جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 7
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار الجزء السابع دار الفكر للطباع والنشر والتوزيع
[ 2 ]
جميع حقوق اعادة الطبع محفوظ للناشر 1415 ه / 1995 م
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة للذين صدقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به من أهل الاسلام، اليهود والذين أشركوا يعني عبدة الاوثان الذين اتخذوا الاوثان آلهة يعبدونها من دون الله. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا يقول: ولتجدن أقرب الناس مودة ومحبة. والمودة: المفعلة، من قول الرجل: وددت كذا أوده ودا وودا وودا ومودة: إذا أحببته. للذين آمنوا، يقول: للذين صدقوا الله ورسوله محمدا (ص). الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق واتباعه والاذعان به. وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر قدموا على رسول الله (ص) من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله (ص). وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه. ذكر من قال ذلك: 9608 - حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خصيف، عن سعيد بن جبير، قال: بعث النجاشي وفدا إلى النبي (ص)، فقرأ عليهم النبي (ص) فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم: ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا... إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلما حتى مات. قال: فقال رسول الله (ص): إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله (ص) بالمدينة والنجاشي بالحبشة.
[ 4 ]
9609 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. 9610 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى قال: كان رسول الله (ص) وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبي (ص) إلى النجاشي، فقالوا: إنه خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبي، وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون. فقدم أصحاب رسول الله (ص)، فأقاموا بباب النجاشي، فقالوا: أتأذن لاولياء الله ؟ فقال: ائذن لهم، فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك، لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ؟ فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ فقالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قال: يقول: هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه، ويقول في مريم: إنها العذراء البتول. قال: فأخذ عودا من الارض، فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود فكره المشركون قوله، وتغيرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا: نعم. قال: اقراءوا فقرءوا، وهنا لك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى، فعرفت كل ما قرءوا، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول... الآية. 9611 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى... الآية. قال: بعث النجاشي إلى رسول الله (ص) اثني عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله
[ 5 ]
عليه فيهم: وإنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشي. فهاجر النجاشي معهم، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله (ص) والمسلمون واستغفروا له. 9612 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء في قوله: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى... الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين. وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الايمان فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) آمنوا به. ذكر من قال ذلك: 9613 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، فقرأ حتى بلغ: فاكتبنا مع الشاهدين: أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى، ويؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث الله نبيه محمدا (ص) صدقوا به وآمنوا، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون. والصواب في ذلك من القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى، أن نبي الله (ص) يجدهم أقرب الناس ودادا لاهل الايمان بالله ورسوله، ولم يسم لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الاسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه. وأما قوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا فإنه يقول: قربت مودة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا. والقسيسون: جمع قسيس، وقد يجمع القسيس: قسوس، لان القس والقسيس بمعنى واحد. وكان ابن زيد يقول في القسيس بما: 9614 - حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: القسيسين: عبادهم.
[ 6 ]
وأما الرهبان، فإنه يكون واحدا وجمعا فأما إذا كان جمعا، فإن واحدهم يكون راهبا، ويكون الراهب حينئذ فاعلا من قول القائل: رهب الله فلان، بمعنى: خافه، يرهبه رهبا ورهبا، ثم يجمع الراهب رهبان، مثل راكب وركبان، وفارس وفرسان. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر: رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف العقول الفادر وقد يكون الرهبان واحدا، وإذا كان واحدا كان جمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين. ويجوز جمعه أيضا رهابنة إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل واختلف أهل التأويل في المعني بقوله: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا فقال بعضهم: عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتبعوه على شريعته. ذكر من قال ذلك:
[ 7 ]
9615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن حصين عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا قال: كانوا نواتي في البحر يعني ملاحين قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الاسلام فأجابوه. قال: فذلك قوله: قسيسين ورهبانا. وقال آخرون: بل عني بذلك القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: 9616 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، قال: ثنا عنبسة عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو اثنان وستون من الحبشة، كلهم صاحب صومعة، عليهم ثياب الصوف. 9617 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا قال: بعث النجاشي إلى النبي (ص) خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء. 9618 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخير فالخير. فدخلوا على رسول الله (ص)، فقرأ عليهم: يس والقرآن الحكيم فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون، وأنزل فيهم: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون... إلى قوله: يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لاهل الايمان بالله ورسوله أن ذلك إنما كان منهم لان منهم أهل اجتهاد في العبادة وترهيب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه لانهم أهل دين واجتهاد فيه ونصيحة لانفسهم في ذات الله، وليسوا
[ 8 ]
كاليهود الذين قد دربوا بقتل الانبياء والرسل ومعاندة الله في أمره ونهيه وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) *. يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى الذين وصفت لك يا محمد صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ما أنزل إليك من الكتاب يتلى، ترى أعينهم تفيض من الدمع. وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه ثم سيلانه منها كفيض النهر من الماء، وفيض الاناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه ومنه قول الاعشى: ففاضت دموعي فطل الشؤن داما انحدارا وقوله: مما عرفوا من الحق يقول: فيض دموعهم لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حق. كما: 9619 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال: بعث النجاشي إلى النبي (ص) اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله (ص) القرآن فبكوا. وكان منهم
[ 9 ]
سبعة رهبان وخمسة قسيسون، أو خمسة رهبان وسبعة قسيسون، فأنزل الله فيهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع... إلى آخر الآية. 9620 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عمر بن علي بن مقدم، قال: سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، قال: نزلت في النجاشي وأصحابه: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع. حدثنا هناد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله: ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق قال: ذلك في النجاشي. حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كانوا يرون أن هذه الآية أنزلت في النجاشي: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع. 9621 - حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: قال ابن إسحاق، سألت الزهري عن الآيات: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع... الآية. وقوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه. وأما قوله: يقولون فإنه لو كان بلفظ اسم كان نصبا على الحال، لان معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين ربنا آمنا. ويعني بقوله تعالى ذكره: يقولون ربنا آمنا أنهم يقولون: يا ربنا صدقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد (ص) من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك وأنه الحق لا شك فيه. وأما قوله: فاكتبنا مع الشاهدين فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما: 9622 - حدثنا به هناد قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي وابن نمير
[ 10 ]
جميعا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: اكتبنا مع الشاهدين قال: أمة محمد (ص). 9623 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: فاكتبنا مع الشاهدين مع أمة محمد (ص). حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: فاكتبنا مع الشاهدين يعنون بالشاهدين: محمدا (ص) وأمته. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: فاكتبنا مع الشاهدين قال محمد (ص) وأمته، أنهم شهدوا أنه قد بلغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت. حدثنا الربيع، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن زكريا، قال: ثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحرث بن عبد العزيز، غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا. فكأن متأول هذا التأويل قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا فذهب ابن عباس إلى أن الشاهدين هم الشهداء في قوله: لتكونوا شهداء على الناس وهم أمة محمد (ص). وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام: يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لانبيائك يوم القيامة أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك. ولو قال قائل: معنى ذلك: فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق، كان صوابا لان ذلك خاتمة قوله: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده شهادتهم بذلك، ويلحقهم في الثواب
[ 11 ]
والجزاء منازلهم. ومعنى الكتاب في هذا الموضع: الجعل، يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عدادهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد (ص) من كتابه، آمنوا به وصدقوا كتاب الله، وقالوا: ما لنا لا نؤمن بالله ؟ يقول: لا نقر بوحدانية الله وما جاءنا من الحق يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمع بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين يعني بالقوم الصالحين: المؤمنين بالله المطيعين له، الذين استحقوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. وإنما معنى ذلك: ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته مداخلهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلنا بمنازلهم ودرجاتنا بدرجاتهم في جناته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 9624 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين قال: القوم الصالحون: رسول الله (ص) وأصحابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) *. يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنات تجري من تحتها الانهار يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الانهار خالدين فيها يقول: دائما فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحولون عنها. وذلك جزاء المحسنين يقول: وهذا الذي جزيت هؤلاء القائلين بما وصفت عنهم من قيلهم على ما قالوا من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاء كل محسن في قيله وفعله. وإحسان المحسن في ذلك أن يوحد الله توحيدا خالصا محضا لا شرك فيه، ويقر بأنبياء الله
[ 12 ]
وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدي فرائضه، ويجتنب معاصيه، فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى: جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم) *. يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوة محمد (ص)، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك أصحاب الجحيم، يقول: هم سكانها واللابثون فيها. والجحيم: ما اشتد من النار، وهو الجاحم والجحيم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم (ص) أنه حق من عند الله لا تحرموا طيبات ما أحل لكم يعني بالطيبات: اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إياها، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الارض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيها المؤمنون كما فعل أولئك، ولا تعتدوا حد الله الذي حد لكم فيما أحل لكم وفيما حرم عليكم فتجاوزوا حده الذي حده، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحب من اعتدى حده الذي حده لخلقه فيما أحل لهم وحرم عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 9625 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر أبو زبيد، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين حرموا عليهم النساء، وامتنعوا من الطعام الطيب، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره، فنزت هذه الآية. 9626 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثني خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: كان أناس من أصحاب النبي (ص) هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء،
[ 13 ]
فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. 9627 - حدثني يعقوب قال: ثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذاو كذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختصوا، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تحرمو طيبات ما أحل الله لكم إلى قوله: الذي أنتم به مؤمنون. 9628 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال: كانوا حرموا الطيب واللحم، فأنزل الله تعالى هذا فيهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: ثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسا قالوا: لا نتزوج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. 9629 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: أراد أناس من أصحاب النبي (ص) أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا، فقام رسول الله (ص) فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. قال: ونزلت فيهم: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... الآية. 9630 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي (ص)، أرادوا أن يتخلوا من اللباس ويتركوا النساء و يتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. 9631 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال النبي (ص): لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا.
[ 14 ]
9632 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... الآية ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي (ص) رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع فلما بلغ ذلك رسول الله (ص)، قال: ليس في ديني ترك النساء واللحم، ولا اتخاذ الصوامع. وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله (ص) اتفقوا، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال أحدهم: أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أتي النساء. فبعث رسول الله (ص) إليهم، فقال: ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير. قال: لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. وكان في بعض القراءة: من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل. وذكر لنا أن نبي الله (ص) قال لاناس من أصحابه: إن من قبلكم شددوا على انفسهم فشدد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدور والصوامع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. 9633 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وذلك أن رسول الله (ص) جلس يوما، فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال أناس من أصحاب رسول الله (ص) كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم، فنحن نحرم. فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها: الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساء النبي (ص): ما بالك يا حولاء متغيرة اللون، لا تمتشطين ولا تطيبين ؟ فقالت: وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع علي زوجي ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسول الله (ص) وهن يضحكن، فقال: ما يضحككن ؟ قالت: يا رسول الله، الحولاء سألتها عن أمرها، فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا.
[ 15 ]
فأرسل إليه فدعاه، فقال: ما بالك يا عثمان ؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة. وقص عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه، فقال رسول الله (ص): أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك فقال: يا رسول الله إني صائم. قال: أفطر فأفطر وأتى أهله. فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت، فضحكت عائشة فقالت: ما بالك يا حولاء ؟ فقالت: إنه أتاها أمس. فقال رسول الله (ص): ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا يقول لعثمان: لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء. وأمرهم أن يكفروا أيمانهم، فقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان. 9634 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال: هم رهط من أصحاب النبي (ص) قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الارض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي (ص)، فأرسل إليهم، فذكر ذلك لهم، فقالوا: نعم، فقال رسول الله (ص): لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وذلك أن رجالا من أصحاب محمد (ص) منهم عثمان بن مظعون حرموا النساء واللحم على أنفسهم، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكي تنقطع الشهوة ويتفرغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبي (ص)، فقال: ما أردتم ؟ فقالوا: أردنا أن نقطع الشهوة عنا ونتفرغ لعبادة ربنا ونلهو عن النساء. فقال رسول الله (ص): لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوج النساء. فقالوا: نطيع رسول الله (ص). فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين... إلى قوله: الذي أنتم به مؤمنون.
[ 16 ]
9635 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون. قال ابن جريج عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الاسود، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتلوا، فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما أكل ولبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين يقول: لا تستنوا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيام الليل، وما هموا له من الاخصاء. فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله (ص)، فقال: إن لانفسكم حقا، وإن لاعينكم حقا، صوموا وأفطروا وصلوا وناموا فليس منا من ترك سنتنا. فقالوا: اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت. 9636 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال: قال أبى: ضاف عبد الله بن رواحة ضيف، فانقلب ابن رواحة ولم يتعش، فقال لاهله: ما عشيته ؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي. قال: فحبست ضيفي من أجلي ؟ فطعامك علي حرام إن ذقته فقالت: هي وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه وقال الضيف: هو علي حرام إن لم تذوقوه فلما رأى ذلك، قال ابن رواحة: قربي طعامك، كلوا بسم الله وغدا إلى النبي (ص)، فأخبره، فقال رسول الله (ص): قد أحسنت فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... وقرأ حتى بلغ: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان إذا قلت: والله لا أذوقه، فذلك العقد. 9637 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي، فحرمت اللحم. فأنزل الله تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
[ 17 ]
9638 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: هم أناس من أصحاب رسول الله (ص) بترك النساء والخصاء، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... الآية. واختلفوا في معنى الاعتداء الذي قال تعالى ذكره: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين فقال بعضهم: الاعتداء الذي نهي الله عنه في هذا الموضع هو ما كان عثمان بن مظعون هم به من جب نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له: هذا هو الاعتداء. وممن قال ذلك السدي. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عنه به. وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله (ص) هموا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك وأن يستنوا بغير سنة نبيهم محمد (ص). وممن قال ذلك عكرمة. 9639 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عنه به. وقال بعضهم: بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام. ذكر من قال ذلك: 9640 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا قال: لا تعتدوا إلى ما حرم عليكم. وقد بينا أن معنى الاعتداء: تجاوز المرء ماله إلى ما ليس له في كل شئ، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: لا تعتدوا النهي عن العدوان كله، كان الواجب أن يكون محكوما لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له. وليس لاحد أن يتعدى حد الله تعالى في شي من الاشياء مما أحل أو حرم، فمن تعداه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: إن الله لا يحب المعتدين. وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين هموا من أصحاب رسول الله (ص) بما هموا به من تحريم بعض ما أحل الله لهم على أنفسهم، ويكون
[ 18 ]
مرادا بحكمها كل من كان في مثل معناهم ممن حرم على نفسه ما أحل الله له أو أحل ما حرم الله عليه أو تجاوز حدا حده الله له، وذلك أن الذين هموا بما هموا به من تحريم بعض ما أحل لهم على أنفسهم إنما عوتبوا على ما هموا به من تجاوزهم ما سن لهم وحد إلى غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) *. يقول تعالى ذكره لهؤلاء المؤمنين الذين نهاهم أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم: كلوا أيها المؤمنون من رزق الله الذي رزقكم وأحله لكم حلالا طيبا. كما: 9641 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا يعني: ما أحل الله لهم من الطعام. وأما قوله: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون فإنه يقول: وخافوا أيها المؤمنون أن تعتدوا في حدوده، فتحلوا ما حرم عليكم وتحرموا ما أحل لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه فينزل بكم سخطه، أو تستوجبوا به عقوبته. الذي أنتم به مؤمنون يقول: الذي أنتم بوحدانيته مقرون وبربوبيته مصدقون. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) *. يقول تعالى ذكره للذين كانوا حرموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله (ص) وكانوا حرموا ذلك بأيمان حلفوا بها، فنهاهم عن تحريمها، وقال لهم: لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم. كما: 9642 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله،
[ 19 ]
كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله تعالى ذكره: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم... الآية. فهذا يدل على ما قلنا من أن القوم كانوا حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز وبعض البصريين: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان بتشديد القاف، بمعنى: وكدتم الايمان ورددتموها وقراء الكوفيين: بما عقدتم الايمان بتخفيف القاف، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعزمت عليها قلوبكم. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف القاف، وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل فعلت في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردد مرة بعد مرة، مثل قولهم: شددت على فلان في كذا إذا كرر عليه الشد مرة بعد أخرى، فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرة واحدة قيل: شددت عليه بالتخفيف. وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة وإن لم يكررها الحالف مرات، وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه وإن لم يكرره ولم يردده وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لتشديد القاف من عقدتم وجه مفهوم. فتأويل الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها المؤمنون من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها وعقدت عليه قلوبكم. وقد بينا اليمين التي هي لغو والتي الله مؤاخذ العبد بها، والتي فيها الحنث والتي لا حنث فيها، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. وأما قوله: بما عقدتم الايمان فإن هنادا: 9643 - حدثنا قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان قال: بما تعمدتم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 20 ]
9644 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان يقول: ما تعمدت فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة القول في تأويل قوله تعالى: فكفارته إطعام عشرة مساكين. اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: فكفارته على ما هي عائدة، ومن ذكر ما ؟ فقال بعضهم: هي عائدة على ما التي في قوله: بما عقدتم الايمان. ذكر من قال ذلك: 9645 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية: لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم قال: هو أن تحلف على الشئ وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلفت عليه على علم. 9646 - حدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: اللغو ليس فيه كفارة ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان قال: ما عقد فيه يمينه فعليه الكفارة. 9647 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: الايمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها. فأما اليمين التي تكفر، فالرجل يحلف على الامر لا يفعله ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الامر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الامر يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو. 9648 - حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء، قال: قالت عائشة: لغو اليمين ما لم يعقد عليه الحالف قلبه. 9649 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا هشام، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، قال: ليس في لغو اليمين كفارة.
[ 21 ]
9650 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عروة حدثه أن عائشة قالت: أيمان الكفارة كل يمين حلف فيها الرجل على جد من الامور في غضب أو غيره ليفعلن ليتركن، فذلك عقد الايمان التي فرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره: لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان. 9651 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة، قالا: ليس في لغو اليمين كفارة. 9652 - حدثنا بشر، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان يقول: ما تعمدت فيه المأثم فعليك فيه الكفارة. قال: وقال قتادة: أما اللغو فلا كفارة فيه. حدثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: لا كفارة في لغو اليمين. 9653 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمرو العبقري، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة. فمعنى الكلام على هذا التأويل: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان، فكفارة ما عقدتم منها: إطعام عشرة مساكين. وقال آخرون: الهاء في قوله: فكفارته عائدة على اللغو، وهي كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الايمان فأقمتم على المضي عليه بترك الحنث والكفارة فيه، والاقامة على المضي عليه غير جائزة لكم، فكفارة اللغو منها إذا حنثتم فيه: إطعام عشرة مساكين. ذكر من قال ذلك: 9654 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لا يؤاخذكم بما عقدتم الايمان قال: هو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن
[ 22 ]
يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. وقال مرة أخرى قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم)... إلى قوله: بما عقدتم الايمان قال: واللغو من اليمين هي التي تكفر لا يؤاخذ الله بها، ولكن من أقام على تحريم ما أحل الله له ولم يتحول عنه ولم يكفر عن يمينه، فتلك التي يؤاخذ بها. 9655 - حدثنا هناد، قال: ثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، قوله: لا يؤاخذكم بما عقدتم الايمان قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفر. 9656 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن سعيد بن جبير: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم قال: هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى، يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين. 9657 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أو لا تقرأ فتفهم ؟ قال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان قال: فلا يؤاخذه بالالغاء، ولكن يؤاخذه بالمقام عليها. قال: وقال: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم قال: هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع ؟ قال: يكفر يمينه، ويترك المعصية. 9658 - حدثني يحيى بن جعفر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم قال: اليمين المكفرة. 9659 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: اللغو: يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة. والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون الهاء في قوله: فكفارته عائدة على ما التي في قوله: بما عقدتم الايمان لما قدمنا فيما مضى قبل أن من لزمته
[ 23 ]
في يمينه كفارة وأوخذ بها، غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ: لا يؤاخذه الله باللغو وفي قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذ بوجه من الوجوه من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ. فإن ظن ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثتم وكفرتم، لا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه على الظاهر العام عندنا بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع فأغنى عن إعادته، دون الباطن العام الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر ولا دلالة من عقل ولا خبر، أنه عنى تعالى ذكره بقوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم بعض معاني المؤاخذة دون جميعها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلوما أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها. وإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها الناس بلغو من القول والايمان إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ولا خلاف أمره ولم تقصدوا بها إثما، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الاثم وأوجبتموه على أنفسكم وعزمت عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطى على سئ ما كان منكم من كذب وزور قول ويمحوه عنكم، فلا يتبعكم به ربكم إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم. القول في تأويل قوله تعالى: من أوسط ما تطعمون أهليكم. يعني تعالى ذكره بقوله: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) *: أعدله. كما: 9660 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول في هذه الآية: من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم قال عطاء: أوسطه: أعدله، واختلف أهل التأويل في معنى قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر أهاليهم. ذكر من قال ذلك: 9661 - حدثنا هناد، قال: أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الاسود، قال: سألته عن: أوسط ما تطعمون أهليكم قال: الخبز والتمر والزيت والسمن، وأفضله اللحم.
[ 24 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الله بن حنش، قال: سألت الاسود بن يزيد، عن ذلك، فقال: الخبز والتمر. زاد هناد في حديثه: الزيت، قال: وأحسبه الخل. 9662 - حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا أبو الاحوص، عن عاصم الاحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر: من أوسط ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، والخبز والخل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، قال: سألت الاسود بن يزيد عن أوسط ما تطعمون أهليكم ؟ قال: الخبز والتمر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عبد الله بن حنش، قال: سألت الاسود بن يزيد، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: الخبز والسمن. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أزهر، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: من أوسط ما تطعمون أهليكم الخبز والسمن. 9664 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه: الخبز والسمن، وأخسه: الخبز والتمر. 9665 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن، قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن.
[ 25 ]
9666 - حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: الخبز واللحم والمرقة. 9667 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا زائدة، عن يحيى بن حبان الطائي، قال: كنت عند شريح، فأتاه رجل، فقال: إني حلفت على يمين فأثمت قال شريح: ما حملك على ذلك ؟ قال: قدر علي، فما أوسط ما أطعم أهلي ؟ قال له شريح: الخبز والزيت والخل طيب. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرار لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم ؟ قال: ذاك أرفع طعام أهلك وطعام الناس. 9668 - حدثنا هناد، قال: ينا أبو خالد الاحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، قال في كفارة اليمين: يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا، أو خبزا وسمنا، أو خلا وزيتا. 9669 - حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين: من أوسط ما تطعمون أهليكم خبز وزيت وخل. 9670 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن هشام بن محمد، قال: أكلة واحدة خبز ولحم. قال: وهو من أوسط ما تطعمون أهليكم، وإنكم لتأكلون الخبيص والفاكهة. 9671 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، وحدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما، فإن لم تجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم تجد فخبزا وخلا وزيتا حتى يشبعوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن زبرقان، قال: سألت أبا رزين، عن كفارة اليمين ما يطعم ؟ قال: خبزا وخلا وزيتا من أوسط ما تطعمون أهليكم، وذلك قدر قوتهم يوما واحدا. ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه. فقال بعضهم: مبلغ ذلك نصف صاع من حنطة، أو صاع من سائر الحبوب غيرها. ذكر من قال ذلك:
[ 26 ]
9672 - حدثنا هناد، ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر، قال: إني أحلف على اليمين ثم يبدو لي، فإذا رأيتني قد فعلت ذلك فأطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدان من حنطة. 9673 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، ويعلى عن الاعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير، قال: قال عمر: إني أحلف أن لا أعطي أقواما ثم يبدو لي أن أعطيهم، فإذا رأيتني فعلت ذلك، فأطعم عني عشرة مساكين بين كل مسكينين صاعا من بر أو صاعا من تمر. 9674 - حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. 9675 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم: من أوسط ما تطعمون أهليكم نصف صاع بر كل مسكين. 9676 - حدثنا هناد، قال: ثنا حفص عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعهم ؟ قال: لا، أعطهم مدين من حنطة، مدا لطعامه ومدا لادامه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم الحزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه. 9677 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو زيد، عن حصين، قال: سألت الشعبي، عن كفارة اليمين، فقال: مكوكين: مكوكا لطعامه، ومكوكا لادامه. 9678 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدين. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدين من بر في كفارة اليمين.
[ 27 ]
9679 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: مدان من طعام لكل مسكين. 9680 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا سعد بن يزيد أبو سلمة، قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكوك بر، ومكوك تمر، فما ترى في مكوك بر ؟ فقال: إن مكوك بر لا، أو مكوك تمر لا. قال يعقوب: قال ابن علية وقال أبو سلمة بيده، كأنه يراه حسنا، وقلب أبو سلمة يده. 9681 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين فيما وجب فيه الطعام: مكوك تمر، ومكوك بر لكل مسكين. 9682 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا. حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول: فإن أعطاهم في أيديهم فمكوك بر ومكوك تمر. 9683 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين. 9684 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: إطعام نصف صاع لكل مسكين. 9685 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: أوسط ما تطعمون أهليكم نصف صاع. 9686 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: فكفارته إطعام عشرة مساكين قال: الطعام لكل مسكين: نصف صاع من تمر أو بر. وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شئ من الحبوب مد واحد. ذكر من قال ذلك:
[ 28 ]
9687 - حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت، أنه قال في كفارة اليمين: مد من حنطة لكل مسكين. 9688 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال في كفارة اليمين: مد من حنطة لكل مسكين ربعه إدامه. حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه. 9689 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد. حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، قال: ثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مد من حنطة لكل مسكين. 9690 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفر اليمين بعشرة أمداد بالمد الاصغر. 9691 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين: ما يطعم ؟ قالا: مد لكل مسكين. 9692 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، قال: كان الناس إذا كفر أحدهم، كفر بعشرة أمداد بالمد الاصغر. 9693 - حدثنا هناد، قال: ثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: إطعام عشرة مساكين قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين. 9694 - حدثنا بشر، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: كان يقال: البر والتمر، لكل مسكين مد من تمر ومد من بر.
[ 29 ]
9695 - حدثنا أبو كريب وهناد، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين. 9696 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: من أوسط ما تعولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك مدا بمد رسول الله (ص) من حنطة. قال ابن زيد: هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه. 9697 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: مد. وقال آخرون: بل ذلك غداء وعشاء. ذكر من قال ذلك: 9698 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، قال في كفارة اليمين: يغديهم ويعشيهم. 9699 - حدثنا هناد، قال: ثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء. 9700 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: يغديهم ويعشيهم. وقال آخرون: إنما عنى بقوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم: من أوسط ما يطعم المكفر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعهم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره. ذكر من قال ذلك: 9701 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقدره.
[ 30 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلك من الشبع، أو نصف صاع من بر. 9702 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: من عسرهم ويسرهم. 9703 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: من عسرهم ويسرهم. 9704 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: قوتهم. حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير، في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: قوتهم. 9705 - حدثنا أبو حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، قال: ثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: كانوا يفضلون الحر على العبد والكبير على الصغير، فنزلت: من أوسط ما تطعمون أهليكم. حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحر ما لا يطعمون العبد، فقال: من أوسط ما تطعمون أهليكم. 9706 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم، وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس: من أوسط ما تطعمون أهليكم قال: من عسرهم ويسرهم.
[ 31 ]
9707 - حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان عن سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتا دونا وبعضهم قوتا فيه سعة، فقال الله: من أوسط ما تطعمون أهليكم الخبز والزيت. وأولى الاقوال في تأويل قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة. وذلك أن أحكام رسول الله (ص) في الكفارات كلها بذلك وردت، وذلك كحكمه (ص) في كفارة الحلق من الذى بفرق من طعام بين ستين مساكني لكل مسكين نصف صاع، وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا لكل مسكين ربع صاع. ولا يعرف له (ص) شئ من الكفارات أمر بإطعام خبز وإدام ولا بغداء وعشاء. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه (ص) من أن الواجب على مكفرها من الطعام مقدار للمساكين العشرة، محدود بكيل دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته (ص) في سائر الكفارات كذلك. فإذ كان صحيحا ما قلنا بما به استشهدنا، فبين أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم، وأن ما التي في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم بمعنى المصدر، لا بمعنى الاسماء. وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدان، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبي (ص) في كفارة في إطعام مساكين، وأعدل أقوات المقتر على أهله وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين. وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين الخيز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدوا أو يعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم: من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا ما التي في قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم اسما لا مصدرا، فأوجبوا على المكفر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الاغذية. وذلك مذهب لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله (ص) في الكفارات غيرها التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها.
[ 32 ]
القول في تأويل قوله تعالى: أو كسوتهم. يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الايمان إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. يقول إما أن تطعموهم أو تكسوهم، والخيار في ذلك إلى المكفر. واختلف أهل التأويل في الكسوة التي عنى الله بقوله: أو كسوتهم فقال بعضهم: عنى بذلك كسوة ثوب واحد. ذكر من قال ذلك: 9708 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوب. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت. 9709 - حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن، قال في كفارة اليمين في قوله: أو كسوتهم ثوب لكل مسكين. 9710 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: أو كسوتهم قال: ثوب. حدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير جميعا، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: أو كسوتهم قال: ثوب. 9711 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: أو كسوتهم قال: ثوب ثوب. قال منصور: القميص، أو الرداء، أو الازار. 9712 - حدثنا أبو كريب وهناد، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، في قوله: أو كسوتهم قال: كسوة الشتاء والصيف ثوب ثوب. 9713 - حدثنا هناد، قال: قال ثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: أو كسوتهم قال: ثوب ثوب لكل مسكين. 9714 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبدة بن سلمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، في قوله: أو كسوتهم قال: إذا كساهم ثوبا ثوبا أجزأ عنه.
[ 33 ]
9715 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن ابن سنان، عن حماد، قال: ثوب أو ثوبان، وثوب لا بد منه. 9716 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان، وقد كانت العباءة تقضي يومئذ من الكسوة. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أو كسوتهم قال: الكسوة: عباءة لكل مسكين أو شملة. 9717 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، قال: ثوب، أو قميص، أو رداء، أو إزار. 9718 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحب اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسي كل إنسان عباءة. 9719 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول في قوله: أو كسوتهم الكسوة: ثوب ثوب. وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوة ثوبين ثوبين. ذكر من قال ذلك: 9720 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية جميعا، عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب، في قوله: أو كسوتهم قال: عباءة وعمامة. حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن داود ابن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، قال: عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. 9721 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن عبد الله الانصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين، قالا: ثوبين ثوبين.
[ 34 ]
9722 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن يونس، عن الحسن، قال: ثوبين. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله. حدثنا أبو كريب وهناد، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين. 9723 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن المبارك، عن عاصم الاحول، عن ابن سيرين، عن أبي موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من معقدة البحرين. حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من معقدة البحرين. 9724 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الاعلى: أن أبا موسى الاشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين. 9725 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، قال: عباءة وعمامة لكل مسكين. 9726 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 9727 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا داود بن أبي هند، قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: أو كأسوتهم فقال سعيد: لا إنما هي: أو كسوتهم. قال: فقلت: يا أبا محمد ما كسوتهم ؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة، عباءة يلتحف بها، وعمامة يشد بها رأسه. 9728 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أو كسوتهم قال: الكسوة لكل مسكين: رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.
[ 35 ]
وقال آخرون: بل عنى بذلك: كسوتهم: ثوب جامع، كالملحفة والكساء والشئ الذي يصلح للبس والنوم. ذكر من قال ذلك: 9729 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الاحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم، قال: الكسوة: ثوب جامع. 9730 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا: ثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: أو كسوتهم قال: ثوب جامع. قال: وقال مغيرة: والثوب الجامع الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: ثوب جامع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: ثوب جامع. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أو كسوتهم قال: ثوب جامع لكل مسكين. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: أو كسوتهم قال: ثوب جامع. 9731 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله. وقال آخرون: عنى بذلك كسوة إزار ورداء وقميص. ذكر من قال ذلك: 9732 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن بردة، عن نافع، عن ابن عمر، قال في الكسوة في الكفارة: إزار، ورداء، وقميص. وقال آخرون: كل ما كسا فيجزي، والآية على عمومها. ذكر من قال ذلك: 9733 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد، قال: يجزي في كفارة اليمين كل شئ إلا التبان.
[ 36 ]
9734 - حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن، قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين. 9735 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال: قال سلمان: نعم الثوب التبان. 9736 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم، قال: عمامة يلف بها رأسه. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن قول من قال: عنى بقوله: أو كسوتهم: ما وقع عليه اسم كسوة مما يكون ثوبا فصاعدا، لان ما دون الثوب لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك خارجا من أن يكون الله تعالى عناه بالنقل المستفيض، والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ولا من رسوله (ص) خبر ولم يكن من الامة إجماع بأنه غير داخل في حكمها، وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك. القول في تأويل قوله تعالى: أو تحرير رقبة. يعني تعالى ذكره بذلك: أو فك عبد من أسر العبودة وذلها. وأصل التحرير: الفك من الاسر، ومنه قول الفرزدق بن غالب: أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال يعني بقوله: حررتكم: فككت رقابكم من ذل الهجاء ولزوم العار. وقيل: تحرير رقبة، والمحرر صاحب الرقبة، لان العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقيد أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الاسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الاسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره، كما يقال: قبض فلان يده عن فلان: إذا أمسك يده عن نواله وبسط فيه لسانه: إذا قال فيه سوءا، فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم وعلمهم بمعنى ذلك فكذلك ذلك في
[ 37 ]
قول الله تعالى ذكره: أو تحرير رقبة أضيف التحرير إلى الرقبة وإن لم يكن هناك غل في رقبته ولا شد يد إليها، وكان المراد بالتحرير نفس العبد بما وصفنا من جرى استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه. فإن قال قائل: أفكل الرقاب معنى بذلك أو بعضها ؟ قيل: بل معنى بذلك كل رقبة كانت سليمة من الاقعاد والعمى والخرس وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك، فإن من كان به ذلك أو شئ منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزي في كفارة اليمين. فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. ذكر من قال ذلك: 9737 - حدثنا هناد، قال: ثنا مغيرة، عن إبراهيم، أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نسمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل فأما الذي يعمل، كالاعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزي كالاعمى والمقعد. 9738 - حدثنا هناد، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: كان يكره عتق المخبل في شئ من الكفارات. 9739 - حدثنا هناد، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شئ من الكفارات. وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها. ذكر من قال ذلك: 9740 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح.
[ 38 ]
9741 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: يجزئ المولود في الاسلام من رقبة. 9742 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الاعمش، عن إبراهيم، قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة. فلا يجزئ إلا ما صام وصلى، وما كان ليس بمؤمنة فالصبي يجزئ. وقال بعضهم: لا يقال للمولود رقبة إلا بعد مدة تأتي عليه. ذكر من قال ذلك: 9743 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان، قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى عم بذكر الرقبة كل رقبة، فأي رقبة حررها المكفر يمينه في كفارته فقد أدى ما كلف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفار بظاهر التنزيل. والمكفر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، بإجماع من الجميع لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظن ظان أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ليس كما قلنا لما: 9744 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، قال: ثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء نعمان بن مقرن إلى عبد الله، فقال: إني آليت من النساء والفراش فقرأ عبد الله هذه الآية: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين قال: فقال نعمان: إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية. فقال عبد الله: ائت النساء ونم وأعتق رقبة، فإنك موسر.
[ 39 ]
حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم أن سليمان الاعمش حدثه عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحرث: أن نعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود، فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة فقال ابن مسعود: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كفر عن يمينك ونم على فراشك قال: بم أكفر عن يميني ؟ قال: أعتق رقبة فإنك موسر. ونحو هذا من الاخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه بالتكفير به من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزى عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لانه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال: لا يجزى الموسر التكفير إلا بالرقبة. والجميع من علماء الامصار قديمهم وحديثهم مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر، ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره. القول في تأويل قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. يقول تعالى ذكره: فمن لم يجد لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد (ص) فصيام ثلاثة أيام يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام. ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله: فمن لم يجد ومتى يستحق الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة اسم غير واجد حتى يكون ممن له الصيام في ذلك ؟ فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته فإن له أن يكفر بالصيام، فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفير بالاطعام أو الكسوة ولم يجزه الصيام حينئذ وممن قال ذلك الشافعي. حدثنا بذلك عنه الربيع. وهذا القول قصد إن شاء الله من أوجب الطعام على من كان عنده درهمان من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. وبنحو ذلك: 9745 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد ابن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم. قال: يعني في الكفارة. 9746 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني معتمر بن سليمان، قال: قلت
[ 40 ]
لعمر بن راشد: الرجل يحلف، ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ؟ قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام. 9747 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: ثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال: إذا كان عنده درهمان. 9748 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن سعيد بن جبير، قال: ثلاثة دراهم. وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده مئتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد. وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالاطعام أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية من المال ما يتصرف به لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه. وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم لان إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق حق قد أوجبه الله تعالى في ماله وجوب الدين، وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرق ماله بين غرمائه أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بد له من قوته وقوت عياله يومه وليلته، فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله. واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين، فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الايام الثلاثة غير مفرقها. ذكر من قال ذلك: 9749 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر. 9750 - حدثنا أبو كريب وهناد، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: كان أبي بن كعب يقرأ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات.
[ 41 ]
حدثنا عبد الاعلى بن واصل الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع ابن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9751 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن قزعة بن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9752 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: في قراءتنا: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله. 9753 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: في قراءة أصحاب عبد الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9754 - حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، قال: في قراءة عبد الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9755 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق: في قراءة عبد الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9756 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن الاعمش، قال: كان أصحاب عبد الله يقرءون: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. 9757 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، قال: سمعت سفيان، يقول: إذا فرق صيام ثلاثة أيام لم يجزه. قال: وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر، قال: يستقبل الصوم. 9758 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فصيام ثلاثة أيام قال: إذا لم يجد طعاما وكان في بعض القراءة: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وبه كان يأخذ قتادة. 9759 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح،
[ 42 ]
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الاول فالاول، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقال آخرون: جائز لمن صامهن أن يصومهن كيف شاء مجتمعات ومفترقات. ذكر من قال ذلك: 9760 - حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يصام تباعا أعجب، فإن فرقها رجوت أن تجزي عنه. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أوجب على من لزمته كفارة يمين إذا لم يجد إلى تكفيرها بالاطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا، أن يكفرها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرط في ذلك متتابعة، فكيفما صامهن المكفر مفرقة ومتتابعة أجزأه لان الله تعالى إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتى بصومهن أجزأ. فأما ما روي عن أبي وابن مسعود من قراءتهما فصيام ثلاثة أيام متتابعات فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد بشئ ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غير أني أختار للصائم في كفارة اليمين أن يتابع بين الايام الثلاثة ولا يفرق، لانه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته. وهم في غير ذلك مختلفون، ففعل ما لا يختلف في جوازه أحب إلي وإن كان الآخر جائزا. القول في تأويل قوله تعالى: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون. يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم من إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الايام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم واحفظوا أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم. كذلك يبين الله لكم آياته كما بين لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته، يعني: أعلام دينه، فيوضحها لكم، لئلا يقول المضيع المفرط فيما ألزمه الله: لم أعلم حكم الله في ذلك. لعلكم تشكرون يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 43 ]
* (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) *. وهذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبي (ص) تشبها منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيه (ص) كتابه ينهاهم عن ذلك، فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضا في حدودي، فتحلوا ما حرمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز كما غير جائز لكم تحريم ما حللت، وإني لا أحب المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرم عليهم مما إذا استحلوه، وتقدموا عليه كانوا من المعتدين في حدوده، فقال لهم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها والميسر الذي تتياسرونه والانصاب التي تذبحون عندها والازلام التي تستقسمون بها رجس يقول: إثم ونتن، سخطه الله وكرهه لكم من عمل الشيطان يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجزر، وذبحكم للانصاب، واستقسامكم بالازلام من تزيين الشيطان لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الاعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم. فاجتنبوه يقول: فاتركوه وارفضوه، ولا تعلموه. لعلكم تفلحون يقول: لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم، بترككم ذلك. وقد بينا معنى الخمر والميسر والازلام فيما مضى فكرهنا إعادته. وأما الانصاب، فإنها جمع نصب، وقد بينا معنى النصب بشواهده فيما مضى. وروي عن ابن عباس في معنى الرجس في هذا الموضع، ما: 9761 - حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: رجس من عمل الشيطان يقول: سخط. وقال ابن زيد في ذلك، ما:
[ 44 ]
9762 - حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: رجس من عمل الشيطان قال: الرجس: الشر. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) *. يقول تعالى ذكره: إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ويحسن ذلك لكم إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، ليعادي بعضكم بعضا، ويبغض بعضكم إلى بعض، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالايمان وجمعه بينكم بأخوة الاسلام. ويصدكم عن ذكر الله يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم ربكم. فهل أنتم منتهون يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لاوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم. واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله (ص)، وسأل الله تحريمها. ذكر من قال ذلك: 9763 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال: فنزلت الآية التي في البقرة: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس قال: فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية في النساء: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. قال: وكان منادي النبي (ص) ينادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربن الصلاة السكران قال: فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال: فنزلت الآية التي في المائدة: يا أيها الذين
[ 45 ]
آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس... إلى قوله: فهل أنتم منتهون فلما انتهى إلى قوله: فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا انتهينا حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا أبي، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فإنها تذهب بالعقل والمال ثم ذكر نحو حديث وكيع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال عمر بن الخطاب: اللهم بين لنا فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبيه وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. 9764 - حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدم رسول الله (ص) المدينة أتاه الناس، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فقالوا: هذا شئ قد جاء فيه رخصة، نأكل الميسر ونشرب الخمر، ونستغفر من ذلك. حتى أتى رجل صلاة المغرب، فجعل يقرأ: قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد. فجعل لا يجود ذلك ولا يدري ما يقرأ، فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان الناس يشربون الخمر حتى يجئ وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى: إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام... إلى قوله: فهل أنتم منتهون فقالوا: انتهينا يا رب
[ 46 ]
وقال آخرون: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلحي جمل، ففزر أنفه، فنزلت فيهما. ذكر الرواية بذلك: 9765 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة عن سماك بن حرب، عن مصعب ابن سعد عن أبيه سعد، أنه قال: صنع رجل من الانصار طعاما فدعانا، قال: فشربنا الخمر حتى انتشينا، فتفاخرت الانصار وقريش، فقالت الانصار: نحن أفضل منكم. قال: فأخذ رجل من الانصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره، فكان سعد أفزر الانف. قال: فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر... إلى آخر الآية. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن سماك، عن مصعب بن سعد، قال: قال سعد: شربت مع قوم من الانصار، فضربت رجلا منهم أظن بفك جمل فكسرته، فأتيت النبي (ص) فأخبرته، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر... إلى آخر الآية. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: شربت الخمر مع قوم من الانصار، فذكر نحوه. 9766 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث أن ابن شهاب أخبره أن سالم بن عبد الله حدثه: أن أول ما حرمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابا له شربوا، فاقتتلوا، فكسروا أنف سعد، فأنزل الله: إنما الخمر والميسر)... الاية. وقال آخرون: نزلت في قبيلتين من قبائل الخمر والميسر... الآية الانصار. ذكر من قال ذلك: 9767 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا
[ 47 ]
ربيعة بن كلثوم، عن جبير، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الانصار، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الاثر بوجهه ولحيته، فيقول: فعل بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رؤوفا رحيما ما فعل بي هذا حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله: إنما الخمر والميسر... إلى قوله: فهل أنتم منتهون. فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وقتل فلان يوم أحد، فأنزل الله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا... الآية. 9768 - حدثنا محمد بن خلف، قال: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي قيس، عن أبي بريدة، عن أبيه، قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتي رسول الله (ص) فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان... إلى آخر الآيتين: فهل أنتم منتهون، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم، إلى قوله: فهل أنتم منتهون. قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض في الاناء، فقال بالاناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا. وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر، فلذلك نهاهم الله عن الميسر. ذكر من قال ذلك: 9769 - حدثنا بشر، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه والله أعلم بالذي يصلح خلقه.
[ 48 ]
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى قد سمى هذه الاشياء التي سماها في هذه الآية رجسا وأمر باجتنابها. وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضي الله عنه في أمر الخمر، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الانصاري عند انتشائهما من الشراب، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يسره وبغضه. وليس عندنا بأي ذلك كان خبر قاطع للعذر، غير أنه أي ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميع أهل التكليف، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية، فالخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فرض على جميع من بلغته الآية من التكليف اجتناب جميع ذلك، كما قال تعالى: فاجتنبوه لعلكم تفلحون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) *. يقول تعالى ذكره: إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول في اجتنابكم ذلك واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجركم عنه من هذه المعاني التي بينها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالفوا الشيطان في أمره إياكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوة والبغضاء بينكم بالخمر والميسر. واحذروا يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عندما نهاكم عنه من هذه الامور التي حرمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقدكم عندما أمركم به فتوبقوا أنفسكم وتهلكوها. فإن توليتم يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به وتنتهوا عما نهيناكم عنه ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الايمان والتصديق بالله وبرسوله واتباع ما جاءكم به نبيكم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنذارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، مبينة لكم بيانا يوضح لكم سبيل الحق والطريق الذي أمرتم أن تسلكوه وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المرسل إليه دون الرسل. وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولى عن أمره
[ 49 ]
ونهيه، يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهي، فتوقعوا عقابي واحذروا سخطي. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) *. يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذ أنزل الله تحريم الخمر بقوله: إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: كيف بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها وبنا وقد كنا نشربها: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك في الحال التي لم يكن الله تع الى حرمه عليهم، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات يقول: إذا ما اتقى الله الاحياء منهم، فخافوه وراقبوه في اجتنابهم ما حرم عليهم منه وصدقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله. وعملوا الصالحات يقول: واكتسبوا من الاعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربهم. ثم اتقوا وآمنوا يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارمه بعد ذلك التكليف أيضا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والايمان به، ولم يغيروا ولم يبدلو. ثم اتقوا وأحسنوا يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفهم الله إلى الاحسان. وذلك الاحسان هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الاعمال، ولكنه نوافل تقربوا بها إلى ربهم طلب رضاه وهربا من عقابه. والله يحب المحسنين يقول: والله يحب المتقربين إليه بنوافل الاعمال التي يرضاها. فالاتقاء الاول: هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق وترك التبديل والتغيير والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالاحسان والتقرب بنوافل الاعمال. فإن قال قائل: ما الدليل على أن الاتقاء الثالث هو الاتقاء بالنوافل دون أن يكون ذلك بالفرائض ؟ قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إياها إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمها وصدقوا الله ورسوله في تحريمها وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك، وقد مضى ذكره في آية واحدة. وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه، جاءت الاخبار عن الصحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك: 9770 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع،
[ 50 ]
قال: ثنا أبي، عن إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه. 9771 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثني عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: بينا أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي دجانة، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعنا مناديا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال. وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا فأصبنا من طيب أم سليم ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله (ص) يقرأ: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون... إلى قوله: فهل أنتم منتهون. فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلة من مات منا وهو يشربها ؟ فأنزل الله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا... الآية. فقال رجل لقتادة: سمعته من أنس بن مالك ؟ قال: نعم، وقال رجل لانس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله (ص) ؟ قال: نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب. 9772 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فنزلت: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا... الآية. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: قال البراء: مات ناس من أصحاب رسول الله (ص) وهم يشربون الخمر، فلما
[ 51 ]
نزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي (ص): فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فنزلت هذه الآية: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات... الآية. 9773 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا فيمن قتل ببدر وأحد مع محمد (ص). 9774 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الاعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا قال رسول الله (ص): قيل لي أنت 9775 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا منهم سعيد، عن قتادة، قوله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا... إلى قوله: والله يحب المحسنين لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في سورة المائدة بعد سورة الاحزاب، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله (ص): أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهم يشربونها، فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة فأنزل الله تعالى ذكره: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين يقول: شربها القوم على تقوى من الله وإحسان وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك. 9776 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا قالوا: يا رسول الله، ما نقول لاخواننا الذين مضوا، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ؟ فأنزل الله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا يعني قبل التحريم إذا كانوا محسنين متقين. وقال مرة أخرى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا من الحرام قبل أن يحرم عليهم إذا ما اتقوا وأحسنوا بعد ما حرم وهو قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف.
[ 52 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي (ص) ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبل أن تحرم، فلما حرمت قالوا: كيف تكون علينا حراما وقد مات إخواننا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرمها إذا كانوا محسنين متقين، والله يحب المحسنين. 9777 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا لمن كان يشرب الخمر ممن قتل مع محمد (ص) ببدر وأحد. 9778 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح... الآية: هذا في شأن الخمر حين حرمت، سألوا نبي الله (ص)، فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله هذه الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ليبلونكم الله بشئ من الصيد يقول: ليختبرنكم الله بشئ من الصيد، يعني: ببعض الصيد. وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشئ، لانه لم يبلهم بصيد البحر وإنما ابتلاهم بصيد البر، فالابتلاء ببعض لم يمتنع. وقوله: تناله أيديكم يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النبل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجكم. وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 9779 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم قال: أيديكم صغار
[ 53 ]
حدثنا هناد، قال: الصيد، أخذ الفراخ والبيض. والرماح، قال: كبار الصيد ثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: تناله أيديكم ورماحكم قال: النبل، ورماحكم تنال كبير الصيد، وأيديكم تنال صغير الصيد، أخذ الفراخ والبيض. 9780 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حميد الاعرج، عن مجاهد في قوله: ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم قال: ما لا يستطيع أن يفر من الصيد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان، عن حميد الاعرج، عن مجاهد، مثله. 9781 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: أيديكم ورماحكم قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان الثوري، عن حميد الاعرج، وليث عن مجاهد في قوله: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفر. القول في تأويل قوله تعالى: ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله أيها المؤمنون ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهل طاعة الله والايمان به والمنتهون إلى حدوده وأمره ونهيه، من الذي يخاف الله، فيتقي ما نهاه عنه ويجتنبه خوف عقابه بالغيب، بمعنى: في الدنيا بحيث لا يراه. وقد بينا أن الغيب إنما هو مصدر قول القائل: غاب عني هذا الامر فهو يغيب غيبا وغيبة، وأن ما لم يعاين فإن العرب تسميه غيبا. فتأويل الكلام إذن: ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يعاينه.
[ 54 ]
وأما قوله: فمن اعتدى بعد ذلك فإنه يعني: فمن تجاوز حد الله الذي حده له بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحل ما حرم الله عليه منه بأخذه وقتله فله عذاب من الله أليم يعني: مؤلم موجع. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تقتلوا الصيد الذي بينت لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر وأنتم حرم يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة والحرم: جمع حرام، والذكر والانثى فيه بلفظ واحد، تقول: هذا رجل حرام وهذه امرأة حرام، فإذا قيل محرم، قيل للمرأة محرمة. والاحرام: هو الدخول فيه، يقال: أحرم القوم: إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحرم. فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة. وقوله: ومن قتله منكم متعمدا فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عباده حكم القاتل من المحرمين الصيد الذي نهاه عن قتله متعمدا. ثم اختلف أهل التأويل في صفة العمد الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارة والجزاء في قتله الصيد. فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله إحرامه في حال قتله، وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدا قتله فلا حكم عليه وأمره إلى الله. قالوا: وهذا أجل أمرا من أن يحكم عليه أو يكون له كفارة. ذكر من قال ذلك: 9782 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم من قتله منكم ناسيا لاحرامه متعمدا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرا لحرمه متعمدا لقتله، لم يحكم عليه. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في الذي يقتل الصيد متعمدا، وهو يعلم أنه محرم ومتعمد قتله، قال: لا يحكم عليه، ولا حج له.
[ 55 ]
وقوله: ومن قتله منكم متعمدا قال: هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ أن يصيبه، وهو ناس إحرامه، متعمدا لقتله، أو يصيبه وهو يريد غيره، فذلك يحكم عليه مرة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه ولا مريد غيره، فقد حل وليست له رخصة. ومن قتله ناسيا أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ومن قتله منكم متعمدا قال: متعمدا لقتله، ناسيا لا حرامه. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد، قال: العمد هو الخطأ المكفر. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا ليث قال: قال مجاهد: قول الله: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى أن يصيب الصيد وهو يريد غيره فيصيبه، فهذا العمد المكفر فأما الذي يصيبه غير ناس ولا مريد لغيره، فهذا لا يحكم عليه، هذا أجل من أن يحكم عليه. حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية: ومن قتله منكم متعمدا قال: يقتله متعمدا لقتله، ناسيا لاحرامه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، قال: ثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. 9783 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: قال ابن جريج: ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه ولا مريد غيره، فقد حل وليست له رخصة. ومن قتله ناسيا لحرمه أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر. 9784 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:
[ 56 ]
ومن قتله منكم متعمدا للصيد ناسيا لاحرامه، فمن اعتدى بعد ذلك متعمدا للصيد يذكر إحرامه. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا محمد بن أبي عدي، قال: ثنا إسماعيل بن مسلم، قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدا ذاكرا لا حرامه: لم يحكم عليه. قال إسماعيل، وقال حماد عن إبراهيم، مثل ذلك. 9785 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية: ومن قتله منكم متعمدا فجراء مثل ما قتل من النعم... الآية، فسألته، فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار أي ذلك شاء فعل، إن شاء أهدى وإن شاء أطعم وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرا، وقلت: ما سمعت فيه ؟ فتلكأ ساعة ثم جعل يضحك، ولا يخبرني، ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديا بالغ الكعبة، فإن لم يجد يحكم عليه ثمنه، فقوم طعاما فتصدق، فإن لم يجد عليه حكم الصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال أخبرني ابن جريج، قال: قال مجاهد: ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه ولا مريد غيره فقد حل وليست له رخصة، ومن قتله ناسيا أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر. 9786 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه الصيد وهو ناس لحرمه أو جاهل أن قتله غير محرم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله وهو يعرف أنه محروم وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ومن قتله منكم متعمدا قال: متعمدا لقتله، ناسيا لاحرامه. وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرم لقتل الصيد ذاكرا لحرمه. ذكر من قال ذلك: 9787 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: يحكم عليه في العمد والخطإ والنسيان.
[ 57 ]
9788 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا ابن جريج، وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: قال طاوس: والله ما قال الله إلا: ومن قتله منكم متعمدا. 9789 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني بعض أصحابنا عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطإ. يعني في المحرم يصيب الصيد. 9790 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم قال: إن قتله متعمدا أو ناسيا حكم عليه، وإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله. 9791 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غلظ عليهم في الخطأ كي يتقوا. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: ثنا الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا: ومن قتله منكم متعمدا. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله تعالى حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما، بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد ثم بين حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله، ولم يخصص به المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه، بل عم في التنزيل بإيجاب الجزاء كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا. وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ولا خبر لرسول الله (ص) ولا إجماع من الامة ولا دلالة من بعض هذه الوجوه. فإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لاحرامه، أو عامدا قتله ناسيا لاحرامه، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لاحرامه، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو: مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا
[ 58 ]
عدل من المسلمين أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد. وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بينا القول فيه في كتابنا كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لان قصدنا في هذا الكتاب الابانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر فنذكر أحكامه. وأما قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم فإنه يقول: وعليه كفارة وبدل، يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول مثل ما قتل من النعم. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: فجزاؤه مثل ما قتل من النعم. وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة وبعض البصريين: فجزاء مثل ما قتل من النعم بإضافة الجزاء إلى المثل وخفض المثل. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: فجزاء مثل ما قتل بتنوين الجزاء ورفع المثل بتأويل: فعليه جزاء مثل ما قتل. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: فجزاء مثل ما قتل بتنوين الجزاء ورفع المثل، لان الجزاء هو المثل، فلا وجه لاضافة الشئ إلى نفسه. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالاضافة، رأوا أن الواجب على قاتل الصيد أن يجزى مثله من الصيد بمثل من النعم وليس كذلك كالذي ذهبوا إليه، بل الواجب على قاتله أن يجزى المقتول نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى على قاتل الصيد، ولن يضاف الشئ إلى نفسه، ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه بالتنوين ونصب المثل. ولو كان المثل غير الجزاء لجاز في المثل النصب إذا نون الجزاء، كما نصب اليتيم إذ كان غير الاطعام في قوله: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة وكما نصب الاموات والاحياء ونون الكفات في قوله: ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا إذ كان الكفات غير الاحياء والاموات. وكذلك الجزاء، لو كان غير المثل لاتسعت القراءة في
[ 59 ]
المثل بالنصب إذا نون الجزاء، ولكن ذلك ضاق فلم يقرأه أحد بتنوين الجزاء ونصب المثل، إذ كان المثل هو الجزاء، وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدا، فعليه جزاء هو مثل ما قتل من النعم. ثم اختلف أهل العلم في صفة الجزاء، وكيف يجزى قاتل الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الاشياء به شبها من النعم، فيجزيه به ويهديه إلى الكعبة. ذكر من قال ذلك: 9792 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء ما قتل من النعم قال: أما جزاء مثل ما قتل من النعم، فإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة، وإن قتل بقرة أو أيلا أو أروى فعليه بقرة، أو قتل غزالا أو أرنبا فعليه شاة. وإن قتل ضبا أو حرباء أو يربوعا، فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن. 9793 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن أبي مجاهد، قال: سئل عطاء: أيغرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره ؟ قال: أليس يقول الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم ؟ 9794 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: عليه من النعم مثله. 9795 - حدثنا هناد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوم الجزاء دراهم ثم قوم الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعاما وجد جزاء. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم
[ 60 ]
عليه جزاؤه من النعم، فإن لم يجد نظركم ثمنه قال ابن حميد: نظركم قيمته فقوم عليه ثمنه طعاما، فصام مكان كل نصف صاع يوما، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما. قال: إنما أريد بالطعام: الصيام، فإذا وجد الطعام وجد جزاءه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فإن لم يجد هديا، قوم الهدي عليه طعاما وصام عن كل صاع يومين. حدثنا هناد. قال: عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه، فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعام ثم صام لكل نصف صاع يوما. 9796 - حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: ابتدرت وصاحب لي ظبيا في العقبة، فأصبته. فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل علي رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك، فقال: اذبح كبشا. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن الشعبي، قال: أخبرني قبيصة بن جابر نحوا مما حدث به عبد الملك. 9797 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: قتل صاحب لي ظبيا وهو محرم، فأمره عمر أن يذبح شاة، فيتصدق بلحمها ويسقي إهابها. 9798 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: قتل رجل من الاعراب وهو محرم ظبيا، فسأل عمر، فقال له عمر: أهد شاة. 9799 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن حصين، وحدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا حصين، عن الشعبي، قال: قال قبيصة بن جابر:
[ 61 ]
أصبت ظبيا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف، فقلت: يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من ذلك قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. قال: ثم قال: قتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمص الفتيا ؟ قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة. 9800 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: إذا قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه فعليه بدنة من الابل. 9801 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أرأيت إن قتلت صيدا فإذا هو أعور أو أعرج أو منقوص أغرم مثله ؟ قال: نعم، إن شئت. قلت: أوفي أحب إليك ؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولد الظبي ففيه ولد شاة، وإن قتلت ولد بقرة وحشية ففيه ولد بقرة إنسية مثله، فكل ذلك على ذلك. 9802 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: فجزاء مثل ما قتل من النعم: ما كان من صيد البر مما ليس له قرن الحمار والنعامة فعليه مثله من الابل، وما كان ذا قرن من صيد البر من وعل أو أيل فجزاؤه من البقر، وما كان من ظبي فمن الغنم مثله، وما كان من أرنب ففيها ثنية، وما كان من يربوع وشبهه ففيه حمل صغير، وما كان من جرادة أو نحوها ففيه قبضة من طعام، وما كان من طير البر ففيه أن يقوم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يوما. وإن أصاب فرخ طير برية أو بيضها فالقيمة فيها طعام أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على بكارة الابل، فما لقح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شئ فيه.
[ 62 ]
9803 - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال: أخبرني ابن جريج، قال: قال مجاهد: من قتله يعني الصيد ناسيا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر، فعليه مثله هديا بالغ الكعبة، فإن لم يجد ابتاع بثمنه طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له إن كان ذا يسار ما شاء، إن شاء يهدي جزورا أو عدلها طعاما أو عدلها صياما، أيهن شاء من أجل قوله: فجزاء أو كذا قال: فكل شئ في القرآن أو، فليختر منه صاحبه ما شاء. 9804 - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، قال: من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدا، فذلك الذي قال الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم. وأما كفارة طعام مساكين فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي، العصفور يقتل فلا يكون فيه. قال: أو عدل ذلك صياما، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله. وقال آخرون: بل يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته ندا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة. ذكر من قال ذلك: 9805 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبدة، عن إبراهيم، قال: ما أصاب المحرم من شئ حكم فيه قيمته. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، قال: سمعت إبراهيم يقول: في كل شئ من الصيد ثمنه. وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس ومن قال بقولهما: إن المقتول من الصيد يجزئ بمثله من النعم، كما قال الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم وقد قال الله تعالى: من النعم لان الدراهم ليست من النعم في شئ. فإن قال قائل: فإن الدراهم وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيا بما قتل من الصيد مثلا من النعم ؟ قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا أو سليما، أو كان المقتول من الصيد كبيرا أو سليما بقيمته من النعم إلا صغيرا أو معيبا، أيجوز له أن يشتري بقيمته
[ 63 ]
خلافه وخلاف صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجد إلا خلافه ؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله، ترك قوله في ذلك لان أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته ذلك فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا، وإذا أجازوا شرى مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرا معيبا، أجازوا في الهدي ما لا يجوز في الاضاحي، وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلاف لظاهر التنزيل وذلك أن الله تعالى أوجب على قاتل الصيد من المحرمين عمدا المثل من النعم إذا وجدوه وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم وهو إلى ذلك واجد سبيلا. ويقال لقائل: ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر: ما على قاتل ما لا تبلغ من الصيد قيمته ما يصاب به من النعم ما يجوز في الاضاحي من إطعام ولا صيام، لان الله تعالى إنما خير قاتل الصيد من المجرمين في أحد الثلاثة الاشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل سقط عنه فرض الآخرين، لان الخيار إنما كان له وله إلى الثلاثة سبيل فإذا لم يكون له إلى بعض ذلك سبيل بطل فرض الجزاء عنه، لانه ليس ممن عني بالآية نظير الذي قلت أنت إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالاطعام أو الصيام هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. القول في تأويل قوله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة. يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم، يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل. هديا يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل أن يهدي فيبلغ الكعبة. والهاء في قوله يحكم به عائدة على الجزاء، ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيا صغيرا حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرا حكما عليه من الضأن بكبير، وإن كان الذي أصاب حمار وحش حكما عليه ببقرة إن كان الذي أصاب كبيرا من البقر، وإن كان صغيرا فصغيرا، وإن كان المقتول ذكرا فمثله من ذكور البقر، وإن كان
[ 64 ]
أنثى فمثله من البقر أنثى، ثم كذلك ينظران إلى أشبه الاشياء بالمقتول من الصيد شبها من النعم فيحكمان عليه به كما قال تعالى. وبمثل الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف في ذلك بينهم. ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه: 9806 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كان رجلان من الاعراب محرمين، فأجاش أحدهما ظبيا فقتله الآخر، فأتيا عمر وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: وما ترى ؟ قال: شاة. قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة فلما مضيا، قال أحدهما لصاحبه: ما درى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه. فسمعها عمر، فردهما فقال: هل تقرآن سورة المائدة ؟ فقالا: لا. فقرأها عليهما: يحكم به ذوا عدل منكم. ثم قال: استعنت بصاحبي هذا. 9807 - حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيا في العقبة، فأصبته. فأتيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له، فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك. قال: فقال: اذبح كبشا قال يعقوب في حديثه: فقال لي اذبح شاة. فانصرفت فأتيت صاحبي، فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فقال صاحبي: انحر ناقتك فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل علي ضربا بالدرة، وقال: تقتل الصيد وأنت محرم وتغمص الفتيا إن الله تعالى يقول في كتابه: يحكم به ذوا عدل منكم هذا ابن عوف وأنا عمر. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن الشعبي، قال: أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك. 9808 - حدثنا هناد وأبو هشام، قالا: ثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا (حجاجا) فكنا إذا صلينا
[ 65 ]
الغداة، اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث. قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح، فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خششاءه، فركب ردعه ميتا. قال: فعظمنا عليه فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة، قال: وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت إلى صاحبه فكلمه قال: ثم أقبل علي الرجل، قال: أعمدا قتلته أم خطأ ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وأسق إهابها قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل عظم شعائر الله فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: يحكم به ذوا عدل منكم. قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدرة، قال: فعلا صاحبي ضربا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم قال: ثم أقبل علي فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني. قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شاب السن فسيح الصدر بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سئ، فيفسد الخلق السئ الاخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب 9809 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارق، قال: أوطأ أربد ضبا فقتله وهو محرم، فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر، ثم قال عمر: يحكم به ذوا عدل منكم.
[ 66 ]
9810 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما أن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك فقال ابن صفوان: بل أنت فقل فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان. 9811 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه قال: لو وجدت حكما عدلا لحكمت في الثعلب جديا، وجدي أحب إلي من الثعلب. 9812 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن بكير، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدا وهو محرم، وعنده ابن صفوان، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك، أو أقول فتصدقني قال: قل وأصدقك. 9813 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، قال: أخبرني ابن جرير البجلي، قال: أصبت ظبيا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك فأتيت عبد الرحمن وسعدا، فحكما علي تيسا أعفر. قال أبو جعفر: الاعفر: الابيض. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بإسناده عن عمر، مثله. 9814 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، قال: كان رجل على ناقة وهو محرم، فأبصر ظبيا يأوي إلى أكمة، فقال: لانظر أنا أسبق إلى هذه الاكمة أم هذا الظبي ؟ فوقعت عنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها. فأتى عمر، فذكر ذلك له، فحكم عليه هو وابن عوف عنزا عفراء. قال: وهي البيضاء.
[ 67 ]
9815 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيا وهو محرم. فأتى عمر فذكر ذلك له وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه، ثم أقبل على الرجل، فقال: أهد عنزا عفراء 9816 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شئ لم يمض فيه حكومة، استقبل به، فيحكم فيه ذوا عدل. 9817 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن يعلي، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا يسأل عبد الله بن عمر عن رجل أصاب ولد أرنب فقال: فيه ولد ماعز فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك ؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم. 9818 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، وسهل بن يوسف، عن حميد، عن بكر: أن رجلين أبصرا ظبيا وهما محرمان، فتراهنا، وجعل كل واحد منهما لمن سبق إليه. فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة، أتيا عمر يختصمان إليه وعنده عبد الرحمن بن عوف. فذكرا ذلك له، فقال عمر: هذا قمار، ولا أجيزه ثم نظر إلى عبد الرحمن، فقال: ما ترى ؟ قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قفى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عمر ما يقول حتى سأل الرجل فردهما عمر فقال: إن الله تعالى لم يرض بعمر وحده فقال: يحكم به ذوا عدل منكم وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف. وقال آخرون: بل ينظر العدلان إلى الصيد المقتول فيقومانه قيمته دراهم، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هديا. فالحاكمان يحكمان في قول هؤلاء بالقيمة، وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمته في الموضع الذي أصابه فيه. وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شئ حكم فيه قيمته، وهو قول جماعة من متفقهة الكوفيين.
[ 68 ]
وأما قوله: هديا فإنه مصدر على الحال من الهاء التي في قوله: يحكم به، وقوله: بالغ الكعبة من نعت الهدي وصفته. وإنما جاز أن ينعت به وهو مضاف إلى معرفة، لانه في معنى النكرة، وذلك أن معنى قوله: بالغ الكعبة يبلغ الكعبة، فهو وإن كان مضافا فمعناه التنوين، لانه بمعنى الاستقبال، وهو نظير قوله: هذا عارض ممطرنا فوصف بقوله: ممطرنا عارضا، لان في ممطرنا معنى التنوين، لان تأويله الاستقبال، فمعناه: هذا عارض يمطرنا، فكذلك ذلك في قوله: هديا بالغ الكعبة. القول في تأويل قوله تعالى: أو كفارة طعام مساكين. يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين. والكفارة معطوفة على الجزاء في قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة: أو كفارة طعام مساكين بالاضافة. وأما قراء أهل العراق، فإن عامتهم قرءوا ذلك بتنوين الكفارة ورفع الطعام: أو كفارة طعام مساكين. وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بتنوين الكفارة ورفع الطعام، للعلة التي ذكرناها في قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: أو كفارة طعام مساكين فقال بعضهم: معنى ذلك أن القاتل وهو محرم صيدا عمدا، لا يخلو من وجوب بعض هذه الاشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى من مثل المقتول هديا بالغ الكعبة، أو طعام مسكين كفارة لما فعل، أو عدل ذلك صياما، لانه مخير في أي ذلك شاء فعل، وأنه بأيها كان كفر فقد أدى الواجب عليه وإنما ذلك إعلام من الله تعالى عباده أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرج حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غير ذلك ما دام للمثل واجدا. قالوا: فإن لم يكن له واجدا، أو لم يكن للمقتول مثل من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين. ذكر من قال ذلك: 9819 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من
[ 69 ]
النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره قال: إذ قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد، أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمار أو وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الابل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما. والطعام مد مد يشبعهم. 9820 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: النبي (ص) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم... إلى قوله: يحكم به ذوا عدل منكم فالكفارة من قتل ما دون الارنب إطعام. 9821 - حدثنا هناد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن ابن عباس، قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاء ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد جزاءه قوم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يوما. قال: إنما أريد بالطعام: الصوم، فإذا وجد جزأ. 9822 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر: أو عدل ذلك صياما ليذوق قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهدي. 9823 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئا من الصيد عليه جزاؤه من النعم، فإن لم يجد قوم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم طعاما، ثم صام لكل نصف صاع يوما. 9824 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع صام له يوما، ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هدي فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يوما. كفارة طعام مساكين قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي. أو عدل ذلك صياما من الجزاء إذا لم يجد ما يشتري به هديا، أو ما يتصدق به، مما لا يبلع ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يوما. 9825 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال مجاهد: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: عليه من النعم مثله
[ 70 ]
هديا بالغ الكعبة، ومن لم يجد ابتاع بقيمته طعاما، فيطعم كل مسكين مدين، فإن لم يجد صام عن كل مدين يوما. 9826 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن قتله منكم متعمدا... إلى قوله: ومن عاد فينتقم الله منه قال: إذ قتل صيدا فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم، فإن لم يجد ما حكم عليه قوم الفداء كم هو درهما، وقدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، فصام عن كل مسكين يوما، ولا يحل طعام المسكين، لان من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء. 9827 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد مما جزاؤه شاة، فذلك الذي قال الله تعالى: فجزاء ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم وما كان من كفارة طعام مساكين مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي أو عدل ذلك صياما قال عدل النعامة أو العصفور، أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء، فقال: كل شئ في القرآن أو أو، فلصاحبه أن يختار ما شاء. 9828 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فإن لم يجد جزاء، قوم عليه الجزاء طعاما ثم صاع لكل صاع يومين، وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدا عمدا وهو محرم، الخيار بين إحدى الكفارات الثلاث وهي الجزاء بمثله من النعم والطعام والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين أو بعدل الطعام من الصيام. ذكر من قال ذلك: 9829 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، في قول الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما قال: إن أصاب إنسان محرم نعامة، فإن له أن كان ذا يسار أن يهدي ما شاء جزورا أو عدلها طعاما أو عدلها صياما. قال: كل شئ في القرآن أو أو، فليختر منه صاحبه ما شاء.
[ 71 ]
9830 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، في قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم قال: ما كان في القرآن أو كذا أو كذا، فصاحبه فيه بالخيار، أي ذلك شاء فعل. 9831 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أسباط وعبد الاعلى، عن داود، عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن أو أو، فهو فيه بالخيار، وما كان فمن لم يجد فالاول، ثم الذي يليه. 9832 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، مثله. 9833 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا ليث، عن عطاء ومجاهد، أنهما قالا في قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم قالا: ما كان في القرآن أو كذا أو كذا، فصاحبه فيه بالخيار أي ذلك شاء فعل. 9834 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: ما كان في القرآن أو كذا أو كذا، فصاحبه فيه بالخيار، أي ذلك شاء فعل. 9835 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن الحسن. قال: وأخبرنا عبيدة، عن إبراهيم قالا: كل شئ في القرآن أو أو، فهو بالخيار، أي ذلك شاء فعل. 9836 - حدثنا هناد، قال: ثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كل شئ في القرآن أو أو فصاحبه مخير فيه، وكل شئ فمن لم يجد فالاول، ثم الذي يليه. واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الاشياء الثلاثة في صفة اللازم له من التكفير بالاطعام والصوم إذا اختار الكفارة بأحدهما دون الهدي، فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فإن الواجب عليه أن يقوم المثل من النعم طعاما، ثم يصوم مكان كل مد يوما. ذكر من قال ذلك: 9837 - حدثنا هناد، قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما أو عدل ذلك صياما ؟ قال: إن أصاب ما عدله شاة أقيمت الشاة طعاما، ثم جعل مكان كل مد يوما يصومه.
[ 72 ]
وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالاطعام أو الصوم، أن يقوم الصيد المقتول طعاما، ثم يتصدق بالطعام إن اختار الصدقة، وإن اختار الصوم صام. ثم اختلفوا أيضا في الصوم، فقال بعضهم: يصوم لكل مد يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يوما. وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يوما. ذكر من قال: المتقوم للاطعام هو الصيد المقتول: 9838 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، عن قتادة: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد... الآية، قال: كان قتادة يقول: يحكمان في النعم، فإن كان ليس صيده ما يبلغ ذلك، نظروا ثمنه فقوموه طعاما، ثم صام مكان كل صاع يومين. وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالاطعام، لان من وجد سبيلا إلى التكفير بالاطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا، ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالاطعام في هذا الموضع ليدل على صفة التكفير بالصوم لا أنه جعل التكفير بالاطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد، وقد ذكرناه تأويل ذلك فيما مضى قبل. وأولى الاقوال بالصواب عندي في قوله الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدا مثل الذي قتل من النعم، لا القيمة إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم. وأولى الاقوال بالصواب عندي في قوله: أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما: أن يكون تخييرا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأي هذه الكفارات الثلاث شاء، لان الله تعالى جعل ما أوجب في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرا لذنبه في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حراما عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد، ثم جعل عليه إن حلقه جزاء من حلقه إياه، فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من إيذائه مخير في تكفيره، فعليه
[ 73 ]
ذلك بأي الكفارات الثلاث شاء، فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، وأنه مخير في تكفيره قتله الصيد بأي الكفارات الثلاث شاء، لا فرق بين ذلك. ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صياما، كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمت أن أحدهما مخير في تكفير ما جعل منه، عوض بأي الثلاث شاء، وأنكرت أن يكون ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الامر في ذلك فجعل الخيار فيه حيث أبيت وأبى حيث جعلته له فرق من أصل أو نظير ؟ فلن يقول في أحدهما قولا، إلا ألزم في الآخر مثله. ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالاطعام، فقال بعضهم: يقوم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه، وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: بل يقوم ذلك بسعر الارض التي يكفر بها. ذكر من قال ذلك: 9839 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال في محرم أصاب صيدا بخراسان، قال: يكفر بمكة أو بمنى، وقال: يقوم الطعام بسعر الارض التي يكفر بها. 9840 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، في رجل أصاب صيدا بخراسان، قال: يحكم عليه بمكة. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزاه بمثله من النعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه من أقرب الاشياء به شبها من الانعام، فإن جزاه بالاطعام قومه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لانه هنالك وجب عليه التكفير بالاطعام، ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه وإن شاء بمكة وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء لان الله تعالى إنما شرط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي بغير الهدى أن يجزيه بالاطعام والصوم حيث شاء من الارض. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. ذكر من قال ذلك:
[ 74 ]
9841 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة، وما كان من صدقة أو صوم حيث شاء. وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدى والاطعام إلا بمكة، فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الارض. ذكر من قال ذلك: 9842 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء، قال: الدم والطعام بمكة، والصيام حيث شاء. 9843 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: كفارة الحج بمكة. 9844 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: قلت: لعطاء: أين يتصدق بالطعام إن بدا له ؟ قال: بمكة من أجل أنه بمنزله الهدي، قال: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديا بالغ الكعبة من أجل أنه أصابه في حرم يريد البيت فجزاؤه عند البيت. فأما الهدي، فإنه من جراء ما قتل من الصيد، فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة طيبا، وينحره أو يذبحه، ويتصدق به على مساكين الحرم. ويعني بالكعبة في هذا الموضع: الحرم كله، ولمن قدم بهدية الواجب من جزاء الصيد أن ينحره في كل وقت شاء قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه وكذلك إن كفر بالطعام فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب، وإن كفر بالصوم فكذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالاطعام على ما قد بينا فيما مضى. ذكر من قال ذلك: 9845 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أو عدل ذلك صياما هل لصيامه وقت ؟ قال: لا، إذا شاء وحيث شاء، وتعجيله أحب إلي. 9846 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: رجل أصاب صيدا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرم أو
[ 75 ]
غيره من الشهور، أيجزئ عنه ؟ قال: نعم ثم قرأ: هديا بالغ الكعبة قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. 9847 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم، عن عطاء، قال: إذا قدمت مكة بجزاء صيد فانحره، فإن الله تعالى يقول: هديا بالغ الكعبة إلا أن يقدم في العشر، فيؤخر إلى يوم النحر. 9848 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا ابن جريج، عن عطاء، قال: يتصدق الذي يصيب الصيد بمكة، فإن الله تعالى يقول: هديا بالغ الكعبة. القول في تأويل قوله تعالى: أو عدل ذلك صياما. يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرما عدل الصيد المقتول من الصيام، وذلك أن يقوم الصيد حيا غير مقتول من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مد يوما وذلك أن النبي (ص) عدل المد من الطعام بصوم يوم في كفارة المواقع في شهر رمضان. فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كل صاع في جزاء الصيد صوم يوم قياسا على حكم النبي (ص) في نظيره، وذلك حكمه على كعب بن عجرة، إذ أمره أن يطعم إن كفر بالاطعام فرقا من طعام وذلك ثلاثة آصع بين ستة مساكين، فإن كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الايام الثلاثة في الصوم عدلا من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاء الصيد أشبه من الكفارة في قتل الصيد بكفارة المواقع امرأته في شهر رمضان ؟ قيل: إن القياس إنما هو رد الفروع المختلف فيها إلى نظائرها من الاصول المجمع عليها، ولا خلاف بين الجميع من الحجة، أنه لا يجزئ مكفرا كفر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدل صوم يوم بصاع طعام. فإن كان ذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدث به من الدين مجمعة عليه صح بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعام في قتل الصيد مخالف حكم معادلته إياه في كفارة الحلق، إذا كان غير جائز، وداخل على آخر قياسا وإنما يجوز أن يقاس
[ 76 ]
الفرع على الاصل، وسواء قال قائل: هلا رددت حكم الصوم في كفارة قتل الصيد على حكمه في حلق الاذى فيما يعدل به من الطعام وآخر قال: هلا رددت حكم الصوم في الحلق على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يعدل به من الطعام، فتوجب عليه مكان كل مد، أو مكان كل نصف صاع صوم يوم. وقد بينا فيما مضى قبل أن العدل في كلام العرب بالفتح، وهو قدر الشئ من غير جنسه، وأن العدل هو قدره من جنسه. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: العدل مصدر من قول القائل: عدلت بهذا عدلا حسنا. قال: والعدل أيضا بالفتح: المثل، ولكنهم فرقوا بين العدل في هذا وبين عدل المتاع، بأن كسروا العين من عدل المتاع، وفتحوها من قولهم: ولا يقبل منها عدل وقول الله عزوجل: أو عدل ذلك صياما كما قالوا: امرأة رزان، وحجر رزين. وقال بعضهم: العدل: هو القسط في الحق، والعدل بالكسر: المثل، وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. وأما نصب الصيام فإنه على التفسير كما يقال عندي مل ء زق سمنا، وقدر رطل عسلا. وينحو الذي قلنا ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 98449 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما عدل ذلك صياما ؟ قال: عدل الطعام من الصيام. قال: لكل يوما يؤخذ زعم بصيام رمضان وبالظهار. وزعم أن ذلك رأى يراه ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما عدل ذلك صياما ؟ قال: إن أصاب ما عدله شاة، قومت طعاما ثم صام مكان كل مد يوما. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة ؟ 9850 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله عزوجل: أو عدل ذلك صياما قال: بصوم ثلاثة أيام، إلى عشرة أيام.
[ 77 ]
9851 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد: أو عدل ذلك صياما من الجزاء إذا لم يجد ما يشتري به هديا أو ما يتصدق به مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يوما. 9852 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أو عدل ذلك صياما قال: إذا قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الابل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما، والطعام مد مد يشبعهم. 9853 - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، المحرم يصيب الصيد فيكون عليه الفدية شاة، أو البقرة أو البدنة، فإن لم يجد فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة ؟ قال: ثمن ذلك فإن لم يجد ثمنه قوم ثمنه طعاما يتصدق به لكل مسكين مد، ثم يصوم لكل مد يوما. القول في تأويل قوله تعالى: ليذوق وبال أمره. يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرما ما أوجبت من الحق أو الكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، كي يذوق وبال أمره وعذابه، يعني بأمره: ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عزوجل عن قتله في حال إحرامه يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لاذيقه عقوبة ذنبه بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. وأصل الوبال: الشدة في المكروه. ومنه قول الله: فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا. وقد بين تعالى ذكره بقوله: ليذوق وبال أمره أن الكفارات اللازمة الاموال والابدان عقوبات منه لخلقه، وإن كانت تمحيصا لهم، وكفارة لذنوبهم التي كفروها بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 78 ]
9854 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما وبال أمره، فعقوبة أمره. القول في تأويل قوله تعالى: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه. يقول جل ثناؤه لعباده المؤمنين به وبرسوله (ص): عفا الله أيها المؤمنون عما سلف منكم في جاهليتكم من إصابتكم الصيد وأنتم حرم وقتلكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارة في مال ولا نفس، ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم بعد تحريمه بالمعنى الذي يقتله في حال كفره وقبل تحريمه عليه من استحلاله قتله، فينتقم الله منه. وقد يحتمل أن يكون ذلك في معناه: من عاد لقتله بعد تحريمه في الاسلام فينتقم الله منه في الآخرة، فأما في الدنيا فإن عليه من الجزاء والكفارة فيها ما بينت. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: 9855 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما عفا الله عما سلف ؟ قال: عما كان في الجاهلية، قال: قلت: ما ومن عاد فينتقم الله منه ؟ قال: من عاد في الاسلام، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة. 9856 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء، فذكر نحوه، وزاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل عليه الكفارة. قلت: هل في العود من حد العلم ؟ قال: لا، قلت: فترى حقا على الامام أن يعاقبه ؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي. حدثنا سفيان، قال: ثنا محمد بن بكر، وأبو خالد، عن ابن جريج، عن عطاء: ومن عاد فينتقم الله منه قال: في الاسلام، وعليه مع ذلك الكفارة، قلت: عليه من الامام عقوبة ؟ قال: لا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: عفا الله عما سلف عما كان في الجاهلية، ومن عاد قال: في الاسلام، فينتقم الله منه وعليه الكفارة. قال: قلت لعطاء: فعليه من الامام عقوبة ؟ قال: لا.
[ 79 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان وكلما أصاب قال الله عزوجل: عفا الله عما سلف قال: ما كان في الجاهلية، ومن عاد فينتقم الله منه مع الكفارة. قال سفيان: قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان ؟ قال: لا. 9857 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: عفا الله عما سلف ؟ قال: عما كان في الجاهلية. 9858 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح، أنه قال: يحكم عليه كلما عاد. 9859 - حدثنا هناد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: كلما أصاب المحرم الصيد ناسيا حكم عليه. 9860 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كلما أصاب الصيد المحرم حكم عليه. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: من قتل الصيد ثم عاد حكم عليه. 9861 - حدثنا عمرو، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، قال: يحكم عليه فيخلع، أو يترك. 9862 - حدثنا عمرو، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود ؟ قال: يحكم عليه. 9863 - حدثنا عمرو، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا الفرات بن سليمان، عن عبد الكريم، عن عطاء، قال: يحكم عليه كلما عاد. وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الاسلام فينتقم الله منه بإلزامه الكفارة. ذكر من قال ذلك: 9864 - حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء،
[ 80 ]
في قول الله تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه قالا: ينتقم الله، يعني بالجزاء. عفا الله عما سلف في الجاهلية. وقال آخرون: في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتل منكم الصيد حراما في أول مرة، ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حراما، فالله ولي الانتقام منه دون كفارة تلزمه لقتله إياه. ذكر من قال ذلك: 9865 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله عزوجل. 9866 - حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه، فإن عاد لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عزوجل، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية: ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام. 9867 - حدثنا هناد، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: جاء رجل إلى شريح، فقال: إني أصبت صيدا وأنا محرم. فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئا ؟ قال: لا. قال: لو قلت نعم وكلتك إلى الله، يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: بل يحكم عليه، أو يخلع. 9868 - حدثني أبو السائب وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، قال: إذا أصاب الرجل الصيد وهو محرم، وقيل له أصبت صيدا مثل هذا ؟ قال: فإن قال: نعم، قيل له: اذهب، فينتقم الله منك وإن قال لا، حكم عليه. 9869 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم في الذي يقتل الصيد، ثم يعود، قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمره إلى الله عزوجل. حدثنا عمرو، قال: ثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحا، فقال: أصبت صيدا. قال: أصبت قبله صيدا ؟ قال: لا، قال: أما إنك لو قلت نعم، لم أحكم عليك.
[ 81 ]
حدثنا عمرو، قال: ثنا ابن أبي عدي، قال: ثنا داود، عن الشعبي، عن شريح، مثله. حدثنا عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن الاشعث، عن محمد، عن شريح في الذي يصيب الصيد، قال: يحكم عليه، فإن عاد انتقم الله منه. 9870 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، ويحكم عليه في الخطأ أبدا. 9871 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، قال: رخص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى حتى ينتقم منه. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعا، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيدا، فحكم عليه، ثم عاد، قال: لا يحكم، ينتقم الله منه. حدثنا عمرو، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عزوجل: ومن قتله منكم متعمدا يقول: متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك. حدثنا عمرو، قال: ثنا كثير بن هشام، قال: ثنا الفرات بن سليمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك. 9873 - حدثنا عمرو، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا الاشعث، عن الحسن في الذي يصيب الصيد، فيحكم عليه ثم يعود، قال: لا يحكم عليه. وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذلك عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه عالما بتحريمه ذلك عليه، عامدا لقتله،
[ 82 ]
ذاكرا لاحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 9874 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه قال: من عاد بعد نهي الله بعد أن يعرف أنه محرم وأنه ذاكر لحرمه لم ينبغ لاحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتل الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله محرم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله وهو يعرف أنه محرم وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة. وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. وقال آخرون: عني بذلك شخص بعينه. ذكر من قال ذلك: 9875 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: ثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم، فتجوز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله: ومن عاد فينتقم الله منه قال: في الاسلام. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: معناه: ومن عاد في الاسلام لقتله بعد نهي الله تعالى عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، لان الله عزوجل إذ أخبر أنه ينتقم منه لم يخبرنا، وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عباده ما أوجب من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل: ولا كفارة عليه في الدنيا. فإن ظن ظان أن الكفارة مزيلة للعقاب، ولو كانت الكفارة لازمة له في الدنيا لبطل العقاب في الآخرة، فقد ظن خطأ. وذلك أن الله عزوجل أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء، وأحب فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقص من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزاني البكر والزاني الثيب المحصن، وبين سارق ربع دينار وبين سارق أقل من ذلك فكذلك خالف بين عقوبته قاتل الصيد من المحرمين عمدا ابتداء وبين عقوبته عودا بعد بدء، فأوجب على
[ 83 ]
البادئ المثل من النعم، أو الكفارة بالاطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جرمه بقوله: ليذوق وبال أمره وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عباده أنه فاعل من الانتقام تغليظا منه للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الاشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حد في شئ مخالفا حدا في غيره، ولا عقاب في الآخرة أغلظ من عقاب، وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان. وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الاسلام بعد نهي الله عن قتله لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه، وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال، فعليه الجزاء والكفارة كلما عاد. وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل، وكفي خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده ؟ وذلك أن الله عم بقوله: ومن عاد فينتقم الله منه كل عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أول الآية، ولم يخص به عائدا منهم دون عائد، فمن ادعى في التنزيل ما ليس في ظاهره كلف البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له. وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه فينتقم الله منه، فإن معنى قوله: عفا الله عما سلف إنما هو: عفا عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءا، فإن في قول الله تعالى: ليذوق وبال أمره دليلا واضحا على أن القول في ذلك غير ما قال لان العفو عن الجرم ترك المؤاخذة به، ومن أذيق وبال جرمه فقد عوقب به، وغير جائز أن يقال لمن عوقب قد عفي عنه، وخبر الله أصدق من أن يقع فيه تناقض. فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أول مرة قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عزوجل أن يعاقبه به ؟ قيل له: فإن كان ذلك جائزا أن يكون تأويل الآية عندك وإن كان مخالفا لقول أهل التأويل، فما ينكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبال أمره الذي أذاقه المرة الاولى، ويترك عفوه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به ؟ فلم يقل في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
[ 84 ]
القول في تأويل قوله تعالى: والله عزيز ذو انتقام. يقول عزوجل: والله منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع، لان الخلق خلقه، والامر أمره، له العزة والمنعة. وأما قوله: ذو انتقام فإنه يعني به: معاقبته لمن عصاه على معصيته إياه. القول في تأويل قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون) *. يقول تعالى ذكره: أحل لكم أيها المؤمنون صيد البحر وهو ما صيد طريا. كما: 9876 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال عمر بن الخطاب في قوله: أحل لكم صيد البحر قال: صيده: ما صيد منه. 9877 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، قال: حدثت، عن ابن عباس، قال: خطب أبو بكر الناس، فقال: أحل لكم صيد البحر. قال: فصيده: ما أخذ. 9878 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: أحل لكم صيد البحر قال: صيده: ما صيد منه. 9879 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: أحل لكم صيد البحر قال: صيده الطري. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الهذيل بن بلال، قال: ثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، في قوله: أحل لكم صيد البحر قال: صيده: ما صيد.
[ 85 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، أحل لكم صيد البحر قال: الطري. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا الحسن بن علي الجعفي أو الحسين، شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: صيد البحر: ما اصطاده. 9880 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: أحل لكم صيد البحر قال: الطري. 9881 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن العلاء بن بدر، عن أبي سلمة، قال: صيد البحر: ما صيد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: أحل لكم صيد البحر قال: الطري. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: أحل لكم صيد البحر قال: السمك الطري. 9882 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أحل لكم صيد البحر أما صيد البحر: فهو السمك الطري، هي الحيتان. 9883 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: صيده: ما اصطدته طريا. قال معمر: وقال قتادة: صيده: ما اصطدته. 9884 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أحل لكم صيد البحر قال: حيتانه. 9885 - حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا عمر بن أبي سلمة، قال: سئل سعيد عن صيد البحر، فقال: قال مكحول: قال زيد بن ثابت: صيده: ما اصطدت.
[ 86 ]
9886 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال: يصطاد المحرم والمحل من البحر، ويأكل من صيده. 9887 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: قال أبو بكر: طعام البحر: كل ما فيه. وقال جابر بن عبد الله: ما حسر عنه فكل. وقال: كل ما فيه يعني: جميع ما صيد. 9888 - حدثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر: وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال: هو كل ما فيه. وعنى بالبحر في هذا الموضع: الانهار كلها والعرب تسمي الانهار بحارا، كما قال تعالى ذكره: ظهر الفساد في البر والبحر. فتأويل الكلام: أحل لكم أيها المؤمنون طري سمك الانهار الذي صدتموه في حال حلكم وحرمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رمي به إلى ساحله. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: وطعامه فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتا، نحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: 9889 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، قال: حدثت، عن ابن عباس، قال: خطب أبو بكر الناس، فقال: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم، وطعامه: ما قذف. 9890 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كنت بالبحرين، فسألوني عما قذف البحر، قال: فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكرت ذلك له، فقال لي: بم أفتيتهم ؟ قال: قلت: أفتيتهم أن يأكلوا، قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدرة. قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم فصيده: ما صيد منه، وطعامه: ما قذف.
[ 87 ]
9891 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ما قذف. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، في قوله: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: طعامه: ما قذف. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، مثله. 9892 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طعامه: كل ما ألقاه البحر. 9893 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا الحسن بن علي أو الحسين بن علي الجعفي، شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طعامه: ما لفظ من ميتته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الهذيل بن بلال، قال: ثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: طعامه: ما وجد على الساحل ميتا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، قال: طعامه: ما قذف به. 9894 - حدثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه: وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: هو كل ما فيه. 9895 - حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو بكر: وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ميتته. قال عمرو: وسمع أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ميتته.
[ 88 ]
9896 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عثمان، عن عكرمة: وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ما قذف. 9897 - حدثنا بن عبد الاعلى، قال: ثنا معمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، قال: جاء عبد الرحمن إلى عبد الله، فقال: البحر قد ألقى حيتانا كثيرة ؟ قال: فنهاه عن أكلها، ثم قال: يا نافع هات المصحف فأتيته به، فقرأ هذه الآية: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: قلت: طعامه: هو الذي ألقاه. قال: فألحقه، فمره بأكله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: إن البحر قذف حيتانا كثيرة ميتة أفنأكلها ؟ قال: لا تأكلوها فلما رجع عبد الله إلى أهله، أخذ المصحف، فقرأ سورة المائدة، فأتى على هذه الآية: وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال: اذهب، فقل له: فليأكله، فإنه طعامه حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة، مولى ابن عباس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: وطعامه متاعا لكم قال: ميتته، قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب طعامه: إلا مالحه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر، أميتة هي ؟ قال: نعم فنهاه عنها. ثم دخل البيت، فدعا بالمصحف، فقرأ تلك الآية: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: كل شئ أخرج منه فكله فليس به بأس، وكل شئ فيه يؤكل ميتا أو بساحله.
[ 89 ]
9898 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، قال قتادة: طعامه: ما قذف منه. 9899 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن ليث، عن شهر، عن أبي أيوب، قال: ما لفظ البحر فهو طعامه، وإن كان ميتا. 9900 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن ليث، عن شهر، قال: سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا قال: هو ما لفظ البحر. وقال آخرون: عني بقوله: وطعامه: المليح من السمك. فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومليحه في كل حال، إحلالكم وإحرامكم. ذكر من قال ذلك: 9901 - حدثنا سليمان عمرو بن خالد البرقي، قال: ثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: وطعامه قال: طعامه المالح منه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وطعامه متاعا لكم يعني بطعامه: مالحه، وما قذف البحر من مالحه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وطعامه متاعا لكم وهو المالح. 9902 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مجمع التيمي، عن عكرمة، في قوله: متاعا لكم قال: المليح. 9903 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الافطس وأبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: المليح. 9904 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: وطعامه متاعا لكم قال: المليح وما لفظ.
[ 90 ]
9905 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير، في قوله: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: يأتي الرجل أهل البحر فيقول: أطعموني، فإن قال: غريضا، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال: أطعموني من طعامكم، أطعموه من سمكهم المالح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل: عن عطاء، عن سعيد: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: المنبوذ، السمك المالح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: وطعامه قال: المالح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: وطعامه قال: هو مالحه. ثم قال: ما قذف. 9906 - حدثنا ابن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وطعامه قال: مملوح السمك. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرني الثوري، عن منصور، قال: كان إبراهيم يقول: طعامه: السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذف به. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: طعامه: المليح. 9907 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن مجاهد، قال: طعامه: السمك المليح. 9908 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: وطعامه متاعا لكم قال: الصير. قال شعبة: فقلت لابي بشر: ما الصير ؟ قال: المالح. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا هشام بن الوليد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، قوله: وطعامه متاعا لكم قال: الصير. قال: قلت: ما الصير ؟ قال: المالح.
[ 91 ]
9909 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وطعامه متاعا لكم قال: أما طعامه فهو المالح. 9910 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ما تزودت مملوحا في سفرك. 9911 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: ثنا سفيان عن عمرو، قال: قال جابر بن زيد: كنا نتحدث أن طعامه مليحه، ونكره الطافي منه. وقال آخرون: طعامه: ما فيه. ذكر من قال ذلك: 9912 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: طعام البحر: ما فيه. 9913 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حريث، عن عكرمة: وطعامه متاعا لكم قال: ما جاء به البحر بوجه. 9914 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد، قال: طعامه: كل ما صيد منه. وأولى هذه الاقوال بالصواب عندنا، قول من قال: طعامه: ما قذفه البحر أو حسر عنه فوجد ميتا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكر قبله صيد الذي يصاد، فقال: أحل لكم صيد البحر فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يصد منه، فقال: أحل لكم صيد ما صدتموه من البحر وما لم تصيدوه منه. وأما المليح، فإنه ما كان منه ملح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله: أحل لكم صيد البحر فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم عباده تعالى إحلاله ما صيد من البحر بقوله أحل لكم صيد البحر فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك: ومليحه الذي صيد حلال لكم، لان ما صيد منه فقد بين تحليله طريا كان أو مليحا بقوله: أحل لكم صيد البحر والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وقد روي عن رسول الله (ص) بنحو الذي قلنا خبر، وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقله عنه من الصحابة، وذلك ما:
[ 92 ]
9915 - حدثنا به هناد بن السري، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: طعامه: ما لفظه ميتا فهو طعامه. وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة. 9916 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: طعامه: ما لفظه ميتا. القول في تأويل قوله تعالى: متاعا لكم وللسيارة. يعني تعالى ذكره بقوله: متاعا لكم منفعة لمن كان منكم مقيما أو حاضرا في بلده يستمتع بأكله وينتفع به. وللسيارة يقول: ومنفعة أيضا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزودونه في سفرهم مليحا. والسيارة: جمع سيار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 9917 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني أبو إسحاق، عن عكرمة، أنه قال في قوله: متاعا لكم وللسيارة قال: لمن كان بحضرة البحر، وللسيارة السفر. 9918 - حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: وطعامه متاعا لكم وللسيارة ما قذف البحر، وما يتزودون في أسفارهم من هذا المالح. يتأولها على هذا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وطعامه متاعا لكم وللسيارة: مملوح السمك ما يتزودون في أسفارهم. 9919 - حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد البرقي، قال: ثنا مسكين بن بكير، قال: ثنا عبد السلام بن حبيب النجاري، عن الحسن في قوله: وللسيارة قال: هم المحرمون.
[ 93 ]
9920 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وطعامه متاعا لكم وللسيارة أما طعامه: فهو المالح منه، بلاغ يأكل منه السيارة في الاسفار. 9921 - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال: طعامه: مالحه وما قذف البحر منه يتزوده المسافر. وقال مرة أخرى: مالحه وما قذفه البحر، فمالحه يتزوده المسافر. 9922 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وطعامه متاعا لكم وللسيارة يعني المالح فيتزوده. وكان مجاهد يقول في ذلك بما: 9923 - حدثني محمد بن عمر، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وطعامه متاعا لكم قال: أهل القرى، وللسيارة: أهل الامصار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: متاعا لكم قال لاهل القرى، وللسيارة: قال: أهل الامصار وأجناس الناس كلهم. وهذا الذي قاله مجاهد من أن السيارة هم أهل الامصار لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله هم أهل الامصار: هم المسافرون من أهل الامصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة من أهل الامصار كانوا أو من أهل القرى، فأما السيارة فلا يشمل المقيمين في أمصارهم. القول في تأويل قوله تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. يعني تعالى ذكره: وحرم عليكم أيها المؤمنون صيد البر ما دمتم حرما، يقول: ما كنتم محرمين لم تحلوا من إحرامكم. ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: وحرم عليكم
[ 94 ]
صيد البر فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرم علينا كل معاني صيد البر من اصطياد وأكل وقتل وبيع وشراء وإمساك وتملك. ذكر من قال ذلك: 9924 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحرث، عن نوفل، عن أبيه، قال: حج عثمان بن عفان، فحج علي معه. قال: فأتي بلحم صيد صاده حلال، فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال علي: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. 9925 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن صبيح بن عبيد الله العبسي، قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العروض، فنزل قديدا، فمر به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، فجعلهن في حظيرة. فلما مر به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا فقال بعضهم: حتى يجئ علي بن أبي طالب. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه فقال عثمان: مالك لا تأكل ؟ فقال: هو صيد، ولا يحل أكله وأنا محرم. فقال عثمان: بين لنا فقال علي: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فقال عثمان: أو نحن قتلناه ؟ فقرأ عليه: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. 9926 - حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد، قالا: أخبرنا أبو إسحاق الازرق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبيد الله العبسي، قال: استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العروض. ثم ذكر نحوه، وزاد فيه: قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث، ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه فأرسل إليه عثمان وسأله عن أكل الصفيف، فقال: أما أنت فتأكل، وأما نحن فتنهانا ؟ فقال: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك يعني اليعاقيب وأنا محرم، وذبحن وأنا حرام.
[ 95 ]
9927 - حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسا بلحم الصيد للمحرم، وكرهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 9928 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال. 9929 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحرث: أنه شهد عثمان وعليا أتيا بلحم، فأكل عثمان ولم يأكل علي، فقال عثمان: أنحن صدنا أو صيد لنا ؟ فقرأ علي هذه الآية: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. 9930 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: حج عثمان بن عفان، فحج معه علي، فأتي بلحم صيد صاده حلال، فأكل منه وهو محرم، ولم يأكل منه علي، فقال عثمان: إنه صيد قبل أن نحرم. فقال له علي: ونحن قد بدا لنا وأهالينا لنا حلال، أفيحللن لنا اليوم ؟ 9931 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو بن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحرث بن نوفل: أن عليا أتي بشق عجز حمار وهو محرم، فقال: إني محرم. 9932 - حدثنا ابن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال ما كان محرما. 9933 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرنا نافع أن ابن عمر كان يكره كل شئ من الصيد وهو حرام، أخذ له أو لم يؤخذ له، وشيقة وغيرها.
[ 96 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيد وهو محرم وإن صاده الحلال. 9934 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أن طاوسا كان ينهى الحرام عن أكل الصيد وشيقة وغيرها صيد له أو لم يصد له. 9935 - حدثنا عبد الاعلى، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا الاشعث، قال: قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرم لم يأكل من لحمه حتى يحل. فإن أكل منه وهو محرم لم ير الحسن عليه شيئا. 9936 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن سالم، قال: سألت سعيد بن جبير، عن الصيد يصيده الحلال، أيأكل منه المحرم ؟ فقال: سأذكر لك من ذلك، إن الله تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فنهي عن قتله، ثم قال: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ثم قال تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال: يأتي الرجل أهل البحر فيقول: أطعموني فإن قال: غريضا، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال: أطعموني من طعامكم أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهو عليك حرام، صدته أو صاده حلال. وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ما استحدث المحرم صيده في حال إحرامه أو ذبحه، أو أستحدث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال فلا بأس بأكله للمحرم، وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه فغير محرم عليه إمساكه. ذكر من قال ذلك: 9937 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبي هريرة، أنه سئل عن صيد صاده
[ 97 ]
حلال أيأكله المحرم ؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لاوجعت لك رأسك 9938 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: نزل عثمان بن عفان العرج وهو محرم، فأهدى صاحب العرج له قطا، قال: فقال لاصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد على اسمي قال: فأكلوا ولم يأكل. 9939 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالربذة، فسألوه عن لحم صيد صاده حلال. ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن عمر، نحوه. 9940 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الشعثاء، قال: سألت ابن عمر عن لحم صيد يهديه الحلال إلى الحرام، فقال: أكله عمر، وكان لا يرى به بأسا. قال: قلت: تأكله ؟ قال: عمر خير مني. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء، قال: سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام ؟ قال: كان عمر يأكله. قال: قلت: فأنت ؟ قال: كان عمر خيرا مني. 9941 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: استفتاني رجل من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم، فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم. قال: فما أفتيته ؟ قال: قلت أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة وقال عمر: إنما نهيت أن تصطاده.
[ 98 ]
9942 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا خارجة عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن كعب، قال: أقبلت في أناس محرمين، فأصبنا لحم حمار وحش، فسألني الناس عن أكله، فأفتيتهم بأكله وهم محرمون. فقدمنا على عمر، فأخبروه أني أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون، فقال عمر: قد أمرته عليكم حتى ترجعوا. 9943 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: مررت بالربذة، فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال، فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له، قال: فبم أفتيتهم ؟ قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. 9944 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن يونس، عن أبي الشعثاء الكندي، قال: قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قوما حلالا ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم وإما أطعموهم ؟ فقال: حلال. 9945 - حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا هشام، يعني ابن عروة، قال: ثنا عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى نزلوا بالروحاء، فقرب إليهم طير وهم محرمون، فقال لهم عثمان: كلوا فإني غير آكله فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا ؟ فقال عثمان: إني لولا أظن أنه صيد من أجلي لاكلت. فأكل القوم. 9946 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير كان يتزود لحوم الوحش وهو محرم. 9947 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
[ 99 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما صيد من شئ وأنت حرام فهو عليك حرام، وما صيد من شئ وأنت حلال فهو لك حلال. 9948 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فجعل الصيد حراما على المحرم صيده وأكله ما دام حراما، وإن كان الصيد صيد قبل أن يحرم الرجل فهو حلال، وإن صاده حرام لحلال فلا يحل له أكله. 9949 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال، قال: كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يحرم أكل منه، وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه. 9950 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: كان عطاء يقول إذا سئل في العلانية أيأكل الحرام الوشيقة والشئ اليابس ؟ يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبين لك في مجلس، إن ذبح قبل أن يحرم فكل، وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله بعد أن يكون ملكه إياه على غير وجه الاصطياد له وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى عن صيده في حال الاحرام دون سائر المعاني. ذكر من قال ذلك: 9951 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرني يحيى، أن أبا سلمة اشترى قطا وهو بالعرج وهو محرم ومعه محمد بن المنكدر، فأكله. فعاب عليه ذلك الناس. والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى عم تحريم كل معاني صيد البر على المحرم في حال إحرامه من غير أن يخص من ذلك شيئا دون شئ، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حراما بيعه وشراؤه واصطياده وقتله وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحا قد ذبحه حلال لحلال، فيحل له حينئذ أكله، للثابت من الخبر عن
[ 100 ]
رسول الله (ص)، الذي: 9952 - حدثناه يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج. وحدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الملك بن جريج، قال: أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان، قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حرم، فأهدي لنا طائر، فمنا من أكل ومنا من تورع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وافق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله (ص). فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جثامة: أنه أهدى إلى رسول الله (ص) رجل حمار وحش يقطر دما، فرده فقال: إنا حرم. وفيما روي عن عائشة: أن وشيقة ظبي أهديت إلى رسول الله (ص) وهو محرم، فردها، وما أشبه ذلك من الاخبار ؟ قيل: إنه ليس في واحد من هذه الاخبار التي جاءت بهذا المعنى بيان أن رسول الله (ص) رد من ذلك ما رد وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله (ص) وهو حرام فرده وقال: إنه لا يحل لنا لانا حرم وإنما ذكر فيه أنه أهدي لرسول الله (ص) لحم صيد فرده، وقد يجوز أن يكون رده ذلك من أجل أن ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله (ص) وهو محرم، وقد بين خبر جابر عن النبي (ص) بقوله: لحم صيد البر للمحرم حلال، إلا ما صاده أو صيد له. معنى ذلك كله. فإذ كان كلا الخبرين
[ 101 ]
صحيحا مخرجهما، فواجب التصديق بهما وتوجيه كل واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال رده ما رد من ذلك من أجل أنه كان صيد من أجله، وإذنه في كل ما أذن في أكله منه من أجل أنه لم يكن صيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصح معنى الخبرين كليهما. واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فقال بعضهم: صيد البر: كل ما كان يعيش في البر والبحر وإنما صيد البحر ما كان يعيش في الماء دون البر ويأوي إليه. ذكر من قال ذلك: 9953 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما قال: ما كان يعيش في البر والبحر لا يصيده، وما كان حياته في الماء فذاك. 9954 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء، قال: ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه، نحو السلحفاة والسرطان والضفادع. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن عطاء، قال: كل شئ عاش في البر والبحر، فأصابه المحرم فعليه الكفارة. 9955 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: خرجنا حجاجا معنا رجل من أهل السواد معه شصوص طير ماء، فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا 9956 - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت يزيد بن أبي زياد، قال: ثنا حجاج، عن عطاء: أنه كره للمحرم أن يذبح الدجاج الزنجي، لان له أصلا في البر. وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البر أكثر من كونه في البحر. ذكر من قال ذلك:
[ 102 ]
9957 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال ابن جريج: أخبرناه، قال: سألت عطاء عن ابن الماء، أصيد بر، أم بحر ؟ وعن أشباهه، فقال: حيث يكون أكثر فهو صيده. 9958 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أكثر ما يكون حيث يفرخ، فهو منه. القول في تأويل قوله تعالى: واتقوا الله الذي إليه تحشرون. وهذا تقدم من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه، يقول تعالى: واخشوا الله أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم (ص) من النهي عن الخمر والميسر والانصاب والازلام، وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم، وفي غيرها، فإن لله مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فمثيبكم على طاعتكم له. القول في تأويل قوله تعالى: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض وأن الله بكل شئ عليم) *. يقول تعالى ذكره: صير الله الكعبة البيت الحرام قواما للناس الذين لا قوام لهم، من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم وظالمهم عن مظلومهم والشهر الحرام والهدي والقلائد فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم. والكعبة فيما قيل كعبة لتربيعها. ذكر من قال ذلك: 9959 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سميت الكعبة لانها مربعة. 9960 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدب، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: إنما سميت الكعبة لتربيعها. وقيل قياما للناس بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف وهي فاء الفعل،
[ 103 ]
فجعلت العين منه بالكسرة ياء، كما قيل في مصدر: قمت قياما، وصمت صياما، فحولت العين من الفعل وهي واء ياء لكسرة فائه، وإنما هو في الاصل: قمت قواما، وصمت صواما. وكذلك قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس فحولت واوها ياء، إذ هي قوام. وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله، قال الراجز: (قوام دنيا وقوام دين) فجاء به بالواو على أصله. وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قواما لمن كان يحترم ذلك من العرب ويعظمه، بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تباعه. وأما الكعبة فالحرم كله، وسماها الله تعالى حراما لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها. وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. وقوله: والشهر الحرام والهدي والقلائد يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضا قياما للناس، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قياما. والناس الذين جعل ذلك لهم قياما مختلف فيهم، فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قياما للناس كلهم. وقال بعضهم: بل عنى به العرب خاصة. وبمثل الذي قلنا في تأويل القوام قال أهل التأويل. ذكر من قال: عنى الله تعالى بقوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس القوام على نحو ما قلنا: 9961 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا من سمع خصيفا يحدث عن مجاهد في: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس قال: قواما للناس. 9962 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن سعيد بن جبير: قياما للناس قال: صلاحا لدينهم. 9963 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد في: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس قال: حين لا يرجون جنة ولا يخافون نارا، فشدد الله ذلك بالاسلام.
[ 104 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير، قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس قال: شدة لدينهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير، مثله. 9964 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس قال: قيامها أن يأمن من توجه إليها. 9965 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد يعني قياما لدينهم، ومعالم لحجهم. 9966 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد جعل الله هذه الاربعة قياما للناس، هو قوام أمرهم. وهذه الاقوال وإن اختلفت من قائلها ألفاظها، فإن معانيها آيلة إلى ما قلنا في ذلك من أن القوام للشئ هو الذي به صلاحه، كالملك الاعظم قوام رعيته ومن في سلطانه، لانه مدبر أمرهم وحاجز ظالمهم عن مظلومهم والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية، وهي في الاسلام لاهله معالم حجهم ومناسكهم ومتوجههم لصلاتهم وقبلتهم التي باستقبالها يتم فرضهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 9967 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا جامع بن حماد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب. وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته
[ 105 ]
ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الاذخر أو من لحاء السمر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. 9968 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوك تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالاشهر الحرم والقلائد. قال: ويلقى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نسخ. 9969 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: والقلائد كان ناس يتقلدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحج، فيعرفون بذلك. وقد أتينا على البيان عن ذكر الشهر الحرام والهدي والقلائد فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض وأن الله بكل شئ عليم. يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك تصييره الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم أيها الناس ذلك قياما كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث مما به قوامكم، علما منه بمنافعكم ومضاركم أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الارض مما فيه صلاح عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شئ عليم، لا يخفى عليه شئ من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم حتى يجازي المحسن منكم بإحسانه والمسئ منكم بإساءته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 106 ]
* (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) *. يقول تعالى ذكره: اعلموا أيها الناس أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الارض، ولا يخفى عليه شئ من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يحصيها عليكم ليجازيكم بها، شديد عقابه من عصاه وتمرد عليه على معصيته إياه، وهو غفور الذنوب من أطاعه وأناب إليه فساتر عليه وتارك فضيحته بها، رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) *. وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد، يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم أيها الناس بإنذاركم عقابنا بين يدي عذاب شديد وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم، إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية. والله يعلم ما تبدون وما تكتمون يقول: وغير خفي علينا المطيع منكم القابل رسالتنا العامل بما أمرته بالعمل به من العاصي التارك العمل بما أمرته بالعمل به لانا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به لسانه. وما تكتمون يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر أو يقين وشك ونفاق. يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك لا يخفى عليه شئ من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس، مما في السموات وما في الارض، وبيده الثواب والعقاب، فحقيق أن يتقى وأن يطاع فلا يعصى. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يأولي الالباب لعلكم تفلحون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لا يعتدل الردئ والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي. ولو أعجبك كثرة الخبيث يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم، لان أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته، وإن أهل معاصيه هم الاخسرون الخائبون وإن كثروا. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): فلا تعجبن من كثرة من
[ 107 ]
يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة فإن العقبى الصالحة لاهل طاعة الله عنده دونهم، 9970 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: الله عنده دونهم. كما ثنا أسباط، عن السدي: لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث قال: الخبيث: هم المشركون والطيب: هم المؤمنون. وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله (ص)، فالمراد به بعض أتباعه، يدل على ذلك قوله: فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون. القول في تأويل قوله تعالى: فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون. يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم. يا أولي الالباب يعني بذلك: أهل العقول والحجا، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه. لعلكم تفلحون يقول: اتقوا الله لتفلحوا: أي كي تنجحوا في طلبتكم ما عنده. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم) *. ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله (ص) بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا، فيقول له بعضهم: من أبي ؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته: أين ناقتي ؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياء من ذلك، كمسألة عبد الله بن حذافة إياه من أبوه، إن تبد لكم تسؤكم يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤها وإظهارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الاخبار عن أصحاب رسول الله (ص). ذكر الرواية بذلك: 9971 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا بعض بني نفيل، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الجويرية، قال: قال ابن عباس لاعرابي من بني سليم: هل تدري فيما أنزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ؟ حتى فرغ من الاية
[ 108 ]
فقال: كان قوم يسألون رسول الله (ص) استهزاء، فيقول الرجل: من أبي ؟ والرجل تضل ناقته فيقول: أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. 9972 - حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو عامر وأبو داود، قالا: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: سأل الناس رسول الله (ص) حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم، فقال: لا تسألوني عن شئ إلا بينته لكم. قال أنس: فجعلت أنظر يمينا وشمالا، فأرى كل إنسان لافا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان ذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله، من أبي ؟ فقال: أبوك حذافة. قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد (ص) رسولا، وأعوذ بالله من سوء الفتن فقال رسول الله (ص): لم أر في الشر والخير كاليوم قط، إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط. وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. 9973 - حدثني محمد بن معمر البحراني، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعت أنسا يقول: قال رجل: يا رسول الله من أبي ؟ قال: أبوك فلان. قال: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدثهم: أن رسول الله (ص) سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر، فقال: لا تسألوني اليوم عن شئ إلا بينته لكم فأشفق أصحاب رسول الله (ص) أن يكون بين يديه أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي ؟ قال: أبوك حذافة. قال: ثم قام عمر أو قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد (ص) رسولا عائذا بالله أو قال: أعوذ بالله من سوء الفتن. قال: وقال
[ 109 ]
رسول الله (ص): لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط. 9974 - حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع، قالا: ثنا معاذ، قال: ثنا ابن عون، قال: سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: ذاك يوم قام فيهم النبي (ص)، فقال: لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به قال: فقام رجل، فكره المسلمون مقامه يومئذ، فقال: يا رسول الله من أبي ؟ قال: أبوك حذافة قال: فنزلت هذه الآية. 9975 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: نزلت: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم في رجل قال: يا رسول الله من أبي ؟ قال: أبوك فلان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: سألوا النبي (ص) حتى أكثروا عليه، فقام مغضبا خطيبا، فقال: سلوني فوالله لا تسألوني عن شئ ما دمت في مقامي إلا حدثتكم فقام رجل فقال: من أبي ؟ قال: أبوك حذافة واشتد غضبه وقال: سلوني فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم، فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، قال معمر: قال الزهري: قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد (ص) رسولا، فقال رسول الله (ص): أما والذي نفسي بيده، لقد صورت لي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر. قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدا أعق منك قط، أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف أهل الجاهلية، فتفضحها على رؤوس الناس فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته. 9976 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: غضب رسول الله (ص) يوما من الايام فقام خطيبا، فقال: سلوني فإنكم لا تسألوني عن شئ إلا
[ 110 ]
أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذاقة، وكان يطعن فيه، قال: فقال يا رسول الله من أبي ؟ قال: أبوك فلان فدعاه لابيه فقام إليه عمر، فقبل رجله وقال: يا رسول الله، رضينا بالله ربا، وبك نبيا، وبالاسلام دينا، وبالقرآن إماما، فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. 9977 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله (ص) وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال أين أبي ؟ قال: في النار فقام آخر فقال: من أبي ؟ قال: أبوك حذافة. فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد (ص) نبيا، وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله يعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) من أجل مسألة سائل سأله عن شئ في أمر الحج. ذكر من قال ذلك: 9978 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا منصور بن وردان الاسدي، قال: ثنا علي بن عبد الاعلى، قال: لما نزلت هذه الآية: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قالوا: يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت، ثم قالوا: أفي كل عام ؟ فسكت، ثم قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
[ 111 ]
9979 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن ابن عياض، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): إن الله كتب عليكم الحج فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال: من السائل ؟ فقال فلان، فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم. فأنزل الله هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم حتى ختم الآية. 9980 - حدثني محمد بن علي بن الحسين بن شقيق، قال سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله (ص) فقال: يا أيها الناس، كتب الله عليكم الحج. فقام محصن الاسدي، فقال: أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم. اسكتوا عنى ما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم إلى آخر الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زيادة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله (ص)، فذكر مثله، إلا أنه قام: فقام عكاشة ابن محصن الاسدي. 9981 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: ثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي العمر، قال: ثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرو، قال: ثني سليم بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله (ص) في الناس فقال: كتب عليكم الحج فقام رجل من الاعراب، فقال: أفي كل عام ؟ قال: فعلا كلام رسول الله (ص) وأسكت وأغضب واستغضب. فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل ؟ فقال
[ 112 ]
الاعرابي: أنا ذا، فقال: ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم ؟ ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحرج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الارض وحرمت عليكم منها موضع خف لوقعتم فيه قال: فأنزل الله تعالى عند ذلك يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء... إلى آخر الآية. 9982 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وذلك أن رسول الله (ص) أذن في الناس، فقال: يا قوم، كتب عليكم الحج فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كل عام ؟ فأغضب رسول الله (ص) غضبا شديدا، فقال: والذي نفس محمد بيده لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتم فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشئ فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا عنه. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شئ إلا وجدتم تبيانه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، قال: ثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد
[ 113 ]
لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم قال: لما أنزلت آية الحج، نادى النبي (ص) في الناس، فقال يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا: يا رسول الله، أعاما واحدا أم كل عام ؟ فقال لا بل عاما واحدا، ولو قلت كل عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم ثم قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: سألوا النبي (ص) عن أشياء فوعظهم، فانتهوا. 9983 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم قال: ذكر رسول الله (ص) الحج، فقيل: أواجب هو يا رسول الله كل عام ؟ قال: لا، لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما أطقتم، ولو لم تطيقوا لكفرتم ثم قال: سلوني فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شئ إلا أخبرته، وإن سألني عن أبيه فقام إليه رجل، فقال: من أبي ؟ قال: أبوك حذافة بن قيس فقام عمر، فقال: يا رسول ا (ص) رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد (ص) نبيا، ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله (ص) عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. ذكر من قال ذلك: 9984 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس لا تسألوا عن أشياء قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: ما جعل الله من كذا ولا كذا ؟ قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك. ثم قال: قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين قال: فقلت: قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس، فما لك تقول هذا ؟ فقال هيه.
[ 114 ]
9985 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن عكرمة عن الاعمش، قال: هو الذي سأل رسول الله (ص): من أبي ؟. وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله (ص) عن البحيرة والسائبة. وأولى الاقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله (ص) المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه، ومسألة سائله إذ قال: إن الله فرض عليكم الحج: أفي كل عام ؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الاخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل، وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقول غير بعيد من الصواب، ولكن الاخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القول به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي (ص) عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحج، أكل عام هو أم عاما واحدا ؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل لها، فأخبر كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله وأجل غيره. وهذا القول أولى الاقوال في ذلك عندي بالصحة، لان مخارج الاخبار بجميع المعاني التي ذكرت صحاح، فتوجيهها إلى الصواب من وجودها أولى. القول في تأويل قوله تعالى: وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله (ص)، عن مسألة رسول الله (ص)، عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه، من فرائض لم يفرضها الله عليهم، وتحليل أمور لهم يحللها لهم، وتحريم أشياء لم يحرمها عليهم قبل نزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابا ولا حيا، لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيان بوحي وتنزيل ساءكم لان التنزيل بذلك إذا جاءكم يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤنة وكلفة وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي كنتم من التقدم عليه في فسحة وسعة وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقا إلى ما كنتم ترونه باطلا، ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي
[ 115 ]
وتأويل تنزيلي ووحي وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله (ص)، الذي: 9986 - حدثنا به هناد بن السري، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. 9987 - حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها فذلك عفو من الله عفاه ثم يتلو: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الضحاك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن عبيد ابن عمير، أنه كان يقول: إن الله حرم وأحل، ثم ذكر نحوه. وأما قوله: عفا الله عنها فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الاشياء التي سألتم عنها رسول الله (ص) الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها، أن يؤاخذكم بها، أو يعاقبكم عليها، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم. والله غفور يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها، فتارك أن يفضحه في الآخرة حليم أن يعاقبه بها لتغمده التائب منها برحمته وعفوه، عن عقوبته عليها. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفا. وذلك ما: 9988 - حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني أبي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: يقول لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شئ إلا وجدتم تبيانه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) *. يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قوم من قبلكم: فلما آتاهموها الله، أصبحوا بها
[ 116 ]
جاحدين منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتج بها عليهم، وبرهانا على صحة ما جعلت برهانا على تصحيحه، كقوم صالح الذين سألوا الآية فلما جاءتهم الناقة آية عقروها، وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء: فلما أعطوها كفروا بها وما أشبه ذلك، فحذر الله تعالى المؤمنين بنبيه (ص) أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الامم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عندما سألتهموها، فقال لهم: لا تسألوا الآيات، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقد سأل الآيات من قبلكم قوم فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين. كالذي: 9989 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك. 9990 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قد سألها قوم من قبلكم قد سأل الآيات قوم من قبلكم، وذلك حين قيل له: غير لنا الصفا ذهبا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) *. يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة، ولا سيب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، ولكنكم الذين فعلتم ذلك أيها الكفرة، فحرمتموه افتراء على ربكم. كالذي: 9991 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن ابن الهاد: وحدثني يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثني الليث، قال: ثني ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال:
[ 117 ]
سمعت رسول الله (ص) يقول: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السائبة. 9992 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن إبراهيم بن الحرث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لاكثم بن الجون: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله (ص): لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي. 9993 - حدثنا هناد، قال: ثنا يونس، قال: ثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله (ص) قال: قد عرفت أول من بحر البحائر رجل من مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله، ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما قال: فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه. 9994 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو ابن فلان ابن فلان ابن خندف يجر قصبه في النار، وهو أول من غير دين إبراهيم وسيب السائبة، وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون. فقال أكثم: يا رسول الله، أيضرني شبههه ؟ قال: لا، لانك مسلم، وإنه كافر.
[ 118 ]
9995 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب. 9996 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله (ص): إني لاعرف أول من سيب السوائب وأول من غير عهد إبراهيم قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: عمرو بن لحي أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قصبه في النار، يؤذي ريحه أهل النار. وإني لاعرف أول من بحر البحائر. قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان، فجدع آذانهما وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النار هو وهما يعضانه بأفواههما، ويخبطانه بأخفافهما. والبحيرة: الفعيلة، من قول القائل: بحرت أذن هذه الناقة: إذا شقها، أبحرها بحرا، والناقة مبحورة، ثم تصرف المفعولة إلى فعيلة، فيقال: هي بحيرة. وأما البحر من الابل: فهو الذي قد أصابه داء من كثرة شرب الماء، يقال منه: بحر البعير يبحر بحرا، ومنه قول الشاعر: لاعلطنك وسما لا تفارقه كما يحز بحمى الميسم البحر وبنحو الذي قلنا في معنى البحيرة، جاء الخبر عن رسول الله (ص). 9997 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص، عن أبيه، قال: دخلت على
[ 119 ]
النبي (ص)، فقال النبي (ص): أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها، فتأخذ الموسى فتجدعها تقول هذه بحيرة، وتشق آذانها تقول هذه حرم ؟ قال: نعم، قال: فإن ساعد الله أشد، وموسى الله أحد، كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شئ. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا الاحوص، عن أبيه، قال أتيت رسول الله (ص) فقال: هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى الموسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر، وتشقها أو تشق جلودها فتقول هذه حرم، فتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال: نعم. قال: فإن ما آتاك الله لك حل، وساعد الله أشد، وموسى الله أحد وربما قال: ساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك. وأما السائبة: فإنها المسيبة المخلاة، وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرم الانتفاع به على نفسه، كما كان بعض أهل الاسلام يعتق عبده سائبة فلا ينتفع به ولا بولائه. وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة، كما قيل: عيشة راضية، بمعنى: مرضية. وأما الوصيلة، فإن الانثى من نعمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنا بذكر وأنثى، قيل: قد وصلت الانثى أخاها، بدفعها عنه الذبح، فسموها وصيلة. وأما الحامي: فإنه الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب، والانتفاع بسبب تتابع أولاد تحدث من فحلته. وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الاسماء وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك. ذكر الرواية بما قيل في ذلك:
[ 120 ]
9998 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان، حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول لاكثم بن الجون الخزاعي: يا أكثم رأيت عمر بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أيضرني شبهه يا نبي الله ؟ قال: لا، لانك مؤمن وهو كافر، وإنه كان أول من غير دين إسماعيل ونصب الاوثان، وسيب السوائب فيهم. وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيها ذكر سيبت، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الابل، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة. والوصيلة: أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر جعلت وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شئ فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي: أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمي ظهره، ولم يركب، ولم يجز وبره، ويخلى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.... إلى قوله: ولا يهتدون. 9999 - حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق في هذه الآية: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام قال أبو جعفر: سقط علي فيما أظن كلام منه قال: فأتيت علقمة فسألته، فقال: ما تريد إلى شئ كانت تصنعه أهل الجاهلية ؟ 10000 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن مسلم، قال: أتيت علقمة، فسألته عن قول الله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فقال: وما تصنع بهذا ؟ إنما هذا شئ من فعل الجاهلية قال: فأتيت مسروقا، فسألته، فقال: البحيرة: كانت الناقة إذا ولدت بطنا خمسا
[ 121 ]
أو سبعا، شقوا أذنها وقالوا: هذه بحيرة. قال: ولا سائبة قال: كان الرجل يأخذ بعض ماله، فيقول: هذه سائبة. قال: ولا وصيلة قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الاناث، وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا: وصلت أخاها، فلا يأكلونهما قال: فإذا مات الذكر، أكله الذكور دون الاناث. قال: ولا حام، قال: كان البعير إذا ولد وولد ولده، قالوا: قد قضى هذا الذي عليه، فلم ينتفعوا بظهره، قالوا: هذا حام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن الاعمش، عن مسلم بن صبيح، قال: سألت علقمة، عن قوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة قال: ما تصنع بهذا ؟ هذا شئ كان يفعله أهل الجاهلية. 10001 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الاحوص: ما جعل الله من بحيرة قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت. 10002 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن الشعبي: ما جعل الله من بحيرة قال: البحيرة: المخضرمة. ولا سائبة والسائبة: ما سيب للهدي. والوصيلة: إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرا وأنثى وصلت أخاها. والحام: الذي قد ضرب أولاد أولاده في الابل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي بنحوه، إلا أنه قال: والوصيلة: التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها. وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد. 10003 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق الازرق، عن زكريا، عن الشعبي، أنه سئل عن البحيرة، فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن السائبة، فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الابل والغنم فيتركونها عند آلهتهم لتذبح، فتخلط بغنم الناس، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال، فإذا مات منها شئ أكله الرجال والنساء جميعا. 10004 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: ما جعل الله من بحيرة وما معها: البحيرة من الابل، يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال، فما ولدت
[ 122 ]
من ذكر وأنثى فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها، فإذا ضرب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي والسائبة من الغنم على نحو ذلك إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت في السابع ذكرا أو أنثى أو ذكرين، ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم وإن توأمت أنثى وذكرا فهي وصيلة، ترك ذبح الذكر بالانثى، وإن كانتا أنثيين تركتا. 10005 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة فالبحيرة: الناقة، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن، فيعمد إلى الخامسة، فما لم يكن سقبا، فيبتك آذانها، ولا يجز لها وبرا، ولا يذوق لها لبنا، فتلك البحيرة. ولا سائبة كان الرجل يسيب من ماله ما شاء. ولا وصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعا، عمد إلى السابع، فإن كان ذكرا ذبح، وإن كانت أنثى تركت، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا: وصلت أخاها، فيتركان جميعا لا يذبحان، فتلك الوصيلة. وقوله: ولا حام كان الرجل يكون له الفحل فإذا لقح عشرا قيل: حام، فاتركوه 10006 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ليسيبوها لاصنامهم. ولا وصيلة يقول: الشاة. ولا حام يقول: الفحل من الابل. 10007 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام تشديد شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم، فكانت البحيرة مثل الابل إذا نتج الرجل خمسا من إبله نظر البطن الخامس، فإن كانت سقبا ذبح فأكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم، وإن كانت حائلا وهي الانثى تركت فبتكت أذنها، فلم يجز لها وبر ولم يشرب لها لبن ولم يركب لها ظهر ولم يذكر لله عليها اسم. وكانت السائبة:
[ 123 ]
يسيبون ما بدا لهم من أموالهم، فلا تمتنع من حوض أن تشرع فيه ولا من حمى أن ترتع فيه. وكانت الوصيلة من الشاء: من البطن السابع، إذا كان جديا ذبح فأكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم، وإن جاءت بذكر وأنثى قيل وصلت أخاها فمنعته الذبح. والحام: كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة أو ولد ولده، قيل حام، حمى ظهره، فلم يزم ولم يخطم ولم يركب. 10008 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فالبحيرة من الابل: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، إن كان الخامس سقبا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم وكانت أمه من عرض الابل، وإن كانت ربعة استحيوها، وشقوا أذن أمها، وجزوا وبرها، وخلوها في البطحاء، فلم تجز لهم في دية، ولم يحلبوا لها لبنا، ولم يجزوا لها وبرا، ولم يحملوا على ظهرها، وهي من الانعام التي حرمت ظهورها. وأما السائبة: فهو الرجل يسيب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله، أو برأ من وجع، أو ركب ناقة فأنجح، فإنه يسمي السائبة يرسلها فلا يعرض لها أحد من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا. وأما الوصيلة، فمن الغنم، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة، فكان آخر ذلك جديا ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة، وإن كانت عناقا استحيوها، وإن كانت جديا وعناقا استحيوا الجدي من أجل العناق، فإنها وصيلة وصلت أخاها. وأما لحام: فالفحل يضرب في الابل عشر سنين، ويقال: إذا ضرب ولد ولده قيل: قد حمي ظهره، فيتركونه لا يمس، ولا ينحر أبدا، ولا يمنع من كلا يريده، وهو من الانعام التي حرمت ظهورها. 10009 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، في قوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام قال: البحيرة من الابل التي يمنع درها للطواغيت. والسائبة من الابل: كانوا يسيبونها لطواغيتهم. والوصيلة من الابل كانت الناقة تبكر بأنثى، ثم تثني بأنثى، فيسمونها الوصيلة، يقولون: وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم، أو يذبحونها، الشك من أبي جعفر. والحام: الفحل من الابل، كان يضرب الضراب
[ 124 ]
المعدود، فإذا بلغ ذلك، قالوا: هذا حام، قد حمى ظهره فترك، فسموه الحام. قال معمر، قال قتادة: إذا ضرب عشرة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: البحيرة من الابل: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكوا آذانها، ثم أرسلوها، فلم ينحروا لها ولدا، ولم يشربوا لها لبنا، ولم يركبوا لها ظهرا. وأما السائبة، فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم، فلا تمنع حوضا أن تشرع فيه، ولا مرعى أن ترتع فيه. والوصيلة: الشاة: كانت إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت. 10010 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سلمان، عن الضحاك: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام أما البحيرة: فكانت الناقة إذا نتجوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبا، وإن كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها، وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه. وأما السائبة: فكان يسيب الرجل من ماله من الانعام، فيهمل في الحمى فلا ينتفع بظهره ولا بولده، ولا بلبنه، ولا بشعره، ولا بصوفه. وأما الوصيلة، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جديا، وإن كان عناقا استحيوه، وإن كان جديا وعناقا استحيوهما كليهما، وقالوا: إن الجدي وصلته أخته، فحرمته علينا. وأما الحامي: فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده، قالوا: قد حمى هذا ظهره، وأحرز أولاد ولده، فلا يركبونه، ولا يمنعونه من حمى شجر، ولا حوض ما شرع فيه، وإن لم يكن الحوض لصاحبه، وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شئ من شأنهم، لا إن ركبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا، ولا إن باعوا، ففي ذلك أنزل الله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة... إلى قوله: وأكثرهم لا يعقلون. 10011 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
[ 125 ]
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام قال: هذا شئ كانت تعمل به أهل الجاهلية، وقد ذهب. قال: البحيرة: كان الرجل يجدع أذنى ناقته ثم يعتقها، كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب، ولا تركب. والسائبة: يسيبها بغير تجديع. والحام: إذا نتج له سبع إناث متواليات، قد حمى ظهره، ولا يعمل عليه. والوصيلة من الغنم: إذا سبع إناث متواليات حمت لحمها أن يؤكل. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: ثني ابن الهاد، عن ابن شهاب، قال: قال سعيد بن المسيب: السائبة: التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شئ. والبحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد. والوصيلة: الناقة البكر تبكر أول نتاج الابل بأنثى، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسمونها للطواغيت، يدعونها الوصيلة، إن وصلت إحداهما بالاخرى. والحامي: فحل الابل يضرب العشر من الابل، فإذا نقص ضرابه يدعونه للطواغيت، وأعفوه من الحمل، فلم يحملوا عليه شيئا، وسموه الحامي. وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الاسلام، فلا نعرف قوما يعملون بها اليوم. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الاسلام اليوم أثر، ولا في الشرك نعرفه إلا بخبر، وكانت الاخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلاف الذي ذكرنا فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الاسماء، فما بينا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية. وأما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به. وقد وردت الاخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه، موصلا إلى حقيقته، وهو أن القوم كانوا محرمين من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعا منهم خطوات الشيطان، فوبخهم الله تعالى بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال، فالحرام من كل شئ عندنا، ما حرم الله تعالى ورسوله (ص)، بنص أو دليل. والحلال منه: ما أحله الله ورسوله كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون. اختلف أهل التأويل في المعني بالذين كفروا في هذا الموضع والمراد بقوله:
[ 126 ]
وأكثرهم لا يعقلون. فقال بعضهم: المعني بالذين كفروا: اليهود، وبالذين لا يعقلون: أهل الاوثان. ذكر من قال ذلك: 10012 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن دواد بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب قال: أهل الكتاب. وأكثرهم لا يعقلون قال: أهل الاوثان. وقال آخرون: بل هم أهل ملة واحدة، ولكن المفترين المتبوعون، والذين لا يعقلون: الاتباع. ذكر من قال ذلك: 10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا خارجة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون هم الاتباع. وأما الذين افتروا، يعقلون أنهم افتروا. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب الذين بحروا البحائر، وسيبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي مثل عمرو بن لحي وأشكاله، ممن سنوا لاهل الشرك السنن الرديئة وغيروا دين الله دين الحق وأضافوا إلى الله تعالى أنه هو الذي حرم ما حرموا وأحل ما أحلوا، افتراء على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقا عليه الافك وهم يعمهون. فكذبهم الله تعالى في قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا، فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك ويفترون على الله الكذب. وأن يقال: إن المعنيين بقوله وأكثرهم لا يعقلون هم أتباع من سن لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين سنوا ذلك لهم فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لانهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن، وأخبروهم أنها من عند الله كذبة في إخبارهم أفكة، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل. وهذا القول الذي قلنا في ذلك نظير قول الشعبي الذي ذكرناه، ولا معنى لقول من قال: عنى بالذي كفروا: أهل الكتاب، وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى على مشركي العرب، فالختم بهم
[ 127 ]
أولى من غيرهم، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. وبنحو ذلك كان يقول قتادة. 10014 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأكثرهم لا يعقلون يقول: لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرم عليهم، إنما كان من الشيطان ولا يعقلون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) *. يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيبون السوائب الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذب قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى من تحريمكم ما تحرمون من هذه الاشياء، أجابوا من دعاهم إلى ذلك، بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءنا يعملون به، ويقولون: نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل. قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ولو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئا، يقول: لم يكونوا يعلمون أن ما يضيفونه إلى الله تعالى من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كذب وفرية على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة لانهم كانوا أتباع المفترين ابتدءوا تحريم ذلك افتراء على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ما يضيفون ما كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، بل كانوا على ضلالة وخطأ. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) *. يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى، وانظروا لها فيما يقربها من ربها، فإنه لا يضركم من ضل يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم وأطعتموه
[ 128 ]
فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله. ونصب قوله: أنفسكم بالاغراء، والعرب تغري من الصفات ب عليك، وعندك ودونك وإليك. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم ذلك. ذكر من قال ذلك: 10015 - حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو الاشهب، عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي الاشهب، عن الحسن، قال: ذكر عن ابن مسعود يا أيها الذين آمنوا ثم ذكر نحوه. حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ؟ قال: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم. 10016 - حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال، قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الايام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى يقول: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لاصحابي، لان رسول الله (ص) قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب، ولكن هذه الآية لاقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. 10017 - حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، قال: ثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من
[ 129 ]
المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: عليكم أنفسكم فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عمرو بن عاصم، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي مازن، بنحوه. 10018 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم، قالا: ثنا عوف، عن سوار بن شبيب، قال: كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن نحن ستة كلهم قد قرءوا القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهر بعضهم على بعض بالشرك ؟ قال: فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، أنا أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ؟ عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب النبي (ص)،
[ 130 ]
فإذا فيهم شيخ يسندون إليه، فقرأ رجل: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال الشيخ: إنما تأويلها آخر الزمان. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا أبو مازن رجل من صالحي الازد من بني الجدان، قال: انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة فيها أصحاب رسول الله (ص)، فقرأ رجل من القوم هذه الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: فقال رجل من أسن القوم: دع هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان. 10019 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير، قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله (ص)، وإني لاصغر القوم، فتذاكروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ؟ فأقبلوا علي بلسان واحد، وقالوا: تنزع بآية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم، قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت 10020 - حدثنا هناد، قال: ثنا ليث بن هارون، قال: ثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فأمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: فسمعها ابن مسعود، فقال: مه لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل
[ 131 ]
أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبي (ص)، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي (ص) بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والاهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم ذكر نحوه. 10021 - حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا حرمي، قال: سمعت الحسن يقول: تأول أصحاب النبي (ص) هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الآية فليست لكم 10022 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرملي، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فقال: لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: أبا ثعلبة ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك أرى من بعد كم أيام الصبر، للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين
[ 132 ]
عاملا. قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملا منهم ؟ قال: لا، كأجر خمسين عاملا منكم. حدثنا علي بن سهل، قال: أخبرنا الوليد بن مسلم، عن ابن المبارك وغيره، عن عتبة بن أبي حكيم، (عن عمرو بن جارية اللخمي) عن أبي أمية الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نصنع بهذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. وقال آخرون: معنى ذلك: أن العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضل بعده وهلك. ذكر من قال ذلك: 10023 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعد إذا عمل بما أمرته به. 10024 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيتي. 10025 - حدثنا هناد، قال: ثنا ليث بن هارون، قال: ثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن صفوان بن الجون، قال: دخل عليه شاب من أصحاب الاهواء، فذكر
[ 133 ]
شيئا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل... الآية. 10026 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا أبو المطرف المخزومي، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ما لم يكن سيف أو سوط. 10027 - حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، قال: تلا الحسن هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال الحسن: الحمد لله بها والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة الله لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. ذكر من قال ذلك: 10028 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سعد البقال، عن سعيد بن المسيب: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. 10029 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: إذا أمرتم ونهيتم. 10030 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع: فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس، قال: قال أبو
[ 134 ]
بكر: إنكم تقرءون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمهم الله بعقابه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي بكر، عن النبي (ص)، فذكر نحوه. 10031 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغتروا بقول الله: عليكم أنفسكم فيقول أحدكم علي نفسي. والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو لتستعملن عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجيب لهم. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا بيان، عن قيس بن أبي حازم، قال: قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، عمهم الله بعقابه. 10032 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثني عيسى بن المسيب البجلي، ثنا قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه والظالم فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. حدثنا الربيع، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا سعيد بن سالم، قال: ثنا منصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن قيس بن أبي حازم، قال: صعد أبو بكر المنبر، منبر رسول الله (ص)، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله، وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله في كتابه أشد منها: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب.
[ 135 ]
حدثنا محمد بن سيار، قال: ثنا إسحاق بن إدريس، قال: ثنا سعيد بن زيد، قال: ثنا مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية، ولا تدرون ما هي: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم الله بعقاب. وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: 10033 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: يعني: من ضل من أهل الكتاب. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: أنزلت في أهل الكتاب. وقال آخرون: عني بذلك كل من ضل عن دين الله الحق. ذكر من قال ذلك: 10034 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال: كان الرجل إذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا، كان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل فقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأولى هذه الاقوال، وأصح التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق فيها، وهو: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم: الزموا العمل بطاعة الله، وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله، وأديتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والاخذ على يديه إذا رام ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى فيه.
[ 136 ]
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لان الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البر والتقوى ومن القيام بالقسط: الاخذ على يد الظالم ومن التعاون على البر والتقوى: الامر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الاخبار عن رسول الله (ص) من أمره بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان للناس ترك ذلك، لم يكن للامر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله (ص) ترك ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه. وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبين أنه قد دخل في معنى قوله: إذا اهتديتم ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب، من أن ذلك: أذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون. يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا أيها المؤمنون بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر فإن قبلوا فلهم ولكم، وإن تمادوا في غيهم وضلالهم فإن إلي مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم، وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كل فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا ثم أجازيه على عمله الذي قدم به علي جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى علي عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين) *. يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم يقول: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية يقول: وقت الوصية، اثنان ذوا عدل منكم يقول: ذوا رشد وعقل وحجا من المسلمين. كما: 10035 - حدثنا محمد بن بشار، وعبيد الله بن يوسف الجبيري، قالا: ثنا
[ 137 ]
مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، في قوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم قال: ذوا عقل. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ذوا عدل منكم فقال بعضهم: عني به: من أهل ملتكم. ذكر من قال ذلك: 10036 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: شاهدان ذوا عدل منكم من المسلمين. 10037 - حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر، في قوله: اثنان ذوا عدل منكم من المسلمين. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، في قوله: اثنان ذوا عدل منكم قال: اثنان من أهل دينكم. 10038 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته، عن قول الله تعالى: اثنان ذوا عدل منكم قال: من الملة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله، إلا أنه قال فيه: من أهل الملة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: اثنان ذوا عدل منكم قال: من أهل الملة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، فذكر مثله. 10039 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح، وقال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10040 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ذوا عدل منكم قال: ذوا عدل من أهل الاسلام.
[ 138 ]
10041 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ذوا عدل منكم قال: من المسلمين. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب يقول: اثنان ذوا عدل منكم: أي من أهل الاسلام. وقال آخرون: عني بذلك: ذوا عدل من حي الموصي، وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما. واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الآية ما هي، وما هما ؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون: هما وصيان. وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان، قوله: شهادة بينكم ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم. وتأويل الذين قالوا: هما وصيان لا شاهدان، قوله: شهادة بينكم بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض، من قولك: شهدت وصية فلان، بمعنى حضرته. وأولى التأويلين بقوله: اثنان ذوا عدل منكم تأويل من تأوله بمعنى: أنهما من أهل الملة دون من تأوله أنهما من حي الموصي. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لان الله تعالى عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم فغير جائز أن يصرف ما عمه الله تعالى إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم. وأولى المعنيين بقوله: شهادة بينكم اليمين، لا الشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكام لانا لا نعلم لله تعالى حكما يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزا صرف الشهادة في هذا الموضع إلى الشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والائمة. وفي حكم الآية في هذه اليمين على ذوي العدل، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك من أن الشهادة فيه الايمان دون الشهادة التي يقضي بها للمشهود له على المشهود عليه، وفساد ما خالفه.
[ 139 ]
فإن قال قائل: فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة ؟ فإن قلت: لا، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأولت، لانه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: فإن عثرا على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما هما المدعيين. وإن قلت بلى، قيل لك: وفي أي حكم الله تعالى وجدت ذلك ؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني، وذلك في حكم الرجل يدعي قبل رجل مالا، فيقر به المدعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه، فيكون القول قول رب الدين، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة، فيزعم المعترفة في يده أنه اشتراها من المدعي أو أن المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه. واختلف أهل العربية في الرافع قوله: شهادة بينكم، وقوله: اثنان ذوا عدل منكم. فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: شهادة بينكم شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف، نظير قوله: واسأل القرية وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت القرية بانتصاب الاهل وقامت مقامه، ثم عطف قوله: أو آخران على الاثنين. وقال بعض نحويي الكوفة: رفع الاثنين بالشهادة: أي ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم. وقال آخر منهم: رفعت الشهادة بإذا حضر. وقال: إنما رفعت بذلك لانه قال: إذا حضر، فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لانه قال تعالى ذكره: أو آخران من غيركم، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما ثبت. وأولى هذه الاقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: الشهادة مرفوعة بقوله: إذا حضر لان قوله: إذا حضر بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم، وهو أن يشهد اثنان، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جرى من ذكر الشهادة في قوله: شهادة بينكم.
[ 140 ]
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الشهادة مصدر في هذا الموضع، والاثنان اسم، والاسم لا يكون مصدرا، غير أن العرب قد تضع الاسماء مواضع الافعال. فالامر وإن كان كذلك، فصرف كل ذلك إلى أصح وجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها. القول في تأويل قوله تعالى: أو آخران من غيركم. يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: أو آخران من غيركم فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: 10042 - حدثنا حميد بن مسعدة، وبشر بن معاذ، قالا: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أو آخران من غيركم من أهل الكتاب. حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب: أو آخران من غيركم: من أهل الكتاب. حدثني أبو حفص الجبيري عبيد الله بن يوسف، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله. 10043 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، أنهما قالا في قوله: أو آخران من غيركم قالا: من غير أهل ملتكم. 10044 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، قال: ثني من سمع سعيد بن جبير، يقول، مثل ذلك. 10045 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز، قال: من غير أهل ملتكم.
[ 141 ]
10046 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. 10047 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين. 10048 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا قتيبة، قال: ثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، وسعيد بن جبير، في قوله: أو آخران من غيركم قالا: من غير أهل ملتكم. حدثنا عمرو، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد: أو آخران من غيركم قال: من أهل الكتاب. حدثنا عمرو، قال: ثنا محمد بن سوار، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. 10049 - حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر، في قوله: اثنان ذوا عدل منكم من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين. 10050 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن شريح، في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. 10051 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الاعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر.
[ 142 ]
حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: ثنا الاعمش، عن إبراهيم، عن شريح، قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن شريح، نحوه. 10052 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الاسدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم، قال: كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب: لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرا. 10053 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قول الله تعالى: أو آخران من غيركم قال: من غير الملة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، عن ذلك فقال: من غير أهل الملة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من غير أهل الصلاة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من غير أهل دينكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من غير أهل الملة. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: أو آخران من غيركم قال: من غير أهل ملتكم. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الرحمن بن عثمان، قال: ثنا هشام بن محمد، قال: سألت سعيد بن جبير عن قول الله: أو آخران من غيركم قال: من غير أهل ملتكم.
[ 143 ]
10054 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا عمرو، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: من غير أهل ملتكم. 10055 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أو آخران من غيركم قال: من غير أهل الاسلام. 10056 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: قال أبو إسحاق: أو آخران من غيركم قال: من اليهود والنصارى. قال: قال شريح: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر. 10057 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. فقدما الكوفة، فأتيا الاشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله (ص). فأحلفهما، وأمضى شهادتهما. 10058 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة الازرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدقوقا. 10059 - حدثنا عمرو، قال: ثنا عثمان بن الهيثم، قال: ثنا عوف، عن محمد، أنه كان يقول في قوله: اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم شاهدان من المسلمين وغير المسلمين. 10060 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أو آخران من غيركم: من غير أهل الاسلام. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، قال: من غير أهل الاسلام.
[ 144 ]
10061 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، قال: قال زيد بن أسلم في هذه الآية: شهادة بينكم... الآية كلها. قال: كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الاسلام، وذلك في أول الاسلام والارض حرب والناس كفار، إلا أن رسول الله (ص) وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حيكم وعشيرتكم. ذكر من قال ذلك: 10062 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. 10063 - حدثنا عمرو، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا صالح بن أبي الاخضر، عن الزهري، قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: اثنان ذوا عدل منكم أي من عشيرته أو آخران من غيركم قال: من غير عشيرته. 10064 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة: أو آخران من غيركم قال: من غير أهل حيكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة: أو آخران من غيركم قال: من غير حيكم. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الاحول، عن عكرمة في قول الله تعالى: أو آخران من غيركم قال: من غير أهل حيه يعني من المسلمين.
[ 145 ]
حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك، عن الحسن: أو آخران من غيركم قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك كلهم من المسلمين. 10065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قوله: أو آخران من غيركم قال: مسلمين من غير حيكم. 10066 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل، قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت... إلى قوله: والله لا يهدي القوم الفاسقين قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب ؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من غير أهل المرء الموصي ؟ أم هما من غير المسلمين ؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله (ص) ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا، فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية، فإن سلموا جازت وصيته وإن ارتابوا أن يكونوا بدلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشئ حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله: إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذا لمن الآثمين فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شئ من ذلك، فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الاولان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله: لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا، إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم... الآية. وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوله: أو آخران من غير أهل الاسلام وذلك أن الله تعالى عرف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين، ولا وجه لان يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم
[ 146 ]
أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين. فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه. وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: ذوا عدل منكم إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه. وإذا صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله: أو آخران من غيركم إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أي دين كانا، لان الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألا يكونا من (غير) أهل الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت. يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الارض. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الارض. فأصابتكم مصيبة الموت يقول: فنزل بكم الموت. ووجه أكثر أهل التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم، وإنما فعل ذلك من فعله، لانه وجه معنى الشهادة في قوله: شهادة بينكم إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم، أو يبطلها. ذكر بعض من تأول ذلك كذلك: 10067 - حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر، في قوله: ذوا عدل منكم من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين. 10068 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من
[ 147 ]
غيركم قال: اثنان من أهل دينكم، أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم. 10069 - حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية: شهادة بينكم... إلى قوله: أو آخران من غيركم قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، فشهادتهم جائزة. 10070 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم قال: هذا في الحضر، أو آخران من غيركم في السفر، إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت هذا في الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما. 10071 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وسعيد بن جبير، أنهما قالا في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... الآية، قال: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب. 10072 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... إلى قوله: ذوا عدل منكم فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين. ثم قال: أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين. ووجه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الايمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا
[ 148 ]
للامانة، من مؤمن وكافر، في السفر والحضر. وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد. القول في تأويل قوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى. يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما، أو آخران من غيركم، إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من ما وتركة لورثتكم، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت، فأديا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما، يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو: فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة. فيقسمان بالله إن ارتبتم يقول: يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها، أو تبديلها. والارتياب: هو الاتهام. لا نشتري به ثمنا يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحق نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم. والهاء في قوله به من ذكر الله، والمعني به الحلف والقسم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فيعرف من معنى الكلام، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. ولو كان ذا قربى يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لاحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. ذكر من قال ذلك: 10073 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله
[ 149 ]
بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلا. وقوله: تحبسونهما من بعد الصلاة من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى. واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة فقال بعضهم: هي صلاة العصر. ذكر من قال ذلك: 10074 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الاشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله (ص). قال: فأحلفهما بعد العصر باالله: ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. 10075 - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أو آخران من غيركم قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. 10076 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله. 10077 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... إلى: فأصابتكم مصيبة الموت فهذا رجل مات بغربة من الارض وترك تركته وأوصى بوصيته وشهد على وصيته رجلان، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر. وكان يقال عندها تصير الايمان. 10078 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير، أنهما قالا في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم
[ 150 ]
قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب، فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قبل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا، ولا كتمنا، ولا خنا، ولا غيرنا. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن القطان، قال: ثنا زكريا، قال: ثنا عامر: أن رجلا توفي بدقوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها، فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا، وإن هذه الوصية. فأجازها. وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما. ذكر من قال ذلك: 10079 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... إلى قوله: ذوا عدل منكم قال: هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه، قال: هذا في الحضر: أو آخران من غيركم في السفر إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله: تحبسونهما من بعد الصلاة... إن ارتبتم. قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العلجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الاشعري في داره، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخونوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله لا نشتري ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الآثمين، أن صاحبهم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته. فيقول لهما الامام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
[ 151 ]
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر لان الله تعالى عرف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الالف واللام فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى، لان لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك. فإذ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي (ص) صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات، كان معلوما أن التي عنيت بقوله: تحبسونهما من بعد الصلاة هي الصلاة التي كان رسول الله (ص) يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس. وكان ابن زيد يقول في قوله: لا نشتري به ثمنا ما: 10080 - حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لا نشتري به ثمنا قال: نأخذ به رشوة. القول في تأويل قوله تعالى: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين. اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: ولا نكتم شهادة الله بإضافة الشهادة إلى الله، وخفض اسم الله تعالى يعني: لا نكتم شهادة الله عندنا. وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي: 10081 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر، أنه كان يقرأ: ولا نكتم شهادة آلله، إنا إذا لمن الآثمين بقطع الالف وخفض اسم الله. هكذا حدثنا به ابن وكيع. وكأن الشعبي وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة عندنا، ثم ابتدأ يمينا باستفهام بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما لمن الآثمين. وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما
[ 152 ]
10082 - حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي، أنه قرأ: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين. قال أحمد، قال أبو عبيد: تنون شهادة، ويخفض الله على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع الالف على الاستفهام. وخفض إنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. وقرأها بعضهم: ولا نكتم شهادة الله بتنوين الشهادة ونصب اسم الله، بمعنى: ولا نكتم الله شهادة عندنا. وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: ولا نكتم شهادة الله بإضافة الشهادة إلى اسم الله وخفض اسم الله، لانها القراءة المستفيضة في قراءة الامصار التي لا يتناكر صحتها الامة. وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله وإن كان صاحبها بعيدا. 10083 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن زيد عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن عثر على أنهما استحقآ إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: فإن عثر: فإن اطلع فيهما، أو ظهر. وأصل العثر: الوقوع على الشئ والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلان بكذا: إذا صدمته وأصابته، ووقعت عليه ومنه قول الاعشى ميمون بن قيس: بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
[ 153 ]
يعني بقوله: عثرت: أصاب ميسم خفها حجر أو غيره، ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شئ كان عنه خفيا، كقولهم: عثرت على الغزل بأخرة، فلم تدع بنجد قردة، بمعنى: وقعت. وأما قوله: على أنهما استحقا إثما فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله على أنهما استحقا إثما، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنا، ولا بدلنا، ولا غيرنا، فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا، أو غيرا وصيته، أو بدلا، فأثما بذلك من حلفهما بربهما فآخران يقومان مقامهما يقول: يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت الاوليان الموصى إليهما. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10084 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أو آخران من غيركم قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر، فإذا اطلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئا، حلف أولياء الميت إنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا. 10085 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله. 10086 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: أو آخران من غيركم من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة، فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا فإن اطلع الاولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام
[ 154 ]
رجلان من الاولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد فذلك قوله: فإن عثر على أنهما استحقا إثما يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا، فآخران يقومان مقامهما يقول: من الاولياء، فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد. فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الاولياء. 10087 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فإن عثر على أنهما استحقا إثما أي اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالايمان فنقلها إلى الآخرين بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثما. فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الاسلام، وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله. ذكر من قال ذلك: 10088 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت... إلى قوله: ذوا عدل منكم من أهل الاسلام، أو آخران من غيركم من غير أهل الاسلام، إن أنتم ضربتم في الارض... إلى: فيقسمان بالله يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شئ يخالف ما أنزل الله تعالى من الفريضة، يعني اللذين ليسا من أهل الاسلام، فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميت، فيحلفان بالله: ما كان صاحبنا ليوصي بهذا، أو: إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما. 10089 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الآثمين إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته فإذا شهدا، وأجاز الامام شهادتهما على ما شهدا، قال لاولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الارض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة أو أحدا يطعن عليهما رددنا شهادتهما فينطلق الاولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدا يطعن عليهما أو هما غير مرضيين عندهم، أو اطلع على أنهما خانا شيئا من المال وجدوه عندهما، فأقبل الاولياء فشهدوا عند الامام وحلفوا بالله: لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليهما
[ 155 ]
أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا. فذلك قوله: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان. وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لانهما ادعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما. ذكر من قال ذلك: 10090 - حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا، فإن عثر على أنهما استحقا إثما أي بدعواهما لانفسهما، فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان أن صاحبنا لم يوص إليكما بشئ مما تقولان. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه، أو الاقرار يكون من الشهود ببعض ما ادعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم دعواهما في الذي أقرا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت. وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال في ذلك بالصحة، لانا لا نعلم من أحكام الاسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك. ولم نجد ذلك كذلك صح بخبر عن الرسول (ص) ولا بإجماع من الامة، لان استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى، فيكون أصلا مسلما. والمقول إذا خرح من أن يكون أصلا أو نظيرا لاصل فيما تنازعت فيه الامة، كان واضحا فساده. وإذا فسد هذا القول بما ذكرناه، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدعيا لو ادعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نقل الايمان عنهم
[ 156 ]
إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم فمعلوم بذلك فساد قول من قال: ألزم اليمين الشهود لدعواهم لانفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله، على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الاخبار عن بعض أصحاب رسول الله (ص)، أن رسول الله (ص) قضى به حين نزلت هذه الآية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم. ذكر من قال ذلك: 10091 - حدثني ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله (ص). ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداري وعدي بن بداء. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم. 10092 - حدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن زاذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تمم الدراي في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم، يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جام فضة يريد بن الملك، وهو عظم تجارته، فمرض، فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات، أخذنا ذلك الجام، فبعناه بألف درهم فقسمناه أنا وعدي بن بداء، (فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه) فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله (ص) المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر،
[ 157 ]
وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الله (ص)، فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... إلى قوله: أن ترد أيمان بعد أيمانهم فقام عمرو بن العاص، ورحل آخر منهم، فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء. 10093 - حدثنا القاسم: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره. قال: وثنا الحجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، دخل حديث بعضهم في بعض: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... الآية، قال: كان عدي وتميم الداري وهما من لخم نصرانيان يتجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجر رسول الله (ص) حولا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشام تاجرا. فخرجوا جميعا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات، فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا. ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا قال لهما أهله: فباع شيئا أو ابتاعه ؟ قالا: لا. قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئا ؟ قالا: لا. قالوا: فهل تجر تجارة ؟ قالا: لا. قالوا: فإنا قد فقدنا بعضه فاتهما، فرفعوهما إلى رسول الله (ص)، فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت... إلى قوله: إنا إذا لمن الآثمين قال: فأمر رسول الله (ص) أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا قال: فمكثنا ما شاء الله أن نمكث، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذب أنفسنا فترافعوا إلى رسول الله (ص)، فنزلت الآية الاخرى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فأمر رسول الله (ص) رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه. ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي (ص)، وكان يقول: صدق الله ورسوله، أنا أخذت الاناء.
[ 158 ]
10094 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم... الآية كلها، قال: هذا شئ حين لم يكن الاسلام إلا بالمدينة، وكانت الارض كلها كفرا، فقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم من المسلمين، أو آخران من غيركم من غير أهل الاسلام، إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت قال: كان الرجل يخرج مسافرا والعرب أهل كفر، فعسى أن يموت في سفره فيسند وصيته إلى رجلين منهم، فيقسمان بالله إن ارتبتم في أمرهما إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا. فإن عثر على أنهما استحقا إثما إنما حلفا على باطل وكذب. فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان بالميت فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه. قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك ردت القسامة على وارثه، فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان فتبطل أيمانهم، واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين الكاذبين الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميم الداري وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجل، وجاءا بتركته، فقال أولياء الميت: كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به. فحلفا خلف الصلاة. ثم عثر عليهما بعد والابريق معهما فلما عثر عليهما ردت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنها الذي حلف عليه الاوليان. 10095 - حدثنا الربيع، قال: ثنا الشافعي، قال: أخبرنا سعيد بن معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، قال بكر: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله: اثنان ذوا عدل منكم أن رجلين نصرانيين من أهل دارين، أحدهما تميمي والآخر يماني، صاحبهما مولى لقريش في
[ 159 ]
تجارة، فركبوا البحر ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورقة. فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريين، فمات. وقبض الداريان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله. وأنكر القوم قلة المال، فقالوا للداريين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما اتيتمونا به، فهل باع شيئا أو اشترى شيئا فوضع فيه ؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا: لا. قالوا: فإنكما خنتمانا فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى النبي (ص)، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يحبسا من بعد الصلاة، أمر النبي (ص) فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا من الدنيا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الآثمين فلما حلفا خلي سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت، فأخذ الداريان فقالا: اشتريناه منه في حياته وكذبا، فكلفا البينة فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي (ص)، فأنزل الله تعالى: فإن عثر يقول: فإن اطلع على أنهما استحقا إثما، يعني الداريين إن كتما حقا، فآخران من أولياء الميت يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان، فيقسمان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يطلب قبل الدار يين لحق، وما اعتدينا، إنا إذن لمن الظالمين. هذا قول الشاهدين أولياء الميت، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني: الداريين والناس أن يعودوا لمثل ذلك. قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الاخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسند إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدعي ذلك قبله إلا بيمين، وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت، بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقا إثما في أيمانهما، ثم ظهر على كذبهما فيها، إن القوم ادعوا فيما صح أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الاملاك، مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدعى، وتكون البينة فيها على المدعي وفساد ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى
[ 160 ]
في مواضع أخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين، وكذلك معنى قوله: شهادة بينكم إنما هو قسم بينكم، إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم إن كانا ائتمنا على ما قال، فارتيب بهما، أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما. وذلك أن الله تعالى لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال: فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما. ومعلوم أن أولياء الميت المدعين قبل اللذين ظهر على خيانتهما، غير جائز أن يكون شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعى عليه لمدع، لانه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لاحد بدعواه، ويمينه على مدعى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه ولا برهان. فإذا كان معلوما أن قوله: لشهادتنا أحق من شهادتهما إنما معناه: قسمنا أحق من قسمهما، وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله: أحق من شهادتهما صح أن معنى قوله: شهادة بينكم بمعنى الشهادة في قوله: لشهادتنا أحق من شهادتهما وأنها بمعنى القسم. واختلفت القراء في قراءة قوله: من الذين استحق عليهم الاوليان فقرأ ذلك قراء الحجاز والعراق والشام: من الذين استحق عليهم الاوليان بضم التاء. وروي عن علي وأبي بن كعب والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: من الذين استحق عليهم بفتح التاء. واختلفت أيضا في قراءة قوله: الاوليان فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشام والبصرة: الاوليان، وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: الاولين. وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: من الذين استحق عليهم الاولان. وأولى القراءتين بالصواب في قوله: من الذين استحق عليهم قراءة من قرأ بضم التاء، لاجماع الحجة من القراء عليه، مع مساعدة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الاثم فيهم، يقومان مقام المستحق الاثم فيهما بخيانتهما ما خانا من مال الميت. وقد ذكرنا قائل ذلك أو أكثر قائليه فيما مضى قبل، ونحن ذاكروا باقيهم إن شاء الله تعالى ذلك.
[ 161 ]
10096 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: شهادة بينكم أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم، فإن رضي ورثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتهما لصادقان، فإن عثر وجد لطخ حلف الاثنان الاوليان من الورثة، فاستحقا، وأبطلا أيمان الشاهدين. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح التاء، أرادوا أن يوجهوا تأويله إلى: فآخران يقومان مقامهما مقام المؤتمنين اللذين عثر على خيانتهما في القسم والاستحقاق به عليهما دعواهما قبلهما من الذين استحق على المؤتمنين على المال على خيانتهما القيام مقامهما في القسم والاستحقاق في الاوليان بالميت. وكذلك كانت قراءة من رويت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: من الذين استحق بفتح التاء على معنى: الاوليان بالميت وماله. وذلك مذهب صحيح وقراءة غير مدفوعة صحتها، غير أنا نختار الاخرى لاجماع الحجة من القراء عليها مع موافقتها التأويل الذي ذكرنا عن الصحابة والتابعين. 10097 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب عن علي، أنه كان يقرأ: من الذين استحق عليهم الاوليان. 10098 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن وائل مولى أبي عبيد، عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: من الذين استحق عليهم الاوليان. وأما أولى القراءات بالصواب في قوله: الاوليان عندي، فقراءة من قرأ: الاوليان بصحة معناها وذلك لان معنى: فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق فيهم الاثم، ثم حذف الاثم وأقيم مقامه الاوليان، لانهما هما اللذان ظلما وأثما فيهما بما كان من خيانة اللذين استحقا الاثم وعثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان ائتمنهما عليه الميت، كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مثل ذلك من حذفهم الفعل اجتزاء بالاسم، وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما
[ 162 ]
قال: فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا فقال به، فعاد بالهاء على اسم الله وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به: لا نشتري بالقسم بالله استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ بذكر الاوليين من ذكر الاثم الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إياها، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. وأما الذين قرءوا ذلك الاولين فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن الذين، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذ كان الذين جمعا وخفضا، إذ كان الذين مخفوضا. وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشئ أول إذا كان له آخر هو له أول، وليس للذين استحق عليهم الاثم آخرهم له أول، بل كانت أيمان الذين عثر على أنهما استحقا إثما قبل إيمانهم، فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرا أولى أن يكونوا آخرين من أن يكونوا أولين وأيمانهم آخرة لاولى قبلها. وأما القراءة التي حكيت عن الحسن، فقراءة عن قراءة الحجة من القراء شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بعدها من الصواب. واختلف أهل العربية في الرافع لقوله: الاوليان إذا قرئ كذلك، فقال بعض نحويي البصرة: يزعم أنه رفع ذلك بدلا من آخران في قوله: فآخران يقومان مقامهما وقال: إنما جاز أن يبدل الاوليان وهو معرفة من آخران وهو نكرة، لانه حين قال: يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم كان كأنه قد حدهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى، فقال: الاوليان، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: علي يوم يملك الاموراصوم شهور وجبت نذورا وبادنا مقلدا منحورا قال: فجعله علي واجب، لانه في المعنى قد أوجب. وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون الاوليان بدلا من آخران من أجل أنه قد نسق فيقسمان على يقومان في قوله: فآخران يقومان فلم
[ 163 ]
يتم الخبر عند من قال: لا يجوز الابدال قبل إتمام الخبر، كما قال: غير جائز مررت برجل قام زيد وقعد وزيد بدل من رجل. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: الاوليان مرفوعان بما لم يسم فاعله، وهو قوله: استحق عليهم وأنهما موضع الخبر عنهما، فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما وذلك أن معنى الكلام: فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاثم بالخيانة، فوضع الاوليان موضع الاثم كما قال تعالى في موضع آخر: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ومعناه: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر ؟ وكما قال: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم، وكما قال بعض الهذليين: يمشي بيننا حانوت خمرمن الخرس الصراصرة القطاط وهو يعني صاحب حانوت خمر، فأقام الحانوت مقامه لانه معلوم أن الحانوت لا يمشي، ولكن لما كان معلوما عنده أنه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه حذف الصاحب، واجتزأ بذكر الحانوت منه، فكذلك قوله: من الذين استحق عليهم الاوليان إنما هو من الذين استحق فيهم خيانتهما، فحذفت الخيانة وأقيم المختانان مقامها، فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر. وأما قوله: عليهم في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان يعني: في ملك سليمان، وكما قال: ولاصلبنكم في جذوع النخل ف في توضع موضع على، وعلى في موضع في كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، ومنه قول الشاعر: متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث
[ 164 ]
وقد تأولت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان أنهما رجلان آخران من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الاولين. ذكر من قال ذلك: 10099 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال: إذا كان الرجل بأرض غربة، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان، فشهدا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين وأبطلت شهادة الآخرين. 10100 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فإن عثر أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا، أجيزت شهادة الآخرين وأبطلت شهادة الاولين. 10101 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كان ابن عباس يقرأ: من الذين استحق عليهم الاولين قال: كيف يكون الاوليان، أرأيت لو كان الاوليان صغيرين ؟ حدثنا هناد وابن وكيع، قال: ثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: كان يقرأ: من الذين استحق عليهم الاولين قال: وقال: أرأيت لو كان الاوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما ؟
[ 165 ]
قال الامام أبو جعفر: فذهب ابن عباس فيما أرى إلى نحو القول الذي حكيت عن شريح وقتادة، من أن ذلك رجلان آخران من المسلمين يقومان مقام النصرانيين، أو عدلان من المسلمين هما أعدل وأجوز شهادة من الشاهدين الاولين أو المقسمين. وفي إجماع جميع أهل العلم على أن لا حكم لله تعالى يجب فيه على شاهد يمين فيما قام به من الشهادة، دليل واضح على أن غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى: فآخران يقومان مقامهما أولى به. وأما قوله الاوليان فإن معناه عندنا: الاولى بالميت من المقسمين الاولين فالاولى، وقد يحتمل أن يكون معناه: الاولى باليمين منهما فالاولى، ثم حذف منهما والعرب تفعل ذلك فتقول: فلان أفضل، وهي تريد أفضل منك، وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الالف واللام، فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى، فقالوا: هذا الافضل، وهذا الاشرف يريدون هو الاشرف منك. وقال ابن زيد: معنى ذلك: الاوليان بالميت. 10102 - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه. القول في تأويل قوله تعالى: فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهم وما اعتدينا إنا إذن لمن الظالمين. يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الاوليان باليمين والميت من الخائنين: لشهادتنا أحق من شهادتهما يقول: لايماننا أحق من أيمان المقسمين المستحقين الاثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا، وكذا في أيمانهما التي حلفا بها. وما اعتدينا يقول: وما تجاوزنا الحق في أيماننا. وقد بينا أن معنى الاعتداء: المجاوزة في الشئ حده. إنا إذن لمن الظالمين يقول: إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين، لمن الظالمين يقول: لمن عداد من يأخذ ما ليس له أخذه، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين) *.
[ 166 ]
يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك: هذا الذي قلت لكم في أمر الاوصياء إذا ارتبتم في أمرهم واتهمتموهم بخيانة المال من أوصى إليهم من حبسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إياهم على ما ادعى قبلهم أولياء الميت أدنى لهم أن يأتوا بالشهادة على وجهها يقول: هذا الفعل إذا فعلتم بهم أقرب لهم أن يصدقوا في أيمانهم، ولا يكتموا، ويقروا بالحق، ولا يخونوا. أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم يقول أو يخافوا هؤلاء الاوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقوا إثما في أيمانهم بالله، أن ترد أيمانهم على أولياء الميت بعد أيمانهم التي عثر عليها أنها كذب، فيستحقوا بها ما ادعوا قبلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذ في أيمانهم وشهادتهم مخافة الفضيحة على أنفسهم وحذرا أن يستحق عليهم ما خانوا فيه أولياء الميت وورثته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وقد تقدمت الرواية بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعض من بقي منهم. 10103 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن عثر على أنهما استحقا إثما يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا، فآخران يقومان مقامهما يقول: من الاولياء، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة وأنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الاولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم. وليس على شهود المسلمين أقسام، وإنما الاقسام إذا كانوا كافرين. 10104 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة... الآية، يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العقاب. 10105 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمان هؤلاء. وقال آخرون: معنى ذلك: تحبسونهما من بعد الصلاة، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، وعلى أنهما استحقا إثما، فآخران يقومان مقامهما. ذكر من قال ذلك: 10106 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا
[ 167 ]
قليلا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الآثمين، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته فيقول لهما الامام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم أجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإن قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. القول في تأويل قوله تعالى: واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين. يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله، وأن تخونوا من ائتمنكم. واسمعوا يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به وانتهوا إليه. والله لا يهدي القوم الفاسقين يقول: والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان وعصى ربه. وكان ابن زيد يقول: الفاسق في هذا الموضع: هو الكاذب. 10107 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: والله لا يهدي القوم الفاسقين: الكاذبين يحلفون على الكذب. وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفوع، إلا أن الله تعالى عم الخبر بأنه لا يهدي جميع الفساق، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض بخبر ولا عقل، فذلك على معاني الفسق كلها حتى يخصص شيئا منها ما يجب التسليم له فيسلم له. ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو محكم ثابت ؟ فقال بعضهم: هو منسوخ. ذكر من قال ذلك: 10108 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن رجل، قد سماه، عن حماد، عن إبراهيم، قال: هي منسوخة. 10109 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هي منسوخة. يعني هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم... الآية. وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قول أكثرهم فيما مضى. والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية منسوخ، وذلك أن من حكم الله تعالى
[ 168 ]
ذكره الذي عليه أهل الاسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص)، إلى يومنا هذا، أن من ادعي عليه دعوى مما يملكه بنو آدم أن المدعى عليه لا يبرئه مما ادعي عليه إلا اليمين إذا لم يكن للمدعي بينة تصحح دعواه، وأنه إن اعترف وفي يدي المدعى سلعة له، فادعى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده: بل هي لي اشتريتها من هذا المدعي، أن القول قول من زعم الذي هي في يده أنه اشتراها منه دون من هي في يده مع يمينه إذا لم يكن للذي هي في يده بينة تحقق به دعواه الشراء منه. فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمر وصية الموصي إلى عدلين من المسلمين أو إلى آخرين من غيرهم، إنما ألزم النبي (ص) فيما ذكر عنه الوصيين اليمين حين ادعى عليهما الورثة ما ادعوا ثم لم يلزم المدعى عليهما شيئا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الابريق أو غير ذلك من أموالهم فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذ ألزم النبي (ص) ورثة الميت اليمين، لان الوصيين تحولا مدعيين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميت أنه لهما اشتريا ذلك منه فصارا مقرين بالمال للميت مدعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذ إلى بينة تصحح دعواهما وورثة الميت رب السلعة أولى باليمين منهما، فذلك قوله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما... الآية. فإذا كان تأويل ذلك كذلك فلا وجه لدعوى مدع أن هذه الآية منسوخة، لانه غير جائز أن يقضى على حكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ إلا بخبر يقطع العذر إما من عند الله أو من عند رسوله (ص)، أو بورود النقل المستفيض بذلك، فأما ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ. القول في تأويل قوله تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب) *. يقول تعالى ذكره: واتقوا الله أيها الناس، واسمعوا وعظه إياكم وتذكيره لكم، واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ثم حذف واحذروا واكتفى بقوله: واتقوا الله واسمعوا عن إظهاره، كما قال الراجز:
[ 169 ]
علفتها تبنا وماء بارداحتى غدت همالة عيناها يريد: وسقيتها ماء باردا، فاستغنى بقوله علفتها تبنا من إظهار سقيتها، إذ كان السامع إذا سمعه عرف معناه. فكذلك في قوله: يوم يجمع الله الرسل حذف واحذروا لعلم السامع معناه، اكتفاء بقوله: واتقوا الله واسمعوا إذ كان ذلك تحذيرا من أمر الله تعالى خلقه عقابه على معاصيه. وأما قوله: ماذا أجبتم فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي والاقرار بي والعمل بطاعتي والانتهاء عن معصيتي ؟ قالوا: لا علم لنا. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى قولهم: لا علم لنا لم يكن ذلك من الرسل إنكارا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم، ولكنهم ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم، ثم أجابوا بعد أنه ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. ذكر من قال ذلك: 10110 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا قال: ذلك أنهم لما نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا، قالوا: لا علم لنا. ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم. 10111 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، قال: سمعت الحسن يقول، في قوله: يوم يجمع الله الرسل.... الآية، قال: من هول ذلك اليوم. 10112 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن مجاهد في قوله: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم فيفزعون، فيقول: ماذا أجبتم ؟ فيقولون: لا علم لنا. وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علمتنا. ذكر من قال ذلك: 10113 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد، في قوله: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم فيقولون: قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب.
[ 170 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. ذكر من قال ذلك: 10114 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقال آخرون: معنى ذلك ماذا أجبتم: ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا ؟. ذكر من قال ذلك: 10115 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم: ماذا عملوا بعدكم، وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا: قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب. وأولى الاقوال بالصواب قول من قال: معناه: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، لانه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت علام الغيوب: أي أنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفي العلوم وجليها. فإنما نفي القوم أن يكون لهم بما سئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره، لا أنهم نفوا أن يكونوا علموا ما شاهدوا، كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنهم يخبرون بما أجابتهم به الامم وأنهم سيشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، فقال تعالى ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. وأما الذي قاله ابن جريج من أن معناه: ماذا عملت الامم بعدكم ؟ وماذا أحدثوا ؟ فتأويل لا معنى له، لان الانبياء لم يكن عندها من العلم بما يحدث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عما عملت الامم بعدها والامر كذلك فإنما يقال لها: ماذا عرفناك أنه كائن منهم بعدك ؟ وظاهر خبر الله تعالى ذكره عن مسألته إياهم يدل على غير ذلك القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة
[ 171 ]
والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين) *. يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس ف إذ من صلة أجبتم، كأن معناها: ماذا أجابت عيسى الامم التي أرسل إليها عيسى. فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الامم إياها في عهد عيسى، ولم يكن في عهد عيسى من الرسل إلا أقل ذلك ؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى عنى بقوله: فيقول ماذا أجبتم الرسل الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى. فخرج الخبر مخرج الجميع، والمراد منهم من كان في عهد عيسى، كما قال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم والمراد: واحد من الناس، وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. ومعنى الكلام: إذ قال الله حين قال يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس يقول: يا عيسى، اذكر أيادي عندك وعند والدتك، إذ قويتك بروح القدس وأعنتك به. وقد اختلف أهل العربية في أيدتك ما هو من الفعل، فقال بعضهم: هو فعلتك، كما في قولك: قويتك فعلت من القوة. وقال آخرون: بل هو فاعلتك من الايد. وروي عن مجاهد أنه قرأ: إذ آيدتك بمعنى: أفعلتك من القوة والايد. وقوله: بروح القدس يعني بجبريل، يقول: إذ أعنتك بجبريل. وقد بينت معنى ذلك وما معنى القدس فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب
[ 172 ]
والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين. يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لعيسى: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس في حال تكليمك الناس في المهد وكهلا. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره أنه أيده بروح القدس صغيرا في المهد وكهلا كبيرا، فرد الكهل على قوله في المهد لان معنى ذلك: صغيرا، كما قال الله تعالى ذكره: دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما. وقوله: وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك إذ علمتك الكتاب: وهو الخط، والحكمة: وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك وهو الانجيل. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير يقول: كصورة الطير، بإذني يعني بقوله تخلق: تعمل وتصلح من الطين، كهيئة الطير بإذني يقول: بعوني على ذلك وعلم مني. فتنفخ فيها يقول: فتنفخ في الهيئة، فتكون الهيئة والصورة طيرا بإذني وتبرئ الاكمه يقول: وتشفي الاكمه: وهو الاعمى الذي لا يبصر شيئا المطموس البصر، والابرص بإذني. وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك، بكفي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك وقد هموا بقتلك، إذ جئتهم بالبينات يقول: إذ جئتهم بالادلة والاعلام المعجزة على نبوتك وحقية ما أرسلتك به إليهم. فقال الذين كفروا منهم يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدوا نبوتك وكذبوك من بني إسرائيل: إن هذا إلا سحر مبين. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إن هذا إلا سحر مبين يعني: يبين عما أتى به لمن رآه ونظرا إليه أنه سحر لا حقيقة له. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: إن هذا إلا ساحر مبين بمعنى: ما هذا، يعني به عيسى، إلا ساحر مبين، يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الامور العجيبة عن نفسه أنه ساحر لا نبي صادق.
[ 173 ]
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متفقتان غير مختلفتين، وذلك أن كل من كان موصوفا بفعل السحر فهو موصوف بأنه ساحر، ومن كان موصوفا بأنه ساحر فإنه موصوف بفعل السحر، فالفعل دال على فاعله والصفة تدل على موصوفها، والموصوف يدل على صفته والفاعل يدل على فعله فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) *. يقول تعالى ذكره: واذكر أيضا يا عيسى إذ ألقيت إلى الحواريين، وهم وزراء عيسى على دينه. وقد بينا معنى ذلك ولم قيل لهم الحواريون فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وقد اختلف ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله: وإذ أوحيت وإن كانت متفقة المعاني، فقال بعضهم بما: 10116 - حدثني به محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ أوحيت إلى الحواريين يقول قذفت في قلوبهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم. فتأويل الكلام إذن: وإذ ألقيت إلى الحواريين أن صدقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا: آمنا: أي صدقنا بما أمرتنا أن نؤمن يا ربنا. واشهد علينا بأننا مسلمون يقول: واشهد علينا بأننا خاضعون لك بالذلة سامعون، مطيعون لامرك. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قال الحواريون يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *. يقول تعالى ذكره: واذكر يا عيسى أيضا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ف إذ الثانية من صلة أوحيت. واختلفت القراء في قراءة قوله: يستطيع ربك فقرأ ذلك جماعة من الصحابة
[ 174 ]
والتابعين: هل تستطييع بالتاء ربك بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك، وهل تستطيع أن تدعو ربك أو هل تستطيع وترى أن تدعوه ؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك ؟ 10117 - حدثنا ابن وكيع قال: ثنا محمد بن بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، قال: قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا: يا عيسى، هل تستطيع ربك ؟ 10118 - حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا ابن مهدي، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حيان بن مخارق، عن سعيد بن جبير أنه قرأها كذلك: هل تستطيع ربك وقال: تستطيع أن تسأل ربك ؟ وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون ؟ وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والعراق: هل يستطيع بالياء ربك بمعنى: أن ينزل علينا ربك، كما يقول الرجل لصاحبه: أتستطيع أن تنهض معنا في كذا ؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه ؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزل علينا ؟ وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ ذلك: هل يستطيع بالياء ربك برفع الرب، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه ؟ وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله: إذ قال الحواريون من صلة إذ أوحيت، وأن معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك. فبين إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الايمان من قيلهم ذلك، والاقرار لله بالقدرة على كل شئ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الاخبار. وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاما منه لما قالوا: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ففي استتابة الله إياهم، ودعائه لهم إلى الايمان به وبرسوله (ص) عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبي الله (ص) كلمتهم، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الرب إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ أن تستكبر هذا الاستكبار.
[ 175 ]
فإن ظن ظان أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم، لان ذلك منهم كان مسألة آية، فإن الآية إنما يسألها الانبياء من كان بها مكذبا، ليتقرر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا (ص) أن يحول لهم الصفا ذهبا ويفجر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه، وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذبي قومه، ومسألة شعيب أن يسقط كسفا من السماء من كفار من أرسل إليهم. وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلهم الذين قرءوا ذلك بالتاء ونصب الرب محلا أعظم من المحل الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل، وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه، إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه، وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها، فأني ذلك من مسألة الآية في شئ ؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك، وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا. فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10119 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس، أنه كان يحدث عن عيسى (ص) أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير، قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا، ولم نكن نعمل لاحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال عيسى اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من
[ 176 ]
الشاهدين... إلى قوله: لا أعذبه أحدا من العالمين قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. 10120 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قالوا: هل يطيعك ربك إن سألته ؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم فأكلوا منها. وأما المائدة فإنها الفاعلة، من ماد فلان القوم يميدهم ميدا: إذا أطعمهم ومارهم ومنه قول رؤبة: نهدي رءوس المترفين الانداد إلى أمير المؤمنين الممتاد يعني بقوله: الممتاد: المستعطي، فالمائدة المطعمة سميت الخوان بذلك، لانها تطعم الآكل مما عليها. والمائد: المدار به في البحر، يقال: ماد يميد ميدا. وأما قوله: قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شئ أراده، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) *. يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين في قولكم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء: أنا إنما قلنا
[ 177 ]
ذلك وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينا قدرته على كل شئ وتطمئن قلوبنا يقول: وتسكن قلوبنا وتستقر على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، ونعلم أن قد صدقتنا، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبي مبعوث. ونكون عليها يقول: ونكون على المائدة، من الشاهدين يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجة لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء ولك على صدقك في نبوتك. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى (ص) أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. ذكر من قال ذلك: 10121 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. 10122 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا قال: أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ وآخرنا من بعدهم منهم. 10124 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: قال سفيان: تكون لنا عيدا قالوا: نصلي فيه نزلت مرتين. وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعا. ذكر من قال ذلك: 10125 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ليث، عن
[ 178 ]
عقيل، عن ابن عباس، أنه قال: أكل منها يعني من المائدة حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال آخرون: معنى قوله عيدا عائدة من الله تعالى علينا حجة وبرهانا. وأولى الاقوال بالصواب قول من قال: معناه: تكون لنا عيدا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ونصلي له فيه، كما يعيد الناس في أعيادهم. لان المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد ما ذكرنا دون القول الذي قاله من قال معناه: عائدة من الله علينا وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به أولى من توجيهه إلى المجهول منه ما وجد إليه السبيل. وأما قوله: لاولنا وآخرنا فإن الاولى من تأويله بالصواب قول من قال: تأويله للاحياء منا اليوم ومن يجئ بعدنا منا للعلة التي ذكرناها في قوله: تكون لنا عيدا لان ذلك هو الاغلب من معناه. وأما قوله: وآية منك فإن معناه: وعلامة وحجة منك يا رب على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أني رسول إليهم بما أرسلتني به. وارزقنا وأنت خير الرازقين: وأعطنا من عطائك، فإنك يا رب خير من يعطي وأجود من تفضل، لانه لا يدخل عطاءه من ولا نكد. وقد اختلف أهل التأويل في المائدة، هل أنزلت عليهم أم لا ؟ وما كانت ؟ فقال بعضهم: نزلت وكانت حوتا وطعاما، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى. ذكر من قال ذلك: 10126 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا. 10127 - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية، قال: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن فضيل، عن مسروق، عن عطية، قال: المائدة: سمك فيه من طعم كل طعام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا.
[ 179 ]
10128 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاءوا. 10129 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا المنذر بن النعمان، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا قال: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات. قال الحسن: قال أبو بكر: فحدثت به عبد الصمد بن معقل، فقال: سمعت وهبا وقيل له: وما كان ذلك يغني عنهم ؟ فقال: لا شئ ولكن الله حثا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ويجئ آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكلوا جميعهم وأفضلوا. 10130 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا. 10131 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: مائدة من السماء قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم. 10132 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها ما شاءوا. قال: فسرق بعضهم منها، وقال: لعلها لا تنزل غدا فرفعت. 10133 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عمار بن ياسر، فلما فرغ، قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال: فقلت لا. قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم
[ 180 ]
مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا أو تخونوا أو ترفعوا، فإن فعلتم فإني أعذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. قال: فما تم يومهم حتى خبئوا ورفعوا وخانوا، فعذبوا عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين. وإنكم معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الابل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهرون على العرب، ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة، وايم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم عذابا أليما 10134 - حدثنا الحسن بن قزعة البصري، قال: ثنا سفيان بن حبيب، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن حلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله (ص): نزلت المائدة خبزا ولحما، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا يوسف بن خالد، قال: ثنا نافع بن مالك، عن عكرمة عن ابن عباس في المائدة، قال: كانت طعاما ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا. ذكر من قال ذلك: 10135 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار، قال: نزلت المائدة، وعليها ثمر من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا. قال: فخان القوم وخبئوا وادخروا، فحولهم الله قردة وخنازير. 10136 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة، وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، وكانوا إذا فعلوا شيئا من ذلك أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبئوا وادخروا لغد. وقال آخرون: كان عليها من كل طعام إلا اللحم. ذكر من قال ذلك:
[ 181 ]
10137 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة، قال: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل، اختلفت عليها الايدي بكل طعام. 10138 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، قالا: كانت الايدي تختلف عليها بكل طعام. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة في: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قالا: رأوا الايدي تختلف عليها بكل شئ إلا اللحم. وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة: ثم اختلف قائلو هذه المقالة فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبي الله الآيات. ذكر من قال ذلك: 10139 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: أنزل علينا مائدة من السماء قال: مثل ضرب، لم ينزل عليهم شئ. وقال آخرون: إن القوم لما قيل لهم: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين استعفوا منها فلم تنزل. ذكر من قال ذلك: 10140 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم: فمن يكفر بعد منكم.... إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في المائدة: لم تنزل. 10141 - حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم. والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه. وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله (ص)
[ 182 ]
وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعد، فإن الله تعالى لا يخلف وعده ولا يقع في خبره الخلف وقد قال تعالى مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى (ص) حين سأله ما سأله من ذلك: إني منزلها عليكم، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها لان ذلك منه تعالى خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك. وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائز أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة وغير نافع العلم به ولا ضار الجهل به إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) *. وهذا جواب من الله تعالى للقوم فيما سألوا نبيهم عيسى مسألة ربهم من إنزاله مائدة عليهم، فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم أيها الحواريون فمطعمكموها. فمن يكفر بعد منكم يقول: فمن يجحد بعد إنزالها عليكم وإطعامكموها منكم رسالتي إليه وينكر نبوة نبي عيسى (ص) ويخالف طاعتي فيما أمرته ونهيته، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من عالمي زمانه. ففعل القوم، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم فيما ذكر لنا، فعذبوا فيما بلغنا بأن مسخوا قردة وخنازير. كالذي: 10142 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إني منزلها عليكم.... الآية، ذكر لنا أنهم حولوا خنازير. 10143 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي المغيرة القواس، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن أشد الناس عذابا ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن عوف، قال: سمعت
[ 183 ]
أبا المغيرة القواس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون. 10144 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: فمن يكفر بعد منكم بعد ما جاءته المائدة، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدا من العالمين غير أهل المائدة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال الله يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) *. يقول تعالى ذكره: يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ وقيل: إن الله قال هذا القول لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 10145 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله عن قوله، فقال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب.... إلى قوله: وأنت على كل شئ شهيد. وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة. ذكر من قال ذلك: 10146 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقر له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان يقول باطلا. 10147 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة، قال: قال الله
[ 184 ]
يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فأرعدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قال، فقال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته... الآية. 10148 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله متى يكون ذلك ؟ قال: يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. فعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن جريج يجب أن يكون وإذ بمعنى وإذا، كما قال في موضع آخر: ولو ترى إذ فزعوا، بمعنى: يفزعون. وكما قال أبو النجم: ثم جزاه الله عنا إذ جزى جنات عدن في العلالي العلا والمعنى: إذا جزى. وكما قال الاسود: فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا بمعنى: إذا هازلتهن. وكأن من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا، وجه تأويل الآية
[ 185 ]
إلى: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين في الدنيا وأعذبه أيضا في الآخرة، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قول من قال بقول السدي: وهو أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبر خبر عما مضى لعلتين: إحداهما: أن إذ إنما تصاحب في الاغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضي من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانا في موضع الخبر عما يحدث إذا عرف السامعون معناها وذلك غير فاش ولا فصيح في كلامهم، فتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الاشهر الاعرف ما وجد إليه السبيل أولى من توجيهها إلى الاجهل الانكر. والاخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الانبياء أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبا لربه تعالى: إن تعذب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك ؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل: أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيه، كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا ؟ مما يعلم المقول له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: أفعلته على وجه النهي عن فعله والتهديد له فيه. والآخر: إعلامه أن قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده وبدلوا دينهم بعده، فيكون بذلك جامعا إعلامه حالهم بعده وتحذيره له قيله. وأما تأويل الكلام: فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين، أي معبودين تعبدونهما من دون الله ؟ قال عيسى: تنزيها لك يا رب وتعظيما أن أفعل ذلك أو أتكلم به، ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق يقول: ليس لي أن أقول ذلك لاني عبد مخلوق وأمي أمة لك، فهل يكون للعبد والامة ادعاء ربوبية ؟ إن كنت قلته فقد علمته، يقول: إنك لا يخفى عليك شئ، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمرهم به. القول في تأويل قوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. يقول تعالى ذكره مخبرا عن نبيه عيسى (ص) أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرة من النصارى أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به، فقال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما
[ 186 ]
ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ثم قال: تعلم ما في نفسي يقول: إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطلق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقت به وأظهرته بجوارحي ؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله كنت قد علمته، لانك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به فكيف بما قد نطقت به. ولا أعلم ما في نفسك يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لاني إنما أعلم من الاشياء ما أعلمتنيه إنك أنت علام الغيوب يقول: إنك أنت العالم بخفيات الامور التي لا يطلع عليها سواك ولا يعلمها غيرك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم. فلما توفيتني يقول: فلما قبضتني إليك، كنت أنت الرقيب عليهم يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لاني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم. وفي هذا تبيان أن الله تعالى إنما عرفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... وأنت على كل شئ شهيد يقول: وأنت تشهد على كل شئ، لانه لا يخفى عليك شئ، وأما أنا فإنما شهدت بعض الاشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيت وشهدت. وبنحو الذي قلنا في قوله: كنت أنت الرقيب عليهم قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10149 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: كنت أنت الرقيب عليهم أما الرقيب: فهو الحفيظ. 10150 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: كنت أنت الرقيب عليهم قال: الحفيظ.
[ 187 ]
وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربه من الله تعالى توقيفا منه له فيه. ذكر من قال ذلك: 10151 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق قال: الله وقفه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود الحفري، قال: قرئ على سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه طاوس، قال: احتج عيسى والله وقفه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... الآية. 10152 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة، قال: قال الله تعالى: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال: فأرعدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قالها، فقال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب القول في تأويل قوله تعالى: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *. يقول تعالى ذكره: إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بإماتتك إياهم عليها، فإنهم عبادك، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم ولا يدفعون عن أنفسهم ضرا ولا أمرا تنالهم به. وإن تغفر لهم بهدايتك إياهم إلى التوبة منها فتستر عليهم، فإنك أنت العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه لا يقدر أحد يدفعه عنه، الحكيم في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة وتوفيقه من وفق منهم لسبيل النجاة من العقاب. كالذي: 10153 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الاسلام، فإنك أنت العزيز الحكيم وهذا قول عيسى في الدنيا. 10154 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال: والله ما كانوا طعانين ولا لعانين. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 188 ]
* (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: هذا يوم ينفع الصادقين فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: هذا يوم ينفع الصادقين بنصب يوم. وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامة قراء أهل العراق: هذا يوم ينفع الصادقين برفع يوم. فمن رفعه رفعه بهذا، وجعل يوم اسما، وإن كانت إضافته غير محضة، لانه صار كالمنعوت. وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الاوقات مثل اليوم والليلة عملهم فيما بعدها، إن كان ما بعدها رفعا رفعوها، كقولهم: هذا يوم يركب الامير، وليلة يصدر الحاج، ويوم أخوك منطلق وإن كان ما بعدها نصبا نصبوها، وكذلك كقولهم: هذا يوم خرج الجيش وسار الناس، وليلة قتل زيد ونحو ذلك، وإن كان معناها في الحالين: إذ، وإذا. وكأن من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة، وكذلك كان السدي يقول في ذلك. 10155 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة. يعني السدي بقوله: هذا فصل من كلام عيسى أن قوله: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق... إلى قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم من خبر الله عزوجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة. وأما النصب في ذلك، فإنه يتوجه من وجهين: أحدهما: أن إضافة يوم ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا، لان الاضافة غير محضة، وإنما تكون الاضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الازمنة، كما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
[ 189 ]
والوجه الآخر: أن يكون مرادا بالكلام هذا الامر وهذا الشأن، يوم ينفع الصادقين فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة، بمعنى: هذا الامر في يوم ينفع الصادقين صدقهم. وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: هذا يوم ينفع الصادقين بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة، لان معنى الكلام: أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته.... إلى قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم فقال له عزوجل: هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يوم ينفع الصادقين صدقهم فاليوم وقت القول والصدق النافع. فإن قال قائل: فما موضع هذا ؟ قيل رفع فإن قال: فأين رافعه ؟ قيل مضمر، وكأنه قال: قال الله عزوجل: هذا، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، كما قال الشاعر: أما ترى السحاب كيف يجري هذا ولا خيلك يا ابن بشر يريد: هذا هذا، ولا خيلك. فتأويل الكلام إذا كان الامر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك في الآخرة عند الله. لهم جنات تجري من تحتها الانهار يقول: للصادقين في الدنيا جنات تجري من تحتها الانهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عزوجل، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفي الله عزوجل لهم ما وعدهم من ثوابه. خالدين فيها أبدا يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود: الدوام والبقاء. القول في تأويل قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم. يقول تعالى ذكره: رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه، ورضوا عنه يقول: ورضوا هم عن الله
[ 190 ]
تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه. ذلك الفوز العظيم يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الانهار، خالدين فيها، مرضيا عنهم، وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطلبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير) *. يقول تعالى ذكره: أيها النصارى لله ملك السموات والارض يقول: له سلطان السموات والارض، وما فيهن دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم ودون أمه، ودون جميع من في السموات ومن في الارض فإن السموات والارض خلق من خلقه وما فيهن وعيسى وأمه من بعض ذلك بالحلول والانتقال، يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والارض وما فيهن. ينبههم وجميع خلقه على موضع حجته عليهم ليدبروه ويعتبروه، فيعقلوا عنه. وهو على كل شئ قدير يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والارض وما فيهن، قادر على إفنائهن وعلى إهلاكهن وإهلاك عيسى وأمه ومن في الارض جميعا كما ابتدأ خلقهم، لا يعجزه ذلك ولا شئ أراده لان قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة.
[ 191 ]
سورة الانعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *. يعني تعالى ذكره بقوله الحمد لله: الحمد الكامل لله وحده لا شريك له، دون جميع الانداد والآلهة، ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الاوثان والاصنام. وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر ينحى به نحو الامر، يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم أيها الناس وخلق السموات والارض، ولا تشركوا معه في ذلك أحدا شيئا، فإنه المستوجب عليكم الحمد بأياديه عندكم ونعمه عليكم، لا من تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه. وقد بينا الفصل بين معنى الحمد والشكر بشواهده فيما مضى قبل. القول في تأويل قوله تعالى: وجعل الظلمات والنور. يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السموات والارض، وأظلم الليل وأنار النهار. كما: 10156 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وجعل الظلمات والنور قال: الظلمات: ظلمة الليل، والنور: نور النهار. 10157 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أما قوله: الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور فإنه خلق السموات قبل الارض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار. فإن قال قائل: فما معنى قوله إذن جعل ؟ قيل: إن العرب تجعلها ظرفا للخبر
[ 192 ]
والفعل، فتقول: جعلت أفعل كذا، وجعلت أقوم وأقعد، تدل بقولها جعلت على اتصال الفعل، كما تقول: علقت أفعل كذا، لا أنها في نفسها فعل، يدل على ذلك قول القائل: جعلت أقوم، وأنه لا جعل هناك سوى القيام، وإنما دل بقوله جعلت على اتصال الفعل ودوامه، ومن ذلك قول الشاعر: وزعمت أنك سوف تسلك قادرا والموت متسع طريقي قادر فاجعل تحلل من يمينك إنما حنث اليمين على الاثيم الفاجر يقول فاجعل تحلل بمعنى: تحلل شيئا بعد شئ، لا أن هناك جعلا من غير التحليل. فكذلك كل جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال، لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله: وجعل الظلمات والنور إنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما. القول في تأويل قوله تعالى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. يقول تعالى ذكره معجبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجا على الكافرين: إن الاله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السموات والارض، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم، فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم، ومن الارض ينبت الحب الذي به غذاؤكم والثمار التي فيها ملاذكم، مع غير ذلك من الامور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها. والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحدثه يعدلون: يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والانداد والاصنام والاوثان، وليس منها شئ شركه في خلق شئ من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره. فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة، لمن فكر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة. 10158 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: فاتحة التوراة فاتحة الانعام: الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
[ 193 ]
10159 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن حباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله ابن رباح، عن كعب، مثله. وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة هود. يقال من مساواة الشئ بالشئ: عدلت هذا بهذا، إذا ساويته به عدلا. وأما في الحكم إذا أنصفت فيه، فإنك تقول: عدلت فيه أعدل عدلا. وينحو الذي قلنا في تأويل قوله: يعدلون قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10160 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يعدلون قال: يشركون. ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بذلك، فقال بعضهم: عني به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: 10161 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمى، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال له: أليس الذين كفروا بربهم يعدلون ؟ قال: بلى. قال: وانصرف عنه الرجل، فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا، إنه رجل من الخوارج فقال: ردوه علي فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الآية ؟ قال: لا. قال إنها نزلت في أهل الكتاب، اذهب ولا تضعها على غير حدها. وقال آخرون: بل عنى بها المشركون من عبدة الاوثان. ذكر من قال ذلك: 10162 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال: هؤلاء أهل صراحة. 10163 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال: هم المشركون.
[ 194 ]
10164 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال: وليس بالله عدل ولا ند، وليس معه آلهة، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون، فعم بذلك جميع الكفار، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض، فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم، ونصاراهم، ومجوسهم، وعبدة الاوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) *. يعني تعالى ذكره بقوله: هو الذي خلقكم من طين أن الله الذي خلق السموات والارض، وأظلم ليلهما وأنار نهارهما، فكفر به مع إنعامه عليهم الكافرون، وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرهم. هو الذي خلقكم أيها الناس من طين وإنما يعني بذلك تعالى ذكره أن الناس ولد من خلقه من طين، فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم، إذ كانوا ولده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10165 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: هو الذي خلقكم من طين بدء الخلق خلق الله آدم من طين. 10166 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: هو الذي خلقكم من طين قال: هو آدم. 10167 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما خلقكم من طين: فآدم. 10168 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، قال: خلق آدم من طين، وخلق الناس من سلالة من ماء مهين. 10169 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: خلقكم من طين قال: خلق آدم من طين، ثم خلقنا من آدم حين أخذنا من ظهره.
[ 195 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى قوله: ثم قضى أجلا: ثم قضى لكم أيها الناس أجلا، وذلك ما بين أن يخلق إلى أن يموت وأجل مسمى عنده وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث. ذكر من قال ذلك: 10170 - حدثنا ابن وكيع، وهناد بن السري، قالا: ثنا وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن، في قوله: قضى أجلا قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت. وأجل مسمى عنده قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث. 10171 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده كان يقول: أجل حياتك إلى أن تموت وأجل موتك إلى أن تبعث، فأنت بين أجلين من الله تعالى. 10172 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبوتميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم: قضى أجلا وأجل مسمى عنده قال: قضى أجل الموت، وكل نفس أجلها الموت. قال: ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. وأجل مسمى عنده يعني: أجل الساعة ذهاب الدنيا والافضاء إلى الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا وعنده الآخرة. ذكر من قال ذلك: 10173 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: أجلا قال: الدنيا. وأجل مسمى عنده الآخرة. 10174 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قضى أجلا قال: الآخرة عنده. وأجل مسمى الدنيا. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أجلا قال: الآخرة عنده. وأجل مسمى قال: الدنيا. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أجلا قال: الآخرة عنده. وأجل مسمى قال: الدنيا.
[ 196 ]
10175 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده قالا: قضى أجل الدنيا من حين خلقك إلى أن تموت. وأجل مسمى عنده يوم القيامة. 10176 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده قال: قضى أجل الدنيا. وأجل مسمى عنده قال: هو أجل البعث. 10177 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة: ثم قضى أجلا قال: الموت. وأجل مسمى عنده الآخرة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن، في قوله: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده قالا: قضى أجل الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تموت، وأجل مسمى عنده يوم القيامة. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: قضى أجلا قال: أجل الدنيا. وأجل مسمى عنده قال: البعث. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده يعني: أجل الموت. والاجل المسمى: أجل الساعة، الوقوف عند الله. 10178 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي قضى أجلا قال: أما قضى أجلا: فأجل الموت. وأجل مسمى عنده يوم القيامة. وقال آخرون في ذلك بما: 10179 - حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده قال: أما قوله: قضى أجلا فهو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. وأجل مسمى عنده: هو أجل موت الانسان. وقال آخرون بما:
[ 197 ]
10180 - حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، في قوله: هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون قال: خلق آدم من طين، ثم خلقنا من آدم، أخذنا من ظهره، ثم أخذ الاجل والميثاق في أجل واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: ثم قضى أجل هذه الحياة الدنيا، وأجل مسمى عنده وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لانه تعالى نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم، فقال لهم: أيها الناس، إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والانداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم، ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشأكم ويخلقكم. وأجل مسمى عنده لاعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أموات فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون. القول في تأويل قوله تعالى: ثم أنتم تمترون. يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تشكون في قدرة من قدر على خلق السموات والارض، وإظلام الليل وإنار النهار، وخلقكم من طين حتى صيركم بالهيئة التي أنتم بها على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم، وإيجاده إياكم بعد عدمكم. والمرية في كلام العرب هي الشك، وقد بينت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وقد: 10181 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ثم أنتم تمترون قال: الشك. قال: وقرأ قول الله: في مرية منه قال: في شك منه. 10182 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم أنتم تمترون بمثله.
[ 198 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو الله في السماوات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) *. يقول تعالى ذكره: إن الذي له الالوهة التي لا تنبغي لغيره المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم أيها الناس الذي يعدل به كفاركم من سواه، هو الله الذي هو في السموات وفي الارض، ويعلم سركم وجهركم فلا يخفى عليه شئ، يقول: فربكم الذي يستحق عليكم الحمد ويجب عليكم إخلاص العبادة له، هو هذا الذي صفته، لا من يقدر لكم على ضر ولا نفع ولا يعمل شيئا ولا يدفع عن نفسه سوء أريد بها. وأما قوله: ويعلم ما تكسبون يقول: ويعلم ما تعملون وتجرحون، فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *. يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدلون أوثانهم وآلهتهم آية من آيات ربهم يقول: حجة وعلامة ودلالة من حجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته وحقيقة نبوتك يا محمد وصدق ما أتيتهم به من عندي، إلا كانوا عنها معرضين يقول: إلا أعرضوا عنها، يعني عن الآية، فصدوا عن قبولها والاقرار بما شهدت على حقيقته ودلت على صحته، جهلا منهم بالله واغترارا بحلمه عنهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون) *. يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلو بالله الحق لما جاءهم، وذلك الحق هو محمد (ص)، كذبوا به، وجحدوا نبوته لما جاءهم قال الله لهم متوعدا على تكذيبهم إياه وجحودهم نبوته: سوف يأتي المكذبين بك يا محمد من قومك وغيرهم أنباء ما كانوا به يستهزءون يقول: سوف يأتيهم أخبار استهزائهم بما كانوا به يستهزءون من آياتي وأدلتي التي آتيتهم. ثم وفى لهم بوعيده لما تمادوا في غيهم وعتوا على ربهم، فقتلهم يوم بدر بالسيف. القول في تأويل قوله:
[ 199 ]
* (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي الجاحدون نبوتك، كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون، وهم الامم الذين وطأت لهم البلاد والارض وطأة لم أوطئها لهم، وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم. كما: 10183 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم. قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الاشجار ثمارها، وأعطتهم الارض ريع نباتها، وجابوا صخور جبالها، ودرت عليهم السماء بأمطارها، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني، فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أمر بارئهم، وبغوا حتى حق عليهم قولي، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم، وأهلكت بعضهم بالرجفة وبعضهم بالصيحة وغير ذلك من أنواع العذاب. ومعنى قوله: وأرسلنا السماء عليهم مدرارا المطر، ويعني بقوله: مدرارا: غزيرة دائمة. وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين يقول وأحدثنا من بعدهم الذين أهلكناهم قرنا آخرين فابتدأنا سواهم. فإن قال قائل: فما وجه قوله: مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم ومن المخاطب بذلك ؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غيب بقوله: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ؟ قيل: إن المخاطب بقوله: ما لم نمكن لكم هو المخبر عنهم بقوله: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ولكن في الخبر معنى القول، ومعناه: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحق لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم. والعرب إذا أخبرت خبرا عن غائب وأدخلت فيه قولا فعلت ذلك فوجهت الخبر أحيانا إلى الخبر عن الغائب، وأحيانا إلى الخطاب،
[ 200 ]
فتقول: قلت لعبد الله: ما أكرمه، وقلت لعبد الله: ما أكرمك، وتخبر عنه أحيانا على وجه الخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب، وتخبر على وجه الخطاب له ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثير فاش وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد كان بعض نحوي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبر النبي (ص) ثم خاطبه معهم وقال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة فجاء بلفظ الغائب وهو يخاطب، لانه المخاطب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) *. وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الاوثان والآلهة والاصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات، أم كيف يستدلون على بطلان ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله وجحود نبوتك بحجج الله وآياته وأدلته، وهم لعنادهم الحق وبعدهم من الرشد، لو أنزلت عليك يا محمد الوحي الذي أنزلته عليك مع رسولي في قرطاس يعاينونه ويمسونه بأيديهم وينظرون إليه ويقرءونه منه معلقا بين السماء والارض بحقيقة ما تدعوهم إليه وصحة ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي، لقال الذين يعدلون بي غيري فيشركون في توحيدي سواي: إن هذا إلا سحر مبين: أي ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرت به أعيننا، ليست له حقيقة ولا صحة مبين يقول: مبين لمن تدبره وتأمله أنه سحر لا حقيقة له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10184 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم قال: فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به. 10185 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم يقول: فعاينوه معاينة لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين.
[ 201 ]
10186 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم يقول: لو نزلنا من السماء صحفا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم، لزادهم ذلك تكذيبا. 10187 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس: الصحف. [ / رق ] حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: في قرطاس يقول: في صحيفة، فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون) *. يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذبون بآياتي العادلون بي الانداد والآلهة: يا محمد لك لو دعوتهم إلى توحيدي والاقرار بربوبيتي، وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعت به عذرهم: هلا نزل عليك ملك من السماء في صورته يصدقك على ما جئنا به، ويشهد لك بحقيقة ما تدعي من أن الله أرسلك إلينا كما قال تعالى مخبرا عن المشركين في قيلهم لنبي الله (ص): وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينطرون يقول: ولو أنزلنا ملكا على ما سألوا ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي، لجاءهم العذاب عاجلا غير آجل، ولم ينظروا فيؤخروا بالعقوبة مراجعة التوبة، كما فعلت بمن قبلهم من الامم التي سألت الآيات ثم كفرت بعد مجيئها من تعجيل النقمة وترك الانظار. كما: 10188 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينطرون يقول: لجاءهم العذاب. 10189 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينطرون يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكا ثم لم يؤمنوا لم ينظروا.
[ 202 ]
10190 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: لولا أنزل عليه ملك في صورته، ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر لقامت الساعة. 10191 - حدثنا ابن وكيع، عن أبيه، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن سفيان الثوري، عن عكرمة: لقضي الامر قال: لقامت الساعة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر قال: يقول: لو أنزل الله ملكا ثم لم يؤمنوا، لعجل لهم العذاب. وقال آخرون في ذلك بما. 10192 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: أخبرنا بشر، عن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينطرون قال: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا، ثم لم يؤخروا طرفة عين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) *. يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلين بي، القائلين: لولا أنزل على محمد ملك بتصديقه ملكا ينزل عليهم من السماء، ويشهد بتصديق محمد (ص) ويأمرهم باتباعه، لجعلناه رجلا يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر، لانهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته. يقول: وإذا كان ذلك كذلك، فسواء أنزلت عليهم بذلك ملكا أو بشرا، إذ كنت إذا أنزلت عليهم ملكا إنما أنزله بصورة إنسي، وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابته بأنك صادق وأن ما جئتهم به حق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10193 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول: ما أتاهم إلا في صورة رجل، لانهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة.
[ 203 ]
10194 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا في صورة رجل في خلق رجل. 10195 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول: لو بعثنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة آدمي. حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول: في صورة آدمي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، ثنا قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 10196 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل، لم نرسله في صورة الملائكة. القول في تأويل قوله تعالى: وللبسنا عليهم ما يلبسون. يعني تعالى ذكره بقوله: وللبسنا عليهم: ولو أنزلنا ملكا من السماء مصدقا لك يا محمد، شاهدا لك عند هؤلاء العادلين بي الجاحدين آياتك على حقيقة نبوتك، فجعلناه في صورة رجل من بني آدم إذ كانوا لا يطيقون رؤية الملك بصورته التي خلفته بها، التبس عليهم أمره فلم يدروا ملك هو أم أنسي، فلم يوقنوا به أنه ملك ولم يصدقوا به، وقالوا: ليس هذا ملكا، وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقية أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوتك. يقال منه: لبست عليهم الامر ألبسه لبسا: إذا خلطته عليهم، ولبست الثوب ألبسه لبسا، واللبوس: اسم الثياب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10197 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: وللبسنا عليهم ما يلبسون يقول: لشبهنا عليهم. 10198 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وللبسنا عليهم ما يلبسون يقول: ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم واللبس: إنما هو من الناس.
[ 204 ]
10199 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وللبسنا عليهم ما يلبسون يقول: شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم. وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر، وهو ما: 10200 - حدثني به محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وللبسنا عليهم ما يلبسون فهم أهل الكتاب فارقوا دينهم وكذبوا رسلهم، وهو تحريف الكلام عن مواضعه. 10201 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، في قوله: وللبسنا عليهم ما يلبسون يعني التحريف: هم أهل الكتاب، فرقوا ودينهم وكذبوا رسلهم، فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم. وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أول السورة بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الاوثان أشبه منها بأمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) مسليا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبة ما يلقى منهم من أذى الاستهزاء به والاستخفاف في ذات الله: هون عليك يا محمد ما أنت لا ق من هؤلاء المستهزئين بك المستخفين بحقك في وفي طاعتي، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والاقرار بي والاذعان لطاعتي فإنهم إن تمادوا في غيهم وأصروا على المقام على كفرهم، نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الامم غيرهم من تعجيل النقمة لهم وحلول المثلاث بهم، فقد استهزأت أمم من قبلك برسل أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك، وفعلوا مثل فعل قومك بك، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون يعني بقوله: فحاق فنزل وأحاط بالذين هزؤا من برسلهم وما كانوا به يستهزؤن يقول: العذاب الذي كانوا يهزءون به وينكرون أن يكون واقعا بهم على ما أنذرتهم رسلهم. يقال منه: حاق بهم هذا الامر يحيق بهم حيقا وحيوقا وحيقانا.
[ 205 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10202 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فحاق بالذين سخروا منهم من الرسل، ما كانوا به يستهزءون يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) *. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الاوثان والانداد المكذبين بك الجاحدين حقيقة ما جئتم به من عندي: سيروا في الارض يقول: جولوا في بلاد المكذبين رسلهم الجاحدين آياتي من قبلهم من ضربائهم وأشكالهم من الناس. ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين يقول: ثم انظروا كيف أعقبهم تكذيبهم ذلك الهلاك والعطب وخزي الدنيا وعارها، وما حل بهم من سخط الله عليهم من البور وخراب الديار وعفو الآثار. فاعتبروا به، إن لم تنهكم حلومكم، ولم تزجركم حجج الله عليكم، فما أنتم مقيمون عليه من التكذيب، فاحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحل بكم مثل الذي حل بهم. وكان قتادة يقول في ذلك بما: 10203 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين دمر الله عليهم وأهلكهم ثم صيرهم إلى النار. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لمن ما في السماوات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم: لمن ما في السموات والارض ؟ يقول: لمن ملك ما في السموات والارض. ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كل شئ وقهر كل شئ بملكه وسلطانه، لا للاوثان والانداد ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلها من الاصنام التي لا تملك لانفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرا.
[ 206 ]
وقوله: كتب على نفسه الرحمة يقول: قضي أنه بعباده رحيم، لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الانابة والتوبة. وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الاقبال إليه بالتوبة، يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي الجاحدين نبوتك يا محمد، إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم، وإني قد قضيت في خلقي أن رحمتي وسعت كل شئ. كالذي: 10204 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، قال: لما فرغ الله من الخلق كتب كتابا: إن رحمتي سبقت غضبي. 10205 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن أبي عثمان، عن سليمان، قال: إن الله تعالى لما خلق السماء والارض، خلق مائة رحمة، كل رحمة مل ء ما بين السماء إلى الارض، فعنده تسع وتسعون رحمة، وقسم رحمة بين الخلائق فبها يتعاطفون وبها تشرب الوحش والطير الماء، فإذا كان يوم القيامة قصرها الله على المتقين وزادهم تسعا وتسعين. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن أبي عثمان، عن سلمان نحوه، إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه وبها تشرب الوحش والطير الماء. 10206 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان عن سليمان، قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السموات والارض، ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، قال: فيها يتراحمون، وبها يتباذلون، وبها يتعاطفون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تنئج البقرة، وبها تيعر الشاة، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر فإذا كانوا يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع.
[ 207 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان الهدى، عن سلمان، في قوله: كتب على نفسه الرحمة... الآية، قال: أنا نجد في التوراة عطفتين، ثم ذكر نحوه، إلا أنه ما قال: وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر. 10207 - حدثنا محمد بن الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال ابن طاوس، عن أبيه: إن الله تعالى لما خلق الخلق، لم يعطف شئ على شئ، حتى خلق مئة رحمة، فوضع بينهم رحمة واحدة، فعطف بعض الخلق على بعض. حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه بمثله. 10208 - حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وأخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجل من القضاء بين خلقه، أخرج كتابا من تحت العرش فيه: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة، أو قال مثلا أهل الجنة، ولا أعلمه إلا قال: مثلا، وأما مثل فلا أشك مكتوبا ها هنا، وأشار الحكم إلى نحره، عتقاء الله. فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله، فإن الله يقول: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم قال: ويلك أولئك أهلها الذين هم أهلها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة أخرج الله كتابا من تحت العرش، ثم ذكر نحوه، غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: يريدون أن يخرجوا من النار وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الاعلى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص) لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.
[ 208 ]
10209 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة، فأهبط رحمة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والانس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الارض وهوامها وما بين الهواء واختزن عند تسعا وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحواها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة. 10210 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال عبد الله بن عمرو: أن لله مئة رحمة، أهبط منها إلى الارض رحمة واحدة يتراحم بها الجن والانس والطير والبهائم وهوام الارض. 10211 - حدثنا محمد بن عوف، قال: أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، قال: ثنا صفوان بن عمرو، قال: ثني أبو المخارق زهير بن سالم، قال: قال عمر لكعب: ما أول شئ ابتداه الله من خلقه ؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي. القول في تأويل قوله تعالى: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. وهذه اللام التي في قوله: ليجمعنكم لام قسم. ثم اختلف أهل العربية في جالبها، فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت الرحمة غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: ليجمعنكم، قال: وإن شئت جعلته في موضع نصب، يعني كتب ليجمعنكم كما قال: كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة يريد: كتب أنه من عمل منكم. قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جواب كلام الايمان بأن المفتوحة وباللام، فيقولون: أرسلت إليه أن يقوم، وأرسلت إليه ليقومن. قال: وكذلك قوله: ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. قال وهو في القرآن
[ 209 ]
كثير ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أن يسجنوه، لكان صوابا ؟ وكان بعض نحوي البصرة يقول: نصبت لام ليجمعنكم لان معنى كتب كأنه قال: والله ليجمعنكم. والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون قوله: كتب على نفسه الرحمة غاية، وأن يكون قوله: ليجمعنكم خبر مبتدإ، ويكون معنى الكلام حينئد: ليجمعنكم الله أيها العادلون بالله ليوم القيامة الذي لا ريب فيه لينتقم منكم بكفركم به. وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال كتب في ليجمعنكم لان قوله: كتب قد عمل في الرحمة، فغير جائز وقد عمل في الرحمة أن يعمل في: ليجمعنكم لانه لا يتعدى إلى اثنين. فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كتب على نفسه الرحمة أنه بفتح أن ؟ قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك، فإن أن بيان عن الرحمة وترجمة عنها، لان معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم (من تاب) من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة، ويعفو والرحمة يترجم عنها، ويبين معناها بصفتها، وليس من صفة الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة فيكون مبينا به عنها. فإن كان ذلك كذلك، فلم يبق إلا أن ينصب بنية تكرير كتب مرة أخرى معه، ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك فتوجه إلى ما ليس بموجود في ظاهر. وأما تأويل قوله لا ريب فيه فإنه لا شك فيه، يقول: في أن الله يجمعكم إلى يوم القيامة فيحشركم إليه جميعا، ثم يؤتى كل عامل منكم أجر ما عمل من حسن أو سيئ. القول في تأويل قوله تعالى: الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. يعني تعالى ذكره بقوله: الذين خسروا أنفسهم العادلين به الاوثان والاصنام يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله الذين خسروا أنفسهم، يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الند والعديل، فأوبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد. وأصل الخسار: الغبن، يقال منه: خسر الرجل في البيع: إذا غبن، كما قال الاعشى:
[ 210 ]
لا يأخذ الرشوة في حكمه ولا يبالي خسر الخاسر وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. وموضع الذين في قوله: الذين خسروا أنفسهم نصب على الرد على الكاف والميم في قوله: ليجمعنكم على وجه البيان عنها. وذلك أن الذين خسروا أنفسهم، هم الذين خوطبوا بقوله: ليجمعنكم. وقوله: فهم لا يؤمنون يقول: فهم لاهلاكهم أنفسهم وغبنهم إياه حظها لا يؤمنون، أي لا يوحدون الله ولا يصدقون بوعده ووعيده ولا يقرون بنبوة محمد (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) *. يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الاوثان، فيخلصوا له التوحيد ويفردوا له الطاعة ويقروا بالالوهية جهلا. وله ما سكن في الليل والنهار يقول: وله ملك كل شئ، لانه لا شئ من خلق الله إلا وهو ساكن الليل والنهار، فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا. وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه من ادعائهم له شريكا، وما يقول غيرهم من خلاف ذلك. العليم بما يضمرونه في أنفسهم وما يظهرونه بجوارحهم، لا يخفى عليه شئ من ذلك، فهو يحصيه عليهم، ليوفي كل إنسان ثواب ما اكتسب وجزاء ما عمل. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: سكن قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10212 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وله ما سكن في الليل والنهار يقول: ما استقر في الليل والنهار. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الاوثان والاصنام، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك، الداعين إلى عبادة الآلهة
[ 211 ]
والاوثان: أشياء غير الله تعالى أتخذ وليا وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث ؟ كما: 10213 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قل أغير الله أتخذ وليا قال: أما الولي: فالذي يتولونه ويقرون بالربوبية. فاطر السموات والارض يقول أشيئا غير الله فاطر السموات والارض أتخذ وليا ؟ ففاطر السموات من نعت الله وصفته ولذلك خفض. ويعني بقوله: فاطر السموات والارض مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما. كالذي: 10214 - حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والارض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها. 10215 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فاطر السموات والارض قال: خالق السموات والارض. 10216 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: فاطر السموات والارض قال: خالق السموات والارض. يقال من ذلك: فطرها الله يفطرها ويفطرها فطرا وفطورا، ومنه قوله: هل ترى من فطور يعني: شقوقا وصدوعا، يقال: سيف فطار: إذا كثر فيه التشقق، وهو عيب فيه ومنه قول عنترة: وسيفي كالعقيقة فهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا
[ 212 ]
ومنه يقال: فطر ناب الجمل: إذا تشقق اللحم فخرج ومنه قوله: تكاد السموات يتفطرن من فوقهن: أي يتشققن ويتصدعن. وأما قوله: وهو يطعم ولا يطعم فإنه يعني: وهو يرزق خلقه ولا يرزق. كما: 10217 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وهو يطعم ولا يطعم قال: يرزق، ولا يرزق. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول ذلك: وهو يطعم ولا يطعم أي أنه يطعم خلقه، ولا يأكل هو. ولا معنى لذلك لقلة القراءة به. القول في تأويل قوله تعالى: قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله ويحثونك على عبادتها: أغير الله فاطر السموات والارض، وهو يرزقني وغيري، ولا يرزقه أحد، أتخذ وليا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق ؟ وقل لهم أيضا: إني أمرني ربي أن أكون أول من أسلم، يقول: أول من خضع له بالعبودية وتذلل لامره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني. ولا تكونن من المشركين يقول: وقل: وقيل لي لا تكونن من المشركين بالله الذين يجعلون الآلهة والانداد شركاء وجعل قوله: أمرت بدلا من قيل لي، لان قوله: أمرت معناه: قيل لي، فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين فاجتزئ بذكر الامر من ذكر القول، إذ كان الامر معلوما أنه قول. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إن ربي نهاني عن عبادة شئ سواه، وإني أخاف إن عصيت ربي، فعبدتها عذاب يوم عظيم، يعني عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى بالعظم لعظم هوله وفظاعة شأنه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 213 ]
* (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين) *. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة: من يصرف عنه يومئذ بضم الياء وفتح الراء، بمعنى: من يصرف عنه العذاب يومئد. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة من يصرف عنه بفتح الياء وكسر الراء، بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئد. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءة من قرأه: يصرف عنه بفتح الياء وكسر الراء، لدلالة قوله: فقد رحمه على صحة ذلك، وأن القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: من يصرف على وجه ما لم يسم فاعله، كان الوجه في قوله: فقد رحمه أن يقال: فقد رحم غير مسمى فاعله وفي تسمية الفاعل في قوله: فقد رحمه دليل على بين أن ذلك كذلك في قوله: من يصرف عنه. وإذا كان ذلك هو الوجه الاولى بالقراءة، فتأويل الكلام: من يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه وذلك هو الفوز المبين. ويعني بقوله: ذلك: وصرف الله عنه العذاب يوم القيامة، ورحمته إياه الفوز أي النجاة من الهلكة والظفر بالطلبة المبين يعني الذي بين لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطلبة. وبنحو الذي قلنا في قوله: من يصرف عنه يومئذ قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10218 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه قال: من يصرف عنه العذاب. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير) *. يقول تعالى ذكر لنبيه (ص): يا محمد، إن يصبك الله بضر، يقول: بشدة في دينك وشظف في عيشك وضيق فيه، فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أول من أسلم لامره ونهيه، وأذعن له من أهل زمانك، دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الاوثان
[ 214 ]
والاصنام ودون كل شئ سواها من خلقه. وإن يمسسك بخير يقول: وإن يصبك بخير: أي برخاء في عيش وسعة في الرزق وكثرة في المال فتقر أنه أصابك بذلك، فهو على كل شئ قدير يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك فهو على كل شئ قدير، هو القادر على نفعك وضرك، وهو على كل شئ يريده قادر، لا يعجزه شئ يريده ولا يمتنع منه شئ طلبه، ليس كالآلهة الذليلة المهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها ولا دفع ضر عنها ولا غيرها يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا ؟ أم كيف لا تخلص العبادة، وتقر لمن كان بيده الضر والنفع والثواب والعقاب وله القدرة الكاملة والعزة الظاهرة ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) *. يعني تعالى ذكره بقوله: وهو نفسه يقول: والله القاهر فوق عباده. ويعني بقوله: القاهر: المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم. وإنما قال: فوق عباده، لانه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم، ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه. فمعنى الكلام إذا: والله الغالب عباده، المذللهم، العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه. وهو الحكيم يقول: والله الحكيم في علوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وفي سائر تدبيره، الخبير بمصالح الاشياء ومضارها، الذي لا يخفى عليه عواقب الامور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا يدخل حكمه دخل. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويجحدون نبوتك من قومك: أي شئ أعظم شهادة وأكبر، ثم أخبرهم بأن أكبر الاشياء شهادة الله الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ والغلط والكذب، ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الاشياء شهادة شهيد بيني
[ 215 ]
وبينكم، بالمحق منا من المبطل والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه، وقد رضينا به حكما بيننا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10219 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: أي شئ أكبر شهادة قال: أمر محمد أن يسأل قريشا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: الله شهيد بيني وبينكم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك: الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به عقابه، وأنذر به من بلغه من سائر الناس غيركم، إن لم ينته إلى العمل بما فيه وتحليل حلاله وتحريم حرامه والايمان بجميعه، نزول نقمة الله به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10220 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: يا أيها الناس بلغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بلغه آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله، أخذه، أو تركه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: لانذركم به ومن بلغ أن النبي (ص) قال: بلغوا عن الله، فمن بلغه آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله. 10221 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: لانذركم به ومن بلغ قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي (ص). ثم قرأ: ومن بلغ أئنكم لتشهدون.
[ 216 ]
10222 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، قال: سألت ليثا: هل بقي أحد لم تبلغه الدعوة ؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير. ثم قرأ: لانذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون. 10223 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومن بلغ: من أسلم من العجم وغيرهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا خالد بن يزيد، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب في قوله: لانذركم به ومن بلغ قال: من بلغه القرآن، فقد أبلغه محمد (ص). 10224 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وأوحي هذا القرآن لانذركم به يعني أهل مكة، ومن بلغ يعني: ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يحدث، لا أعلمه إلا عن مجاهد، أنه قال في قوله: وأوحي هذا القرآن لانذركم به العرب ومن بلغ العجم. 10225 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لانذركم به ومن بلغ أما من بلغ: فمن بلغه القرآن فهو له نذير. 10226 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأوحي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ قال: يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا قال: فمن بلغه القرآن، فرسول الله (ص) نذيره. فمعنى هذا الكلام: لانذركم بالقرآن أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم، فمن في موضع نصب بوقوع أنذر عليه، وبلغ في صلته، وأسقطت الهاء العائدة على من في قوله: بلغ لاستعمال العرب ذلك في صلات من، وما، والذي.
[ 217 ]
القول في تأويل قوله تعالى: أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المشركين الجاحدين نبوتك، العادلين بالله ربا غيره: أئنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى، يقول: تشهدون أن معه معبودات غيره من الاوثان والاصنام. وقال: أخرى ولم يقل: أخر والآلهة جمع، لان الجموع يلحقها التأنيث، كما قال تعالى: فما بال القرون الاولى ولم يقل الاول، ولا الاولين. ثم قال لنبيه محمد (ص): قل يا محمد، لا أشهد بما تشهدون أن مع الله آلهة أخرى، بل أجحد ذلك وأنكره. إنما هو إله واحد يقول: إنما هو معبود واحد، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة. وإنني برئ مما تشركون يقول: قل وإنني برئ من كل شريك تدعونه لله وتضيفونه إلى شركته وتعبدونه معه، لا أعبد سوى الله شيئا ولا أدعو غيره إلها. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود بأعيانهم من وجه لم تثبت صحته. وذلك ما: 10227 - حدثنا به هناد بن السري وأبو كريب، قالا: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني محمد بن إسحاق قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمير، فقالوا: يا محمد أما تعلم مع الله إلها غيره ؟ فقال رسول الله (ص): لا إله إلا الله بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى فيهم وفي قولهم: قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم إلى قوله: لا يؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره: الذين آتيناهم الكتاب التوراة والانجيل، يعرفون أنما هو إله واحد لا جماعة الآلهة، وأن محمدا نبي مبعوث، كما يعرفون أبناءهم. وقوله: الذين خسروا أنفسهم من نعت الذين الاولى، ويعني بقوله: خسروا أنفسهم أهلكوها وألقوها في
[ 218 ]
نار جهنم بإنكارهم محمدا أنه لله رسول مرسل، وهم بحقيقة ذلك عارفون فهم لا يؤمنون يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون. وقد قيل: إن معنى خسارتهم أنفسهم: أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لاهل الجنة منازل أهل النار في الجنة، وجعل لاهل النار منازل أهل الجنة في النار، فذلك خسران الخاسرين منهم لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار، بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله وظلمهم أنفسهم، وذلك معنى قول الله تعالى: الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وبنحو ما قلنا في معنى قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10228 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم يعرفون أن الاسلام دين الله، وأن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم النصارى واليهود، يعرفون رسول الله في كتابهم، كما يعرفون أبناءهم. 10229 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم 10230 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم: يعني النبي (ص) قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم، أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) *.
[ 219 ]
يقول تعالى ذكره: ومن أشد اعتداء وأخطأ فعلا وأخطر قولا ممن افترى على الله كذبا، يعني: ممن اختلق على الله قيل باطل، واخترق من نفسه عليه كذبا، فزعم أن له شريكا من خلقه وإلها يعبد من دونه كما قاله المشركون من عبدة الاوثان، أو ادعى له ولدا أو صاحبة كما قالته النصارى. أو كذب بآياته يقول: أو كذب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوتهم كذبت بها اليهود. إنه لا يفلح الظالمون يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل، ولا يدركون البقاء في الجنان، والمفترون عليه الكذب والجاحدون بنبوة أنبيائه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) *. يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبا والمكذبين بآياته، لا يفلحون اليوم في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا، يعني: ولا في الآخرة. ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف. وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم جميعا فقوله: ويوم نحشرهم، مردود على المراد في الكلام، لانه وإن كان محذوفا منه فكأنه فيه لمعرفة السامعين بمعناه. ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم يقول: ثم نقول إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب بادعائهم له في سلطانه شريكا والمكذبين بآياته ورسله، فجمعنا جميعهم يوم القيامة: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم لكم آلهة من دون الله، افتراء وكذبا، وتدعونهم من دونه أربابا، فأتوا بهم إن كنتم صادقين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) *. يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم، إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك. ثم اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء المدينة والبصرة وبعض
[ 220 ]
الكوفيين: ثم لم تكن فتنتهم بالنصب، بمعنى: لم يكن اختبارنا لهم إلا قيلهم والله ربنا ما كنا مشركين غير أنهم يقرءو تكن بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر، وذلك عند أهل العربية شاذ غير فصيح في الكلام وقد روي بيت للبيد بنحو ذلك، وهو قوله: فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها فقال: وكانت بتأنيث الاقدام لمجاورته قوله: عادة. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب إلا أن قالوا بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم، غير أنهم ذكروا يكون لتذكير أن وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب، لان أن أثبت في المعرفة من الفتنة. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ثم لم تكن فتنتهم فقال بعضهم: معناه: ثم لم يكن قولهم. ذكر من قال ذلك: 10231 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة في قوله: ثم لم تكن فتنتهم قال: مقالتهم. قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم. 10232 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ثم لم تكن فتنتهم قال: قولهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا... الآية، فهو كلامهم، قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين. 10233 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال سمعت الضحاك: ثم لم تكن فتنتهم يعني كلامهم.
[ 221 ]
وقال آخرون: معنى ذلك معذرتهم. ذكر من قال ذلك: 10234 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة: ثم لم تكن فتنتهم قال: معذرتهم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب. والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة: الاختبار والابتلاء، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم. واختلفت القراء أيضا في قراءة قوله: والله ربنا ما كنا مشركين فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: والله ربنا خفضا على أن الرب نعت لله. وقرأ ذلك جماعة من التابعين: والله ربنا بالنصب بمعنى: والله يا ربنا، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: والله ربنا بنصب الرب، بمعنى: يا ربنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين، فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى لمحمد (ص): انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويعني بقوله: ما كنا مشركين ما كنا ندعو لك شريكا ولا ندعو سواك. القول في تأويل قوله تعالى: * (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): انظر يا محمد فاعلم كيف كذب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الاوثان والاصنام في الآخرة، عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين، واستعملوا هنالك الاخلاق التي كانوا بها متخلقين في الدنيا من الكذب والفرية ومعنى النظر في هذا الموضع: النظر بالقلب لا في الدنيا من الكذب والفرية النظر بالبصر، وإنما معناه: تبين،
[ 222 ]
فاعلم كيف كذبوا في الآخرة. وقال: كذبوا، ومعناه: يكذبون، لانه لما كان الخبر قد مضى في الآية قبلها صار كالشئ الذي قد كان ووجد. وضل عنهم ما كانوا يفترون يقول: وفارقهم الانداد والاصنام وتبرءوا منها، فسلكوا غير سبيلها لانها هلكت، وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتراء، ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله وعبادتهم إياه وإشراكهم إياها في سلطان الله، فضلت عنهم، وعوقب عابدوها بفريتهم. وقد بينا فيما مضى أن معنى الضلال: الاخذ على غير الهدى. وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سعة رحمة الله يومئذ. ذكر الرواية بذلك. 10235 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: أتى رجل ابن عباس، فقال: قال الله: والله ربنا ما كنا مشركين، وقال في آية أخرى: ولا يكتمون الله حديثا قال ابن عباس: أما قوله: والله ربنا ماكنا مشركين فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الاسلام فقالوا: تعالوا لنجحد قالوا والله ربنا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا. 10236 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: والله ربنا ما كنا مشركين قال: قول أهل الشرك حين رأوا الذنوب تغفر، ولا يغفر الله لمشرك، انظر كيف كذبوا على أنفسهم بتكذيب الله إياهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. 10237 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: والله ربنا ما كنا مشركين ثم قال: ولا يكتمون الله حديثا بجوارحهم. 10238 - حدثنا ابن وكيع، قال ثنا أبي، عن حمزة الزيات، عن رجل يقال له هشام، عن سعيد بن جبير: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قال: حلفوا واعتذروا، قالوا: والله ربنا.
[ 223 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن سعيد بن جبير، قال: أقسموا واعتذروا: والله ربنا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن حمزة الزيات، عن رجل يقال له هشام، عن سعيد بن جبير بنحوه. 10239 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن سفيان بن زياد العصفري، عن سعيد بن جبير، في قوله: والله ربنا ما كنا مشركين قال: لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين: تعالوا نقول: لا إله إلا الله، لعلنا نخرج مع هؤلاء قال: فلم يصدقوا، قال: فحلفوا: والله ربنا ما كنا مشركين قال: فقال الله: انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. 10240 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي يشركون به. حدثنا الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: والله ربنا ما كنا مشركين قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا والله ربنا ما كنا مشركين. فسئلوا، فقالوا ذلك، فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم، فود الذين كفروا حين رأوا ذلك لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا. حدثني الحرث، قال: ثني عبد العزيز، قال: ثنا مسلم بن خلف، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة لما رأى أهل الشرك أهل التوحيد يغفر لهم، فيقولوا: والله ربنا ما كنا مشركين قال: انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال ثنا سفيان عن رجل، عن سعيد بن جبير، أنه كان يقول: والله ربنا ما كنا مشركين يخفضها. قال: أقسموا واعتذروا. قال الحرث: قال عبد العزيز، قال سفيان مرة أخرى، ثني هشام، عن سعيد بن جبير. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 224 ]
* (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين) *. يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربهم الاوثان والاصنام من قومك يا محمد من يستمع إليك، يقول: من يستمع القرآن منك، ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك وأمره ونهيه، ولا يفقه ما تقول ولا يوعيه قلبه، ولا يتدبره ولا يصغي له سمعه ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك، إنما يسمع صوتك وقراءتك وكلامك، ولا يعقل عنك ما تقول لان الله قد جعل على قلبه أكنة. وهي جمع كنان، وهو الغطاء مثل سنان وأسنة، يقال منه: أكننت الشئ في نفسي بالالف، وكننت الشئ إذا غطيته، ومن ذلك بيض مكنون وهو الغطاء، ومنه قول الشاعر: تحت عين كنا نناظل برد مرحل يعني غطاءهم الذي يكنهم. وفي آذانهم وقرا يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثقلا وصمما عن فهم ما تتلو عليهم والاصغاء لما تدعوهم إليه. والعرب تفتح الواو من الوقر في الاذن: وهو الثقل فيها، وتكسرها في الحمل، فتقول: هو وقر الدابة، ويقال من الحمل: أوقرت الدابة فهي موقرة، ومن السمع: وقرت سمعه فهو موقور، ومنه قول الشاعر: (ولي هامة قد وقر الضرب سمعها)
[ 225 ]
وقد ذكر سماعا منهم: وقرت أذنه: إذا ثقلت، فهي موقورة، وأوقرت النخلة فهي موقر، كما قيل: امرأة طامث وحائض، لانه لاحظ فيه للمذكر، فإذا أريد أن الله أوقرها قيل موقرة. وقال تعالى ذكره: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه بمعنى: أن لا يفقهوه، كما قال: يبين الله لكم أن تضلوا بمعنى: أن لا تضلوا، لان الكن إنما جعل على القلب لئلا يفقهه لا ليفقهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10241 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تدري ما يقال لها. 10242 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل قال: ثنا أسباط، عن السدي: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا أما أكنة: فالغطاء، أكن قلوبهم لا يفقهون الحق، وفي آذانهم وقرا قال صمم. 10243 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ومنهم من يستمع إليك قال: قريش. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين. يقول تعالى ذكره: وإن هؤلاء العادلون بربهم الاوثان والاصنام، الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك، كل آية: يقول: كل حجة وعلامة تدل أهل الحجا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك لا يؤمنوا بها يقول: لا يصدقون بها ولا يقرون بأنها دالة على ما هي عليه دالة. حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به يجادلونك، يقول: يخاصمونك. يقول الذين كفروا يعني بذلك الذين جحدوا آيات الله وأنكروا
[ 226 ]
حقيقتها، يقولون لنبي الله (ص) إذا سمعوا حجج الله التي احتج بها عليهم وبيانه الذي بينه لهم: إن هذا إلا أساطير الاولين أي ما هذا إلا أساطير الاولين. والاساطير: جمع إسطارة وأسطورة مثل أفكوهة وأضحوكة، وجائز أن يكون الواحد أسطارا مثل أبيات وأبا بيت وأقوال وأقاويل، من قول الله تعالى: وكتاب مسطور من سطر يسطر سطرا. فإن كان من هذا، فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الاولون. وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأولونه بهذا التأويل، ويقولون معناه: إن هذا إلا أحاديث الاولين. 10244 - حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. 10245 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، أما: أساطير الاولين فأساجيع الاولين. وكان بعض أهل العلم وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى بكلام العرب يقول: الاسطارة: لغة الخرافات والترهات. وكان الاخفش يقول: قال بعضهم: واحده أسطورة، وقال بعضهم: إسطارة قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو العبابيد والمذاكير والابابيل. قال: وقال بعضهم: واحد الابابيل: إبيل وقال بعضهم: أبول، مثل عجول، ولم أجد العرب تعرف له واحدا، وإنما هو مثل عباديد لا واحد لها. وأما الشماطيط، فإنهم يزعمون أن واحده شمطاط، قال: وكل هذه لها واحد، إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به، لان هذا المثال لا يكون إلا جمعا قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول: أرسل خيله أبابيل، تريد جماعات، فلا تتكلم بها موحدة. وكانت مجادلتهم رسول الله (ص) التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذكر، ما: 10246 - حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: حتى إذا جاءوك يجادلونك... الآية: قال: هم المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة، يقولون: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تتبعون أمر الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 227 ]
* (وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله، ينهون الناس عن اتباع محمد (ص) والقبول منه، وينأون عنه: يتباعدون عنه. ذكر من قال ذلك: 10247 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن سالم، عن ابن الحنفية: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: يتخلفون عن النبي (ص) ولا يجيبونه، وينهون الناس عنه. 10248 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه يعني: ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به. وينأون عنه يعني: يتباعدون عنه. 10249 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وهم ينهون عنه وينأون عنه أن يتبع محمد ويتباعدون هم منه. 10250 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه يقول: لا يلقونه، ولا يدعون أحدا يأتيه. 10251 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: وهم ينهون عنه يقول: عن محمد (ص). 10252 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه جمعوا النهي والنأي. والنأي: التباعد. وقال بعضهم: بل معناه: وهم ينهون عنه عن القرآن أن يسمع له ويعمل بما فيه. ذكر من قال ذلك: 10253 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وهم ينهون عنه قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي (ص). وينأون عنه ويتباعدون عنه. 10254 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
[ 228 ]
أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: وهم ينهون عنه قال قريش عن الذكر. وينأون عنه يقول يتباعدون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وهم ينهون عنه وينأون عنه قريش عن الذكر، ينأون عنه: يتباعدون. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: ينهون عن القرآن وعن النبي (ص)، ويتباعدون عنه. 10255 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ينأون عنه قال: ينأون عنه: يبعدون. وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد (ص)، وينأون عنه: يتباعدون عن دينه واتباعه. ذكر من قال ذلك: 10256 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع وقبيصة، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول: نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن محمد أن يؤذي وينأي عما جاء به أن يؤمن به. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ثني من سمع ابن عباس يقول: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: نزلت في أبي طالب ينهي عنه أن يؤذي، وينأي عما جاء به. حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: نزلت في أبي طالب كان ينهي المشركين أن يؤذوا محمدا، وينأي عما جاء به. 10257 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة، قال: كان أبو طالب ينهي عن النبي (ص) ولا يصدقه. 10258 - حدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي ومحمد بن بشر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة، في قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: نزلت في أبي طالب. قال ابن وكيع: قال بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبي (ص) أن يؤذى، ولا يصدق به.
[ 229 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، عن أبي محمد الاسدي، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى: وهم ينهون عنه وينأون عنه نزلت في أبي طالب كان ينهي عن أذى محمد، وينأى عما جاء به أن يتبعه. 10259 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن القاسم بن مخيمرة، في قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه قال: نزلت في أبي طالب. 10260 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب، قال: ذاك أبو طالب، في قوله: وهم ينهون عنه وينأون عنه. 10261 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني سعيد بن أبي أيوب، قال: قال عطاء بن دينار في قوله الله: وهم ينهون عنه وينأون عنه أنها نزلت في أبي طالب، أنه كان ينهى الناس عن إيذاء رسول الله (ص) وينأى عما جاء به من الهدى. وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله: وهم ينهون عنه عن اتباع محمد (ص) من سواهم من الناس، وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادلين به، والخبر عن تكذيبهم رسول الله (ص) والاعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: وهم ينهون عنه خبرا عنهم، إذ لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله (ص) دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك، يقولون: إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الاولين وأخبارهم، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك، فيبعدون منك ومن اتباعك. وإن يهلكون إلا أنفسهم يقول: وما يهلكون بصدهم عن سبيل الله وإعراضهم عن تنزيله وكفرهم بربهم إلا أنفسهم لا غيرها، وذلك أنهم يكسبونها بفعلهم ذلك سخط الله وأليم عقابه وما لا قبل لها به. وما يشعرون يقول: وما يدرون ما هم مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم. والعرب تقول لكل من بعد عن شئ: قد نأى عنه، فهو ينأى نأيا،
[ 230 ]
ومسموع منهم: نأيتك بمعنى نأيت عنك وأما إذا أرادوا: أبعدتك عني، قالوا: أنأيتك. ومن نأيتك بمعنى نأيت عنك قول الحطيئة: نأتك أمامة إلا سؤالا وأبصرت منها بطيف خيالا القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ولو ترى يا محمد هؤلاء العادلين بربهم الاصنام والاوثان الجاحدين نبوتك الذين وصفت لك صفتهم، إذ وقفوا يقول: إذ حبسوا، على النار يعني في النار، فوضعت على موضع في كما قال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان بمعنى في ملك سليمان. وقيل: ولو ترى إذ وقفوا ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى أن العرب قد تضع إذ مكان إذا، وإذا مكان إذ، وإن كان حظ إذ أن تصاحب من الاخبار ما قد وجد فقضى، وحظ إذا أن تصاحب من الاخبار ما لم يوجد، ولكن ذلك كما قال الراجز وهو أبو النجم: مد لنا في عمره رب طه ثم جزاه الله عنا إذ جزى جنات عدن في العلالي العلا
[ 231 ]
فقال: ثم جزاه الله عنا إذ جزى، فوضع إذ مكان إذا. وقيل: وقفوا ولم يقل أوقفوا، لان ذلك هو الفصيح من كلام العرب، يقال: وقفت الدابة وغيرها بغير ألف إذا حبستها، وكذلك وقفت الارض إذا جعلتها صدقة حبيسا، بغير ألف. وقد: 10262 - حدثني الحرث، عن أبي عبيد، قال: أخبرني اليزيدي والاصمعي كلاهما، عن أبي عمرو، قال: ما سمعت أحدا من العرب يقول: أوقفت الشئ بالالف. قال: إلا أني لو رأيت رجلا بمكان، فقلت: ما أوقفك هاهنا ؟ بالالف لرأيته حسنا. فقالوا يا ليتنا نرد يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم إذ حبسوا في النار: يا ليتنا نرد إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله، ولا نكذب بآيات ربنا يقول: ولا نكذب بحجج ربنا ولا نجحدها، ونكون من المؤمنين يقول: ونكون من المصدقين بالله وحججه ورسله، متبعي أمره ونهيه. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة والعراقيين: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بمعنى: يا ليتنا نرد، ولسنا نكذب بآيات ربنا ولكن نكون من المؤمنين. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بمعنى يا ليتنا نرد، وأن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين. وتأولوا في ذلك شيئا: 10263 - حدثنيه أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: في حرف ابن مسعود: يا ليتنا نرد فلا نكذب بالفاء. وذكر عن بعض قراء أهل الشام أنه قرأ ذلك: يا ليتنا نرد ولا نكذب بالرفع ونكون بالنصب. كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا. واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا، فقال بعض نحويي البصرة: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين نصب لانه جواب للتمني، وما بعد الواو كما بعد الفاء. قال: وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني، كأنهم قالوا: ولا نكذب والله بآيات ربنا، ونكون والله من المؤمنين هذا إذا كان على ذا الوجه كان منقطعا من الاول. قال: والرفع وجه الكلام، لانه إذا نصب جعلها واو عطف، فإذا جعلها واو عطف، فكأنهم
[ 232 ]
قد تمنوا أن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا والله أعلم لا يكون، لانهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الرد، وأخبروا أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب نكذب ونكون على الجواب بالواو لكان صوابا قال: والعرب تجيب بالواو وثم، كما تجيب بالفاء، يقولون: ليت لي مالا فأعطيك، وليت لي مالا وأعطيك وثم أعطيك. قال: وقد تكون نصبا على الصرف، كقولك: لا يسعني شئ ويعجز عنك. وقال آخر منهم: لا أحب النصب في هذا، لانه ليس بتمن منهم، إنما هو خبر أخبروا به عن أنفسهم ألا ترى أن الله تعالى قد كذبهم فقال: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني. وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب بالواو، وبحرف غير الفاء، وكان يقول: إنما الواو موضع حال، لا يسعني شئ ويضيق عنك: أي وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصرف في جميع العربية. قال: وأما الفاء فجواب جزاء، ما قمت فأتيك: أي لو قمت لاتيناك. قال: فهذا حكم الصرف والفاء. قال: وأما قوله: ولا نكذب ونكون فإنما جاز، لانهم قالوا: يا ليتنا نرد في غير الحال التي وقفنا فيها على النار، فكان وقفهم في تلك، فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحالة. وكأن معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وقفوا على النار، فقالوا: قد وقفنا عليها مكذبين بآيات ربنا كفارا، فيا ليتنا نرد إليها فنوقف عليها غير مكذبين بآيات ربنا ولا كفارا. وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل، وذلك قول الله تعالى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة، والتكذيب لا يقع في التمني، ولكن صاحب هذه المقالة أظن به أنه لم يتدبر التأويل ولزم سنن العربية. والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بالرفع في كليهما، بمعنى: يا ليتنا نرد، ولسنا نكذب بآيات ربنا إن رددنا، ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردوا إلى الدنيا، لا على التمني منهم أن لا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين لان الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني لاستحال تكذيبهم
[ 233 ]
فيه، لان التمني لا يكذب، وإنما يكون التصديق والتكذيب في الاخبار. وأما النصب في ذلك، فإني أظن بقارئه أنه برجاء تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه، وذلك قراءته ذلك: يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء كذلك لا شك في صحة إعرابه، ومعناه في ذلك أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنا رددنا إلى الدنيا ما كذبنا بآيات ربنا، ولكنا من المؤمنين. فإن يكن الذي حكى من عن العرب من السماع منهم الجواب بالواو وثم كهئية الجواب بالفاء صحيحا، فلا شك في صحة قراءة من قرأ ذلك: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون نصبا على جواب التمني بالواو، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء، وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل. ولست أعلم سماع ذلك من العرب صحيحا، بل المعروف من كلامها الجواب بالفاء والصرف بالواو. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *. يقول تعالى ذكره: ما قصد هؤلاء العادلين بربهم الجاحدين نبوتك يا محمد في قيلهم إذ وقفوا على النار: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، الاسي والندم على ترك الايمان بالله والتصديق بك لكن بهم الاشفاق مما هو نازل بهم من عقاب الله وأليم عذابه على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم، فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رءوس الاشهاد، ففضحهم بها ثم جازاهم بها جزاءهم. يقول: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها، من قبل ذلك في الدنيا، فظهرت. ولو ردوا يقول: ولو ردوا إلى الدنيا فأمهلوا لعادوا لما نهوا عنه يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك من جحود آيات الله والكفر به والعمل بما يسخط عليهم ربهم. وإنهم لكاذبون في قيلهم: لو رددنا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين، لانهم قالوه حين قالوه خشية العذاب لا إيمانا بالله. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10264 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل يقول: بدت لهم أعمالهم في الآخرة التي أخفوها في الدنيا.
[ 234 ]
10265 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل قال: من أعمالهم. 10266 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه يقول: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين العادلين به الاوثان والاصنام الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عنهم، يقول تعالى ذكره: وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا يخبر عنهم أنهم ينكرون أن الله يحي خلقه بعد أن يميتهم، ويقولون: لا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور بعد الفناء. فهم بجحودهم ذلك وإنكارهم ثواب الله وعقابه في الدار الآخرة، لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية لانهم لا يرجون ثوابا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعمل صالح بعد موت، ولا يخافون عقابا على كفرهم بالله ورسوله وشيئ من عمل يعملونه. وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى عن هؤلاء الكفرة الذين وقفوا على النار، أنهم لو ردوا إلى الدنيا لقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. 10267 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقالوا حين يردون: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *. يقول تعالى ذكره: لو ترى يا محمد هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، إذ وقفوا يوم القيامة: أي حبسوا، على ربهم يعني: على حكم الله وقضائه فيهم. قال أليس هذا بالحق يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعث والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقا ؟ فأجابوا فقالوا بلى والله إنه لحق. قال فذوقوا العذاب يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا
[ 235 ]
تكذبون، بما كنتم تكفرون يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) *. يعني تعالى ذكره بقوله: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله قد هلك ووكس في بيعهم الايمان بالكفر الذين كذبوا بلقاء الله، يعني: الذين أنكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب والجنة والنار، من مشركي قريش ومن سلك سبيلهم في ذلك. حتى إذا جاءتهم الساعة يقول: حتى إذا جاءتهم الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم. وإنما أدخلت الالف واللام في الساعة، لانها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت. ويعني بقوله: بغتة: فجأة من غير علم من تفجؤه بوقت مفاجأتها إياه، يقال منه: بغته أبغته بغتة: إذا أخذته، كذلك قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها يقول تعالى ذكره: وكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار، فإذا جاءتهم الساعة بغتة، قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا وتبينوا خسارة صفقة بيعهم التي سلفت منهم في الدنيا تندما وتلهفا على عظيم الغبن الذي غبنوه أنفسهم وجليل الخسران الذي لا خسران أجل منه: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها يقول: يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها يعني في صفقتهم تلك. والهاء والالف في قوله: فيها من ذكر الصفقة، ولكن اكتفى بدلالة قوله: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله عليها من ذكرها، إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد خسرت. وإنما معنى الكلام: قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الايمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته، ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك حتى تقوم الساعة، فإذا جاءتهم الساعة بغتة فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ تندما. يا حسرتنا على ما فرطنا فيها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10268 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أما يا حسرتنا: فندامتنا على ما فرطنا فيها فضيعنا من عمل الجنة.
[ 236 ]
10269 - حدثنا محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا يزيد بن مهران، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي (ص)، في قوله: يا حسرتنا قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حسرتنا. القول في تأويل قوله تعالى: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون. يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذبوا بلقاء الله يحملون أوزارهم على ظهورهم. وقوله وهم من ذكرهم. يحملون أوزارهم يقول: آثامهم وذنوبهم، واحدها وزر، يقال منه: وزر الرجل يزر: إذا أثم، فإن أريد أنهم أثموا قيل: قد وزر القوم فهم يوزرون وهم موزورون. وقد زعم بعضهم: أن الوزر: الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد ولا من رواية ثقة عن العرب. وقال تعالى ذكره: على ظهورهم لان الحمل قد يكون على الرأس والمنكب وغير ذلك، فبين موضع حملهم ما يحملون من ذلك، وذكر أن حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم نحو الذي: 10270 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحا، فيقول له: هل تعرفني ؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا. وإن الكافر يستقبله أقبح شئ صورة وأنتنه ريحا، فيقول: هل تعرفني ؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون. 10271 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم قال: ليس من رجل ظالم يموت
[ 237 ]
فيدخل قبره إلا جاء رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك قال: كذلك كان عملك قبيحا. قال: ما أنتن ريحك قال: كذلك كان عملك منتنا. قال: ما أدنس ثيابك قال: فيقول: إن عملك كان دنسا. قال: من أنت ؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة، قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار فذلك قوله: يحملون أوزارهم على ظهورهم. وأما قوله تعالى: ألا ساء ما يزرون فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون: أي الاثم الذي يأثمونه بكفرهم بربهم. كما: 10272 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ألا ساء ما يزرون قال: ساء ما يعملون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما الحياة الدنيآ إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) *. وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفار المنكرين البعث بعد الممات في قولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، يقول تعالى ذكره مكذبا لهم في قيلهم ذلك: ما الحياة الدنيا أيها الناس، إلا لعب ولهو يقول: ما باغي لذات الحياة التي أدنيت لكم وقربت منكم في داركم هذه ونعيمها وسرورها فيها والمتلذذ بها والمنافس عليها، إلا في لعب ولهو لانها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذ فيها بملاذها، أو تأتيه الايام بفجائعها وصروفها فتمر عليه وتكدر كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه، ثم يعقبه منه ندما ويورثه منه ترحا. يقول: لا تغتروا أيها الناس بها، فإن المغتر بها عما قليل يندم. وللدار الآخرة خير للذين يتقون يقول: وللعمل بطاعته والاستعداد للدار الآخرة بالصالح من الاعمال التي تبقي منافعها لاهلها ويدوم سرور أهلها فيها، خير من الدار التي تفني فلا يبقى لعمالها فيها سرور ولا يدوم لهم فيها نعيم. للذين يتقون يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه والمسارعة إلى رضاه.
[ 238 ]
أفلا تعقلون يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذبون بالبعث حقيقة ما نخبرهم به من أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وهم يرون من يخترم منهم ومن يهلك فيموت ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبه المصائب وتفجعه الفجائع ؟ ففي ذلك لمن عقل مدكر ومزدجر عن الركون إليها واستعباد النفس لها، ودليل واضح على أن لها مدبرا ومصرفا يلزم الخلق إخلاص العبادة له بغير إشراك شئ سواه معه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقول المشركون، وذلك قولهم له: إنه كذاب، فإنهم لا يكذبونك. واختلفت القراء في قراءة ذلك بمعنى: أنهم لا يكذبونك فيما أتيتهم به من وحي الله، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا بل يعلمون صحته، ولكنهم يجحدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون: أكذبت الرجل: إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه. قال: ويقولون: كذبته: إذا أخبرت أنه كاذب. وقرأته جماعة من قراء المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فإنهم لا يكذبونك بمعنى: أنهم لا يكذبونك علما، بل يعلمون أنك صادق، ولكنهم يكذبونك قولا، عنادا وحسدا. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم. وذلك أن المشركين لا شك أنه كان منهم قوم يكذبون رسول الله (ص) ويدفعونه عما كان الله تعالى خصه به من النبوة فكان بعضهم يقول: هو شاعر، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم يقول: هو مجنون وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ومن تنزيل رب العالمين قولا. وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوته، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوته حسدا له وبغيا. فالقارئ: فإنهم لا يكذبونك يعني به: أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوتك وصدق قولك فيما تقول، يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن
[ 239 ]
عند الله قولا، وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا مصيب. لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته. وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم العناد في جحود نبوته (ص)، مع علم منهم به وصحة نبوته. وكذلك القارئ: فإنهم لا يكذبونك: يعني: أنهم لا يكذبون رسول الله (ص) إلا عنادا لا جهلا بنبوته وصدق لهجته مصيب. لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته. وقد ذهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذبونك، ولكنهم يجحدون الحق على علم منهم بأنك نبي لله صادق. 10273 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك قال: جاء جبريل إلى النبي (ص) ذات يوم وهو جالس حزين، فقال له: ما يحزنك ؟ فقال: كذبني هؤلاء. قال: فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك هم يعلمون أنك صادق، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جاء جبريل إلى النبي (ص) وهو جالس حزين، فقال له: ما يحزنك ؟ فقال: كذبني هؤلاء. فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، إنهم ليعلمون أنك صادق، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. 10274 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون. 10275 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط: عن السدي، في قوله: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن
[ 240 ]
الظالمين بآيات الله يجحدون لما كان يوم بدر، قال الاخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدا ابن أختكم، فأنتم أحق من كف عنه فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم ؟ وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا ههنا حتى ألقي أبا الحكم، فإن غلب محمد (ص) رجعتم سالمين، وإن غلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيؤمئذ سمي الاخنس، وكان اسمه أبي. فالتقى الاخنس وأبو جهل، فخلا الاخنس بأبي جهل، فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون فآيات الله محمد (ص). 10276 - حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا قيس، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير: فإنهم لا يكذبونك قال: ليس يكذبون محمدا، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ذكر من قال ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يكذبون ما جئت به: 10277 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، قال: قال أبو جهل للنبي (ص): ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به. فأنزل الله تعالى: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب: أن أبا جهل قال للنبي (ص): إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به. فأنزل الله تعالى: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. وقال آخرون: معنى ذلك: فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به. ذكر من قال ذلك: 10278 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب: فإنهم لا يكذبونك قال: لا يبطلون ما في يديك. وأما قوله: ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون فإنه يقول: ولكن المشركين بالله بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون، فينكرون صحة ذلك كله. وكان السدي يقول:
[ 241 ]
الآيات في هذا الموضع معني بها محمد (ص)، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين) *. وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص)، وتعزية له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه على ما جاءهم به من الحق من عند الله. يقول تعالى ذكره: إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوتك، وينكروا آيات الله أنها من عنده، فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله، فقد كذبت رسل من قبلك أرسلتهم إلى أممهم فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب قومهم إياهم ولم يثنهم ذلك من المضي لامر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم وبينهم ولا مبدل لكلمات الله ولا مغير لكلمات الله. وكلماته تعالى: ما أنزل الله إلى نبيه محمد (ص) من وعده إياه النصر على من خالفه وضاده، والظفر على من تولى عنه وأدبر. ولقد جاءك من نبإ المرسلين يقول: ولقد جاءك يا محمد من خبر من كان قبلك من الرسل وخبر أممهم، وما صنعت بهم حين جحدوا آياتي وتمادوا في غيهم وضلالهم أنباء. وترك ذكر أنباء لدلالة من عليها، يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضا من النصرة والظفر مثل الذي كان فيمن مني كان قبلك من الرسل، إذ كذبهم قومهم، واقتد بهم في صبرهم على ما لقوا من قومهم. وبنحو ذلك تأول من تأول هذه الآية من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10279 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا يعزي نبيه (ص) كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كذبت قبله فصبروا على ما كذبوا حتى حكم الله وهو خير الحاكمين. 10280 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: ولقد كذبت رسل من قبلك قال: يعزي نبيه (ص). 10281 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جرير:
[ 242 ]
ولقد كذبت رسل من قبلك... الآية، قال: يعزي نبيه (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شآء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) *. يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك يا محمد إعراض هؤلاء المشركين عنك وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي بعثتك به، فشق ذلك عليك ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض يقول: فإن استطعت أن تتخذ سربا في الارض، مثل نافقاء اليربوع، وهي أحد جحرته، فتذهب فيه أو سلما في السماء يقول: أو مصعدا تصعد فيه كالدرج وما أشبهها، كما قال الشاعر: لا يحرز المرء أحجاء البلاد ولا يبني له في السموات السلاليم فتأتيهم بآية يعني بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي أتيتك، فافعل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10282 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء والنفق: السرب، فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لك سلما في السماء، فتصعد عليه فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به فافعل. 10283 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض قال: سربا، أو سلما في السماء قال: يعني الدرج. 10284 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء أما النفق: فالسرب، وأما السلم: فالمصعد.
[ 243 ]
10285 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: نفقا في الارض قال: سربا. وترك جواب الجزاء، فلم يذكر لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامعين بمعناه، وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يفهم معناه عند المخاطبين به، فيقول الرجل منهم للرجل: إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا إن قدرت على معونتنا، ويحذف الجواب، وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل، فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب لم يحذفوه، لا يقال: إن تقم، فتسكت وتحذف الجواب لان المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره، حتى يقال: إن تقم تصب خيرا، أو: إن تقم فحسن، وما أشبه ذلك. ونظير ما في الآية مما حذف جوابه وهو مراد لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر: فتحط مما نعيش ولا تذهب هب بك الترهات في الاهوال والمعنى: فتحط مما يعيش فعيشي. القول في تأويل قوله تعالى: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين. يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار يا محمد فيحزنك تكذيبهم إياك، لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدين وصواب من محجة الاسلام حتى تكون كلمة جميعكم واحدة وملتكم وملتهم واحدة، لجمعتهم على ذلك، ولم يكن بعيدا علي لاني القادر على ذلك بلطفي، ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي ونافذ قضائي فيهم من قبل أن أخلقهم وأصور أجسامهم. فلا تكونن يا محمد من الجاهلين يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه بلطفه وأن يكفر به من خلقه إنما علم الله فيه ونافذ قضائه بأنه كائن من الكافرين به اختيارا لا اضطرارا، فإنك إذا علمت صحة ذلك لم يكبر عليك إعراض من أعرض من المشركين عما تدعوه إليه من الحق وتكذيب من كذبك منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10286 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح،
[ 244 ]
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. وفي هذا الخبر من الله تعالى الدلالة الواضحة على خطإ ما قال أهل التفويض من القدرية المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاء توفيقه من خلقه، يلطف بها له حتى يهتدي للحق، فينقاد له وينيب إلى الرشاد، فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاء الهداية لجميع من كفر به حتى يجتمعوا على الهدى فعل، ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم كانوا مهتدين لا ضلالا، وهم لو كانوا مهتدين كان لا شك أن كونهم مهتدين كان خيرا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى ترك منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خير لهم فيه مما هو قادر على فعله بهم وقد ترك فعله بهم، وفي تركه فعل ذلك بهم أوضح الدليل أنه لم يعطهم كل الاسباب التي بها يصلون إلى الهداية ويتسببون بها إلى الايمان. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): لا يكبرن عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والاقرار بنبوتك، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك إلا الذين فتح الله أسماعهم للاصغاء إلى الحق وسهل لهم اتباع الرشد، دون من ختم الله على سمعه فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الانعام من أصوات رعاتها، فهم كما وصفهم به الله تعالى: صم بكم عمي فهم لا يعقلون. والموتى يبعثهم الله يقول: والكفار يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ولا يعقلون دعاء ولا يفقهون قولا، إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله ولا يعتبرون آياته ولا يتذكرون فينزجرون عما هم عليه من تكذيب رسل الله وخلافهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10287 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما يستجيب الذين يسمعون المؤمنون للذكر. والموتى الكفار، حين يبعثهم الله مع الموتى.
[ 245 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10288 - حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنما يستجيب الذين يسمعون قال: هذا مثل المؤمن سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله، والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم، وهذا مثل الكافر أصم أبكم، لا يبصر هدى ولا ينتفع به. 10289 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان الثوري، عن محمد بن جحادة، عن الحسن: إنما يستجيب الذين يسمعون المؤمنون. والموتى قال: الكفار. حدثني ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن جحادة، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله قال: الكفار. وأما قوله: ثم إليه يرجعون فإنه يقول تعالى: ثم إلى الله يرجعون، المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا، فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الايمان به من الثواب، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون) *. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم المعرضون عن آياته: لولا نزل عليه آية من ربه يقول: قالوا: هلا نزل على محمد آية من ربه كما قال الشاعر: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا بمعنى: هلا الكمي. والآية العلامة، وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل
[ 246 ]
الطعام ويمشي في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها. قال الله تعالى لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لقائلي هذه المقالة لك: إن الله قادر على أن ينزل آية، يعني: حجة على ما يريدون ويسألون ولكن أكثرهم لا يعلمون يقول: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية، لا يعلمون ما عليهم في الآية إن نزلها من البلاء، ولا يدرون ما وجه ترك إنزال ذلك عليك، ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنزلها عليك لم يقولوا ذلك ولم يسألوكه، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبن الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون، وكيف يغفل عن أعمالكم أو يترك مجازاتكم عليها وهو غير غافل عن عمل شئ دب على الارض صغير أو كبير ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء ؟ بل جعل ذلك كله أجناسا مجنسة وأصنافا مصنفة، تعرف كما تعرفون وتتصرف فيما سخرت له كما كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب، ثم أنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاء أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الارض والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها وأثبت ذلك منها في أم الكتاب وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يضيع أعمالكم ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، إذ كان قد خصكم من نعمه وبسط عليكم من فضله ما لم يعم به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحق وبمعرفة واجبه عليكم أولى لما أعطاكم من العقل الذي به بين الاشياء تميزون والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضاركم تفرقون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 247 ]
10290 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: أمم أمثالكم أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10291 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم يقول: الطير أمة، والانس أمة، والجن أمة. 10292 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: إلا أمم أمثالكم يقول: إلا خلق أمثالكم. 10293 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم قال: الذرة فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. وأما قوله: ما فرطنا في الكتاب من شئ فإن معناه: ما ضيعنا إثبات شئ منه. كالذي: 10294 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ما فرطنا في الكتاب من شئ ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب. 10295 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ما فرطنا في الكتاب من شئ قال: لم نغفل، ما من شئ إلا وهو في الكتاب. وحدثني به يونس مرة أخرى، قال في قوله: ما فرطنا في الكتاب من شئ قال: كلهم مكتوب في أم الكتاب. وأما قوله: ثم إلى ربهم يحشرون فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى حشرهم الذي عناه الله تعالى في هذا الموضع. فقال بعضهم: حشرها موتها. ذكر من قال ذلك: 10296 - حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن
[ 248 ]
إسرائيل، عن سعيد، عن مسروق، عن عكرمة، عن ابن عباس: وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم قال ابن عباس: موت البهائم حشرها. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ثم إلى ربهم يحشرون قال: يعني بالحشر: الموت. 10297 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ثم إلى ربهم يحشرون يعني بالحشر: الموت. وقال آخرون: الحشر في هذا الموضع يعني به الجمع لبعث الساعة وقيام القيامة. ذكر من قال ذلك: 10298 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الاصم، عن أبي هريرة، في قوله: إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم، والدواب، والطير، وكل شئ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فكذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. 10299 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الاعمش، ذكره عن أبي ذر، قال: بينا أنا عند رسول الله (ص)، إذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله (ص): أتدرون فيما انتطحتا ؟ قالوا: لا ندري، قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، قال: ثنا مطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي (ص)، فقال لي: يا أبا ذر أتدري فيم
[ 249 ]
انتطحتا ؟ قلت: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما. قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله (ص)، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشران جميعا. ولا دلالة في ظاهر التنزيل ولا في خبر عن النبي (ص) أي ذلك المراد بقوله: ثم إلى ربهم يحشرون إذ كان الحشر في كلام العرب: الجمع، ومن ذلك قول الله تعالى: والطير محشورة كل له أواب يعني مجموعة: فإذ كان الجمع هو الحشر وكان الله تعالى جامعا خلقه إليه يوم القيامة وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها، وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى قد عم بقوله: ثم إلى ربهم يحشرون ولم يخصص به حشرا دون حشر. فإن قال قائل: فما وجه قوله: ولا طائر يطير بجناحيه وهل يطير الطائر إلا بجناحيه ؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة ؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب بلسان قوم وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم، فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: كلمت فلانا بفمي، ومشيت إليه برجلي، وضربته بيدي خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) *. يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته، صم عن سماع الحق بكم عن القيل به في الظلمات يعني: في ظلمة الكفر حائر فيها، يقول: هو مرتطم في
[ 250 ]
ظلمات الكفر، لا يبصر آيات الله فيعتبر بها، ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبره وأحكم تدبيره وقدره أحسن تقدير وأعطاه القوة وصحح له آلة جسمه، لم يخلقه عبثا ولم يتركه سدى، ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه دون معصيته وما يسخطه، فهو لحيرته في ظلمات الكفر وتردده في غمراتها، غافل عما الله قد أثبت له في أم الكتاب وما هو به فاعل يوم يحشر إليه مع سائر الامم. ثم أخبر تعالى أنه المضل من يشاء إضلاله من خلقه عن الايمان إلى الكفر والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحب هدايته فموفقه بفضله وطوله للايمان به وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه، وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أم الكتاب السعادة، ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء، وأن بيده الخير كله، وإليه الفضل كله، له الخلق والامر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة. 10300 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: صم وبكم هذا مثل الكافر أصم أبكم، لا يبصر هدى ولا ينتفع به، صم عن الحق في الظلمات لا يستطيع منها خروجا له متسكع فيها. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صدقين) *. اختلف أهل العربية في معنى قوله: أرأيتكم فقال بعض نحويي البصرة: الكاف التي بعد التاء من قوله: أرأيتكم إنما جاءت للمخاطبة، وتركت التاء مفتوحة كما كانت للواحد، قال: وهي مثل كاف رويدك زيدا، إذا قلت: أرود زيدا، هذه الكاف ليس لها موضع مسمى بحرف لا رفع نصب، وإنما هي في المخاطبة مثل كاف ذاك، ومثل ذلك قول العرب: أبصرك زيدا، يدخلون الكاف للمخاطبة. وقال آخرون منهم: معنى: أرأيتكم إن أتاكم أرأيتم، قال: وهذه الكاف تدخل للمخاطبة مع التوكيد، والتاء وحدها هي الاسم، كما أدخلت الكاف التي تفرق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة كقولهم: هذا، وذاك، وتلك، وأولئك، فتدخل الكاف للمخاطبة وليست باسم، والتاء هو الاسم للواحد والجميع، تركت على حال واحدة، ومثل ذلك قولهم: ليسك ثم إلا زيد، يراد: ليس ولا سيك زيد، فيراد: ولا سيما زيد، وبلاك، فيراد بلى، في معنى: ولبئسك رجلا ولنعمك رجلا وقالوا: انظرك زيدا ما أصنع به،
[ 251 ]
وأبصرك ما أصنع به، بمعنى أبصره. وحكى بعضهم: أبصركم ما أصنع به، يراد: أبصروا، وانظركم زيدا: أي انظروا. وحكي عن بعض بني كلاب: أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة ؟ فأدخل الكاف. وقال بعض نحويي الكوفة: أرأيتك عمرا أكثر الكلام، فيه ترك الهمز. قال: والكاف من أرأيتك في موضع نصب، كأن الاصل: أرأيت نفسك على غير هذه الحال ؟ قال: فهذا يثنى ويجمع ويؤنث، فيقال: أرأيتما كما وأرأيتموكم وأرأيتن كن أوقع فعله على نفسه، وسأله عنها، ثم كثر به الكلام حتى تركوا التاء موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع، فقالوا: أرأيتكم زيدا ما صنع، وأرأيتكن زيدا ما صنع، فوحدوا التاء وثنوا الكاف وجمعوها فجعلوها بدلا من التاء، كما قال: هاؤم اقرءوا كتابيه وهاء يا رجل، وهاؤما، ثم قالوا: هاكم، اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع، فكأن الكاف في موضع رفع إذ كانت بدلا من التاء، وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، وهي كقول القائل: عليك زيدا، الكاف في موضع خفض، والتأويل رفع. فأما ما يجلب فأكثر ما يقع على الاسماء، ثم تأتي بالاستفهام، فيقال: أرأيتك زيدا هل قام، لانها صارت بمعنى: أخبرني عن زيد، ثم بين عما يستخبر، فهذا أكثر الكلام، ولم يأت الاستفهام ثنيها، لم يقل: أرأيتك هل قمت، لانهم أرادوا أن يبينوا عمن يسأل، ثم تبين الحالة التي يسأل عنها، وربما جاء بالخبر ولم يأت بالاسم، فقالوا: أرأيت زيدا هل يأتينا، وأرأيتك أيضا، وأرأيت زيدا إن أتيته هل يأتينا إذا كانت بمعنى أخبرني، فيقال باللغات الثلاث. وتأويل الكلام: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الاوثان والاصنام، أخبروني إن جاءكم أيها القوم عذاب الله، كالذي جاء من قبلكم من الامم الذين هلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالصاعقة، أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم وتبعثون لموقف القيامة، أغير الله هناك تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء إن كنتم صادقين يقول: إن كنتم محقين في دعواكم وزعمكم أن آلهتكم تدعونها من دون الله تنفع أو تضر. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء وتنسون ما تشركون) *. يقول تعالى ذكره مكذبا لهؤلاء العادلين به الاوثان: ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والانداد إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشئ غير الله في حال شدة الهول
[ 252 ]
النازل بكم من آلهة ووثن وصنم، بل تدعون هناك ربكم الذي خلقكم وبه تستغيثون وإليه تفزعون دون كل شئ غيره. فيكشف ما تدعون إليه يقول: فيفرج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم، لانه القادر على كل شئ ومالك كل شئ دون ما تدعونه إلها من الاوثان والاصنام. وتنسون ما تشركون يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه، فتجعلونه له ندا من وثن وصنم، وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) *. يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء العادلين به الاصنام، ومحذرهم أن يسلك بهم إن هم تمادوا في ضلالهم سبيل من سلك سبيلهم من الامم قبلهم في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا، ومخبرا نبيه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الامم على منهاجهم في تكذيب الرسل: ولقد أرسلنا يا محمد إلى أمم يعني: إلى جماعات وقرون، من قبلك فأخذناهم بالبأساء يقول: فأمرناهم ونهيناهم، فكذبوا رسلنا وخالفوا أمرنا ونهينا، فامتحناهم بالابتلاء بالبأساء، وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة والضراء وهي الاسقام والعلل العارضة في الاجسام. وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في سورة البقرة بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: لعلهم يتضرعون يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إلي، ويخلصوا لي العبادة، ويفردوا رغبتهم إلي دون غيري بالتذلل منهم لي بالطاعة والاستكانة منهم إلي بالانابة. وفي الكلام محذوف قد استغني بما دل عليه الظاهر عن إظهاره من قوله: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم. وإنما كان سبب أخذه إياهم تكذيبهم الرسل وخلافهم أمره، لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى الكلام: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فكذبوهم، فأخذناهم بالبأساء. والتضرع: هو التفعل من الضراعة، وهي الذلة والاستكانة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) *. وهذا أيضا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما ترك، وذلك
[ 253 ]
أنه تعالى ذكره أخبر عن الامم التي كذبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا، ثم قال: فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأسأء والضراء. ومعنى الكلام: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلم يتضرعوا، فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا. ومعنى: فلولا في هذا الموضع: فهلا، والعرب إذ أولت لولا اسما مرفوعا جعلت ما بعدها خبرا وتلقتها بالامر، فقالت، فلولا أخوك لزرتك، ولولا أبوك لضربتك، وإذا أولتها فعلا، أو لم تولها اسما، جعلوها استفهاما، فقالوا: لولا جئتنا فنكرمك، ولولا زرت أخاك فنزورك، بمعنى هلا. كما قال تعالى: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وكذلك تفعل ب لوما مثل فعلها ب لولا. فتأويل الكلام إذن: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الامم المكذبة رسلها الذين لم يتضرعوا عند أخذناهم بالبأساء والضراء، تضرعوا فاستكانوا لربهم وخضعوا لطاعته، فيصرف ربهم عنهم بأسه وهو عذابه وقد بينا معنى البأس في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ولكن قست قلوبهم يقول: ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم، وأصروا على ذلك واستكبروا عن أمر ربهم، استهانة بعقاب الله واستخفافا بعذابه وقساوة قلب منهم. وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الاعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم القول في تأويل قوله تعالى: * (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) *. يعني تعالى ذكره بقوله: فلما نسوا ما ذكروا به فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا. كالذي: 10301 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: فلما نسوا ما ذكروا به يعني: تركوا ما ذكروا به.
[ 254 ]
10302 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: نسوا ما ذكروا به قال: ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوه وردوه عليهم. فتحنا عليهم أبواب كل شئ يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الابدان والاجسام استدراجا منا لهم. كالذي: 10303 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: فتحنا عليهم أبواب كل شئ قال: رخاء الدنيا ويسرها على القرون الاولى. 10304 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شئ قال: يعني الرخاء وسعة الرزق. 10305 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط. عن السدي، قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شئ يقول: من الرزق. فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: فتحنا عليهم أبواب كل شئ وقد علمت أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم، وأبواب أخر غيره كثيرة ؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت من معناه، وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم استدراجا منا لهم أبواب كل ما كنا سددنا عليهم بابه عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء، ليتضرعوا، إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله. لان آخر هذا الكلام مردود على أوله، وذلك كما قال تعالى في موضع آخر من كتابه: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية (أنهم نسوا ما) ذكرهم بقوله: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ هو تبديله لهم مكان السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة، ومن الضر في الاجسام إلى الصحة والعافية، وهو فتح أبواب كل شئ كان أغلق بابه عليهم مما جرى ذكره قبل قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شئ فرد قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شئ عليه. ويعني تعالى بقوله: حتى إذا فرحوا بما أتوا يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذبون رسلهم بفتحنا عليهم أبواب السعة في المعيشة والصحة في الاجسام. كالذي:
[ 255 ]
10306 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الرزق. 10307 - حدثنا الحرث، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يحدث عن حماد بن زيد، قال: كان رجل يقول: رحم الله رجلا تلا هذه الآية ثم فكر فيها ماذا أريد بها: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة. 10308 - حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن أبي رجاء من أهل الثغر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن النضر الحارثي، في قوله: أخذناهم بغتة قال: أمهلوا عشرين سنة. ويعني تعالى ذكره بقوله أخذناهم بغتة أتيناهم بالعذاب فجأة وهم غارون لا يشعرون أن ذلك كائن ولا هو بهم حال. كما: 10309 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة قال: أعجب ما كانت إليهم وأغرها لهم. 10310 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي أخذناهم بغتة يقول: أخذهم العذاب بغتة. 10311 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أخذناهم بغتة وقال: فجأة آمنين. وأما قوله: فإذا هم مبلسون فإنهم هالكون، منقطعة حججهم، نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلهم. كالذي: 10312 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فإذا هم مبلسون قال: فإذا هم مهلكون متغير حالهم. 10313 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا شيخ، عن مجاهد: فإذا هم مبلسون قال: فإذا هم مهلكون. 10314 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فإذا هم مبلسون قال: المبلس: الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه، والمبلس أشد من
[ 256 ]
المستكين، وقرأ: فما استكانوا لربهم وما يتضرعون وكان أول مرة فيه معاتبة وتقية، وقرأ قول الله: أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا حتى بلغ: وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ثم جاء أمر ليس فيه تقية، وقرأ: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فجاء أمر ليس فيه تقية، وكان الاول لو أنهم تضرعوا كشف عنهم. 10315 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن أبي شريح ضبارة بن مالك، عن أبي الصلت، عن حرملة أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله (ص): إذا رأيت الله يعطي عبده في دنياه، إنما هو استدراج ثم تلا هذه الآية: فلما نسوا ما ذكروا به إلى قوله: والحمد لله رب العالمين. وحدث بهذا الحديث عن محمد بن حرب، عن ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، أن النبي (ص)، قال: إذا رأيت الله تعالى يعطي العباد ما يسألون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ... الآية. وأصل الابلاس في كلام العرب عند بعضهم: الحزن على الشئ والندم عليه. وعند بعضهم: انقطاع الحجة والسكوت عند انقطاع الحجة. وعند بعضهم: الخشوع، وقالوا: هو المخذول المتروك، ومنه قول العجاج: يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا فتأويل قوله: وأبلسا عند الذين زعموا أن الابلاس: انقطاع الحجة والسكوت عنده، بمعنى: أنه لم يحر جوابا. وتأوله الآخرون بمعنى الخشوع، وترك أهله إياه مقيما بمكانه. والآخرون: بمعنى الحزن والندم، يقال منه: أبلس الرجل إبلاسا، ومنه قيل لابليس: إبليس. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 257 ]
* (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: فقطع دابر القوم الذين ظلموا فاستؤصل القوم الذين عتوا على ربهم وكذبوا رسله وخالفوا أمره عن آخرهم، فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتة، إذ جاءهم عذاب الله وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10316 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فقطع دابر القوم الذين ظلموا يقول: فقطع أصل الذين ظلموا. 10317 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فقطع دابر القوم الذين ظلموا. قال: استؤصلوا. ودابر القوم: الذي يدبرهم، وهو الذي يكون في أدبارهم وآخرهم، يقال في الكلام: قد دبر القوم فلان يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم، ومنه قول أمية: فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا والحمد لله رب العالمين يقول: والثناء الكامل، والشكر التام لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر، وتحقيق عدتهم ما وعدهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله، من نقم الله وعاجل عذابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الاوثان والاصنام المكذبين بك: أرأيتم أيها المشركون بالله غيره إن أصمكم الله فذهب بأسماعكم وأعمالكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم فطبع عليها حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة
[ 258 ]
ولا تفهموا مفهوما، أي إله غير الله الذي له عبادة كل عابد يأتيكم به يقول: يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الاسماع والابصار والافهام فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم وعلى رده عليكم إذا شاء. وهذا من الله تعالى تعليم نبيه الحجة على المشركين به، يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا، وإنما يستحق العبادة عليكم من كان بيده الضر والنفع والقبض والبسط، القادر على كل ما أراد لا العاجز الذي لا يقدر على شئ. ثم قال تعالى لنبيه محمد (ص): انظر كيف نصرف الآيات يقول: انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الامثال والعبر ليعتبروا ويذكروا فينيبوا. ثم هم يصدفون يقول: ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج وتنبيهنا إياهم بالعبر عن الادكار والاعتبار يعرضون، يقال منه: صدف فلان عني بوجهه فهو يصدف صدوفا وصدفا: أي عدل وأعرض، ومنه قول ابن الرقاع: إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف وقال لبيد: يروي قوامح قبل الليل صادفة أشباه جن عليها الريط والازر فإن قال قائل: وكيف قيل: من إله غير الله يإتيكم به فوحد الهاء، وقد مضى الذكر قبل بالجمع فقال: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم ؟ قيل: جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع، فتكون موحدة لتوحيد السمع، وجائز أن تكون معنيا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والابصار والافئدة، فتكون موحدة لتوحيد ما، والعرب تفعل ذلك إذا كنت عن الافعال وحدت الكناية وإن كثر ما يكنى بها عنه من الافاعيل، كقوله: إقبالك وإدبارك يعجبني. وقد قيل: إن الهاء التي في به كناية عن الهدى.
[ 259 ]
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله يصدفون قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10318 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: يصدفون قال: يعرضون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10319 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يصدفون قال: يعدلون. 10320 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قأخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: نصرف الآيات ثم هم يصدفون قال: يعرضون عنها. 10321 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم هم يصدفون قال: يصدون. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الاوثان المكذبين بأنك لي رسول إليهم، أخبروني إن أتاكم عذاب الله وعقابه على ما تشركون به من الاوثان والانداد، وتكذيبكم إياي بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي. بغتة يقول: فجأة على غرة لا تشعرون. أو جهرة يقول: أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه. هل يهلك إلا القوم الظالمون يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة وترك عبادة من يستحق علينا العبادة. وقد بينا معنى الجهرة في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته وأنها من الاجهار، وهو إظهار الشئ للعين. كما: 10322 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: جهرة قال: وهم ينظرون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة فجأة آمنين، أو جهرة وهم ينظرون.
[ 260 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة، جزاء منا لهم على طاعتنا، وبانذار من عصانا وخالف أمرنا، عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة، جزاء منا على معصيتنا، لنعذر إليه، فيهلك إن هلك عن بينة. فمن آمن وأصلح يقول: فمن صدق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه، وقبل منهم ما جاءوه به من عند الله وعمل صالحا في الدنيا، فلا خوف عليهم عند قدومهم على ربهم من عقابه وعذابه الذي أعده الله لاعدائه وأهل معاصيه: ولا هم يحزنون عند ذلك على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) *. يقول تعالى ذكره: وأما الذين كذبوا بمن أرسلنا إليه من رسلنا وخالفوا أمرنا ونهينا ودافعوا حجتنا، فإنهم يباشرهم عذابنا وعقابنا على تكذيبهم ما كذبوا به من حججنا بما كانوا يفسقون يقول: بما كانوا يكذبون. وكان ابن زيد يقول: كل فسق في القرآن، فمعناه الكذب. 10323 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الاعمى والبصير أفلا تتفكرون) *. يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكن إني الرب الذي له خزائن السموات والارض وأعلم غيوب الاشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شئ، فتكذبوني فيم أقول من ذلك لانه لا ينبغي أن يكون ربا إلا من له ملك كل شئ وبيده كل شئ ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك هو الله الذي لا إله غيره. ولا أقول لكم إني ملك لانه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرا بصورته لابصار البشر في
[ 261 ]
الدنيا، فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك. إن أتبع إلا ما يوحى إلي يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه إلا وحي الله الذي يوحيه إلي وتنزيله الذي ينزله علي، فأمضي لوحيه وأئتمر لامره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك، وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة، فما وجه إنكاركم لذلك ؟ وذلك تنبيه من الله تعالى نبيه (ص) على موضع حجته على منكري نبوته من مشركي قومه. قل هل يستوي الاعمى والبصير يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: هل يستوي الاعمى عن الحق والبصير به ؟ والاعمى هو الكافر الذي قد عمى عن حجج الله فلا يتبينها فيتبعها. والبصير: المؤمن الذي قد أبصر آيات الله وحججه فاقتدى بها واستضاء بضيائها. أفلا تتفكرون يقول لهؤلاء الذي كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتج عليكم به أيها القوم من هذه الحجج، فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الاوثان والانداد بالله ربكم وتكذيبكم إياي، مع ظهور حجج صدقي لاعينكم، فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون إلى ما أدعوكم إليه من الايمان الذي به تفوزون ؟ وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10324 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: قل هل يستوي الاعمى والبصير قال: الضال والمهتدى. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10325 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: قل هل يستوي الاعمى والبصير... الآية قال: الاعمى: الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه والبصير: العبد المؤمن الذي أبصر بصرا نافعا، فوحد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما آتاه الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وأنذريا محمد بالقرآن الذي أنزلناه إليك القوم
[ 262 ]
الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم علما منهم بأن ذلك كائن فهم مصدقون بوعد الله ووعيده، عاملون بما يرضي الله، دائمون في السعي فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله. ليس لهم من دونه ولي أي ليس لهم من عذاب الله إن عذبهم ولي ينصرهم فيستنقذهم منه. ولا شفيع يشفع لهم عند الله تعالى فيخلصهم من عقابه. لعلهم يتقون يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم، فيطيعوا ربهم ويعملوا لمعادهم، ويحذروا سخطه باجتناب معاصيه. وقيل: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا ومعناه: يعلمون أنهم يحشرون، فوضعت المخافة موضع العلم لان خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك. وهذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا (ص) بتعليم أصحابه ما أنزل الله إليه من وحيه وتذكيرهم والاقبال عليهم بالانذار وصده عن المشركين به بعد الاعذار إليهم وبعد إقامة الحجة عليهم، حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين) *. ذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص) في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك. ذكر من قال ذلك: 10326 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو زيد، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن ابن مسعود، قال: مر الملا من قريش بالنبي (ص) وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وكذلك فتنا بعضهم ببعض... إلى آخر الآية. حدثنا جرير، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن عبد الله، قال: مر الملا من قريش على رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه.
[ 263 ]
10327 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن كردوس، عن ابن عباس، قال: مر على رسول الله (ص) ملا من قريش، ثم ذكر نحوه. 10328 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الازدي وكان قارئ الازد عن أبي الكنود، عن خباب، في قول الله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... إلى قوله: فتكون من الظالمين قال: جاء الاقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا النبي (ص) قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الاعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا قال: فدعا بالصحيفة، ودعا عليا ليكتب، قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يردون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين، ثم قال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين، ثم قال: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة. فألقى رسول الله (ص) الصحيفة من يده، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة. فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا قال: فكان رسول الله (ص) يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الازدي، عن أبي الكنود، عن خباب بن الارت، بنحو حديث
[ 264 ]
الحسين بن عمرو إلا أنه قال في حديثه: فلما رأوهم حوله نفروهم، فأتوه فخلوا به. وقال أيضا: فتكون من الظالمين، ثم ذكر الاقرع وصاحبه، فقال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض... الآية. وقال أيضا: فدعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه، وسائر الحديث نحوه. 10329 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وحدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والكلبي: أن ناسا من كفار قريش قالوا للنبي (ص): إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا ناسا من ضعفاء المسلمين. فقال الله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي... إلى قوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض... الآية، قال: وقد قال قائلون من الناس لرسول الله (ص): يا محمد إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانا وفلانا لاناس كانوا دونهم في الدنيا ازدراهم المشركون. فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها. 10331 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي بلال وابن أم عبد كانا يجالسان محمدا (ص)، فقالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه فنهي عن طردهم، حتى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين قال: قل سلام عليكم فيما بين ذلك في هذا. 10332 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: قال سعيد: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي (ص)، منهم ابن مسعود، قال: كنا نسبق إلى النبي (ص)، وندنو منه ونسمع منه، فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا ؟ فنزلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. 10333 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، في قوله: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم... الآية. قال: جاء
[ 265 ]
عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له قال: فأتى أبو طالب النبي (ص)، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلام يصيرون من قولهم فأنزل الله تعالى هذه الآية: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين. قال: وكانوا: بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ومن الحلفاء: ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود ابن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمر ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأبو مرثد من غني حليف حمزة بن عبد المطلب، وأشباههم من الحفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا... الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مقالته، فأنزل الله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم... الآية. 10334 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال رجل للنبي (ص): إني أستحيي من الله أن يراني مع سلمان وبلال وذويهم، فاطردهم عنك وجالس فلانا وفلانا قال: فنزل القرآن: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فقرأ حتى بلغ: فتكون من الظالمين ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم. ثم قال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين. ثم قال: وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم فأبلغهم منى السلام وبشرهم، وأخبرهم أني قد غفرت لهم وقرأ: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فقرأ حتى بلغ: وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين قال: لتعرفها. واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرهط الذين نهى الله نبيه (ص) عن طردهم يدعون ربهم به، فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. ذكر من قال ذلك:
[ 266 ]
10335 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يعني: يعبدون ربهم بالغداة والعشي، يعني الصلوات المكتوبة. 10336 - حدثنا المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، في قوله: يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه قال: هي الصلوات الخمس الفرائض، ولو كان يقول القصاص هلك من لم يجلس إليهم. 10337 - حدثنا هناد بن السري وابن وكيع، قالا: ثنا ابن فضيل، عن الاعمش، عن إبراهيم: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه قال: هي الصلاة. 10338 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الصلاة المفروضة: الصبح والعصر. 10339 - حدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي، قال: ثنا حسن الجعفي، قال: أخبرني حمزة بن المغيرة، عن حمزة بن عيسى، قال: دخلت على الحسن فسألته، فقلت: يا أبا سعيد، أرأيت قول الله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أهم هؤلاء القصاص ؟ قال: لا، ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة. 10340 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسين قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: الصلاة المكتوبة. 10341 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: يعبدون ربهم بالغداة والعشي يعني الصلاة المفروضة. 10342 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: واصبر
[ 267 ]
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي هما الصلاتان: صلاة الصبح وصلاة العصر. 10343 - حدثني ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: ثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن عبد الله بن عمر في هذه الآية: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي... الآية، أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة. 10344 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قالا: الصلوات الخمس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. 10345 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: المصلين المؤمنين بلال وابن أم عبد. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الامام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد: ما أسرعهم إلى هذا المجلس قال مجاهد: فقلت: يتأولون ما قال الله تعالى. قال: وما قال ؟ قلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: وفي هذا ذا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، إنما ذاك في الصلاة. 10346 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: الصلاة المكتوبة. 10347 - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: هي الصلاة. 10348 - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن إسرائيل، عن عامر، قال: هي الصلاة.
[ 268 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه يقول: صلاة الصبح وصلاة العصر. 10348 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: صلى عبد الرحمن في مسجد الرسول، فلما صلى قام فاستند إلى حجرة النبي (ص)، فانثال الناس عليه، فقال: يا أيها الناس إليكم فقيل: يرحمك الله، إنما جاءوا يريدون هذه الآية: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي فقال: وهذا عني بهذا إنما هو في الصلاة. وقال آخرون: هي الصلاة ولكن القوم لم يسألوا رسول الله (ص) طرد هؤلاء الضعفاء عن مجلسه ولا تأخيرهم عن مجلسه، وإيما سألوه تأخيرهم عن الصف الاول حتى يكونوا وراءهم في الصف. ذكر من قال ذلك: 10349 - حدثني محمد بن سعد، ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض... الآية، فهم أناس كانوا مع النبي (ص) من الفقراء، فقال أناس من أشراف الناس: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك فليصلوا $ خلفن وقال آخرون: بل معنى دعائهم كان ذكرهم الله تعالى. ذكر من قال ذلك: 10350 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: أهل الذكر. 10351 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن منصور: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: هم أهل الذكر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: لا تطردهم عن الذكر. وقال آخرون: بل كان ذلك تعلمهم القرآن وقراءته. ذكر من قال ذلك: 10352 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن
[ 269 ]
جابر، عن أبي جعفر، قوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: كان يقرئهم القرآن النبي (ص). وقال آخرون: بل عنى بدعائهم ربهم عبادتهم إياه. ذكر من قال ذلك: 10353 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يدعون ربهم بالغداة والعشي قال: يعني: يعبدون، ألا تر أنه قال: لا جرم أنما تدعونني إليه يعني: تعبدونه. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى نهى نبيه محمدا (ص) أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي والدعاء لله يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح الاعمال التي كان عليهم فرضها وغيرها من النوافل التي ترضي والعامل له عابده بما هو عامل له وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها، فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لان الله قد سمى العبادة دعاء، فقال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. وقد يجوز أن يكون ذلك على خاص من الدعاء، ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي فيعمون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشئ دون شئ. فتأويل الكلام إذن: يا محمد أنذر القرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون، فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير، في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله. ولا تطردهم ولا تقصهم، فتكون ممن وضع الاقصاء في غير موضعه فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناءه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته لصالح أعمالهم وأداء ما ألزمهم من فرائضه ونوافل تطوعهم وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي، يلتمسون بذلك القربة إلى الله والدنو من رضاه. ما عليك من حسابهم من
[ 270 ]
شئ، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شئ، وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شئ، فتطردهم حذار محاسبتي إياك بما خولتهم في الدنيا من الرزق. وقوله: فتطردهم: جواب لقوله: ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ. وقوله: فتكون من الظالمين جواب لقوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ أليس الله بأعلم بالشاكرين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض وكذلك اختبرنا وابتلينا. كالذي: 10354 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وكذلك فتنا بعضهم ببعض يقول: ابتلينا بعضهم ببعض. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الفتنة، وأنها الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما فتنة الله تعالى بعض خلقه ببعض، مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الارزاق والاخلاق، فجعل بعضا غنيا وبعضا فقيرا وبعضا قويا وبعضا ضعيفا، فأحوج بعضهم إلى بعض، اختبارا منه لهم بذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10355 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وكذلك فتنا بعضهم ببعض يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، فقال الاغنياء للفقراء: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية. وأما قوله: ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا يقول تعالى: إختبرنا الناس بالغنى والفقر والعز والذل والقوة والضعف والهدى والضلال، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحق للذين هداهم الله ووفقهم: أهؤلاء من الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء استهزاء بهم، ومعاداة للاسلام وأهله.
[ 271 ]
يقول تعالى: أليس الله بأعلم بالشاكرين وهذا منه تعالى إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق، وخذلهم عنه وهم أغنياء، وتقرير لهم أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرا نعمتي ممن هو لها كافر، فمني على من مننت عليه منهم بالهداية جزاء شكره إياي على نعمتي، وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد عقوبة كفرانه إياي نعمتي لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير لان الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلا جزاء على عمله الذي اكتسبه لا على غناه وفقره، لان الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منك سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) *. اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى بهذه الآية: فقال بعضهم: عنى بها الذين نهي الله نبيه عن طردهم، وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه. وقال آخرون: عنى بها قوما استفتوا النبي (ص) في ذنوب أصابوها عظام، فلم يؤيسهم الله من التوبة. ذكر من قال ذلك: 10356 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن مجمع، قال: سمعت ماهان، قال: جاء قوم إلى النبي (ص) قد أصابوا ذنوبا عظاما. قال ماهان: فما أخاله رد عليهم شيئا. قال: فأنزل الله هذه الآية: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم... الآية. حدثنا هناد، قال: ثنا قيصة، عن سفيان، عن مجمع، عن ماهان: أن قوما جاءوا إلى النبي (ص)، فقالوا: يا محمد إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما أخاله رد عليهم شيئا، فانصرفوا، فأنزل الله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة قال: فدعاهم، فقرأها عليهم. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجمع التميمي، قال: سمعت ماهان يقول، فذكر نحوه.
[ 272 ]
وقال آخرون: بل عني بها قوم من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي (ص) بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فغفرها الله لهم وعفا عنهم، وأمر نبيه (ص) إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي (ص) بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد، وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل. وأولى الاقوال في ذلك عندي بتأويل الآية، قول من قال: المعنيون بقوله: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم غير الذين نهي الله النبي (ص) عن طردهم، لان قوله: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا خبر مستأنف بعد تقصي الخبر عن الذين نهى الله نبيه (ص) عن طردهم، ولو كانوا هم لقيل: وإذا جاءوك فقل سلام عليكم، وفي ابتداء الله الخبر عن قصة هؤلاء وتركه وصل الكلام بالخبر عن الاولين ما ينبئ عن أنهم غيرهم. فتأويل الكلام إذ كان الامر على ما وصفنا: وإذا جاءك يا محمد القوم الذين يصدقون بتنزيلنا وأدلتنا وحججنا فيقرون بذلك قولا وعملا، مستر شديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم، هل لهم منها توبة ؟ فلا تؤيسهم منها، وقل لهم: سلام عليكم: أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها، كتب ربكم على نفسه الرحمة يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدنيين: أنه من عمل منكم سوءا فيحعلون أن منصوبة على الترجمة بها عن الرحمة، ثم تاب من بعده وأصلح فإنه عفور رحيم على ائتناف إنه بعد الفاء فيكسرونها ويجعلونها أداة لا موضع لها، بمعنى: فهو له غفور رحيم، أو فله المغفرة والرحمة. وقرأهما بعض الكوفيين بفتح الالف منهما جميعا، بمعنى: كتب ربكم على نفسه الرحمة، ثم ترجم بقوله: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة عن الرحمة فأنه غفور رحيم، فيعطف فأنه الثانية على أنه الاولى، ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت. وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قراء أهل العراق من الكوفة والبصرة بكسر الالف من إنه وفإنه على الابتداء، وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.
[ 273 ]
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأهما بالكسر: كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه على ابتداء الكلام، وأن الخبر قد انتهى عند قوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة ثم استؤنف الخبر عما هو فاعل تعالى ذكره بمن عمل سوءا بجهال ثم تاب وأصلح منه. ومعنى قوله: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة: أنه من اقترف منكم ذنبا، فجهل باقترافه إياه. ثم تاب وأصلح فأنه غفور لذنبه إذا تاب وأناب وراجع بطاعة الله وترك العود إلى مثله مع الندم على ما فرط منه. رحيم بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه. ذكر من قال ذلك: 10357 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن عثمان، عن مجاهد: من عمل منكم سوءا بجهالة قال: من جهل أنه لا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته ركب الامر. 10358 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: يعملون السوء بجهالة قال: من عمل بمعصية الله، فذاك منه جهل حتى يرجع. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا بكر بن خنيس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: من عمل منكم سوءا بجهالة قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل. 10359 - حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا خالد بن دينار أبو خلدة، قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: وكذلك نفصل الآيات وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحها يا محمد إلى هذا الموضع حجتنا على المشركين من عبدة الاوثان وأدلتنا، وميزناها لك وبيناها، كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم، فنبينها لك حتى تبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه.
[ 274 ]
واختلفت القراء في قراءة قوله: ولتستبين سبيل المجرمين فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة: ولتستبين بالتاء سبيل المجرمين بنصب السبيل، على أن تستبين خطاب للنبي (ص) كأن معناه عندهم: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين الذين سألوك طرد النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه. 10360 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ولتستبين سبيل المجرمين قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: ولتستبين بالتاء سبيل المجرمين برفع السبيل على أن القصد للسبيل، ولكنه يؤنثها. وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات ولتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: ولتستبين بالياء سبيل المجرمين برفع السبيل على أن الفعل للسبيل ولكنهم يذكرونه. ومعنى هؤلاء في هذا الكلام، ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: ولتستبين ورفع السبيل واحد، وإنما الاختلاف بينهم في تذكير السبيل وتأنيثها. وأولى القراءتين بالصواب عندي في السبيل الرفع، لان الله تعالى ذكره فصل آياته في كتابه وتنزيله، ليتبين الحق بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعض دون بعض. ومن قرأ السبيل بالنصب، فإنما جعل تبيين ذلك محصورا على النبي (ص). وأما القراءة في قوله: ولتستبين فسواء قرئت بالتاء أو بالياء، لان من العرب من يذكر السبيل وهم تميم وأهل نجد، ومنهم من يؤنث السبيل وهم أهل الحجاز، وهما قراءتان مستفيضتان في قراء الامصار ولغتان مشهورتان من لغات العرب، وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلاف لقراءته بالاخرى ولا وجه لاختيار إحداهما على الاخرى بعد أن يرفع السبيل للعلة التي ذكرنا. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: نفصل الآيات قال أهل التأويل. 10361 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وكذلك نفصل الآيات نبين الآيات. 10362 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في: نفصل الآيات: نبين. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 275 ]
* (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) *.. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك، العادلين به الاوثان والانداد، الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الاوثان: إن الله نهاني أن أ عبد الذين تدعون من دونه، فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك ولا أوافقكم عليه، ولا أعطيكم محبتكم وهواكم فيه، وإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسلكت على غير الهدى، فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة. وللعرب في ضللت لغتان: فتح اللام وكسرها، واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها، وبها قرأ عامة قراء الامصار، وبها نقرأ لشهرتها في العرب وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها والقراء بها قليلون، فمن قال ضللت قال أضل، ومن قال ضللت قال في المستقبل أضل، وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وقالوا أئذا ضللنا بفتح اللام. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين لك إلى الاشراك بربك: إني على بينة من ربي أي إني على بيان قد تبينته وبرهان قد وضح لي من ربي، يقول: من توحيده، وما أنا عليه من إخلاص عبوديته من غير إشراك شئ به وكذلك تقول العرب: فلان على بينة من هذا الامر: إذا كان على بيان منه، ومن ذلك قول الشاعر: أبينة تبغون بعد اعترافه وقول سويد قد كفيتكم بشرا وكذبتم به يقول: وكذبتم أنتم بربكم. والهاء في قوله به من ذكر الرب عز وجل. ما عندي ما تستعجلون به يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي، ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيه محمدا (ص) بتوحيده، فدعاهم
[ 276 ]
إلى الله وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الاولون فقال الله لنبيه (ص): أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك، وإنما أنت رسول، وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به، وإن الله يقضي الحق فيهم وفيك ويفصل به بينك وبينهم فيتبين المحق منكم والمبطل. وهو خير الفاصلين: أي وهو خير من بين وميز بين المحق والمبطل وأعدلهم، لانه لا يقع في حكمه وقضائه حيف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة، ولا في قضائه جور لانه لا يأخذ الرشوة في الاحكام فيجوز، فهو أعدل الحكام وخير الفاصلين. وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: وهو أسرع الفاصلين. 10363 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: في قراءة عبد الله: يقضي الحق وهو أسرع الفاصلين. واختلفت القراء في قراءة قوله: يقضي الحق فقرأه عامة قراء الحجاز والمدينة وبعض قراء أهل الكوفة والبصرة: إن الحكم إلا لله يقص الحق بالصاد بمعنى القصص، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص. وذكر ذلك عن ابن عباس. 10364 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: يقص الحق، وقال: نحن نقص عليك أحسن القصص. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة والبصرة: إن الحكم إلا لله يقضي الحق بالضاد من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء. واعتبروا صحة ذلك بقوله: وهو خير الفاصلين وأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصص. وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب لما ذكرنا لاهلها من العلة. فمعنى الكلام إذن: ما الحكم فيما تستعجلون به أيها المشركون من عذاب الله وفيما بيني وبينكم، إلا الله الذي لا يجور في حكمه، وبيده الخلق والامر، يقضي الحق بيني وبينكم، وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 277 ]
* (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والاوثان المكذبيك فيما جئتهم به، السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أن بيدي ما تستعجلون به من العذاب لقضي الامر بيني وبينكم ففصل ذلك أسرع الفصل بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه، ولكن ذلك بيد الله الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها فيعبدون من دونه الآلهة والاصنام، وهو أعلم بوقت الانتقام منهم وحال القضاء بيني وبينهم. وقد قيل: معنى قوله: لقضي الامر بيني وبينكم الذبح للموت. 10365 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن ابن جريج، قال: بلغني في قوله: لقضي الامر قال: ذبح الموت. وأحسب أن قائل هذا النوع نزع لقوله: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر وهم في غفلة فإنه روي عن النبي (ص) في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في قضاء الامر، وليس قوله: لقضي الامر بيني وبينكم من ذلك في شئ، وإنما هذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا (ص) أن يقول لمن استعجله فصل القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك، ولكنه بيد من هو أعلم بما يصلح خلقه مني ومن جميع خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) *. يقول: وعنده مقاتح الغيب والمفاتح: جمع مفتح، يقال فيه: مفتح ومفتاح، فمن قال مفتح جمعه مفاتح، ومن قال مفتاح جمعه مفاتيح. ويعني بقوله: وعنده مفاتح الغيب خزائن الغيب، كالذي:
[ 278 ]
10366 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وعنده مفاتح الغيب قال: يقول: خزائن الغيب. 10367 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: أعطي نبيكم كل شئ إلا مفاتح الغيب. 10368 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: وعنده مفاتخ الغيب قال: هن خمس: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث... إلى: إن الله عليم خبير. فتأويل الكلام إذن: والله أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو بهم صانع، فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه، فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه ولم يعلموه ولن يدركوه. ويعلم ما في البر والبحر يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضا عنكم، لان ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين يعلمه العباد. فكان معنى الكلام: وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم، لا يخفى عليه شئ، لانه لا شئ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد، وذلك هو الغيب. القول في تأويل قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقة في الصحاري والبراري ولا في الامصار والقرى إلا الله يعلمها. ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين يقول: ولا شئ أيضا مما هو موجود أوم ما سيوجد ولم يوجد بعد، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني فيها. ويعني بقوله مبين: أنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم.
[ 279 ]
فإن قال قائل: وما وجه إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين ما لا يخفى عليه، وهو بجميعه عالم لا يخاف نسيانه ؟ قيل له: لله تعالى فعل ما شاء، وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانا منه لحفظته واختبارا للمتوكلين بكتابة أعمالهم، فإنهم فيما ذكر مأمورون بكتابة أعمال العباد ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم وقيل: إن ذلك معنى قوله: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به، إما بحجة يحتج بها على بعض ملائكته وأما على بني آدم وغير ذلك. وقد: 10369 - حدثني زياد بن يحيى الحساني أبو الخطاب، قال: ثنا مالك بن سعير، قال: ثنا الاعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحرث، قال: ما في الارض من شجرة ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله، يعلمه يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): وقل لهم يا محمد، والله أعلم بالظالمين: والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم، ويعلم ما جرحتم بالنهار يقول: ويعلم ما كسبتم من الاعمال بالنهار. ومعنى التوفي في كلام العرب: استيفاء العدد، كما قال الشاعر: إن بني الادم ليسوا من أحد ولا توفاهم قريش في العدد بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد. وأما الاجتراح عند العرب: فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه، وهي الجوارح عندهم جوارح البدن فيما ذكر عنهم، ثم يقال لكل مكتسب عملا: جارح، لاستعمال العرب ذلك في هذه الجوارح، ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبا بأي أعضاء جسمه اكتسب: مجترح.
[ 280 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10370 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار أما يتوفاكم بالليل: ففي النوم، وأما يعلم ما جرحتم بالنهار فيقول: ما اكتسبتم من الاثم. 10371 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار يعني: ما اكتسبتم من الاثم. 10372 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: ما جرحتم بالنهار قال: ما عملتم بالنهار. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 10373 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وهو الذي يتوفاكم بالليل يعني بذلك: نومهم ويعلم ما جرحتم بالنهار: أي ما عملتم من ذنب فهو يعلمه، لا يخفى عليه شئ من ذلك. 10374 - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار قال: أما وفاته إياهم بالليل فمنامهم، وأما ما جرحتم بالنهار فيقول: ما اكتسبتم بالنهار. وهذا الكلام وإن كان خبرا من الله تعالى عن قدرته وعلمه، فإن فيه احتجاجا على المشركين به الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم، فقال تعالى محتجا عليهم: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار، لتبلغوا أجلا مسمى وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحته، غير منكر له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم ثم ردها إلى أجسادكم وإنشائكم بعد مماتكم، فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون، وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك القدرة على ما لم تعاينوه، وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك شبيه ما رأيتم وعاينتم.
[ 281 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. يعني تعالى ذكره: ثم يبعثكم، يثيركم ويوقظكم من منامكم فيه، يعني في النهار. والهاء التي في: فيه راجعة على النهار. ليقضى أجل مسمى يقول: ليقضي الله الاجل الذي سماه لحياتكم، وذلك الموت، فيبلغ مدته ونهايته. ثم إليه مرجعكم يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم. ثم ينبئكم بما كنتم تعملون يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا، ثم يجازيكم بذلك، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10375 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم يبعثكم فيه قال: في النهار. 10376 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: ثم يبعثكم فيه في النهار، والبعث: اليقظة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 10377 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم يبعثكم فيه قال: في النهار. 10378 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: ثم يبعثكم فيه قال: يبعثكم في المنام. ليقضى أجل مسمى وذلك الموت. ذكر من قال ذلك: 10379 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ليقضى أجل مسمى وهو الموت. 10380 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ليقضى أجل مسمى قال: هو أجل الحياة إلى الموت. 10381 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 282 ]
قال: قال عبد الله بن كثير: ليقضى أجل مسمى قال: مدتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) *. يقول تعالى ذكره: وهو القاهر: والله الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته، لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم المذلل المغلوب عليه لذلته. ويرسل عليكم حفظة وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارا، يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يضيعون. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10382 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: ويرسل عليكم حفظة قال: هي المعقبات من الملائكة، يحفظونه ويحفظون عمله. 10383 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون يقول: حفظة يا ابن آدم يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك. حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقب بينها يرسلهم إليكم بحفظكم، وبحفظ أعمالكم إلى أن يحضركم الموت وينزل بكم أمر الله، فإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الارواح ورسلنا المرسلون به وهم لا يفرطون في ذلك فيضيعونه. فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الارواح ملك الموت، فكيف قيل: توفته رسلنا والرسل جملة وهو واحد ؟ أو ليس قد قال: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون التوفي مضافا، وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت، إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره كما يضاف قتل من قتل أعوان السلطان
[ 283 ]
وجلد من جلدوه بأمر السلطان إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه ولا وليه بيده. وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10384 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، في قوله: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوان من الملائكة. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، في قوله: توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: سئل ابن عباس عنها، فقال: إن لملك الموت أعوانا من الملائكة. 10385 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم في قوله: توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: أعوان ملك الموت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: الرسل توفي الانفس، ويذهب بها ملك الموت. 10386 - حدثنا هناد، قال: ثنا حفص، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن ابن عباس: توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: الرسل توفي الانفس، ويذهب بها ملك الموت. حدثنا هناد، قال: ثنا حفص، عن الحسن بن عبيد الله، عن ابن عباس: توفته رسلنا وهم لا يفرطون قال: أعوان ملك الموت من الملائكة. حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: توفته رسلنا قال: هم الملائكة أعوان ملك الموت. 10387 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: توفته رسلنا قال: إن ملك الموت له رسل فيرسل ويرفع ذلك إليه. وقال الكلبي: إن ملك الموت هو يلي ذلك، فيدفعه إن كان مؤمنا إلى ملائكة الرحمة، وإن كان كافرا إلى ملائكة العذاب.
[ 284 ]
10388 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: توفته رسلنا قال: يلي قبضها الرسل، ثم يدفعونها إلى ملك الموت. 10389 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: توفته رسلنا قال: يتوفاه الرسل، ثم يقبض منهم ملك الموت الانفس. قال الثوري: وأخبرني الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، قال: هم أعوان لملك الموت. قال الثوري: وأخبرني رجل عن مجاهد، قال: جعلت الارض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتوفون الانفس ثم يقبضها منهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن ابن عباس، في قوله: توفته رسلنا قال: أعوان ملك الموت من الملائكة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، قال: الملائكة أعوان ملك الموت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: توفته رسلنا قال: يتوفونه، ثم يدفعونه إلى ملك الموت. 10390 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، قال: سألت الربيع بن أنس، عن ملك الموت، أهو وحده الذي يقبض الارواح ؟ قال: هو الذي يلي أمر الارواح، وله أعوان على ذلك، ألا تسمع إلى قول الله تعالى: حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم وقال: توفته رسلنا وهم لا يفرطون غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطو منه من المشرق إلى المغرب. قلت: أين تكون أرواح المؤمنين ؟ قال: عند السدرة في الجنة. 10391 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن مجاهد، قال: ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين. وقد بينا أن معنى التفريط: التضييع، فيما مضى قبل. وكذلك تأوله المتأولون في هذا الموضع.
[ 285 ]
10392 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وهم لا يفرطون يقول: لا يضيعون. 10393 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وهم لا يفرطون قال: لا يضيعون. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) *. يقول تعالى ذكره: ثم ردت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحق. ألا له الحكم يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه. وهو أسرع الحاسبين يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها، لانه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الداعين لك إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحريتم فأظلم عليكم الهدى والمحجة ؟ ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأخطأتم فيه المحجة فأظلم عليكم فيه السبيل فلا تهتدون له، غير الله الذي مفزعكم حينئذ بالدعاء تضرعا منكم إليه واستكانة جهرا وخفية ؟ يقول: وإخفاء للدعاء أحيانا، وإعلانا وإظهارا، تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب: أي من هذه الظلمات التي نحن فيها، لنكونن من الشاكرين يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر ويخلص لك العبادة دون من كنا نشركه معك في عبادتك. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10394 - حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 286 ]
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية يقول: إذا أضل الرجل الطريق دعا الله لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. 10395 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر يقول: من كرب البر والبحر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادر على فرجكم عند حلول الكرب بكم، ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من هم الضلال وخوف الهلاك ومن كرب كل سوى ذلك وهم، لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته، ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه، التي لا تقدر لكم على نفع لا ضر، ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب ودفع الحال بكم من جسم الهم تعدلون به آلهتكم وأصنامكم فتشركونها في عبادتكم إياه، وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم وكفر لاياديه عندكم وتعرض منكم لانزال عقوبته عاجلا بكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) *. يقول تعالى ذكره لنب. يه (ص): قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الاصنام والاوثان يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البر والبحر ومن كل كرب ثم تعودون للاشراك به، وهو القادر على أن يرسل عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم، لشرككم به وادعائكم معه إلها آخر غيره وكفرانكم نعمه مع إسباغه عليكم آلاءه ومننه. وقد اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الذي توعد الله به هؤلاء القوم ظأن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم، فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم: فالرجم وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم: فالخسف. ذكر من قال ذلك:
[ 287 ]
10396 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال: الخسف. 10397 - حدثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن الاشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير، مثله. 10398 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو سلمة، عن شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال الخسف. 10399 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم فعذاب السماء، أو من تحت أرجلكم فيخسف بكم الارض. 10400 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال: كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر: ألا أيها الناس إنه نزل بكم، إن الله يقول: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحدا، أو من تحت أرجلكم لو خسف بكم الارض أهلككم ولم يبق منكم أحدا، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث. وقال آخرون: عنى بالعذاب من فوقكم: أئمة السوء، أو من تحت أرجلكم: الخدم وسفلة الناس. ذكر من قال ذلك: 10401 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت خلادا يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: إن ابن عباس كان يقول في هذه: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء. وأما العذاب من تحت أرجلكم: فخدم السوء. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم يعني: من أمرائكم، أو من تحت أرجلكم يعني: سفلتكم.
[ 288 ]
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى بالعذاب من فوقهم الرجم أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم، ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى فوق وتحت الارجل، هو ذلك دون غيره، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تنوع في تأويله فحمله على الاغلب الاشهر من معناه أحق وأولى من غيره ما لم يأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله تعالى: أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض. يقول تعالى ذكره: أو يخلطكم شيعا: فرقا، واحدتها شيعة، وأما قوله: يلبسكم فهو من قولك: لبست عليه الامر، إذا خلطت، فأنا ألبسه. وإنما قلت إن ذلك كذلك، لانه لا خلاف بين القراء في ذلك بكسر الباء، ففي ذلك دليل بين على أنه من لبس يلبس، وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابا مفترقة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10402 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو يلبسكم شيعا الاهواء المفترقة. 10403 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أو يلبسكم شيعا قال: يفرق بينكم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو يلبسكم شيعا قال: ما كان منكم من التفرق والاختلاف. 10404 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أو يلبسكم شيعا قال: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والاهواء وسفك دماء بعضهم بعضا. 10405 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: أو يلبسكم شيعا قال: الاهواء والاختلاف. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أو يلبسكم شيعا يعني بالشيع: الاهواء المختلفة.
[ 289 ]
وأما قوله: ويذيق بعضكم بأس بعض فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض، والعرب تقول للرجل ينال بسلاح فيقتله به: قد أذاق فلان فلانا الموت وأذاقه بأسه. وأصل ذلك من ذوق الطعام وهو يطعمه، ثم استعمل ذلك في كل ما وصل إلى الرجل من لذة وحلاوة أو مرارة ومكروه وألم. وقد بينت معنى البأس في كرم العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10406 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ويذيق بعضكم بأس بعض بالسيوف. 10407 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمان عارم، قال: ثنا حماد، عن أبي هارون العبدي، عن نوف البكالي، أنه في قوله: ويذيق بعضكم بأس بعض قال: هي والله الرجال في أيديهم الحراب يطعنون في خواصركم. 10408 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ويذيق بعضكم بأس بعض قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. 10409 - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: عذاب هذه الامة أهل الاقرار بالسيف، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض وعذاب أهل التكذيب: الصيحة والزلزلة. ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذ الآية، فقال بعضهم: عني بها المسلمون من أمة محمد (ص)، وفيهم نزلت. ذكر من قال ذلك: 10410 - حدثني محمد بن عيسى الدامغاني، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم... الآية، قال: فهن أربع وكلهن عذاب، فجاء منهن اثنتان بعد وفاة رسول الله (ص) بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما لا بد واقعتان، يعني: الخسف والمسخ. 10411 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن
[ 290 ]
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: من فوقكم أو من تحت أرجلكم لامة محمد (ص)، وأعفاكم منه. أو يلبسكم شيعا قال: ما كان فيكم من الفتن والاختلاف. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10412 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا... الآية، ذكر لنا أن رسول الله (ص) صلى ذات يوم الصبح فأطالها، فقال له بعض أهله: يا نبي الله لقد صليت صلاة ما كنت تصليها قال: إنها صلاة رغبة ورهبة، وإني سألت ربي فيها ثلاثا: سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيهلكهم فأعطانيها وسألته أن لا يسلط على أمتي السنة فأعطانيها وسألته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها، ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله. 10413 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، سمع جابرا يقول: لما أنزل الله تعالى على النبي (ص): قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال: هاتان أيسر، أو أهون. - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر، قال: لما نزلت: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال: نعوذ بك، نعوذ بك أو يلبسكم شيعا قال: هو أهون. 10414 - حدثني زياد بن عبيد الله المزني، قال: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، قال: ثنا أبو مالك، قال ثني نافع بن خالد الخزاعي، عن أبيه: أن النبي (ص) صلى صلاة خفيفة تامة
[ 291 ]
الركوع والسجود فقال: قد كانت صلاة رغسة ورهبة، فسألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين، وبقي واحدة. سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها. قال أبو مالك: فقلت له: أبوك سمع هذا من رسول الله (ص) ؟ فقال: نعم سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله (ص). 10415 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الاشعث، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي (ص)، أنه قال: إن الله زوى لي الارض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الاحمر والابيض، وإني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة وأن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لامتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا، فقال النبي (ص): إني أخاف على أمتي الائمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الاشعث، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله (ص)، فذكر نحوه، إلا أنه قال: وقال النبي (ص): إني لا أخاف على أمتي إلا الائمة المضلين. 10416 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن الزهري، قال: راقب خباب بن الارت، وكان بدريا، النبي (ص) وهو يصلي، حتى إذا فرغ وكان في الصبح قال له: يا رسول الله، لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها قال: أجل، إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني
[ 292 ]
واحدة سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الامم فأعطاني، وسألته أن لا يسلط علينا عدوا فأعطاني، وسألته أن لا يلبسنا شيعا، فمنعني. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، في قوله: أو يلبسكم شيعا قال: راقب خباب بن الارث، وكان بدريا، رسول الله (ص)، فذكر نحوه، إلا أنه قال: ثلاث خصلات. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نزلت على النبي (ص): قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي (ص): أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال النبي (ص): أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا قال: هذه أهون. 10417 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أن النبي (ص) قال: سألت ربي فأعطيت ثلاثا ومنعت واحداة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم، ولا يسلط عليهم جوعا، ولا يجمعهم على ضلالة فأعطيتهن. وسألته أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، فمنعت. 10418 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال رسول الله (ص): إني سألت ربي خصالا، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة، سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها، وسألته لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الامم من قبلهم فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها. 10419 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية، قوله: ويذيق بعضكم بأس بعض قال الحسن: ثم قال لمحمد (ص) وهو يشهده عليهم: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون فقام
[ 293 ]
رسول الله (ص)، فتوضأ، فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل، فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك سألت ربك أربعا، فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وهذان عذابان لاهل الاقرار بالكتاب والتصديق بالانبياء، ولكن يعذبون بذنوبهم وأوحي إليه: فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون يقول: من أمتك، أو نرينك الذي وعدناهم من العذاب العذاب وأنت حي، فإنا عليهم مقتدرون. فقام نبي الله (ص)، فراجع ربه، فقال: أي مصيبة أشد من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضا ؟ وأوحي إليه: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين فأعلمه أن أمته لم تخص دون الامم بالفتن، وأنها ستبلى كما ابتليت الامم. ثم أنزل عليه: قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين فتعوذ نبي الله، فأعاذه الله، لم ير من أمته إلا الجماعة والالفة والطاعة. ثم أنزل عليه آية حذر فيها أصحابه الفتنة، فأخبره أنه إنما يخص بها ناس منهم دون ناس، فقال: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب فخص بها أقواما من أصحاب محمد (ص) بعده وعصم بها أقواما. 10420 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: لما جاء جبريل إلى النبي (ص) فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف، فشق ذلك عليه، ثم دعا فقال: اللهم أظهر عليهم أفضلهم تقية. 10421 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو الاسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن أبي الزبير، قال: لما نزلت هذه الآية: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله (ص): أعوذ بالله من ذلك قال: أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بالله من ذلك قال أو يلبسكم شيعا قال: هذه أيسر ولو استعاذه لاعاذه.
[ 294 ]
10422 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا المؤمل البصري، قال: أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني، قال: ثنا زيد بن أسلم، قال: لما نزلت: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال رسول الله (ص): لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟ قال: نعم فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدا فأنزل الله: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون. وقال آخرون: عنى ببعضها أهل الشرك وببعضها أهل الاسلام. ذكر من قال ذلك: 10423 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هارون بن موسى، عن حفص بن سليمان، عن الحسن، في قوله: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال: هذا للمشركين، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا للمسلمين. والصواب من القول عندي أن يقال: إن الله تعالى توعده بهذه الآية أهل الشرك به من عبدة الاوثان وإياهم خاطب بها، لانها بين إخبارهم عنهم وخطاب لهم، وذلك أنها تتلو قوله: قل ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ويتلوها قوله: وكذب به قومك وهو الحق وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذبين. فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك، وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين، كان بينا أن ذلك وعيد لمن تقدم وصف الله إياه بالشرك وتأخر الخبر عنه بالتكذيب، لا لمن لم يجر له ذكر غير أن ذلك وإن كان كذلك فإنه قد عم وعيده بذلك كل من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها. وأما الاخبار التي رويت عن رسول الله (ص) أنه قال: سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة فجائز أن هذه الآية نزلت في ذلك الوقت وعيدا لمن ذكرت من المشركين ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم، فسأل رسول الله (ص) ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الامم الذين استوجبوا من الله تعالى بمعصيتهم إياه هذه العقوبات فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الاربع من العقوبات أغلظها، ولم يعذهم من ذلك
[ 295 ]
ما يستحقون به اثنتين منها. وأما الذين تأولوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الامة، فإني أراهم تأولون أن في هذه الامة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يسخط الله نحو الذي ركب من قبلهم من الامم السالفة من خلافه والكفر به، فيحل بهم مثل الذي حل بمن قبلهم من الثلاث والنقمات وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله: جاء منهن اثنتان بعد رسول الله (ص) أنه قال: سيكون في هذه الامة خسف ومسخ وقذف وأن قوما من أمته سيبيتون على لهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير وذلك إذا كان، فلا شك أنه نظير الذي في الامم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته. وقد روي نحو الذي روي عن أبي العالية، عن أبي. 10424 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا سفيان، قال: أخبرنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا قال: أربع خلال، وكلهن عذاب، وكلهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة النبي (ص) بخمس وعشرين سنة: ألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض، وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم. القول في تأويل قوله تعالى: انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): انظر يا محمد بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذبين بربهم الجاحدين نعمه وتصريفنا فيهم. لعلهم يفقهون يقول: ليفقهوا ذلك ويعتبروه، فيذكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم من عبادة الاوثان والاصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله (ص). ذكر من قال ذلك تأويل قوله تعالى:
[ 296 ]
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ئ لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون) *. يقول تعالى ذكره: وكذب يا محمد قومك بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد. وهو الحق يقول: والوعيد الذي أوعدناهم على مقامهم على شركهم من بعث العذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو لبسهم شيعا، وإذاقة بعضهم بأس بعض، الحق الذي لا شك فيه أنه واقع، إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به إلى طاعة الله والايمان به. قل لست عليكم بوكيل يقول: قل لهم يا محمد: لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما رسول أبلغكم مما أرسلت به إليكم. لكل نبإ مستقر يقول: لكل خبر مستقر، يعني قرار يستقر عنده ونهاية ينتهي إليها، فيتبين حقه وصدقه من كذبه وباطله. وسوف تعلمون يقول: وسوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم أيها المشركون وحقيته عند حلول عذابه بكم. فرأوا ذلك وعاينوه فقتلهم يومئذ بأوليائه من المؤمنين. وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10425 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وكذب به قومك وهو الحق يقول: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق. وأما الوكيل: فالحفيظ: وأما لكل نبإ مستقر: فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب. 10426 - حدثني المثني قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لكل نبأ مستقر بكل نبأ حقيقة أما في الدنيا وأما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم. 10427 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: لكل نبإ مستقر يقول: حقيقة. 10428 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون يقول: فعل وحقيقة، ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة. وكان الحسن يتأول في ذلك أن الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله (ص).
[ 297 ]
10429 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جعفر بن حيان، عن الحسن أنه قرأ: لكل نبإ مستقر قال: حبست عقوبتها حتى إذا عمل ذنبها أرسلت عقوبتها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وإذا رأيت يا محمد المشركين الذين يخوضون في آياتنا التي أنزلناها إليك، ووحينا الذي أوحيناه إليك، وخوضهم فيها كان استهزاءهم بها وسبهم من أنزلها وتكلم بها وتكذيبهم بها. فأعرض عنهم يقول: فصد عنهم بوجهك، وقم عنهم ولا تجلس معهم، حتى يخوضوا في حديث غيره يقول: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم. وإما ينسينك الشيطان يقول: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والاعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا ثم ذكرت ذلك، فقهم عنهم ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه بما خاضوا به فيه وذلك هو معنى ظلمهم في هذا الموضع. وينحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10430 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. حدثنا محمد بن عبد الاعلى قال ثنا محمد بن ثور قال أخبرنا معمر عن قتادة بنحوه 10431 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير، في قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا قال: الذين يكذبون بآياتنا. 10432 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا
[ 298 ]
أسباط، عن السدي: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي (ص) والقرآن فسبوه واستهزءوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وأما قوله: وإما ينسينك الشيطان يقول: نسيت فتقعد معهم، فإذا ذكرت فقم. 10433 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يخوضون في آياتنا قال: يكذبون بآياتنا. 10434 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن ليث، عن أبي جعفر، قال لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله. 10435 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا، وقوله: الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وقوله: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وقوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. 10436 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا قال: يستهزءون بها. قال: نهى رسول الله (ص) أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم. فذلك قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي (ص) يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا قال: يكذبون.
[ 299 ]
10437 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، قوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره يعني: المشركين. وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين إن نسيت فذكرت فلا تجلس معهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون) *. يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه فأطاعه فيما أمره به واجتنب ما نهاه عنه، فليس عليه بترك الاعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله شئ من تبعه فيما بينه وبين الله، إذا لم يكن تركه الاعراض عنهم رضا بما هم فيه وكان الله بحقوقه متقيا، ولا عليه من إثمهم بذلك حرج، ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ. ذكرى لامر الله. لعلهم يتقون يقول: ليتقوا. ومعنى الذكرى: الذكر، والذكر والذكرى بمعنى وقد يجوز أن يكون ذكرى في موضع نصب ورفع فأما النصب فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكري وأما الرفع فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شئ بترك الاعراض، ولكن إعراضهم ذكرى لامر الله لعلهم يتقون. وقد ذكر أن النبي (ص) إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله، لان قيامه عنهم كان مما يكرهونه، فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم ليتقوا الخوض فيها ويتركوا ذلك. ذكر من قال ذلك: 10438 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عنا بن جريج، قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي (ص) يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... الآية، قال: فجعل إذا استتهزءوا قام فحذروا وقالوا: لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله: لعلهم يتقون أن يخوضوا فيقوم. ونزل: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ إن قعدوا معهم، ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[ 300 ]
إنكم إذا مثلهم، فنسخ قوله: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ... الآية. 10439 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ يقوله: من حساب الكفار من شئ. ولكن ذكرى يقول: إذا ذكرت فقم. لعلهم يتقون مساءتكم إذا رأوكم لا تجالسونهم، استحيوا منكم فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد، فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدا، قال: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها... الآية. 10440 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ إن قعدوا، ولكن لا تقعد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10441 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ذر هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبا ولهوا، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها
[ 301 ]
وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ونسيانهم المعاد إلى الله تعالى والمصير إليه بعد الممات. كالذي: 10442 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله الله: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا قال: كقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقد نسخ الله تعالى هذه الآية بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وكذلك قال عدد من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10443 - حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ثم أنزل في سورة براءة، فأمر بقتالهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، فقال: هكذا سمعته من قتادة: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ثم أنزل الله تعالى ذكره براءة، وأمر بقتالهم، فقال: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وأما قوله: وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت فإنه يعني به: وذكر يا محمد بهذا القرآن هؤلاء المولين عنك وعنه أن تبسل نفس بمعنى: أن لا تبسل، كما قال: يبين الله لكم أن تضلوا بمعنى: أن لا تضلوا. وإنما معنى الكلام: وذكر به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق، فلا تبسل أنفسهم بما كسبت من الاوزار ولكن حذفت لا لدلالة الكلام عليها. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: أن تبسل نفس فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تسلم. ذكر من قال ذلك:
[ 302 ]
10444 - حدثنا حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، قوله: أن تبسل نفس بما كسبت قال: تسلم. 10445 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: أن لا تبسل نفس قال: أن تسلم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، مثله. 10446 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله تعالى ذكره: أن تبسل قال: تسلم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أن تبسل نفس قال: تسلم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أولئك الذين أبسلوا أسلموا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: تحبس. ذكر من قال ذلك: 10447 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن تبسل نفس قال: تؤخذ فتحبس. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 10448 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله: أن تبسل نفس بما كسبت: أن تؤخذ نفس بما كسبت. وقال آخرون: معناه: تفضح. ذكر من قال ذلك: 10449 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت يقول: تفضح. وقال آخرون: معناه: أن تجزى. ذكر من قال ذلك: 10450 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: قال الكلبي: أن تبسل: أن تجزى.
[ 303 ]
وأصل الابسال: التحريم، يقال منه: أبسلت المكان: إذا حرمته فلم تقر به ومنه قوله الشاعر: بكرت تلومك بعد وهن في الندى بسل عليك ملامتي وعتابي أي حرام ومنه قولهم: وعتابي أسد آسد، ويراد به: لا يقربه شئ، فكأنه قد حرم نفسه. ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته، ويقال: أعط الراقي بسيلته، يراد بذلك: أجرته، شراب بسيل: بمعنى متروك، وكذلك المبسل بالجريرة، وهو المرتهن بها، قيل له مبسل لانه محرم من كل شئ إلا مما رهن فيه وأسلم به ومنه قول عوف بن الاحوص الكلابي: وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق وقال الشنفري: هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر فتأويل الكلام إذن: وذكر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين، كيلا تبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله. ليس لها من دون الله يقول: ليس لها حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها أحد ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها، ولا شفيع يشفع لها، لوسيلة له عنده.
[ 304 ]
القول في تأويل قوله تعالى: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها. يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت، يعني وإن تعدل كل عدل يعني: كل فداء، يقال منه: عدل يعدل: إذا فدى، عدلا. ومنه قول الله تعالى ذكره: أو عدل ذلك صياما وهو ما عادله من غير نوعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10451 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها قال: لو جاءت بمل ء الارض ذهبا لم يقبل منها. 10452 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها فما يعدلها، لو جاءت بمل ء الارض ذهبا لتفتدى به ما قبل منها. 10453 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها قال: وأن تعدل: وإن تفتد يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها لا يؤخذ منه عدلا عن نفسه، لا يقبل منه. وقد تأول ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تقسط كل قسط لا يقبل منها وقال إنها التوبة في الحياة. وليس لما قال من ذلك معنى، وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى يقبل توبته. القول في تأويل قوله تعالى: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم، هم الذين أبسلوا بما كسبوا يقول: أسلموا لعذاب الله، فرهنوا به جزاء بما كسبوا في الدنيا من الآثام والاوزار. لهم شراب من حميم والحميم: هو الحار في كلام العرب، وإنما هو محموم صرف إلى فعيل، ومنه قيل للحمام: حمام، لاسخانه الجسم ومنه قول مرقش:
[ 305 ]
في كل ممسى لها مقطرة فيها كباء معد وحميم يعني بذلك ماء حارا ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس: تأبى بدرتها إذا ما استغضبت إلا الحميم فإنه يتبضع يعني بالحميم: عرق الفرس. وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابا من حميم، لان الحار من الماء لا يروي من عطش، فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم، ولكن بما يزيدون به عطشا على ما بهم من العطش، وعذاب أليم يقول: ولهم أيضا مع الشراب الحميم من الله العذاب الاليم والهوان
[ 306 ]
المقيم. بما كانوا يكفرون يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله وإنكارهم توحيده وعبادتهم معه آلهة دونه. 10454 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحميد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا قال: يقول: أسلموا. 10455 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أولئك الذين أبسلوا قال: فضحوا. 10456 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا قال: أخذوا بما كسبوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *. وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه (ص) على حجته على مشركي قومه من عبدة الاوثان، يقول له تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الاوثان والانداد والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الاصنام معهم، أندعو من دون الله حجرا أو خشبا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا، فنخصه بالعبادة دون الله، وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر، فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره. ونرد على أعقابنا يقول: ونرد إلى أدبارنا فنرجع القهقري خلفنا لم نظفر بحاجتنا. وقد بينا معنى الرد على العقب، وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها رد على عقبيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الاسلام إلى الكفر بعد إذ هدانا الله فوفقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى في الارض حيران. وقوله: استهوته: استفعلته، من قول القائل: هوى فلان إلى كذا يهوي إليه، ومن قول الله تعالى ذكره: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم بمعنى: تنزع إليهم وتريدهم. وأما حيران: فإنه فعلان من قول القائل: قد حار فلان في
[ 307 ]
الطريق فهو يحار فيه حيرة وحيرانا وحيرورة، وذلك إذا ضل فلم يهتد للمحجة له أصحاب يدعونه إلى الهدى، يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الارض أصحاب على المحجة واستقامة السبيل، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه، يقولون له: ائتنا وترك إجراء حيران، لان فعلان، وكل اسم كان على فعلان مما أنثاه فعلى فإنه لا يجرى في كلام العرب في معرفة ولا نكرة. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن كفر بالله بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه المقيمون على الدين الحق يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له: ائتنا، فكن معنا على استقامة وهدى وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان ويعبد الآلهة والاوثان. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل، وخالف في ذلك جماعة. ذكر من قال ذلك: مثل ما قلنا 10457 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى ذكره: قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا هذه الآلهة ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الارض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الايمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الارض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الاسلام. 10458 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق، إذ ناداه مناد: يا فلان ابن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه: يا فلان هلم إلى الطريق فإن اتبع الداعي الاول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق، وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان،
[ 308 ]
يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شئ حتى يأتيه الموت فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله: كالذي استهوته الشياطين في الارض: وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده، فيتبعها فيرى أنه في شئ فيصبح وقد ألقته في الهلكة وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الارض يهلك فيها عطشا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عزوجل. 10459 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: استهوته الشياطين في الارض قال: أضلته في الارض حيران. 10460 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ما لا ينفعنا ولا يضرنا قال: الاوثان. 10461 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: استهوته الشياطين في الارض حيران قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق، كذلك مثل من يضل بعد إذ هدى. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: ثنا رجل، عن مجاهد، قال: حيران هذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب. 10462 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا حتى بلغ: لنسلم لرب العالمين علمها الله محمدا وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. وقال آخرون في تأويل ذلك، بما: 10463 - حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الارض بالمعصية وحار عن الحق وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه هدى، يقول الله ذلك لاوليائهم من الانس: إن الهدى هدى الله، والضلالة ما تدعو إليه الجن.
[ 309 ]
فكأن ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال ويزعمون أن ذلك هدى، وأن الله أكذبهم بقوله: قل إن هدى الله هو الهدى لا ما يدعوه إليه أصحابه. وهذا تأويل له وجه لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيران إليه أصحاب هدى، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه، أنهم هم الذين سموه، ولكن الله سماه هدى، وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله الضلال هدى لان ذلك كذب، وغير جائز وصف الله بالكذب لان ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب لو كان ذلك خبرا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: تعال إلى الهدى فأما وهو قائل: يدعونه إلى الهدى، فغير جائز أن يكون ذلك وهم كانوا يدعونه إلى الضلال. وأما قوله: ائتنا فإن معناه: يقولون: ائتنا هلم إلينا فحذف القول لدلالة الكلام عليه. وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: يدعونه إلى الهدى بينا. 10464 - حدثنا بذلك ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: قراءة عبد الله: يدعونه إلى الهدى بينا. 10465 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: في قراءة ابن مسعود: له أصحاب يدعونه إلى الهدى بينا. قال: الهدى: الطريق، أنه بين. وإذا قرئ ذلك كذلك، كان البين من صفة الهدى، ويكون نصب البين على القطع من الهدى، كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين، ثم نصب البين لما حذفت الالف واللام، وصار نكرة من صفة المعرفة. وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: الهدى في هذا الموضع: هو الهدى، على الحقيقة. القول في تأويل قوله تعالى: قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الاوثان القائلين لاصحابك: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فإنا على هدى: ليس الامر كما زعمتم إن هدى الله هو الهدى يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه وسبيلنا الذي أمرنا
[ 310 ]
بلزومه ودينه الذي شرعه لنا فبينه، هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها، لا عبادة الاوثان والاصنام التي لا تضر ولا تنفع، فلا نترك الحق ونتبع الباطل. وأمرنا لنسلم لرب العالمين يقول: وأمرنا ربنا ورب كل شئ، تعالى وجهه، لنسلم له: لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الانداد والآلهة. وقد بينا معنى الاسلام بشواهده فيما مضى من كتابنا بما أغنى عن إعادته، وقيل: وأمرنا لنسلم بمعنى: وأمرنا كي نسلم، وأن نسلم لرب العالمين، لان العرب تضع كي واللام التي بمعنى كي مكان أو أن مكانها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون) *. يقول تعالى ذكره: وأمرنا أن أقيموا الصلاة. وإنما قيل: وأن أقيموا الصلاة فعطف ب أن على اللام من لنسلم لان قوله: لنسلم، معناه: أن نسلم، فرد قوله: وأن أقيموا على معنى: لنسلم، إذ كانت اللام التي في قوله: لنسلم، لاما لا تصحب إلا المستقبل من الافعال، وكانت أن من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة اللام التي في لنسلم، فعطف بها عليها لاتفاق معنييهما فيما ذكرت ف أن في موضع نصب بالرد على اللام. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك: أمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة، يقول: أمرنا كي نسلم، كما قال: وأمرت أن أكون من المؤمنين: أي إنما أمرت بذلك، ثم قال: وأن أقيموا الصلاة واتقوه: أي أمرنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام، والمعنى: أمرت أن أكون، كما أوصل الفعل باللام في قوله: هم لربهم يرهبون. فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة، وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا. واتقوه يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له، فخافوه واحذروا سخطه بأداء الصلاة المفروضة عليكم والاذعان له بالطاعة وإخلاص العبادة له. وهو الذي إليه تحشرون يقول: وربكم رب العالمين هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة، فيجازي كل عامل منكم بعمله، وتوفى كل نفس ما كسبت. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 311 ]
* (وهو الذي خلق السماوات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الانداد، الداعيك إلى عبادة الاوثان: أمرنا لنسلم لرب العالمين الذي خلق السموات بالحق، لا من لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: بالحق فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي خلق السموات والارض حقا وصوابا، لا باطلا وخطأ، كما قال تعالى ذكره: وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا قالوا: وأدخلت فيه الباء والالف واللام، كما تفعل العرب في نظائر ذلك، فتقول: فلان يقول بالحق، بمعنى أنه يقول الحق. قالوا: ولا شئ في قوله بالحق غير إصابته الصواب فيه، لا أن الحق معنى غير القول، وإنما هو صفة للقول إذا كان بها القول كان القائل موصوفا بالقول بالحق وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السموات والارض حكمة من حكم الله، فالله موصوف بالحكمة خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه، لا أن ذلك حق سوى خلقهما به. وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السموات والارض بكلامه وقوله لهما: ائتيا طوعا أو كرها. قالوا: فالحق في هذا الموضع معنى به كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: ويوم يقول كن فيكون قوله الحق الحق هو قوله وكلامه. قالوا: والله خلق الاشياء بكلامه وقيله كما خلق به الاشياء غير المخلوقة. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غير مخلوق. وأما قوله: ويوم يقول كن فيكون فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في يوم يقول وفي معنى ذلك فقال بعض نحويي البصرة: اليوم مضاف إلى يقول كن فيكون، قال: وهو نصب وليس له خبر ظاهر، والله أعلم، وهو على ما فسرت لك. كأنه
[ 312 ]
يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون قال: وكذلك: يوم ينفخ في الصور، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة. وقال بعضهم: يقول كن فيكون، للصور خاصة. فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون قوله الحق، يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون القول حينئذ مرفوعا ب الحق، والحق بالقول. وقوله: يوم يقول كن فيكون ويوم ينفخ في الصور صلة الحق. وقال آخرون: بل قوله: كن فيكون معني به كل ما كان الله معيده في الآخرة بعد إفنائه ومنشئه بعد إعدامه. فالكلام على مذهب هؤلاء متناه عند قوله: كن فيكون وقوله: قوله الحق خبر مبتدأ. وتأويله: وهو الذي خلق السموات والارض بالحق، ويوم يقول للاشياء: كن فيكون، خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقه أنه معيد هما بعد فنائهما عن أنه حق، فقال: قوله هذا الحق الذي لا شك فيه، وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور، فيوم ينفخ في الصور يكون على هذا التأويل من صلة الملك. وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: يوم ينفخ في الصور من صلة الحق. وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: كن فيكون قوله الحق، فجعل القول مرفوعا بقوله: ويوم يقول كن فيكون وجعل قوله: كن فيكون للقول محلا، وقوله: يوم ينفخ في الصور من صلة الحق. كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل: يوم ينفخ في الصور، بيانا عن اليوم الاول، كان وجها صحيحا، ولو جعل قوله: قوله الحق مرفوعا بقوله: يوم ينفخ في الصور وقوله: يوم ينفخ في الصور محلا وقوله: ويوم يقول كن فيكون من صلته كان جائزا. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه المنفرد بخلق السموات والارض دون كل ما سواه، معرفا من أشرك به من خلقه جهله في عبادة الاوثان والاصنام وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه ولا دفع ضر عنها، ومحتجا عليهم في إنكارهم البعث بعد الممات والثواب والعقاب بقدرته على ابتداع ذلك ابتداء، وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه
[ 313 ]
إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه، فقال: وهو الذي خلق أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شئ، السموات والارض بالحق، حجة على خلقه، ليعرفوا بها صانعها وليستدلوا بها على عظيم قدرته وسلطانه، فيخلصوا له العبادة. ويوم يقول كن فيكون يقول: ويوم يقول حين تبدل الارض غير الارض والسموات كذلك: كن فيكون، كما شاء تعالى ذكره، فتكون الارض غير الارض عند قوله كن، فيكون متناهيا. وإذا كان كذلك معناه وجب أن يكون في الكلام محذوف يدل عليه الظاهر، ويكون معنى الكلام: ويوم يقول لذلك كن فيكون تبدل غير السموات والارض، ويدل على ذلك قوله: وهو الذي خلق السموات والارض بالحق ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: قوله الحق بمعنى: وعده هذا الذي وعد تعالى ذكره من تبديله السموات والارض غير الارض والسموات، الحق الذي لا شك فيه، وله الملك يوم ينفخ في الصور فيكون قوله: يوم ينفخ في الصور من صلة الملك، ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ لان النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السموات والارض وغيرهما. وجائز أن يكون القول، أعني قوله: الحق مرفوعا بقوله: ويوم يقول كن فيكون، ويكون قوله: كن فيكون محلا للقول مرافعا. فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السموات والارض بالحق، ويوم يبدلها غير السموات والارض فيقول لذلك كن فيكون قوله الحق. وأما قوله: وله الملك يوم ينفخ في الصور فإنه خص بالخبر عن ملكه يومئذ، وإن كان الملك له خالصا في كل وقت في الدنيا والآخرة لانه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدعي له، وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة فأذعن جميعهم يومئذ له به، وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل. واختلف في معنى الصور في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيا على الارض، والثانية لنشر كل ميت. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: ونفخ في الصور فصعق ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وبالخبر الذي روى عن رسول الله (ص) أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن ينفخ فيه. وقال آخرون: الصور في هذا الموضع:
[ 314 ]
جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيا، كقولهم سور لسور المدينة، وهو جمع سورة، كما قال جرير: (سور المدينة والجبال الخشع) والعرب تقول: نفخ في الصور، ونفخ الصور. ومن قولهم: نفخ الصور، قول الشاعر: لولا ابن جعدة لم تفتح قهندزكم ولا خراسان حتى ينفخ الصور والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الاخبار عن رسول الله (ص)، أنه قال: إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ وأنه قال: الصور قرن ينفخ فيه. وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة يعني: أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور. 10466 - حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: عالم الغيب والشهادة يعني: أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور. فكأن ابن عباس تأول في ذلك أن قوله: عالم الغيب والشهادة اسم الفاعل الذي لم يسم في قوله: يوم ينفخ في الصور وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور عالم الغيب والشهادة، كما تقول العرب: أكل طعامك عبد الله، فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجها غير مدفوع، فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: عالم الغيب والشهادة مرفوعا على أنه نعت ل الذي في قوله: وهو الذي
[ 315 ]
خلق السموات والارض بالحق. وروي عنه أيضا أنه كان يقول: الصور في هذا الموضع: النفخة الاولى. 10467 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة يعني بالصور: النفخة الاولى، ألم تسمع أنه يقول: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى يعني الثانية، فإذا هم قيام ينظرون. ويعني بقوله: عالم الغيب والشهادة عالم ما تعاينون أيها الناس، فتشاهدونه، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه، وهو الحكيم في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم، ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود، ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب، خبير بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسئ، حافظ ذلك عليهم، ليحازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا أيها العادلون بربكم عقابه، فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعلمون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاج به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان، والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما نت عليهم محتج، حجاج إبراهيم خليلي قومه، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الاوثان، وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الاصنام فاتخذه إماما واقتد به، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا، إذ قال لابيه مفارقا لدينه وعائبا عبادته الاصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر. ثم اختلف أهل العلم في المعني بآزر، وما هو ؟ اسم أم صفة ؟ وإن كان اسما، فمن المسمى به ؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه. ذكر من قال ذلك:
[ 316 ]
10468 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ قال إبراهيم لابيه آزر قال: اسم أبيه آزر. 10469 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: آزر: أبو إبراهيم. وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسواد، سواد الكوفة. 10470 - حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر، قال: هو آزر، وهو تارح، مثل إسرائيل ويعقوب. وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم. ذكر من قال ذلك: 10471 - حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: ليس آزر أبا إبراهيم. حدثني الحرث، قال: ثني عبد العزيز، قال: ثنا الثوري، قال: أخبرني رجل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: وإذ قال إبراهيم لابيه آزر قال: آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: آزر: اسم صنم. 10472 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: وإذ قال إبراهيم لابيه آزر قال: اسم أبيه. ويقال: لا، بل اسمه تارح، واسم الصنم آزر يقول: أتتخذ آزر أصناما آلهة. وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم، ومعناه: معوج. كأنه تأول أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحق. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: وإذ قال إبراهيم لابيه آزر بفتح آزر على إتباعه الاب في الخفض، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجروه وإن كان في موضع خفض. وذكر عن أبي يزيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: آزر، بالرفع على النداء، بمعنى: يا آزر. فأما الذي ذكر عن السدي من حكايته أن آزر اسم صنم، وإنما نصبه بمعنى: أتتخذ آزر أصناما آلهة، فقول من الصواب
[ 317 ]
من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام، لا تقول: أخاك أكلمت، وهي تريد: أكلمت أخاك. والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ بفتح الراء من آزر، على إتباعه إعراب الاب، وأنه في موضع خفض، ففتح إذ لم يكن جاريا لانه اسم عجمي. وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لاجماع الحجة من القراء عليه. وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام، صح لك فتحه من أحد وجهين: إما أن يكون اسما لابي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله، فيكون في موضع خفض ردا على الاب، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميا ترك إجراؤه، ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم. أو يكون نعتا له، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه، ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لابيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة ؟ وإن لم يكن له وجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين، فأولى القولين بالصواب منهما عندي، قول من قال: هو اسم أبيه لان الله تعالى أخبر أنه أبوه. وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الآخر الذي زعم قائله أنه نعت. فإن قال قائل: فإن أهل الانساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح، فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح ؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم. وجائز أن يكون لقبا، والله تعالى أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لابيه آزر أنه قال: أتتخذ أصناما آلهة تعبدها وتتخذها ربا دون الله الذي خلقك فسواك ورزقك والاصنام: جمع صنم، التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان، وهو الوثن. وقد يقال للصورة المصورة على صورة الانسان في الحائط غيره: صنم ووثن. إني أراك وقومك في ضلال مبين يقول: إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الاصنام ويتخذونها آلهة في ضلال يقول: في زوال عن محجة الحق، وعدول عن سبيل الصواب مبين يقول: يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك:
[ 318 ]
أنه قد ضل هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم، دون غيره من الآلهة والاوثان. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: وكذلك: وكما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف ما كانوا عليه من الضلال، نريه ملكوت السموات والارض، يعني ملكه وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت من الجبر، وكما قيل: رهبوت خير من رحموت، بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعا: له ملكوت اليمن والعراق، بمعنى: له ملك ذلك. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: نري إبراهيم ملكوت السموات والارض فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلق السموات والارض. ذكر من قال ذلك: 10473 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: نري إبراهيم ملكوت السموات والارض: أي خلق السموات والارض. 10474 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض: أي خلق السموات والارض، وليكون من الموقنين. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض يعني بملكوت السموات والارض: خلق السموات والارض. وقال آخرون: معنى الملكوت: الملك بنحو التأويل الذي أولناه. ذكر من قال ذلك: 10475 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عمر بن أبي زائدة، قال: سمعت عكرمة، وسأله رجل عن قوله: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: هو الملك، غير أنه بكلام النبط ملكوتا. 10476 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي زائدة، عن عكرمة، قال: هي بالنبطية: ملكوتا.
[ 319 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السموات والارض. ذكر من قال ذلك: 10477 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: آيات السموات والارض. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: آيات. 10478 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: تفرجت لابراهيم السموات السبع. حتى العرش، فنظر فيهن. وتفرجت له الارضون السبع، فنظر فيهن. 10479 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: وكذلك نرى ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين قال: أقيم على صخرة، وفتحت له السموات، فنظر إلى ملك الله فيها حتى نظر إلى مكانه في الجنة وفتحت له الارضون حتى نظر إلى أسفل الارض، فذلك قوله: وآتيناه أجره في الدنيا يقول: آتيناه مكانه في الجنة. ويقال: أجره: الثناء الحسن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، قوله: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الارضون السبع فنظر ما فيهن. 10480 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: كشف له عن أديم السموات والارض حتى نظر إليهن على صخرة، والصخرة على حوت، والحوت على خاتم رب العزة لا إله إلا الله. 10481 - حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والارض، رأى عبدا على
[ 320 ]
فاحشة، فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه فهلك، فقال: أنزلوا عبدي لا يهلك عبادي 10482 - حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السموات، أشرف فرأى عبدا يزني، فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزني، فدعا عليه فهلك ثم رفع فأشرف فرأى عبدا يزني، فدعا عليه، فنودي: على رسلك يا إبراهيم فإنك عبد مستجاب لك وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه 10483 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي وحمد بن جعفر، وعبد الوهاب، عن عوف، عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرحمن حدث نفسه أنه أرحم الخلق، وأن الله رفعه حتى أشرف على أهل الارض، فأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي، قال: اللهم دمر عليهم فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، اهبط فلعلهم أن يتوبوا إلي ويرجعوا وقال آخرون: بل معنى ذلك ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس. ذكر من قال ذلك: 10484 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: الشمس والقمر والنجوم. 10485 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض قال: الشمس والقمر. 10486 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض يعني به: نريه الشمس والقمر والنجوم. 10487 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: خبئ إبراهيم عليه السلام من جبار من الجبابرة، فجعل له رزقه في أصابعه، فإذا مص أصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا. فلما خرج أراه الله ملكوت السموات والارض فكان ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الارض: الجبال والشجر والبحار.
[ 321 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن نبي الله إبراهيم عليه السلام فر به من جبار مترف، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطرافه، فجعل لا يمص أصبعا من أصابعه إلا وجد فيها رزقا فلما خرج من ذلك السرب أراه الله ملكوت السموات، فأراه شمسا وقمرا ونجوما وسحابا وخلقا عظيما وأراه ملكوت الارض، فأراه جبالا وبحورا وأنهارا وشجرا ومن كل الدواب، وخلقا عظيما. وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عنى الله تعالى بقوله: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض أنه أراه ملك السموات والارض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلى له بواطن الامور وظواهرها لما ذكرنا قبل من معنى الملكوت في كلام العرب فيما مضى قبل. وأما قوله: وليكون من الموقنين فإنه يعني: أنه أراه ملكوت السموات والارض ليكون ممن يتوحد بتوحيد الله، ويعلم حقية ما هداه له وبصره إياه من معرفة وحدانيته وما عليه قومه من الضلالة من عبادتهم واتخاذهم آله دون الله تعالى. وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك، ما: 10488 - حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وليكون من الموقنين أنه جلى له الامر سره وعلانيته، فلم يخف عليه شئ من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله: إنك لا تستطيع هذا، فرده الله كما كان قبل ذلك. فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السموات والارض، ليكون ممن يوقن علم كل شئ حسا لا خبرا. 10489 - حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا أبو جابر، قال: وحدثنا الاوزاعي أيضا قال: ثني خالد بن الحلاج، قال: سمعت عبد الرحمن بن عياش يقول: صلى بنا رسول الله (ص) ذات غداة، فقال له قائل: ما رأيت أسعد منك الغداة
[ 322 ]
قال: ومالي وقد أتاني ربي في أحسن صورة، فقال: ففيم يختصم الملا الاعلى يا محمد ؟ قلت: أنت أعلم فوضع يده بين كتفي، فعلمت ما في السموات والارض. ثم تلا هذه الآية: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لا أحب الآفلين) *. يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وجنة، يقال منه: جن عليه الليل، وجنه الليل، وأجنه، وأجن عليه، وإذا ألقيت على كان الكلام بالالف أفصح منه بغير الالف، أجنه الليل أفصح من أجن عليه، وجن عليه الليل أفصح من جنه، وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. وجنه الليل في أسد وأجنه وجنه في تميم، والمصدر من جن عليه جنا وجنونا وجنانا، ومن أجن إجنانا، ويقال: أتى فلان في جن الليل، والجن من ذلك، لانهم استجنوا عن أعين بني آدم فلا يرون وكل ما توارى عن أبصار الناس فإن العرب تقول فيه: قد جن ومنه قول الهذلي: وماء وردت قبيل الكرى وقد جنه السدف الادهم وقال عبيد: وخرق تصيح البوم فيه مع الصدى مخوف إذا ما جنه الليل مرهوب ومنه: أجننت الميت: إذا واريته في اللحد، وجننته. وهو نظير جنون الليل في معنى: غطيته. ومنه قيل للترس: مجن، لانه يجن من استجن به فيغطيه ويواريه.
[ 323 ]
وقوله: رأى كوكبا يقول: أبصر كوكبا حين طلع قال هذا ربي. فروي عن ابن عباس في ذلك، ما: 10490 - حدثني به المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين يعني به: الشمس والقمر والنجوم. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، هذا أكبر فعبدها حتى غابت فلما غابت قال: يا قوم إني برئ مما تشركون. 10491 - حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين علم أن ربه دائم لا يزول فقرأ حتى بلغ: هذا ربي هذا أكبر رأى خلقا هو أكبر من الخلقين الاولين وأنور. وكان سبب قيل إبراهيم ذلك، ما: 10492 - حدثني به محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، فيما ذكر لنا والله أعلم: أن آزر كان رجلا من أهل كوثى من قرية بالسواد سواد الكوفة، وكان إذ ذاك ملك المشرق لنمرود بن كنعان فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على قومه ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبي إلا هود وصالح فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا. فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت امرأة حدثة فيما يذكر لم يعرف الحبل في بطنها. ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أراد أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة حذرا على ملكه، فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا
[ 324 ]
منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يصنع مع المولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها. ثم كانت تطالعه في المغارة، فتنظر ما فعل، فتجده حيا يمص إبهامه، يزعمون والله أعلم أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه. وكان آزر فيما يزعمون، سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت: ولدت غلاما فمات. فصدقها، فسكت عنها. وكان اليوم فيما يذكرون على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة، فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا، حتى قال لامه: أخرجيني أنظر فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والارض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكبا، قال: هذا ربي ثم أتبعه ينظر إليه ببصره، حتى غاب، فلما أفل: لا أحب الآفلين ثم طلع القمر فرآه بازغا، قال: هذا ربي ثم أتبعه بصره حتى غاب، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس، أعظم الشمس، ورأى شيئا هو أعظم نورا من كل شئ رآه قبل ذلك، فقال: هذا ربي، هذا أكبر فلما أفلت قال: يا قوم إني برئ مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين. ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا. وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم فيما يذكرون، فيقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه ؟ فلا يشتريها منه أحد، وإذا بارت عليه، وذهب بها إلى نهر فضرب فيه رؤوسها، وقال: اشربي استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته، من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك. وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس، وعمن روي عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: هذا ربي وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الاوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الاوقات وهو به كافر لم يجز أن يختصه بالرسالة، لانه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبر الله عن قيل
[ 325 ]
إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: هذا ربي، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه وإنما قال ذلك على وجه الانكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الاصنام، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأ وأحسن وأبهج من الاصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلة زائلة غير دائمة، والاصنام التي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم، أحق أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم معارضة، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضا له في قول باطل قال به بباطل من القول على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدعي فساد الآخر. وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفوليته وقبل قيام الحجة عليه، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. وقال آخرون منهم: وإنما معنى الكلام: أهذا ربي على وجه الانكار والتوبيخ أي ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك، فتحذف الالف التي تدل على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم يعني: أهم هم ؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس: لعمرك ما أدري وإن كنت دار يا شعيث بن سهم أم شعيث ابن منقر
[ 326 ]
بمعنى: أشعيث بن سهم ؟ فحذف الاولف. ونظائر ذلك. وأما تذكير هذا في قوله: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي فإنما هو على معنى: هذا الشئ الطالع ربي. وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لئن لم يهدني ربي لا كونن من القوم الضالين الدليل على خطأ هذه الاقوال التي قالها هؤلاء القوم. وأن الصواب من القول في ذلك: الاقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر وأما قوله فلما أفل فإن معناه: فلما غاب وذهب. به عنه والاعراض عما عداه كما: 10493 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: قال ابن إسحاق: الافول: الذهاب، يقال منه: أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا: إذا غاب ومنه قول ذي الرمة. مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك ويقال: أين أفلت عنا ؟ بمعنى: أين غبت عنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين) *. يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعا وهو بزوغه، يقال منه: بزغت الشمس تبزغ بزوغا إذا طلعت، وكذلك القمر. قال هذا ربي فلما أفل يقول: فلما غاب، قال إبراهيم: لئن لم يهدني ربي ويوفقني لاصابة الحق في توحيده لاكونن من القوم الضالين: أي من القوم الذين أخطئوا الحق في ذلك، فلم يصيبوا الهدى، وعبدوا غير الله. وقد بينا معنى الضلال في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 327 ]
* (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلمآ أفلت قال يقوم إني برئ مما تشركون) *. يعني تعالى ذكره (بقوله): فلما رأى الشمس بازغة فلما رأى إبراهيم الشمس طالعة، قال هذا الطالع ربي هذا أكبر يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر، فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه. فلما أفلت يقول: فلما غابت، قال إبراهيم لقومه: يا قوم إني برئ مما تشركون: أي من عبادة الآلهة والاصنام ودعائه إلها مع الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه لما تبين له الحق وعرفه، شهد شهادة الحق، وأظهر خلاف قومه أهل الباطل وأهل الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولم يستوحش من قيل الحق والثبات عليه، مع خلاف جميع قومه لقوله وإنكارهم إياه عليه، وقال لهم: يا قوم إني برئ مما تشركون مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم، إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السموات والارض، الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت، لا إلى الذي يفنى ولا يبقى ويزول ولا يدوم ولا يضر ولا ينفع. ثم أخبرهم تعالى ذكره أن توجيهه وجهه لعبادته بإخلاص العبادة له والاستقامة في ذلك لربه على ما يجب من التوحيد، لا على الوجه الذي يوجه له وجهه من ليس بحنيف، ولكنه به مشرك، إذ كان توجيه الوجه لا على التحنيف غير نافع موجهه بل ضاره ومهلكه. وما أنا من المشركين يقول: ولست منكم أي لست ممن يدين دينكم ويتبع ملتكم أيها المشركون. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول. 10494 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لابراهيم: تركت عبادة هذه ؟ فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات
[ 328 ]
والارض فقالوا: ما جئت بشئ ونحن نعبده ونتوجهه، فقال: لا حنيفا قال: مخلصا، لا أشركه كما تشركون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وحآجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشآء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون) *. يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الاصنام وكان جدالهم إياه قولهم: إن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: أتحاجوني في الله يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة، وقد هدان يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته، وبصرني طريق الحق حتى ألفت أن لا شئ يستحق أن يعبد سواه. ولا أخاف ما تشركون به يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئا ينالني في نفسي من سوء ومكروه وذلك أنهم قالوا له: إنا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل، لذكرك إياها بسوء فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالني بضر ولا مكروه، لانها لا تنفع ولا تضر إلا أن يشاء ربي شيئا يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والارض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاء أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك نالني به، لانه القادر على ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول: 10495 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان قال: دعا قومه مع الله آلهة، وخوفوه بآلهتهم أن يصيبه منها خبل، فقال إبراهيم: أتحاجوني في الله وقد هدان قال: قد عرفت ربي، لا أخاف ما تشركون به. وسع ربي كل شئ علما يقول: وعلم ربي كل شئ فلا يخفى عليه شئ، لانه خالق كل شئ، وليس كالآلهة التي لا تضر ولا تنفع ولا تفهم شيئا، وإنما هي خشبة منحوتة وصورة ممثلة. أفلا تتذكرون يقول: أفلا تعتبرون أيها الجهلة فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكم صورة مصورة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضر ولا على
[ 329 ]
نفع ولا تفقه شيئا ولا تعقله، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كل شئ، وبيده الخير وله القدرة على كل شئ والعالم بكل شئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكيف أخاف مآ أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون) *. وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسه لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه، فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربكم فعبدتموه من دونه وهو لا يضر ولا ينفع ولو كانت تنفع أو تضر لدفعت عن أنفسها كسري إياها وضربي لها بالفأس، وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه ما لم ينزل به عليكم سلطانا يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حجة، ولم يضع لكم عليه برهانا، ولم يجعل لكم به عذرا. فأي الفريقين أحق بالامن يقول: أنا أحق بالامن من عاقبة عبادتي ربي مخلصا له العبادة حنيفا له ديني بريئا من عبادة الاوثان والاصنام، أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصناما لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانا ولا حجة ؟ إن كنتم تعلمون يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول وحقيقة ما أحتج به عليكم، فقولوا وأخبروني أي الفريقين أحق بالامن. وبنحو الذي قلنا في ذلك، كان محمد بن إسحاق يقول فيما: 10496 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، في قوله: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله يقول: كيف أخاف وثنا تعبدون من دون الله لا يضر ولا ينفع، ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع، وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع. فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون: أي بالامن من عذاب الله في الدنيا والآخرة الذي يعبد، الذي بيده الضر والنفع ؟ أم الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع ؟ يضرب لهم الامثال، ويصرف لهم العبر، ليعلموا أن الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبدون من دونه. 10497 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: أفلج الله إبراهيم عليه السلام حين خاصمهم، فقال: وكيف
[ 330 ]
أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون. ثم قال: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه. 10498 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قول إبراهيم حين سألهم: أي الفريقين أحق بالامن هي حجة إبراهيم عليه السلام. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى عن إبراهيم حين سألهم: فأي الفريقين أحق بالامن قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام. 10499 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون أمن يعبد ربا واحدا، أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد. 10500 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون أمن خاف غير الله ولم يخفه ؟ أم من خاف الله ولم يخف غيره ؟ فقال الله تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) *. اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول، أعني: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم... الآية. فقال بعضهم: هذا فصل القضاء من الله بين إبراهيم خليله عليه السلام وبين من حاجه من قومه من أهل الشرك بالله، إذ قال لهم إبراهيم: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون ؟ فقال الله تعالى فاصلا بينه وبينهم: الذين صدقوا الله، وأخلصوا له العبادة، ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم، يعني: بشرك، ولم يشركوا في عبادته شيئا، ثم جعلوا عبادتهم لله خالصا أحق بالامن من عقابه مكروه عبادته من الذين يشركون في عبادتهم إياه الاوثان والاصنام، فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أما في عاجل الدنيا فإنهم وجلون من حلول سخط الله بهم، وأما في الآخرة فإنهم الموقنون بأليم عذاب الله. ذكر من قال ذلك:
[ 331 ]
10501 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا أحمد بن إسحاق، قال: يقول الله تعالى ذكره: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم (ص) لعبادة الله وتوحيده. ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك، أولئك لهم الامن وهم مهتدون الامن من العذاب والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة يقول الله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم. 10502 - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال بن زيد، في قوله: فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون قال: فقال الله وقضى بينهم: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك، قال: أولئك لهم الامن وهم مهتدون فأما الذنوب فليس يبرى منها أحد. وقال آخرون: هذا جواب من قوم إبراهيم (ص) لابراهيم حين قال لهم: أي الفريقين أحق بالامن ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحدوه أحق بالامن إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم. ذكر من قال ذلك: 10503 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون أمن يعبد ربا واحدا أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ يقول قومه: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم بعبادة الاوثان، وهي حجة إبراهيم أولئك لهم الامن وهم مهتدون. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هذا خبر من الله تعالى عن أولى الفريقين بالامن، وفصل قضاء منه بين إبراهيم (ص) وبين قومه، وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الاوثان ويشركونها في عبادة الله، لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد، ولكنه كما ذكرت من تأويله بدءا. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فقال بعضهم: بشرك. ذكر من قال ذلك: 10504 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
[ 332 ]
شق ذلك على أصحاب رسول الله (ص)، قال: فقال رسول الله (ص): ألا ترون إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم ؟. قال أبو كريب، قال ابن إدريس: حدثنيه أولا أبي عن أبان بن تغلب عن الاعمش، ثم سمعته قيل له: من الاعمش ؟ قال: نعم. حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال: ثني عمي يحيى بن عيسى، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه، فقال رسول الله (ص) ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه: إن الشرك لظلم عظيم ؟. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله (ص)، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ قال: فقال رسول الله (ص): ليس كما تظنون، وإنما هو كما قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على الناس، فقالوا يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال: إنه ليس كما تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك. 10505 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، في قوله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. 10506 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك.
[ 333 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله (ص)، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال النبي (ص): ليس بذلك، ألم تسمعوا قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم ؟. 10507 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير وابن إدريس، عن الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الاسود بن هلال، عن أبي بكر الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. 10508 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سعيد بن عبيد الطائي، عن أبي الاشعر العبدي، عن أبيه، أن زيد بن صوحان سأل سلمان، فقال: يا أبا عبد الله آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ؟ فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى. فقال زيد: ما يسرني بها أني لم أسمعها منك وأن لي مثل كل شئ أمسيت أملكه. 10509 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سعيد بن عبيد، عن أبي الاشعر، عن أبيه، عن سلمان، قال: بشرك. 10510 - حدثنا ابن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا نسير بن ذعلوق، عن درسب، عن حذيفة، في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن رجل، عن عيسى، عن حذيفة في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك.
[ 334 ]
10511 - حدثني المثنى، قال: ثنا عارم أبو النعمان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير وغيره، أن ابن عباس كان يقول: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يقول: بكفر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن بن عباس: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك، وقال إن الشرك لظلم عظيم. 10512 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثني أبي، بن قال: ثنا جرير بن حازم، عن علي بن زيد، عن المسيب: أن عمر بن الخطاب قرأ: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فلما قرأها فزع، فأتى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر قرأت من آية من كتاب الله من يسلم ؟ فقال: ما هي ؟ فقرأ عليه فأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال: غفر الله لك، أما سمعت الله تعالى يقوله: إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك. 10513 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن عمر دخل منزله، فقرأ في المصحف فمر بهذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فأتى أبيا فأخبره، فقال: يا أمير المؤمنين إنما هو الشرك. 10514 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران عن مهران: أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ألئك لهم الامن وهم مهتدون فاشتغل وأخذ رداءه، ثم أتى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وقد ترى أنا
[ 335 ]
نظلم ونفعل ونفعل ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذاك، يقول الله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم إنما ذلك الشرك. 10515 - حدثنا هناد، قال: ثنا بن فضيل، عن مطرف، عن أبي عثمان عمرو بن سالم، قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم فقال أبي: يا أمير المؤمنين: ذاك الشرك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أسباط، عن محمد بن مطرف، عن بن سالم، قال: عمر بن الخطاب فذكر نحوه. 10516 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله. 10517 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين، عن علي، عن زائدة، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. 10518 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي بشرك. حدثنا بن وكيع، قال: ثنا حميد، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله. 10519 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بعبادة الاوثان. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10520 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك.
[ 336 ]
10521 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: بشرك. حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الاعمش، أن بن مسعود قال لما نزلت: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم كبر ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه فقال النبي (ص): أما سمعتم قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: عبادة الاوثان. 10522 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن مسعر، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك. 10523 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال بشرك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشئ من معاني الظلم. وذلك فعل ما نهى الله عن فعله أو ترك ما أمر الله بفعله وقالوا: الآية على العموم، لان الله لم يخص به معنى من معاني الظلم. قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمن في الآخرة إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة، وإلا لمن لقي الله ولا ذنب له ؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصا من خلقه دون الجميع منهم والذي عنى بها وأراده بها خليله إبراهيم (ص)، فأما غيره فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرا، فإن شاء لم يؤمنه من عذابه، وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه. قالوا: وذلك قول جماعة من السلف وإن كانوا مختلفين في المعنى بالآية، فقال بعضهم: عنى بها إبراهيم. وقال بعضهم: عنى بها المهاجرين من أصحاب رسول الله (ص). ذكر من قال: عنى بهذه الآية: إبراهيم خليل الرحمن (ص): 10524 - حدثنا بن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن، عن
[ 337 ]
قيس بن الربيع، عن زياد بن علاقة، عن زياد بن حرملة، عن علي، قال: هذه الآية لابراهيم (ص) خاصة، ليس لهذه الامة منها شئ. و ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة: 10525 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن، عن قيس بن الربيع، عن سماك، عن عكرمة: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: هي لمن هاجر إلى المدينة. وأولى القولين بالصحة في ذلك، ما صح في ذلك، ما صح به الخبر عن رسول الله (ص)، وهو الخبر الذي رواه بن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى في هذا الموضع هو الشرك. وأما قوله: أولئك لهم الامن وهم مهتدون فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، لهم الامن يوم القيامة من عذاب الله، وهم مهتدون يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد والسالكون طريق النجاة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتلك حجتنا آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) *. يعني تعالى ذكره بقوله: وتلك حجتنا قوله إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: أي الفريقين أحق بالامن، أمن يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ وإجابتهم إياه بقولهم: بل من يعبد ربا واحدا أحق بالامن
[ 338 ]
وقضاؤهم له على أنفسهم، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم واستعلاء حجة إبراهيم عليهم، فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه كالذي: 10526 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه قال: هي الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم. 10527 - حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم حين سأل: أي الفريقين أحق بالامن ؟ قال: هي حجة إبراهيم. وقوله: وآتيناها إبراهيم على قومه يقول: لقناها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه على قومه. نرفع درجات من نشاء. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة: نرفع درجات من نشاء بإضافة الدرجات إلى من، بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة نرفع درجات من نشاء بتنوين الدرجات، بمعنى نرفع من نشاء درجات. والدرجات: جمع درجة وهي المرتبة، وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه، ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء متقارب معناهما وذلك أن من رفعت درجته فقد رفع في الدرج. ومن رفع في الدرج فقد رفعت درجته، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك فمعنى الكلام إذن: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه فرفعنا بها درجته عليهم وشرفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة فأما في الدنيا فأتيناه فيها أجره، وأما في الآخرة فهو من الصالحين، نرفع درجات من نشاء أي بما فعل من ذلك وغيره. وأما قوله: إن ربك حكيم عليم فإنه يعني: إن ربك يا محمد حكيم في سياسته خلقه وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذبة لهم الجاحدة توحيد ربهم، وفي غير ذلك من تدبيره، عليم بما يئوول إليه أمر رسله، والمرسل إليهم من ثبات الامم على تكذيبهم إياهم وهلاكهم على ذلك وإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى وتصديق رسله والرجوع إلى طاعته، يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): تأس يا محمد في نفسك وقومك المكذبيك والمشركين بأبيك خليلي إبراهيم (ص)، واصبر على ما ينوبك منهم صبره، فإني بالذي يئول إليه أمرك وأمرهم عالم التدبير فيك وفيهم حكيم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 339 ]
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين) *. يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم (ص) على طاعته إيانا وإخلاصه توحيد ربه، ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين، وآتيناه أجره في الدنيا ووهبنا له أولادا خصصناهم بالنبوة، وذرية شرفناهم منا بالكرامة وفضلناهم على العالمين، منهم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب. كلا هدينا يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد، فوفقناهم للحق والصواب من الاديان. ونوحا هدينا من قبل يقوله: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب فوفقناه له، نوحا من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ومن ذريته داود والهاء التي في قوله: ومن ذريته من ذكر نوح، وذلك أن الله تعالى ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطا، فقال: وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومعلوم أن لوطا لم يكن من ذرية إبراهيم (ص) أجمعين. فإذا كان ذلك، وكان معطوفا على أسماء من سمينا من ذريته، كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم لما دخل يونس ولوط فيهم، ولا شك أن لوطا ليس من ذرية إبراهيم ولكنه من ذرية نوح، فلذلك وجب أن تكون الهاء في الذرية من ذكر نوح. فتأويا الكلام: ونوحا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهدينا أيضا من ذرية نوح داود وسليمان. وداود: هو داود بن إيشا. وسليمان هو ابنه سليمان بن داود وأيوب هو أيوب بن موص بن روح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. ويوسف: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. وهارون: أخو موسى. وكذلك نجزي المحسنن يقول تعالى ذكره: جزينا نوحا بصبره على ما امتحن به فينا بأن هديناه فوفقناه لاصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه، وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم
[ 340 ]
إيانا وصبرهم على المحن فينا، كذلك نجزي بالاحسان كل محسن. القول في تأويل قوله تعالى: * (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) *. يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا لمثل الذي هدينا له نوحا من الهدى والرشاد من ذريته زكريا بن أزن ابن بركيا ويحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن أشيم بن أمور بن حزقيا، وإلياس. واختلفوا في إلياس، فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنخاص بن العيزار بن هارون ابن عمران ابن أخي موسى نبي الله (ص). وكان غيره يقول: هو إدريس وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود. 10528 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيدة بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود، قال: إدريس: هو إلياس، وإسرائيل: هو يعقوب. وأما أهل الانساب فإنهم يقولون: إدريس جد نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ: هو إدريس بن يرد بن مهلائيل. وكذلك روي عن وهب بن منبه. والذي يقول أهل الانساب أشبه بالصواب، وذلك أن الله تعالى نسب إليه في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته ونوح: ابن إدريس عند أهل العلم، فمحال أن يكون جد أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته. وقوله: كل من الصالحين يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا من الصالحين، يعني: زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس صلى الله عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) *. يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من ذرية نوح إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم واليسع: هو اليسع بن أخطوب بن العجوز.
[ 341 ]
واختلف القراء في قراءة اسمه، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: واليسع بلام واحدة مخففة. وقد زعم قوم أنه يفعل، من قول القائل: وسع يسع، ولا تكاد العرب تدخل الالف واللام على اسم يكون على هذه الصورة، أعني: على يفعل، لا يقولون: رأيت اليزيد، ولا أتاني التجيب، ولا مررت باليشكر، إلا في ضرورة شعر، وذلك أيضا إذا تحري به المدح، كما قال بعضهم: وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله فأدخل في اليزيد الالف واللام، وذلك لادخاله إياهما في الوليد، فأتبعه اليزيد بمثل لفظه. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: والليسع بلامين وبالتشديد، وقالوا: إذا قرئ كذلك كان أشبه بأسماء العجم. وأنكروا التخفيف وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسما على يفعل فيه ألف ولام. والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بلام واحدة مخففة، لاجماع أهل الاخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه دون التشديد، مع أنه اسم أعجمي فينطق به على ما هو به. وإنما لا يستقيم دخول الالف واللام فيما جاء من أسماء العرب على يفعل، وأما الاسم الذي يكون أعجميا فإنما ينطق به على ما سموا به، فإن غير منه شئ إذا تكلمت العرب فإنما يغير بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان، والليسع إذا شدد لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه ليسع، فيكون مشددا عند دخول الالف واللام اللتين تدخلان للتعريف ويونس هو يونس بن متى ولوطا وكلا فضلنا من ذرية نوح ونوح،
[ 342 ]
لهم بينا الحق ووفقناهم له. وفضلنا جميعهم على العالمين يعني: على عالم أزمانهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) *. يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره ومن ذرياتهم وإخوانهم آخرين سواهم لم يسمهم للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه، فوفقناهم له. واجتبيناهم يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه، كالذي اخترنا ممن سمينا يقال منه: اجتبى فلان لنفسه كذا: إذا اختاره واصطفاه يجتبيه اجتباء. وكان مجاهد يقول في ذلك، ما: 10529 - حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله تعالى ذكره: واجتبيناهم قال: أخلصناهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وهديناهم إلى صراط مستقيم يقول: وسددناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوج، وذلك دين الله الذي لا عوج فيه، وهو الاسلام الذي ارتضاه الله ربنا لانبيائه، وأمر به عباده. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) *. يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك هدى الله هذا الهدى الذي هديت به من سميت من الانبياء والرسل فوفقتهم به لاصابة الدين الحق، الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم وشرف الدنيا وكرامة الآخرة، هو هدى الله، يقول: هو توفيق الله ولطفه، الذي يوفق به من يشاء ويلطف به لمن أحب من خلقه، حتى ينيب إلى طاعة الله وإخلاص العمل له وإقراره بالتوحيد ورفض الاوثان والاصنام. ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون يقول: ولو أشرك هؤلاء الانبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره، لحبط
[ 343 ]
عنهم يقول: لبطل، فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعلمون، لان الله لا يقبل مع الشرك به عملا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: أولئك هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله نوحا وذريته الذين هداهم لدين الاسلام واختارهم لرسالته إلى خلقه، هم الذين آتيناهم الكتاب يعني بذلك صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين. والحكم يعني: الفهم بالكتاب ومعرفة ما فيه من الاحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما: 10530 - حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان، قال: ثنا مالك بن شداد، عن مجاهد: والحكم والنبوة قال: الحكم: هو اللب. وعنى بذلك مجاهد إن شاء الله ما قلت لان اللب هو العقل، فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب، وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به. وقد بينا معنى النبوة والحكم فيما مضى بشواهدهما، فأغنى ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. يقول تعالى ذكره: فإن يكفر يا محمد بآيات كتابي الذي أنزلته إليك، فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم، كالذي: 10531 - حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن يكفر بها هؤلاء يقول: إن يكفروا بالقرآن. ثم اختلف أهل التأويل في المعني بهؤلاء، فقال بعضهم: عني بهم كفار قريش، وعنى بقوله: فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين الانصار. ذكر من قال ذلك: 10532 حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله الله تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء قال: أهل مكة، فقد وكلنا بها أهل المدينة.
[ 344 ]
10533 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين قال: الانصار. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك: فإن يكفر بها هؤلاء قال: إن يكفر بها أهل مكة، فقد وكلنا بها أهل المدينة الانصار ليسوا بها بكافرين. 10534 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فإن يكفر بها هؤلاء يقول: إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الانصار. 10535 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: فإن يكفر بها هؤلاء أهل مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أهل المدينة. 10536 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين قال: كان أهل المدينة قد تبوؤا الدار والايمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله (ص)، فلما أنزل الله عليهم الآيات جحد بها أهل مكة، فقال الله تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس، ولكن سمعته من غيره. 10537 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: فإن يكفر بها هؤلاء يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعني أهل المدينة والانصار. وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة، فقد وكلنا بها الملائكة. ذكر من قال ذلك: 10538 - حدثنا بن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن أبي رجاء: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين قال: هم الملائكة. حدثنا بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي، وعبد الوهاب، عن عوف، عن أبي رجاء، مثله. وقال آخرون: عني بقوله: فإن يكفر بها هؤلاء يعني قريشا، وبقوله: فقد وكلنا بها قوما الانبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبل هذه الآية. ذكر من قال ذلك:
[ 345 ]
10539 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإن يكفر بها هؤلاء يعني أهل مكة، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين وهم الانبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فإن يكفر بها هؤلاء قال: يعني: قوم محمد، ثم قال: فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم، ثم قال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وأولى هذه الاقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بقوله: فإن يكفر بها هؤلاء كفار قريش، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعني به: الانبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى وفي التي بعدها عنهم ذكر، ففيما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أولى وأحق من أن يكون خبرا عن غيرهم. فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك: فإن يكفر قومك من قريش يا محمد بآياتنا، وكذبوا وجحدوا حقيقتها، فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها، ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. وقد قال بعضم: معنى قوله: فقد وكلنا بها قوما: رزقناها قوما. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) *. يقول تعالى ذكره: أولئك: هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك. فبهداهم اقتده يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا والمنهاج الذي سلكوا وبالهدى الذي هديناهم والتوفيق الذي وفقناهم، اقتده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسكله، فإنه عمل لله فيه رضا ومنهاج من سلكه اهتدى.
[ 346 ]
وهذا التأويل على مذهب من تأول قوله: فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أنهم الانبياء المسمون في الآيات المتقدمة، وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك. وأما على تأويل من تأول ذلك أن القوم الذين وكلوا بها هم أهل المدينة، أو أنهم هم الملائكة، فإنهم جعلوا قوله: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين اعتراضا بين الكلامين، ثم ردوا قوله: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده على قوله: أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. ذكر من قال ذلك: 10540 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ووهبنا له إسحاق ويعقوب... إلى قوله: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده يا محمد. 10541 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال بن زيد، في قوله: أولئك الذين هدى الله يا محمد، فبهداهم اقتده ولا تقتد بهؤلاء. 10542 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ثم رجع إلى النبي (ص)، فقال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. 10543 - حدثنا علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: ثم قال في الانبياء الذين سماهم في هذه الآية: فبهداهم اقتده. ومعنى الاقتداء في كلام العرب بالرجل: اتباع أثره والاخذ بهديه، يقال: فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره، قدة وقدوة وقدوة وقدوة. القول في تأويل قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكرهم بآياتي أن تبسل نفس بما كسبت من مشركي قومك يا محمد: لا أسألكم على تذكيري إياكم والهدى الذي أدعوكم إليه والقرآن الذي جئتكم به، عوضا أعتاضه منكم عليه وأجرا آخذه منكم،
[ 347 ]
وما ذلك مني إلا تذكير لكم ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل بأس الله أن يحل بكم وسخطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم، وإنذار لجميعكم بين يدي عذاب شديد، لتذكروا وتنزجروا. / القول في تأويل قوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) *. يقول تعالى ذكره: وما قدروا الله حق قدره وما أجلوا الله حق إجلاله، ولا عظموه حق تعظيمه. إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ يقول: حين قالوا: لم ينزل الله على آدمي كتابا ولا حيا. واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ وفي تأويل ذلك فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود. ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل، فقال بعضهم: كان اسمه مالك بن الصيف. وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص. واختلفوا أيضا في السبب الذي من أجله قال ذلك. ذكر من قال: كان قائل ذلك مالك بن الصيف: 10544 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سيعد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي (ص)، فقال له النبي (ص): أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا، فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى ؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ فأنزل الله: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى... الآية. 10545 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قال: نزلت في مالك بن الصيف كان من قريظة من أحبار اليهود قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس... الآية.
[ 348 ]
ذكر من قال: نزلت في فنحاص اليهودي: 10546 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شئ. وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود سألوا النبي (ص) آيات مثل آيات موسى. ذكر من قال ذلك: 10547 - حدثنا هناد، قال: ثنا يونس، قال: ثنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: جاء ناس من يهود إلى النبي (ص) وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله فأنزل الله: يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة... الآية، فجثا رجل من يهود، فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا فأنزل الله: وما قدروا الله حق قدره قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا فحل رسول الله (ص) حبوته، وجعل يقول: ولا على أحد. 10548 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ... إلى قوله: في خوضهم يلعبون هم اليهود والنصارى، قوم آتاهم الله علما فلم يهتدوا به ولم يأخذوا به ولم يعلموا به، فذمهم الله في عملهم ذلك، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصم به غدا أن يقال: يا أبا الدرداء قد علمت، فماذا عملت فيما علمت ؟. 10549 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ يعني: من بني إسرائيل. قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا ؟ قال: نعم قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا. فأنزل الله: قل يا محمد من أنزل
[ 349 ]
الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى الناس... إلى قوله: ولا آباؤكم قال: الله أنزله. وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ. ذكر من قال ذلك: 10550 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قالها مشركو قريش، قال: وقوله: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا قال: هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا. قال: وقوله: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قال: هذه للمسلمين. 10551 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وما قدروا الله حق قدره قال: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شئ قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره. 10552 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما قدروا الله حق قدره يقول: مشركو قريش. وأولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عني بقوله: وما قدروا الله حق قدره مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا، مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الاقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود. وإذا لم يكن بما روي من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة
[ 350 ]
الاوثان، وكان قوله: وما قدروا حق الله قدره موصولا بذلك غير مفصول منه، لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لاهل التوراة، فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم، إذ كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: وما قدروا الله حق قدره في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الاوثان، وهو به متصل، فالاولى أن يكون ذلك خبرا عنهم. والاصوب من القراءة في قوله: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: قل من أنزل الكتاب لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. 10553 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا. القول في تأويل قوله تعالى: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) قل يا محمد لمشركي قومك القائلين لك: ما أنزل على بشر من شئ، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا يعني: جلاء وضياء من ظلمة الضلالة وهدى للناس يقول: بيانا للناس، يبين لهم له الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم، يجعلونه قراطيس يبدونها. فمن قرأ ذلك: تجعلونه جعله خطابا لليهود على ما بينت من تأويل من تأول ذلك كذلك، ومن قرأه بالياء: يجعلونه فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس، وجرى الكلام في يبدونها بذكر القراطيس، والمراد منه: المكتوب في القراطيس، يراد يبدون كثيرا مما يكتبون في
[ 351 ]
القراطيس، فيظهرونه للناس ويخفون كثيرا مما يثبتونه في القراطيس فيسرونه ويكتمونه الناس. ومما كانوا يكتمونه إياهم ما فيها من أمر محمد (ص) ونبوته. كالذي: 10554 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا: اليهود. 10555 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي به جاء موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها يعني يهود لما أظهروا من التوراة. ويخفون كثيرا مما أخفوا من ذكر محمد (ص) وما أنزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا قال: هم يهود الذين يبدونها ويخفون كثيرا. القول في تأويل قوله تعالى: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه الكتاب الذي أنزله إليكم ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم ومن أنباء من بعدكم وما هو كائن في معادكم يوم القيامة، ولا آباؤكم يقول: ولم يعلمه آباؤكم أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله (ص). كالذي: 10556 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد: وعلمتم معشر العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم. 10557 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدا يقول في قوله: وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قال: هذه للمسلمين. وأما قوله: قل الله فإنه أمر من الله جل ثناؤه نبيه محمدا (ص) أن يجيب استفهامه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا بقيل: الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين فأمره باستفهام المشركين عن ذلك،
[ 352 ]
كما أمره باستفهامهم إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ عمن أنزل الكتاب الذي به جاء موسى نورا وهدى للناس. ثم أمره بالاجابة عنه هنالك بقيله: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون كما أمره بالاجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنزله على موسى. كما: 10558 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس قال: الله أنزله. ولو قيل: معناه: قل هو الله على وجه الامر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب إذ لم يكن قوله: قل من أنزل الكتاب مسألة من المشركين لمحمد (ص)، فيكون قوله: قل الله جوابا لهم عن مسألتهم، فإنما هو أمر من الله لمحمد بمسألة القوم: من أنزل الكتاب، فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزا من أجل أنه استفهام، ولا يكون للاستفهام جواب وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا. وأما قوله: ثم ذرهم في خوضهم يلعبون فإنه يقول لنبيه محمد (ص): ثم ذر هؤلاء المشركين العادلين بربهم الاوثان والاصنام بعد احتجاجك عليهم في قيلهم ما أنزل الله على بشر من شئ بقولك من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس وإجابتك ذلك بأن الذي أنزله الله الذي أنزل عليك كتابه في خوضهم يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته، يقول: يستهزءون ويسخرون. وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهديد لهم يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين يا محمد، فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد وأذيفهم بأسي، وأحل بهم إن تمادوا في غيهم سخطي. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون) *. يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن يا محمد كتاب وهو اسم من أسماء القرآن
[ 353 ]
قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. ومعناه: مكتوب، فوضع الكتاب مكان المكتوب. أنزلناه يقول: أوحيناه إليك، مبارك وهو مفاعل من البركة، مصدق الذي بين يديه يقول: صدق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك، لم يخالفها ولا بنبأ، وهو معنى نورا وهدى للناس، يقول: هو الذي أنزل إليك يا محمد هذا الكتاب مباركا مصدقا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله، ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه، إذ كان قد تقدم الخبر عن ذلك ما يدل على أنه به متصل، فقال: وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك، ومعناه: وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركا، كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورا. وأما قوله: ولتنذر أم القرى ومن حولها فإنه يقول: أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب مصدقا ما قبله من الكتب، ولتنذر به عذاب الله وبأسه من في أم القرى وهي مكة ومن حولها شرقا وغربا من العادلين بربهم غيره من الآلهة والانداد، والجاحدين برسله وغيرهم من أصناف الكفار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10559 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ولتنذر أم القرى ومن حولها يعني بأم القرى: مكة ومن حولها من القرى إلى المشرق والمغرب. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولتنذر أم القرى ومن حولها وأم القرى: مكة، ومن حولها: الارض كلها. 10560 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة: ولتنذر أم القرى قال: هي مكة. وبه عن معمر، عن قتادة، قال: بلغني أن الارض دحيت من مكة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولتنذر أم القرى ومن حولها كنا نحدث أن أم القرى: مكة، وكنا نحدث أن منها دحيت الارض. 10561 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولتنذر أم القرى ومن حولها أما أم القرى: فهي مكة وإنما سميت أم
[ 354 ]
القرى، لانها أول بيت وضع بها. وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة أم القرى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون. يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد في الآخرة إلى الله ويصدق بالثواب والعقاب، فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد ويصدق به ويقر بأن الله أنزله، ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمره الله بإقامتها لانه منذر من بلغه وعيد الله على الكفر به وعلى معاصيه، وإنما يجحد به وبما فيه ويكذب أهل التكذيب بالمعاد والجحود لقيام الساعة، لانه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابا، ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) *. يعني جل ذكره بقوله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا ممن افترى على الله كذبا، يعني: ممن اختلق على الله كذبا، فادعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب. وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحنفي مسيلمة لنبي الله (ص) بدعوى أحدهما النبوة ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله (ص)، ونفي منه عن نبيه محمد (ص) اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: 10562 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ قال: نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة فيما كان يسجع ويتكهن به. ومن قال
[ 355 ]
سأنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي (ص)، وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول، فيقول: نعم سواء فرجع عن الاسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب، فيقول نعم سواء ثم رجع إلى الاسلام قبل فتح مكة، إذ نزل النبي (ص) بمر. وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة. ذكر من قال ذلك: 10563 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ... إلى قوله: تجزون عذاب الهون قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وكان يكتب للنبي (ص)، فكان إذا أملى عليه سميعا عليما، كتب هو: عليما حكيما وإذا قال: عليما حكيما كتب: سميعا عليما. فشك وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إلي، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمد: سميعا عليما، فقلت أنا: عليما حكيما. فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذبوا حتى كفروا. وجدع أذن عمار يومئذ، فانطلق عمار إلى النبي (ص)، فأخبره بما لقي والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبي (ص) أن يتولاه، فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فالذي أكره عمار وأصحابه، والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح. وقال آخرون: بل القائل: أوحي إلي ولم يوح إليه شئ مسيلمة الكذاب. ذكر من قال ذلك: 10564 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال: رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي
[ 356 ]
سوارين من ذهب، فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما في منامي الكذابين اللذين أنا بينهما: كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء العنسي وكان يقال له الاسود. 10565 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شئ قال: نزلت في مسيلمة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وزاد فيه: وأخبرني الزهري أن النبي (ص) قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فكبر ذلك علي، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولت ذلك كذاب اليمامة، وكذاب صنعاء العنسي. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله قال: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ولا تمانع بين علماء الامة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: إني قد قلت مثل ما قال محمد، وأنه ارتد عن إسلامه ولحق بالمشركين. فكان لا شك بذلك من قيله مفتريا كذبا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ادعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما: إن الله أوحى إليه وهو كاذب في قيله. فإذا كان ذلك كذلك فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلفا على الله كذبا وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره أوحى الله إلى وهو في قيله كاذب لم يوح الله إليه شيأ فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم فلم يغيروه فعيرهم الله بذلك وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد (ص) مكذبون ولنبوته جاحدون ولآيات كتاب اللهومن
[ 357 ]
أظلم ممن ادعى على النوة كاذبا وقال أوحي إلى ولم يوح إليه شئ ومع ذلك يقول ما أنزل الله بشر من شئ فينقض قوله بقوله ويكذب بالذي تحققه وينفى ما يثبته وذلك إذا تدبره العاقل إلا ريب علم أن فاعله من عقله عديم وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ما. 10566 - حدثنى محمد ابن سعد قال ثنى أبي قال ثني عمي قال ثنى أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله قال زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر فكان ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوله يوجه معنى قول قائل سأنزل مثل ما أنزل الله إلى سأنزل مثل ما قال الله من الشعر وكذلك تأوله السدى وقد ذكرنا لرواية عنه قبل فيما مضى. القول في تأويل قوله (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظامين العادين بربهم الآلهة والانداد والقائلين ما أنزل الله على بشر من شئ والمفترين على الله كذبا الزاعمين أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شئ والقائلين سأنزل مثل ما أنزل الله فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت ونزل بهم أمر الله وحان فناء آجالهم والملائكة باسطو أييديهم يضربون وجوههم وأدبارهم كما قال جل ثناؤه فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه يقولون لهم أخرجوا أنفسكم والغمرات جمع غمرة وغمرة كل شئ كثرته ومعظمه وأصله الشئ الذي يغمر الاشياء فيغطيها ومنه قول الشاعر: وهل ينجى من الغمرات إلا تراك للقتال أو الفرار
[ 358 ]
وروى عن ابن عباس في ذلك ما 10567 - حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس قوله ولو ترى إذ الظالون في غمرات الموت قال سكرات الموت 10568 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال ثنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله في غمرات الموت يعني سكرات الموت وأما بسط الملائكة أيديهم فإنه مد هائم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك ذكر من قال ذلك. 10569 - حدثني المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم قال هذا عند الموت والبسط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم. 10570 - حدثنى محمد بن سعد قال ثنى أبي قال ثنى عمي قال ثنى أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم يقول الملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم والظالمون في غمرات الموت وملك الموت يتوفاهم. 10571 - حدثنى محمد بن الحسين قال ثنا أحمد بن المفضل قال ثنا أسباط عن السدى والملائكة باسطو أيديهم يضربونهم وقال آخرون بل بسطها أيديها بالعذاب ذكر من قال ذلك. 10572 - حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبو خالد الاحمر عن جويبر عن الضحاك والملائكة باسطو أيديهم قال بالعذاب. 10573 - حدثنى المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا عبد الله بن الزبير عن ابن عيينة عن إسمعيل بن أبي خالد عن أبي صالح والملائكة باسطو أيديهم بالعذاب
[ 359 ]
وكان بعض نحوتي الكوفيين يتأول ذلك بمعنى باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم فإن قال قائل ما وجه قوله أخرجوا أنفسمكم ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين فكيف خوطب هؤلاء الكفار وأمر وافي حال الموت بإخراج أنفسهم فإن كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم قيل إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت وإنما ذلك أمر من الله على ألسن رسله الذين يقبضون أرواح هؤلاء القوم من أجسامهم رأداء ما أسكنها ربها من الارواح إليه وتسليمها إلى رسله الذين يتوفونها. القول في تأويل قوله (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها يخبر عنها أنها تقول لاجسامها ولاصحابها أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله وقيلكم عليه الباطل وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيأ وانذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيأ واستكباركم عن الخضوع لامر الله وأمر رسوله وانقياد لطاعته عذاب الهون وهو عذاب جهنم الذي يهيننهم فيذلهم حتى يعرفوا صغار أنفسهم وذلتها كما. 10574 - حدثنى محمد بن الحسين قال ثنا أحمد بن المفضل قال ثنا أسباط عن السدى أما عذاب الهون فالذي يهينهم. 10575 - حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى حجاج عن ابن جريج اليوم تجزون عذاب الهون قال عذاب الهون في الآخرة بما كنتم تعملون والعرب إذا أرادت بالهون معنى الهوان ضمت الهاء وإذا أرادت به الرفق والدعة وخفة المؤنة فتحت الهاء فقالوا هو قليل هون المؤنة ومنه قول الله الذين يمشون على الارض هونا يعني بالرفق والسكينة والوقار ومنه قول المثنى بن جندل الطهوي
[ 360 ]
ونقض أيام نقضن أسره هونا وألقى كل شيخ فخره ومنه قول الآخر: هو نكالا الدهر ما فاتالا تهلكا أسفافي إثر من ماتا يريد رودا وقد حكى فتح الهاء في ذلك بمعنى الهوان واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جوين نهين النفوس وهون النفوس عند الكريهة أعلى لها والمعروف من كلامهم ضم الهاء منه إذا كان بمعنى الهوان والذل كما قال ذو الاصبع العدواني
[ 361 ]
اذهب إليك فما أمي براعية ترعى المخاض ولا أغضى على الهون يعني على الهوان وإذا كان بمعنى الرفق ففتحها. القول في تأويل قوله القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والانداد، يخبر عباده أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: لقد جئتمونا فرادى ويعني بقوله: فرادى: وحدانا لا مال معهم ولا أثاث ولا رفيق ولا شئ مما كان الله خولهم في الدنيا. كما خلقناكم أول مرة عراة غلفا غرلا حفاة كما ولدتهم أمهاتهم، وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم، لا شئ عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهون به في الدنيا. وفرادى: جمع، يقال لواحدها: فرد، كما قال نابغة بني ذبيان: من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد وفرد وفريد، كما يقال: وحد ووحد ووحيد في واحد الاوحاد، وقد يجمع الفرد الفراد، كما يجمع الوحد الوحاد، ومنه قول الشاعر:
[ 362 ]
ترى النعرات الزرق فوق لبانه فراد ومثنى أصعقتها صواهله وكان يونس الجرمي فيما ذكر عنه يقول: فراد: جمع فرد، كما قيل: توءم وتؤام للجيمع، ومنه الفرادى والردافى والغواني. ويقال: رجل فرد، وامرأة فرد، إذا لم يكن لها أخ، وقد فرد الرجل فهو يفرد فرودا، يراد به تفرد، فهو فارد. 10576 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: أخبرني عمرو أن ابن أبي هلال حدثه أنه سمع القرطبي يقول: قرأت عائشة زوج النبي (ص) قول الله: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فقالت: واسوأتاه، إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله (ص): لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض. وأما قوله: وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها خلفكم في الدنيا، فلم تحملوه معكم. وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم، وكل ما ملكته غيرك وأعطيته فقد خولته، يقال منه: خال الرجل يخال أشد الخيال بكسر الخاء، وهو خائل، ومنه قول أبي النجم: أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرا من خول المخول وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بين زهير: هنا لك إن يستخولوا المال يخولوا وإن تسألوا تعطوا وإن تيسروا تعلوا
[ 363 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10577 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وتركتم ما خولناكم من المال والخدم وراء ظهوركم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الانداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث لقيله: إن اللات والعزى يشفعان له عند الله يوم القيامة. وقيل: إن ذلك كان قول كافة عبدة الاوثان. ذكر من قال ذلك. 10578 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة لانهم شفعاء يشفعون لهم عند الله وأن هذه الآلهة شركاء لله. 10579 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، قال: قال النضر بن الحرث: سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت هذه الآية: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة... إلى قوله: شركاء. القول في تأويل قوله تعالى: لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون. يقول تعالى مخبرا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الانداد: لقد تقطع بينكم يعني: تواصلهم الذي كان بينهم في الدنيا، ذهب ذلك اليوم، فلا تواصل بينهم ولا
[ 364 ]
تواد ولا تناصر، وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون فاضمحل ذلك كله في الآخرة، فلا أحد منهم ينصر صاحبه ولا يواصله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10580 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لقد تقطع بينكم البين: تواصلهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو خذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لقد تقطع بينكم قال: تواصلهم في الدنيا. 10581 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لقد تقطع بينكم قال: وصلكم. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: لقد تقطع بينكم قال: ما كان بينكم من الوصل. 10582 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون يعني: الارحام والمنازل. 10583 حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لقد تقطع بينكم يقول: تقطع ما بينكم. 10584 - حدثنا أبو كريب، قال: قال أبو بكر بن عياش: لقد تقطع بينكم: التواصل في الدنيا. واختلفت القراء في قوله: بينكم. فقرأته عامة قراء أهل المدينة نصبا بمعنى: لقد تقطع ما بينكم. وقرأ ذلك عامة قراء مكة والعراقيين: لقد تقطع بينكم رفعا، بمعنى: لقد تقطع وصلكم. والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، وذلك أن العرب قد تنصب بين في موضع الاسم، ذكر سماعا منها: إيابى نحوك ودونك وسواءك، نصبا في موضع الرفع، وقد ذكر عنها سماعا الرفع في بين إذا كان الفعل لها وجعلت اسما وينشد بيت مهلهل:
[ 365 ]
كأن رماحهم أشطان بئربعييد بين جاليها جرور برفع بين إذ كانت اسما. غير أن الاغلب عليهم في كلامهم النصب فيها في حال كونها صفة وفي حال كونها اسما. وأما قوله: وضل عنكم ما كنتم تزعمون فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم، وأنه لكم شفيع عند ربكم، فلا يشفع لكم اليوم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) * وهذا تنبيه من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والاوثان على موضع حجته عليهم، وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الاصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة أيها الناس دون كل ما تعبدون من الآلهة والاوثان، هو الله الذي فلق الحب، يعني: شق الحب من كل ما ينبت من النبات، فأخرج منه الزرع والنوى من كل ما يغرس مما له نواة، فأخرج منه الشجر. والحب جمع حبة، والنوى: جمع النواة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10585 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إن الله فالق الحب والنوى أما فالق الحب والنوى: ففالق الحب عن السنبلة، وفالق النواة عن النخلة. 10586 - حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: فالق الحب والنوى قال: يفلق الحب والنوى عن النبات. 10587 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
[ 366 ]
فالق الحب والنوى قال: الله فالق ذلك، فلقه فأنبت منه ما أنبت فلق النواة فأخرج منها نبات نخلة، وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق. وقال آخرون: معنى فالق خالق. ذكر من قال ذلك. 10588 - حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: إن الله فالق الحب والنوى قال: خالق الحب والنوى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. 10589 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: إن الله فالق الحب والنوى قال: خالق الحب والنوى. وقال آخرون: معنى ذلك أنه فلق الشق الذي في الحبة والنواة. ذكر من قال ذلك. 10590 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي جريج، عن مجاهد، في قول الله: فالق الحب والنوى قال: الشقان اللذان فيهما. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10591 - حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله: إن الله فالق الحب والنوى قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم ابن أبي بزة، عن مجاهد: فالق الحب والنوى قال: الشقان اللذان فيهما. 10592 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فالق الحب والنوى يقول: خالق الحب والنوى، يعني: كل حبة. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندي ما قدمنا القول به، وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي، فكان معلوما بذلك أنه إنما عنى بإخباره عن نفسه أنه فالق الحب عن النبات والنوى عن الغروس والاشجار، كما
[ 367 ]
هو مخرج الحي من الميت والميت من الحي. وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى فالق أنه خالق، فقول إن لم يكن أراد به أنه خالق منه النبات والغروس بفلقه إياه، لا أعرف له وجها، لانه لا يعرف في كلام العرب فلق الله الشئ بمعنى: خلق. القول في تأويل قوله تعالى: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون. يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ومخرج الحب الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والشجر ما دام قائما على أصوله لم يجف والنبات على ساقه لم ييبس، فإن العرب تسميه حيا، فإذا يبس وجف أو قطع من أصله سموه ميتا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10593 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، أما: يخرج الحي من الميت فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة، ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية، ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة، ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية. 10594 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة والسنبلة من الحبة. وقال آخرون بما: 10595 - حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي قال: يخرج النطفة الميتة من الحي، ثم يخرج من النطفة بشرا حيا. وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك، لانه عقيب قوله: إن الله فالق الحب والنوى على أن قوله: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي وإن كان خبرا من الله عن إخراجه من الحب السنبل ومن السنبل الحب، فإنه داخل في عمومه ما روي عن
[ 368 ]
ابن عباس في تأويل ذلك وكل ميت أخرجه الله من جسم حي، وكل حي أخرجه الله من جسم ميت. وأما قوله: ذلكم الله فإنه يقول: فاعل ذلك كله الله جل جلاله. فأنى تؤفكون يقول: فأي وجوه الصد عن الحق أيها الجاهلون تصدون عن الصواب وتصرفون، أفلا تتدبرون فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى، فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعا وحروثا وثمارا تتغذون ببعضه وتفكهون ببعضه، شريك في عبادته ما لا يضر ولا ينفع ولا يسمع ولا يبصر ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) *. يعني بقوله: فالق الاصباح شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. والاصباح: مصدر من قول القائل: أصبحنا إصباحا. وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10596 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: فالق الاصباح قال: إضاءة الصبح. 10597 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فالق الاصباح قال: إضاءة الفجر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10598 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: فالق الاصباح قال: فالق الصبح. 10599 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: فالق الاصباح يعني بالاصباح: ضوء الشمس باالنهار، وضوء القمر بالليل. 10600 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن محمد بن عبد
[ 369 ]
الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم ابن أبي بزة، عن مجاهد: فالق الاصباح قال: فالق الصبح. حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الاسناد، عن مجاهد، فقال في قوله: فالق الاصباح قال: إضاءة الصبح. 10601 - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال بن زيد، في قوله: فالق الاصباح قال: فلق الاصباح عن الليل. 10602 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فالق الاصباح يقول: خالق النور، نور النهار. وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار. ذكر من قال ذلك: 10603 - حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا يقول: خلق الليل والنهار، وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ في قوله: فالق الاصباح بفتح الالف كأنه تأول ذلك بمعنى جمع صبح، كأنه أراد صبح كل يوم، فجعله أصباحا ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز غيرها بكسر الالف فالق الاصباح لاجماع الحجة من القراءة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفض خلافه. وأما قوله: وجاعل الليل سكنا فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة وبعض البصريين: وجاعل الليل بالالف. على لفظ الاسم ورفعه عطفا على فالق، وخفض الليل بإضافة جاعل إليه، ونصب الشمس والقمر عطفا على موضع الليل لان الليل وإن كان مخفوضا في اللفظ فإنه في موضع النصب، لانه مفعول جاعل، وحسن عطف ذلك على معنى الليل لا على لفظه، لدخول قوله: سكنا بينه وبين الليل قال الشاعر: قعودا لدى الابواب طلاب حاجة عوان من الحاجات أو حاجة بكرا
[ 370 ]
فنصب الحاجة الثانية عطفا بها على معنى الحاجة الاولى، لا على لفظها لان معناها النصب وإن كانت في اللفظ خفضا. وقد يجئ مثل هذا أيضا معطوفا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه، وإن لم يكن بينهما حائل، كما قال بعضهم: فبينا نحن ننظره أتانا معلق شكوه وزناد راع وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: وجعل الليل سكنا والشمس على فعل بمعنى الفعل الماضي ونصب الليل. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الامصار، متفقتا المعنى غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الاعراب والمعنى. وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنا، لانه يسكن فيه كل متحرك بالنهار ويهدأ فيه، فيستقر في مسكنه ومأواه. القول في تأويل قوله تعالى: والشمس والقمر حسبانا. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. ذكر من قال ذلك: 10604 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن بن عباس: والشمس والقمر حسبانا يعني: عدد الايام والشهور والسنين. 10605 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه عن بن عباس: والشمس والقمر حسبانا قال: يجريان إلى أجل جعل لهما. 10606 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي والشمس والقمر حسبانا يقول: بحساب.
[ 371 ]
10607 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: والشمس والقمر حسبانا قال: الشمس والقمر في حساب، فإذا خلت أيامهما فذاك آخر الدهر وأول الفزع الاكبر ذلك تقدير العزيز العليم. 10608 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: والشمس والقمر حسبانا قال: يدوران في حساب. 10609 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن بن جريج، عن مجاهد: والشمس والقمر حسبانا قال: هو مثل قوله: كل في فلك يسبحون، ومثل قوله: والشمس والقمر حسبانا. وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء. ذكر من قال ذلك: 10610 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والشمس والقمر حسبانا أي ضياء. وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب تأويل من تأوله: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرها ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لان الله تعالى ذكره ذكر قبله أياديه عند خلقه وعظم سلطانه، بفلقه الاصباح لهم وإخراج النبات والغراس من الحب والنوى، وعقب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر، فكان وصفه إجراءه الشمس والقمر لمنافعهم أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما لانه قد وصف ذلك قبل قوله: فالق الاصباح فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى. والحسبان في كلام العرب: جمع حساب، كما الشهبان جمع شهاب وقد قيل: إن الحسبان في هذا الموضع مصدر من قول القائل: حسبت الحساب أحسبه حسابا وحسبانا. وحكي عن العرب على الله حسبان فلان وحسبته: أي حسابه. وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء، ذهب إلى شئ يروى عن ابن عباس في قوله: أو يرسل عليها حسبانا من السماء قال:
[ 372 ]
نارا، فوجه تأويل قوله: والشمس والقمر حسبانا إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شئ. وأما الحسبان بكسر الحاء: فإنه جمع الحسبانة: وهي الوسادة الصغيرة، وليست من الاوليين أيضا في شئ، يقال: حسبته: أجلسته عليها، ونصب قوله: حسبانا بقوله: وجعل. وكان بعض البصريين يقول: معناه: ووالشمس والقمر حسبانا أي بحساب، فحذف الباء كما حذفها من قوله: هو أعلم من يضل عن سبيله: أي أعلم بمن يضل عن سبيله. القول في تأويل قوله تعالى: ذلك تقدير العزير العليم. يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله، وهو فلقه الاصباح وجعله الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، تقدير الذي عز سلطانه، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقدير الاصنام والاوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه شيئا ولا تعقله ولا تضر ولا تنفع، وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الاشياء، ولا تشركوا في عبادته شيئا غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) *. يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم أيها الناس النجوم أدلة في البر والبحر إذا ضللتم الطريق، أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلون بها على المحجة، فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة فتسلكونه، وتنجون بها من ظلمات ذلك، كما قال جل ثناؤه: وعلامات وبالنجم هم يهتدون: أي من ضلال الطريق في البر والبحر، وعنى بالظلمات: ظلمة الليل، وظلمة الخطأ والضلال، وظلمة الارض أو الماء. وقوله: قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون يقول قد ميزنا الادلة وفرقنا الحجج فيكم وبيناها أيها لناس ليتدبرها أولو العلم بالله منكم ويفهمها أولو الحجاج منكم، فينيبوا من جهلهم الذي هم عليه مقيمون،
[ 373 ]
وينزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون، ولا يتمادوا عنادا لله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غيهم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10611 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قال: يضل الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو الذي أنشاكم من نفس وحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايت لقوم يفقهون يقول تعالى ذكره: وإلهكم أيها العادلون بالله غيره (الذي أنشاكم) يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شئ فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئا (من نفس واحدة) يعني: من آدم عليه السلام، كما: 10612 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (من نفس واحدة) قال: آدم عليه السلام. 10613 - حدثنا بشر بن معاذ، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة) من آدم عليه السلام. وأما قوله (فمستقر ومستودع) فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون، فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم مستقر في الرحم ومنكم مستودع في القبر، حتى يبعثه الله لنشر القيامة. ذكر من قال ذلك: 10614 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم، عن عبد الله: (يعلم مستقرها ومستودعها) قال: مستقرها في الارحام، ومستودعها حيث تموت. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه قال: المستودع حيث تموت، والمستقر: ما في الرحم.
[ 374 ]
حدثت عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود، قال: المستقر الرحم، والمستودع: المكان الذي تموت فيه. 10615 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم: (يعلم مستقرها ومستودعها) قال: مستقرها في الارحام، ومستودعها في الارض حيث تموت فيها. 10616 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مقسم، قال مستقرها في الصلب حيث تأويل إليه، ومستودعها حيث تموت. وقال آخرون: المستودع: ما كان في أصلاب الاباء، والمستقر: ما كان في بطون النساء وبطون الارض أو على ظهورها. ذكر من قال ذلك: 10617 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن علية، قال: ثنا كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، في قوله: (فمستقر ومستودع) قال: مستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال، فإذا قروافي أرحام النساء أو على ظهر الارض أو في بطنها، فقد استقروا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير: (فمستقر ومستودع) قال: المستودعون: ما كانوا في أصلاب الرجال، فإذا قروا في أرحام النساء أو على ظهر الارض فقد استقروا. 10618 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: (يعلم مستقرها مستودعها) قال: المستودع في الصلب والمستقر: ما كان على وجه الارض أو في الارض. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الارض على ظهورها ومستودع عند الله ذكر من قال ذلك: 10619 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن المغيرة، عن أبي الخير تميم بن حذلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (المستقر): الارض، و (المستودع) عند الرحمن.
[ 375 ]
10620 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (المستقر) الارض، و (المستودع): عند ربك. 10621 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: مستقرها في الدنيا، ومستودعها في الاخرة يعني: (فمستقر ومستودع) 10622 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: (المستودع) في الصلب، و (المستقر): في الاخرة وعلى وجه الارض. وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم ومستودع في الصلب. ذكر من قال ذلك: 10623 - حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن أبي الحرث، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله (فمستقر ومستودع) قال: مستقر في الرحم، ومستودع في صلب لم يخلق وسيخلق. 10624 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن عكرمة: (فمستقر ومستودع) قال: المستقر: الذي قد استقر في الرحم، والمستودع: الذي قد استودع في الصلب. 10625 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير تميم، عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: سل فقلت: (فمستقر ومستودع) ؟ قال: المستقر: في الرحم، والمستودع: ما استودع في الصلب. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فمستقر ومستودع) قال: المستقر: الرحم، والمستودع: ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (يعلم مستقرها ومستودعها) قال: المستقر: ما كان في الرحم مما هو حي ومما قد مات، والمستودع: ما في الصلب.
[ 376 ]
10626 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس، وذلك قبل أن يخرج وجهي: أتزوجت يا بن جبير ؟ قال: قلت: لا، وما أريد ذاك يومي هذا. قال: فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودعين حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس: تزوجت ؟ قلت: لا. قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودع في ظهرك سيخرج. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فمستقر ومستودع) قال: المستقر في الارحام، والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خلقه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (فمستقر ومستودع) قال: المستقر في الرحم، والمستودع: ما استودع في أصلاب الرجال والدواب. 10627 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: المستقر: ما استقر في الرحم، والمستودع: ما استودع في الصلب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير عن أبي الخير تميم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بنحوه. 10628 - حدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة بن حميد، عن عمار الدهني، عن رجل، عن كريب، قال: دعاني ابن عباس، فقال: اكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن عباس إلى فلان حبر تيماء، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، أما بعد) قال: فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك ؟ فقال: إن الله هو السلام. ثم قال: اكتب سلام عليك، أما بعد، فحدثني عن مستقر ومستودع). قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي، فأعطيته إياه، فلما نظر إليه قال: مرحبا بكتاب خليلي من المسلمين فذهب بي إلى بيته، ففتح أسفاطا له كبيرة، فجعل يطرح تلك الاشياء لا يلتفت إليها. قال قلت:
[ 377 ]
ما شأنك ؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود، حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين، فقال: المستقر: الرحم. قال: ثم قرا: (ونقر في الارحام ما نشاء)، وقرأ (ولكم في الارض مستقر ومتاع) قال: مستقره فوق الارض، ومستقره في الرحم، ومستقره تحت الارض، حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار. 10629 - حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: (فمستقر ومستودع) قال: ما استقر في أرحام النساء، والمستودع: ما استودع في أصلاب الرجال. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء. قال: المستقر: الرحم، والمستودع: ما استودع في الصلب. حدثنا ابن وكيع، قال ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المستقر: الرحم، والمستودع: الصلب. 10630 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون، قال: أتينا إبراهيم عند المساء، فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحد عن شئ ؟ قالوا: عبد الرحمن بن الاسود عن المستقر والمستودع فقال: المستقر في الرحم، والمستودع: في الصلب.
[ 378 ]
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر من المفضل، قال: ثنا ابن عون، قال أتيتنا إبراهيم، وقد مات، قال: فحدثني بعضهم أن عبد الرحمن بن الاسود سأله قبل أن يموت عن المستقر والمستودع، فقال المستقر: في الرحم، والمستودع: في الصلب. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال أتينا منزل إبراهيم، فسألنا عنه، فقالوا: قد توفي، وسأله عبد الرحمن بن الاسود، فذكر نحوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن علية، عن ابن عون، أنه بلغه أن عبد الرحمن بن الاسود سأل إبراهيم، عن ذلك، فذكر نحوه. حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن العلاء بن هارون، قال: انتهيت إلى منزل إبراهيم حين قبض، فقلت لهم: هل سأله أحد عن شئ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الاسود عن مستقر ومستودع، فقال: أما المستقر: فما استقر في أرحام النساء، والمستودع: ما في أصلاب الرجال. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في فمستقر ومستودع) قال: الرحم، والمستودع: الصلب. 10631 - حدثني يونس، قال: ثني سفيان، عن رجل حدثه عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح ؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا وإني لاعلم أن الله مخرج من صلبك ما كان فيه مستودعا. 10632 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: المستقر في الرحم، والمستودع: في الصلب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس: (فمستقر ومستودع) قال: مستقر في الرحم، ومستودع: في الصلب. 10633 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (فمستقر ومستودع) قال: مستقر: في الرحم، ومستودع: في الصلب. 10634 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: (فمستقر ومستودع) أما (مستقر): فما استقر في الرحم، وأما (مستودع): فما استودع في الصلب.
[ 379 ]
10635 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فمستقر ومستودع) قال: مستقر في الارحام، ومستودع: في الاصلاب. 10636 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير وأبي حمزة، عن إبراهيم، قالا: (مستقر ومستودع) المستقر: في الرحم، والمستودع: في الصلب. وقال آخرون: المستقر: في القبر، والمستودع: في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 10637 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: مستقر: في القبر، ومستودع: في الدنيا. وأوشك أن يلحق يصاحبه. وأولى التأويلات في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله جل ثناؤه عم بقوله: (فمستقر ومستودع) كل خلقه الذي أنشا من نفس واحدة مستقرا ومستودعا، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن من بني آدم مستقرا في الرحم ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر على ظهر الارض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر مستودع على ظهر الارض، فكل مستقر أو مستودع بمعنى من هذه المعاني فداخل في عموم قوله: (فمستقر ومستودع) ومراد به: إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى ون معنى وخاص دون عام. واختلف القراء في قراءة قوله: (فمستقر ومستودع) فقرأت ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: (فمستقر ومستودع) بمعنى: فمنهم من استقره الله في مقره فهو مستقر، ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة (فمستقر) بكسر القاف بمعنى: فمنهم من استقر فهو مستودع فيه في مقره فهو مستقر به وأولى القراءتين بالصواب عندي وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: (فمستقر) بمعنى: استقره الله في مستقره، ليأتلف المعنى فيه وفي (المستودع) في أن كل واحد منهما لم يسم فاعله، وفي أضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقر هذا والمستودع هذا وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: (ومستودع) بفتح الدال على وجه ما لم يسم فاعله، فإجراء الاول، أعني قوله: (فمستقر) عليه أشبه من عدوله عنه. وأما قوله: (قد فصلنا الايات لقوم يفقهون) يقول تعالى: قد بينا الحجج وميزنا
[ 380 ]
الادلة والاعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر وفهمون الايات والذكر، فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر وخلقي ما خلقت منها من عجائب الالوان والصور، علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم أياه. كما: 10638 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (قد فصلنا الايات لقوم يفقهون) يقول: قد بينا الايات لقوم يفقهون. القول في تأويل قوله تعالى: (وهو الذى أنزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات كل شئ فاخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنت من أعنب والزيتون الرمان مشتبها وغير متشبه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لايت لقوم يؤمنون يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشئ سواه، هو الا له (الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ) فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الانعام والبهائم والطير والوحش، وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون. وإنما معنى قوله: فاخرجنا به نبات كل شئ: فأخرجنا به ما ينبت به كل شئ وينمو عليه ويصلح. ولو قيل معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كل شئ هو أصناف النبات، كان مذهبا وإن كان الوجه الصحيح هو القول الاول. وقوله: فأخرجنا منه خضرا يقول: فأخرجنا منه يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء خضرا رطبا من الزرع والخضر: هو الاخضر، كقول العرب: أرنيها نمرة أركها مطرة، يقال: خضرت الارض خضرا وخضارة، والخضر: رطب البقول، ويقال: نخلة خضيرة: إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر: إذا
[ 381 ]
مات شابا مصححا، ويقال: هو لك خضرا مضرا: أي هنيئا مريئا. قوله: نخرج منه حبا متركبا يقول: نخرج من الخضر حبا، يعني: ما في السنبل، سنبل الحنطة والشعير والارز، وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10639 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا فهذا السنبل. القول في تأويل قوله تعالى: ومن النخل من طلعها قنوان دانية. يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوان دانية ولذلك رفعت القنوان. والقنوان: جمع قنو، كما الصنوان: جمع صنو، وهو العذق، يقال للواحد: هو قنو وقنو وقنا: يثنى قنوان، ويجمع قنوان وقنوان، قالوا في جمع قليله: ثلاثة أقناء، والقنوان: من لغة الحجاز، والقنوان: من لغة قيس وقال امرؤ القيس: فأثت أعاليه وآدت أصوله ومال بقنوان من البسر أحمرا وقنيان جميعا وقال آخر:
[ 382 ]
لها ذنب كالقنو قد مذلت به وأسحم للتخطار بعد التشذر وتميم تقول: قنيان بالياء. ويعني بقوله: دانية: قريبة متهدلة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قنوان دانية يعني بالقنوان الدانية: قصار النخل لاصقة عذوقها بالارض. 10641 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: من طلعها قنوان دانية قال: عذوق متهدلة. حدثنا محمد بن الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: قنوان دانية يقول: متهدلة. 10642 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، في قوله: قنوان دانية قال: قريبة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب: قنوان دانية قال: قريبة. حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ومن النخل من طلعها قنوان دانية قال: الدانية لتهدل العذوق من الطلع. 10643 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ومن النخل من طلعها قنوان دانية يعني: النخل القصار الملتزقة بالارض، والقنوان: طلعه.
[ 383 ]
القول في تأويل قوله تعالى: وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه. يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضا جنات من أعناب، يعني: بساتين من أعناب. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة القراء: وجنات نصبا، غير أن التاء كسرت لانها تاء جمع المؤنث، وهي تخفض موضع النصب. وقد: 10644 - حدثني الحرث، قال: ثنا القاسم بن سلام، عن الكسائي، قال: أخبرنا حمزة، عن الاعمش، أنه قرأ: وجنات من أعناب بالرفع، فرفع جنات على إتباعها القنوان في الاعراب، وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها النصب وجنات من أعناب لاجماع الحجة من القراء على تصويبها والقراءة بها ورفضهم ما عداها، وبعد معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعا. وقوله: والزيتون والرمان عطف بالزيتون على الجنات بمعنى: وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه. وكان قتادة يقول في معنى مشتبها وغير متشابه ما: 10645 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه قال: مشتبها ورقه، مختلفا تمره. وجائز أن يكون مرادا به: مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى من ذكر الشجر بذكر ثمره، كما قيل: واسأل القرية فاكتفى بذكر القرية من ذكر أهلها، لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه. القول في تأويل قوله تعالى: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة: انظروا إلى ثمره بفتح الثاء والميم، وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قراء الكوفيين:
[ 384 ]
إلى ثمره بضم الثاء والميم. فكأن من فتح الثاء والميم من ذلك وجه معنى الكلام: انظروا إلى ثمر هذه الاشجار التي سمينا من النخل والاعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثمر جمع ثمرة، كما القصب جمع قصبة، والخشب جمع خشبة. وكأن من ضم الثاء والميم، وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار، كما الحمر جمع حمار، والجرب جمع جراب. وقد: 10646 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن إدريس، عن الاعمش، عن يحيى بن وثاب، أنه كان يقرأ: إلى ثمره يقول: هو أصناف المال. 10647 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا بن أبي حماد، قال: ثنا محمد بن عبيد الله، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال الثمر: هو المال، والثمر: ثمر النخل. وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب، قراءة من قرأ: انظروا إلى ثمره بضم الثاء والميم، لان الله جل ثناؤه وصف أصنافا من المال، كما قال يحيى بن وثاب. وكذلك حب الزرع المتراكب، وقنوان النخل الدانية، والجنات من الاعناب والزيتون والرمان، فكان ذلك أنواعا من الثمر، فجمعت الثمرة ثمرا ثم جمع الثمر ثمارا، ثم جمع ذلك فقيل: انظروا إلى ثمره، فكان ذلك جمع الثمار، والثمار جمع الثمرة، وإثماره: عقد الثمر. وأما قوله: وينعه فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في ينعه إذا فتحت ياؤه: هو جمع يانع، كما التجر: جمع تاجر، والصحب: جمع صاحب. وكان بعض أهل مكة ينكر ذلك ويرى أنه مصدر، من قولهم: ينع الثمر فهو يينع ينعا، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثا: ينع، وينع، وينع، وكذلك في النضج النضج والنضج. وأما في قراءة من قرأ ذلك: ويانعه فإنه يعني به: وناضجه وبالغه وقد يجوز في مصدره ينوعا، ومسموع من العرب: أينعت الثمرة تونع إيناعا ومن لغة اللذين قالوا ينع، قول الشاعر: في قباب عند دسكرة حولها الزيتون قد ينعا
[ 385 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10648 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وينعه يعني: إذا نضج. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: انطروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه قال: ينعه: نضجه. 10649 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي نضجه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وينعه قال: نضجه. 10650 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وينعه يقول: ونضجه. 10651 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وينعه قال: يعني: نضجه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: وينعه قال: نضجه. القول في تأويل قوله تعالى: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. يقول تعالى ذكره: إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كل شئ، والخضر الذي أخرج منه الحب المتراكب، وسائر ما عدد في هذه الآية من صنوف خلقه لآيات يقول: في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموه، علمتم أن له مدبرا ليس كمثله شئ، ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والانداد، وكان فيه حجج وبرهان وبيان
[ 386 ]
لقوم يؤمنون يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخص بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون، لانهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها، دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهة والانداد لله شركاء الجن كما قال جل ثناؤه: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا. وفي الجن وجهان من النصب: أحدهما أن يكون تفسيرا للشركاء، والآخرة: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء وهو خالقهم. واختلفوا في قراءة قوله: وخلقهم فقرأته قراء الامصار: وخلقهم على معنى أن الله خلقهم منفردا بخلقه إياهم. وذكر عن يحيى بن يعمر ما: 10652 - حدثني به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، أنه قال: شركاء الجن وخلقهم بجزم اللام بمعنى أنهم قالوا: إن الجن شركاء لله في خلقه إيانا. وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك وخلقهم لاجماع الحجة من القراء عليها. وأما قوله: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم فإنه يعني بقوله: خرقوا اختلقوا، يقال: اختلق فلان على فلان كذبا واخترقه: إذا افتعله وافتراه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. 10653 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم وخرقوا له بنين وبنات يعني أنهم تخرصوا.
[ 387 ]
10654 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم قال: جعلو له بنين وبنات بغير علم. 10655 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم قال: كذبوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 10656 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وجعلوا لله شركاء الجن كذبوا، سبحانه وتعالى عما يصفون عما يكذبون أما العرب فجعلوا له البنات ولهم ما يشتهون من الغلمان، وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبا، ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون. 10657 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم قال: خرصوا له بنين وبنات. 10658 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم يقول: قطعوا له بنين وبنات، قالت العرب: الملائكة بناة الله، وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزيز ابنا الله. 10659 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم قال: خرقوا: كذبوا لم يكن لله بنون ولا بنات، قالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، فكل خرقوا الكذب. وخرقوا: اخترقوا 10660 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: وجعلوا لله شركاء الجن قال: قول الزنادقة. وخرقوا له قال ابن جريج: قال مجاهد: خرقوا: كذبوا. 10661 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك: وخرقوا له بنين وبنات قال: وصفوا له.
[ 388 ]
10662 - حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، عن أبي عمر: وخرقوا له بنين وبنات قال: تفسيرها: وكذبوا. فتأويل الكلام إذن: وجعلو لله الجن وشركاء في عبادتهم إياه، وهو المنفر، بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير. وخرقوا له بنين وبنات يقول: وتخرصوا لله كذبا، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلا بالله وبعظمته وأنه لا ينبعي لمن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك. القول في تأويل قوله تعالى: سبحانه وتعالى عما يصفون. يقول تعالى ذكره: تنزه الله وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه في ادعائهم له شركاء من الجن واختراقهم له بنين وبنات وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته لان ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الاولاد، والذين تضطرهم لضعفهم الشهوات إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات، وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شئ إلى شئ، ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة. وقوله: تعالى تفاعل من العلو والارتفاع. وروي عن قتادة في تأويل قوله: عما يصفون أنه يكذبون. 10663 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: سبحانه وتعالى عما يصفون عما يكذبون. وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك، أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه من ادعائهم له بنين وبنات، لا أنه وجه تأويل الوصف إلى الكذب. القول في تأويل قوله تعالى: * (بديع السماوات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكم شئ عليم) * يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجن شركاء وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، بديع السموات والارض يعني مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن. كما: 10664 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
[ 389 ]
بديع السموات والارض قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله فخلقهما ولم تكونا شيئا قبله. أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة والولد إنما يكون من الذكر من الانثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة فيكون له ولد وذلك أنه هو الذي خلق كل شئ. يقول: فإذا كان لا شئ إلا الله خلقه، فأنى يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد القول في تأويل قوله تعالى: وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم. يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شئ ولا خالق سواه، وكل ما تدعون أيها العادلون بالله الاوثان من دونه خلقه وعبيده، ملكا كان الذي تدعونه ربا وتزعمون أنه له ولد أو جنيا أو إنسيا. وهو بكل شئ عليم يقول: والله الذي خلق كل شئ، لا يخفى عليه ما خلق ولا شئ منه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء، عالم بعددكم وأعمالكم وأعمال من دعوتموه ربا أو لله ولدا، وهو محصيها عليكم وعليهم حتى يجازي كلا بعمله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل) * يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شئ وهو بكل شئ عليم، هو الله ربكم أيها العادلون بالله الآلهة والاوثان، والجاعلون له الجن شركاء، وآلهتكم التي لا تملك نفعا ولا ضرا ولا تفعل خيرا ولا شرا. لا إله إلا هو وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله، يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون إنه لا شئ له الالوهية والعبادة إلا الذي خلق كل شئ، وهو بكل شئ عليم، فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادة جميع من في السموات والارض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها، فإنه خالق كل شئ وبارئه وصانعه، وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة. فاعبدوه يقول: فذلوا له بالطاعة والعبادة والخدمة، واخضعوا له بذلك. وهو على كل شئ وكيل يقول: والله على كل ما خلق من شئ رقيب وحفيظ يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 390 ]
* (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) * اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: تدركه الابصار وهو يدرك الابصار فقال بعضهم: معناه: لا تحيط به الابصار وهو يحيط بها. ذكر من قال ذلك. 10665 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك. 10666 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو أعظم من أن تدركه الابصار. 10667 - حدثني يونس بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي، في قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم، فذلك قوله: لا تدركه الابصار... الآية. واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: إن الله قال: فلما أدركه الغرق قال آمنت قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون، ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه، ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئا. قالوا: فمعنى قوله: لا تدركه الابصار بمعنى: لا تراه بعيدا، لان الشئ قد يدرك الشئ ولا يراه، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن قيل أصحاب موسى (ص) حين قرب منهم أصحاب فرعون: فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون لان الله قد كان وعد نبيه موسى (ص) أنهم لا يدركون لقوله: ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى. قالوا: فإن كان الشئ قد يرى الشئ ولا يدركه ويدركه ولا يراه، فكان معلوما بذلك أن قوله: لا تدركه الابصار من معنى لا تراه الابصار بمعزل، وأن معنى ذلك: لا تحيط به الابصار لان الاحاطة به غير جائزة. قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة
[ 391 ]
يرون ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم، بمعنى: أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئا يحيط به. قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط به، وكما قال جل ثناؤه: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء. قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء. قالوا: ومعنى العلم في هذا الموضع: المعلوم قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشئ من علمه إلا بما شاء نفي عن أن يعلموه. قالوا: فإذا لم يكن في نفي الاحاطة بالشئ علما نفي للعلم به، كان كذلك لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر نفي رؤيته له. قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون بها علما، كذلك جائز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم، إذ كان معنى الرؤية غير معنى الادراك، ومعنى الادراك غير معنى الرؤية، وأن معنى الادراك: إنما هو الاحاطة، كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل. قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: لا تدركه الابصار لا تراه الابصار ؟ قلنا له: أنكرنا ذلك، لان الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوها في القيامة إليه ناظرة، وأن رسول الله (ص) أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب. قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر وحققت أخبار رسول الله (ص) بما ذكرنا عنه من قيله (ص) أن تأويل قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله، وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضا، وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحد هذين الخبرين ناسخا للآخر، إذ كان غير جائز في الاخبار لما قد بينا في كتابنا: كتاب لطيف البيان عن أصول الاحكام وغيره علم أن معنى قوله: لا تدركه الابصار غير معنى قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله ولا يدركونه بها، تصديقا لله في كلا الخبرين وتسليما لما جاء به تنزيله على ما جاء به في السورتين. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الابصار وهو يرى الابصار. ذكر من قال ذلك.
[ 392 ]
10668 - حدثنا محمد بن الحسين، ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لا تدركه الابصار لا يراه شئ، وهو يرى الخلائق. 10669 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من حدثك أن رسول الله (ص) رأى ربه فقد كذب لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين. 10670 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين: هل رأى محمد ربه ؟ فقالت: سبحان الله، لقد قف شعري مما قلت ثم قرأت: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى وابن علية، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة بنحوه. 10671 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: قالت عائشة: من قال: إن أحدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار. فقال قائلو هذه المقالة: معنى الادراك في هذا الموضع: الرؤية، وأنكروا أن يكون الله يرى بالابصار في الدنيا والآخرة. وتأولوا قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابه. وتأول بعضهم في الاخبار التي رويت عن رسول الله (ص) بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربهم يوم القيامة تأويلات. وأنكر بعضهم مجيئها، ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله (ص)، وردوا القول فيه إلى عقولهم، فزعموا أن عقولهم تحيل جواز الرؤية على
[ 393 ]
الله عزوجل بالابصار وأتوا في ذلك بضروب من التمويهات، وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات. وكان من أجل ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا: فما كان للابصار مباينا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاء وفرجة. قالوا: فإن كانت الابصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الاشحاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودا. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الاجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. قالوا: وأخرى، أن من شأن الابصار أن تدرك الالوان كما من شأن الاسماع أن تدرك الاصوات، ومن شأن المتنشم أن يدرك الاعراف. قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزا أن يقضى للسمع بغير إدراك الاصوات وللمتنشم إلا بإدراك الاعراف، فسد أن يكون جائزا القضاء للبصر إلا بإدراك الالوان. قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفا بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفا بأنه مرئي. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة: الادراك في هذا الموضع: الرؤية. واعتل أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: الادراك وإن كان قد يكون في بعض الاحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصره شيئا فيراه وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له دون ما لم يره. قالوا: وقد أخبر الله أن وجوها يوم القيامة إليه ناظرة، قالوا: فمحال أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤية. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضاد وتعارض، وجب وصح أن قوله: لا تدركه الابصار على الخصوص لا على العموم، وأن معناه: لا تدركه الابصار في الدنيا وهو يدرك الابصار في الدنيا والآخرة، إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص، إلا أنه جائز أن يكون معنى
[ 394 ]
الآية: لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الابصار بالنهاية والاحاطة وأما بالرؤية فبلى. قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الابصار في الدنيا وتدركه في الآخرة، وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصار من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصار خلقه، فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه، هو الذي أثبته لنفسه، إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قواها جل ثناؤه على النفوذ فيه، وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شئ. قالوا: ولا شك في خصوص قوله: لا تدركه الابصار وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، غير أنا لا ندري أي معاني الخصوص الاربعة أريد بالآية. واعتلوا بتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة بنحو علل الذين ذكرنا قبل. وقال آخرون: الآية على العموم، ولن يدرك الله بصر أحد في الدنيا والآخرة ولكن الله يحدث لاوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها. واعتلوا لقولهم هذا، بأن الله تعالى ذكره نفى عن الابصار أن تدركه من غير أن يدل فيها أو بآية غيرها على خصوصها. قالوا: وكذلك أخبر في آية أخرى أن وجوها إليه يوم القيامة ناظرة. قالوا: قأخبار الله لا تتباين ولا تتعارض، وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنزيل. واعتلوا أيضا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه وإن زيد في قواها وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت، لان كل حاسة خلقت لادراك معنى من المعاني فهي وإن ضعفت كل الضعف فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لادراكه وإن ضعف إدراكها إياه ما لم تعدم. قالوا: فلو كان في البصر أن يدرك صانعه في حال من الاحوال أو وقت من الاوقات ويراه، وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها وإن ضعف إدراكه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا، كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أن وجوها في الآخرة تراه، علم أنها تراه بغير حاسة البصر، إذ كان غير جائز أن يكون خبره إلا حقا. والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها
[ 395 ]
سحاب فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يومئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. فأما ما اعتل به منكرو رؤية الله يوم القيامة بالابصار، لما كانت لا ترى إلا ما باينها، وكان بينها وبينه فضاء وفرجة، وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالابصار كذلك لان في ذلك إثبات حد له ونهاية، فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه، وأنه يقال لهم: هل علمتم موصوفا بالتدبير سوى صانعكم إلا مماسا لكم أو مباينا ؟ فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك كلفوا تبيينه، ولا سبيل إلى ذلك. وإن قالوا: لا نعلم ذلك، قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسا لكم ولا مباينا، وهو موصوف بالتدبير والفعل، ولم يجب عندكم إذ كنتم لم تعلموا موصوفا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسا لكم أو مباينا أن يكون مستحيلا العلم به وهو موصوف بالتدبير والفعل، لا مماس ولا مباين ؟ فإن قالوا: ذلك كذلك، قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الابصار كذلك لا ترى إلا ما باينها، وكانت بينه وبينها فرجة قد تراه وهو غير مباين لها، ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء، كما لا تعلم القلوب موصوفا بالتدبير إلا مماسا لها أو مباينا وقد علمته عندكم لا كذلك ؟ هل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفا بالتدبير والفعل معلوما لا مماسا للعالم به أو مباينا وأجاز أن يكون موصوفا برؤية الابصار لا مماسا لها ولا مباينا فرق ؟ ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في شئ من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك، إن من شأن الابصار إدراك الالوان، كما أن من شأن الاسماع إدراك الاصوات، ومن شأن المتنسم درك الاعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يقتضى السمع لغير درك الاصوات فسد أن تقتضي الابصار لغير درك الالوان. فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم موصوفا بالتدبير والفعل إلا ذا لون، وقد علمتموه موصوفا بالتدبير لا ذا لون ؟ فإن قالوا نعم، لا يجدون من الاقرار بذلك بدا إلا أن يكذبوا، فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفا بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفوا بيان ذلك، ولا سبيل إليه، فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك فما أنكرتم أن تكون الابصار فيما
[ 396 ]
شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الالوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفا بالتدبير إلا ذا لون وقد وجدتموها علمته موصوفا بالتدبير غير ذي لون ؟ ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئا إلا ألزموا في الآخر مثله. ولاهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة ولا رواية عن رسول الله (ص) صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة وأما قوله: وهو اللطيف الخبير فإنه يقول: والله تعالى ذكره الميسر له من إدراك الابصار، والمتأتي له من الاحاطة بها رؤية ما يعسر على الابصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها. الخبير يقول: العليم بخلقه وأبصارهم والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه فلطف بقدرته، فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه، وخبر بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه. كالذي: 10672 - حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: اللطيف الخبير قال: اللطيف باستخراجها، الخبير بمكانها. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) * وهذا أمر من الله جل ثناؤه نبيه محمدا (ص) أن يقول لهؤلاء الذين نبههم هذه الآيات من قوله: إن الله فالق الحب والنوى... إلى قوله: وهو اللطيف الخبير على حججه عليهم، وعلى تبيين خلقه معهم، العادلين به الاوثان والانداد، والمكذبين بالله ورسوله محمد (ص) وما جاءهم من عند الله. قل لهم يا محمد: قد جاءكم أيها العادلون بالله والمكذبون رسوله بصائر من ربكم أي ما تبصرون به الهدى من الضلال والايمان من الكفر. وهي جمع بصيرة، ومنه قول الشاعر:
[ 397 ]
حملوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وأي يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة. كما: 10673 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: قد جاءكم بصائر من ربكم قال: البصائر: الهدى بصائر في قلوبهم لدينهم، وليست ببصائر الرؤوس. وقرأ: فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور قال: إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب. 10674 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قد جاءكم بصائر من ربكم أي بينة. وقوله: فمن أبصر فلنفسه يقول: فمن تبين حجج الله وعرفها وأقر بها وآمن بما دلته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به، فإنما أصاب حظ نفسه ولنفسه عمل، وإياها بغى الخير. ومن عمي فعليها يقول: ومن لم يستدل بها ولم يصدق بما دلته عليه من الايمان بالله ورسوله وتنزيله، ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها، يقول: فنفسه ضر وإليها أساء لا إلى غيرها. وأما قوله: وما أنا عليكم بحفيظ يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والله الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شئ من أعمالكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) *. يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم أيها الناس الآيات والحجج في هذه السورة وبينتها، فعرفتكموها في توحيدي وتصديق رسولي وكتابي ووصيتكم عليها، فكذلك أبين لكم آياتي وحججي في كل ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي. كما:
[ 398 ]
10675 - حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وكذلك نصرف الآيات لهؤلاء العادلين بربهم، كما صرفتها في هذه السورة، ولئلا يقولا: درست. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والكوفة: وليقولوا درست يعني قرأت أنت يا محمد بغير ألف. وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين منهم ابن عباس على اختلاف عنه فيه، وغيره وجماعة من التابعين، وهو قراءة بعض قراء أهل البصرة: وليقولوا دارست بألف، بمعنى: قارأت وتعلمت من أهل الكتاب. وروى عن قتادة أنه كان يقرؤه: درست بمعنى: قرئت وتليت. وعن الحسن أنه كان يقرؤه: درست بمعنى: انمحت. وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: وليقولوا درست بتأويل: قرأت وتعلمت لان المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي (ص) وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين فهذا خبر من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فقراءة: وليقولوا درست يا محمد، بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب، أشبه بالحق وأولى بالصواب من قراءة من قرأه: دارست بمعنى: قارأتهم وخاصمتهم، وغير ذلك من القراءات. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على قدر اختلاف القراءة في قراءته. ذكر من قرأ ذلك وليقولوا درست من المتقدمين، وتأويله بمعنى: تعلمت وقرأت. 10676 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، قال: ثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وليقولوا درست قالوا: قرأت وتعلمت تقول ذلك قريش. 10677 - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: وليقولوا درست قال: قرأت وتعلمت.
[ 399 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل وافقه، عن أبي إسحاق عن التيمي، عن ابن عباس: وليقولوا درست قال: قرأت وتعلمت. 10678 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وليقولوا درست يقول: قرأت الكتب. 10679 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنى عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: درست يقول: تعلمت وقرأت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا بن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التيمي، قال: قلت لابن عباس: أ رأيت قوله: درست ؟ قال: قرأت وتعلمت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التيمي، عن ابن عباس، مثله. ذكر من قال ذلك دارست وتأوله بمعنى: جادلت من المتقدمين. 10680 - حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد، عن ابن عباس: دارست يقول: قارأت. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها: وليقولوا دارست أحسبه قال: قارأت أهل الكتاب. حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: وليقولوا دارست قال: قارأت وتعلمت. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت التميمي يقول: سألت ابن عباس عن قوله: وليقولوا دارست قال: قارأت وتعلمت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس يقرؤها: دارست. حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو المعلى،
[ 400 ]
قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان ابن عباس يقرأ: دارست بالالف، بجزم السين ونصب التاء. حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: أخبرني عمرو بن كيسان، أن ابن عباس كان يقرأ: دارست تلوت، خاصمت، جادلت. حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن كيسان، قال ابن عباس في: دارست قال: تلوت، خاصمت، جادلت. 10681 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: وليقولوا دارست قال: قارأت. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، أنه قرأ: دارست بالالف أيضا منتصبة التاء، وقال: قارأت. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ: دارست أي ناسخت. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: دارست قال: فاقهت: قرأت على يهود وقرءوا عليك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وليقولوا دارست قال: قارأت، قرأت على يهود وقرءوا عليك. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: دارست يعني: أهل الكتاب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: دارست قال: قرأت على يهود، وقرءوا عليك. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: وليقولوا دارست قال: قالوا دارست أهل الكتاب، وقرأت الكتب وتعلمتها.
[ 401 ]
ذكر من قرأ ذلك درست بمعنى: نبئت وقرئت، على وجه ما لم يسم فاعله: 10682 - حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا الحسين المعلم وسعيد، عن قتادة: وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست أي قرئت وتعلمت. 10683 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال قتادة: درست قرئت. وفي حرف ابن مسعود: درس. ذكر من قرأ ذلك: درست بمعنى: انمحت وتقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديما وتطاولت مدته: 10684 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقرأ: وليقولوا درست: أي انمحت. 10685 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إسحاق الهمذاني، قال في قراءة ابن مسعود: درست بغير ألف، بنصب السين ووقف التاء. 10686 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن الزبير يقول: إن صبيانا ههنا يقرءون: دارست وإنما هي درست. 10687 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال الحسن: وليقولوا درست يقول: تقادمت وانمحت. وقرأ ذلك آخرون: درس، من درس الشئ: تلاه. 10688 - حدثنا أحمد بن يوسف الثعلبي، قال: ثنا أبو عبيدة، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: وليقولوا درس قال يعني النبي (ص) قرأ. وإنما جاز أن يقال مرة درست، ومرة درس، فيخاطب مرة ويخبر مرة، من أجل القول.
[ 402 ]
وقد بينا أولى هذه القراءات في ذلك بالصواب عندنا، والدلالة على صحة ما اخترنا منها. وأما تأويل قوله: ولنبينه لقوم يعلمون يقول تعالى ذكره: كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والانداد، كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها، كيلا يقولوا لرسولنا الذي أرسلناه إليهم إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب، فينزجروا عن تكذيبهم إياه وتقولهم عليه الافك والزور، ولنبين تصريفنا الآيات الحق لقوم يعلمون الحق إذا تبين لهم، فيتبعوه ويقبلوه، وليسوا كمن إذا بين لهم عموا عنه فلم يعقلوه وازدادوا من الفهم به بعدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (اتبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ئ ولو شآء الله مآ أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): اتبع يا محمد ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك، فاعمل به، وانزجر عما زجرك عنه فيه، ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الاوثان والاصنام، فإنه لا إله إلا هو يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحب والنوى وفالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا. وأعرض عن المشركين، يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم. ثم نسخ ذلك جل ثناؤه بقوله في براءة: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم... الآية. كما: 10689 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، أما قوله: وأعرض عن المشركين ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين، فإنه نسخ ذلك قوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. القول في تأويل قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): أعرض عن هؤلاء المشركين بالله، ودع عنك
[ 403 ]
جدالهم وخصومتهم ومسابتهم. ولو شاء الله ما أشركوا يقول: لو أرادوا بك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئا ولا آمنوا بك فاتبعوك وصدقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك. وما جعلناك عليهم حفيظا يقول جل ثناؤه: وإنما بعثتك إليهم رسولا مبلغا، ولم نبعثك حافظا عليهم ما هم عاملوه وتحصي ذلك عليهم، فإن ذلك إلينا دونك. وما أنت عليهم بوكيل يقول: ولست عليهم بقيم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم، ولا بحفظهم فيما لم يجعل إليك حفظه من أمرهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10690 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ولو شاء الله ما أشركوا يقول سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) *. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) وللمؤمنين به: ولا تسبوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والانداد، فيسب المشركون الله جهلا منهم بربهم واعتداء بغير علم. كما: 10691 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم قال: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم. 10692 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله.
[ 404 ]
10693 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم قال: لما حضر أبا طالب الموت، قالت قريش: انطلقوا بنا، فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهي عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحرث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والاسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب، قالوا: استأذن على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك، يريدون الدخول عليك. فأذن لهم، فدخلوا عليه، فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه. فدعاه، فجاء النبي (ص)، فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله (ص): ما تريدون ؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك، فا قبل منهم فقال النبي (ص): أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب، ودانت لكم بها العجم بالخراج ؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها، فما هي ؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب: يا ابن أخي قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها قال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. إرادة أن يؤيسهم. فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا، أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فذلك قوله فيسبوا الله عدوا بغير علم. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير علم، فأنزل الله: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. 10694 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: فيسبوا الله عدوا بغير علم قال: إذا سببت إلهه سب إلهك، فلا تسبوا آلهتهم. وأجمعت الامة من قراء الامصار على قراءة ذلك: فيسبوا الله عدوا بغير علم بفتح العين وتسكين الدال، وتخفيف الواو من قوله: عدوا على أنه مصدر من قول القائل: عدا فلان على فلان: إذا ظلمه واعتدى عليه، يعدو عدوا وعدوانا، والاعتداء: إنما هو افتعال من ذلك. روي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: عدوا مشددة الواو.
[ 405 ]
10695 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن عثمان بن سعد: فيسبوا الله عدوا مضمومة العين مثقلة. وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: فيسبوا الله عدوا يوجه تأويله إلى أنهم جماعة، كما قال جل ثناؤه: فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، وكما قال: لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء ويجعل نصب العدو حينئذ على الحال من ذكر المشركين في قوله: فيسبوا. فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله، فيسب المشركون الله أعداء الله بغير علم. وإذا كان التأويل هكذا كان العدو من صفة المشركين ونعتهم، كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله بغير علم، ولكن العدو لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة نصب على الحال. والصواب من القراءة عندي في ذلك قراءة من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو لاجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك، وغير جائز خلافها فيما جاءت مجمعة عليه. القول في تأويل قوله تعالى: كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. يقول تعالى ذكره: كما زينا لهؤلاء العادلين بربهم الاوثان والاصنام عبادة الاوثان وطاعة الشيطان بخذ لاننا إياهم عن طاعة الرحمن، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على عمل من الاعمال من طاعة الله ومعصيته عملهم الذي هم عليه مجتمعون، ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون، يقول: فيوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا، ثم يجازيهم بها إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر، أو يعفو بفضله ما لم يكن شركا أو كفرا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) *. يقول تعالى ذكره: حلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم، وذلك أوكد ما قدوا عليه من الايمان وأصعبها وأشدها: لئن جاءتهم آية يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا
[ 406 ]
آية تصدق ما تقول يا محمد مثل الذي جاء من قبلنا من الامم. ليؤمنن بها يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك، وأنك لله رسول مرسل، وأن ما جئتنا به حق من عند الله. وقيل: ليؤمنن بها، فأخرج الخبر عن الآية والمعنى لمجئ الآية. يقول لنبيه (ص): قل إنما الآيات عند الله وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه. وما يشعركم يقول وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 10696 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها إلى قوله: يجهلون سألت قريش محمدا (ص) أن يأتيهم بآية، واستحلفهم ليؤمنن بها. 10697 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ثم ذكر مثله. 10698 - حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كلم رسول الله (ص) قريشا، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة ؟ فأتنا بشئ من الآيات حتى نصدقك فقال النبي (ص): أي شئ تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني ؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون فقام رسول الله (ص) يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: لك ما شئت إن شئت أصبح ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال: بل يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى: وأقسموا بالله... إلى قوله: يجهلون. القول في تأويل قوله تعالى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون فقال بعضهم: خوطب بقوله: وما يشعركم المشركون المقسمون بالله لئن جاءتهم آية
[ 407 ]
ليؤمنن، وانتهى الخبر عند قوله: وما يشعركم ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافا مبتدأ. ذكر من قال ذلك: 10699 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وما يشعركم قال: ما يدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما يشعركم وما يدريكم أنها إذا جاءت ؟ قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. 10700 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: سمعت عبد الله بن زيد يقول: إنما الآيات عند الله، ثم تستأنف فيقول: أنها إذا جاءت لا يؤمنون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: إنما الآيات عند الله وما يشعركم: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون. وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف: أنها على أن قوله: أنها إذا جاءت لا يؤمنون خبر مبتدأ منقطع عن الاول، وممن قرأ ذلك كذلك بعض قراء المكيين والبصريين. وقال آخرون منهم: بل ذلك خطاب من الله نبيه (ص) وأصحابه، قالوا: وذلك أن الذين سألوا رسول الله (ص) أن يأتي بآية، المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا، واتبعوا رسول الله (ص)، فقال أصحاب رسول الله (ص): سل يا رسول الله ربك ذلك فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك، قل للمؤمنين بك يا محمد: إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به ففتحوا الالف من أن. وممن قرأ ذلك كذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة، وقالوا: أدخلت لا في قوله: لا يؤمنون صلة، كما أدخلت في قوله: ما منعك ألا تسجد، وفي قوله: وحرام على
[ 408 ]
قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا، وما منعك أن تسجد. وقد تأول قوم قرءوا ذلك بفتح الالف من: أنها بمعنى: لعلها، وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وقد ذكر عن العرب سماعا منها: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئا، بمعنى: لعلك تشتري وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العبادي: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد بمعنى: لعل منيتي وقد أنشدوني بيت دريد بن الصمة: ذريني أطوف في البلاد لانني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا بمعنى: لعلني. والذي أنشدني أصحابنا عن الفراء: لعلني أرى ما ترين. وقد أنشد أيضا بيت توبة بن الحمير: لعلك يا تيسا نزا في مريرة معذب ليلى أن تراني أزورها
[ 409 ]
لهنك يا تيسا، بمعنى: لانك التي في معنى لعلك وأنشد بيت أبي النجم العجلي: قلت لسينان ادن من لقائه إنا نغدي القوم من سرائه يعني: لعنا نغدي القوم. وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله، أعنى قوله: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن قوله أنها بمعنى: لعلها. وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قراء الامصار بالياء من قوله: لا يؤمنون ولو كان قوله: وما يشعركم خطابا للمشركين، لكانت القراءة في قوله: لا يؤمنون بالتاء، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قراء المكيين كذلك، فقراءة خارجة عما عليه قراء الامصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها. وإنما معنى الكلام: وما يدريكم أيها المؤمنون لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخروا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنا جئناهم بآية كما سألوا ما آمنوا كما لم يؤمنوا بما قبلها أول مرة، لان الله حال بينهم وبين ذلك. ذكر من قال ذلك: 10701 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 410 ]
عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة... الآية، قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شئ وردت عن كل أمر. 10702 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم قال: نمنعهم من ذلك كما فعلنا بهم أول مرة. وقرأ: كما لم يؤمنوا به أول مرة. 10703 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم قال: نحول بينهم وبين الايمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الايمان أول مرة. وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا، فلا يؤمنون كما فعلنا بهم ذلك، فلم يؤمنوا في الدنيا. قالوا: وذلك نظير قوله: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. ذكر من قال ذلك: 10704 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: أخبر الله سبحانه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، قال: ولا ينبئك مثل خبير: إن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين يقول: من المهتدين. فأخبر الله سبحانه، أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، وقال: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرفها كيف شاء، وأن ذلك بيده يقيمه إذا شاء ويزيغه إذا أراد، وأن قوله: كما لم يؤمنوا به أول مرة دليل على محذوف من الكلام، وأن قوله كما تشبيه ما بعده بشئ يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، قال: ولا ينبئك مثل خبير: إن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين يقول: من المهتدين. فأخبر الله سبحانه، أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، وقال: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرفها كيف شاء، وأن ذلك بيده يقيمه إذا شاء ويزيغه إذا أراد، وأن قوله: كما لم يؤمنوا به أول مرة دليل على محذوف من الكلام، وأن قوله كما تشبيه ما بعده بشئ
[ 411 ]
قبله. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتهم فنزيغها عن الايمان، وأبصارهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة، وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها مرة قبل ذلك. وإذا كان ذلك تأويله كانت الهاء من قوله: كما لم يؤمنوا به كناية ذكر التقليب. القول في تأويل قوله تعالى: ونذرهم في طغيانهم يعمهون. يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها في تمردهم على الله واعتدائهم في حدوده، يترددون لا يهتدون لحق ولا يبصرون صوابا، قد غلب عليهم الخذلان واستحوذ عليهم الشيطان. تم الجزء السابع من تفسير ابن جرير الطبري ويليه الجزء الثامن وأوله: القول في تأويل قوله: ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة