلفت رعيتها وتارة أتغشى فضل أطماري يعلم ما يسرون يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسر هؤلاء الجهلة بربهم، الظانون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها وثنوه، وما تناجوه بينهم فأخفوه وما يعلنون سواء عنده سرائر عباده وعلانيتهم إنه عليم بذات الصدور يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر وحق وباطل وخير وشر، وما تستجنه مما لم يجنه بعد. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ألا حين يستغشون ثيابهم يقول: يغطون رؤسهم. قال أبو جعفر، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صدوركم الشك وفي شئ من توحيده أو أمره أو نهيه أو فيما ألزمكم الايمان به التصديق فتهلكوا بإعتقادكم ذلك. والله اعلم تم الجزء الحادي عشر من تفسير الامام محمد بن جرير الطبري ويليه الجزء الثاني عشر وأوله: القول في تأويل قوله تعالى (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها)