جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 6

[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آى القرآن تأليف أبى جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ه‍ سنة قدم له الشيخ خليل الميسس ضبط وتوثيق وتخريج صدق جميل العطار الجزء السادس دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
[ 2 ]
جميع حقوق اعادة الطبع محقوظة للناشر 1451 ه‍ / 1995 م
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما) *. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار بضم الظاء. وقرأه بعضهم: إلا من ظلم بفتح الظاء. ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم الظاء في تأويله فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أني جهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلا من ظلم يقول: إلا من ظبم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لانه قد رخص له في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد رخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فإنه يحب الجهر بالسوء من القول. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو. حدثني الحرث، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: هو الرجل يظلم الرجل، فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي اللهم حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.
[ 4 ]
فمن على قول ابن عباس هذا في موضع رفع، لانه وجهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه، فكان معنى الكلام على قوله: لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول، إلا المظلوم فلا حرج عليه في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية، وذلك أن من لا يجوز أن يكون رفعا عندهم بالجهر، لانها في صلة أن، وأن لم ينله الجحد فلا يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال: لا يعجبني أن يقوم إلا زيد. وقد يحتمل أن تكون من نصبا على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول كلاما تاما، ثم قيل: إلا من ظلم فلا حرج عليه، فيكون من استثناء من الفعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شئ ظاهر يستثنى منه، كما قال جل ثناؤه: لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر وكقولهم: إني لاكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك. ولم يذكر قبله شئ من الاسماء. ومن على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم كما ذكرنا قبل في تأويل قوا ابن عباس إذا وجه من إلى النصب، وكقول القائل كان من النصب كذا وكذا اللهم إلا أن فلانا جزاه الله خيرا فعل كذا وكذا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، إلا من ظلم فيخبر بما نيل منه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد، قال: هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده، فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، إلا من ظلم قال: إلا من آثر ما قيل له. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيع، عن مجاهد: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
[ 5 ]
وقال آخرون: عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يقريه، فينال من الذي لم يقره. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد في قوله: إلا من ظلم قال: إلا من ظلم فانتصر يجهر بالسوء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيع، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد. وعن حميد الاعرج، عن مجاهد: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص الله له أن يقول فيه. حدثنى أحمد بن حماد الدولابي، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال: هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه، رخص الله له أن يقول فيهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول... الآية، قال: ضاف رجل رجلا، فلم يؤد إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال: ضفت فلانا فلم يود حق ضيافتي، فذلك جهر بالسوء إلا من ظلم حين لم يود إليه ضيافته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: إلا من ظلم فانتصر يجهر بسوء. قال مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الارض فلم يضفه، فنزلت إلا من ظلم ذكر أنه لم يضفه، لا يزيد على ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، فإن الله قد أذن له في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد من الخلق، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم، فليس عليه جناح. ف من على هذه الاقوال التي ذكرناها سوى قول ابن عباس في موضع نصب على انقطاعه من الاول، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا في الاستثناء المنقطع فكان
[ 6 ]
معنى الكلام على هذه الاقوال سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه أو ينتصر ممن ظلمه. وقرأ ذلك آخرون بفتح الظاء: إلا من ظلم وتأولوه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، إلا من ظلم، فلا بأس أن يجهر له بالسوء من القول. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي يقرأ: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ابن زيد: يقول: إلا من أقام على ذلك النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع. قال: وهذه مثل: ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق أن تسميه بالفسق بعد الايمان بعد إذ كان مؤمنا، ومن لم يتب من ذلك العمل الذي قيل له، فأولئك هم الظالمون قال: هو أشر ممن قال ذلك له. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فقرأ: إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار حتى بلغ: وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ثم قال بعد ما قال: هم في الدرك الاسفل من النار. ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال: لا يحب الله أن يقول لهذا: ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت ؟ من بعد ما تاب، إلا من ظلم، إلا من أقام على النفاق. قال: وكان أبي يقول ذلك له ويقرؤها: إلا من ظلم. فمن على هذا التأويل نصب لتعلقه بالجهر. وتأويل الكلام على قول قائل هذا القول. لا يحب الله أن يجهر أحد لاحد من المنافقين بالسوء من القول إلا من ظلم منهم، فأقام على نفاقه فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: إلا من ظلم بضم الظاء، لاجماع الحجة من القراء وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح. فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فالصواب في تأويل ذلك: لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحد لاحد بالسوء من القول إلا من ظلم بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسئ إليه. وإذا كان ذلك معناه، دخل فيه إخبار من لم يقر أو أسئ
[ 7 ]
قراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه، لان في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له. وإذ كان ذلك كذلك، ف من في موضع نصب، لانه منقطع عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قول: لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر. وأما قوله: وكان الله سميعا عليما فإنه يعني: وكان الله سميعا لما يجهرون به من سوء القول لمن يجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم، عليما بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به، فلا تجهرون له به، محص كل ذلك عليكم حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءكم المسئ باساءته والمحسن بإحسانه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) *. يعني بذلك جل ثناؤه إن تبدوا أيها الناس خيرا يقول: إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك شكرا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم، أو تخفوه يقول: أو تتركوا إظهار ذلك فلا تبدوه، أو تعفوا عن سوء يقول: أو تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به. فإن الله كان عفوا يقول: لم يزل ذا عفو عن خلقه، يصفح لهم عمن عصاه وخالف أمره. قديرا يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم. وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه. يقول: فاعفوا أنتم أيضا أيها الناس عمن أتى إليكم ظلما، ولا تجهروا له بالسوء من القول وإن قدرتم على الاساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم وأنتم تعصونه وتخالفون أمره. وفي قوله جل ثناؤه: إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا الدلالة الواضحة على أن تأويل قوله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم بخلاف التأويل الذي تأوله زيد ابن أسلم في زعمه أن معناه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لاهل النفاق، إلا من أقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. وذلك أنه
[ 8 ]
جل ثناؤه قال عقيب ذلك: إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ومعقول أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم، ولا نهاهم أن يسموا من كان منهم معلن النفاق منافقا، بل العفو عن ذلك مما لا وجه له معقول، لان العفو المفهوم إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق، وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لاحد قبله فيؤمر بعفوه عنه، وإنما هو اسم له، وغير مفهوم الامر بالعفو عن تسمية الشئ بما هو اسمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ئ أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين يكفرون بالله ورسله من اليهود والنصارى، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعمون أنهم افتروا على ربهم، وذلك هو معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله، وادعائهم عليهم الاباطيل. ويقولون نؤمن ببعض يعني أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وتصديقهم بموسى وسائر الانبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا (ص) وتصديقهم بعيسى وسائر الانبياء قبله بزعمهم. ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا يقول: ويريد المفرقون بين الله ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أن يتخذوا بين أضعاف قولهم: نؤمن ببعض الانبياء ونكفر ببعض، سبيلا: يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. فقال جل ثناؤه لعباده، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم: أولئك هم الكافرون حقا يقول: أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفربي، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقا، فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كذبة. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل، هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن وأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض، فهو لنبوة من كذب
[ 9 ]
ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الانبياء وزعموا أنهم مصدقون ببعض، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوة أنبيائه، حق الجحود المكذبون بذلك حق التكذيب، فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا. وأما قوله: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا فإنه يعني: وأعتدنا لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفار عذابا في الآخرة مهينا، يعني: يهين من عذب به بخلوده فيه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالانجيل وعيسى وآمنت النصارى بالانجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد (ص)، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الاسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله يقولون: محمد ليس برسول لله وتقول اليهود: عيسى ليس برسول لله، فقد فرقوا بين الله وبين رسله. ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: إن الذين يكفرون بالله ورسله... إلى قوله: بين ذلك سبيلا قال: اليهود والنصارى: آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير، وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر. ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا قال: دينا يدينون به الله. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 10 ]
(والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: والذين صدقوا بوحدانية الله، وأقروا بنبوة رسله أجمعين، وصدقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه ولم يفرقوا بين أحد منهم يقول: ولم يكذبوا بعضهم، ويصدقوا بعضهم، ولكنهم أقروا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق. أولئك يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله، سوف يؤتيهم يقول: سوف يعطيهم أجورهم يعني: جزاءهم، وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه وما جاءت به من عند الله. وكان الله غفورا يقول: يغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه، فيستر عليه بعفوه له عنه وتركه العقوبة عليه، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورا رحيما، يعني: ولم يزل بهم رحيما بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار. القول في تأويل قوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: يسئلك يا محمد أهل الكتاب يعني بذلك: أهل التوراة من اليهود، أن تنزل عليهم كتابا من السماء. واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي سأل اليهود محمدا (ص) أن ينزل عليهم من السماء، فقال بعضهم: سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء قالت اليهود: إن كنت صادقا أنك رسول الله، فأتنا كتابا مكتوبا من السماء كما جاء به موسى. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن
[ 11 ]
كعب القرظي، قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله (ص)، فقالوا: إن موسى جاء بالالواح من عند الله، فأتنا بالالواح من عند الله حتى نصدقك فأنزل الله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء... إلى قوله: وقولهم على مريم بهتانا عظيما. وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل عليهم كتابا خاصة لهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء أي كتابا خاصة فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة. وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالامر بتصديقه واتباعه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي (ص)، فقالوا: لن نتابعك على ما تدعونا إليه، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله قال الله جل ثناؤه: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول الله (ص) أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء آية، معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدة لرسول الله (ص) بالصدق، آمرة لهم باتباعه. وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم، وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لينزل الكتاب الواحد إلى جماعتهم لذكر الله تعالى في خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد، بقوله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ولم يقل: كتبا. وأما قوله: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فإنه توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله (ص) أن ينزله عليهم من السماء في مسألتهم إياه ذلك، وتقريع منه لهم. يقول لنبيه (ص): يا محمد لا يعظمن عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله
[ 12 ]
وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل، واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم لانهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافلهم. ثم قص الله من قصتهم وقصة موسى ما قص، يقول الله: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك يعني: فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء فقالوا له أرنا الله جهرة: أي عيانا نعاينه وننظر إليه. وقد أتينا على معنى الجهرة بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك بما: حدثني به الحرث، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا حجاج، عن هارون بن موسى، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنما قالوا: جهرة أرنا الله قال: هو مقدم ومؤخر. وكان ابن عباس يتأول ذلك أن سؤالهم موسى كان جهرة. وأما قوله: فأخذتهم الصاعقة فإنه يقول: فصعقوا بظلمهم أنفسهم، وظلمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة، لان ذلك مما لم يكن لهم مسألته. وقد بينا معنى الصاعقة فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب. وأما قوله: ثم اتخذوا العجل فإنه يعني: ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة، بعد ما أحياهم الله، فبعثهم من صعقتهم، العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام، إلها
[ 13 ]
يعبدونه من دون الله. وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل وكيف كان أمرهم وأمره فيما مضى بما فيه الكفاية. وقوله: من بعد ما جاءتهم البينات يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البينات من الله، والدلالات الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا. وإنما عنى بالبينات: أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة، وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك، إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك. يقول الله مقبحا إليهم فعلهم ذلك وموضحا لعباده جهلهم ونقص عقولهم وأحلامهم: ثم أقروا للعجل بأنه لهم إله، وهم يرونه عيانا وينظرون إليه جهارا، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم، أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدقين بألوهته. وقوله: فعفونا عن ذلك يقول: فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه، وللمصدقين منهم بأنه إلههم، بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسهم وصبرهم في ذلك على أمر ربهم. وآتينا موسى سلطانا مبينا يقول: وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقية نبوته، وتلك الحجة هي الآيات البينات التي آتاه الله إياها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: ورفعنا فوقهم الطور يعني: الجبل، وذلك لما أمتنعوا من العمل بما في التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى فيها. بميثاقهم يعني: بما أعطوا الله الميثاق والعهد: لنعملن بما في التوراة. وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا يعني: باب حطة، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودا، فدخلوا يزحفون على أستاههم. وقلنا لهم لا
[ 14 ]
تعدوا في السبت يعني بقوله: لا تعدوا في السبت: لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا قال: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس. وقلنا لهم لا تعدوا في السبت أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحل لهم ما وراء ذلك. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أمصار الاسلام: لا تعدوا في السبت بتخفيف العين من قول القائل: عدوت في الامر: إذا تجاوزت الحق فيه، أعدو عدوا وعدوانا وعداء. وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة: وقلنا لهم لا تعدوا بتسكين العين وتشديد الدال والجمع بين ساكنين، بمعنى: تعتدوا ثم تدغم التاء في الدال فتصير دالا مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ: أم من لا يهدي بتسكين الهاء. وقوله وأخذنا منهم ميثاقا غليظا يعني: عهدا مؤكدا شديدا، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به وينتهون عما نهاهم الله عنه مما ذكره في هذه الآية ومما في التوراة. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدا، وما كان من أمرهم في ذلك، وخبرهم وقصتهم، وقصة السبت، وما كان اعتداؤهم فيه، بما أغنى عن إعادته لفي هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *. يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم، يعني عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة. وكفرهم بآيات الله يقول: وجحودهم بآيات الله، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله، وحقية ما جاءوهم به من عنده. وقتلهم الانبياء بغير حق يقول: وبقتلهم الانبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوتهم بغير حق، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها. وقولهم: قلوبنا غلف يعني: وبقولهم: قلوبنا غلف،
[ 15 ]
يعني يقولون: عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه، فلا نفقه ما تقول، ولا نعقله. وقد بينا معنى الغلف، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل. بل طبع الله عليها بكفرهم يقول جل ثناؤه: كذبوا في قولهم قلوبنا غلف، ما هي بغلف ولا عليها أغطية ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله. وقد بينا صفة الطبع على القلب فيما مضى بما أغنى عن إعادته. فلا يؤمنون إلا قليلا يقول: فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف الله صفتهم لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله إلا إيمانا قليلا، يعني: تصديقا قليلا. وإنما صار قليلا لانهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدقوا ببعض الانبياء وببعض الكتب وكذبوا ببعض، فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا، لانهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به مكذبون من وجه آخر. وذلك من وجه تكذيبهم من كذبوا به من الانبياء وما جاءوا به من كتب الله ورسل الله يصدق بعضهم بعضا، وبذلك أمر كل نبي أمته، وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا، فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقر بصحته، فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: فبما نقضهم ميثاقهم يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم وقولهم قلوبنا غلف: أي لا نفقه، بل طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم حين فعلوا ذلك. واختلف في معنى قوله: فبما نقضهم... الآية، هل هو مواصل لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه ؟ فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فلا
[ 16 ]
يؤمنون إلا قليلا لما ترك القوم أمر الله، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم. طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الانبياء بغير حق وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضا، ومعناه مردود إلى أوله. وتفسير ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما فسر به تعالى ذكره من نقضهم الميثاق، وقتلهم الانبياء، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم. والصواب من القول في ذلك أن قوله: فبما نقضهم ميثاقهم وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأن معنى الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا، لعناهم وغضبنا عليهم، فترك ذكر لعناهم لدلالة قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم على معنى ذلك، إذ كان من طبع على قلبه فقد لعن وسخط عليه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الذين أخذتهم الصاعقة إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الانبياء والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا: قتلنا المسيح، كانوا بعد موسى بدهر طويل، ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ولا من صعق من قومه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة لرميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم. وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا انفصال معنى قوله: فبما نقضهم ميثاقهم من معنى قوله: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما يعني: بفريتهم عليها، ورميهم إياها بالزنا، وهو البهتان العظيم لانهم رموها بذلك وهي مما رموها به بغير ثبت ولا برهان بريئة، فبهتوها بالباطل من القول. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح،
[ 17 ]
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وقولهم على مريم بهتانا عظيما يعني أنهم رموها بالزنا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: قوله: وقولهم على مريم بهتانا عظيما حين قذفوها بالزنا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن جويبر في قوله: وقولهم على مريم بهتانا عظيما قال: قالوا زنت. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم أنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه، ولكن شبه لهم. واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى، فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعا حولوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لاصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم: أنا. فخرج إليهم فقال: أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:
[ 18 ]
حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما، فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم، وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه، حتى إذا فرغ من ذلك، قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء أن يوخر أجلي فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم. وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه، ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه. ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك، فبكى وأحزنه. فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون ؟ أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا. ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى، فقال: علام تبكيان ؟ قالتا عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شئ شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تاب لتاب الله عليه ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له:
[ 19 ]
يحنا، فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم، فلينذرهم وليدعهم. وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبه، فقتل ذلك الرجل ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه... إلى قوله: وكان الله عزيزا حكيما أولئك أعداء الله اليهود اشتهروا بقتل عيسى بن مريم رسول الله، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لاصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول ؟ فقال رجل من أصحابه: أنا يا نبي الله. فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم قال: ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل، وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه وله الجنة ؟ فقال رجل: علي. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لاصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم. وصعد بعيسى إلى السماء، فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صعد به إلى السماء، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة، ويرون صورة عيسى فيهم، فشكوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه، فذلك قول الله تبارك وتعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم... إلى قوله: وكان الله عزيزا حكيما. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بزة: أن عيسى ابن مريم قال: أيكم يلقي عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فقال
[ 20 ]
رجل من أصحابه: أنا يا رسول الله. فألقي عليه شبهه، فقتلوه، فذلك قوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله، رجلا منهم يقال له: داود، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه، ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه حتى إنه ليقول فيما يزعمون: اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك، فاصرفها عني وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخل عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى، فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لاصحابه من الحواريين وكانوا اثنى عشر رجلا: بطرس، ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو يعقوب، وأندراوس، وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس، وفتاتيا، ويودس زكريا يوطا. قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان فيهم فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى جحدته النصارى، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى. قال: فلا أدري ما هو من هؤلاء الاثني عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد (ص) من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كان اثني عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني رجل كان نصرانيا فأسلم أن عيسى حين جاءه من الله إنى رافعك إلي قال: يا معشر الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي
[ 21 ]
فيقتلوه مكاني ؟ فقال سرجس: أنا يا روح الله قال: فاجلس في مجلسي. فجلس فيه، ورفع عيسى صلوات الله عليه، فدخلوا عليه فأخذوه، فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به. وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى فيما يرون وأصحابه وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه. وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فإني سأقبله، وهو الذي أقبل فخذوه فلما دخلوا عليه، وقد رفع عيسى، رأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشك أنه هو عيسى، فأكب عليه فقبله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه، وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: إني لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه والله أعلم أي ذلك كان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لاصحابه: أيكم ينتدب فيلقى عليه شبهي فيقتل ؟ فقال رجل من أصحابه: أنا يا نبي لله. فألقي عليه شبه فقتل، ورفع لله نبيه إليه. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: شبه لهم قال: صلبوا رجلا غير عيسى يحسبونه إياه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولكن شبه لهم فذكر مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: صلبوا رجلا شبهوه بعيسى يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى عليه السلام حيا. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب أحد القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه، من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك، ولكن ليخزي الله بذلك اليهود وينقذ به نبيه
[ 22 ]
عليه السلام من مكروه ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قيله في عيسى وصدق الخبر عن أمره. أو القول الذي رواه عبد العزيز عنه. وإنما قلنا: ذلك أولى القولين بالصواب، لان الذين شهدوا عيسى من الحواريين لو كانوا في حال ما رفع عيسى، وألقى شبهه على من ألقى عليه شبهه، كانوا قد عاينوا عيسى هو يرفع من بينهم، وأثبتوا الذي ألقى عليه شبهه، وعاينوه متحولا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضر منهم، لم يخف ذلك من أمر عيسى، وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم مع معاينتهم ذلك كله، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من بينهم حيا. وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم، وقد سمعوا من عيسى مقالته: من يلقى عليه شبهي ويكون رفيقي في الجنة ؟ إن كان قال لهم ذلك، وسمعوا جواب مجيبه منهم: أنا، وعاينوا تحول المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه. ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما وصف وهب بن منبه، إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه حولهم الله جميعا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه، فلم يثبتوا عيسى معرفة بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يرونه بصورة عيسى ويحسبونه إياه، لانهم كانوا به عارفين قبل ذلك، وظن الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود، لانهم لم يميزوا شخص عيسى من شخص غيره لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت، فاتفقوا جميعهم أعني اليهود والنصارى من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن به، ولكنه شبه لهم، كما قال الله جل ثناؤه: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. أو يكون الامر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غير عيسى وغير الذي ألقى عليه شبهه، ورفع عيسى. فقتل الذي تحول في صورة عيسى من أصحابه، وظن أصحابه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفاء أمر عيسى عليهم لان رفعه وتحول المقتول في صورته كان بعد تفرق أصحابه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعي نفسه ويحزن لما قد ظن
[ 23 ]
أنه نازل به من الموت، فحكوا ما كان عندهم حقا، والامر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا، فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حوارييه أن يكونوا كذبة، أو حكوا ما كان حقا عندهم في الظاهر وإن كان الامر عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا. القول في تأويل قوله تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. يعني جل ثناؤه بقوله: وإن الذين اختلفوا فيه اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم فيما ذكر فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدا منهم، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى. وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود. وأما تأويله على قول من قال: تفرقوا عنه من الليل، فإنه: وإن الذين اختلفوا في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدة التي كانت فيه أم لا ؟ لفي شك منه، يعني: من قتله، لانهم كانوا أحصوا من العدة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه هل هو عيسى أم لا من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا: قتلنا عيسى، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جل ثناؤه: ما لهم به من علم يعني: أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلاف، هل هو عيسى أم غيره ؟ من غير أن يكون لهم بمن قتلوه علم من هو، هو عيسى أم هو غيره ؟ إلا اتباع الظن يعني جل ثناؤه: ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم، فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به. وما قتلوه يقينا يقول: وما قتلوا هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقينا أنه عيسى، ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظن وشبهة وهذا كقول الرجل للرجل: ما قتلت هذا الامر علما وما قتلته يقينا، إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين علم فالهاء في قوله: وما قتلوه عائدة على الظن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وما قتلوه يقينا قال: يعني: لم يقتلوا ظنهم يقينا.
[ 24 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن جويبر في قوله: وما قتلوه يقينا قال: ما قتلوا ظنهم يقينا. وقال السدي في ذلك، ما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وما قتلوه يقينا: وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى، بل رفعه الله إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) *. أما قوله جل ثناؤه: بل رفعه الله إليه فإنه يعني: بل رفع الله المسيح إليه، يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن الله رفعه إليه، فطهره من الذين كفروا. وقد بينا كيف كان رفع الله إياه فيما مضى، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك والصحيح من القول فيه بالادلة الشاهدة على صحته بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: وكان الله عزيزا حكيما فإنه يعني: ولم يزل الله منتقما من أعدائه، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه الذين قص قصتهم بقوله: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله حكيما، يقول: ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقه في قضائه، يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء من حلول عقوبتي بكم، كما حل باوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم رسلي، وافترائهم على أوليائي. وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: وكان الله عزيزا حكيما قال: معنى ذلك: أنه كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) *.
[ 25 ]
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به يعني بعيسى قبل موته يعني: قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الاسلام الحنيفية، دين إبراهيم (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قبل موت عيسى ابن مريم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قبل موت عيسى. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: إلا ليؤمنن به قبل موته قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليومنن به. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، قال: قبل موته قال: قبل أن يموت عيسى ابن مريم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قبل موت عيسى، والله إنه الآن لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته يقول: قبل موت عيسى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قبل موت عيسى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قبل موت عيسى إذا نزل آمنت به الاديان كلها.
[ 26 ]
حدثنا أبو وكيع قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: قبل موت عيسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن: إلا ليؤمنن به قبل موته قال: عيسى ولم يمت بعد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك، قال: لا يبقى أحد منهم عند نزول عيسى إلا آمن به. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، قال: قبل موت عيسى. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال لم يبق يهودي في الارض إلا آمن به، قال: وذلك حين لا ينفعهم الايمان. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته يعني: أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فيؤمنون به، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. قال أبو جعفر: أظنه إنما قال: إذا خرج عيسى آمنت به اليهود. وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي. ذكر من كان يوجه ذلك، إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل، لان كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.
[ 27 ]
حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا تخرج نفسه، حتى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردى من حائط، أو أي ميتة كانت. حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: إلا ليؤمنن به قبل موته كل صاحب كتاب ليؤمنن به بعيسى قبل موته، موت صاحب الكتاب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ليؤمنن به كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته، قبل موت صاحب الكتاب قال ابن عباس: لو ضربت عنقه، لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لا يموت اليهودي، حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل عليه بالسلاح. حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: هي في قراءة أبي: قبل موتهم. ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى قيل لابن عباس: أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال: يتكلم به في الهوي. فقيل: أرأيت إن ضربت عنق أحد منهم ؟ قال: يتلجلج بها لسانه. حدثني المثنى، قال: ثني أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم، قيل: وإن ضرب بالسيف ؟ قال: يتكلم به، قيل: وإن هوى ؟ قال: يتكلم به وهو يهوي. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال في هذه الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
[ 28 ]
به قبل موته قال: لو أن يهوديا وقع من فوق هذا البيت لم يمت حتى يؤمن به يعني: بعيسى. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن مولى لقريش، قال: سمعت عكرمة يقول: لو وقع يهودي من فوق القصر، لم يبلغ إلى الارض، حتى يؤمن بعيسى. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم الرماني، عن مجاهد: ليؤمنن به قبل موته قال: وإن وقع من فوق البيت لا يموت حتى يؤمن به. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به، وإن غرق، أو تردى، أو مات بشئ. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن به. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت أحدهم حتى يؤمن به، يعني: بعيسى، وإن خر من فوق بيت يؤمن به وهو يهوي. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك، قال: ليس أحد من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت أحد منهم، حتى يؤمن بعيسى، يعني: اليهود والنصارى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن فرات، عن الحسن في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت أحد منهم، حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا الحكم بن عطية، عن
[ 29 ]
محمد بن سيرين: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: موت الرجل من أهل الكتاب. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: قال ابن عباس: ليس من يهودي ولا نصراني يموت حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السبع ؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الايمان بعيسى. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال: لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله (ص). حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلى، عن جويبر في قوله: ليؤمنن به قبل موته قال: في قراءة أبي: قبل موتهم. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد (ص) قبل موت الكتابي. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن حميد، قال: قال عكرمة: لا يموت النصراني واليهودي حتى يؤمن بمحمد (ص) يعني في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصحة والصواب قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الاقوال، لان الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد (ص) بحكم أهل الايمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة، فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابي إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الاسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم، وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم، كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم، يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله
[ 30 ]
وتقبيره، لان من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد وبجميع الرسل وذلك أن عيسى صلوات الله عليه جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين، فالمصدق بعيسى والمؤمن به مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله، كما أن المؤمن بمحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله، فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بمحمد مكذبا. فإن ظن ظان أن معنى إيمان اليهودي بعيسى، الذي ذكره الله في قوله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته إنما هو إقراره بأنه لله نبي مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله، فقد ظن خطأ. وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبا إلى الاقرار بنبوة نبي من كان له مكذبا في بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيله، بل غير جائز أن يكون منسوبا إلا الاقرار بنبوة أحد من أنبياء الله لان الانبياء جاءت الاممم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمته من عند الله مكذب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين عباد الله. وإذ كان ذلك كذلك، كان في إجماع الجميع من أهل الاسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه وما جاء به من عند الله، محكوم له بحكم المسألة التي كان عليها أيام حياته، غير منقول شئ من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته، أدل الدليل على أن معنى قول الله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته إنما معناه: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاص من أهل الكتاب، ومعنى به أهل زمان منهم دون أهل كل الازمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله. كالذي: حدثني بشر بن معاذ، قال: ثني يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة، أن نبي الله (ص) قال: الانبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإنى أولى الناس بعيسى ابن مريم لانه لم يكن بيني وبينه نبي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع
[ 31 ]
الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الاسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الاسلام، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال، وتقع الامنة في الارض في زمانه حتى ترتع الاسود مع الابل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمان والصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، ثم يلبث في الارض ما شاء الله وربما قال: أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. وأما الذي قال: عني بقوله: ليؤمنن به قبل موته ليؤمنن بمحمد (ص) قبل موت الكتابي، فمما لا وجه له مفهوم لانه مع فساده من الوجه الذي دللنا على فساد قول من قال: عنى به: ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي، يزيده فسادا أنه لم يجر لمحمد عليه الصلاة والسلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر، فيجوز صرف الهاء التي في قوله: ليؤمنن به إلى أنها من ذكره، وإنما قوله: ليؤمنن به في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة فأما الدعاوي فلا تتعذر على أحد. فتأويل الآية إذ كان الامر على ما وصفت: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وحذف من بعد إلا لدلالة الكلام عليه، فاستغني بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها. القول في تأويل قوله تعالى: ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. يعني بذلك جل ثناؤه: ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب شهيدا يعني: شاهدا عليهم بتكذيب من كذبه منهم، وتصديق من صدقه منهم فيما أتاهم به من عند الله وبإبلاغه رسالة ربه. كالذي: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أنه قد أبلغهم ما أرسله به إليهم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا يقول: يكون عليهم شهيدا يوم القيامة، على أنه قد بلغ رسالة ربه وأقر بالعبودية على نفسه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله
[ 32 ]
كثيرائ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالا، عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوه حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم. وقوله: وبصدهم عن سبيل الله كثيرا يعني: وبصدهم عباد الله عن دينه وسبله التي شرعها لعباده صدا كثيرا، وكان صدهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله وتحريف معانيه عن وجوهه، وكان من عظيم ذلك جحودهم نبوة نبينا محمد (ص) وتركهم بيان ما قد علموا من أمره لمن جهل أمره من الناس. وبنحو ذلك كان مجاهد يقول. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وبصدهم عن سبيل الله كثيرا قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وقوله: وأخذهم الربا وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم لفضل تأخير في الاجل بعد محلها. وقد بينت معنى الربا فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وقد نهوا عنه: يعني عن أخذ الربا. وقوله: وأكلهم أموال الناس بالباطل يعني: ما كانوا يأخذون من الرشا على
[ 33 ]
الحكم، كما وصفهم الله به في قوله: وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة. فعاقبهم الله على جميع ذلك بتحريمه ما حرم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك. وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل بأنهم أكلوه بغير استحقاق وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب، فقوله: وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما يعني: وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد من هؤلاء اليهود العذاب الاليم، وهو الموجع من عذاب جهنم، عدة يصلونها في الآخرة، إذا وردوا على ربهم فيعاقبهم بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) *. هذا من الله جل ثناؤه استثناء، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات التي مضت من قوله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ثم قال جل ثناؤه لعباده، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كل أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم، لكن الراسخون في العلم منهم وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقيقته. وقد بينا معنى الرسوخ في العلم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والمؤمنون يعني: والمؤمنون بالله ورسله، وهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك يا محمد، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الانبياء والرسل، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الجهلة منهم أن تنزل عليهم كتابا من السماء، لانهم قد علموا بما قرءوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول واجب عليهم اتباعك، لا يسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة، ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في
[ 34 ]
قلوبهم من أخبار أنبيائهم إياهم بذلك وبما أعطيتك من الادلة على نبوتك، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه يؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك استثنى الله ثنية من أهل الكتاب، وكان منهم من يؤمن بالله، وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم. ثم اختلف في المقيمين الصلاة، أهم الراسخون في العلم، أم هم غيرهم ؟ فقال بعضهم: هم هم. ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب الراسخون في العلم، وهما من صفة نوع من الناس، فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، وإنما هو: لكن الراسخون في العلم منهم، والمقيمون الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الزبير، قال: قلت لابان بن عثمان بن عفان: ما شأنها كتبت لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ؟ قال: إن الكاتب لما كتب لكن الراسخون في العلم منهم حتى إذا بلغ قال: ما أكتب ؟ قيل له اكتب والمقيمين الصلاة فكتب ما قيل له. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه سأل عائشة عن قوله: والمقيمين الصلاة، وعن قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون، وعن قوله: إن هذان لساحران فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب. وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: والمقيمون الصلاة. وقال آخرون، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة: والمقيمون الصلاة من صفة
[ 35 ]
الراسخون في العلم، ولكن الكلام لما تطاول واعترض بين الراسخين في العلم والمقمين الصلاة ما اعترض من الكلام فطال نصب المقيمين على وجه المدح، قالوا: والعرب تفعل ذلك في صفة الشئ الواحد ونعته إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله، وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه، وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الاعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات التي ذكرناها في قوله: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء. وقال آخرون: بل المقيمون الصلاة من صفة غير الراسخين في العلم في هذا الموضع وإن كان الراسخون في العلم من المقيمين الصلاة. وقال قائلو هذه المقالة جميعا: موضع المقيمين في الاعراب خفض، فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على ما التي في قوله: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بالمقيمين الصلاة. ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويل في معنى الكلام، فقال بعضهم: معنى ذلك: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله: والمؤتون الزكاة، عطفا على ما في يؤمنون من ذكر المؤمنين، كأنه قيل: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك هم والمؤتون الزكاة. وقال آخرون: بل المقيمون الصلاة: الملائكة. قالوا: وإقامتهم الصلاة: تسبيحهم ربهم واستغفارهم لمن في الارض. قالوا: ومعنى الكلام: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة. وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون الزكاة، كما قال جل ثناؤه: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين. وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون المقيمين منصوبا على المدح وقالوا: إنما تنصب العرب على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره قالوا: وخبر الراسخين في العلم قوله: أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما. قال: فغير جائز نصب المقيمين على المدح وهو في وسط الكلام ولما يتم خبر الابتداء.
[ 36 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع المقيمين خفض. وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. وقال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر على مكني في حال الخفض وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها. وأولى الاقوال عندي بالصواب، أن يكون المقيمين في موضع خفض نسقا على ما التي في قوله: بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وأن يوجه معنى المقيمين الصلاة إلى الملائكة، فيكون تأويل الكلام: والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب وبما أنزل من قبلك من كتبي وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة ثم يرجع إلى صفة الراسخين في العلم فنقول: لكن الراسخون في العلم منهم، والمؤمنون بالكتب، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر. وإنما اخترنا هذا على غيره، لانه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: والمقيمين، وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبي في ذلك، ما يدل على أن الذي في محصفنا من ذلك صواب غير خطأ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله (ص) يعلمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولا صلحوه بألسنتهم، ولقنوه للامة تعليما على وجه الصواب. وفي نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به في الخط مرسوما أدل الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب. وأما من وجه ذلك إلى النصب على وجه المدح للراسخين في العلم وإن كان ذلك قد يحتمل على بعد من كلام العرب لما قد ذكرنا قبل من العلة، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نعته إلا بعد تمام خبره، وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو به من الفصاحة. وأما توجيه من وجه ذلك إلى العطف به على الهاء والميم في قوله: لكن الراسخون في العلم منهم أو إلى العطف به على الكاف من قوله: بما أنزل إليك أو إلى الكاف من قوله: وما أنزل من قبلك فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح لما قد ذكرت قبل من قبح رد الظاهر على المكني في الخفض.
[ 37 ]
وأما توجيه من وجه المقيمين إلى الاقامة، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل ولا خبر تثبت حجته، وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان. وأما قوله: والمؤتون الزكاة فإنه معطوف به على قوله: والمؤمنون يؤمنون وهو من صفتهم. وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها الله له وصرفها إليه والمؤمنون بالله واليوم الآخر يعني: والمصدقون بوحدانية الله وألوهيته، والبعث بعد الممات، والثواب والعقاب أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتيهم، يقول: سنعطيهم أجرا عظيما، يعني: جزاء على ما كان منهم من طاعة الله، واتباع أمره، وثواب عظيما، وذلك الجنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنآ أوحينا إليك كمآ أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح: إنا أرسلنا إليك يا محمد بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح وإلى سائر الانبياء الذين سميتهم لك من بعد ه والذين لم أسمهم لك. كما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خثيم في قوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده قال: أوحى إليك كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله. وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص)، لان بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات التي أنزلها على رسوله (ص)، وذلك من قوله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فتلا ذلك عليهم رسول الله (ص)، قالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ بعد موسى. فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم، وأخبر نبيه والمؤمنين به أنه قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية وعلى آخرين لم يسمهم. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا
[ 38 ]
سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شئ بعد موسى، فأنزل الله في ذلك من قولهما: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... إلى آخر الآيات. وقال آخرون: بل قالوا: لما أنزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم ما أنزل الله على بشر من شئ، ولا على موسى، ولا على عيسى، فأنزل الله جل ثناؤه: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ ولا على موسى، ولا على عيسى. ذكر من قال ذلك: حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: أنزل الله: يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء... إلى قوله: وقولهم على مريم بهتانا عظيما، فلما تلاها عليهم يعني على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ، ولا على موسى، ولا على عيسى، وما أنزل الله على نبي من شئ. قال: فحل حبوته، وقال: ولا على أحد فأنزل الله جل ثناؤه: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ. وأما قوله: وآتينا داود زبورا فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة قراء أمصار الاسلام غير نفر من قراء الكوفة: وآتينا داود زبورا بفتح الزاي على التوحيد، بمعني: وآتينا داود الكتاب المسمى زبورا. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: وآتينا داود زبورا بضم الزاي جمع زبر، كأنهم وجهوا تأويله: وآتينا داود كتبا وصحفا مزبورة، من قولهم: زبرت الكتاب أزبره زبرا، وذبرته أذبره ذبرا: إذا كتبته.
[ 39 ]
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: وآتينا داود زبورا بفتح الزاي على أنه اسم الكتاب الذي أوتيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى التوراة، والذي أوتيه عيسى الانجيل، والذي أوتيه محمد الفرقان، لان ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود، وإنما تقول العرب زبور داود، وبذلك يعرف كتابه سائر الامم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح، وإلى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك. فلعل قائلا أن يقول: فإذا كان ذلك معناه، فما بال قوله: ورسلا منصوبا غير مخفوض ؟ قيل: نصب ذلك إذا لم تعد عليه إلى التي خفضت الاسماء قبله، وكانت الاسماء قبلها وإن كانت مخفوضة، فإنها في معنى النصب، لان معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولا كما أرسلنا نوحا والنبيين من بعده، فعطفت الرسل على معنى الاسماء قبلها في الاعراب، لانقطاعها عنها دون ألفاظها، إذ لم يعد عليها ما خفضها، كما قال الشاعر: لو جئت بالخبز له منشرا والبيض مطبوخا معا والسكرا لم يرضه ذلك حتى يسكرا وقد يحتمل أن يكون نصب الرسل، لتعلق الواو بالفعل، بمعنى: وقصصنا رسلا عليك من قبل، كما قال جل ثناؤه: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي: ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم عليك فرفع ذلك إذا قرئ كذلك بعائد الذكر في قوله: قصصناهم عليك. وأما قوله: وكلم الله موسى تكليما فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وخاطب الله بكلامه موسى خطابا. وقد:
[ 40 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا نوح بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليما ؟ فقال: مشافهة. وقد حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن ابن مبارك، عن معمر ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، قال: أخبرني جزء بن جابر الخثعمي، قال: سمعت كعبا يقول: إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى، كلمه بالالسنة كلها قبل كلامه يعني كلام موسى فجعل يقول: يا رب لا أفهم حتى كلمه بلسانه آخر الالسنة، فقال: يا رب هكذا كلامك ؟ قال: لا، ولو سمعت كلامي أي على وجهه لم تك شيئا. قال ابن وكيع، قال أبو أسامة: وزادني أبو بكر الصغاني في هذا الحديث: أن موسى قال: يا رب هل في خلقك شئ يشبه كلامك ؟ قال: لا، وأقرب خلقي شبها بكلامي، أشد ما تسمع الناس من الصواعق. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق ؟ فقال موسى: الرعد الساكن. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن، أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي، قال: لما كلم الله موسى بالالسنة كلها قبل لسانه، فطفق يقول: والله يا رب ما أفقه هذا حتى كلمه بلسانه آخر الالسنة بمثل صوته، فقال موسى: يا رب هذا كلامك ؟ قال: لا، قال: هل في خلقك شئ يشبه كلامك ؟ قال: لا، وأقرب خلقي شبها بكلامي، أشد ما يسمع الناس من الصواعق. حدثني أبو يونس المكي، قال: ثنا ابن أبي أويس، قال: أخبرني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، أنه أخبره جزء بن جابر الخثعمي، أنه سمع الاحبار تقول: لما كلم الله موسى بالالسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى يقول: أي رب، والله ما أفقه هذا حتى كلمه آخر الالسنة بلسانه بمثل صوته، فقال موسى: أي رب، أهكذا كلامك ؟ فقال: لو كلمتك
[ 41 ]
بكلامي لم تكن شيئا. قال: أي رب هل في خلقك شئ يشبه كلامك ؟ فقال: لا، وأقرب خلقي شبها بكلامي، أشد ما يسمع من الصواعق. حدثنا ابن عبد الرحيم، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا زهير، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، عن جزء بن جابر، أنه سمع كعبا يقول: لما كلم الله موسى بالالسنة قبل لسانه، طفق موسى يقول: أي رب، إني لا أفقه هذا حتى كلمه الله آخر الالسنة بمثل لسانه، فقال موسى: أي رب هذا كلامك ؟ قال الله: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئا. قال: يا رب، فهل من خلقك شئ يشبه كلامك ؟ قال: لا، وأقرب خلقي شبها بكلامي، أشد ما يسمع من الصواعق. القول في تأويل قوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) *.. يعني جل ثناؤه بذلك: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ومن ذكر من الرسل رسلا فنصب به الرسل على القطع من أسماء الانبياء الذين ذكر أسماءهم. مبشرين يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي، ومنذرين عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي. لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتج من كفر بي وعبد الانداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذارا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا. وكان الله عزيرا حكيما يقول: ولم يزل الله ذا عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه
[ 42 ]
على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته، حكيما في تدبيره فيهم ما دبره. القول في تأويل قوله تعالى: * (لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إن يكفر بالذي أوحينا إليك يا محمد اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابا من السماء، وقالوا لك: ما أنزل الله على بشر من شئ فكذبوك، فقد كذبوا ما الامر، كما قالوا: لكن الله يشهد بتنزيله إليك ما أنزله من كتابه ووحيه، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خيرته من خلقه وصفيه من عباده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك. وكفى بالله شهيدا يقول: وحسبك بالله شاهدا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك لم يضرك تكذيب من كذبك. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود دعاهم النبي (ص) إلى أتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوته، فجحدوا نبوته وأنكروا معرفته. ذكر الخبر بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل على رسول الله (ص) جماعة من يهود، فقال لهم: إنى والله أعلم أنكم لتعلمون أنى رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك. فأنزل الله: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: دخلت على رسول الله (ص) عصابة من اليهود، ثم ذكر نحوه. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا شهود والله غير متهمة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا) *..
[ 43 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا يا محمد نبوتك بعد علمهم بها من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم، وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه أوحى إليك كتابه، وصدوا عن سبيل الله يعني عن الدين الذي بعثك الله به إلى خلقه وهو الاسلام. وكان صدهم عنه: قيلهم للناس الذين يسألونهم عن محمد من أهل الشرك: ما نجد صفة محمد في كتابنا، وادعاءهم أنهم عهد إليهم أن النبوة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الامور التي كانوا يثبطون الناس بها عن اتباع رسول الله (ص) والتصديق به وبما جاء به من عند الله. وقوله: قد ضلوا ضلالا بعيدا يعني: قد جاروا عن قصد الطريق جورا شديدا، وزالوا عن المحجة. وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة، وضلالهم عنها: إخطاءهم دين الله الذي ارتضاه لعباده وابتعث به رسله، يقول: من جحد رسالة محمد (ص) وصد عما بعث به من الملة من قبل منه، فقد ضل فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به أنبياءه ضلالا بعيدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ئ إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا رسالة محمد (ص)، وكفروا بالله بجحود ذلك وظلموا بمقامهم على الكفر، على علم منهم بظلمهم عباد الله، وحسدا للعرب، وبغيا على رسوله محمد (ص)، لم يكن الله ليغفر لهم يعني: لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها. ولا ليهديهم طريقا يقول: ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدى هؤلاء الذين كفروا وظلموا، الذين وصفنا صفتهم، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثواب الله، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة، ولكنه يخذلهم عن ذلك، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كني بذكر الطريق عن الدين وإنما معنى الكلام: لم يكن الله ليوفقهم للاسلام، ولكنه يخذلهم عنه إلى طريق جهنم، وهو الكفر، يعني: حتى يكفروا بالله ورسله، فيدخلوا جهنم خالدين فيها أبدا، يقول: مقيمين فيها أبدا. وكان ذلك على الله يسيرا يقول: وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم على الله يسيرا، لانه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه، ولا يستصعب عليه ما أراد فعله به، من ذلك، وكان ذلك على الله يسيرا، لان الخلق خلقه، والامر أمره. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 44 ]
(يأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والارض وكان الله عليما حكيما) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: يا أيها الناس مشركي العرب، وسائر أصناف الكفر. قد جاءكم الرسول يعنى: محمدا (ص)، قد جاءكم بالحق من ربكم يقول: بالاسلام الذى ارتضاه الله لعباده دينا، يقول: من ربكم: يعني من عند ربكم. فآمنوا خيرا لكم يقول: فصدقوه وصدقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الايمان بذلك خير لكم من الكفر به. وإن تكفروا يقول: وإن تجحدوا رسالته، وتكذبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به لن يضر غيركم، وإنما مكروه ذلك عائد عليكم دون الله الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدا (ص)، وذلك أن لله ما في السموات والارض ملكا وخلقا، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه من ملكه وسلطانه شيئا. وكان الله عليما حكيما يقول: وكان الله عليما بما أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ومعصيته في ذلك، وعلى علم منه بذلك منكم أمركم ونهاكم. حكيما يعني: حكيما في أمره إياكم بما أمركم به وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه. واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله: خيرا لكم فقال بعض نحويي الكوفة: نصب خيرا على الخروج مما قبله من الكلام، لان ما قبله من الكلام قد تم، وذلك قوله: فآمنوا، وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تاما ثم اتصل به كلام بعد تمامه على نحو اتصال خير بما قبله، فتقول: لتقومن خيرا لك، ولو فعلت ذلك خيرا لك، واتق الله خيرا لك. قال: وأما إذا كان الكلام ناقصا، فلا يكون إلا بالرفع كقولك: إن تتق الله خير لك، ووأن تصبروا خير لكم. وقال آخر منهم: جاء النصب في خير، لان أصل الكلام: فآمنوا هو خير لكم، فلما سقط هو الذي هو مصدر اتصل الكلام بما قبله، والذي قبله معرفة وخير نكرة، فانتصب لاتصاله بالمعرفة، لان الاضمار من الفعل: قم فالقيام خير لك، ولا تقم فترك
[ 45 ]
القيام خير لك فلما سقط اتصل بالاول. وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن الامر تصلح قبل الخبر، فتقول للرجل: اتق الله هو خير لك، أي الاتقاء خير لك. وقال: ليس نصبه على إضمار يكن، لان ذلك يأتي بقياس يبطل هذا، ألا ترى أنك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز أن تقول: اتق الله محسنا، وأنت تضمر كان، ولا يصلح أن تقول: انصرنا أخانا، وأنت تريد: تكن أخانا. وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في أفعل خاصة، فتقول: افعل هذا خيرا لك، ولا تفعل هذا خيرا لك وأفضل لك ولا تقول: صلاحا لك. وزعم أنه إنما قيل مع أفعل، لان أفعل يدل على أن هذا أصلح من ذلك. وقال بعض نحويي البصرة: نصب خيرا لانه حين قال لهم: آمنوا، أمرهم بما هو خير لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرا لكم، وكذلك: انتهوا خيرا لكم، قال: وهذا إنما يكون في الامر والنهي خاصة، ولا يكون في الخبر، لا تقول: أن أنتهي خيرا لي، ولكن يرفع على كلامين لان الامر والنهي يضمر فيهما، فكأنك أخرجته من شئ إلى شئ، لانك حين قلت له اتقه، كأنك قلت له: أخرج من ذا، وادخل في آخر واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة: فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا كما تقول: واعديه خيرا لك. قال: وقد سمعت نصب هذا في الخبر، تقول العرب: آتي البيت خيرا لي وأتركه خيرا لي، وهو على ما فسرت لك في الامر والنهي. وقال آخر
[ 46 ]
منهم: نصب خيرا بفعل مضمر، واكتفى من ذلك المضمر كقوله: لا تفعل هذا وافعل الخير، وأجازه في غير أفعل، فقال: لا تفعل ذاك صلاحا لك. وقال آخر منهم: نصب خيرا على ضمير جواب: يكن خيرا لكم، وقال: كذلك كل أمر ونهي. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له وما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: يا أهل الكتاب: يا أهل الانجيل من النصارى، لا تغلوا في دينكم يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق، لان الله لم يتخذ ولدا، فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنا. ولا تقولوا على الله إلا الحق وأصل الغلو في كل شئ: مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غلوا، وغلا بالجارية عظمها ولحمها: إذا أسرعت الشباب، فجاوزت لذاتها، يغلو بها غلوا وغلاء ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي: خمصانة قلق موشحها رؤد الشباب غلا بها عظم وقد حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: صاروا فريقين: فريق غلوا في الدين، فكان غلوهم فيه: الشك فيه والرغبة عنه. وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم. القول في تأويل قوله تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
[ 47 ]
يعني جل ثناؤه بقوله: إنما المسيح عيسى ابن مريم: ما المسيح أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب بابن الله كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم دون غيرها من الخلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته، فقال: هو رسول الله، أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه. وأصل المسيح: الممسوح، صرف من مفعول إلى فعيل، وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب وقيل: مسح من الذنوب والادناس التي تكون في الآدميين، كما يمسح الشئ من الاذى الذي يكون فيه فيطهر منه، ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله: المسيح: الصديق. وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية مشيحا فعربت، فقيل المسيح، كما عرب سائر أسماء الانبياء التي في القرآن مثل إسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى. قال أبو جعفر: وليس ما مثل به من ذلك للمسيح بنظير وذلك أن إسماعيل وإسحاق وما أشبه ذلك، أسماء لا صفات، والمسيح صفة، وغير جائز أن تخاطب العرب وغيرها من أجناس الخلق في صفة شئ إلا بمثل ما يفهم عمن خاطبها، ولو كان المسيح من غير كلام العرب ولم تكن العرب تعقل معناه ما خوطبت به. وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. وأما المسيح الدجال، فإنه أيضا بمعنى الممسوح العين، صرف من مفعول إلى فعيل، فمعنى المسيح في عيسى (ص): الممسوح البدن من الادناس والآثام، ومعنى المسيح في الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى كالذي روي عن رسول الله (ص) في ذلك. وأما قوله: وكلمته ألقاها إلى مريم فإنه يعني بالكلمة: الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارة من الله لها التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه يعني: برسالة منه، وبشارة من عنده. وقد قال قتادة في ذلك، ما:
[ 48 ]
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: وكلمته ألقاها إلى مريم قال: هو قوله: كن فكان. وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الاسلام في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: ألقاها إلى مريم يعني: أعلمها بها وأخبرها، كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة، بمعنى أخبرتك بها، وكلمتك بها. وأما قوله: وروح منه فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله: وروح منه: ونفخة منه، لانه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك، فنسب إلى أنه روح من الله، لانه بأمره، كان، قال: وإنما سمي النفخ روحا لانها ريح تخرج من الروح، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها: فلما بدت كفنتها وهي طفلة بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا وقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا وظاهر لها من بائس الشخت واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا فلما جرت للجزل جريا كأنه سنا البرق أحدثنا لخالقها شكرا وقالوا: يعني بقوله: أحيها بروحك: أي أحيها بنفخك. وقال بعضهم: يعني بقوله: وروح منه: أنه كان إنسانا بإحياء الله له بقوله: كن، قالوا: وإنما معنى قوله: وروح منه: وحياة منه، بمعنى: إحياء الله إياه بتكوينه. وقال بعضهم: معنى قوله: وروح منه ورحمة منه كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وأيدهم بروح منه. قال: ومعناه في هذا الموضع: ورحمة منه. قال: فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدقه، لانه هداهم إلى سبيل الرشاد.
[ 49 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم، فدخلت في فيها، فصيرها الله تعالى روح عيسى عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، قال: أخبرني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم قال: أخذهم فجعلهم أرواحا، ثم صورهم، ثم استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الارواح التي أخذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فحملت والذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام. وقال آخرون: معنى الروح ههنا: جبريل عليه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى ثم من جبريل عليه السلام. ولكل هذه الاقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب. القول في تأويل قوله تعالى: فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم. يعني بقوله جل ثناؤه: فآمنوا بالله ورسله فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد له، وصدقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، ولا ولد له. ولا تقولوا ثلاثة يعني: ولا تقولوا الارباب ثلاثة. ورفعت الثلاثة بمحذوف دل عليه الظاهر، وهو هم. ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنما جاز ذلك لان القول حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم. ثم قال لهم جل ثناؤه متوعدا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله: انتهوا أيها القائلون الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزور والشك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قيلكم ذلك، إن أقمتم عليه ولم تنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالانابة إليه والآجل في معادكم.
[ 50 ]
القول في تأويل قوله تعالى: إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا. يعني بقوله: إنما الله إله واحد: ما الله أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة كما تقولون، لان من كان له ولد فليس بإله، وكذلك من كان له صاحبة فغير جائز أن يكون إلها معبودا، ولكن الله الذي له الالوهة والعبادة، إله واحد معبود، لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك. ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكفرة به، فقال: سبحانه أن يكون له ولد يقول: علا الله وجل وعز وتعظم وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. ثم أخبر جل ثناؤه عباده أن عيسى وأمه، ومن في السموات ومن في الارض، عبيده، وملكه، وخلقه، وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه، احتجاجا منه بذلك على من ادعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا لم يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدا مملوكا، فقال: له ما في السموات وما في الارض يعني: لله ما في السموات وما في الارض من الاشياء كلها، ملكا وخلقا، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم، فكيف يكون المسيح ابنا لله وهو في الارض أو في السموات غير خارج من أن يكون في بعض هذه الاماكن وقوله: وكفى بالله وكيلا يقول: وحسب ما في السموات وما في الارض بالله قيما ومدبرا ورازقا، من الحاجة معه إلى غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: لن يستنكف المسيح: لن يأنف ولن يستكبر المسيح أن يكون عبدا لله يعني: من أن يكون عبدا لله. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون: لن يحتشم المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة. وأما قوله: ولا الملائكة المقربون فإنه يعني: ولن يستنكف أيضا من الاقرار لله بالعبودية، والاذعان له بذلك رسله المقربون الذين قربهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه.
[ 51 ]
وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك ما: حدثني به جعفر بن محمد البزوري، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن الاجلح، قال: قلت للضحاك: ما المقربون ؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية. القول في تأويل قوله تعالى: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا. يعني جل ثناؤه بذلك: ومن يتعظم عن عبادة ربه، ويأنف من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم، ويستكبر عن ذلك، فسيحشرهم إليه جميعا يقول: فسيبعثهم يوم القيامة جميعا، فيجمعهم لموعدهم عنده. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) *.. يعني جل ثناؤه بذلك: فأما المؤمنون المقرون بوحدانية الله، الخاضعون له بالطاعة، المتذللون له بالعبودية، والعاملون الصالحات من الاعمال، وذلك أن يردوا على ربهم، قد آمنوا به وبرسله، وعملوا بما أتاهم به رسله من عند ربهم، من فعل ما أمرهم به، واجتناب ما أمرهم باجتنابه فيوفيهم أجورهم يقول: فيؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافيا تاما. ويزيدهم من فضله يعني جل ثناؤه: ويزيدهم على ما وعدهم من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب عليها من الفضل والزيادة ما لم يعرفهم مبلغه ولم يحد لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة الواحدة عشر أمثالها من الثواب والجزاء، فذلك هو أجر كل عامل على عمله الصالح من أهل الايمان المحدود مبلغه، والزيادة على ذلك تفضل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من فضله على عباده غير أن الذي وعد عباده المؤمنين أن يوفيهم فلا ينقصهم من الثواب على أعمالهم الصالحة، هو ما حد مبلغه من العشر، والزيادة على ذلك غير محدود مبلغها، فيزيد من شاء من خلقه على ذلك قدر ما يشاء، لا حد لقدره يوقف عليه. وقد قال بعضهم: الزيادة إلى سبعمائة ضعف. وقال آخرون: إلى ألفين. وقد ذكرت اختلاف المختلفين في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
[ 52 ]
وقوله: وأما الذين استنكفوا واستكبروا فإنه يعني: وأما الذين تعظموا عن الاقرار لله بالعبودة والاذعان له بالطاعة، واستكبروا عن التذلل لالوهته وعبادته وتسليم الربوبية والوحدانية له. فيعذبهم عذابا أليما يعني: عذابا موجعا. ولا يجدون لهم من دون الله وليما ولا نصيرا يقول: ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها إذا عذبهم الله الاليم من عذابه سوى الله لانفسهم وليا ينجيهم من عذابه وينقذهم منه. ولا نصيرا: ولا ناصرا ينصرهم، فيستنقذهم من ربهم، ويدفع عنهم بقوته ما أحل بهم من نقمته، كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنيا في الدنيا بسوء من نصرتهم والمدافعة عنهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم: يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودها ونصاراها ومشركيها، الذين قص الله جل ثناؤه قصصهم في هذه السورة قد جاءكم برهان من ربكم يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، وهو محمد (ص)، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوته وتحقيق رسالته. وأنزلنا إليكم نورا مبينا يقول: وأنزلنا إليكم معه نورا مبينا، يعني: يبين لكم المحجة الواضحة والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. وذلك النور المبين هو القرآن الذي أنزله الله على محمد (ص). وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: برهان من ربكم قال: حجة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم: أي بينة من ربكم، وأنزلنا إليكم نورا مبينا، وهو هذا القرآن.
[ 53 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قد جاءكم برهان من ربكم يقول: حجة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج برهان، قال: بينة وأنزلنا إليكم نورا مبينا قال: القرآن. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدقوا بالله، وأقروا بوحدانيته، وما بعث به محمدا (ص) من أهل الملل واعتصموا به يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزل إلى نبيه كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج واعتصموا به قال: بالقرآن. فسيدخلهم في رحمة منه وفضل يقول: فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويلحقهم من فضله ما ألحق أهل الايمان به والتصديق برسله. ويهديهم إليه صراطا مستقيما يقول: ويوفقهم لاصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم، واتباع دينهم. وذلك هو الصراط المستقيم، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الاسلام. ونصب الصراط المستقيم على القطع من الهاء التي في قوله إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم) *..
[ 54 ]
يعني تعالى ذكره بقوله: يستفتونك يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة. وقد بينا معنى الكلالة فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته، وبينا أن الكلالة عندنا ما عدا الولد والوالد. إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك يعني بقوله: إن امرؤ هلك: إن إنسان من الناس مات. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إن امرؤ هلك يقول: مات. ليس له ولد ذكر ولا أنثى وله أخت يعني: وللميت أخت لابيه وأمه، أو لابيه. فلها نصف ما ترك يقول: فلاخته التي تركها بعده بالصفة التي وصفنا نصف تركته ميراثا عنه دون سائر عصبته، وما بقي فلعصبته. وذكر أن أصحاب رسول الله (ص) همهم شأن الكلالة، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الآية. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة فسألوا عنها نبي الله، فأنزل الله في ذلك القرآن: إن امرؤ هلك ليس له ولد فقرأ حتى بلغ: والله بكل شئ عليم. قال: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والاخوة من الام، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الاخوة والاخوات من الاب والام، والآية التي ختم بها سورة الانفال أنزلها في أولى الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، قال: سأل عمر بن الخطاب النبي (ص) عن الكلالة، فقال: أليس قد بين الله ذلك ؟ قال فنزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة.
[ 55 ]
حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع أبو جعفر الذي يشك فدخل علي النبي (ص)، فنفخ وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لاخواتي بالثلث ؟ قال: أحسن، قلت: الشطر ؟ قال: أحسن. ثم خرج وتركني، ثم رجع إلي فقال: يا جابر إني لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل في الذي لاخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية في: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن هشام، يعني الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي (ص)، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: مرضت فأتاني النبي (ص) يعودني هو وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجدوني قد أغمى علي، فتوضأ رسول الله (ص) ثم صب علي من وضوئه، فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي، أو كيف أصنع في مالي ؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له والد ولا ولد. قال: فلم يجبني شيئا حتى نزلت آية الميراث: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة... إلى آخر السورة. قال ابن المنكدر: قال جابر: إنما أنزلت هذه الآية في. وكان بعض أصحاب رسول الله (ص) يقول: إن هذه الآية هي آخر آية أنزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد،
[ 56 ]
عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: سمعته يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. حدثنا محمد بن خلف، قال: ثنا عبد الصمد بن النعمان، قال: ثنا مالك بن مغول، عن أبي السفر، عن البراء، قال: آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية، فقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فيما مضى بعضها في أول السورة عند فاتحة آية المواريث، وبعضها في مبتدإ الاخبار عن السبب الذي نزلت فيه هذه الآية. وقال آخرون: بل أنزلت في مسير كان فيه رسول الله (ص) وأصحابه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة والنبي في مسير له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلغها النبي (ص) حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه. فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها بما لم أحدثك يومئذ فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله.
[ 57 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فقال له حذيفة: والله إنك لاحمق إن ظننت. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: كانوا في مسير ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله (ص) رأس راحلة عمر ردف راحلة حذيفة قال: ونزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة فلقاها رسول الله (ص) حذيفة، فلقاها حذيفة عمر. فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة، فقال: والله إنك لاحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله فلقيتكها كما لقانيها، والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا قال: وكان عمر يقول: اللهم إن كنت بينتها له، فإنها لم تبين لي. واختلف عن عمر في الكلالة، فروي عنه أنه قال فيها عند وفاته: هو من لا ولد له ولا والد. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في أول هذه السورة في آية الميراث. وروي عنه أنه قال قبل وفاته: هو ما خلا الاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، قال: قال عمر بن الخطاب: ما أغلظ لي رسول الله (ص)، أو ما نازعت رسول الله (ص) في شئ ما نازعته في آية الكلالة، حتى ضرب صدري، وقال: يكفيك منها آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا يقرأ: هو ما خلا الاب كذا أحسب قال ابن عرفة قال شبابة: الشك من شعبة. وروي عنه أنه قال: إني لاستحيي أن أخالف فيه أبا بكر. وكان أبو بكر يقول: هو ما خلا الولد والوالد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فيما مضى في أول السورة. وروي عنه أنه قال عند وفاته: قد كنت كتبت في الكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه، وقد رأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها علم. ذكر من قال ذلك:
[ 58 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن حميد المعمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا، فمكث يستخير الله فيه، يقول: اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كتب فيه، فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، قال: ثنا عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، قال: قال عمر: ثلاث لان يكون النبي (ص) بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، قال: ثنا الاعمش، قال: سمعتهم يذكرون، ولا أرى إبراهيم إلا فيهم، عن عمر قال: لان أكون أعلم الكلالة أحب ألي من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، قال: ثنا الاعمس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: أخذ عمر كتفا، وجمع أصحاب محمد (ص)، ثم قال: لاقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن فخرجت حينئذ حية من البيت، فتفرقوا، فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الامر لاتمه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو حيان، قال: ثني الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر المدينة،
[ 59 ]
فقال: أيها الناس: ثلاث وددت أن رسول الله (ص) لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهدا ينتهى إليه: الجد، والكلالة، وأبواب الربا. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، أن عمر بن الخطاب، قال: ما سألت رسول الله (ص) عن شئ أكثر مما سألت عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر، قال: لم أدع شيئا أهم عندي من أمر الكلالة، فما أغلظ لي رسول الله (ص) في شئ ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في صدري، أو قال في جنبي، فقال: تكفيك الآية التي أنزلت في آخر النساء. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة، فقال: إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله (ص)، فما أغلظ لي في شئ ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال: تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء، وإن أعش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحد قرأ القرآن. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن عمر بن الخطاب، بنحوه. حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا
[ 60 ]
أبو حمزة، عن جابر، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه، قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي ورث كلالة، فقال: الكلالة، الكلالة، الكلالة وأخذ بلحيته، ثم قال: والله لان أعلمها أحب إلي من أن يكون لي ما على الارض من شئ، سألت عنها رسول الله (ص)، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف ؟ فأعادها ثلاث مرات. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة، قال: جاء رجل إلى النبي (ص)، فسأله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف، وإن كان رجل يورث كلالة... إلى آخر الآية. حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا إسحاق بن عيسى، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير: أن رجلا سأل عقبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا ؟ يسألني عن الكلالة، وما عضل بأصحاب رسول الله (ص) شئ ما أعضلت بهم الكلالة. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله جل ثناؤه: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عباس وابن الزبير، على أن الميت لو ترك ابنة وأختا، أن لابنته النصف، وما بقي فلاخته إذا كانت أخته لابيه وأمه أو لابيه ؟ وأين ذلك من قوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وقد ورثوها النصف مع الولد ؟ قيل: إن الامر في ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، إنما جعل الله جل ثناؤه بقوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى وكان موروثا كلالة، النصف من تركته فريضة لها مسماة فأما إذا كان للميت ولد أنثى فهي مع عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها لو لم تكن، وذلك غير محدود بحد، ولا مفروض لها فرض سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميتهم. ولم يقل الله في كتابه: فإن كان له ولد فلا شئ لاخته معه، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجه يوجه إليه، وإنما بين جل ثناؤه مبلغ حقها إذا ورث الميت كلالة
[ 61 ]
وترك بيان مالها من حق إذا لم يورث كلالة في كتابه وبينه بوحيه على لسان رسوله (ص)، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت، وذلك معنى غير معنى وراثتها الميت إذا كان موروثا كلالة. القول في تأويل قوله تعالى: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. يعني جل ثناؤه بذلك: وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله إذا ورثت كلالة ولم يكن لها ولد ولا والد. القول في تأويل قوله: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين. يعني جل ثناؤه بقوله: فإن كانتا اثنتين: فإن كانت المتروكة من الاخوات لابيه وأمه أو لابيه اثنتين، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت إذا لم يكن له ولد وورث كلالة. وإن كانوا إخوة يعني: وإن كان المتروكون من إخوته رجالا ونساء. فللذكر منهم بميراثهم عنه من تركته مثل حظ الانثيين يعني: مثل نصيب اثنتين من أخواته، وذلك إذا ورث كلالة، والاخوة والاخوات إخوته وأخواته لابيه وأمه، أو لابيه. القول في تأويل قوله تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا. يعني بذلك جل ثناؤه: يبين الله لكم قسمة مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم أن تضلوا بمعنى: لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها: أي لئلا تجوروا عن الحق في ذلك، وتخطئوا الحكم فيه، فتضلوا عن قصد السبيل. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: يبين الله لكم أن تضلوا قال: في شأن المواريث. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن حميد المعمري، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعا: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان عمر إذا قرأ: يبين الله لكم أن تضلوا قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي. قال أبو جعفر: وموضع أن في قوله: يبين الله لكم أن تضلوا نصب في قول بعض أهل العربية لاتصالها بالفعل، وفي قول بعضهم خفض، بمعنى: يبين الله لكم بأن لا
[ 62 ]
تضلوا، ولئلا تضلوا وأسقطت لا من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى، لدلالة الكلام عليها، والعرب تفعل ذلك، تقول: جئتك أن تلومني، بمعنى: جئتك أن لا تلومني، كما قال القطامي في صفة ناقة: رأينا ما يرى البصراء فيها فآلينا عليها أن تباعا بمعنى: ألا تباع. القول في تأويل قوله تعالى: والله بكل شئ عليم. يعني بذلك جل ثناؤه: والله بكل شئ من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها وجميع الاشياء عليم يقول: هو بذلك كله ذو علم. آخر تفسير سورة النساء، والحمد لله رب العالمين.
[ 63 ]
سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) * يعني جل ثناؤه بقوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الالوهية، وصدقوا رسوله محمدا (ص) في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه، أوفوا بالعقود يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها. واختلف أهل التأويل في العقود التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى العقود: العهود فقال بعضهم: هي العقول التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا، وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. ذكر من قال ذلك: معنى العقود العهود: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: أوفوا بالعقود يعني: بالعهود. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزوجل: أوفوا بالعقود قال: العهود.
[ 64 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل يحدثهم، فقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال: هي العهود. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أوفوا بالعقود قال: العهود. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال: هي العهود. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: أوفوا بالعقود بالعهود. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: أوفوا بالعقود قال: بالعهود. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أوفوا بالعقود قال: هي العهود. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: سمعت الثوري يقول: أوفوا بالعقود قال: بالعهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال أبو جعفر: والعقود: جمع عقد، وأصل العقد: عقد الشئ بغيره، وهو وصله به، كما تعقد الحبل بالحبل: إذا وصل به شدا، يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده، ومنه قول الحطيئة:
[ 65 ]
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا وذلك إذا واثقه على أمر، وعاهده عليه عهدا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمان وذمة، أو نصرة، أو نكاح، أو بيع، أو شركة، أو غير ذلك من العقود. ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله: أوفوا بالعقود. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أي بعقد الجاهلية. ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدا في الاسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله (ص) عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله (ص): لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله ؟ فقال: نعم يا نبي الله، قال: لا يزيده الاسلام إلا شدة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن قتادة: أوفوا بالعقود قال: عقود الجاهلية: الحلف. وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالايمان به وطاعته فيما أحل لهم وحرم عليهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: أخبرنا عبد الله، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: أوفوا بالعقود يعني: ما أحل، وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكثو ثم شدد ذلك فقال: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل... إلى قوله: سوء الدار.
[ 66 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أوفوا بالعقود ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم. وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثني أبي، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، قال: العقود خمس: عقدة الايمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدة الحلف. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا وكيع. عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة، نحوه. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال: عقد العهد وعقد اليمين، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد النكاح. قال: هذه العقود خمس. حدثني المثنى، قال: ثنا عتبة بن سعيد الحمصي، قال: ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: ثنا أبي في قول الله عزوجل: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقد الشركة، وعقد اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف. وقال آخرون: بل هذه الآية أمر من الله تعالى لاهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والانجيل في تصديق محمد (ص) وما جاءهم به من عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: أوفوا بالعقود قال: العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، قال: قال محمد بن مسلم. قرأت كتاب رسول الله (ص) الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه: هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. فكتب الآيات منها، حتى بلغ: إن الله سريع الحساب.
[ 67 ]
وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا يا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها، فيما أحل لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبين لكم حدوده. وأنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الاقوال، لان الله عزوجل أتبع ذلك البيان عما أحل لعباده وحرم عليهم وما أوجب عليهم من فرائضه، فكان معلوما بذلك أن قوله: أوفوا بالعقود أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله: أوفوا بالعقود أمر منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخص منه شئ حتى تقوم حجة بخصوص شئ منه يجب التسليم لها. فإذ كان الامر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجه ذلك إلى معنى الامر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض. وأما قوله: أوفوا فإن للعرب فيه لغتين: إحداهما: أوفوا من قول القائل: أوفيت لفلان بعهده أو في له به والاخرى من قولهم: وفيت له بعهده أفي. والايفاء بالعهد: إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة. القول في تأويل قوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الانعام. اختلف أهل التأويل في بهيمة الانعام التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا، فقال بعضهم: هي الانعام كلها. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن عوف، عن الحسن، قال: بهيمة الانعام: هي الابل والبقر والغنم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام قال: الانعام كلها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا ابن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أحلت لكم بهيمة الانعام قال: الانعام كلها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام قال: الانعام كلها. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: بهيمة الانعام: هي الانعام.
[ 68 ]
وقال آخرون: بل عني بقوله: أحلت لكم بهيمة الانعام: أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا نحرت أو ذبحت ميتة. ذكر من قال ذلك: حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا عبد العزيز، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري، عن عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام قال: ما في بطونها. قال: قلت: إن خرج ميتا آكله ؟ قال: نعم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن إدريس الاودي، عن عطية، عن ابن عمر نحوه، وزاد فيه، قال: نعم، هو بمنزلة رئتها وكبدها. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الجنين من بهيمة الانعام فكلوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر وسفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: أن بقرة نحرت، فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين، فقال: هذا من بهيمة الانعام التي أحلت لكم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: هو من بهيمة الانعام. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم ومؤمل، قالا: ثنا سفيان، عن قابوس، عن أبيه، قال: ذبحنا بقرة، فإذا في بطنها جنين، فسألنا ابن عباس، فقال: هذه بهيمة الانعام. وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال: عنى بقوله: أحلت لكم بهيمة الانعام: الانعام كلها، أجنتها وسخالها وكبارها، لان العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك بهيمة وبهائم، ولم يخصص الله منها شيئا دون شئ، فذلك على عمومه وظاهره حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها. وأما النعم فإنها عند العرب: أسم للابل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه: والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون ثم قال: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ففصل جنس النعم من
[ 69 ]
غيرها من أجناس الحيوان. وأما بهائمها فإنها أولادها. وإنما قلنا: يلزم الكبار منها اسم بهيمة كما يلزم الصغار، لان معنى قول القائل: بهيمة الانعام، نظير قوله: ولد الانعام فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر. وقد قال قوم: بهيمة الانعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر. القول في تأويل قوله تعالى: إلا ما يتلى عليكم. اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله: إلا ما يتلى عليكم فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الابل والبقر والغنم، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: حرمت عليكم الميتة والدم... الآية. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم: إلا الميتة وما ذكر معها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم: أي من الميتة التي نهى الله عنها وقدم فيها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: إلا ما يتلى عليكم قال: إلا الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إلا ما يتلى عليكم: الميتة، والدم، ولحم الخنزير. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم: الميتة ولحم الخنزير. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم: هي الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به. وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله: إلا ما يتلى عليكم الخنزير. ذكر من قال ذلك:
[ 70 ]
حدثني عبد الله بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: إلا ما يتلى عليكم قال: الخنزير. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إلا ما يتلى عليكم يعني: الخنزير. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: عني بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرم عليكم بقوله: حرمت عليكم الميتة... الآية، لان الله عزو جل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الانعام ما حرم عليهم منها، والذي حرم عليهم منها ما بينه في قوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وإن كان حرمه الله علينا فليس من بهيمة الانعام فيستثنى منها، فاستثناء ما حرم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء أشبه من استثناء ما حرم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء. القول في تأويل قوله تعالى: غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم، أحلت لكم بهيمة الانعام. فذلك على قولهم من المؤخر الذي معناه التقديم، ف غير منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله: أوفوا، من ذكر الذين آمنوا. وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا أيها المؤمنون بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلين الصيد وأنتم حرم. وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الانعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر، غير محلي الصيد: غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، إلا ما يتلى عليكم. ف غير على قول هؤلاء منصوب على الحال من الكاف والميم اللتين في قوله: لكم بتأويل: أحلت لكم أيها الذين آمنوا بهيمة الانعام، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الانعام كلها، إلا ما يتلى عليكم، إلا ما كان منها وحشيا، فإنه صيد فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من قال ذلك، وجه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الانعام كلها، إلا ما يتلى عليكم، إلا ما يبين لكم من وحشيها، غير
[ 71 ]
مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم، فتكون غير منصوبة على قولهم على الحال من الكاف والميم في قوله: إلا ما يتلى عليكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل، فحدثهم فقال: أحلت لكم بهيمة الانعام صيدا، غير محلي الصيد وأنتم حرم، فهو عليكم حرام. يعني: بقر الوحش والظباء وأشباهه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم قال: الانعام كلها حل إلا ما كان منها وحشيا، فإنه صيد، فلا يحل إذا كان محرما. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام من أنها الانعام وأجنتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم حرم، فقد أحلت لكم بهيمة الانعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم وما أهل لغير الله به. وذلك أن قوله: إلا ما يتلى عليكم لو كان معناه: إلا الصيد، لقيل: إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه، وفي ترك الله وصل قوله: إلا ما يتلى عليكم بما ذكرت، وإظهار ذكر الصيد في قوله: غير محلي الصيد أوضح الدليل على أن قوله: إلا ما يتلى عليكم خبر متناهية قصته، وأن معنى قوله: غير محلي الصيد منفصل منه. وكذلك لو كان قوله: أحلت لكم بهيمة الانعام مقصودا به قصد الوحش، لم يكن أيضا لاعادة ذكر الصيد في قوله: غير محلي الصيد وجه وقد مضى ذكره قبل، ولقيل: أحلت لكم بهيمة الانعام، إلا ما يتلى عليكم، غير محليه وأنتم حرم. وفي أظهاره ذكر الصيد في قوله: غير محلي الصيد أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك. فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشئ باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم، وتوجيه
[ 72 ]
كلام الله إلى الافصح من لغات من نزل كلامه بلغته أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك. فمعنى الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم، مما حرم وأحل، لا محلين الصيد في حرمكم، ففيما أحل لكم من بهيمة الانعام المذكاة دون ميتتها متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله يحكم ما يريد. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، فأوفوا أيها المؤمنون له بما عقد عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرم عليكم، وغير ذلك من عقوده فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: إن الله يحكم ما يريد: إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبين لعباده، وفرض فرائضه، وحد حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) *.. اختلف أهل التأويل في معنى قول الله: لا تحلوا شعائر الله فقال بعضهم: معناه: لا تحلوا حرمات الله، ولا تتعدوا حدوده. كأنهم وجهوا الشعائر إلى المعالم، وتأولوا لا تحلوا شعائر الله: معالم حدود الله، وأمره، ونهيه، وفرائضه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: ثنا حبيب المعلم، عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله، فقال: حرمات الله: اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله.
[ 73 ]
وقال آخرون: معنى قوله: لا تحلوا حرم الله. فكأنهم وجهوا معنى قوله: شعائر الله: أي معالم حرم الله من البلاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله قال: أما شعائر الله: فحرم الله. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها. وكأنهم وجهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدها لكم في حجكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: لا تحلوا شعائر الله قال: مناسك الحج. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله عزوجل: لا تحلوا شعائر الله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: شعائر الله: الصفا والمروة، والهدي، والبدن، كل هذا من شعائر الله. حدثني المثنى، قال: ثني أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لا تحلوا شعائر الله قال: شعائر الله: ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم. وكأن الذين قالوا هذه المقالة، وجهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرمها عليكم في إحرامكم.
[ 74 ]
وأولى التأويلات بقوله: لا تحلوا شعائر الله قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه، لان الشعائر جمع شعيرة، والشعيرة: فعيلة من قول القائل: قد شعر فلان بهذا الامر: إذا علم به، فالشعائر: المعالم من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: لا تستحلوا أيها الذين آمنوا معالم الله، فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج، من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه، لان كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل، يعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه. وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى: لا تحلوا شعائر الله لان الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده، وإحلالها نهيا عاما من غير اختصاص شئ من ذلك دون شئ، فلم يجز لاحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: ولا الشهر الحرام. يعني جل ثناؤه بقوله: ولا الشهر الحرام: ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم به أعداءكم من المشركين، وهو كقوله: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا الشهر الحرام يعني: لا تستحلوا قتالا فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. وأما الشهر الحرام الذي عناه الله بقوله: ولا الشهر الحرام فرجب مضر، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. وقد قيل: هو في هذا الموضع ذو القعدة. ذكر من قال ذلك:
[ 75 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: هو ذو القعدة. وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه. القول في تأويل قوله تعالى: ولا الهدي ولا القلائد. أما الهدي: فهو ما أهداه المرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله، تقربا به إلى الله وطلب ثوابه. يقول الله عزوجل: فلا تستحلوا ذلك فتغصبوا أهله عليه، ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به المحل الذي جعله الله محله من كعبته. وقد روي عن ابن عباس أن الهدي إنما يكون هديا ما لم يقلد. حدثني بذلك محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولا الهدي قال: الهدي ما لم يقلد، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده. وأما قوله: ولا القلائد فإنه يعني: ولا تحلوا أيضا القلائد. ثم اختلف أهل التأويل في القلائد التي نهى الله عز وجل عن إحلالها، فقال بعضهم: عنى بالقلائد: قلائد الهدي وقالوا: إنما أراد الله بقوله: ولا الهدي ولا القلائد: ولا تحلوا الهدايا المقلدات منها وغير المقلدات فقوله: ولا الهدي ما لم يقلد من الهدايا، ولا القلائد المقلد منها. قالوا: ودل بقوله: ولا القلائد على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلدة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ولا القلائد القلائد: مقلدات الهدي، وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم، فإن فعل ذلك وعليه قميصه فليخلعه. وقال آخرون: يعني ذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشعر. ذكر من قال ذلك:
[ 76 ]
حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد. وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلد إذا أراد الخروج من الحرم أو خرج من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء: ولا القلائد قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم، فنزلت: لا تحلوا شعائر الله... الآية، ولا الهدي ولا القلائد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولا القلائد قال: القلائد: اللحاء في رقاب الناس والبهائم أمن لهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: ولا الهدي ولا القلائد قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الاشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: ولا القلائد قال: القلائد: كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم فيتقلدها، ثم يذهب حيث شاء، فيأمن بذلك، فذلك القلائد. وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله: ولا القلائد أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:
[ 77 ]
ولا الهدي ولا القلائد كان المشركون يأخذون من شجر مكة من لحاء السمر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس، فنهى الله أن ينزع شجرها فيتقلد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل، فحدثهم في قوله: ولا القلائد قال: كان المشركون يأخذون من شجر مكة من لحاء السمر فيتقلدون، فيأمنون بها في الناس، فنهى الله عز ذكره أن ينزل شجرها فيتقلد. والذي هو أولى بتأويل قوله: ولا القلائد إذ كانت معطوفة على أول الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهى عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شئ أن يكون معناه: ولا تحلوا القلائد. فإذ كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نهي من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلد هديا كان ذلك أو إنسانا، دون حرمة القلادة وأن الله عز ذكره إنما دل بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلد، فاجتزأ بذكره القلائد من ذكر المقلد، إذ كان مفهوما عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به. فمعنى الآية إذ كان الامر على ما وصفنا: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا المقلد بقسميه بقلائد الحرم. وقد ذكر بعض الشعراء في شعره، ما ذكرنا عمن تأول القلائد أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلدا ذلك: ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا كما يمران بالايدي اللحاء المضفرا والحرجان: المقتولان كذلك. ومعنى قوله: أعوراكما: أمكناكما من عورتهما. القول في تأويل قوله تعالى: ولا آمين البيت الحرام.
[ 78 ]
يعني بقوله عز ذكر هو لا آمين البيت الحرام: ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام العامدية، تقول منه: أممت كذا: إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول: يممته، كما قال الشاعر: إني كذاك إذا ما ساءني بلديممت صدر بعيري غيره بلدا والبيت الحرام: بيت الله الذي بمكة وقد بينت فيما مضى لم قيل له الحرام. يبتغون فضلا من ربهم يعني: يلتمسون أرباحا في تجارتهم من الله. ورضوانا يقول: وأن يرضى الله عنهم بنسكهم. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أقبل الحطم بن هند البكري، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة، حتى أتى النبي (ص) وحده، وخلف خيله خارجة من المدينة، فدعاه فقال: إلام تدعو ؟ فأخبره، وقد كان النبي (ص) قال لاصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان. فلما أخبره النبي (ص) قال: انظروا لعلي أسلم، ولي من أشاوره. فخرج من عنده، فقال رسول الله (ص): لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر. فمر بسرح من سرح المدينة، فساقه، فانطلق به وهو يرتجز: قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
[ 79 ]
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى، فأراد رسول الله (ص) أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ: ولا آمين البيت الحرام قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله خل بيننا وبينه، فإنه صاحبنا قال: إنه قد قلد. قالوا: إنما هي شئ كنا نصنعه في الجاهلية. فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: قدم الحطم أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري المدينة في عير له يحمل طعاما، فباعه. ثم دخل على النبي (ص)، فبايعه، وأسلم. فلما ولى خارجا نظر إليه، فقال لمن عنده: لقد دخل علي بوجه فاجر وولى بقفا غادر. فلما قدم اليمامة ارتد عن الاسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة، يريد مكة فلما سمع به أصحاب رسول الله (ص)، تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والانصار ليقتطعوه في عيره، فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله... الآية، فانتهى القوم. قال ابن جريج: قوله: ولا آمين البيت الحرام قال: ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم. قال: وذلك أن الحطم قدم على النبي (ص) ليرتاد وينظر، فقال: إني داعية قومي، فاعرض علي ما تقول قال له: أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت. قال: الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلت معهم، وإن أدبروا كنت معهم. قال له: ارجع فلما خرج، قال: لقد دخل علي بوجه كافر وخرج من عندي بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم. فمر على سرح لاهل المدينة، فانطلق به فطلبه أصحاب رسول الله (ص)، ففاتهم. وقدم اليمامة، وحضر الحج، فجهز خارجا، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عزوجل: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا آمين البيت الحرام... الآية، قال: هذا يوم الفتح جاء ناس يأمون البيت من المشركين، يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون، فمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم فنزل القرآن: ولا آمين البيت الحرام.
[ 80 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ولا آمين البيت الحرام يقول: من توجه حاجا. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ولا آمين البيت الحرام يعني: الحاج. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل، فحدثهم فقال: ولا آمين البيت الحرام قال: الذين يريدون البيت. ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخا، فقال بعضهم: نسخ جميعها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن بيان، عن عام، قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله نسختها: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن بيان، عن الشعبي، قال: لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام... الآية، قال: منسوخ. قال: كان المشركون يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الاشهر الحرم ولا عند البيت، فنسخها قوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: لا تحلوا شعائر الله... إلى قوله: ولا آمين البيت الحرام قال: نسختها براءة: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.
[ 81 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن الضحاك، مثله. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جويبر، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد قال: هذا شئ نهي عنه، فترك كما هو. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال: هذا كله منسوخ، نسخ هذا أمره بجهادهم كافة. وقال آخرون: الذي نسخ من هذه الآية، قوله: ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، فقال: هكذا سمعته من قتادة نسخ من المائدة: آمين البيت الحرام نسختها براءة، قال الله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقال: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، وقال: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالاذان. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام بن يحيى، عن قتادة، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله... الآية، قال: فنسخ منها: آمين البيت الحرام نسختها براءة، فقال: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، فذكر نحو حديث عبدة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، ثنا أسباط، عن السدي، قال: نزل في شأن الحطم: ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ثم نسخه الله فقال: اقتلوهم حيث ثقفتموهم.
[ 82 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: لا تحلوا شعائر الله... إلى قوله: ولا آمين البيت جميعا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وقال: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله، وقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فنفي المشركين من المسجد الحرام. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام... الآية، قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من السمر فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، وأمروا أن لا يقاتلوا في الاشهر الحرم ولا عند البيت، فنسخها قوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شئ إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام... الآية، قال أصحاب محمد (ص): هذا كله من عمل الجاهلية، فعله وإقامته، فحرم الله ذلك كله بالاسلام، إلا لحاء القلائد، فترك ذلك. ولا آمين البيت الحرام فحرم الله على كل أحد إخافتهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأولى الاقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله: ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام لاجماع الجميع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الاشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها، وكذلك أجمعوا على
[ 83 ]
أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان. وقد بينا فيما مضى معنى القلائد في غير هذا الموضع. وأما قوله: ولا أمين البيت الحرام فإنه محتمل ظاهره: ولا تحلوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والاسلام، لعموم جميع من أم البيت. وإذا احتمل ذلك، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم، فلا شك أن قوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخ له، لانه غير جائز اجتماع الامر بقتلهم وترك قتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم، أموا البيت الحرام أو البيت المقدس في أشهر الحرم وغيرها، ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخ، ومحتمل أيضا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك، وأكثر أهل التأويل على ذلك. وإن كان عنى بذلك المشركون من أهل الحرب، فهو أيضا لا شك منسوخ. وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضا فيهم ظاهرا حجة، فالواجب وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم. القول في تأويل قوله تعالى: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا. يعني بقوله: يبتغون: يطلبون ويلتمسون. والفضل: الارباح في التجارة والرضوان: رضا الله عنهم، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحل بغيرهم من الامم في عاجل دنياهم بحجهم بيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن قتادة في قوله: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال: هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، فقال: هكذا سمعته من قتادة في قوله: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا والفضل والرضوان: اللذان يبتغون أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها.
[ 84 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا يعني: أنهم يترضون الله بحجهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: جلسنا إلى مطرف بن الشخير، وعنده رجل، فحدثهم في قوله: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال: التجارة في الحج، والرضوان في الحج. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي أميمة، قال: قال ابن عمر في الرجل يحج، ويحمل معه متاعا، قال: لا بأس به. وتلا هذه الآية: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال: يبتغون الاجر والتجارة. القول في تأويل قوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا. يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تحلوه وأنتم حرم، يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده واصطادوا إن شئتم حينئذ، لان المعنى الذي من أجله كنت حرمته عليكم في حال إحرامكم قد زال. وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، أنه قال: هي رخصة. يعني قوله: وإذا حللتم فاصطادوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن حجاج، عن القاسم، عن مجاهد، قال: خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعزمة، فذكر: وإذا حللتم فاصطادوا قال: من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد: وإذا حللتم فاصطادوا قال: إذا حل، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن رجل، عن
[ 85 ]
مجاهد: أنه كان لا يرى الاكل من هدى المتعة واجبا، وكان يتأول هذه الآية: وإذا حللتم فاصطادوا: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض. القول في تأويل قوله تعالى: ولا يجرمنكم. يعني جل ثناؤه بقوله: ولا يجرمنكم ولا يحملنكم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم يقول: لا يحملنكم شنآن قوم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم أي لا يحملنكم. وأما أهل المعرفة باللغة، فإنهم اختلفوا في تأويلها، فقال بعض البصريين: معنى قوله: ولا يجرمنكم: لا يحقن لكم لان قوله: لا جرم أن لهم النار: هو حق أن لهم النار. وقال بعض الكوفيين معناه: لا يحملنكم. وقال: يقال: جرمنى فلان على أن صنعت كذا وكذا: أي حملني عليه. واحتج جميعهم ببيت الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن، فقال الذين قالوا: لا يجرمنكم: لا يحقن لكم معنى قول الشاعر: جرمت فزارة: أحقت الطعنة لفزارة الغضب. وقال الذين قالوا معناه: لا يحملنكم: معناه في البيت: جرمت فزارة أن يغضبوا: حملت فزارة على أن يغضبوا. وقال آخر من الكوفيين: معنى قوله: لا
[ 86 ]
يجرمنكم: لا يكسبنكم شنآن قوم. وتأويل قائل هذا القول قول الشاعر في البيت: جرمت فزارة: كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول: فلان جريمة أهله، بمعنى: كاسبهم، وخرج يجرمهم: يكسبهم. وهذه الاقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه متقاربة المعنى وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل فقد أكسبه بغضه، ومن أكسبه بغضه فقد أحقه له. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أحسن في الابانة عن معنى الحرف، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيهما معنى قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم: ولا يحملنكم شنآن قوم على العدوان. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الامصار: ولا يجرمنكم بفتح الياء من: جرمته أجرمه. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين، وهو يحيى بن وثاب والاعمش، ما: حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن الاعمش، أنه قرأ: ولا يجرمنكم مرتفعة الياء من أجرمته أجرمه وهو يجرمني. والذي هو أولى بالصواب من القراءتين، قراءة من قرأ ذلك: ولا يجرمنكم بفتح الياء، لاستفاضة القراءة بذلك في قراء الامصار وشذوذ ما خالفها، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب، وإن كان مسموعا من بعضها: أجرم يجرم، على شذوذه، وقراءة القرآن بأفصح اللغات أولى وأحق منها بغير ذلك ومن لغة من قال: جرمت، قول الشاعر: يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآس القول في تأويل قوله تعالى: شنآن قوم. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: شنآن بتحريك الشين والنون إلى الفتح، بمعنى: بغض قوم توجيها منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على فعلان نظير الطيران، والنسلان، والعسلان، والرملان. وقرأ ذلك آخرون: شنآن قوم بتسكين النون وفتح الشين، بمعنى الاسم توجيها منهم معناه إلى: لا يحملنكم بغض قوم، فيخرج
[ 87 ]
شنآن على تقدير فعلان، لان فعل منه على فعل، كما يقال: سكران من سكر، وعطشان من عطش، وما أشبه ذلك من الاسماء. والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: شنآن بفتح النون محركة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم، وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم. وإذ كان ذلك موجها إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على الفعلان بفتح الفاء تحريك ثانيه دون تسكينه، كما وصفت من قولهم: الدرجان، والرملان من درج ورمل، فكذلك الشنآن من شنئته أشنؤه شنآنا. ومن العرب من يقول: شنان على تقدير فعال، ولا أعلم قارئا قرأ ذلك كذلك، ومن ذلك قول الشاعر: وما العيش إلا ما يلذ ويشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا وهذا في لغة من ترك الهمز من الشنآن، فصار على تقدير فعال وهو في الاصل فعلان. ذكر من قال من أهل التأويل: شنآن قوم: بغض قوم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم: لا يحملنكم بغض قوم. وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده، عن ابن عباس، فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ولا يجرمنكم شنآن قوم: لا يجرمنكم بغض قوم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم قال: بغضاؤهم أن تعتدوا.
[ 88 ]
القول في تأويل قوله تعالى: أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قراء الكوفيين: أن صدوكم بفتح الالف من أن بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وكان بعض قراء الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم بكسر الالف من إن بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدا عن المسجد الحرام، أن تعتدوا. فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: إن يصدكم فقرءوا ذلك كذلك اعتبارا بقراءته. والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قراءة الامصار، صحيح معنى كل واحدة منهما. وذلك أن النبي (ص) صد عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه سورة المائدة بعد ذلك. فمن قرأ: أن صدوكم بفتح الالف من أن فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم أنها الناس من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم. ومن قرأ: إن صدوكم بكسر الالف، فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله، لان الذين حاربوا رسول الله (ص) وأصحابه من تقريش يوم فتح مكة قد حاولوا صدهم عن المسجد الحرام م قبل أن يكون ذلك من الصادين. غير أن الامر وإن كان كما وصفت، فإن قراءة ذلك بفتح الالف أبين معنى، لان هذه السورة لا تدافع بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية. وإذ كان ذلك كذلك، فالصد قد كان تقدم من المشركين، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادين من أجل صدهم إياهم عن المسجد الحرام، وأما قوله: أن تعتدوا فإنه يعني: أن تجاوزا الحد الذي حده الله لكم في أمرهم. فتأويل الآية إذن: ولا يحملنكم بغض قوم لان صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون أن تعتدوا حكم الله فيهم فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم. وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذحول الجاهلية. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أن تعتدوا رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفا
[ 89 ]
لابي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لانه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد (ص): لعن الله من قتل بذحل الجاهلية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: هذا منسوخ. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا قال: بغضاؤهم، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا، وقال: هذا كله قد نسخ، نسخه الجهاد. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد: إنه غير منسوخ لاحتماله أن تعتدوا الحق فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يجذأن يقال: هو منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان. يعني جل ثناؤه بقوله: وتعاونووا على البر والتقوى وليعن بعضكم أيها المؤمنون بعضا على البر، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به والتقوى: هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. وقوله: ولا تعاونوا على الاثم والعدوان يعني: ولا يعن بعضكم بعضا على الاثم، يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله. والعدوان يقول: ولا على أن تتجاوزا ما حد الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضا بالامر بالانتهاء إلى ما حده الله لكم في القوم الذين صدوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضا على خلاف ذلك. وبما قلنا في البر والتقوى قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وتعاونوا على البر والتقوى البر: ما أمرت به، والتقوى: ما نهيت عنه.
[ 90 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وتعاونوا على البر والتقوى قال: البر: ما أمرت به، والتقوى: ما نهيت عنه. القول في تأويل قوله تعالى: واتقوا الله إن الله شديد العقاب. وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهديد لمن اعتدى حده وتجاوز أمره. يقول عز ذكره: واتقوا الله يعني: واحذروا الله أيها المؤمنون أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حده فيما حد لكم وخالفتم أمره فيما أمركم به أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه وتستحقوا أليم عذابه ثم وصف عقابه بالشدة، فقال عز ذكره: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من خلقه، لانها نار لا يطفأ حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها. نعوذ بالله منها ومن عمل يقربنا منها. القول في تأويل قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: حرم الله عليكم أيها المؤمنون الميتة، والميتة: كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكلها، وأهليها ووحشيها، فارقتها روحها بغير تذكية. وقد قال بعضهم: الميتة: هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية مما أحل الله أكله. وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك في كتابنا: كتاب اللطيف القول في الاحكام. وأما الدم، فإن الدم المسفوح دون ما كان منه غير مسفوح، لان الله جل ثناؤه قال: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير: فأما ما كان قد صار في معنى اللحم كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير منسفح، فإن ذلك غير حرام، لاجماع الجميع على ذلك.
[ 91 ]
وأما قوله: ولحم الخنزير فإنه يعني: وحرم عليكم لحم الخنزير، أهليه وبريه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره، حرام جميعه لم يخصص منه شئ. وأما قوله وما أهل لغير الله به فإنه يعني: وما ذكر عليه غير اسم الله. وأصله من استهلال الصبي وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه إهلال المحرم بالحج إذا لبى به، ومنه قول ابن أحمر: يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وإنما عنى بقوله: وما أهل لغير الله به: وما ذبح للآلهة وللاوثان يسمى عليه غير اسم الله. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى فكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: والمنخنقة. اختلفت أهل التأويل في صفة الانخناق الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله والمنخنقة. فقال بعضهم بما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: والمنخنقة قال: التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة، فتختنق فتموت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك، في المنخنقة، قال: التي تختنق فتموت. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: والمنخنقة التي تموت في خناقها. وقال آخرون: هي التي توثق فيقتلها بالخناق وثاقها. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والمنخنقة قال: الشاة توثق، فيقتلها خناقها، فهي حرام.
[ 92 ]
وقال آخرون: بل هي البهيمة من النعم، كان المشركون يخنقونها حتى تموت، فحرم الله أكلها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: والمنخنقة: التي تخنق فتموت. حدثنا ثنى قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والمنخنقة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. وأولى هذه الاقوال بالصواب، قول من قال: هي التي تختنق، إما في وثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره، لان المنخنقة: هي الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل: والمخنوقة، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا. القول في تأويل قوله تعالى: والموقوذة: يعني جل ثناؤه بقوله والموقوذة: والميتة وقيذا، يقال منه: وقذه يقذه وقذا: إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك، ومنه قول الفرزدق: شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الابكار وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 93 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: والموقوذة قال: الموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يقذها فتموت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة: والموقوذة كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا، حتى إذا ماتت أكلوها. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن قتادة في قوله: والموقوذة قال: كانوا يضربونها حتى يقذوها، ثم يأكلوها. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: والموقوذة التي توقذ فتموت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الموقوذة: التي تضرب حتى تموت. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: والموقوذة قال: هي التي تضرب فتموت. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والموقوذة: كانت الشاة أو غيرها من الانعام تضرب بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها. حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني عقبة بن علقمة، ثني إبراهيم بن أبي عبلة، قال: ثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد الله الصنابحي، قال: ليست الموقوذة إلا في مالك، وليس في الصيد وقيذ. القول في تأويل قوله تعالى: والمتردية. يعني بذلك جل ثناؤه: وحرمت عليكم الميتة ترديا من جبل، أو في بئر، أو غير ذلك. وترديها: رميها بنفسها من مكان عال مشرف إلى سفله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: والمتردية قال: التي تتردى من الجبل.
[ 94 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والمتردية: كانت تتردى في البئر فتموت فيأكلونها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والمتردية قال: التي تردت في البئر. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: والمتردية قال: هي التي تردى من الجبل أو في البئر، فتموت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك: المتردية: التي تردى من الجبل فتموت. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والمتردية قال: التي تخر في ركي أو من رأس جبل فتموت. القول في تأويل قوله تعالى: والنطيحة. يعني بقوله النطيحة: الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية، فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته. وأصل النطيحة: المنطوحة، صرفت من مفعولة إلى فعيلة. فإن قال قائل: وكيف أثبتت الهاء هاء التأنيث فيها، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت الهاء في نظائرها إذا صرفوها صرف النطيحة من مفعول إلى فعيل، إنما تقول: لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، ولا يقولون كف خضيبة ولا عين كحيلة ؟ قيل: قد اختلفت أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي البصرة: أثبتت فيها الهاء، أعني في النطيحة، لانها جعلت كالاسم مثل الطويلة والطريقة فكأن قائل هذا القول وجه النطيحة إلى معنى الناطحة. فتأويل الكلام على مذهبه: وحرمت عليكم الميتة نطاحا، كأنه عنى: وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما تحذف العرب الهاء من الفعيلة المصروفة عن المفعول إذا جعلتها صفة لاسم، قد تقدمها، فتقول: رأينا كفا خضيبا وعينا كحيلا. فأما إذا حذفت الكف والعين والاسم الذي يكون فعيل نعتا
[ 95 ]
لها واجتزءوا بفعيل منها، أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فتقول: رأينا كحيلة وخضيبة وأكيلة السبع، قالوا: ولذلك أدخلت الهاء في النطيحة، لانها صفة المؤنث، ولو أسقطت منها لم يدر أهي صفة مؤنث أو مذكر. وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل، بأن معنى النطيحة: المنطوحة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: والنطيحة قال: الشاة تنطح الشاة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: كان يقرأ: والمنطوحة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك: والنطيحة: الشاتان ينتطحان فيموتان. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: والنطيحة: هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت. يقول: هذا حرام، لان ناسا من العرب كانوا يأكلونه. حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والنطيحة كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والنطيحة الكبشان ينتطحان فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد،، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والنطيحة قال: الشاة تنطح الشاة فتموت. القول في تأويل قوله تعالى: وما أكل السبع. يعني جل ثناؤه بقوله: وما أكل السبع: وحرم عليكم ما أكل السبع غير المعلم من الصوائد. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وما أكل السبع يقول: ما أخذ السبع.
[ 96 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك: وما أكل السبع يقول: ما أخذ السبع. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وما أكل السبع قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن عطاء بن السائب، عن أبي الربيع، عن ابن عباس أنه قرأ: وأكيل السبع. القول في تأويل قوله تعالى: إلا ما ذكيتم. يعني جل ثناؤه بقوله: إلا ما ذكيتم: إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورا. ثم اختلفت أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله: إلا ما ذكيتم فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه، من قوله وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: إلا ما ذكيتم يقول: ما أدركت ذكاته من هذا كله، يتحرك له ذنب أو تطرف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم قال الحسن: أي هذا أدركت ذكاته فذكه وكل. فقلت: يا أبا سعيد كيف أعرف ؟ قال: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذنبها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: إلا ما ذكيتم قال: فكل هذا الذي سماه الله عزوجل ههنا ما خلا لحم الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو قائمة تركض، فذكيته، فقد أحل الله لك ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: إلا ما ذكيتم من هذا كله، فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله، فهي لك حلال.
[ 97 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم وعباد، قالا: أخبرنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي، قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا معمر، عن إبراهيم، قال: إذا أكل السبع من الصيد أو الوقيذة، أو النطيحة أو المتردية فأدركت ذكاته، فكل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مصعب بن سلام التميمي، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: إذا ركضت برجلها أو طرفت بعينها أو حركت ذنبها، فقد أجزأ. حدثنا ابن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس، عن أبيه، قال: إذا ذبحت فمصعت بذنبها أو تحركت فقدحلت لك. أو قال: فحسب. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصع بذنبها، فاذبح وكل. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة، بمثله. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع عبيد بن عمير، يقول: إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحركت، فقد حلت لك. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرم الله في الاسلام إلا ما ذكي منه، فما أدرك فتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف فذكي، فهو حلال. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقوله: والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة... الآية، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم هذا كله محرم، إلا ما ذكي من هذا.
[ 98 ]
فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردية إن ماتت من التردي والوقذ والنطح وفرس السبع، إلا أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فتكون حنيئذ حلالا أكلها. وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، وليس باستثناء من المحرمات التي ذكرها الله تعالى في قوله: حرمت عليكم الميتة لان الميتة لا ذكاة لها ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرمت عليكم المتية والدم، وسائر ما سمينا مع ذلك، إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة. ذكر بعض من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك: وسئل عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاأها، فقال مالك: لا أرى أن تذكى ولا يؤكل أي شئ يذكى منها. حدثني يونس، عن أشهب، قال: سئل مالك، عن السبع يعدو على الكبش، فيدق ظهره، أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل ؟ إن كان بلغ السحر، فلا أرى أن يؤكل، وإن كان إنما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسا. قيل له: وثب عليه فدق ظهره ؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الامعاء ؟ قال: إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل. وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله: إلا ما ذكيتم استثناء منقطعا، فيكون تأويل الآية: حرمت عليكم الميتة والدم، وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال. وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الاول، وهو أن قوله: إلا ما ذكيتم اسثناء من قوله: وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع لان كل ذلك مستحق الصفة التي هو بها قبل حال موته، فيقال: لما قرب المشركون لآلهتهم فسموه لهم: هو ما أهل لغير الله به بمعنى: سمى قربانا لغير الله. وكذلك المنخنقة: إذا انخنقت، وإن لم تمت فهي منخنقة، وكذلك سائر ما حرمه الله عزوجل بعد قوله: وما أهل لغير الله به إلا بالتذكية فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته، فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفا. فإذ كان ذلك
[ 99 ]
كذلك، فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به، والمنخنقة، وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيتم من ذلك ف ما إذ كان ذلك تأويله في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها، وقد يجوز فيه الرفع. وإذ كان الامر على ما وصفنا، فكل ما أدركت ذكاته من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده، فحلال أكله إذا كان مما أحله الله لعباده. فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرر بقوله: وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمردية وسائر ما عدد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله: حرمت عليكم الميتة ؟ وقد علمت أن قوله: حرمت عليكم الميتة شامل كل ميتة كان موته حتف أنفه، من علة به من غير جناية أحد عليه، أو كان موته من ضرب ضارب إياه، أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع ؟ وهلا كان قوله إن كان الامر على ما وصفت في ذلك من أنه معنى بالتحريم في كل ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردى أو انخنق، أو فرسه السبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة حرمت عليكم الميتة مغنيا من تكرير ما كرر بقوله وما أهل لغير الله به والمنخنقة وسائر ما ذكر مع ذلك وتعداده ما عدد ؟ وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الاسباب التي هو بها موصوف، وقد تقدم بقوله حرمت عليكم الميتة أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوالا يعدون الميتة من الحيوان، إلا ما مات من علة عارضة به، غير الانخناق والتردي والانتطاح، وفرس السبع، فإعلمهم الله أن حكم ما مات من العلل العارضة وإن العلة الموجبة تحريم الميتة ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به. كالذي: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم يقول: هذا حرام، لان ناسا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدونه ميتا، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع، فحرمه الله عليهم، إلا ما ذكروا اسم الله عليه وأدركوا ذكاته وفيه الروح. القول في تأويل قوله تعالى: وما ذبح على النصب.
[ 100 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: وما ذبح على النصب: وحرم عليكم أيضا الذي ذبح على النصب. ف ما في قوله وما ذبح رفع عطفا على ما التي في قوله: وما أكل السبع. والنصب: الاوثان من الحجارة جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الارض، فكان المشركون يقربون لها، وليست بأصنام. وكان ابن جريج يقول في صفته ما: حدثنا القاسم: قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: النصب: ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلثمائة وستون حجرا، منهم من يقول: ثلثمائة منها بخزاعة. فكانوا إذا ذبحوا، نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه فكان النبي (ص) لم يكره ذلك، فأنزل الله: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها. ومما يحق قول ابن جريج في أن الانصاب غير الاصنام ما: حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما ذبح على النصب قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: النصب قال: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدلونها إن شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وما ذبح على النصب والنصب: حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وما ذبح على النصب يعني: أنصاب الجاهلية.
[ 101 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وما ذبح على النصب والنصب: أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، قوله: وما ذبح على النصب قال: كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجر هو أحب إليهم منها. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: الانصاب حجارة كانوا يهلون لها، ويذبحون عليها. حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وما ذبح على النصب قال: ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به، هو واحد. القول في تأويل قوله: وأن تستقسموا بالازلام. يعني بقوله: وأن تستقسمو بالازلام: وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم، بالازلام. وهو استفعلت من القسم: قسم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو عزوا أو نحو ذلك، أجال القداح، وهي الازلام، وكانت قداحا مكتوبا على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه: أمرني ربي، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك وإن خرج الذي عليه مكتوب: نهاني ربي، كف عن المضي لذلك وأمسك فقيل: وأن تستقسموا بالازلام لانهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم. ومنه قول الشاعر مفتخرا بترك الاستقسام بها: ولم أقسم فتربثني القسوم وأما الازلام، فإن واحدها زلم، ويقال زلم، وهي القداح التي وصفنا أمرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 102 ]
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: وأن تستقسموا بالازلام قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر، جعلوا قداحا للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: وأن تستقسموا بالازلام قال: حصى بيض كانوا يضربون بها. قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عباد بن راشد البزار، عن الحسن في قوله: وأن تستقسموا بالازلام قال: كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا، يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب: أؤمرني، وعلى الآخر: انهني، ويتركون الآخر محللا بينهما ليس عليه شئ. ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه أؤمرني، مضوا لامرهم، وإن خرج الذي عليه انهنى كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شئ أعادوها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن بي نجيح، عن مجاهد: وأن تستقسموا بالازلام حجارة كانوا يكتبون عليها يسمونها القداح. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم. عن زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد: وأن تستقسموا بالازلام قال: كعاب فارس التي يقمرون بها، وسهام العرب. حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: ثا أبو نعيم، قال: ثنا زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد: وأن تستقسموا بالازلام قال: سهام العرب وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وأن تستقسموا بالازلام قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرا، كتب في قداح: هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معها منيحا، شئ لم يكتب فيه شيئا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج، فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث،
[ 103 ]
وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وأن تستقسموا بالازلام وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا، أخذ قدحا فقال: هذا يأمر بالخروج، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا ويأخذ قدحا آخر فيقول: هذا يأمر بالمكوث، فليس يصيب في سفره خيرا والمنيح بينهما. فنهى الله عن ذلك، وقدم فيه. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وأن تستقسموا بالازلام قال: كانوا يستقسمون بها في الامور. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الازلام قداح لهم كان أحدهم إذا أراد شيئا من تلك الامور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج وإن كان أبغض تلك، ارتكبه وعمل به. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وأن تستقسموا بالازلام قال: الازلام: قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو يحدث أمرا، أتى الكاهن، فأعطاه شيئا، فضرب له بها، فإن خرج منها شئ يعجبه أمره ففعل، وإن خرج منها شئ يكرهه نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم وعلى عبد الله والابل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظعن والاقامة أو الشئ يريدونه، فيخرج سهم الظعن فيظعنون، والاقامة فيقيمون. وقال ابن إسحاق في الازلام ما: حدثني به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكانت عند هبل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة (فإن خرج العقل
[ 104 ]
فعل من خرج حمله) وقدح فيه: نعم للامر إذا أرادوا يضرب به، فإن خرج قدح نعم عملوا به وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الامر. وقدح فيه: منكم. وقدح فيه: ملصق. وقدح فيه: من غيركم. وقدح فيه: المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يجتبوا غلاما، أو أن ينكحوا منكحا، أو أن يدفنوا ميتا، ويشكوا في نسب واحد منهم، ذهبوا به إلى هبل، وبمائة درهم وبجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان ابن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن (خرج عليه منكم كان وسيطا، وإن) خرج عليه: من غيركم، كان حليفا، وإن خرج: ملصق، كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف وإن خرج فيه شئ سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به وإن خرج: لا، أخروه عامهم ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وأن تستقسموا بالازلام يعني: القداح، كانوا يستقسمون بها في الامور. القول في تأويل قوله تعالى: ذلكم فسق. يعني جل ثناؤه بقوله: ذلكم: هذه الامور التي ذكرها، وذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله. والاستقسام بالازلام. فسق يعني: خروج عن أمر الله وطاعته إلى ما نهى عنه وزجر، وإلى معصيته. كما: حدثني المثنى: قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ذلكم فسق يعني: من أكل من ذلك كله، فهو فسق. القول في تأويل قوله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم.
[ 105 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم: الآن انقطع طمع الاحزاب وأهل الكفر والجحود أيها المؤمنون من دينكم، يقول: من دينكم أن تتركوه، فترتدوا عنه راجعين إلى الشرك. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، ن علي، عن ابن عباس: قوله: اليوم يئس الذين الذين كفروا من دينكم يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم قال: أظن يئسوا أن ترجعوا عن دينكم. فإن قال قائل: وأي يوم هذا اليوم الذي أخبر الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين ؟ قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي (ص) حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم هذا حين فعلت. قال ابن جريج: وقال آخرون: ذلك يوم عرفة في يوم جمعة لما نظر النبي (ص)، فلم ير إلا موحدا ولم ير مشركا حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم أن يعودوا كما كانوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم قال: هذا يوم عرفة. القول في تأويل قوله تعالى: فلا تخشوهم واخشون. يعني بذلك: فلا تخشوا أيها المؤمنون هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردوكم عن دينكم، واخشون يقول: ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي وتعديتم حدودي، أن أحل بكم عقابي وأنزل بكم عذابي. كما:
[ 106 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: فلا تخشوهم واخشون: فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. القول في تأويل قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم: اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والادلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حج النبي (ص) حجة الوداع. وقالوا: لم ينزل على النبي (ص) بعد هذه الآية شئ من الفرائض ولا تحليل شئ ولا تحريمه، وإن النبي (ص) لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وهو الاسلام، قال: أخبر الله نبيه (ص) والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الايمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله (ص) فمات، فقالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله (ص) تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل (ص) على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجيت عليه برداء كان علي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: مكث النبي (ص) بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم. حدثنا سفيان، قال: ثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: لما نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم وذلك يوم الحج الاكبر، بكى عمر، فقال له
[ 107 ]
النبي (ص): ما يبكيك ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ إلا نقص، فقال: صدقت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن أبي وكيع، عن أبيه، فذكر نحو ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: اليوم أكملت لكم دينكم: حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن أبي عتبة، عن أبيه، عن الحكم: اليوم أكملت لكم دينكم قال: أكمل لهم دينهم أن حجوا ولم يحج معهم مشرك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: اليوم أكملت لكم دينكم قال: أخلص الله لهم دينهم، ونفى المشركين عن البيت. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا قيس، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: اليوم أكملت لكم دينكم قال: تمام الحج، ونفي المشركين عن البيت. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عزوجل أخبر نبيه (ص) والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والاحكام، فإنه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا ؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل. وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله (ص) إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذ كان ذلك
[ 108 ]
كذلك، وكان قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة آخرها نزولا وكان ذلك من الاحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله: اليوم أكملت لكم دينكم على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله، أعني: كمال العبادات والاحكام والفرائض. فإن قال قائل: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال: لم ينزل ؟ قيل لان الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال: نزل، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا. القول في تأويل قوله تعالى: وأتممت عليكم نعمتي. يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوي وعدوكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة، فنفي المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكأن ذلك من تمام النعمة: وأتممت عليكم نعمتي. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي... الآية، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص) يوم عرفة يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا داود، عن الشعبي، قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم منار الجاهلية، واضمحل الشرك، ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي قال: نزلت على رسول الله (ص)
[ 109 ]
وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم، واضمحل الشرك، ولم يطف حول البيت عريان، فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعي، بنحوه. القول في تأويل قوله تعالى: ورضيت لكم الاسلام دينا. يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لامري والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه دينا يعني بذلك: طاعة منكم لي. فإن قال قائل: أو ما كان الله راضيا الاسلام لعباده، إلا يوم أنزل هذه الآية ؟ قيل: لم يزل الله راضيا لخلقه الاسلام دينا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف نبيه محمدا (ص) وأصحابه في درجات ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته الاسلام ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية: ورضيت لكم الاسلام دينا بالصفة التي هو بها اليوم، والحال التي أنتم عليها اليوم منه دينا فالزموه ولا تفارقوه. وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه يمثل لاهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الايمان فيبشر أصحابه وأهله، ويعدهم في الخير حتى يجئ الاسلام. فيقول: رب أنت السلام وأنا الاسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي. وأحسب أن قتادة وجه معنى الايمان بهذا الخبر إلى معنى التصديق والاقرار باللسان، لان ذلك معنى الايمان عند العرب، ووجه معنى الاسلام إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد، وانقياد الجسد له بالطاعة فيما أمر ونهى، فلذلك قيل للاسلام: إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي. ذكر من قال: نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله (ص): حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر: إني لاعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين
[ 110 ]
رسول الله (ص) حين أنزلت، أنزلت يوم عرفة ورسول الله (ص) واقف بعرفة. قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا. حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا لو نعلم ذلك اليوم اتخذنا ذلك اليوم عيدا. فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نزلت فيه والساعة، وأين رسول الله (ص) حين نزلت نزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله (ص) بعرفات. لفظ الحديث لابي كريب، وحديث ابن وكيع نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن عمر، نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حماد بن سلمة، عن عمار مولى بني هاشم، قال: قرأ ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لا تخذناه عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمار: أن ابن عباس قرأ: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس نحوه.
[ 111 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا رجاء بن أبي سلمة، قال: أخبرنا عبادة بن نسي، قال: ثنا أميرنا إسحاق، قال أبو جعفر إسحاق هو ابن حرشة عن قبيصة قال: قال كعب: لو أن غير هذه الامة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه، فقال عمر: أي آية يا كعب ؟ فقال: اليوم أكملت لكم دينكم فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن عيسى بن حارثة الانصاري، قال: كنا جلوسا في الديوان، فقال لنا نصراني: يا أهل الاسلام: لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدا ما بقي منا اثنان: اليوم أكملت لكم دينكم. فلم يجبه أحد منا، فلقيت محمد ابن كعب القرظي، فسألته عن ذلك، فقال: ألا رددتم عليه ؟ فقال: قال عمر بن الخطاب: أنزلت على النبي (ص) وهو واقف على الجبل يوم عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال ثنا داود، عن عامر، قال: أنزلت على رسول الله (ص): اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا عشية عرفة وهو في الموقف. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، قال: قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ فقال عامر: أو ما حفظته ؟ قلت له: فأي يوم ؟ قال: يوم عرفة، أنزل الله في يوم عرفة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: بلغنا أنها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن حبيب، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب، قال: نزلت سورة المائدة يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
[ 112 ]
عيينة، عن ليث، عن شهر ابن حوشب، قال: نزلت سورة المائدة على النبي (ص) وهو واقف بعرفة على راحلته، فتنوخت لان يدق ذراعها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: نزلت سورة المائدة جميعا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله (ص) العضباء قالت: فكادت من ثقلها أن يدق عضد الناقة. حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني، قال: ثنا هشام بن عمار، قال: ثنا ابن عياش، قال: ثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية، أعني قوله: اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاثنين، وقالوا: أنزلت سورة المائدة بالمدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس: ولد نبيكم (ص) يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين اليوم أكملت لكم دينكم ورفع الذكر يوم الاثنين. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، عن قتادة، قال: المائدة مدنية. وقال آخرون: نزلت على رسول الله (ص) في مسيره في حجة الوداع. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله (ص) في المسير في حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها.
[ 113 ]
وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: اليوم أكملت لكم دينكم يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس. وأولى الاقوال في وقت نزول الآية، القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده ووهي أسانيد غيره. القول في تأويل قوله تعالى: فمن اضطر في مخمصة. يعني تعالى ذكره بقول: فمن اضطر: فمن أصابه ضر في مخمصة، يعني في مجاعة، وهي مفعلة مثل المجبنة والمبخلة والمنجبة، من خمص البطن، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معني به اضطماره من الجوع وشدة السغب، وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسغب، ولكن من خلقة، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخمص البطن: والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله خميص بالهزال الضر من الجوع، ولكنه أراد وصفها بلطافة طي ما على الاوراك والافخاذ من جسدها، لان ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر، من ذلك، قول أعشى بن ثعلبة.
[ 114 ]
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثي يبتن خمائصا يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضر، فمن هذا المعنى قوله: في مخمصة. وكان بعض نحويي البصرة يقول: المخمصة: المصدر من خمصه الجوع. وكان غيره من أهل العربية يري أنها اسم للمصدر وليست بمصدر ولذلك تقع المفعلة اسما في المصادر للتأنيث والتذكير. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فمن اضطر في مخمصة يعني في مجاعة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فمن اضطر في مخمصة أي في مجاعة. حدثنا الحسن بن يحيى، (قال: أخبرنا عبد الرزاق) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فمن اضطر في مخمصة قال: ذكر الميتة وما فيها وأحلها في الاضطرار. في مخمصة يقول: في مجاعة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: فمن اضطر في مخمصة قال: المخمصة: الجوع.
[ 115 ]
القول في تأويل قوله تعالى: غير متجانف لاثم. يعني بذلك جل ثناؤه: فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حرمت عليه منكم أيها المؤمنون من الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية. غير متجانف لاثم يقول: لا متجانفا لاثم، فلذلك نصب غير لخروجها من الاسم الذي في قوله: فمن اضطر وبمعنى إلا، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبا المتجانف لو جاء الكلام: إلا متجانفا. وأما المتجانف للاثم، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه، وهو في هذا الموضع مراد به المتعمد له القاصد إليه، من جنف القوم علي إذا مالوا، وكل أعوج فهو أجنف عند العرب وقد بينا معنى الجنف بشواهده في قوله: فمن خاف من موص جنفا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين بهذه الآية للاثم في حال أكله، فهو تعمده الاكل لغير دفع الضرورة النازلة به، ولكن لمعصية الله وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم يعني: إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه الآية: غير متجانف لاثم يقول: غير متعمد لاثم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: غير متجانف لاثم: غير متعمد لاثم، قال: إلى حرم الله ما حرم، رخص للمضطر إذا كان غير متعمد لاثم أن يأكله من جهد فمن بغى أو عدا أو خرج في معصية الله، فإنه محرم عليه أن يأكله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: غير متجانف لاثم: أي غير معترض لمعصية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: غير متجانف لاثم: غير متعمد لاثم، غير متعرض.
[ 116 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: غير متجانف لاثم يقول: غير متعرض لاثم: أي يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: غير متجانف لاثم: لا يأكل ذلك ابتغاء الاثم، ولا جراءة عليه. القول في تأويل قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم. وفي هذا الكلام متروك اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه، وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخصمة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غير متجانف لاثم فأكله، فإن الله غفور رحيم، فترك ذكر: فأكله. وذكر: له، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما. وأما قوله: فإن الله غفور رحيم فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصة، غير متجانف لاثم، غفور رحيم، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه، وعن عقوبته عليه رحيم يقول: وهو به رفيق، من رحمته ورفقه به، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه، من كلب الجوع وضر الحاجة العارضة ببدنه. فإن قال قائل: وما الاكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرمات معها بهذه الآية غفرانه إذا أكل منها ؟ قيل: ما: حدثني عبد الاعلى بن واصل الاسدي، قال: ثنا محمد بن القاسم الاسدي، عن الاوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي، قال: قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.
[ 117 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن الخصيب بن زيد التميمي، قال: ثنا الحسن: أن رجلا سأل رسول الله (ص)، فقال: إلى متى يحل لي الحرام ؟ قال: فقال: إلى أن يروى أهلك من اللبن، أو تجئ ميرتهم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا خصيب بن زيد التميمي، قال: ثنا الحسن: أن رجلا سأل النبي (ص)، فذكر مثله، إلا أنه قال: أو تحيا ميرتهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: أن رجلا من الاعراب أتى النبي (ص) يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحل له، فقال له النبي (ص): يحل لك الطيبات، ويحرم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه، فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي، وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي (ص): إذا كنت ترجو نتاجا فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غنى تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه فقال الاعرابي: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال النبي (ص): إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك، فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام. حدثني يعقوب ابن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، وكان فيه: ويجزي من الاضطرار غبوق أو صبوح. حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، قالا: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عون، قال: قرأت في كتاب سمرة بن جندب: يكفي من الاضطرار أو من الضرورة غبوق أو صبوح. حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب، قالا: ثنا عبد الله بن إدريس،
[ 118 ]
عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال: إذا اضطر الرجل إلى الميتة أكل منها قوته يعني: مسكته. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا ابن مبارك، عن الاوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: قال رجل: يا رسول الله إنا بأرض مخمصة، فما يحل لنا من الميتة ؟ ومتى تحل لنا الميتة ؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الاوزاعي، عن حسان بن عطية، عن رجل قد سمي لنا، أن رجلا قال للنبي (ص): إنا نكون بأرض مخمصة، فمتى تحل لنا الميتة ؟ قال: إذا لم تغتبقوا ولم تصطبحوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه: تحتفئوا بالهمزة، وتحتفيوا بتخفيف الياء والحاء، وتحتفوا بتشديد الفاء، وتجتفوا بالحاء والتخفيف، ويحتمل الهمز. القول في تأويل قوله تعالى: * (يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابك ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل، فقل لهم: أحل لكم منها الطيبات، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح، وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح، وهن الكواسب من سباع البهائم والطير، سميت جوارح لجرحها لاربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد، يقال منه: جرح فلان لاهله خيرا: إذا أكسبهم خيرا، وفلان جارحة أهله: يعني بذلك: كاسبهم، ولا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسب، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
[ 119 ]
ذات خد منضح ميسمه تذكر الجارح ما كان اجترح يعني: اكتسب. وترك من قوله: وما علمتم: وصيد ما علمتم من الجوارح اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره. وذلك أن القوم فيما بلغنا كانوا سألوا رسول الله (ص) حين أمرهم بقتل الكلاب عما يحل لهم اتخاذه منها وصيده، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية فاستثنى مما كان حرم اتخاذه منها، وأمر بقنية كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث، وأذن لهم باتخاذ ذلك. ذكر الخبر بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حباب العكلي، قال: ثنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرنا صالح عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع، قال: جاء جبريل إلى النبي (ص) يستأذن عليه، فأذن له، فقال: قد أذنا لك يا رسول الله، قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله (ص)، فأخبرته، فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الامة التي أمرت بقتلها ؟ قال: فسكت رسول الله (ص)، فأنزل الله: يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 120 ]
عكرمة: أن النبي (ص) بعث أبا رافع في قتل الكلاب، فقتل حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت: يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين. حدثني المثنى، ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، قال: حدثونا عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما أمر النبي (ص) بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول الله، فماذا يحل لنا من هذه الامة ؟ فنزلت: يسئلونك ماذا أحل لهم... الآية. ثم اختلف أهل التأويل في الجوارح التي عنى الله بقوله: وما علمتم من الجوارح فقال بعضهم هو كل ما علم الصيد فتعلمه من بهيمة أو طائر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن في قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين قال: كل ما علم فصاد: من كلب، أو صقر، أو فهد، أو غيره. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن: مكلبين قال: كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في صيد الفهد، قال: هو من الجوارح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين قال: الطير، والكلاب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن الحجاج، عن عطاء، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن حميد، عن مجاهد: مكلبين قال: من الكلاب والطير. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: من الجوارح مكلبين قال: من الطير والكلاب.
[ 121 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا شعبة (ح) وثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن الهيثم، عن طلحة بن مصرف، قال: خيثمة بن عبد الرحمن: هذا ما قد بينت لك أن الصقر والبازي من الجوارح. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت الهيثم يحدث عن طلحة الايامي، عن خيثمة، قال: أنبئت أن الصقر، والباز، والكلب: من الجوارح. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن علي بن حسين، قال: الباز والصقر من الجوارح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: الباز والصقر من الجوراح المكلبين. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين يعني بالجوارح: الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: وما علمتم من الجوارح مكلبين قال: من الكلاب وغيرها، من الصقور والبيزان وأشباه ذلك مما يعلم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين الجوارح: الكلاب والصقور المعلمة. حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمع عبيد بن عمير يقول في قوله: من الجوارح مكلبين قال: الكلاب والطير. وقال آخرون: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين الكلاب دون غيرها من السباع. ذكر من قال ذلك:
[ 122 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك: وما علمتم من الجوارح مكلبين قال: هي الكلاب. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين يقول: أحل لكم صيد الكلاب التي علمتموهن. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أما ما صاد من الطير والبزاة من الطير، فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه. وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وإن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم، لان الله جل ثناؤه عم بقوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين: كل جارحة، ولم يخصص منها شيئا، فكل جارحة كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع فحلال أكل صيدها. وقد روي عن النبي (ص)، بنحو ما قلنا في ذلك خبر، مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك، وهو ما: حدثنا به هناد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله (ص) عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فكل. فأباح (ص) صيد البازي وجعله من الجوارح، ففي ذلك دلالة بينة على فساد قول من قال: عنى الله بقوله: وما علمتم من الجوارح: ما علمنا من الكلاب خاصة دون غيرها من سائر الجوارح. فإن ظن ظان أن في قوله مكلبين دلالة على أن الجوارح التي ذكرت في قوله: وما علمتم من الجوارح: هي الكلاب خاصة، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن معنى
[ 123 ]
الآية: قل أحل لكم أيها الناس في حال مصيركم أصحاب كلاب الطيبات وصيد ما علمتموه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله: مكلبين صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه، وهو نظير قول القائل يخاطب قوما: أحل لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك إخبار القوم أن الله جل ذكره أحل لهم في حال كونهم أهل إيمان الطيبات، وصيد الجوارح التي أعلمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه بها، فكذلك قوله: أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين لذلك نظيره في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها، لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب. القول في تأويل قوله تعالى: تعلمونهن مما علمكم الله. يعني جل ثناؤه بقوله: تعلمونهن: تؤدبون الجوارح، فتعلمونهن طلب الصيد لكم مما علمكم الله، يعني بذلك: من التأديب الذي أدبكم الله والعلم الذي علمكم. وقد قال بعض أهل التأويل: معنى قوله: مما علمكم الله: كما علمكم الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: تعلمونهن مما علمكم الله يقول: تعلمونهن من الطلب كما علمكم الله. ولسنا نعرف في كلام العرب من بمعنى الكاف، لان من تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض، والكاف بمعنى التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره إذا تقارب معنياهما، فأما إذا اختلفت معانيهما فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عقيب الآخر، وكتاب الله وتنزيله أحرى الكلام أن يجنب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسماعيل بن صبيح، قال: ثنا أبو هانئ، عن أبي بشر، قال: ثنا عامر، أن عدي بن حاتم الطائي، قال: أتى رجل رسول الله (ص) يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية: تعلمونهن مما علمكم الله.
[ 124 ]
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: هو أن يستشلى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفر منه إذا أراده، فإذا تتابع ذلك منه مرارا كان معلما. وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عصام، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شئ قتله صائدك قبل أن يعلم ويمسك ويصيد فهو ميتة، ولا يكون قتله إياه ذكاة حتى يعلم ويمسك ويصيد، فإن كان ذلك ثم قتل فهو ذكاته. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: المعلم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا أبو المعلى، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: إذا أرسل الرجل الكلب فأكل من صيده فقد أفسده، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله فزعم أنه إنما أمسك على نفسه والله يقول من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله. فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلم، وأنه ينبغي أن يضرب ويعلم حتى يترك ذلك الخلق. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معمر الرقي، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا أخذ الكلب فقتل فأكل، فهو سبع. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن
[ 125 ]
عباس، قال: لا يأكل منه، فإنه لو كان معلما لم يأكل منه ولم يتعلم ما علمته، إنما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن الشعبي، عن ابن عباس، بنحوه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس، قال: إذا أكلت الكلاب فلا تأكل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا ابن عون، قال: قلت لعامر الشعبي: الرجل يرسل كلبه فيأكل منه، أنأكل منه ؟ لا، لم يتعلم الذي علمته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: إذا أكل الكلب من صيد فاضربه، فإنه ليس بمعلم. حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: إذا أكل الكلب فهو ميتة، فلا تأكله. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير وسيار، عن الشعبي ومغيرة، عن إبراهيم أنهم قالوا في الكلب: إذا أكل من صيده فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد، فما وجدته ميتا فدعه، فإنه مما لم يمسك عليك صيدا، إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك، وإن كان قد علم. حدثنا محمد بن الحسن، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بنحوه. وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنهم حدوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قبل
[ 126 ]
التعليم، وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرات ثلاثا، وهذا قول محكي عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حد لعلم الكلاب بذلك من كلبه أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلما حلالا صيده. وهذا قول بعض المتأخرين. وفرق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة، وتعليم الكلب وضاري السباع الجارحة، فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استشلي، ويجب إذا دعي، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وحجاج، عن عطاء، قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أسباط، قال: ثنا أبو إسحاق، الشبياني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعليم الطير: أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن الشعبي، قال: ليس البازي والصقر كالكلب، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك، فكل منه. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو زبيد، عن مطرف، عن حماد، قال إبراهيم: كل صيد البازي وإن أكل منه. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، وجابر عن الشعبي، قالا: كل من صيد البازي وإن أكل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصقر من الصيد، فكل، فإنه لا يعلم.
[ 127 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: لا بأس بما أكل منه البازي. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، أنه قال في البازي: إذا أكل منه فكل. وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع، لا يكون نوع من ذلك معلما إلا بما يكون به سائر الانواع معلما. وقالوا: لا يحل أكل شئ من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه، كائنة ما كانت تلك الجارحة بهيمة أو طائرا. قالوا: لان من شروط تعليمها. الذي يحل به صيدها، أن تمسك ما صادت على صاحبها فلا تأكل منه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا محمد بن سالم، عن عامر، قال: قال علي: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن جعفر، عن شعبة، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع عن عمرو بن الوليد السهمي، قال: سمعت عكرمة، قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الكلب والبازي كله واحد، لا تأكل ما أكل منه من الصيد إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه. قال: قلت لعطاء: البازي ينتف الريش ؟ قال: فما أدركته ولم يأكل، فكل. قال ذلك غير مرة. وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد، قالوا: وتعليمه الذي يحل به صيده أن يشلى على الصيد فيستشلي ويأخذ الصيد، ويدعوه صاحبه فيجيب، أو لا يفر منه إذا أخذه. قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان معلما داخلا في المعنى الذي قال الله:
[ 128 ]
وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد، قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه وهو يؤدب بأكله ؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد أو سعد، عن سلمان، قال: إذا أرسلت كلبك على صيد، وذكرت اسم الله فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل ما بقي. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا حميد، قال: ثني القاسم بن ربيعة، عمن حدثه، عن سلمان وبكر بن عبد الله، عمن حدثه، عن سلمان: أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه، قال: كل وإن أكل ثلثيه إذا أرسلته وذكرت اسم الله وكان معلما. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه يعني: الصيد إذا أكل ثلثيه يعني: الصيد إذا أكل منه الكلب. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد، عن شعبة (ح) وحدثنا هناد قال: ثنا عبدة جميعا، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فأكل ثلثه فكل. حدثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، عن سلمان، نحوه. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم، أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن داود بن أبي الفرات، عن
[ 129 ]
محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلم أو بازك، سميت، فأكل نصفه أو ثلثيه، فكل بقيته. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل وإن لم يبق منه إلا حذية، يعني بضعة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنى عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، قال: سمعت بكير بن الاشج يحدث عن سعد، قال: كل وإن أكل ثلثيه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، قال: سمعت بكير بن الاشج، عن سعيد بن المسيب قال شعبة، قلت: سمعته من سعيد ؟ قال: لا قال: كل وإن أكل ثلثيه. قال: ثم إن شعبة قال في حديثه عن سعد، قال: كل وإن أكل نصفه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة، قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، بنحوه. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني سالم بن نوح العطار، عن عمر، يعني ابن عامر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: إذا أرسلت كلبك المعلم فأخذ فقتل، فكل وإن أكل ثلثيه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عبد الله (ح) وحدثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
[ 130 ]
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب أن نافعا حدثهم: أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسا، إذا قتله الكلب أكل منه. حدثني يونس به مرة أخرى، فقال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، أن نافعا حدثهم عن عبد الله بن عمر، فذكر نحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محمد بن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسا بما أكل الكلب الضاري. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن بكير بن عبد الله بن الاشج، عن حميد بن عبد الله، عن سعد، قال: قلت: لنا كلاب ضوار يأكلن ويبقين ؟ قال: كل وإن لم يبق إلا بضعة. حدثنا هناد، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن يعقوب بن عبد الله بن الاشج، عن حميد، قال: سألت سعدا، فذكر نحوه. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله: تعلمونهن مما علمكم الله أن التعليم الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلم الرجل جارحه الاستشلاء إذا أشلي على الصيد، وطلبه إياه أغري، أو إمساكه عليه إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئا، وأن لا يفر منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فذلك هو تعليم جميع الجوارح طيرها وبهائمها. وإن أكل من الصيد جارحة صائد، فجارحه حينئذ غير معلم. فإن أدرك صاحبه حيا فذكاه حل له أكله، وإن أدركه ميتا لم يحل له أكله، لانه مما أكله السبع الذي حرمه الله تعالى بقوله: وما أكل السبع ولم يدرك ذكاته. وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال في ذلك بالصواب لتظاهر الاخبار عن رسول الله (ص)، بما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الاحول، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، أنه سأل النبي (ص) عن الصيد، فقال: إذا أرسلت كلبك
[ 131 ]
فاذكر اسم الله عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه، فلا تأكل منه شيئا، فإنما أمسك على نفسه. حدثنا أبو كريب، وأبو هشام الرفاعي، قالا: ثنا محمد بن فضيل، عن بيان بن بشر، عن عامر، عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله (ص)، فقلت: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب ؟ فقال: إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما حبسه على نفسه. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما: حدثك به عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا عبد العزيز بن موسى، قال: ثنا محمد بن دينار، عن أبي إياس، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن النبي (ص)، قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي. قيل: هذا خبر في إسناده نظر، فإن سعيدا غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان ويروونه عنه من قبله غير مرفوع إلى النبي (ص). والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شئ بصفة فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم، كانت الجماعة الاثبات أحق بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم. وإذا كان الامر في الكلب على ما ذكرت من أنه إذا أكل من الصيد فغير معلم، فكذلك حكم كل جارحة في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلم، لا يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته. القول في تأويل قوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم.
[ 132 ]
يعني بقوله: فكلوا مما أمسكن عليكم: فكلوا أيها الناس مما أمسكت عليكم جوارحكم. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركت ذكاته فذكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح، بجرحها إياه أو بغير جرح. وهذا قول الذين قالوا: تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها أن تعلم الاستشلاء على الصيد وطلبه إذا أشليت عليه وأخذه، وترك الهرب من صاحبها دون ترك الاكل من صيدها إذا صادته. وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفا. وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم، قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه لانها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلمة عليه بقوله: فكلوا مما أمسكن عليكم دون ما أمسكته على أنفسها، وهذا قول من قال: تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها، أن تستشلي للصيد إذا أشليت فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا، ولا تفر من صاحبها وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة، ونذكر منهم جماعة آخرين في هذا الموضع. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم يقول: كلوا مما قلتن. قال علي: وكان ابن عباس يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل، وإن أمسك فأدركته حيا فذكه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن أكل المعلم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 133 ]
عن السدي: فكلوا مما أمسكن عليكم إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه، فهو حل، فإن أكل منه، فيقال: إنما أمسك على نفسه، فلا تأكل منه شيئا، إنه ليس بمعلم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يسئلونك ماذا أحل لهم إلى قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه قال: إذا أرسلت كلبك المعلم أو طيرك أو سهمك، فذكرت اسم الله، فأخذ أو قتل، فكل. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول: إذا أرسلت كلبك المعلم فذكرت اسم الله حين ترسله فأمسك أو قتل فهو حلال، فإذا أكل منه فلا تأكله، فإنما أمسكه على نفسه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن عدي، قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم قال: قلت يا رسول الله إن أرضى أرض صيد ؟ قال: إذا أرسلت كلبك وسميت فكل مما أمسك عليك كلبك، وإن قتل، فإن أكل فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه. وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبل، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. فإن قال قائل: وما وجه دخول من في قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلال، ومن إنما تدخل في الكلام مبعضة لما دخلت فيه ؟ قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية، فقال بعض نحويي البصرة حين دخلت من في هذا الموضع لغير معنى، كما تدخله العرب في قولهم: كان من مطر، وكان من حديث. قال: ومن ذلك قوله: ويكفر عنكم من سيئاتكم، وقوله: وينزل من السماء من جبال فيها من برد. قال: وهو فيما فسر: وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: وينزل من السماء من جبال فيها من برد أي من السماء من برد، بجعل الجبال من برد في السماء، وبجعل الانزال منها. وكان غيره من أهل العربية
[ 134 ]
ينكر ذلك ويقول: لم تدخل من إلا لمعنى مفهوم لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به، وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم: قد كان من مطر، وكان من حديث: هل كان من مطر مطر عندكم، وهل من حديث حديث عندكم. ويقول: معنى ويكفر عنكم من سيئاتكم أي ويكفر عنكم من سيئاتكم ما يشاء ويريد، وفي قوله: وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيجيز حذف من من برد ولا يجز حذفها من الجبال، ويتأول معنى ذلك: وينزل من السماء أمثال جبال برد، ثم أدخلت من في البرد، لان البرد مفسر عنده عن الامثال: أعني: أمثال الجبال، وقد أقيمت الجبال مقام الامثال، والجبال وهي جبال برد، فلا يجيز حذف من من الجبال، لانها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد أمثال جبال برد، وأجاز حذف من من البرد، لان البرد مفسر عن الامثال، كما تقول: عندي رطلان زيتا، وعندي رطلان من زيت، وليس عندك الرطل وإنما عندك المقدار، ف من تدخل في المفسر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السماء، من أمثال جبال، وليس بجبال. وقال: وإن كان أنزل من جبال في السماء من برد جبالا، ثم حذف الجبال الثانية والجبال الاول في السماء جاز، تقول: أكلت من الطعام، تريد: أكلت من الطعام طعاما، ثم تحذف الطعام ولا تسقط من. والصواب من القول في ذلك، أن من لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة لدلالة ما يظهر من الكلام عليها، فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها، فذلك قد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صح من الكلام. ومعنى دخولها في قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم للتبعيض إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه وحرم عليهم فرثه ودمه، فقال جل ثناؤه: فكلوا مما أمسكن عليكم جوارحكم الطيبات التي أحللت لكم من لحومها دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك مما لم أطيبه لكم، فذلك معنى دخول من في ذلك. وأما قوله: ويكفر عنكم من سيئاتكم فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وأما دخولها في قوله: وينزل من السماء من جبال فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى:
[ 135 ]
القول في تأويل قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه. يعني جل ثناؤه بقوله: واذكروا اسم الله على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: واذكروا اسم الله عليه يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حرج. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: واذكروا اسم الله عليه قال: إذا أرسلته فسم عليه حين ترسله على الصيد. القول في تأويل قوله تعالى: واتقوا الله إن الله سريع الحساب. يعني جل ثناؤه: واتقوا الله أيها الناس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلمة أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعموا ما لم يسم الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الاوثان وعبدة الاصنام ومن لم يوحد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه. ثم خوفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره فقال: اعلموا أن الله سريع حسابه لمن حاسبه على نعمته عليه منكم وشكر الشاكر منكم ربه، على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لانه حافظ لجميع ذلك فيكم فيحيط به، لا يخفى عليه منه شئ، فيجازي المطيع منكم بطاعته والعاصي بمعصيته، وقد بين لكم جزاء الفريقين. القول في تأويل قوله تعالى: * (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: اليوم أحل لكم الطيبات: اليوم أحل لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم، دون الخبائث منها. قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والانجيل،
[ 136 ]
وأنزل عليهم، فدانوا بهما أو بأحدهما حل لكم يقول: حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الاوثان والاصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيد الله عز ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم. ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب من أهل الكتاب، فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل ممن أنزل عليه التوراة والانجيل، أو ممن دخل في ملتهم فدان دينهم وحرم ما حرموا وحلل ما حللوا منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الامم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: خصيف، قال: ثنا عكرمة، قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود... إلى قوله: ومن يتولهم منكم فإنه منهم... الآية. حدثنا ابن بشار قال ثنا عب / الرحمن قال ثنا سفيان عن عاصم الاحول عن عكرمة عن ابن عباس مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما كانا لا يريان بأسا بذبائح نصارى بني تغلب وبتزوج نسائهم، ويتلوان: ومن يتولهم منكم فإنه منهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي: أنه كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: وما كان ربك نسيا. حدثني ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: ثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب، قال: تؤكل من أجل أنهم في الدين أهل كتاب، ويذكرون اسم الله. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج:
[ 137 ]
قال: قال عطاء: إنما يقرءون ذلك الكتاب. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا شعبة، قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوجوا من نسائهم، فإن الله قال في كتابه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب، وكان يقول: انتحلوا دينا فذاك دينهم. وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والانجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الامم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يعن بهذه الآية وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه لانه ليس ممن أوتى الكتاب من قبل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله حدثنا بذلك عنه الربيع ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين. ذكر من حرم ذبائح نصارى العرب: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال: قال علي رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا بشئ من النصرانية إلا بشرب الخمر. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا هشام، عن
[ 138 ]
محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا تؤكل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم إلا بشرب الخمر. حدثني علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا علي بن عابس، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، قال: نهانا علي عن ذبائح نصارى العرب. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة القصاب، قال: سمعت محمد بن علي يحدث عن علي: أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب وذبائح نصارى أرمينية. وهذه الاخبار عن علي رضوان الله عليه، إنما تدل على أنه كان ينهي عن ذبائح نصارى بني تغلب من أجل أنهم ليسوا على النصرانية، لتركهم تحليل ما تحلل النصارى وتحريم ما تحرم غير الخمر. من كان منتحلا ملة هو غير متمسك منها بشئ، فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق بها وبأهلها، فلذلك نهى علي عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل. فإذا كان ذلك كذلك، وكان إجماعا من الحجة إحلال ذبيحة كل نصراني ويهودي، إن انتحل دين النصاري أو اليهود، فأحل ما أحلوا، وحرم ما حرموا من بني إسرائيل كان أو من غيرهم، فبين خطأ ما قال الشافعي في ذلك وتأويله الذي تأوله في قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم: أنه ذبائح الذين أوتوا الكتاب التوراة والانجيل من بني إسرائيل، وصواب ما خالف تأويله ذلك، وقول من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحته من أي أجناس بني آدم كان. وأما الطعام الذي قال الله: وطعام الذين أوتوا الكتاب فإنه الذبائح. وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال: الذبائح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم قال: ذبائحهم.
[ 139 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم وقبيصة، قالا: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال: ذبيحة أهل الكتاب. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال: ذبائحهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عن المغيرة، عن إبراهيم، بمثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم وقبيصة، قالا: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم مثله. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال: ذبائحهم. حدثني المثنى، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم: أي ذبائحهم.
[ 140 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أما طعامهم فهو الذبائح. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال: أحل الله لنا طعامهم ونساءهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس أما قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإنه أحل لنا طعامهم ونساءهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته يعني ابن يزيد عما ذبح للكنائس وسمي عليها فقال: أحل الله لنا طعام أهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني معاوية، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب، عن أبي الاسود، عن عمير بن الاسود: أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها، أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوا إنما هم أهل كتاب، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم. وأمره بأكله. وأما قوله وطعامكم حل لهم فإنه يعني: ذبائحكم أيها المؤمنون حل لاهل الكتاب. القول في تأويل قوله تعالى: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن. يعني جل ثناؤه بقوله: والمحصنات من المؤمنات أحل لكم أيها المؤمنون المحصنات من المؤمنات وهن الحرائر منهن أن تنكحوهن. والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والانجيل من قبلكم أيها المؤمنون بمحمد (ص) من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضا إذا آتيتموهن أجورهن يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهن، وهي مهورهن. واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فقال
[ 141 ]
بعضهم: عني بذلك الحرائر خاصة، فاجرة كانت أو عفيفة. وأجاز قائلوا هذه المقالة نكاح الحرة مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى من أي أجناس كانت، بعد أن تكون كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وحرموا إماء أهل الكتاب أن نتزوجهن بكل حال لان الله جل ثناؤه شرط من نكاح الاماء الايمان بقوله: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قال: من الحرائر. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم قال: من الحرائر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: إن رجلا طلق امرأته وخطبت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها ؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرا فقال: زوجها ولا تخبر. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا سليمان الشيباني، قال: ثنا عامر، قال: زنت امرأة من همدان، قال: فجلدها مصدق رسول الله (ص) الحد، ثم تابت. فأتوا عمر، فقالوا: نزوجها وبئس ما كان من أمرها قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئا من ذلك لا عاقبنكم عقوبة شديدة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوج أخته، فقالت: إني أخشى أن أفضح أبي، فقد بغيت. فأتى عمر فقال: أليس قد تابت ؟ قال: بلى. قال: فزوجها. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن نبيشة امرأة من همدان بغت، فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: أنكحوها نكاح العفيفة المسلمة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة، فأمرت الشفرة على أوداجها، فأدركت، فدووي
[ 142 ]
جرحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها نبيشة، أصابت فاحشة، فذكر نحوه. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل عن عامر، قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنة لي كانت وئدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الاسلام، فلما أسلمت أصابت حدا من حدود الله، فعمدت إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال عمر: أتخبر بشأتها ؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس، لاجعلنك نكالا لاهل الامصار بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة. حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: جاء رجل إلى عمر. فذكر نحوه. حدثنا مجاهد، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته، فأخبره أنها قد أحدثت. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضرب الرجل، وقال: مالك والخبر ؟ أنكح واسكت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان ابن حرب، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الاسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب. وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم: العفائف من الفريقين، إماءكن أو حرائر. فأجاز قائلو هذه
[ 143 ]
المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدائنات دينهم بهذه الآية، وحرموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: العفائف. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا: ثنا جرير عن مطرف، عن عامر: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن مطرف، عن رجل، عن الشعبي في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة. حدثنا المثنى قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مطرف، عن الشعبي في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: إحصانها أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزنا. حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا خالد، قال: أخبرنا مطرف عن عامر، بنحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قال: العفائف. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: أما المحصنات: فهن العفائف. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة:
[ 144 ]
أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت كتاب الله: وما ملكت أيمانكم. قال: فأتي بها عمر بن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي (ص): تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال: فقرب العبد وجز رأسه، وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم: أنه قال في التي تسرى قبل أن يدخل بها، قال: ليس لها صداق ويفرق بينهما. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أشعث، عن الشعبي في البكر تهجر، قال: تضرب مائة سوط، وتنفي سنة، وترد على زوجها ما أخذت منه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، مثل ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الحسن، مثل ذلك. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي ميسرة، قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم. ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أعام أم خاص ؟ فقال بعضهم: هو عام في العفائف منهن، لان المحصنات العفائف، وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابية حربية كانت أو ذمية. واعتلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأن المعني بهن العفائف كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بالمحصنات في هذا الموضع: العفائف. وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
[ 145 ]
من قبلكم: الحرائر منهن، والآية عامة في جميعهن، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيات كن أو ذميات، من أي أجناس اليهود والنصارى كن وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا: أحله الله على علم. وقال آخرون منهم: بل عني بذلك: نكاح بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة دون سائر أجناس الامم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. وقال آخرون: بل ذلك معنى به نساء أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمة وعهد، فأما أهل الحرب فإن نساءهم حرام على المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن عقبة، قال: ثنا الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا. ثم قرأ: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه. قال الحكم: فذكرت ذلك لابراهيم فأعجبه. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عني بقوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم حرائر المؤمنين وأهل الكتاب، لان الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الاماء الاحرار في الحال التي أباحهن لهم إلا أن يكن مؤمنات، فقال عز ذكره: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فلم يبح منهن إلا المؤمنات، فلو كان مرادا بقوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب: العفائف، لدخل العفائف من إمائهم في الاباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الايمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله: وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، وقد دللنا على فساد قول من قال: لا
[ 146 ]
يحل نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين في موضع غير هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية، بعد أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر، بظاهر قول الله عزوجل: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. فأما قول الذي قال: عنى بذلك نساء بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة، فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه لشذوذه والخروح عما عليه علماء الامة من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية فكرهنا إعادته. وأما قوله: إذا آتيتموهن أجورهن فإن الاجر: العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: آتيتموهن أجورهن يعني مهورهن. القول في تأويل قوله تعالى: محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان. يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان. ويعني بقوله جل ثناؤه: محصنين: أعفاء غير مسافحين يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة وهو الفجور ولا متخذي أخدان يقول: ولا منفردين ببغية واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها. وقد بينا معنى الاحصان ووجوهه ومعنى السفاح والخدن في غير هذا الموضع بما أغني عن إعادته في هذا الموضع وهو كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: محصنين غير مسافحين يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة، غير مسافحين متعالنين بالزنا، ولا متخذي أخدان يعني: يسرون بالزنا.
[ 147 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة، ومحصنة من أهل الكتاب ولا متخذي أخدان ذات الخدن: ذات الخليل الواحد. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن، قال: سأله رجل: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ قال: ما له ولاهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات ؟ فإن كان لا بد فاعلا، فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة ؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته. القول في تأويل قوله عز ذكره: ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. يعني بقوله جل ثناؤه: ومن يكفر بالايمان ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به من توحيد الله ونبوة محمد (ص)، وما جاء به من عند الله، وهو الايمان الذي قال الله جل ثناؤه: ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله يقول: فقد بطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. وهو في الآخرة من الخاسرين يقول: وهو في الآخرة من الهالكين الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد وعملهم بغير طاعة الله. وقد ذكر أن قوله: ومن يكفر بالايمان عني به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله (ص) من أجل قوم تحرجوا نكاح نساء أهل الكتاب لما قيل لهم: أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. ذكر من قال ذلك. حدثنا بشر، ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر بنا أن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره: ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين فأحل الله تزويجهن على علم. وبنحو الذي قلنا في تأويل الايمان قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: ومن يكفر بالايمان، فقد حبط عمله قال: بالايمان بالله.
[ 148 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن واصل، عن عطاء: ومن يكفر بالايمان قال: الايمان: التوحيد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد: ومن يكفر بالايمان قال: بالله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: ومن يكفر بالايمان، فقد حبط عمله قال: من يكفر بالله. حدثنا محمد، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ومن يكفر بالايمان قال: من يكفر بالله. حدثنا محمد، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ومن يكفر بالايمان قال: الكفر بالله. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ومن يكفر بالايمان، فقد حبط عمله قال: أخبر الله سبحانه أن الايمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه. فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل من وجه قوله: ومن يكفر بالايمان إلى معنى: ومن يكفر بالله ؟ قيل وجه تأويله ذلك كذلك أن الايمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، والكفر: جحود ذلك. قالوا: فمعنى الكفر بالايمان، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة. فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها ؟ قيل: تأويلها: ومن يأب الايمان بالله ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله وذلك أن الكفر هو الجحود في كلام العرب، والايمان: التصديق والاقرار، ومن أبى التصديق
[ 149 ]
بتوحيد الله والاقرار به فهو من الكافرين، فذلك تأويل الكلام على وجهه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق. ثم اختلف أهل التأويل في قوله: إذا قمتم إلى الصلاة أمراد به كل حال قام إليها، أو بعضها ؟ وأي أحوال القيام إليها ؟ فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه من أنه معنى به بعض أحوال القيام إليها دون كل الاحوال، وأن الحال التي عني بها حال القيام إليها على غير طهر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، قال: سئل عكرمة عن قول الله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فكل ساعة يتوضأ ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حدث. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت مسعود بن علي الشيباني، قال: سمعت عكرمة، قال: كان سعد بن أبي وقاص يصلي الصلوات بوضوء واحد. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، عن عكرمة، قال: كان سعد بن أبي وقاص يقول: صل بطهورك ما لم تحدث. حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا سليم بن أخضر، قال: أخبرنا ابن عون عن محمد، قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يوجب الوضوء ؟ قال: الحدث.
[ 150 ]
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد ابن طريف أو طريف بن يزيد أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضئوا فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضئون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد أو زياد بن طريف عن واقع بن سحبان: أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حلقا على شاطئ دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضئون، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد أو يزيد بن طريف قال: كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة فذكر نحوه. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد أو يزيد بن طريف عن أبي موسى، مثله. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أبو خالد، قال: توضأت عند أبي العالية الظهر أو العصر، فقلت: أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العتمة ؟ قال أبو العالية: لا حرج. وعلمنا: إذا توضأ الانسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا ابن هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، ثنا أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد، مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية عن الاعمش، قال: رأيت إبراهيم صلى بوضوء واحد، الظهر والعصر والمغرب. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، قال: ثنا الاعمش، قال: كنت مع يحيى، فأصلي الصلوات بوضوء واحد، قال: وإبراهيم مثل ذلك.
[ 151 ]
حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال: لا بأس به ما لم يحدث. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك، قال: يصلي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال ثنا زائدة عن الاعمش، عن عمارة، قال: كان الاسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أساط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة يقول: قمتم وأنتم على غير طهر. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن عمارة، عن الاسود: أنه كان له قعب قدر ري رجل، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. حدثنا محمد بن عباد بن موسى، قال: أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي، قال: ثنا الفضل ابن المبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين. فقلت: أبا عبد الله أشئ تصنعه برأيك ؟ قال: بل رأيت رسول الله (ص) يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله (ص) يصنع. وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني من سمع مالك بن أنس، يحدث عن زيد بن أسلم، قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة قال: يعني: إذا قمتم من النوم.
[ 152 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس، أخبره عن زيد بن أسلم، بمثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قال: فقال: قمتم إلى الصلاة من النوم. وقال آخرون: بل ذلك معنى به كل حال قيام المرء إلى صلاته أن يجدد لها طهرا. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة: ثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، قال: سألت عكرمة، قال: قلت يا أبا عبد الله، أتوضأ لصلاة الغدة ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر فأصلي ؟ قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت مسعود بن علي الشيباني، قال: سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... الآية. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوز خفيفا، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال، قال: رأيت عليا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث.
[ 153 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أن عليا اكتال من حب فتوضأ وضوءا فيه تجوز، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. وقال آخرون: بل كان هذا أمرا من الله عز ذكره نبيه (ص) والمؤمنين به أن يتوضؤا لكل صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثني محمد بن يحيى بن حبان الانصاري ثم المازني، مازن بني النجار، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمن هو ؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن النبي (ص) أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوة عليه، فكان يتوضأ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: ثني محمد بن يحيى بن حبان الانصاري، قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر، أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله (ص) يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح، صلى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: عمدا فعلته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن
[ 154 ]
سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله (ص) كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن محارب، بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي (ص) كان يتوضأ، فذكر نحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله (ص) الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال: عمدا فعلته يا عمر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله (ص) يتوضأ لكل صلاة، فلما فتح مكة، صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا الحكم بن ظهير، عن مسعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى (ص) الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. فإن ظن ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبي (ص) أمر بالوضوء عند كل صلاة، دلالة على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظن غير الصواب، وذلك أن قول القائل: أمر الله نبيه (ص) بكذا وكذا، محتمل من وجوه لامر الايجاب والارشاد
[ 155 ]
والندب والاباحة والاطلاق، وإذ كان محتملا ما ذكرنا من الاوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقية مدعية. وقد أجمعت الحجة على أن الله عزوجل لم يوجب على نبيه (ص) ولا على عباده فرض الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا من أن فعل النبي (ص) ما كان يفعل من ذلك كان على ما وصفنا من إيثاره فعل ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... الآية، وأن تركه في ذلك الحال التي تركه كان ترخيصا لامته وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلا من حدث يوجب نقض الطهر. وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار: حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبي (ص) أتي بقعب صغير، فتوضأ. قال: قلت لانس: أكان رسول الله (ص) يتوضأ عند كل صلاة ؟ قال: نعم. قلت: فأنتم ؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، ثنا عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي، عن أبي غطيف، قال: صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره، فجلس وجلست معه، فلما نودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تصنع ؟ قال: لا، وإن كان وضوئي لصلاة الصبح كاف للصلوات كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت رسول الله (ص) يقول: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات، فأنا رغبت في ذلك.
[ 156 ]
حدثني أبو سعيد البغداي، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن هريم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (ص): من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله (ص) إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الاعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الاعمال كلها حتى يتوضأ، فأذن لله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الافعال بعد الحدث عدا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله (ص) إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة، فقلنا: يا رسول الله نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا ترد علينا قال: حتى نزلت آية الرخصة: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم. اختلف أهل التأويل في حد الوجه الذي أمر الله بغسله، القائم إلى الصلاة بقوله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فقال بعضهم: هو ما ظهر من بشرة الانسان من قصاص شعر رأسه، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا، وما بين الاذنين عرضا. قالوا: فأما الاذن وما بطن من داخل الفم والانف والعين فليس من الوجه ولا غيره، ولا أحب غسل ذلك ولا غسل شئ منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاء شعر اللحية والصدغين اللذين قد عطاهما عذار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من
[ 157 ]
الشعر مجزئ عن غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لان الوجه عندهم هو ما ظهر لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن معمر، عن إبراهيم، قال: يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة في تخليل اللحية، قال: يجزيك ما مر على لحيتك. حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا زائدة، عن منصور، قال: رأيت إبراهيم يتوضأ، فلم يخلل لحيته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن سعيد الزبيدي، عن إبراهيم، قال: يجزيك ما سال عليها من أن تخللها. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس، قال: كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا هشام، عن الحسن، أنه كان لا يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: ليس غسل اللحية من السنة.
[ 158 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن أنه كان إذا توضأ لم يبلغ الماء في أصول لحيته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سألت إبراهيم أخلل لحيتي عند الوضوء بالماء ؟ فقال: لا، إنما يكفيك ما مرت عليه يدك. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال: قال المغيرة: قال إبراهيم: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حجاج بن رشدين، قال: ثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضئا، فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحدا منهما خلل لحيته. حدثنا أبو الوليد الدمشقي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عرك العارضين في الوضوء، فقال: ليس ذلك بواجب، رأيت مكحولا يتوضأ فلا يفعل ذلك.. حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، قال: ليس عرك العارضين في الوضوء بواجب. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما مر من الماء على لحيته. حدثنا أبو الوليد القرشي، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن سلمان بن أبي زينب، قال: سألت القاسم بن محمد كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت ؟ قال: لست من الذين يغسلون لحاهم. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال أبو عمرو: ليس عرك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الفم والانف:
[ 159 ]
حدثنا حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لولا التلمظ في الصلاة ما مضمضت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك يقول: سئل عطاء، عن رجل صلى ولم يتمضمض قال: ما لم يسم في الكتاب يجزئه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح، عن أبي سنان، قال: كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت هشاما، عن الحسن، قال: إذا نسي المضمضة والاستنشاق، قال: إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته، وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن شعبة، قال: سألت الحكم وقتادة، عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن الاذنين ليستا من الوجه: حدثني يزيد بن مخلد الواسطي، قال: ثنا هشيم، عن غيلان، قال: سمعت ابن عمر يقول: الاذنان من الرأس. حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا أبو مطرف، قال: ثنا غيلان مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: الاذنان من الرأس. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الاذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحهما. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش، قال: سمعت ابن عمر سأله سائل، قال: إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه، قال: فقال ابن عمر: الاذنان من الرأس. ولم ير عليه بأسا.
[ 160 ]
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أيوب بن سويد. ح، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن جميعا، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال: الاذنان من الرأس. حدثني ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن رجل، عن ابن عمر، قال: الاذنان من الرأس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف ابن مهران، عن ابن عباس، قال: الاذنان من الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب، قالا: الاذنان من الرأس. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، قال: الاذنان من الرأس عن الحسن وسعيد. حدثنا أبو الوليد الدمشقي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر، قال: الاذنان من الرأس. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عيس بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن، قال: الاذنان من الرأس. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن أبي هريرة شك ابن بزيع أن النبي (ص) قال: الاذنان من الرأس. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، قال: الاذنان من الرأس. قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو عن النبي (ص).
[ 161 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثني حماد بن زيد، قال: ثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله (ص) قال: الاذنان من الرأس. حدثنا أبو الوليد الدمشقي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن جريج وغيره، عن سليمان بن موسى، أن النبي (ص) قال: الاذنان من الرأس. حدثنا الحسن بن شبيب، قال: ثنا علي بن هاشم بن البريد، قال: ثنا إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): الاذنان من الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن يونس، أن الحسن، قال: الاذنان من الرأس. وقال آخرون: الوجه: كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولا ومن الاذن إلى عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر وما بطن منه من منابت الشعر اللحية النابت على الذقن وعلى العارضين، وما كان منه داخل الفم والانف، وما أقبل من الاذنين على الوجه. كل ذلك عندهم من الوجه الذي أمر الله بغسله بقوله: فاغسلوا وجوهكم. وقالوا: إن ترك شيئا من ذلك المتوضئ فلم يغسله لم تجزه صلاته بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثني محمد بن بكر وأبو عاصم، قالا: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته، ويغلغل بيده في أصول شعرها حتى تكثر القطرات منها. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى تكثر منها القطرات. حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، عن سعيد، قال: ثنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر.
[ 162 ]
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا معلى بن جابر اللقيطي، قال: أخبرني الازرق ابن قيس، قال: رأيت ابن عمر توضأ فخلل لحيته. حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يخلل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عبيد ابن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله يدلك بأصابعه البشرة. فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل، كما وصف عنه. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا أبو عمرو، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، وشبك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانا. حدثنا أبو الوليد، وعلي بن سهل، قالا: ثنا الوليد، قال: قال ثنا أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الاشعري نحو ذلك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مسلم، قال: رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته وقال: من استطاع منكم أن يبلغ الماء أصول الشعر فليفعل. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: حق عليه أن يبل أصول الشعر. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: كان مجاهد يخلل لحيته. حدثنا حميد، قال: ثنا سفيان، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
[ 163 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير، قال: ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسل ؟. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن طاوس، أنه كان يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن إسماعيل، عن ابن سيرين، أنه كان يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن هشام، عن ابن سيرين، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: سألت شعبة، عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو عن معروف، قال: رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك، قال: رأيته يخلل لحيته. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الاشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: رأيت النبي (ص) توضأ فخلل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله ؟ قال: أمرني بذلك ربي. حدثنا تميم، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سليم، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة أو يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: وضأت النبي (ص)، فأدخل أصابعه من تحت حنكه، فخلل لحيته، وقال: بهذا أمرني ربي عزوجل.
[ 164 ]
حدثنا محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: ثنا المحاربي، عن سلام بن سليم المديني، قال: ثنا زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، عن النبي (ص)، نحوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا أبو عبيدة الحداد، قال: ثنا موسى بن شروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال رسول الله (ص): هكذا أمرني ربي. وأدخل أصابعه في لحيته، فخللها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله (ص) توضأ، فخلل لحيته. حدثنا علي بن الحسين بن الحر، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: رأينا النبي (ص) توضأ، وخلل لحيته. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: ثنا عمر بن سليمان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: أن النبي (ص) خلل لحيته. حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني، قال: ثنا سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية: أن حسان بن ثابت المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا، فقال: إني رأيت رسول الله (ص) يفعله. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال: ثنا أبو عمرو، قال: أخبرني عبد الواحد بن قيس، عن يزيد الرقاشي وقتادة: أن رسول الله (ص)، كان إذا توضأ عرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه. حدثنا أبو الوليد، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي (ص)، نحوه.
[ 165 ]
حدثنا محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: ثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله، قال: ثني واصل الرقاشي، عن أبي سورة هكذا قال الاحمسي عن أبي أيوب، قال: كان رسول الله (ص) إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بطن من الانف والفم: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول: الاستنشاق شطر الوضوء. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن شعبة، قال: سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح، عن أبي سنان، قال: قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك، يعني عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى فقال: أرى عليه إعادة الصلاة. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، قال: كان قتادة يقول: إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته، فإنه ينتقل ويتوضأ، ويعيد صلاته. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الاذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس: حدثنا أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا أشعث، عن الشعبي، قال: ما أقبل من الاذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي في الاذنين: باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن الشعبي، قال: مقدم الاذنين من الوجه، ومؤخرهما من الرأس.
[ 166 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الاذنين. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الاذنين. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: باطن الاذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة. ح، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس قال: قال علي بن أبي طالب: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله (ص) ؟ قال: قلنا: نعم. فتوضأ، فلما غسل وجهه، ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، قال: ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما. وأولى الاقوال بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: الوجه الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائم إلى صلاته: كل ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولا، وما بين الاذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والانف والعين، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين، ودون الاذنين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان وجها يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته، لاجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم مع إجماعهم على ذلك مجمعون على أن غسل ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الاجفان منهما مجزئ فإذا كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول (ص) أمته على ذلك، فنظير ذلك كل ما علاه شئ من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقة ساتره لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن مثل
[ 167 ]
العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الانف والفم وشعر اللحية والصدغين والشاربين، لان كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاج لايصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لايصال الماء إليهما أو أشد. وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أن غسل من غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين وما بطن من الانف والفم، إنما كان إيثارا منه لاشق الامرين عليه من غسل ذلك وترك غسله، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبه الماء في ذلك، لا على أن ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا. فأما من ظن أن ذلك من فعلهم كان على وجه الايجاب والفرض، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجهم وأغفل سبيل القياس، لان القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك بالاصل المجمع عليه من حكم العينين، وأن لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله (ص) أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادة صلاته إذا صلى بطهره ذلك، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لافضل الفعلين من الترك والغسل. فإن ظن ظان أن في الاخبار التي رويت عن رسول الله (ص)، أنه قال: إذا توضأ أحدكم فليستنثر دليلا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غير فرض واجب يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله، ما يغني عن إكثار القول فيه. وأما الاذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما أو غسل ما أقبل منهما على الوجه، غير مفسد صلاة من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما، مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شئ مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك، ما ينبئ عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله (ص) الذي ذكرنا قولهم إنهما ليسا من الوجه دون ما قاله الشعبي. القول في تأويل قوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق. اختلف أهل التأويل في المرافق، هل هي من اليد الواجب غسلها أم لا ؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله: فاغسلوا
[ 168 ]
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق: أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء ؟ قال: الذي أمر به أن يبلغ المرفقين، قال تبارك وتعالى: فاغسلوا وجوهكم فذهب هذا يغسل خلفه فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما ؟ فقال: لا أدري ما لا يجاوزهما أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين. حدثنا يونس، عن أشهب عنه. وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تغسل المرافق. حدثنا بذلك عنه الربيع. وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله: وأيديكم إلى المرافق غسل اليدين إلى المرافق، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحد، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: ثم أتموا الصيام إلى الليل لان الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق غاية لما أوجب الله غسله من اليد. وهذا قول زفر بن الهذيل. والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسله. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه (ص) أمته بقوله: أمتي الغر المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبل فيما مضى من أن لك غاية حدت ب إلى فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لاحد
[ 169 ]
القضاء بأنها داخلة فيه، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بين وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه. القول في تأويل قوله تعالى: وامسحوا برءوسكم. اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله: وامسحوا برءوسكم فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رؤوسكم بالماء إذا قمتم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص، قال: ذكر عند القاسم بن محمد مسح الرأس، فقال: يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح ؟ فقال: مسحة واحدة. ووصف أنه مسح مقدم رأسه إلى وجهه. فقال القاسم: ابن عمر أفقهنا وأعلما. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني نافع أن ابن عمر كان إذا توضأ رد كفيه إلى الماء ووضعهما فيه، ثم مسح بيديه مقدم رأسه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن بكير، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يضع بطن كفيه على الماء ثم لا ينفضهما ثم يمسح بهما ما بين قرنيه إلى الجبين واحدة، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحة واحدة، مقبلة من الجبين إلى القرن. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا شريك، عن عبد الاعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: يجزيك أن تمسح مقدم رأسك إذا كنت معتمرا، وكذلك تفعل المرأة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله الاشجعي، عن سفيان، عن ابن
[ 170 ]
عجلان، عن نافع، قال: رأيت ابن عمر مسح بيافوخه مسحة. وقال سفيان: إن مسح شعرة أجزأه يعني واحدة. حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: أي جوانب رأسك مسست الماء أجزأك. حدثنا أبو هشام، قال: ثنا علي بن ظبيان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، مثله. حدثنا الرفاعي، ثنا و كيع م، عن إسماعيل الأزرق، عن الشعبى، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا، فوضع أيوب كفه وسط رأسه، ثم أمرها على مقدم رأسه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يزيد بن الحباب، عن سفيان، قال: إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه. حدثنا أبو الوليد الدمشقي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لابي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس ؟ قال: أن تمسح مقدم رأسك إلى القفا أحب إلي. حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه، عنه، نحوه. وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: ثنا أشهب، قال: قال مالك: من مسح بعض رأسه ولم يعم أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعض وجهه أو بعض ذراعه. قال: وسئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ منه. وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى
[ 171 ]
صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحد ذلك بحد لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحق بمسحه ذلك أن يقال: مسح برأسه، فقد أدى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم ما مسح برأسه إذا قام إلى صلاته. فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أفيجزئ المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم ؟ قيل له: كل ما مسح من ذلك بالتراب فيما تنازعت فيه العلماء، فقال بعضهم: يجزيه ذلك من التيمم، وقال بعضهم: لا يجزئه، فهو مجزئه، لدخوله في إسم الماسحين به. وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيها (ص)، ولا حجة لاحد علينا في ذلك إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عاما في معنى فالواجب الحكم به على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خص منه منه شئ كان ما خص منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم. وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والرأس الذي أمر الله عزوجل بالمسح به بقوله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين هو منابت شعر الرأس دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قبل وجهه إلى الجبهة. القول في تأويل قوله تعالى: وأرجلكم إلى الكعبين. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق: وأرجلكم إلى الكعبين نصبا. فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون الارجل منصوبة، عطفا على الايدي. وتأول قارئو ذلك كذلك، أن الله جل ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الارجل دون المسح بها. ذكر من قال: عنى الله بقوله: وأرجلكم إلى الكعبين الغسل: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة: أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظفر، فلما قضى صلاته، قال له عمر: أعد وضوءك وصلاتك.
[ 172 ]
حدثنا حميد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا عبد الله بن حسن، قال: ثنا هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود، قال: خللوا الاصابع بالماء لا تخللها النار. حدثنا عبد الله بن الصباح العطار، قال: ثنا حفص بن عمر الحوضي، قال: ثنا مرجى، يعني ابن رجاء اليشكري، قال: ثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين: أن النبي (ص) رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه، فقال: بهذا أمرت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، قال: سمعت مصعب بن سعيد، يقول: رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضئون، فقال: خللوا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى، قال: سمعت القاسم، قال: كان ابن عمر يخلع خفيه، ثم يتوضأ فيغسل رجليه، ثم يخلل أصابعه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، قال: قلت للاسود: رأيت عمر يغسل قدميه غسلا ؟ قال: نعم. حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي (ص) يغسل قدميه غسلا، أدناهم ابن عمك المغيرة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح، عن محمد، وهو ابن أبان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، قال: اغسلوا الاقدام إلى الكعبين. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة: أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظفر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته.
[ 173 ]
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن شيبة بن نصاح، قال: صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت: يا أبا محمد، لم تصنع هذا ؟ قال: رأيت ابن عمر يصنعه. حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن حماد، عن إبراهيم في قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين قال: عاد الامر إلى الغسل. حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا أبي، عن حفص الغاضري، عن عامر بن كليب، عن أبي عبد الرحمن، قال: قرأ علي الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرءا: وأرجلكم إلى الكعبين فسمع علي رضي الله عنه ذلك، وكان يقضي بين الناس، فقال: وأرجلكم، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الوهاب بن عبد الاعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قرأها: فامسحوا برءوسكم وأرجلكم بالنصب، وقال: عاد الامر إلى الغسل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قرأها: وأرجلكم وقال: عاد الامر إلى الغسل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن المبارك، عن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه كان يقرأ: وأرجلكم بالنصب. حدثنا محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين فيقول: اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم فهذا من التقديم والتأخير. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين بن علي، عن شيبان، قال: أثبت لي عن علي أنه قرأ: وأرجلكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: وأرجلكم رجع الامر إلى الغسل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خالد، عن عكرمة، مثله.
[ 174 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن الاعمش، قال: كان أصحاب عبد الله يقرءونها: وأرجلكم فيغسلون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، قال: اغسل القدمين إلى الكعبين. حدثني عبد الله بن محمد الزبيري، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه، قال: رأيت عليا توضأ، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله (ص) فعل ذلك، ظننت أن بطن القدم أحق من ظاهرها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا عبد الملك، عن عطاء، قال: لم أر أحدا يمسح على القدمين. حدثني المثنى، قال: ثني الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ: وأرجلكم إلى الكعبين فنصبها، وقال: رجع إلى الغسل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: سمعت الاعمش يقرأ: وأرجلكم بالنصب. حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: سئل مالك عن قول الله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين أهي أرجلكم أو أرجلكم ؟ فقال: إنما هو الغسل وليس بالمسح، لا تمسح الارجل، إنما تغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيجزيه ذلك ؟ قال: لا. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، عن الضحاك: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم قال: اغسلوها غسلا. وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم بخفض الارجل. وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الارجل في الوضوء دون
[ 175 ]
غسلها، وجعلوا الارجل عطفا على الرأس، فخفضوها لذلك. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن حميد. ح، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا حميد، قال: قال موسى بن أنس لانس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالاهواز ونحن معه، فذكر الطهور، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، وإنه ليس شئ من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما. حدثنا ابن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عاصم الاحول، عن أنس، قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى بن أنس، قال: خطب الحجاج، فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم، ظهورهما وبطونهما وعراقيبهما، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم. قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: امسح على رأسك وقدميك.
[ 176 ]
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل جبريل بالمسح. قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا ؟ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: أمر بالتيمم فيما أمر به بالغسل. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل جعل عليه المسح، وما كان عليه المسح أهمل ؟ حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء الرأس والرجلان. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم ما أمر أن يغسل بالماء، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء. حدثنا ابن أبي زياد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا إسماعيل، قال: قلت لعامر: إن ناسا: يقولون: إن جبريل (ص) نزل بغسل الرجلين، فقال: نزل جبريل بالمسح. حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن يونس، قال: ثني من صحب عكرمة إلى واسط، قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما حتى خرج منها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين افترض الله غسلتين ومسحتين. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن الاعمش، عن يحيى بن وثاب، عن علقمة أنه قرأ: وأرجلكم مخفوضة اللام. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن الاعمش، مثله.
[ 177 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو الحسن العكلي، عن عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد أنه كان يقرأ: وأرجلكم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: كان الشعبي يقرأ: وأرجلكم بالخفض. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن غالب، عن أبي جعفر، أنه قرأ: وأرجلكم بالخفض. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك، أنه قرأ: وأرجلكم بالكسر. والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لان غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. ومسحهما: إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القراء في قوله: وأرجلكم فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) بعموم مسحهما بالماء، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معني به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيها منه قوله: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إلى مسح جميعهما عاما باليد، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا نافع، عن ابن عمر. وعن الاحول، عن طاوس: أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء، قال: ما أعد ذلك طائلا.
[ 178 ]
وأجاز ذلك من أجاز توجيها منه إلى أنه معني به الغسل. كما: حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت هشاما يذكر عن الحسن في الرجل يتوضأ في السفينة، قال: لا بأس أن يغمس رجليه غمسا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني أبو حمزة، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال: يخضخض قدميه في الماء. فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحا بالادلة الدالة التي سنذكرها بعد أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبين صواب القراءتين جميعا، أعني النصب في الارجل والخفض، لان في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بأمرار الماء عليهما. ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد مسحا بهما. غير أن ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا، فأعجب القراءتين إلي أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولانه بعد قوله: وامسحوا برءوسكم فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الايدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: وامسحوا برءوسكم. فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصا نظير قولك في المسح بالرأس ؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: ويل للاعقاب وبطون الاقدام من النار، ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها، لان من أدى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها لم يستحق الويل، بل يجب
[ 179 ]
أن يكون له الثواب الجزيل، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك وفساد ما خالفه. ذكر بعض الاخبار المروية عن رسول الله (ص) بما ذكرنا: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: كان أبو هريرة يمر ونحن نتوضأ من المطهرة، فيقول: أسبغوا الوضوء أسبغوا الوضوء قال أبو القاسم: ويل للعراقيب من النار. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، نحوه، إلا أنه قال: ويل للاعقاب من النار. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد، قال: كان أبو هريرة يمر بأناس يتوضئون مسرعين الطهور، فيقول: اسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم (ص) يقول: ويل للعقب من النار. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، بنحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال النبي (ص)، بنحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال النبي (ص): ويل للاعقاب من النار. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثني سليمان بن بلال، قال: ثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ويل للاعقاب من النار يوم القيامة.
[ 180 ]
حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا: ثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ويل للاعقاب من النار، وقال إسماعيل في حديثه: ويل للعراقيب من النار. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي، قال: دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عمر بن يونس الحنفي، قال: ثنا عكرمة بن عمار، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: ثني أبو سالم مولى المهدي، هكذا قال عمر بن يونس قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص، قال: فمررت أنا وعبد الرحمن على حجرة عائشة أخت عبد الرحمن، فدعا عبد الرحمن بوضوء فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دوس، قال: سمعت عائشة، تقول لاخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله، قالا: ثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان،
[ 181 ]
عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال: رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للعراقيب من النار. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد، قالا: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا أبو الاسود، أخبرنا عبد الله مولى شداد بن الهاد، حدثه أنه دخل على عائشة زوج النبي (ص) وعندها عبد الرحمن، فتوضأ عبد الرحمن، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت: يا عبد الرحمن فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثني أبو إسحاق، عن سعد أو سعيد بن أبي كرب، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله (ص): ويل للعراقيب من النار. حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت ابن أبي كرب، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للعقب أو العراقيب من النار. حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيدا يقول: سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: ويل للاعقاب من النار. حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): ويل للعراقيب من النار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال: سمع أذني من النبي (ص): ويل للعراقيب من النار.
[ 182 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال: سمع أذني من النبي (ص): ويل للعراقيب من النار، أسبغوا الوضوء. حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا الوليد بن القاسم، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله، قال: أبصر النبي (ص) رجلا يتوضأ، وبقي من عقبه شئ، فقال: ويل للعراقيب من النار. حدثني علي بن مسلم، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا حفص، عن الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، أن رسول الله (ص)، رأى قوما يتوضئون لم يصب أعقابهم الماء، فقال: ويل للعراقيب من النار. حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو، قال: ثنا خلف بن الوليد، قال: ثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب، قال: قال رسول الله (ص): ويل للعراقيب من النار. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو، قال: رأى رسول الله (ص) قوما يتوضئون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال: ويل للاعقاب من النار، أسبغوا الوضوء. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الاعرج، عن عبد الله بن عمرو، قال: أبصر رسول الله (ص) قوما يتوضئون لم يتموا الوضوء، فقال: أسبغوا الوضوء، ويل للعراقيب أو الاعقاب من النار.
[ 183 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي (ص) رأى قوما يتوضئون، فلم يتموا الوضوء، فقال: ويل للاعقاب من النار. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله (ص)، رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للاعقاب من النار، أسبغوا الوضوء. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، قال: كنا مع رسول الله (ص) بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضئوا، فجاء رسول الله (ص)، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء، فقال: ويل للعراقيب من النار، أسبغوا الوضوء. حدثني علي بن عبد الاعلى، قال: ثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله (ص): ويل للاعقاب من النار قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، قال: ثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو أخي أبي أمامة: أن رسول الله (ص) أبصر أقواما يتوضئون، وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر، لم يمسه الماء، فقال: ويل للاعقاب من النار قال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعاد وضوءه. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما: حدثكم به محمد بن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن
[ 184 ]
يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله (ص) توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. وما حدثك به عبد الله بن الحجاج بن المنهال، قال: ثني أبي، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: سمعت الاعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: أتى رسول الله (ص) سباطة قوم، فبال عليها قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وما حدثك به الحرث، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله (ص) أتى سباطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه. وما أشبه ذلك من الاخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ ؟ قيل له: أما حديث أوس بن أبي أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك، إذ لم يكن في الخبر الذي روى عنه ذكر أنه رأى النبي (ص) توضأ بعد حدث يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه، أو على قدميه، وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه، وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لان الرواية عنه (ص) أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل. يدل على ذلك ما: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني، قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح على نعليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله (ص) صنع.
[ 185 ]
فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس. فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال: إنه معني به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله (ص) من حدث ؟ قيل: أحسن حالات الخبر، ما احتمل ما قلت، إن سلم له ما ادعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسول الله (ص) متنافية متعارضة، وقد صح عنه (ص) الامر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه. وإذا كان ذلك عنه صحيحا، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحة ترك غسل بعض ما قد أوجب فرضا غسله في حال واحدة ووقت واحد، لان ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة، وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله (ص) منتف. غير أنا إذا سلمنا لمن ادعى في حديث أوس ما ادعى من احتماله مسح النبي (ص) على قدمه في حال وضوء من حدث، ففيه نبأ بالفلج عليه، فإنه لا حجة له في ذلك. قلنا: فإذا كان محتملا ما ادعيت، أفمحتمل هو ما قلناه إن ذلك كان من النبي (ص) في حال وضوئه لا من حدث. فإن قال: لا، ثبتت مكابرته لانه لا بيان في خبر أوس أن النبي (ص) فعل ذلك في وضوء من حدث، وإن قال: بل هو محتمل ما قلت ومحتمل ما قلنا قيل له: فما البرهان على أن تأويلك الذي ادعيت فيه أولى به من تأويلنا ؟ فلن يدعي برهانا على صحة دعواه في ذلك إلا عورض بمثله في خلاف دعواه. وأما حديث حذيفة، فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الاعمش، حدثوا به عن الاعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، أن النبي (ص) أتى سباطة قوم، فبال قائما، ثم توضأ ومسح على خفيه. حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي، قال: ثنا أبو عوانة، عن الاعمش، عن أبي
[ 186 ]
وائل، عن حذيفة (ح). وحدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي عد، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح). وحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن الاعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (ح). وحدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح). وحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن الاعمش، عن شقيق، عن حذيفة (ح). وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. وكل هؤلاء يحدث ذلك عن الاعمش، بالاسناد الذي ذكرنا عن حذيفة أن النبي (ص) مسح على خفيه، وهم أصحاب الاعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الاعمش، غير جرير بن حازم، ولو لم يخالفه في ذلك مخالف لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثقات من أصحاب الاعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك ؟ ولو صح ذلك عن النبي (ص) كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين، وإذا جاز ذلك لم يكن لاحد صرف الخبر إلى أحد المعاني المحتملها الخبر إلا بحجة يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله تعالى: إلى الكعبين. واختلف أهل التأويل في الكعب، فقال بعضهم بما: حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا القاسم بن الفضل الحداني، قال: قال أبو جعفر: أين الكعبان ؟ فقال: القوم ههنا، فقال: هذا رأس الساق، ولكن الكعبين هما عند المفصل. حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: قال مالك: الكعب الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم. وقال آخرون بما:
[ 187 ]
حدثنا الربيع، قال: قال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع فصل الساق والقدم. والصواب من القول في ذلك أن الكعبين هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم تسميهما العرب المنجمين. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها. واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا. يعني بقوله جل ثناؤه: وإن كنتم جنبا: وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها فاطهروا، يقول: فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. ووحد الجنب وهو خبر عن الجميع، لانه اسم خرج مخرج الفعل، كما قيل: رجل عدل وقوم عدل، ورجل زور وقوم زور، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر الانثى فيه واحد، يقال منه: أجنب الرجل وجنب واجتنب والفعل الجنابة والاجناب، وقد سمع في جمعه أجناب، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن. القول في تأويل قوله تعالى: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. يعني بقوله جل ثناؤه: وإن كنتم جرحى أو مجدرين وأنتم جنب، وقد بينا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: أو على سفر فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب أو جاء أحد منكم من الغائط يقول: أو جاء أحدكم من الغائط بعد قضاء حاجته فيه وهو مسافر وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه. أو لامستم
[ 188 ]
النساء يقول: أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في اللمس وبينا أولى الاقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته. فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: أو لامستم النساء إن كان معنى اللمس الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا ؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه بقوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا غير المعنى الذي ألزمه بقوله: أو لامستم النساء وذلك أنه بين حكمه في قوله: وإن كنتم جنبا فاطهروا إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره فرض عليه الاغتسال به ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور. القول في تأويل قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. يعني جل ثناؤه بقوله: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره ماء فتيمموا صعيدا طيبا، يقول: فتعمدوا واقصدوا وجه الارض طيبا، يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالا. فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يقول: فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما علق بأيديكم منه، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من ترابه وغباره. وقد بينا فيما مضى كيفية المسح بالوجوه والايدي منه واختلاف المختلفين في ذلك والقول في معنى الصعيد والتيمم، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. يعني جل ثناؤه بقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء، ليجعل عليكم من حرج ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. وبما قلنا في معنى الحرج، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 189 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية، وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله: من حرج قالا: من ضيق. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: من حرج: من ضيق. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون. يعني جل ثناؤه بقوله: ولكن يريد ليطهركم: ولكن الله يريد أن يطهركم بما فرض عليكم من الوضوء من الاحداث والغسل من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب. كما: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله (ص) قال: إن الوضوء يكفر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال: قلت: أنت سمعت ذلك من رسول الله (ص) ؟ قال: نعم، لا مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صدي بن عجلان، عن رسول الله (ص)، نحوه. حدثنا أبو كريب، ومحمد بن المثنى ويحيى بن داود الواسطي، قالوا: ثنا إبراهيم بن يزيد يزرانبه القرشي، قال: أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (ص): من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه.
[ 190 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال: قال رسول الله (ص): ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل يديه أو ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة، أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا غسل المؤمن كفيه انتثرت الخطايا من كفيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظه منه، فإن قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه كان من خطاياه كيوم ولدته أمه. حدثنا أبو الوليد الدمشقي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله (ص)، قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب. حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان، قال: أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله (ص) يتوضأ كوضوئي هذا،
[ 191 ]
ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وكانت خطاه إلى المساجد نافلة. وقوله: وليتم نعمته عليكم فإنه يقول: ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه، أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون لعلكم تشكرون يقول: تشكرون الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) *.. يعني جل ثناؤه بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلكم، بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والردى في نعم غيرها جمة. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واذكروا نعمة الله عليكم قال: النعم: آلاء الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: وميثاقه الذي واثقكم به فإنه يعني: واذكروا أيضا أيها المؤمنون في نعم الله التي أنعم عليكم ميثاقه الذي واثقكم به، وهو عهده الذي عاهدكم به. واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي ذكر الله في هذه الآية، أي مواثيقه عني ؟ فقال
[ 192 ]
بعضهم: عني به ميثاق الله الذي واثق به المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص)، حين بايعوا رسول الله (ص) على السمع والطاعة له فيما أحبوا وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا... الآية، يعني: حيث بعث الله النبي (ص)، وأنزل عليه الكتاب، فقالوا: آمنا بالنبي وبالكتاب، وأقررنا بما في التوراة. فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا فإنه أخذ ميثاقنا، فقلنا سمعنا وأطعنا على الايمان والاقرار به وبرسوله. وقال آخرون: بل عنى به جل ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (ص)، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم ؟ فقالوا: بلى شهدنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وميثاقه الذي واثقكم به قال: الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. وأولى الاقوال بالصواب في تأويل ذلك: قول ابن عباس، وهو أن معناه: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للاسلام وميثاقه الذي واثقكم به، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا (ص) على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له سمعنا وأطعنا، يقول: ففوا لله أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به، وفيما
[ 193 ]
نهاكم عنه، يف لكم بما ضمن لكم الوفاء به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه من إتمام نعمته عليكم، وبادخالكم جنته وبانعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال: عني به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه، لان الله جل ثناؤه ذكر بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى (ص) فيما أمرهم به ونهاهم فيها، فقال: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا... الآيات بعدها، منبها بذلك أصحاب رسول الله (ص) محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عدهدهم عليه، ومعرفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله، زاجرا لهم عن نكث عهودهم، فيحل بهم ما أحل بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم، فكان إذا كان الذي ذكرهم فوعظهم به، ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثله ميثاق قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم واجبا، أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظير حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا صحة ما قلنا في ذلك وفساد خلافه. وأما قوله: واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين الذين أطافوا برسوله (ص) من أصحابه، وتهديدا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسله وعهدهم الذي عاهدوه فيه، بأن يضمروا له خلاف ما أبدوا له بألسنتهم. يقول لهم جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم: سمعنا وأطعنا، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم، وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شئ من ذلك، فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حل بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النقم، وتصيروا في معادكم إلى سخط الله وأليم عقابه. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 194 ]
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري. وأما قوله: ولا يجرمنكم شننآن قوم على ألا تعدلوا فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة. وقد ذكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله وفي قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم واختلاف المختلفين في قراءة ذلك والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة بالادلة الدالة على صحته بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص) حين همت اليهود بقتله. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هوا أقرب للتقوى نزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبي (ص). وقال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله (ص) إلى يهود يستعينهم في دية، فهموا أن يقتلوا، فذلك قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا إن الله خبير بما تعملون.
[ 195 ]
يعني جل ثناؤه بقوله: اعدلوا أيها المؤمنون على كل أحد من الناس وليا لكم كان أو عدوا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه. وأما قوله: هو أقرب للتقوى فإنه يعني بقوله: هو العدل عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شئ من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. وإنما وصف جل ثناؤه العدل بما وصف به من أنه أقرب للتقوى من الجور، لان من كان عادلا كان لله بعدله مطيعا، ومن كان لله مطيعا كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا كان بعيدا من تقواه. وإنما كنى بقوله: هو أقرب عن الفعل، والعرب تكني عن الافعال إذا كنت عنها ب هو وب ذلك، كما قال جل ثناؤه هو خير لكم وذلكم أزكى لكم ولو لم يكن في الكلام هو لكان أقرب نصبا، ولقيل: اعدلوا أقرب للتقوى، كما قيل انتهوا خيرا لكم. وأما قوله: واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون فإنه يعني: واحذروا أيها المؤمنون أن تجوروا في عباده، فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءه الذي بين لكم، فيحل بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله. إن الله خبير بما تعملون يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه من عمل به أو خلاف له، محص ذلكم عليكم كله، حتى يجازيكم به جزاءكم المحسن منكم بإحسانه، والمسئ باساءته، فاتقوا أن تسيئوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وعد الله أيها الناس الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدهم عليها بقولهم: لنسمعن ولنطيعن الله ورسوله. فسمعوا أمر الله ونهيه، وأطاعوه فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. ويعني بقوله: لهم
[ 196 ]
مغفرة: لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم مغفرة، وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم، وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها. وأجر عظيم يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم جزاء على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها أجر عظيم، والعظيم من خير غير محدود مبلغه ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود ؟ قيل: بلى، إنه قد أخبر عن الموعود، والموعود هو قوله: لهم مغفرة وأجر عظيم. فإن قال قائل: فإن قوله: لهم مغفرة وأجر عظيم خبر مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما، ولم يدخل في ذلك لهم، وفي دخول ذلك فيه دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد ؟ قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرت فإنه مما اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه من ذكر بعض قد ترك ذكره فيه، وذلك أن معنى الكلام: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم، ويأجرهم أجرا عظيما لان من شأن العرب أن يصحبوا الوعد أن ويعملوه فيها، فتركت أن إذ كان الوعد قولا، ومن شأن القول أن يكون ما بعده من جمل الاخبار مبتدأ وذكر بعده جملة الخبر اجتزاء بدلالة ظاهر الكلام على معناه وصرفا للوعد الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا إلى معناه، فكأنه قيل: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إنما قيل: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم الوعد الذي وعدوا، فكان معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول: وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: والذين كفروا: والذين جحدوا وحدانية الله، ونقضوا ميثاقه وعقوده التي عاقدوها إياه. وكذبوا بآياتنا يقول: وكذبوا بأدلة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل وغيرها. أولئك أصحاب الجحيم يقول: هؤلاء
[ 197 ]
الذين هذه صفتهم أهل الجحيم، يعني: أهل النار الذين يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا: أقروا بتوحيد الله ورسالة رسوله (ص) وما جاءهم به من عند ربهم. اذكروا نعمت الله عليكم: اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم (ص) عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال: هي كفه عنكم أيدي القوم الذين هموا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكر الله جل ثناؤه أصحاب نبيه (ص) بها وأمرهم بالشكر له عليها. فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا (ص) وأصحابه مما كانت اليهود من بني النضير هموا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: خرج رسول الله (ص) إلى بني النضير ليستعينهم على دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن، فمروا رجلا يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه فقام عمرو بن جحاش بن كعب. فأتى رسول الله (ص) الخبر، وانصرف عنهم، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أراد هو وقومه: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم... الآية.
[ 198 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم قال اليهود: دخل عليهم النبي (ص) حائطا لهم، وأصحابه من وراء جداره، فاستعانهم في مغرم دية غرمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القهقري ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم يهود حين دخل النبي (ص) حائطا لهم، وأصحابه من وراء جدار لهم، فاستعانهم في مغرم في دية غرمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي معترضا ينظر إليهم خيفتهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه. قال الله عزوجل: فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني أبو معشر، عن يزيد بن أبي زياد، قال: جاء رسول الله (ص) بني النضير يستعينهم في عقل أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عقل أصابني فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله (ص) وأصحابه ينتظرونه، وجاء حي ابن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله (ص) ما قال، فقال حي لاصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شرا أبدا فجاءوا إلى رجى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل (ص) فأقامه من ثم، فأنزل الله عزوجل: يا أيها الذي آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فأخبر الله عز ذكره نبيه (ص) ما أرادوا به. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم... الآية، قال: يهود دخل عليهم النبي (ص) حائطا، فاستعانهم في مغرم غرمه،
[ 199 ]
فائتمروا بينهم بقتله، فقام من عندهم، فخرج معترضا ينظر إليهم خيفتهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: بعث رسول الله (ص) المنذر بن عمرو الانصاري أحد بني النجار وهو أحد النقباء ليلة العقبة، فبعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين والانصار. فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم، فلم يرعهم إلا والطير تحوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا والرحمن ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا، فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح عينيه، ثم قال: الله أكبر، الجنة ورب العالمين فكان يدعى أعنق ليموت. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم، وبين النبي (ص) وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدم قومهما إلى النبي (ص) يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلو على كعب بن الاشرف ويهود بني النضير، فاستعانهم في عقلهما. قال: فاجتمعت اليهود لقتل رسول الله (ص) وأصحابه، واعتلوا بصنيعة الطعام، فأتاه جبريل (ص) بالذي اجتمعت عليه يهود من الغدر، فخرج ثم دعا عليا، فقال: لا تبرح مقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل وجه إلى المدينة فأدركوه قال: فجعلوا يمرون على علي، فيأمرهم بالذي أمره حتى أتى عليه آخرهم، ثم تبعهم فذلك قوله: ولا تزال تطلع على خائنة منهم. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في قوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم. قال: نزلت في كعب بن الاشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدروا برسول الله (ص).
[ 200 ]
وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) بالشكر له عليها، أن اليهود كانت همت بقتل النبي (ص) في طعام دعوه إليه، فأعلم الله عزوجل نبيه (ص) ما هموا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم... إلى قوله: فكف أيديهم عنكم وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله (ص) وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأبوه. وقال آخرون: عنى الله جل ثناؤه بذلك النعمة التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيه (ص) على ما هم به عدوه وعدوهم من المشركين يوم بطن نخل من اغترارهم إياهم، والايقاع بهم إذا هم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها، وتعريفه نبيه (ص) الحذار من عدوه في صلاته بتعليمه إياه صلاة الخوف. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم... الآية، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله (ص) وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبي الله (ص) وسيفه موضوع، فقال: آخذه يا نبي الله ؟ قال: خذه قال: أستله ؟ قال: نعم فسله، فقال: من يمنعك مني ؟ قال: الله يمنعني منك. فهدده أصحاب رسول الله (ص)، وأغلظوا له القول، فشام السيف، وأمر نبي الله (ص) أصحابه بالرحيل، فأنزل عليه صلاة الخوف عند ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، ذكره عن ابن أبي سلمة، عن جابر: أن النبي (ص) نزل منزلا، وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي (ص) سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله (ص) وأخذه فسله، ثم أقبل على النبي (ص)، فقال: من يمنعك مني ؟ والنبي (ص) يقول: الله، فشام الاعرابي السيف، فدعا النبي (ص) أصحابه، فأخبرهم خبر الاعرابي
[ 201 ]
وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله (ص)، فأرسلوا هذا الاعرابي. وتأول: اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم... الآية. وأولى الاقوال بالصحة في تأويل ذلك، قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله، التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم محمدا (ص)، مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم نبي الله (ص) في الدية التي كان تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك، لان الله عقب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها وخيانتها ربها وأنبياءها. ثم أمر نبيه (ص) بالعفو عنهم والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه (ص) لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عقيب قوله: إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ومن غيره كان يبسط الايدي إليهم، لانه لو كان الذين هموا ببسط الايدي إليهم غيرهم لكان حريا أن يكون الامر بالعفو والصفح عنهم لا عمن لم يجر لهم بذلك ذكر، ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك دون ما خالفه. القول في تأويل قوله تعالى: واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون. يعني جل ثناؤه: واحذروا الله أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم أن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقاب الذي لا قبل لكم به. وعلى الله فليتوكل المؤمنون يقول: وإلى الله فليلق أزمة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثق بنصرته وعونه، المقرون بوحدانية الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمام إيمانهم، وأنهم إذا فعلوا ذلك كلاهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم أيها المؤمنون اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليكم،
[ 202 ]
كلاءة منه لكم، إذ كنتم من أهل الايمان به وبرسوله دون غيره، فإن غيره لا يطيق دفع سوء أراد بكم ربكم ولا اجتلاب نفع لكم لم يقضه لكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجري من تحتها الانهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سوآء السبيل) *.. وهذه الآية أنزلت إعلاما من الله جل ثناؤه نبيه (ص) والمؤمنين به، أخلاق الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي: حدثنا الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك، عن الحسن في قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل قال: اليهود من أهل الكتاب. وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديما، واحتجاجا لنبيه (ص) على اليهود باطلاعه إياه على ما كان علمه عندهم دون العرب من خفي أمورهم ومكنون علومهم، وتوبيخا لليهود في تماديهم في الغي، وإصرارهم على الكفر مع علمهم بخطإ ما هم عليهم مقيمون. يقول الله لنبيه (ص): لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما هموا به لكم، ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم، لا يعدون أن يكونوا على منهاج أولهم وطريق سلفهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم على ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم عليه بارئهم، مع نعمه التي خصهم بها، وكراماته التي طوقهم شكرها، فقال: ولقد أخذ الله ميثاق سلف من هم ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم. كما:
[ 203 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره. وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا يعني بذلك: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلا، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه. والنقيب في كلام العرب، كالعريف على القوم، غير أنه فوق العريف، يقال منه: نقب فلان على بني فلان فهو ينقب نقبا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل: قد نقب فهو ينقب نقابة، ومن العريف: عرف عليهم يعرف عرافة. فأما المناكب فإنهم كالاعوان يكونون مع العرفاء، واحدهم منكب. وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الامين الضامن على القوم. فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله، فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا: من كل سبط رجل شاهد على قومه. وقال آخرون: النقيب: الامين. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: النقباء: الامناء. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وإنما كان الله أمر موسى نبيه (ص) ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشام ليتجسسوا لموسى أخبرهم إذ أراد هلاكهم، وأن يورث أرضهم وديارهم موسى وقومه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إليها من النقباء. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أريحاء، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا
[ 204 ]
يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حجزته وعلى رأسه حزمة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته: بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك. فلما خرج القوم، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدوا عن نبي الله عليه السلام، لكن اكتموه وأخبروا نبي الله، فيكونان فيما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه. ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبر، فذلك حين يقول الله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: اثني عشر نقيبا من كل سبط من بني إسرائيل رجل أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم يلفونهم لفا، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كل منهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يوشع ابن نون وكالب بن يوقنا يأمران الاسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعوا الاخرين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجال، وقال أيضا: يلفقونهما. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الارض المقدسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا،
[ 205 ]
فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم إن الله يقول لكم: إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة... إلى قوله: فقد ضل سواء السبيل. وأخذ موسى منهم اثني عشر نقيبا اختارهم من الاسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه على الوفاء بعهده وميثاقه، وأخذ من كل سبط منهم خيرهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا فسار بهم موسى إلى الارض المقدسة بأمر الله، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام، وهي بلاد ليس فيها شجر ولا ظل، دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله عليهم المن والسلوى. وأمر الله موسى فقال: أرسل رجالا يتجسسون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل، من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرؤوس كلهم الذين فيهم، وهذه أسماء الرهط الذين بعث الله من بني إسرائيل إلى أرض الشام، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل: من سبط روبيل: شامون بن ركون، ومن سبط شمعون سافاط بن حربي، ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا، ومن سبط كاذ ميخائيل بن يوسف، ومن سبط يوسف وهو سبط إفرائيم يوشع بن نون، ومن سبط بينامين فلط بن ذنون، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودي، ومن سبط منشا بن يوسف حدي بن سوشا، ومن سبط دان حملائل بن حمل، ومن سبط أشار سابور بن ملكيل، ومن سبط نفتالي محر بن وقسي، ومن سبط يساخر حولايل بن منكد. فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتجسسون له الارض، ويومئذ سمى يوشع بن نون: يوشع بن نون، فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الارض، وما الشعب الذي يسكنونه، أقوياء هم أم ضعفاء ؟ أقليل هم أم كثير ؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون أشمسة هي أم ذات شجر ؟ واحملوا إلينا من ثمرة تلك الارض وكان في أول ما سمى لهم من ذلك ثمرة العنب. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا فهم من بني إسرائيل، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبة من فاكهتهم
[ 206 ]
وقر رجل، فقالوا: قدروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم. فعند ذلك فتنوا، فقالوا: لا نستطيع القتال فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول في قوله: وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الارض المقدسة مع نبيهم موسى (ص) فلما كانوا قريبا من المدينة، قال لهم موسى: ادخلوها فأبوا وجبنوا، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم. فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوقر الرجل، فقالوا: قدروا قوة قوم وبأسهم، هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا. القول في تأويل قوله تعالى: وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا. يقول الله تعالى ذكره وقال الله لبني إسرائيل إني معكم يقول: إنى ناصركم على عدوكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم. وفي الكلام محذوف استغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه، وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لهم: إني معكم، فترك ذكر لهم، استغناء بقوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما في الكلام من الخبر عنهم، إذ لم يكن الكلام مصروفا عنهم إلى غيرهم. ثم ابتدأ ربنا جل ثناؤه القسم، فقال: قسم لئن أقمتم معشر بني إسرائيل الصلاة وآتيتم الزكاة: أي أعطيتموها من أمرتكم باعطائها، وآمنتم برسلي يقول: وصدقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني. وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: أن موسى (ص) قال للنقباء الاثني عشر: سيروا إليهم يعني إلى الجبارين فحدثوني حديثهم، وما أمرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا. وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصر من أطاعه، وولى من اتبع أمره وتجنب معصيته وجافي ذنوبه. فإذ كان ذلك
[ 207 ]
كذلك، وكان من طاعته: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والايمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم، فكان ذلك بأن يكون ندبا للقوم جميعا وحضا لهم على ما حضهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندبا لبعض وحضا لخاص دون عام. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وعزرتموهم فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وعزرتموهم قال: نصرتموهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قوله: وعزرتموهم قال: نصرتموهم بالسيف. وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله: وعزرتموهم قال: التعزر والتوقير: الطاعة والنصرة. واختلف أهل العربية في تأويله، فذكر عن يونس الحرمري أنه كان يقول: تأويل ذلك: أثنيتم عليهم. حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه. وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقرتموهم وعظمتموهم وأيدتموهم، وأنشد في ذلك: وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزز في الندي
[ 208 ]
وكان الفراء يقول: العزر الرد عزرته رددته: إذا رأيته يظلم، فقلت: اتق الله أو نهيته، فذلك العزر. وأولى هذه الاقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتموهم، وذلك أن الله جل ثناؤه قال في سورة الفتح: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه. فالتوقير: هو التعظيم. وإذا كان ذلك كذلك، كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الاقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التعظيم، وكان النصر قد يكون باليد واللسان فأما باليد فالذب بها عنه بالسيف وغيره، وأما باللسان فحسن الثناء، والذب عن العرض، صح أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كل قائل قال فيه قولا مما حكينا عنه. وأما قوله: وأقرضتم الله قرضا حسنا فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم، قرضا حسنا يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه إلى غيره. فإن قال لنا قائل: وكيف قال: وأقرضتم الله قرضا حسنا ولم يقل: إقراضا حسنا، وقد علمت أن مصدر أقرضت: الاقراض ؟ قيل: لو قيل ذلك كان صوابا، ولكن قوله: قرضا حسنا أخرج مصدرا من معناه لا من لفظه، وذلك أن في قوله: أقرض معنى قرض، كما في معنى أعطى أخذ، فكان معنى الكلام: وقرضتم الله قرضا حسنا، ونظير ذلك: والله أنبتكم من الارض نباتا إذ كان في أنبتكم معنى فنبتم، وكما قال امرؤ القيس: (ورضت فذلت صعبة أي إذلال)
[ 209 ]
إذ كان في رضت معنى أذللت، فخرج الاذلال مصدرا من معناه لا من لفظه. القول في تأويل قوله تعالى: لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجري من تحتها الانهار. يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة أيها القوم الذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي، واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنتي لاكفرن عنكم سيئاتكم يقول: لاغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم، على سالف إجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم ولادخلنكم مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة جنات تجري من تحتها الانهار فالجنات: البساتين. وإنما قلت: معنى قوله: لاكفرن: لاغطين، لان الكفر معناه الجحود والتغطية والستر، كما قال لبيد: (في ليلة كفر النجوم غمامها) يعني: غطاها. فالتكفير التفعيل من الكفر. واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: لاكفرن فقال بعض نحويي البصرة: اللام الاولى على معنى القسم، يعني اللام التي في قوله: لئن أقمتم الصلاة قال: والثانية معنى قسم آخر. وقال بعض نحويي الكوفة: بل اللام الاولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين، يعني باللام الاولى: لئن أقمتم الصلاة. قال: واللام الثانية، يعني قوله: لاكفرن عنكم سيئاتكم جواب لها، يعني للام التي في قوله: لئن أقمتم الصلاة. واعتل لقيله ذلك بأن قوله: لئن أقمتم الصلاة غير تام ولا مستغن عن قوله: لاكفرن عنكم سيئاتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله: لاكفرن عنكم سيئاتكم قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابا لليمين إذ كانت غير مستغنية عنه. وقوله: تجري من تحتها الانهار يقول: يجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الانهار. القول في تأويل قوله تعالى: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل.
[ 210 ]
يقول عز ذكره: فمن جحد منكم يا معشر بني إسرائيل شيئا مما أمرته به، فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي، فقد ضل سواء السبيل يقول: فقد أخطأ قصد الطريق الواضح، وزل عن منهج السبيل القاصد. والضلال: الركوب على غير هدى وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. وقوله: سواء يعني به: وسط السبيل، وقد بينا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) *.. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم، غدرا منهم بك وأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى (ص) على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تخيروا من جميعهم ليتجسسوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصر عليهم، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العبر والآيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفلق البحر لهم وسائر العبر ما أريتم، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أيادي عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم. وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل، فنقضوا الميثاق، فلعنتهم، فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم، فاكتفى بقوله: فبما نقضهم ميثاقهم من ذكر فنقضوا. ويعني بقوله جل ثناؤه: فبما نقضهم ميثاقهم فبنقضهم ميثاقهم. كما قال قتادة. حدثنا كثير قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم.
[ 211 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: فبما نقضهم ميثاقهم قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. وقد ذكرنا معنى اللعن في غير هذا الموضع. والهاء والميم من قوله: فبما نقضهم عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل. القول في تأويل قوله تعالى: وجعلنا قلوبهم قاسية. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: قاسية بالالف، على تقدير فاعلة، من قسوة القلب، من قول القائل: قسا قلبه، فهو يقسو وهو قاس، وذلك إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا، كما قال الراجز: (وقد قسوت وقست لداتي) فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني، وجعلنا قلوبهم قاسية غليظة يابسة عن الايمان بي والتوفيق لطاعتي، منزوعة منها الرأفة والرحمة. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: وجعلنا قلوبهم قسية. ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: معنى القسوة، لان فعيلة في الذم أبلغ من فاعلة، فاخترنا قراءتها قسية على قاسية لذلك. وقال آخرون منهم: بل معنى قسية غير معنى القسوة وإنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك، كما قال أبو زبيد الطائي: لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي السلام.
[ 212 ]
وأعجب القراءتين إلي في ذلك قراءة من قرأ: وجعلنا قلوبهم قسية على فعية، لانها أبلغ في ذم القوم من قاسية. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله فعيلة من القسوة، كما قيل: نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة لان الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به، ولم يصفهم بشئ من الايمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش. القول في تأويل قوله تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه. يقول عز ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية، منزوعا منها الخير، مرفوعا منها التوفيق، فلا يؤمنون، ولا يهتدون، فهم لنزع الله عزوجل التوفيق من قلوبهم والايمان يحرفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى (ص)، وهو التوراة، فيبدلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله عزوجل على نبيهم ويقولون لجهال الناس: هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى (ص) والتوراة التي أوحاها إليه. وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد (ص)، ولكن الله عز ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله والفرية عليه ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: يحرفون الكلم عن مواضعه يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا. القول في تأويل قوله تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به. يعني تعالى ذكره بقوله: ونسوا حظا: وتركوا نصيبا، وهو كقوله: نسوا الله فنسيهم أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغني ذلك عن إعادته. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 213 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ونسوا حظا مما ذكروا به يقول: تركوا نصيبا. حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز قال: ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: ونسوا حظا مما ذكروا به قال: تركوا عرى دينهم ووظائف الله جل ثناؤه التي لا تقبل الاعمال إلا بها. القول في تأويقوله تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم. يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد (ص): ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقي، ونكثهم عهدي، مع أيادي عندهم، ونعمتي عليهم، على مثل ذلك من الغدر والخيانة، إلا قليلا منهم. والخائنة في هذا الموضع: الخيانة، وضع وهو اسم وضع موضع المصدر، كما قيل خاطئة: للخطيئة، وقائلة: للقيلولة. وقوله: إلا قليلا منهم استثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: على خائنة منهم. وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ولا تزال تطلع على خائنة منهم قال: على خيانة وكذب وفجور. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ولا تزال تطلع على خائنة منهم قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي (ص) يوم دخل حائطهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم، ثنا الحسين، قال: ثني حجاج قال: ابن جريج، قال مجاهد
[ 214 ]
وعكرمة: قوله: ولا تزال تطلع على خائنة منهم من يهود مثل الذي هموا بالنبي (ص) يوم دخل عليهم. وقال بعض القائلين: معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، قال: والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر كقولهم: هو راوية للشعر، ورجل علامة، وأنشد: حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الاصبع فقال خائنة، وهو يخاطب رجلا. والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل، لان الله عنى بهذه الآية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله (ص) وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله (ص) يستعينهم في دية العامريين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد هموا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم على منهاج أولهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبي الله (ص)، فقال جل ثناؤه: ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد. ولم يرد أنه لا يزال يطلع على رجل منهم خائن، وذلك أن الخبر ابتدئ به عن جماعتهم، فقيل: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، ثم قيل: ولا تزال تطلع على خائنة منهم، فإذ كان الابتداء عن الجماعة فلتختم بالجماعة أولى. القول في تأويل قوله تعالى: فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين. وهذ أمر من الله عز ذكره نبيه محمدا (ص) بالعفو عن هؤلاء القوم الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود، يقول الله عزوجل له: اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم
[ 215 ]
بترك التعرض لمكروههم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه. وكان قتادة يقول: هذه منسوخة، ويقول: نسختها آية براءة: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فاعف عنهم واصفح قال: نسختها: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، عن قتادة: فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ولم يؤمر يؤمئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح، ثم نسخ ذلك في براءة فقال: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وهم أهل الكتاب. فأمر الله جل ثناؤه نبيه (ص) أن يقاتلهم حتى يسلموا، أو يقروا بالجزية. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة نحوه. والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الامر، هو ما كان نافيا كل معاني خلافه الذي كان قبله. فأما ما كان غير ناف جميعه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله عزوجل، أو من رسوله (ص). وليس في قوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر دلالة على الامر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود. وإذ كان ذلك كذلك، وكان جائزا مع إقرارهم بالصغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الامر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها أو نكثة عزموا عليها، ما لم ينصيبوا حربا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الاحكام اللازمة منهم، لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الآية، بأنه ناسخ قوله: فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 216 ]
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) *.. يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الامة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي وضيعوا أمري. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به: نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهده إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظا مما ذكروا به. القول في تأويل قوله تعالى: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. يعني تعالى ذكره بقوله: فأغرينا بينهم: حرشنا بينهم وألقينا، كما نغزي الشئ بالشئ. يقول جل ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي حظهم، مما عهدت إليهم من أمري ونهيي، أغريت بينهم العداوة والبغضاء. ثم اختلف أهل التأويل في صفة إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء، فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالاهواء التي حدثت بينهم. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال: هذه الاهواء المختلفة، والتباغض فهو الاغراء. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، قال: سمعت النخعي يقول: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال: أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين.
[ 217 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتيمي، قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال: ما أرى الاغراء في هذه الآية إلا الاهواء المختلفة. وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الاعمال. وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة... الآية. إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعصوا رسله، وضيعوا فرائضه، وعطلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره، ما افترقوا ولا تباغضوا. وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالحق، تأويل من قال: أغرى بينهم بالاهواء التي حدثت بينهم، كما قال إبراهيم النخعي لان عداوة النصارى بينهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواء لا وحي من الله. واختلف أهل التأويل في المعنى بالهاء والميم اللتين في قوله: فأغرينا بينهم فقال بعضهم: عني بذلك: اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظا مما ذكروا به. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال في النصارى أيضا: فنسوا حظا مما ذكروا به، فلما فعلوا ذلك أغرى الله عز وجل بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يومه القيامة قال: هم اليهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تغري بين اثنين من البهائم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال: اليهود والنصارى. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 218 ]
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: النصارى وحدها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى عقوبة لها بنيسانها حظا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت الهاء والميم في بينهم دون اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرا. فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذوا الرشوة في الحكم وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يومه القيامة وقال في النصارى: فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وأولى التأويلين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أن المعنى بالاغراء بينهم: النصارى في هذه الآية خاصة، وأن الهاء والميم عائدتان على النصارى دون اليهود، لان ذكر الاغراء في خبر الله عن النصارى بعد تقضي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى، فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا لما ذكرنا. فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك ؟ قيل: ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية، وليس الذي قاله من قال معنى بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي وأشبه بتأويل الآية لما ذكرنا. القول في تأويل قوله تعالى: وسوف ينبئهم الله بمعا كانوا يصنعون.
[ 219 ]
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، واصفح فإن الله من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم الله عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) *.. يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله (ص): يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قد جاءكم رسولنا، يعني محمدا (ص).، كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا وهو محمد (ص). وقوله: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب يقول: يبين لكم محمد رسولنا كثيرا مما كنتم تكتمونه الناس ولا تبينونه لهم مما في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبينه رسول الله (ص) للناس: رجم الزانين المحصنين. وقيل: إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله (ص) للناس من إخفائهم ذلك من كتابهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما تخفون من الكتاب فكان الرجم مما أخفوا. حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه، أخبرنا علي بن الحسين، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
[ 220 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم... إلى قوله: صراط مستقيم قال: إن نبي الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت، قال: أيكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فقال: أنت أعلمهم ؟ قال: سل عما شئت، قال: أنت أعلمهم ؟ قال: إنهم ليزعمون ذلك. قال: فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، وناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم، حتى أخذه أفكل، فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أخصورة، فجلدنا مئة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب أحسبه قال: الابل قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله فيهم: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم... الآية، وهذه الآية: وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم. وقوله: ويعفو عن كثير يعني بقوله ويعفو: ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. القول في تأويل قوله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التوراة والانجيل من الله نور، يعني بالنور محمدا (ص)، الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الاسلام، ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به يبين الحق، ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب. وقوله: وكتاب مبين يقول جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحق. وكتاب مبين يعني: كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم من توحيد الله وحلاله وحرامه وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد (ص)، يبين للناس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقه من باطله. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 221 ]
(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) *.. يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله، ويعني بقوله: يهدي به الله يرشد به الله ويسدد به. والهاء في قوله به عائدة على الكتاب. من اتبع رضوانه يقول: من اتبع رضا الله. واختلف في معنى الرضا من الله عزوجل، فقال بعضهم: الرضا منه بالشئ: القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الايمان ومزك له، ومثن على المؤمن بالايمان، وواصف الايمان بأنه نور وهدى وفضل. وقال آخرون: معنى الرضا من الله عزوجل معنى مفهوم، هو خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني الرضا، الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لان المدح والثناء قول، وإنما يثني ويمدح ما قدر رضي قالوا: فالرضا معنى، والثناء والمدح معنى ليس به. ويعني بقوله: سبل السلام: طرق السلام، والسلام هو الله عز ذكره. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: من اتبع رضوانه سبل السلام: سبيل الله الذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الاسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية. القول في تأويل قوله تعالى: ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه. يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام، وشرائع دينه. ويخرجهم يقول: ويخرج من اتبع رضوانه، والهاء والميم في: ويخرجهم إلى من ذكر من الظلمات إلى النور، يعني: من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الاسلام وضيائه بإذنه، يعني: بإذن الله عزوجل. وإذنه في هذا الموضع تحبيبه إياه الايمان برفع طابع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لابصار سبل السلام. القول في تأويل قوله تعالى: ويهديهم إلى صراط مستقيم.
[ 222 ]
يعني عز ذكره بقوله: ويهديهم: ويرشدهم ويسددهم إلى صراط مستقيم يقول: إلى طريق مسقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا ولله ملك السماوات والارض وما بينهما يخلق ما يشآء والله على كل شئ قدير) *.. هذا ذم من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية الذين ضلوا عن سبل السلام، واحتجاج منه لنبيه محمد (ص) في فريتهم عليه بادعائهم له ولدا، يقول جل ثناؤه: أقسم لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وكفرهم في ذلك تغطيتهم الحق في تركهم نفي الولد عن الله عزوجل، وادعائهم أن المسيح هو الله فرية وكذبا عليه. وقد بينا معنى المسيح فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): قل يا محمد للنصارى الذين افتروا علي، وضلوا عن سواء السبيل، بقيلهم: إن الله هو المسيح ابن مريم من يملك من الله شيئا يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله عزوجل شيئا، فيرده إذا قضاه من قول القائل: ملكت على فلان أمره: إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرا إلا به. وقوله: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئا إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم بإعدامه من الارض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الارض من الخلق جميعا. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء الجهلة من النصارى لو كان المسيح كما يزعمون أنه هو الله، وليس كذلك لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه باهلاكه وإهلاك أمه، وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك، ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم في أن المسيح بشر كسائر بني آدم، وأن الله عزوجل هو
[ 223 ]
الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يرد له أمر، بل هو الحي الدائم القيوم الذي يحيى ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت. القول في تأويل قوله تعالى: ولله ملك السموات والارض وما بينهما يخلق ما يشاء. يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السموات والارض وما بينهما، يعني: وما بين السماء والارض، يهلك من يشاء من ذلك، ويبقى ما يشاء منه، ويوجد ما أراد، ويعدم ما أحب، لا يمنعه من شئ أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع ينفذ فيهم حكمه، ويمضي فيهم قضاءه، لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه، لم يملك دفع ما أراد به ربه من ذلك. يقول عزوجل: كيف يكون إلها يعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك ؟ بل الاله المعبود الذي له ملك كل شئ، وبيده تصريف كل من في السماء والارض وما بينهما. فقال جل ثناؤه: وما بينهما، وقد ذكر السموات بلفظ الجمع، ولم يقل: وما بينهن، لان المعنى: وما بين هذين النوعين من الاشياء، كما قال الراعي. طرقا فتلك هماهمي أقريهماقلصا لواقح كالقسي وحولا فقال: طرقا، مخبرا عن شيئين، ثم قال: فتلك هما همي، فرجع إلى معنى الكلام. وقوله: يخلق ما يشاء يقول: جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجه من
[ 224 ]
حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهار، وإنما يعني بذلك أن له تدبير السموات والارض وما بينهما، وتصريفه وإفناءه وإعدامه، وإيجاد ما يشاء مما هو غير موجود ولا منشأ، يقول: فليس ذلك لاحد سواي، فكيف زعمتم أيها الكذبة أن المسيح إليه، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه، ولا عن أمه، ولا اجتلاب نفع إليها، إلا بإذني. القول في تأويل قوله تعالى: والله على كل شئ قدير. يقول عز ذكره: الله المعبود هو القادر على كل شئ، والمالك كل شئ، الذي لا يعجزه شئ أراده، ولا يغلبه شئ طلبه، المقتدر على هلاك المسيح وأمه ومن في الارض جميعا، لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضر نزل به من الله ولا منع أمه من الهلاك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما وإليه المصير) *.. وهذا خبر من الله عزوجل عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول. وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولي زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله (ص) نعمان بن أخي ويحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلموه، فكلمهم رسول الله (ص) ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز فيهم: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه... إلى آخر الآية. وكان السدي يقول في ذلك بما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 225 ]
عن السدي: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه أما أبناء الله فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد: أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. وأما النصارى، فإن فريقا منهم قال للمسيح: ابن الله. والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت مخرج الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول: نحن الاجواد الكرام، وإنما الجواد فيهم واحد منهم وغير المتكلم الفاعل ذلك، كما قال جرير: ندسنا أبا مندوسة القين بالقناوما ردم من جار بيبة ناقع فقال: ندسنا، وإنما النادس: رجل من قوم جرير غيره، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عز ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك على هذا الوجه إن شاء الله. وقوله: وأحباؤه وهو جمع حبيب، يقول الله لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم فلم يعذبكم ربكم ؟ يقول: فلاي شئ يعذبكم ربكم بذنوبكم إن كان الامر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون أنه معذبكم. وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يوما عدد الايام التي عبدنا فيه العجل، ثم يخرجنا جميعا منها فقال الله لمحمد (ص): قل لهم: إن كنتم كما تقولون أبناء الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ يعلمهم عز ذكره أنهم أهل فرية وكذب على الله وجل. عز. القول في تأويل قوله تعالى: بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
[ 226 ]
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): قل لهم: ليس الامر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه بل أنتم بشر ممن خلق، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، إن أحسنتم جوزيتم بإحسانكم كما سائر بني آدم مجزيون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم كما غيركم مجزى بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الايمان به ذنوبه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها. وقد بينا معنى المغفرة في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. ويعذب من يشاء يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه، فيعاقبه على ذنوبه، ويفضحه بها على رءوس الاشهاد، فلا يسترها عليه، وإنما هذا من الله عزوجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى، المتكلين على منازل سلفهم الخيار عند الله، الذين فضلهم الله بطاعتهم إياه، واجتنابهم معصيته، لمسارعتهم إلى رضاه، واصطبارهم على ما نابهم فيه. يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني، ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا مني بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابهم، لا بالاماني، فجدوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي، لا لمن قربت زلفة آبائه مني، وهو لي عدو ولامري ونهيي مخالف. وكان السدي يقول في ذلك بما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قوله: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه. القول في تأويل قوله تعالى: ولله ملك السموات والارض وما بينهما وإليه المصير. يقول: لله تدبير ما في السموات وما في الارض وما بينهما، وتصريفه، وبيده أمره، وله ملكه، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف أحبه، لا شريك له في شئ منه ولا لاحد معه فيه ملك، فاعلموا أيها القائلون: نحن أبناء الله وأحباؤه، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع ولا لكم عنه دافع لانه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لاحد في شئ ومرجعه. فاتقوا أيها المفترون عقابه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالاماني وفضائل الآباء والاسلاف. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 227 ]
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: يا أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم أو بعضهم فيما ذكر لما دعاهم رسول الله (ص) إلى الايمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعث الله من نبي بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتابا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته. فقال رابع بن حرملة وهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله عز وجل في (ذلك من) قولهما: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير. ويعني بقوله جل ثناؤه: قد جاءكم رسولنا: قد جاءكم محمد (ص) رسولنا، يبين لكم يقول: يعرفكم الحق، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل وهو محمد (ص)، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به. على فترة من الرسل يقول: على انقطاع من الرسل. والفترة في هذا الموضع: الانقطاع، يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى على انقطاع من الرسل.
[ 228 ]
والفترة: الفعلة، من قول القائل: فتر هذا الامر يفتر فتورا، وذلك إذا هدأ وسكن، وكذلك الفترة في هذا الموضع معناها: السكون، يراد به سكون مجيئ الرسل، وذلك انقطاعها. ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه، ما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: على فترة من الرسل قال: كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة وستون سنة. وروى سعيد بن أبي عروبة عنه، ما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد (ص)، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك الله أعلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه، قوله: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل قال: كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة سنة وأربعون سنة. قال معمر: قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة. وقال آخرون بما: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: على فترة من الرسل قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة. ويعنن بقوله: أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير: أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: يبين الله لكم أن تضلوا بمعنى: أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا. فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله (ص)، وأبلغ إليهم في الحجة. ويعني بالبشير: المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله وعمل بما آتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته، وبالنذير المنذر من عصاه وكذب رسوله (ص) وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده وشديد عذابه في قيامته.
[ 229 ]
القول في تأويل قوله تعالى: فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير. يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد (ص) إليكم، وأرسلناه إليكم، ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة، فقد جاءكم من عندي رسول، يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته، وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كل شئ، أقدر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي، وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شئ أراده ولا يفوته شئ طلبه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) *.. وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد (ص) قديم بتمادي هؤلاء اليهود في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختبارهم لانفسهم وشدة خلافهم لانبيائهم وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم وتتابع أياديه وآلائه عليه، مسليا بذلك نبيه محمدا (ص) عما يحل به من علاجهم وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له (ص): لا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله والبعد من الحق وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم، وتعز بما لاقى منهم أخوك موسى (ص)، واذكر إذ قال موسى لهم: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم يقول: اذكروا أيادي الله عندكم وآلاءه قبلكم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: اذكروا نعمة الله عليكم قال: أيادي الله عندكم وأيامه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: اذكروا نعمة الله عليكم يقول: عافية الله. وإنما أخترنا ما قلنا، لان الله لم يخصص من النعم شيئا، بل عم ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت العافية أحد معاني النعم. القول في تأويل قوله تعالى: إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا.
[ 230 ]
يعني بذلك جل ثناؤه، أن موسى ذكر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبآلائه قبلهم، فحرضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أن فضلكم بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ويخبرونكم بآياته الغيب، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. فقيل إن الانبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جعلوا فيهم هم الذين اختارهم موسى، إذ صار إلى الجبل وهم السبعون الذين ذكرهم الله، فقال: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا. وجعلكم ملوكا سخر لكم من غيركم خد ما يخدمونكم. وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لانه لم يكن في ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بني آدم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا قال: كنا نحدث أنهم أول من سخر لهم الخدم من بني آدم وملكوا. وقال آخرون: كل من ملك بيتا وخادما وامرأة، فهو ملك كائنا من كان من الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا أبو هانئ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها ؟ نعم. قال: ألك مسكن تسكنه ؟ قال: نعم. قال: فأنت من الاغنياء. فقال: إن لي خادما. قال: فأنت من الملوك. حدثنا الزبير بن بكار، قال: ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، قال: سمعت زيد بن أسلم، يقول: وجعلكم ملوكا فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله (ص): من كان له بيت وخادم فهو ملك.
[ 231 ]
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أنه تلا هذه الآية: وجعلكم ملوكا فقال: وهل الملك إلا مركب وخادم ودار ؟ فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لانهم كانوا يملكون الدور والخدم، ولهم نساء وأزواج. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن منصور، قال: أراه عن الحكم: وجعلكم ملوكا قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيت وامرأة وخادم، عد ملكا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان. ح، وحدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن الحكم: وجعلكم ملوكا قال: الدار والمرأة والخادم. قال سفيان: واثنتين من الثلاثة. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله: وجعلكم ملوكا قال: البيت والخادم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس، في قوله: وجعلكم ملوكا قال: الزوجة والخادم والبيت. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وجعلكم ملوكا قال: جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا. حدثنا المثنى، قال: ثنا علي بن محمد الطنافسي، قال: ثنا أبو معاوية، عن حجاج بن نميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله: وجعلكم ملوكا قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وجعلكم ملوكا قال: ملكهم الخدم. قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم.
[ 232 ]
حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز بن أبان، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد: وجعلكم ملوكا قال: جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا. وقال آخرون: إنما عنى بقوله: وجعلكم ملوكا أنهم يملكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وجعلكم ملوكا يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. القول في تأويل قوله تعالى: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب، فقال بعضهم: عني به أمة محمد (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين قالا: أمة محمد (ص). وقال آخرون: عني به قوم موسى (ص). ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هم قوم موسى. حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز بن أبان، قال: ثنا سفيان عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين قال: هم بين ظهرانيه يومئذ. ثم اختلفوا في الذي آتاهم الله ما لم يؤت أحد من العالمين، فقال بعضهم: هو المن والسلوى والحجر والغمام. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين قال: المن والسلوى والحجر والغمام.
[ 233 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يعني أهل ذلك الزمان، المن والسلوى والحجر والغمام. وقال آخرون: هو الدار والخادم والزوجة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. حدثني الحرث. قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين المن والسلوى والحجر والغمام. وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل، حيث جاء في سياق قوله: اذكروا نعمة الله عليكم ومعطوفا عليه. ولا دلالة في الكلام تدل على أن قوله: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين مصروف عن خطاب الذين ابتدئ بخطابهم في أول الآية. فإن كان ذلك كذلك، فأن يكون خطابا لهم أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم. فإن ظن ظان أن قوله: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين لا يجوز أن يكون خطابا لبني إسرائيل، إذ كانت أمة محمد قد أوتيت من كرامة الله نبيها عليه الصلاة والسلام محمدا، ما لم يؤت أحدا غيرهم، وهم من العالمين فقد ظن غير الصواب، وذلك أن قوله: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين خطاب من موسى (ص) لقومه يومئذ، وعنى بذلك عالمي زمانه لا عالمي كل زمان، ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ما أوتي قومه (ص) أحد من العالمين، فخرج الكلام منه (ص) على ذلك لا على جميع كل زمان. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) *..
[ 234 ]
وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى (ص) لقومه من بني إسرائيل، وأمره إياهم عن أمر الله إياه، يأمرهم بدخول الارض المقدسة. ثم اختلف أهل التأويل في الارض التي عناها بالارض المقدسة، فقال بعضهم: عنى بذلك: الطور وما حوله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الارض المقدسة: الطور وما حوله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: ادخلوا الارض المقدسة قال: الطور وما حوله. وقال آخرون: هو الشأم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: الارض المقدسة قال: هي الشأم. وقال آخرون: هي أرض أريحاء. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم قال: أريحاء. حدثني يوسف بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: هي أريحاء. حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: هي أريحاء. وقيل: إن الارض المقدسة: دمشق وفلسطين وبعض الاردن. وعنى بقوله المقدسة: المطهرة المباركة. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الارض المقدسة قال: المباركة.
[ 235 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: هي الارض المقدسة، كما قال نبي الله موسى (ص). لان القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون من الارض التي بين الفرات وعريش مصر لاجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالاخبار على ذلك. ويعني بقوله: التي كتب الله لكم: التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن، ومنازل دون الجبابرة التي فيها. فإن قال قائل: فكيف قال: التي كتب الله لكم، وقد علمت أنهم لم يدخلوها بقوله: فإنها محرمة عليهم ؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرما عليهم سكناها ؟ قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها، وصارت لهم كما قال الله عزوجل. وإنما قال لهم موسى: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل ولم يعن (ص) أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم، ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم، ولخاص منهم، فأخرج الكلام على العموم والمراد منه الخاص، إذ كان يوشع وكالب قد دخلا، وكانا ممن خوطب بهذا القول، كان أيضا وجها صحيحا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق: التي كتب الله لكم: التي وهب الله لكم. وكان السدي يقول: معنى كتب في هذا الموضع بمعنى أمر. حدثنا بذلك موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم: التي أمركم الله بها. القول في تأويل قوله تعالى: ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عز ذكره إياه بدخول الارض المقدسة، أنه قال لهم: امضوا أيها القوم
[ 236 ]
لامر الله الذي أمركم به من دخول الارض المقدسة، ولا ترتدوا يقول: لا ترجعوا القهقري مرتدين على أدباركم يعني: إلى ورائكم، ولكن امضوا قدما لامر الله الذي أمركم به من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأن الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنا وقرارا. ويعني بقوله: فتنقلبوا خاسرين: أنكم تنصرفوا خائبين هكذا. وقد بينا معنى الخسارة في غير هذا الموضع بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع. فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الارض المقدسة لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ؟ أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له ؟ قيل: إن الله عز ذكره كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم. إذا فرض الله عليهم من وجهين: أحدهما تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم. والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الارض، وقولهم لنبيهم موسى (ص) إذ قال لهم ادخلوا الارض المقدسة: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. كان قتادة يقول في ذلك بما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم أمروا بها كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) *.. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذا أمرهم بدخول الارض المقدسة، أنهم أبوا عليه إجابة إلى ما أمرهم به من ذلك، واعتلوا عليه في ذلك بأن قالوا: إن في الارض المقدسة التي تأمرنا بدخولها قوما جبارين لا طاقة لنا بحربهم ولا قوة لنا بهم. وسموهم جبارين، لانهم كانوا بشدة بطشهم وعظيم خلقهم فيما ذكر لنا قد قهروا
[ 237 ]
سائر الامم غيرهم. وأصل الجبار: المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجتر نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلب الاصلاح لها حتى قيل للمتعدي إلى ما ليس له بغيا على الناس وقهرا لهم وعتوا على ربه: جبار، وإنما هو فعال من قولهم: جبر فلان هذا الكسر إذا أصلحه ولامه، ومنه قول الراجز: قد جبر الدين الاله فجبروعور الرحمن من ولى العور يريد: قد أصلح الدين الاله فصلح ومن أسماء الله تعالى ذكره الجبار، لانه المصلح أمر عباده القاهر لهم بقدرته. ومما ذكرته من عظم خلقهم ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط عن السدي في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل، قال: ثم أمرهم بالسير إلى أريحاء، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم، بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له: عوج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته: لا، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك. حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس، قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة، وهي أريحاء. فبعث
[ 238 ]
إليهم اثني عشر عينا، من كل سبط منهم عينا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرا عظميا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم وتتبعهم، فكلما أصاب واحدا منهم أخذه، فجعله في كمه مع الفاكهة. وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: إن فيها قوما جبارين ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخلق ليست لغيرهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه: إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم وإنه أخذ من كل سبط رجلا، فكانوا اثني عشر نقيبا، فقال: سيروا إليهم وحدثوني حدثهم وما أمرهم ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسله، وعزرتموهم، وأقرضتم الله قرضا حسنا. ثم إن القوم ساروا حتى هجموا عليهم، فرأوا أقواما لهم أجساما عجب، عظما وقوة، وأنه فيما ذكر أبصرهم أحد الجبارين، وهم لا يألون أن يخفوا أنفسهم حين رأوا العجب، فأخذ ذلك الجبار منهم رجالا، فأتى رئيسهم، فألقاهم قدامه، فعجبوا وضحكوا منهم، فقال قائل منهم: إن هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم، وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقتلوا. وإنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدثوه العجب. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إثني عشر نقيبا من كل سبط من بني إسرائيل رجل أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاء، ولا يحمل عنقود عنهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حديفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
[ 239 ]
حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك: إن فيها قوما جبارين قال: سفلة لا خلاق لهم. القول في تأويل قوله تعالى: وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول قوم موسى لموسى جوابا لقوله لهم: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم فقالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها يعنون: من الارض المقدسة الجبارون الذين فيها، جبنا منهم وجزعا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نطيق دخولها وهم فيها، لانه لا طاقة لنا بهم ولا يد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يوفنا، أسكت الشعب عن موسى (ص)، فقال لهم: إنا سنعلو الارض ونرثها، وإن لنا بهم قوة. وأما الذين كانوا معه، فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب من أجل أنهم أجرأ منا. ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنا مررنا في أرض وأحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالها جساما، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد. فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسوا على موسى وهارون، فقالوا لهما: يا ليتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولم يدخلنا الله هذه الارض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمة، ولو كنا قعودا في أرض مصر، كان خيرا لنا وجعل الرجل يقول لاصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) *.. وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل الذين أمرهم بدخول الارض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين، بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم، ووصفهما الله بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه كما:
[ 240 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان. ح، وحدثنا ابن وكيع، قال ثنا أبي، عن سفيان. ح، وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما قال: كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد، قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنا، وهما من النقباء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنا، يأمران الاسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. حدثنا ابن حميد، وسفيان بن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي، إلا أن ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر نقيبا. حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها، قال: فرجعوا يعني النقباء الاثني عشر إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكرة فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة. قال: فذهب كل رجل منهم، فأخبر قريبه وابن عمه، إلا هذين الرجلين يوشع بن نون وكلاب بن يوفنا، فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدا، وهما اللذان قال الله: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما... إلى قوله: وبين القوم الفاسقين. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، وكالوب بن يوفنة ختن موسى. حدثنا سفيان، قال: ثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما كالوب ويوشع بن نون فتى موسى.
[ 241 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن نون، كالوب بن يوفنة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ذكر لنا أن الرجلين: يوشع بن نون، وكالب. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لما رجعوا فحدثوه العجب: لا تحدثوا أحدا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم وإن القوم أفشوا الحديث من بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: كان أحدهما فيما سمعنا يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب، فقالا: ادخلوا عليهم الباب إن كنتم مؤمنين. واختلف القراء في قراءة قوله: قال رجلان من الذين يخافون. قرأ ذلك قراء الحجاز والعراق والشام: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بفتح الياء من يخافون، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفا، أنهما يوشع بن نون وكالب من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعم عليهما بالتوفيق. وكان قتادة يقول في بعض القراءة: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة. ح، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما في بعض الحروف: يخافون الله أنعم الله عليهما. وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأول ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع، وكالب. وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: قال رجلان من الذين يخافون بضم الياء أنعم الله عليهما. حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا
[ 242 ]
هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب، ولا نعلمه أنه سمع منه، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرؤها بضم الياء من: يخافون. وكأن سعيدا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة، الذين يخافهم بنو إسرائيل وإن كان لهم في الدين مخالفين. وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قال: هي مدينة الجبارين، لما نزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا، وهم النقباء الذين ذكر نعتهم ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم ؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثنا إليكم لنأتيه بخبركم، فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل، فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه، فقولوا لهم: اقدروا قدر فاكهتهم فلما أتوهم، قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى وهارون، فقالا لموسى: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. فعلى هذه القراءة وهذا التأويل لم يكتم من الاثنى عشر نقيبا أحدا ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة وشدة بطشهم وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى: ادخلوا عليهم الباب، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبي الله (ص). وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءة من قرأ من الذين يخافون أنعم الله عليهما لاجماع قراء الامصار عليها وأن ما استفاضت به القراءة محجة لا يجوز زخلافها وما انفرد بها لواحد فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على
[ 243 ]
صحة القراءة بفتح الياء في ذلك وفساد غيره، وهو التأويل الصحيح عندنا لما ذكرنا من أجماعها عليه. وأما قوله: أنعم الله عليهما فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى (ص)، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه (ص)، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين الذين كانوا معهما من النقباء. وقد قيل: إن معنى ذلك: أنعم الل عليهما بالخوف. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا خلف بن تميم، قال: ثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل ابن علي، قوله: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما قال: أنعم الله عليهما بالخوف. وبنحو الذي قلنا في ذلك، كان الضحاك يقول وجماعة غيره. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبارين. القول في تأويل قوله تعالى: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين لما سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فقالا لهم: ادخلوا عليهم أيها القوم باب مدينتهم، فإن الله معكم وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الاول، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خر موسى وهارون على وجوههما سجودا قدام جماعة بني إسرائيل، وخرق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الارض، وقالا لجماعة بني إسرائيل: إن الارض مررنا بها وجسسناها صالحة رضيها ربنا لنا فوهبها لنا،
[ 244 ]
وإنها لم تكن تفيض لبنا وعسلا، ولكن افعلوا واحدة، لا تعصوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم جبناء، مدفوعون في أيدينا، إن حاربناهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلا، من كل سبط رجلا، عيونا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأما عشرة فجبنوا قومهم وكرهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: عليهم الباب قرية الجبارين. القول في تأويل قوله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. وهذا أيضا خبر من الله عزوجل، عن قول الرجلين اللذين يخافان الله أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغبانهم في المضي لامر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم: توكلوا أيها القوم على الله في دخولكم عليهم ويقولان لهم: ثقوا بالله فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوكم. وعنيا بقولهما إن كنتم مؤمنين: إن كنتم مصدقي نبيكم (ص)، فيما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه، ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوه وعدوكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا يا موسى إنا لن ندخلهآ أبداما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) *.. وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملا من قوم موسى لموسى، إذ رغبوا في جهاد عدوهم، ووعدوا نصر الله إياهم، إن هم ناهضوهم، ودخلوا عليهم باب مدينتهم أنهم قالوا له: إنا لن ندخلها أبدا يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدا. والهاء والالف في قوله: إنا لن ندخلها من ذكر المدينة. ويعنون بقولهم: أبدا: أيام حياتنا ما داموا فيها، يعني:
[ 245 ]
ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأمروا بدخولها. فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون لا نجئ معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم. وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا، ولكن معناه: اذهب أنت يا موسى، وليعنك ربك، وذلك أن الله لا يجوز عليه الذهاب. وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن قوم مؤمنين، فأما قوم أهل خلاف على الله عز ذكره رسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عزوجل وافتروا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله (ص) خلاف ما قال قوم موسى لموسى. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الاسود قال للنبي (ص): إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكم مقاتلون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله (ص) قال لاصحابه يوم الحديبية، حين صد المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم: إنى ذاهب بالهدي فناحره عند البيت. فقال له المقداد بن الاسود: أما والله لا نكون كالملا من بني إسرائيل، إذ قالوا لنبيهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فلما سمعها أصحاب النبي (ص) تتابعوا على ذلك. وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام حين تبين لهم أمر الجبارين وشدة بطشهم. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول: أمر الله عزوجل بني إسرائيل أن يسيروا إلى الارض المقدسة مع نبيهم موسى (ص)، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى:
[ 246 ]
ادخلوها فأبوا وجبنوا، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم. فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوقر الرجل، فقالوا: قدروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) *.. وهذا خبر من الله عزوجل عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا من قولهم: إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون أنه قال عند ذلك، وغضب من قيلهم لهم داعيا: يا رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخي يعني بذلك: لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي. من قول القائل: ما أملك من الامر شيئا إلا كذا وكذا، بمعنى: لا أقدر على شئ غيره. ويعني بقوله: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعدهم منا، من قول القائل: فرقت بين هذين الشيئين، بمعنى: فصلت بينهما من قول الراجز: يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين يقول: اقض بيني وبينهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين يقول: اقض بيننا وبينهم.
[ 247 ]
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى (ص) حين قال له القوم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، فدعا عليهم فقال: رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين وكانت عجلة من موسى عجلها. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، كل هذا من قول الرجل: اقض بيننا، فقضى الله جل ثناؤه بينه وبينهم أن سماهم فاسقين. وعنى بقوله: الفاسقين: الخارجين عن الايمان بالله وبه، إلى الكفر بالله وبه. وقد دللنا على أن معنى الفسق: الخروج من شئ إلى شئ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين) *.. اختلف أهل التأويل في الناصب للاربعين، فقال بعضهم: الناصب له قوله: محرمة وإنما حرم الله عزوجل على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين، دخول مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم، وأسكنوها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن قضيت الاربعون سنة، وخرجوا من التيه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال لهم القوم ما قالوا ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى: إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين وهم يومئذ فيما ذكر ستمائة ألف مقاتل فجعلهم فاسقين بما عصوا، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادين لكي يخرجوا منها، حتى يمسوا وينزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا. وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم، فأنزل
[ 248 ]
عليهم المن والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط منهم عين، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خلت أربعون سنة، وكانت عذابا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى أن مرهم أن يسيروا إلى الارض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد أن يأتوا الباب ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا حطة. وإنما قولهم حطة، أن يحط عنهم خطاياهم. فأبى عامة القوم، وعصوا، وسجدوا على خدهم، وقالوا حنطة، فقال الله جل ثناؤه: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم... إلى: بما كانوا يفسقون. وقال آخرون: بل الناصب للاربعين: يتيهون في الارض. قالوا: ومعنى الكلام: قال: فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الارض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال: إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، وذلك أن الله عز ذكره حرمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم: يوشع وكلاب اللذان قالا لهم: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وأولاد الذين حرم الله عليهم دخولها، فتيهم الله فلم يدخلها منهم أحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله: إنها محرمة عليهم قال: أبدا. حدثنا ابن بشار قال: سليمان بن حرب قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله: يتيهون في الارض قال: أربعين سنة. حدثنا المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هارون النحوي، قال: ثني الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض قال: التحريم لا منتهى له. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى على قومه، فدعا عليهم، فقال: رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخي... الآية، فقال الله عزوجل: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في
[ 249 ]
الارض فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه، فقال له: ما صنعت بنا يا موسى ؟ فمكثوا في التيه فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى، وأكلوا من البقول. والتقى موسى وعوج، فوثب موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله. ولم يبق (أحد) ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. ثم إن الله لما انقضت الاربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم يقاتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها. حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما دعا موسى، قال الله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه. قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: إنها محرمة عليهم أربعين سنة حرمت عليهم (القرى)، وكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الاطواء أربعين سنة. وذكر لنا أن موسى (ص) مات في الاربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني بعض أهل العلم بالكتاب الاول، قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت، من معصيتهم نبيهم، وهمهم بكالب ويوشع، إذ أمراهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا، ظهرت عظمة الله بالغمام على نار فيه الرمز على كل بني إسرائيل، فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدقون بالآيات كلها التي وضعت بينهم ؟ أضربهم
[ 250 ]
بالموت فأهلكهم، وأجعل لك شعبا أشد منهم. فقال موسى يسمع أهل المصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوتك من بينهم، ويقول ساكنو هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الامم الذين سمعوا باسمك: إنما قتل هذا الشعب من أجل لا يستطيع أن يدخلهم الارض التي خلق لهم، فقتلهم في البرية، ولكن لترتفع أياديك، ويعظم جزاؤك يا رب كما كنت تكلمت وقلت لهم، فإنه طويل صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، وإنك تحفظ الآباء على الابناء وأبناء الابناء إلى ثلاثة أجيال وأربعة، فاغفر أي رب آثام هذا الشعب، بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن فقال الله جل ثناؤه لموسى (ص): قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن قد أتى أني أنا الله، وقد ملات الارض محمدتي كلها، ألا ترى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفاز، سألوني عشر مرات ولم يطيعوني، لا يرون الارض التي خلقت لآبائهم، ولا يراها من أغضبني فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، فإني مدخله الارض التي دخلها، ويراها خلفه. وكان العماليق والكنعانيون جلوسا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا في القفار في طريق يحرسون، وكلم الله عزوجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس علي هذه الجماعة جماعة السوء ؟ قد سمعت وسوسة بني إسرائيل. وقال: لافعلن بكم كما قلت لكم، ولتلقين جيفكم في هذه القفار، وحسابكم من بني عشرين سنة فما فوق ذلك من أجل أنكم وسوستم علي، فلا تدخلوا الارض التي دفعت إليها، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة. وأما بنوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الارض، وإني بهم عارف لهم الارض التي أردت لهم وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الايام التي جسستم الارض أربعين يوما مكان كل يوم سنة وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم: قد أتى أني أنا الله فاعل بهذه الجماعة، جماعة بني إسرائيل، الذين وعدوا بأن يتيهوا في القفار، فيها يموتون فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم يتجسسون
[ 251 ]
الارض، ثم حرشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبر الشر، فماتوا كلهم بغتة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الارض. فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كله لبني إسرائيل، حزن الشعب حزنا شديدا، وغدوا فارتفعوا على رأس الجبل، وقالوا: نرتقي الارض التي قال جل ثناؤه من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى: لم تعتدون في كلام الله من أجل ذلك، لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أن الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدام أعدائكم من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله فلم يكن الله معكم فأخذوا يرقون في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة يعني من الحكمة، حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. فتيههم الله عز ذكره في التيه أربعين سنة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. قال: فلما شب النواشئ من ذراريهم، وهلك آباؤهم، وانقضت الاربعون سنة التي تتيهوا فيها وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرا قدم يوشع بن نون إلى أريحاء في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه لا يعلم قبره أحد من الخلائق. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن الاربعين منصوبة بالتحريم، وإن قوله: محرمة عليهم أربعين سنة معني به جميع قوم موسى لا بعض دون بعض منهم لان الله عز ذكره عم بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض. وقد وفى الله بما وعدهم به من العقوبة، فتيههم أربعين سنة، وحرم على جميعهم في الاربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين دخول الارض المقدسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرم الله عزوجل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبي الله موسى، والرجلين اللذين أنعم الله
[ 252 ]
عليهما. وافتتح قرية الجبارين إن شاء الله نبي الله موسى (ص) وعلى مقدمته يوشع، وذلك لاجماع أهل العلم بأخبار الاولين أن عوج بن عنق قتله موسى (ص)، فلو كان قتله إياه قبل مصيره في التيه وهو من أعظم الجبارين خلقا لم تكن بنو إسرائيل تجزع من الجبارين الجزع الذي ظهر منها، ولكن ذلك كان إن شاء الله بعد فناء الامة التي جزعت وعصت ربها وأبت الدخول على الجبارين مدينتهم. وبعد: فإن أهل العلم بأخبار الاولين مجمعون على أن بلعم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى ومحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لان المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبا، فأما ولا طالب فلا وجه للحاجة إليها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف، قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجا فأصاب كعبه، فسقط ميتا، فكان جسرا للناس يمرون عليه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرا لاهل النيل سنة. ومعنى: يتيهون في الارض: يحارون فيها ويضلون، ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق تائه. وكان تيههم ذلك أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل سنة يوم جادين في قدر سته فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدءوا السير منه. حدثني بذلك المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم. القول في تأويل قوله: فلا تأس على القوم الفاسقين.
[ 253 ]
يعني جل ثناؤه بقوله: فلا تأس: فلا تحزن، يقال منه: أسي فلان على كذا يأسى أسى، وقد أسيت من كذا: أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس: وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل يعني: لا تهلك حزنا. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فلا تأس يقول: فلا تحزن. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلا تأس على القوم الفاسقين قال: لما ضرب عليهم التيه، ندم موسى (ص). فلما ندم أوحى الله إليه: فلا تأس على القوم الفاسقين: لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) *.. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): واتل على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم، عليك وعلى أصحابك معك، وعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبة الجور ونقض العهد، وما جزاء الناكث وثواب الوافي، خبر ابني آدم هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربه الجائر الناقض عهده فلتعرف بذلك اليهود وخامة غب غدرهم، ونقضهم ميثاقهم بينك وبينهم، وهمهم بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك. فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعظم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتول الوافي بعهده من ابني آدم، وعاقبت به القاتل الناكث عهده عزاء جميلا.
[ 254 ]
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قبول الله عزوجل ما تقبل منه، ومن اللذان قربا ؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله عزوجل إياهما بتقريبه. وكان سبب القبو أن المتقبل منه قرب خير ماله وقرب الآخر شر ماله، وكان المقربان ابني آدم لصلبه أحدهما: هابيل، والآخر قابيل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سعيد، عن إسماعيل بن رافع، قال: بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان، كان أحدهما صاحب غنم، وكان أنتج له حمل في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه فلما أمر بالقربان، قربه لله فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فدى به ابن إبراهيم (ص). حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وأنهما أمرا أن يقربا قربانا وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب شر حرثه الكوزن والزوان غير طيبة بها نفسه وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، وقال: ايم الله إن كان المقتول لاشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرهما عن أمر الله إياهما به. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين فيتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان، إذ قالا: لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فأكلته، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار. فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان الآخر حراثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها وقرب الآخر أبغض زرعه، فجاءت النار، فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت
[ 255 ]
الزرع. وإن ابن آدم قال لاخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ورد علي ؟ فلا والله، لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال: لاقتلنك فقال له أخوه: ما ذنبي، إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إذ قربا قربانا قال: ابنا آدم هابيل وقابيل لصلب آدم، فقرب أحدهما شاة وقرب الآخر بقلا، فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عناقا من أحسن غنمه، وقرب قابيل زرعا من زرعه. قال: فأكلت النار العناق، ولم تأكل الزرع، فقال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا رجل سمع مجاهدا في قوله: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا قال: هو هابيل وقابيل لصلب آدم، قربا قربانا، قرب أحدهما شاة من غنمه وقرب الآخر بقلا، فتقبل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه: لاقتلنك فقتله، فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه سبعة أملاك كلما ذهب ملك جاء الآخر. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان (ح). وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال: قرب هذا كبشا وقرب هذا صبرة من طعام فتقبل من أحدهما. قال: تقبل من صاحب الشاة ولم يتقبل من الآخر.
[ 256 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر كان رجلان من بني آدم، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحققال: كان أحدهما اسمه قابيل والآخر هابيل أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حملا، وقرب هذا من أردإ زرعه. قال: فنزلت النار، فأكلت الحمل، فقال لاخيه: لاقتلنك حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الاول: أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل. فسلم لذلك هابيل ورضى، وأبي قابيل ذلك وكرهه، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحن ولادة الجنة وهما من ولادة الارض، وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الاول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان. فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بذر الارض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول: قرب بقرة فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام البطن هذا الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أخت ولدت معي، وهي أحسن من
[ 257 ]
أختك، وأنا أحق أن أتزوجها. فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى. وإنهما قربا قربانا إلى الله أيهما أحق بالجارية، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله لآدم: يا آدم، هل تعلم أن لي بيتا في الارض ؟ قال: اللهم لا قال: فإن لي بيتا بمكة فأته فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالامانة، فأبت. وقال للارض فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل، فقال: نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك. فلما انطلق آدم قربا قربانا، وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي. فلما قربا، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لاقتلنك حتى لا تنكح أختي فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل فكان صاحب ماشية، فعمد إلى خير ماشيته، فتقرب بها، فنزلت عليه نار فأكلته. وكان القربان إذا تقبل منهم نزلت عليه نار فأكلته، وإذا رد عليهم أكلته الطير والسباع. وأما قابيل فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه، فتقرب به، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق قال: هما قابيل وهابيل. قال: كان أحدهما صاحب زرع والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخير ماله وجاء الآخر بشر ماله، فجاءت النار، فأكلت قربان أحدهما وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لاقتلنك حدثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: إذ قربا قربانا قال: قرب هذا زرعا وذا عناقا، فتركت النار الزرع وأكلت العناق. وقال آخرون: اللذان قربا قربانا وقص الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية، رجلان من بني إسرائيل لا من ولد آدم لصلبه. ذكر من قال ذلك:
[ 258 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قربا القربان كان ابني آدم لصلبه، لا من ذريته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عزوجل يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم دون الملائكة والشياطين وسائر الخلق غيرهم. فإذا كان معلوما ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا بابني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه، لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذا كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى، فمعلوم أنه عنى ابني آدم لصلبه، لا ابني بنيه الذين بعد منه نسبهم مع إجماع أهل الاخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا. وقد ذكرنا كثيرا ممن نص عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرا ممن لم يذكر إن شاء الله. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حسام بن مصك، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك، ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك فقال: بياك: أضحكك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها فلون الارض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه السلام: أبا هابيل قد قتلا جميعا وصار الحي كالميت الذبيح
[ 259 ]
وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح وأما القول في تقريبهما ما قربا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قربا كان عن أمر الله إياهما به ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك، وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أي ذلك كان فلم يقربا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله. وأما تأويل قوله: قال لاقتلنك فإن معناه: قال الذي لم يتقبل منه قربانه للذي تقبل منه قربانه: لاقتلنك فترك ذكر المتقبل قربانه والمردود عليه قربانه، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته، وكذلك ترك ذكر المقبل قربانه مع قوله: قال إنما يتقبل الله من المتقين. وبنحو ما قلنا في ذلك روى الخبر عن ابن عباس: حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال لاء قتلنك فقال له أخوه: ما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: إنما يتقبل الله من المتقين قال: يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تقبل منك، جئت بقربان مغشوش بأشر ما عندك، وجئت أنا بقربان طيب بخير ما عندي قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني. ويعني بقوله: من المتقين: من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. وقد قال جماعة من أهل التأويل: المتقون في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: إنما يتقبل الله من المتقين الذين يتقون الشرك.
[ 260 ]
وقد بينا معنى القربان فيما مضى، وأنه الفعلان من قول القائل: قرب، كما الفرقان: الفعلان من فرق، والعدوان من عدا. وكانت قرابين الامم الماضية قبل أمتنا كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها وترك النار ما لم يتقبل منها. والقربان في أمتنا: الاعمال الصالحة: من الصلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداء الزكاة المفروضة، ولا سبيل لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود. وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت ؟ فقال: يبكيني أني أسمع الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي، قال: ثني سعيد بن عامر، عن همام، عمن ذكره، عن عامر. وقد قال بعضهم: قربان المتقين: الصلاة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليم، عن عدي بن ثابت، قال: كان قربان المتقين: الصلاة. القول في تأويل قوله تعالى: * (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين) *.. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لاخيه لما قال له أخوه القاتل لاقتلنك: والله لئن بسطت إلي يدك يقول: مددت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك. يقول: ما أنا بماد يدي إليك لاقتلك. وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لاخيه ولم يمانعه ما فعل به، فقال بعضهم: قال ذلك إعلاما منه لاخيه القاتل أنه لا يستحل قتله ولا بسط يده إليه بما لم يأذن الله به. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف عن أبي
[ 261 ]
المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: وايم الله إن كان المقتول لاشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لا أنا بمنتصر، ولا مسكن يدي عنك. وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله، وقال ما قال له مما قص الله في كتابه. إلا أن الله عز ذكره فرض عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا رجل، سمع مجاهدا يقول في قوله: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لاقتلك قال مجاهد: كان كتب الله عليهم: إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه. وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما، وأن المقتول قال لاخيه: ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إلي يدك لانه كان حراما عليه من قتل أخيه مثل الذي كان حراما على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتل حين أراد قتله وعزم عليه كان المقتول عالما بما هو عليه عازم منه ومحاول من قتله، فترك دفعه عن نفسه بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غيلة، اغتاله وهو نائم، فشدخ رأسه بصخرة. فإذا كان ذلك ممكنا، ولم يكن في الآية دلالة على أنه كان مأمورا بترك منع أخيه من قتله، لم يكن جائزا ادعاء ما ليس في الآية إلا ببرهان يجب تسليمه. وأما تأويل قوله: إنى أخاف الله رب العالمين: فإنى أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك. رب العالمين يعني: مالك الخلائق كلها أن يعاقبني على بسط يدي إليك. القول في تأويل قوله تعالى: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) *..
[ 262 ]
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في حديثه عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): إنى أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يقول: إثم قتلي إلى إثمك الذي في عنقك فتكون من أصحاب النار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنى أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يقول بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: إنى أريد أن تبوء بإثمي وإثمك قال: بإثم قتلي وإثمك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إنى أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعا. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي. وإثمك قال: بما كان منك قبل ذلك. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: ثني عبيد بن سليم، عن الضحاك، قوله: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك قال: أما إثمك، فهو الاثم الذي عمل قبل قتل النفس، يعني أخاه. وأما إثمه: فقتله أخاه. وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك: أي إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فحذف القتل واكتفى بذكر الاثم، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به. وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطا، لان الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك:
[ 263 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعا. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي، وذلك هو معنى قوله: إني أريد أن تبوء بإثمي. وأما معنى وإثمك: فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصية الله جل ثناؤه في أعمال سواه. وإنما قلنا ذلك هو الصواب لاجماع أهل التأويل عليه، لان الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله. فإن قال قائل: أو ليس قتل المقتول من بين آدم كان معصية لله من القاتل ؟ قيل: بلى، وأعظم بها معصية فإن قال: فإذا كان لله عزوجل معصية، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ويقول: إني أريد أن تبوء بإثمي وقد ذكرت أن تأويل ذلك: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ؟ فمعناه: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني لاني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باء به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ. ويعني بقوله: فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها. وذلك جزاء الظالمين يقول: والنار ثواب التاركين طريق الحق الزائلين عن قصد السبيل، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم. وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الارض، ووعد وأوعد، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل: فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. حدثنا بذلك القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن
[ 264 ]
جريج، قال مجاهد ذلك. قال: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب، عليه شطر عذابهم. وقد روي عن رسول الله (ص) بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو خبر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، وحدثنا سفيان، قال: ثنا جرير وأبو معاوية (ح)، وحدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، ووكيع جميعا، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال النبي (ص): ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل منها، ذلك بأنه أول من سن القتل. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي (ح). وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن جميعا، عن سفيان، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي (ص) نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي، قال: ما من مقتول يقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم الاول والشيطان كفل منه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حدث عن عبد الله بن عمرو، أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل أخاه، ما سفك دم في الارض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شئ، وذلك أنه أول من سن القتل. وبهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله (ص) تبين أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل، وأن القول الذي حكي عنه، أن أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ لان رسول الله (ص) قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أول من سن القتل، وقد كان لا شك القتل قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته وخطأ
[ 265 ]
من القول أن يقال: أول من سن القتل رجل من بني إسرائيل. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال: هو ابن آدم لصلبه، لانه أول من سن القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) *.. يعني جل ثناؤه بقوله فطوعت: فأقامته وساعدته عليه. وهو فعلت من الطوع، من قول القائل: طاعني هذا الامر: إذا انقاد له. وقد اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: فشجعت له نفسه قتل أخيه. ذكر من قال ذلك: حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي ومحمد بن حميد، قالا: ثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: فطوعت له نفسه قال: شجعت. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فطوعت له نفسه قال: فشجعته. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فطوعت له نفسه قتل أخيه قال: شجعته على قتل أخيه. وقال آخرون: معنى ذلك: زينت له. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فطوعت له نفسه قال: زينت له نفسه قتل أخيه، فقتله. ثم اختلفوا في صيغة قتله إياه كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله. فقال بعضهم: وجده نائما فشدخ رأسه بصخرة. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة، عن عبد الله.
[ 266 ]
وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): فطوعت له نفسه قتل أخيه فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رأس الجبال. وأتاه يوما من الايام وهو يرعى غنما له في جبل وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه، فمات، فتركه بالعراء. وقال بعضهم، ما: حدثني محمد بن عمر بن علي، قال: سمعت أشعث السجستاني يقول: سمعت ابن جريج قال: ابن آدم الذي قتل صاحبه لم يدر كيف يقتله، فتمثل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرا فقصع رأسه، ثم وضعه بين حجرين فشدخ رأسه، فعلمه القتل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قتله حيث يرعى الغنم، فأتى فجعل لا يدري كيف يقتله، فلوى برقبته وأخذ برأسه. فنزل إبليس، وأخذ دابة أو طيرا، فوضع رأسه على حجر، ثم أخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه، وابن آدم القاتل ينظر، فأخذ أخاه، فوضع رأسه على حجر وأخذ حجرا آخر فرضخ به رأسه. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا رجل سمع مجاهدا يقول، فذكر نحوه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربان ابن آدم الذي تقبل قربانه، قال الآخر لاخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ورد علي ؟ والله لا تنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال: لاقتلنك فقال له أخوه: ما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين ؟ فخوفه بالنار، فلم ينته ولم ينزجر، فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجمرة وهو متقنع متوكئ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سمرة الصراف، وقف يحدثني عن ابن عباس، قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها توأمها وينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد في
[ 267 ]
كل بطن رجل وامرأة، فولدت امرأة وسيمة، وولدت امرأة دميمة قبيحة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي قال: لا، أنا أحق بأختي. فقربا قربانا فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسا عند الله حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصفا في ثبير عند منزل سمرة الصراف، وهو على يمينك حين ترمي الجمار. قال ابن جريج: وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنة عمه، وذهب نكاح الاخوات. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفته قتله إياه. وجائز أن يكون على نحو ما قد ذكر السدي في خبره، وجائز أن يكون كان على ما ذكره مجاهد، والله أعلم أي ذلك كان، غير أن القتل قد كان لا شك فيه. وأما قوله: فأصبح من الخاسرين فإن تأويله فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم من حزب الخاسرين، وهم الذين باعو آخرتهم بدنياهم بإيثارهم إياها عليها فوكسوا في بيعهم وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين) *.. قال أبو جعفر: وهذا أيضا أحد الادلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الحسن لان الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه. ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عادة الموتى، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول، فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جيفته، فأحب الله تعريفه السنة في موتى خلقه، فقيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه.
[ 268 ]
ذكر الاخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول بعد قتله إياه: حدثنا سفيان ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن أبي روق الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة، حتى بعث الله عزوجل الغرابين، فرأهما يبحثان، فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ؟ فدفن أخاه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه بعث الله عزوجل غرابا حيا إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب... الآية. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك. وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة، عن عبد الله. وعن ناس من أصحاب النبي (ص): لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثا عليه، فلما رآه قال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي فهو قول الله: فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يبحث قال: بعث الله غرابا حتى حفر لآخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إليه، ثم بحث عليه حتى غيبه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: غرابا يبحث في الارض حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه، فغيبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه حيث يبحث عليه، حتى غيبه فقال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب... الآية.
[ 269 ]
حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قوله: فبعث الله غرابا يبحث في الارض قال: بعث الله غرابا إلى غراب، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فجعل يحثي عليه التراب، فقال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخي فأصبح من النادمين. حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فبعث الله غرابا يبحث في الارض قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فحثي عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، قال: لما قتله ندم، فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه أنه بعثه الله عز ذكره يبحث في الارض ذكر لنا أنهما غرابان اقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، وذلك يعني ابن آدم ينظر، وجعل الحي يحثي على الميت التراب، فعند ذلك قال ما قال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب... الآية، إلى قوله: من النادمين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أما قوله: فبعث الله غرابا قال: قتل غراب غرابا، فجعل يحثو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي فأصبح من النادمين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله: فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الارض حتى رأى يدفن الغراب، فقال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخي فأصبح من النادمين.
[ 270 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب قال: بعث الله غرابا، فجعل يبحث على غراب ميت التراب، قال: فقال عند ذلك: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخي فأصبح من النادمين. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فبعث الله غرابا يبحث في الارض: بعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحي يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الاول، قال: لما قتله سقط في يديه، ولم يد ركيف يواريه، وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل من بين آدم، وأول ميت (قال) يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي... الآية (إلى قوله: ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون قال:) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل، قال له جل ثناؤه: يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيبا. فقال الله عزوجل له: إن صوت دم أخيك ليناديني من الارض، الآن أنت ملعون من الارض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الارض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الارض. قال قابيل: عظمت خطيئتي عن أن تغفرها، قد أخرجتني اليوم عن وجه الارض، وأتواري من قدامك، وأكون فزعا تائها في الارض، وكل من لقيني قتلني فقال عزوجل: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل قاتل قتيلا يجزى واحدا، ولكن يجزي سبعة، وجعل الله في قابيل آية، لئلا يقتله كل من وجده. وخرج قابيل من قدام الله عز وجل، من شرقي عدن الجنة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا الاعمش، عن خيثمة، قال: لما قتل ابن آدم أخاه نشفت الارض دمه، فلعنت، فلم تنشف الارض دما بعد.
[ 271 ]
فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول غرابا يبحث في الارض، يقول: يحفر في الارض، فيثير ترابها ليريه كيف يواري سوءة أخيه، يقول: ليريه كيف يواري جيفة أخيه. وقد يحتمل أن يكون عنى بالسوءة الفرج، غير أن الاغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل. وفي ذلك محذوف ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو: فأراه بأن بحث في الارض لغراب آخر ميت، فواراه فيها، فقال القاتل أخاه حينئذ: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب الذي وارى الغراب الآخر الميت فأواري سوأة أخي ؟ فواراه حينئذ فأصبح من النادمين على ما فرط منه من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. وكل ما ذكر الله عزوجل في هذه الآيات، مثل ضربه الله لبني آدم، وحرض به المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) على استعمال العفو والصفح عن اليهود، الذين كانوا هموا بقتل النبي (ص)، وقتلهم من بني النضير، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتلي عمرو بن أمية الضمري، وعرفهم عزوجل رداءة سجية أوائلهم وسوء استقامتهم على منهج الحق مع كثرة أياديه وآلائه عندهم، وضرب مثلهم في عدوهم ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم بأبني آدم المقربين قرابينهما اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثل لهم على التأسي بالفاضل منهما دون الطالح، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله (ص). حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قلت لبكر بن عبد الله: أما بلغك أن نبي الله (ص) قال: إن الله عزوجل ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا خيرهما ودعوا شرهما ؟ قال: بلى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، قال: قال رسول الله (ص): إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الامة فخذوا بالخير منهما. حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الاحول، عن الحسن قال: قال رسول الله (ص): إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 272 ]
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون) * ح.. يعني تعالى ذكره بقوله: من أجل ذلك من جر ذلك وجريرته وجنايته، يقول: من جر القاتل أخاه من ابني آدم اللذين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرها وجنايته التي جناها، كتبنا على بني إسرائيل. يقال منه: أجلت هذا الامر: أي جررته إليه وكسبته آجله له أجلا، كقولك: أخذته أخذا، ومن ذلك قول الشاعر: وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله يعني بقوله: أنا آجله: آنا الجار ذلك عليه والجاني. فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما، حكمنا علي بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما بغير نفس قتلت فقتل بها قصاصا أو فساد في الارض يقول: أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الارض، فاستحقت بذلك قتلها. وفسادها في الارض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد
[ 273 ]
في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو عمار حسين بن حريث المروزي، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناسع جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا. ومن قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا يقول: من قتل نفسا واحدة حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن أحياها يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مخافتي واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الانبياء. وقال آخرون: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول في الاثم ومن أحياها فاستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. (ذكر من قال ذلك): حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص)، قوله: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، يقول في الاثم: ومن أحياها فاستنقذها من هلكة، فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. وقال آخرون: معنى ذلك: أن قاتل النفس المحرم قتلها يصلي النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا، من أحياها: من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس،
[ 274 ]
قال: من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من كف عن قتلها فقد أحياها، ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا. قال: ومن أوبقها. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، قال: من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد: فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعا لم يقتل أحدا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الاوزاعي، قال: أخبرنا عبدة ابن أبي لبابة، قال: سألت مجاهدا، أو سمعته يسئل عن قوله: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا قال: لو قتل الناس جميعا كان جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، عن الاعرج، عن مجاهد في قوله: فكأنما قتل الناس جميعا قال: الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج، قال مجاهد: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من لم يقتل أحدا فقد استراح الناس منه. حدثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، قال: أوبق نفسا. حدثنا سفيان، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: في الاثم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا، وقوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا
[ 275 ]
فجزاؤه جهنم قال: يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلى جهنم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا قال: هو كما قال. وقال: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فإحياؤها لا يقتل نفسا حرمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعا، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه جميعا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد: ومن أحياها قال: ومن حرمها فلم يقلتها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن العلاء، قال: سمعت مجاهدا يقول: من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من كف عن قتلها فقد أحياها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزوجل: فكأنما قتل الناس جميعا قال: هي كالتي في النساء: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم في جزائه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فكأنما قتل الناس جميعا كالتي في سورة النساء: ومن يقتل مؤمنا متعمدا في جزائه ومن أحياها ولم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا، لانه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله، مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: من
[ 276 ]
أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا قال: يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا. قال: كان أبي يقول ذلك. وقال آخرون: معنى قوله: ومن أحياها من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا يقول: من أحياها أعطاه الله عزوجل من الاجر مثل لو أنه أحيا الناس جميعا. أحياها فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك ولي القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من عفا. حدثنا سفيان، قال: ثنا عبد الاعلى، عن يونس، عن الحسن: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من قتل حميم له فعفا عن دمه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: العفو بعد القدرة. وقال آخرون: معنى قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ومن أنجاها من غرق أو حرق. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: من أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاه: ومن أحياها فكأنما أحيا الناسع جميعا قال: من غرق أو حرق أو هدم.
[ 277 ]
حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد: ومن أحياها قال: أنجاها. وقال الضحاك بما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، قال: من قتل نفسا بغير نفس قال: من تورع أو لم يتورع. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فكأنما أحيا الناس جميعا يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس، فلم يستحل محرما. وقال قتادة والحسن في ذلك بما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن يونس، عن الحسن: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض قال: عظم ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس... الآية: من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا عظم والله أجرها، وعظم وزرها فأحيها يا ابن آدم بمالك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمه يحل دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل متعمدا فعليه القود. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: تلا قتادة: من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال: عظم والله أجرها، وعظم والله وزرها. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سلام بن مسكين، قال: ثني سليمان بن علي الربعي، قال: قلت للحسن: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس... الآية، أهي لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد، قال: سمعت خالدا أبا الفضل، قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية: فطوعت له نفسه قتل أخيه... إلى قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ثم
[ 278 ]
قال: عظم والله في الوزر كما تسمعون، ورغب والله في الاجر كما تسمعون إذا ظننت يا ابن آدم أنك لو قتلت الناس جميعا فإن لك من عملك ما تفوز به من النار، كذبتك والله نفسك، وكذبك الشيطان. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في قوله: فكأنما قتل الناس جميعا قال: وزرا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. قال: أجرا. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا، أو بغير فساد في الارض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها، فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربه بقوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما. وأما قوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فأولى التأويلات به قول من قال: من حرم قتل من حرم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدم على قتله، فقد حيي الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاج إبراهيم في ربه، إذ قال له إبراهيم: ربي الذين يحيى ويميت قال أنا أحيى وأميت. فكان معنى الكافر في قيله: أنا أحيى وأميت: أنا أترك من قدرت على قتله وفي قوله: وأميت: قتله من قتله. فكذلك معن الاحياء في قوله: ومن أحياها: من سلم الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فكأنما أحيا الناس جميعا. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لانه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع، فكان معلوما بذلك أن معنى الاحياء: سلامة جميع النفوس منه، لانه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس، وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر، لانه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعم ضررا من فقد بعض.
[ 279 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون. وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به، إن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قص الله قصصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدمت من قوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم إلى هذا الموضع. بالبينات يعني: بالآيات الواضحة، والحجج البينة على حقية ما أرسلوا به إليهم وصحة ما دعوهم إليه من الايمان بهم وأداء فرائض الله عليهم، يقول الله عز ذكره: ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون يعني أن كثيرا من بني إسرائيل، والهاء والميم في قوله: ثم إن كثيرا منهم من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله: ولقد جاءتهم بعد ذلك، يعني بعد مجيئ رسل الله بالبينات في الارض. لمسرفون يعني: أنهم في الارض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادوا الله ورسله، باتباعهم أهواءهم وخلافهم على أنبيائهم وذلك كان إسرافهم في الارض. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *.. وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم الفساد في الارض الذي ذكره في قوله: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض أعلم عباده ما الذي يستحق المفسد في الارض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الارض، خزيا لهم وأما في الآخرة إن لم يتب في الدنيا فعذاب عظيم. ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كانوا أهل موادعة لرسول الله (ص)، فنقضوا العهد وأفسدوا في الارض، فعرف الله نبيه (ص) الحكم فيهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا
[ 280 ]
قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي (ص) عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الارض فخير الله رسوله، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله (ص) ميثاق، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الارض فخير الله عزوجل نبيه (ص) فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قال: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى: إن الله غفور رحيم نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الارض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصاب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال: نزلت في أهل الشرك. وقال آخرون: (ذكر من قال ذلك): بل نزلت في قوم من عرينة وعكل ارتدوا عن الاسلام، وحاربوا الله ورسوله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي (ص)، فقالوا: يا رسول الله أنا أهل
[ 281 ]
ضرع ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة. فأمر لهم النبي (ص) بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فقتلوا راعي رسول الله (ص)، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتي بهم النبي (ص)، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي (ص) بمثل هذه القصة. حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الابل، فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين، فقال: كان ناس أتوا النبي (ص) فقالوا: نبايعك عن الاسلام فبايعوه وهم كذبة، وليس الاسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبي (ص): هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها قال: فبينا هم كذلك إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله (ص)، فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النعم فأمر نبي الله فنودي في الناس، أن: يا خيل الله اركبي. قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا. قال: فركب رسول الله (ص) على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله (ص) وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي (ص)، فأنزل الله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، قال: فكان نفيهم أن نفوهم، حتى أدخلوهم مأمنهم
[ 282 ]
وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله منهم وصلب وقطع وسمل الاعين. قال: فما مثل رسول الله (ص) قبل ولا بعد. قال: ونهى عن المثلة، وقال: لا تمثلوا بشئ قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة وناس من بجيلة. (ذكر من قال ذلك). حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا الحسن بن هناد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير، قال: قدم على النبي (ص) قوم من عينة حفاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله (ص) فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسول الله (ص) في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله (ص)، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، وجعلوا يقولون: الماء ورسول الله (ص) يقول: النار حتى هلكوا. قال: وكره الله سمل الاعين، فأنزل هذه الآية: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى آخر الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الاسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير (ح). وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد الرحمن، وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أغار ناس من عرينة على لقاح رسول الله (ص)، فاستاقوها وقتلوا غلاما له فيها، فبعث في آثارهم فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
[ 283 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أو عمرو، شك يونس عن رسول الله (ص) بذلك، ونزلت فيهم آية المحاربة. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الاوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم ثمانية نفر من عكل على رسول الله (ص)، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول الله (ص) أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الابل. فأرسل رسول الله (ص) في أثرهم قافة، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا. حدثنا علي، قال: ثنا الوليد، قال: ثني سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كانوا أربعة نفر من عرينة وثلاثة من عكل، فلما أوتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم، وتركهم يتلقمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله عزوجل في ذلك: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، حدثني علي، قال: ثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستقاوا الابل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا قال: أنزلت
[ 284 ]
في سودان عرينة، قال: أتوا رسول الله (ص) وبهم الماء الاصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله (ص) من الصدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها. فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صحوا وبرءوا، قتلوا الرعاة واستاقوا الابل. وأولى الاقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه (ص) معرفة حكمه على من حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله (ص) بالعرنيين ما فعل. وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال بالصواب في ذلك، لان القصص التي قصها الله وجل وعز قبل هذه الآية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسطا من يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحق. وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله (ص) بالعرنيين ما فعل لتظاهر الاخبار عن أصحاب رسول الله (ص) بذلك. وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سعى بفساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون، يقول: لساعون في الارض بالفساد، وقاتلو النفوس بغير نفس وغير سعي في الارض بالفساد حرب الله ولرسوله، فمن فعل ذلك منهم يا محمد، فإنما جزاؤه أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده، ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الاسلام دون أهل الحرب من المشركين ؟ قيل: جاز أن يكون ذلك كذلك، لان حكم من حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد، والذين عنوا بالآية كانوا أهل عهد وذمة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمي وملي، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه. وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي (ص) في العرنيين، فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الآية، أعني بقوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا... الآية، وقالوا: أنزلت هذه الآية عتابا لرسول الله (ص) فيما فعل بالعرنيين.
[ 285 ]
وقال بعضهم: بل فعل النبي (ص) بالعرنيين حكم ثابت في نظرائهم أبدا، لم ينسخ ولم يبدل. وقوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الارض فسادا بالحرابة. قالوا: والعرنيون ارتدوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الارض بالفساد من أهل الاسلام والذمة. وقال آخرون: لم يسمل النبي (ص) أعين العرنيين، ولكنه كان أراد أن يسمل، فأنزل الله عزوجل هذه الآية على نبيه يعرفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم. ذكر القائلين ما وصفنا: حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله (ص) أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله (ص) معاتبة في ذلك، وعلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لابي عمرو، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: فبعث رسول الله (ص)، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. واختلف أهل العلم في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه، فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطع الطريق. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعطاء الخراساني في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا... الآية، قالا: هذا هو اللص الذي يقطع الطريق، فهو محارب. وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابر في المصر وغيره. وممن قال ذلك الاوزاعي. حدثنا بذلك العباس عن أبيه عنه.
[ 286 ]
وعن مالك والليث بن سعد وابن لهيعة. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لمالك بن أنس: تكون محاربة في المصر ؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذحل ولا عداوة، قاطعا للسبيل والطريق والديار، مخيفا لهم بسلاحه، فقتل أحدا منهم قتله الامام كقتله المحارب ليس لولي المقتول فيه عفو ولا قود. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: سألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت: تكون المحاربة في دور المصر والمدائن والقرى ؟ فقالا: نعم، إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانية، أو ليلا بالنيران. قلت: فقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا ؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قتلوا قتلوا، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال قطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل بأعظم من محاربة من حاربهم في حريمهم ودورهم. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو: وتكون المحاربة في المصر شهر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارا. قال علي: قال الوليد: وأخبرني مالك أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغيلة ؟ قال: هو الرجل يخدع الرجل والصبي، فيدخله بيتا أو يخلوا به فيقتله ويأخذ ماله، فالامام ولي قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قود ولا قصاص. وهو قول الشافعي. حدثنا بذلك عنه الربيع. وقال آخرون: المحارب: هو قاطع الطريق فأما المكابر في الامصار فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. ومن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة في ناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم أن المحارب ما كان خارجا من المصر. وقال مجاهد بما: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 287 ]
مجاهد في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا قال: الزنا والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ويسعون في الارض فسادا قال: الفساد: القتل، والزنا، والسرقة. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب، قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة. وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال بالصواب، لانه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم مناصب حربا ظلما. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم أوفي سبلهم وطرقهم في أنه لله ولرسوله محارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه وأما قوله: ويسعون في الارض فسادا فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به، أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم، وأخذ أموالم ظلما وعدوانا، والتوثب على جرمهم فجورا وفسوقا. القول في تأويل قوله تعالى: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض. يقول تعالى ذكره: ما للذي حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا من أهل ملة الاسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه. ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه مختلفا باختلاف أجرامه ؟ (فقال بعضهم: يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه، مختلفا باختلاف أجرامه) ذكر من قال ذلك:
[ 288 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى قوله: أو ينفوا من الارض قال: إذا حارب فقتل، فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي. حدثنا ابن وكيع وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخاف السبيل ولم يأخذ المال وقتل، صلب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم فيما أرى في الرجل يخرج محاربا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال قطعت يده ورجله، وإن أخذ المال وقتل قتل، وإن أخذ المال وقتل ومثل: صلب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية. قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل صلب، وإذا قتل لم يعد ذلك قتل، وإذا أخذ المال لم يعد ذلك قطع، وإذا كان يفسد نفي. حدثني المثنى، قال ثنا الحماني، قال ثنا شريك، عن سماك، عن الحسن: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى قوله: أو ينفوا من الارض قال: إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي. حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل: قطعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال وقتل: صلب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أنه كان يقول في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى قوله: أو ينفوا من الارض حدود أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعا: صلب وأما من أصاب الدم وكف عن المال: قتل ومن أصاب المال وكف عن الدم: قطع ومن لم يصب شيئا من هذا: نفي.
[ 289 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي. قال: نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يسمل أعين العرنيين الذين أغاروا على لقاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل فقطع يده ورجله من خلاف، يده اليمنى ورجله اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقتله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أخذ وقد أخذ مالا قطعت يده بأخذه المال ورجله بإخافة الطريق، وإن قتل ولم يأخذ مالا قتل، وإن قتل وأخذ المال: صلب. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، قال سمعت السدي يسأل عطية العوفي، عن رجل محارب خرج، فأخذ ولم يصب مالا ولم يهرق دما. قال: النفي بالسيف وإن أخذ مالا فيده بالمال ورجله بما أخاف المسلمين وإن هو قتل ولم يأخذ مالا: قتل وإن هو قتل وأخذ المال: صلب. وأكبر ظني أنه قال: تقطع يده ورجله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، قال: هذا اللص الذي يقطع الطريق، فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالا: صلب وإن قتل، ولم يأخذ مالا: قتل وإن أخذ مالا ولم يقتل: قطعت يده ورجله وإن أخذ قبل أن يفعل شيئا من ذلك: نفي. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، قال: من خرج في الاسلام محاربا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا، فإنه يقتل ويصلب ومن قتل ولم يصب مالا، فإنه يقتل كما قتل ومن أصاب مالا ولم يقتل، فإنه يقطع من خلاف وإن أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل: وعز أو ينفوا من الارض. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسلوله قال: كان ناس يسعون في الارض فسادا وقتلوا وقطعوا السبيل، فصلب أولئك. وكان آخرون حاربوا واستحلوا المال ولم يعدوا ذلك، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يعدوا ذلك، فأولئك أخرجوا من الارض.
[ 290 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي هلال، قال: ثنا قتادة، عن مورق العجلي في المحارب، قال: إن كان خرج فقتل وأخذ المال: صلب وإن قتل ولم يأخذ المال: قتل وإن كان أخذ المال ولم يقتل: قطع وإن كان خرج مشاقا للمسلمين: نفي. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطية العوفي، عن ابن عباس، قال: إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال: قطعت يده ورجله من خلاف فإن هو خرج فقتل وأخذ المال: قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب وإن خرج فقتل ولم يأخذ المال: قتل وإن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال: نفي. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا قالا: إن أخاف المسلمين، فاقتطع المال، ولم يسفك: قطع وإذا سفك دما: قتل وصلب وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دما: قطع ثم قتل ثم صلب. كأن الصلب مثله، وكأن القطع السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وكأن القتل. النفس بالنفس. وإن امتنع فإن من الحق على الامام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه فيقيموا عليه حكم كتاب الله، أو ينفوا من الارض من أرض الاسلام إلى أرض الكفر. واعتل قائلوا هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجب على القاتل القود، وعلى السارق القطع وقالوا: قال النبي (ص): لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرجم، ورجل كفر بعد إسلامه قالوا: فحظر النبي (ص) قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث، فإما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا، فذلك تقدم على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: الامام فيه بالخيار إذا قتل وأخاف السبيل وأخذ
[ 291 ]
المال فهنالك خيار الامام في قولهم بين القتل أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم. وقال آخرون: الامام فيه بالخيار أن يفعل أي هذه الاشياء التي ذكرها الله في كتابه. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن عطاء، وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب: أن الامام مخير فيه أي ذلك شاء فعل. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن عبيدة، عن إبراهيم: الامام مخير في المحارب، أي ذلك شاء فعل: إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفي، وإن شاء صلب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... إلى قوله: أو ينفوا من الارض قال: يأخذ الامام بأيهما أحب. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن الحسن: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال: الامام مخير فيها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد، قال: قال عطاء: يصنع الامام في ذلك ما شاء: إن شاء قتل، أو قطع، أو نفي، لقول الله: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض فذلك إلى الامام الحاكم يصنع فيه ما شاء. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، قال: من شهر السلاح في فئة الاسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، قال: أخبرنا أبو هلال، قال: أخبرنا
[ 292 ]
قتادة، عن سعيد بن المسيب، أنه قال في المحارب: ذلك إلى الامام، إذا أخذه يصنع به ما شاء. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي هلال، قال: ثنا هارون، عن الحسن في المحارب، قال: ذاك إلى الامام يصنع به ما شاء. حدثنا هناد، قال: ثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله قال: ذلك إلى الامام. واعتل قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي بأو في القرآن بمعنى التخيير في كل ما أوجب الله به فرضا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وكقوله: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، وكقوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. قالوا: فإذا كانت العطوف التي بأو في القرآن في كل ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين الامام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة. وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم، فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قدر عليه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل: النفي من الارض وإذا قدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلها: الصلب لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة. فأما ما اعتل به القائلون: إن الامام فيه بالخيار من أن أو في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فنقول: لا معنى له، لان أو في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. فأما في هذا الموضع فإن معناها: التعقيب، وذلك نظير قول القائل: إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن
[ 293 ]
يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في عليين، أو يسكنهم مع الانبياء والصديقين. فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لم يخلو عند الله من بعض هذه المنازل، فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكل في الجنة كما قال جل ثناؤه: جنات عدن يدخلونها. فكذلك معنى المعطوف بأو في قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، إنما هو التعقيب. فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله، ويسعى في الارض فسادا، لن يخلو من أن يستحق الجزاء بإحدى هذه الخلال الاربع التي ذكرها الله عز ذكره، لا أن الامام محكم فيه، ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفت لان ذلك لو كان كذلك لكان للامام قتل من شهر السلاح مخيفا السبيل وصلبه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدا، وكان له نفي من قتل وأخذ المال وأخاف السبيل. وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الآثار عن رسول الله (ص) من قوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل به، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتد عن دينه وخلاف قوله: القطع في ربع دينار فصاعدا وغير المعروف من أحكامه. فإن قال قائل: فإن هذه الاحكام التي ذكرت كانت عن رسول الله (ص) في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به ؟ قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه، فإن ادعى عنه (ص) حكما خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميع أهل العلم، لان ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة، وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب. قيل له: فإن أحسن حالاتك أن يسلم لك أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت، وما قاله من خالفك فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله. وبعد: فإذا كان
[ 294 ]
الامام مخيرا في الحكم على المحارب من أجل أن أو بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيا ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله ؟ فإن قال: ذلك له، خالف في ذلك الامة. وإن زعم أن ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه أو صلبه ثم قتله، ترك علته من أن الامام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن أو تأتي بمعنى التخيير، وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى ؟ وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبى ذلك حيث جعلته حيث جعلته له، فرق من أصل أو قياس ؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد روي عن رسول الله (ص) بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر. وذلك ما: حدثنا به علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الابل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله (ص) جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه. وأما قوله: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فإنه يعني جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم، فذلك الخلاف بينهما في القطع. ولو كان مكان من في هذا الموضع على أو الباء، فقيل: أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف أو بخلاف، لاديا عما أدت عنه من من المعنى. واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: أو ينفوا من الارض قال: يطلبهم الامام بالخيل والرجال حتى يأخذهم، قيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين.
[ 295 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نفيه: أن يطلب. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أو ينفوا من الارض يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الاسلام إلى دار الحرب. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كتاب أنس بن مالك، إلى عبد الملك بن مروان: أنه كتب إليه: ونفيه: أن يطلبه الامام حتى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله عزوجل بما استحل. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد، قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد، فقال: نفيه: طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبه من دار الاسلام إلى دار الشرك والحرب، إذا كان محاربا مرتدا عن الاسلام. قال الوليد: وسألت مالك بن أنس، فقال مثله. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حق يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين، أو أقصى جوار المسلمين، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك ؟ قالا: لا يضطر مسلم إلى ذلك. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: أو ينفوا من الارض قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثني عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن: أو ينفوا من الارض قال: ينفى حتى لا يقدر عليه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن
[ 296 ]
الربيع بن أنس في قوله: أو ينفوا من الارض قال: أخرجوا من الارض أينما أدركوا، أخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدو. حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري في قوله: أو ينفوا من الارض قال: نفيه: أن يطلب فلا يقدر عليه، كلما سمع به في أرض طلب. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني سعيد، عن قتادة: أو ينفوا من الارض قال: إذا لم يقتل ولم يأخذ مالا، طلب حتى يعجز. حدثني ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير: أو ينفوا من الارض من أرض الاسلام إلى أرض الكفر. وقال آخرون: معنى النفي في هذا الموضع: أن الامام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير: أو ينفوا من الارض قال: من أخاف سبيل المسلمين نفي من بلده إلى غيره، لقول الله عزوجل: أو ينفوا من الارض. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يزيد بن أبي حبيب وغيره، عن حبان بن شريح، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم وحبسهم في السجون، قال: قال الله في كتابه: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وترك: أو ينفوا من الارض. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر قول الله عزوجل: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتركت قول الله: أو ينفوا من الارض، فنبي أنت يا حبان ابن أم حبان لا تحرك الاشياء
[ 297 ]
عن مواضعها، أتجردت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل من غير ما أشبهك به ؟ إذا أتاك كتابي هذا فانفهم إلى شغب. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني الليث، عن يزيد وغيره بنحو هذا الحديث، غير أن يونس قال في حديثه: كأنك عبد بني أبي عقال من غير أن أشبهك به. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصلت كاتب حبان بن شريح، أخبرهم أن حبان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الارض فسادا، وأن الله يقول: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسكت عن النفي، وكتب إليه: فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم، فليكتب بذلك. فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه، قال: لقد اجتزأ حبان. ثم كتب إليه: إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأت كأنما كتبت بكتاب يزيد بن أبي مسلم أو علج صاحب العراق من غير أن أشبهك بهما، فكتبت بأول الآية ثم سكت عن آخرها، وإن الله يقول: أو ينفوا من الارض فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به، فاعقد في أعناقهم حديدا، ثم غيبهم إلى شغب وبدا. قال أبو جعفر: شغب وبدا: موضعان.
[ 298 ]
وقال آخرون: معنى النفي من الارض في هذا الموضع: الحبس، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب في قول من قال: معنى النفي من الارض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه. وإنما قلت ذلك أولى الاقوال بالصحة، لان أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الاوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتل أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الارض، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحد عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عزوجل حدا له بعد القدرة عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن. فإذ كان كذلك، فلا شك أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من الارض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الارض، كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الارض إلا بحبسه في بقعة منها عن سائرها، فيكون منفيا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه. وأما معنى النفي في كلام العرب: فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر: ينفون عن طرق الكرام كما ينفي المطارق ما يلي الفردا ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شئ: النفاية. وأما المصدر من نفيت، فإنه
[ 299 ]
النفي والنفاية، ويقال: الدلو ينفي الماء. ويقال لما تطاير من الماء من الدلو النفي، ومنه قول الراجز: كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي ومنه قيل: نفى شعره: إذا سقط، يقال: حال لونك ونفى شعرك. القول في تأويل قوله تعالى: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. يعني جل ثناؤه بقوله: ذلك: هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الارض فسادا في الدنيا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف لهم يعني: لهؤلاء المحاربين خزي في الدنيا يقول: هو لهم شر وعار وذلة، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، يقال منه: أخزيت فلانا فخزي هو خزيا، وقوله: ولهم في الآخرة عذاب عظيم يقول عز ذكره لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعول في الارض فسادا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك، حتى هلكوا في الآخرة مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم، يعني: عذاب جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) *.. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا الذين تابوا من شركهم ومناصبتهم الحرب لله ولرسوله، والسعي في الارض بالفساد بالاسلام، والدخول في الايمان من قبل قدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشئ من العقوبات التي جعلها الله جزاء لمن حاربه ورسوله وسعى في الارض فسادا، من قتل، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الارض، فلا تباعة قبله لاحد فيما كان أصاب في
[ 300 ]
حال كفره وحربه المؤمنين في مال ولا دم ولا حرمة قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبة ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الامام إقامة الحد الذي أوجبه الله عليه وأخذه بحقوق الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض... إلى قوله: فاعلموا أن الله غفور رحيم نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليس تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الارض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، ذلك يقام عليه الحد الذي أصاب. حدثنا بشار، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم قال: هذا لاهل الشرك إذا فعلوا شيئا في شركهم، فإن الله غفور رحيم إذا تابوا وأسلموا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا بالزنا، والسرقة وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم على عهد الرسول (ص). حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان قوم بينهم وبين الرسول (ص) ميثاق، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الارض، فخير الله نبيه (ص) فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه قبل ذلك منه. حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
[ 301 ]
علي، عن ابن عباس، قوله: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... الآية، فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال: فإن جاء تائبا فدخل في الاسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم قال: هذا لاهل الشرك إذا فعلوا شيئا من هذا في شركهم ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة، أما قوله: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فهذه لاهل الشرك، فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب، فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أهدر عنه ما مضى. وقال آخرون: بل هذه الآية معني بالحكم بها المحاربون الله ورسوله الحراب من أهل الاسلام، من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأومن على جناياته التي جناها وهو للمسلمين حرب. ومن فعل ذلك منهم مرتدا عن الاسلام ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن قالوا: فإذا أمنه الامام على جناياته التي سلفت لم يكن قبله لاحد تبعة في دم ولا مال أصابه قبل توبته وقبل أمان الامام إياه. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني أبو أسامة عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي: أن حارثة بن بدر خرج محاربا، فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الاموال، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانا منشورا على ما كان أصاب من دم أو مال. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي: أن حارثة بن بدر حارب في عهد علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلب إليه أن يستأمن له من علي، فأبى. ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمنه، وضمه إليه، وقال له: استأمن إلى أمير
[ 302 ]
المؤمنين علي بن أبي طالب قال: فلما صلى علي الغداة، أتاه سعيد بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض. قال: ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم. قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر ؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن ؟ قال: نعم. قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن معراء، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد في الارض وحارب ثم تاب، وكلم له علي فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس فكلمه، فانطلق سعيد بن قيس إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول فيمن حارب الله ورسوله ؟ فقرأ الآية كلها، فقال: أرأيت من تاب من قبل أن تقدر عليه ؟ قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر. قال: فأمنه علي، فقال حارثة: ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها لعمر أبيها إن همدان تتقي الاله ويقضي بالكتاب خطيبها حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وتوبته من قبل أن يقدر عليه أن يكتب إلى الامام يستأمنه على ما قتل وأفسد في الارض: فإن لم يأمني على ذلك ازددت فسادا وقتلا وأخذا للاموال أكثر مما فعلت ذلك قبل. فعلى الامام من الحق أن يؤمنه على ذلك، فإذا أمنه الامام جاء حتى يضع يده في يد الامام. فليس لاحد من الناس أن يتبعه ولا يأخذه بدم سفكه ولا مال أخذه، وكل مال كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضا ويفسده. فإذا رجع إلى الله عزوجل فهو وليه يأخذه بما صنع. وتوبته فيما بينه وبين الامام
[ 303 ]
والناس، فإذا أخذه الامام وقد تاب فيما يزعم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يؤمنه الامام فليقم عليه الحد. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول، أنه قال: إذا أعطاه الامام أمانا، فهو آمن ولا يقام عليه الحد ما كان أصاب. وقال آخرون: معنى ذلك: كل من جاء تائبا من الحراب قبل القدرة عليه، استأمن الامام فأمنه أو لم يستأمنه بعد أن يجئ مستسلما تاركا للحرب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن عامر، قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمرة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان ابن فلان المرادي، كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الارض، وإني تبت من قبل أن يقدر علي. فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا، وإنه تاب قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج، فأدركه الله بذنوبه فقتله. حدثني الحارث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فلحق بدار الحرب أو تمنع في بلاد الاسلام، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه ؟ قال: تقبل توبته. قال: قلت: فلا يتبع بشئ من أحداثه ؟ قال: لا، إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرد إلى صاحبه، أو يطلبه ولي من قتل بدم في حربه يثبت ببينة أو اعتراف فيقاد به وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الامام بشئ. قال علي: قال الوليد: فذكرت ذلك لابي عمرو، فقال: تقبل توبته إذا كان محاربا للعامة والائمة قد آذاهم بحربه فشهر سلاحه وأصاب الدماء والاموال، فكانت له منعة أو فئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتد عن الاسلام، أو كان مقيما عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته ولم يتبع بشئ منه.
[ 304 ]
حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهري يقول ذلك. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد، قال: فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة للعامة والائمة وأصاب الدماء والاموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، أو لحق بدار الحرب ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته ولم يتبع بشئ من أحداثه في حربه من دم خاصة ولا عامة وإن طلبه وليه. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: قال الليث: وكذلك ثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الامير عندنا: أن عليا الاسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبته الائمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه، حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله... الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها فأعادها عليه. فغمد سيفه، ثم جاء تائبا، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله (ص)، فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كله. قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهزموا منه إلى سفينتهم الاخرى، فمالت بهم وبه فغرقوا جميعا. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مطرف بن معقل، قال: سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبا من غير أن يؤخذ: فهل عليه حد ؟ قال: لا، ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم... الآية. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد،
[ 305 ]
قال: ثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير، قالا: إن جاء تائبا لم يقتطع مالا ولم يسفك دما ترك، فذلك الذي قال الله: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم يعني بذلك: أنه لم يسفك دما ولم يقتطع مالا. وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك التائب من حربه الله ورسوله والسعي في الارض فسادا، بعد لحاقه في حربه بدار الكفر فأما إذا كانت حرابته وحربه وهو مقيم في دار الاسلام وداخل في غمار الامة، فليست توبته واضعة عنه شيئا من حدود الله ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصص في الاسلام فأصاب حدودا ثم جاء تائبا، فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترءوا عليه وكان فسادا كبيرا، ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبا، لم أر عليه عقوبة. وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما: حدثني به علي، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني من سمع هشام بن عروة، عن عروة قال: يقام عليه حد ما فر منه، ولا يجوز لاحد فيه أمان يعني: الذي يصيب حدا ثم يفر فيلحق الكفار، ثم يجئ تائبا. وقال آخرون: إن كانت حرابته وحربه في دار الاسلام، وهو في غير منعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حرابته وحربه في دار الاسلام أو هو لاحق بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحداثه في أيام حرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدا أو أمر الرفقة بما فيه عقوبة أو غرم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبته. ذكر من قال ذلك:
[ 306 ]
حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لص أو جماعة من اللصوص، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والاموال ولم يكن لهم فئة يلجئون إليها ولا منعة ولا يأمنون إلا بالدخول في غمار أمتهم وسواد عامتهم، ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، لم تقبل توبته وأقيم عليه حده ما كان. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: ذكرت لابي عمرو قول عروة: يقام عليه حد ما فر منه، ولا يجوز لاحد فيه أمان. فقال أبو عمرو: إن فر من حدثه في دار الاسلام فأعطاه إمام أمانا، لم يجز أمانه. وإن هو لحق بدار الحرب، ثم سأل إماما على أحداثه، لم ينبغ للامام أن يعطيه أمانا، وإن أعطاه الامام أمانا وهو غير عالم بأحداثه، فهو آمن، وإن جاء أحد يطلبه بدم أو مال، رد إلى مأمنه، فإن أبى أن يرجع فهو آمن، ولا يتعرض له. قال: وإن أعطاه أمانا على أحداثه وهو يعرفها، فالامام ضامن واجب عليه عقل ما كان أصاب من دم أو مال، وكان فيما عطل من تلك الحدود والدماء آثما، وأمره إلى الله عزوجل. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك وكانت له منعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتد عن الاسلام، أو كان مقيما عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته، ولم يتبع بشئ من أحداثه التي أصابها في حربه، إلا أن يوجد معه شئ قائم بعينه فيرد إلى صاحبه. حدثني علي، قال: ثنا الوليد، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة، قال: تقبل توبته، ولا يتبع بشئ من أحداثه في حربه إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سلمه قبل حربه فإنه يقاد به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معمر الرقي، قال: ثنا الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، قال: قاتل الله الحجاج إن كان ليفقه أمن رجلا من محاربته، فقال: انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه ؟ وقال آخرون تضع توبته عنه حد الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم. وممن قال ذلك الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربيع. وأولى هذه الاقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القدرة عليه، تضع عنه تبعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه
[ 307 ]
وحرابته من حدود الله، وغرم لازم وقود وقصاص، إلا ما كان قائما في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيرد على أهله لاجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله الساعية في الارض فسادا على وجه الردة عن الاسلام، فكذلك حكم كل ممتنع سعى في الارض فسادا، جماعة كانوا أو واحدا، فأما المستخفي بسرقته والمتلصص على وجه إغفال من سرقه، والشاهر السلاح في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه تاب أو لم يتب ماض، وبحقوق من أخذ ماله أو أصاب وليه بدم أو ختل مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله قياسا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئا من ذلك وهو للمسلمين سلم ثم صار لهم حربا، أن حربه إياهم لن يضع عنه حقا لله عز ذكره ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده ولا له فئة يلجأ إليها مانعة منه وفي قوله الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم دليل واضح لمن وفق لفهمه أن الحكم الذي ذكره الله في المحاربين يجري في المسلمين والمعاهدين دون المشركين الذين قد نصبوا للمسلمين حربا وذلك أن ذلك لو كان حكما في أهل الحرب من المشركين دون المسلمين ودون ذمتهم لوجب أن لا يسقط إسلامهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفى إجماع المسلمين أن إسلام المشرك الحربي يضع عنه بعد قدرة المسلمين عليه ما كان واضعه عنه إسلامه قبل القدرة عليه، ما يدل على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: عني بآية المحاربين في هذا الموضع: حراب أهل الاسلام أو الذمة دون من سواهم من مشركي أهل الحرب. وأما قوله: فاعلموا أن الله غفور رحيم فإن معناه: فاعلموا أيها المؤمنون أن الله غير مؤاخذ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله الساعين في الارض فسادا وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة، رحيم به في عفوه عنه وتركه عقوبته عليها. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) *..
[ 308 ]
يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب، وأوعد من العقاب اتقوا الله يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من أعمالكم. وابتغوا إليه الوسيلة يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. والوسيلة: هي الفعلية من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا، بمعنى: تقربت إليه، ومنه قول عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي يعني بالوسيلة: القربة. ومنه قول الآخر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان (ح)، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن الحباب، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: وابتغوا إليه الوسيلة قال: القربة في الاعمال. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع (ح)، وحدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن طلحة، عن عطاء: وابتغوا إليه الوسيلة قال: القربة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة قال: هي المسألة والقربة.
[ 309 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وابتغوا إليه الوسيلة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وابتغوا إليه الوسيلة: القربة إلى الله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: وابتغوا إليه الوسيلة قال: القربة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قوله: وابتغوا إليه الوسيلة قال: القربة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وابتغوا إليه الوسيلة قال: المحبة، تحببوا إلى الله. وقرأ: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة. القول في تأويل قوله تعالى: وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون. يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله: وجاهدوا أيها المؤمنون أعدائي وأعداءكم في سبيلي، يعني: في دينه وشريعته التي شرعها لعباده، وهي الاسلام، يقول: أتعبوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة لعلكم تفلحون يقول: كيما تنجحوا فتدركوا البقاء الدائم، والخلود في جنانه. وقد دللنا على معنى الفلاح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) *. يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل ومن غيرهم الذين عبدوا الاوثان والاصنام، وهلكوا على ذلك قبل التوبة، لو أن لهم ملك ما في الارض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذبهم في حميم يوم القيامة عذابا موجعا لهم. وإنما هذا إعلام من الله
[ 310 ]
جل ثناؤه لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) أنهم وغيرهم من سائر المشركين به سواء عنده فيما لهم من العذاب الاليم والعقاب العظيم، وذلك أنهم كان يقولون: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة واغترارا بالله وكذبا عليه. فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحسم طمعهم، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله: إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيها الكفرة في قبول الفدية منكم ولا في خروجكم من النار بوسائل آبائكم عندي بعد دخولكموها إن أنتم متم على كفركم الذي أنتم عليه، ولكن توبوا إلى الله توبة نصوحا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: يريدون أن يخرجوا من النار يريد: هؤلاء الذين كفروا بربهم يوم القيامة أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم يقول: لهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدا، كما قال الشاعر: فإن لكم بيوم الشعب مني عذابا دائما لكم مقيما وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، أن نافع بن الازرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر، أعمى القلب، تزعم أن قوما يخرجون من النار، وقد قال الله عزوجل: وما هم بخارجين منها ؟ فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار. القول في تأويل قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) *..
[ 311 ]
يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة، فاقطعوا أيها الناس يده. ولذلك رفع السارق والسارقة، لانهما غير معينين، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: والسارقو ن والسارقات. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: في قراءتنا قال: وربما قال في قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما. وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه، وأن السارق والسارقة مرفوعان بفعلهما على ما وصفت للعلل التي وصفت. وقال تعالى ذكره: فاقطعوا أيديهما والمعنى أيديهما اليمنى كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فاقطعوا أيديهما: اليمنى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، قال: في قراءة عبد الله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما. ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله، فقال بعضهم: عني بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بأن رسول الله (ص) قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وقال آخرون: بل عنى بذلك: سارق ربع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك الاوزاعي ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي روي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله (ص): القطع في ربع دينار فصاعدا. وقال آخرون: بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا. وممن قال ذلك أبو حنيفة
[ 312 ]
وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمر وابن عباس، أن النبي (ص) قطع في مجن قيمته عشرة دراهم. وقال آخرون: بل عني بذلك سارق القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنه ليس لاحد أن يخص منها شيئا إلا بحجة يجب التسليم لها. وقالوا: لم يصح عن رسول الله (ص) خبر بأن ذلك في خاص من السراق. قالوا: والاخبار فيما قطع فيه رسول الله (ص) مضطربة مختلفة، ولم يرو عنه أحد أنه أتي بسارق درهم فخلى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانق أن يقطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في درهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: الآية على العموم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي، قال: سألت ابن عباس عن قوله: والسارق والسارقة أخاص أم عام ؟ فقال: بل عام. والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: الآية معني بها خاص من السراق، وهو سراق ربع دينار فصاعدا أو قيمته، لصحة الخبر عن رسول الله (ص) أنه قال: القطع في ربع دينار فصاعدا. وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لاقوالهم، والتلميح عن أولاها بالصواب بشواهده في كتابنا كتاب السرقة، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع. وقوله: جزاء بما كسبا نكالا من الله يقول: مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله. نكالا من الله يقول: عقوبة من الله على لصوصيتهما. وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم:
[ 313 ]
لا ترثوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمر قط إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر قط إلا وهو فساد. وكان عمر بن الخطاب يقول: اشتدوا على السراق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا. وقوله: والله عزيز حكيم يقول جل ثناؤه: والله عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه، حكيم في حكمه فيهم وقضائه عليهم. يقول: فلا تفرطوا إيها المؤمنون في إقامة حكمي على السارق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبة لهم، فإني بحكمي قضيت ذلك عليهم، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) * ح.. يقول جل ثناؤه فمن تاب من هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عما يكرهه الله من معصيته إياه إلى ما يرضاه من طاعته من بعد ظلمه وظلمه: هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس. يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله والتوبة إليه مما كان عليه من معصيته. وكان مجاهد فيما ذكر لنا يقول: توبته في هذا الموضع، الحد الذي يقام عليه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح يقول: فتاب عليه بالحد. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: سرقت امرأة حليا، فجاء الذين سرقهم، فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله (ص): اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة: هل من توبة ؟ فقال رسول الله (ص):
[ 314 ]
أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. قال: فأنزل الله عزوجل: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه. وقوله: فإن الله يتوب عليه يقول: فإن الله عزوجل يرجعه إلى ما يحب ويرضى عما يكرهه ويسخط من معصيته. وقوله: إن الله عفور رحيم يقول: إن الله عز ذكره ساتر على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبه بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة وتركه فضيحته بها على رؤوس الاشهاد، رحيم به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شئ قدير) *.. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): ألم يعلم هؤلاء القائلون: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الزاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، أن الله مدبر ما في السموات وما في الارض، ومصرفه وخالقه، لا يمتنع شئ مما في واحدة منهما مما أراده لان كل ذلك ملكه وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شئ مما فيهما ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولامره ونهيه مخالف، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة. والله على كل شئ قدير يقول: والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها قادر، لان الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده. وخرج قوله: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض خطابا له (ص)، والمعني به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله (ص) وما حواليها. وقد بينا استعمال العرب نظير ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 315 ]
(يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) *.. اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبي (ص): إنما هو الذبح، فلا تنزلوا على حكم سعد. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم قال: نزلت في رجل من الانصار زعموا أنه أبو لبابة أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار ما الامر ؟ وعلام ننزل ؟ فأشار إليهم: إنه الذبح. وقال آخرون: بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسأل رسول الله (ص) عن حكمه في قتيل قتله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر قال: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا لي محمدا (ص)، فإن كان يقضي بالدية اختصمنا إليه، وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن زكريا، عن عامر نحوه. وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتد بعد سلامه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال:
[ 316 ]
ثني الزهري، قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم، أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله (ص) المدينة، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت. فقالوا: انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد (ص)، فاسألوه كيف الحكم فيهما فولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التحميم، وهو الجلد بحبل من ليف مطلي بقار، ثم يسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وتحول وجوههما من قبل دبر الحمار، فاتبعوه، فإنما هو ملك. وإن هو حكم فيهما بالرجم (فإنه نبي) فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. قأتوه فقالوا: يا محمد هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما فمشى رسول الله (ص) حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس، فقال: يا معشر اليهود أخرجوا إلى أعلمكم فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الاعور. وقد روي بعض بني قريظة أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا أبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهودا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا فسألهم رسول الله (ص) حتى حصل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة. فخلا به رسول الله (ص)، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا، فألظ به رسول الله (ص) المسألة، يقول: يا ابن صوريا أنشدك الله وأذكرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟ فقال: اللهم نعم أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك. فخرج رسول الله (ص)، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني عثمان بن غالب بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
[ 317 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي (ح) وحدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش (ح)، وحدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة بن عبيد، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مر على النبي (ص) بيهودي محمم مجلود، فدعا النبي (ص) رجلا من علمائهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني فيكم ؟ قال: نعم. قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني فيكم ؟ قال: لا، ولو لا أنك نشدتني بهذا لم أحدثك، ولكن الرجم، ولكن كثر الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا نجتمع فنضع شيئا مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي (ص): اللهم إني أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب وعند سعيد، رجل يوقره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبي هريرة، قال: قال أبو هريرة: كنت جالسا عند رسول الله (ص) (ح)، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: ثني الليث، قال: ثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، حدث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله (ص)، إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد أشاروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، فقال بعضهم لبعض: إن هذا النبي قد بعث، وقد علمتم أن قد فرض عليكم الرجم في التوراة فكتمتموه واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا فنسأل هذا النبي، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تطاع وتصدق. فأتوا رسول الله (ص)، فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحب لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة ؟ قال أبو هريرة: فلم يرجع إليهم رسول الله (ص) حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤم مدراس اليهود حتى أتاهم، فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت
[ 318 ]
المدارس، فقال لهم: يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ماذا تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن ؟ قالوا: إنا نجده يحمم ويجلده. وسكت حبرهم في جانب البيت. فلما رأى رسول الله (ص) صمته ألظ به النشدة، فقال حبرهم: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد عليهم الرجم. فقال له رسول الله (ص): فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومه، فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجم فلانا ابن عم الملك فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم، وتركوا الرجم. فقال رسول الله (ص): فإني أقضي بما في التوراة. فأنزل الله في ذلك: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر... إلى قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وقال آخرون: بل عني بذلك المنافقون. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم قال: هم المنافقون. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: آمنا بأفواههم قال: يقول هم المنافقون. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: عني بذلك: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم: قوم من المنافقين. وجائز أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابن صوريا، وجائز أن يكون أبو لبابة، وجائز أن يكون غيرهما. غير أن أثبت شئ روي في ذلك ما ذكرناه من الرواية قبل عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لان ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله (ص). وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيح من القول فيه أن يقال: عني به عبد الله بن صوريا. وإذا صح ذلك كان تأويل الآية: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك والتكذيب بأنك لي نبي من الذين قالوا: صدقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينا بوجودنا
[ 319 ]
صفتك في كتابنا وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق، عن الزهري، أن ابن صوريا قال لرسول الله (ص): أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك. فذلك كان على هذا الخبر من ابن صوريا إيمانا برسول الله (ص) بفيه، ولم يكن مصدقا لذلك بقلبه، فقال الله لنبيه محمد (ص) مطلعه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدق قلبه بأنك لله رسول مرسل. القول في تأويل قوله تعالى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): يا أيها الرسول، لا يحزنك تسرع من تسرع من هؤلاء المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم تصديقك، وهم معتقدون تكذيبك إلى الكفر بك، ولا تسرع اليهود إلى جحود نبوتك. ثم وصف جل ذكره صفتهم ونعتهم له بنعوتهم الذميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره معزيا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه مع علمهم بصدقه أنهم أهل استحلال الحرام والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرشا والسحت، وأنهم أهل إفك وكذب على الله وتحريف كتابه. ثم أعلمه أنه محل بهم خزيه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة، فقال: هم سماعون للكذب يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، وسمعهم الكذب: سمعهم قول أحبارهم أن حكم الزاني المحصن في التوراة: التحميم والجلد، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يقول: يسمعون لاهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله (ص)، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله (ص) وكانوا مصرين على أن يأتوه، كما قال مجاهد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك: مع من أتوك. واختلف أهل التأويل في السماعون للكذب السماعون لقوم آخرين، فقال بعضهم: سماعون لقوم آخرين يهود فدك، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله (ص) يهود المدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في قوله: ومن الذين هادوا
[ 320 ]
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين قال: يهود المدينة لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه قال: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه. وقال آخرون: المعنى بذلك قوم من اليهود كان أهل المرأة التي بغت بعثوا بهم يسألون رسول الله (ص) عن الحكم فيها، والباعثون بهم هم القوم الآخرون، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون كان بنو إسرائيل أنزل الله عليهم: إذا زنى منكم أحد فارجموه. فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والاشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء، فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجمونهما جميعا فقالت بنو إسرائيل ان هذا الامر قد اشتد علينا فتعالوا فلنصلحه فتركوا الرجم وجعلوا مكانه أربعين جلدة بحبل مقير ويحممونه ويحملونه على حمارو وجهه إلى ذنبه ويسودون وجهه ويطوفون به فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها بسرة، فبعث أبو هاناسا من أصحابه إلى النبي (ص)، فقال: سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه فإنا نخاف أن يفضحنا ويخبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فاحذروه. فأتوا رسول الله (ص) فسألوه، فقال: الرجم. فأنزل الله عزوجل: ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدا. وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن السماعون للكذب، هم السماعون لقوم آخرين. وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة والمسموع لهم من يهود فدك، ويجوز أن يكونوا كانوا من غيرهم. غير أنه أي ذلك كان، فهو من صفة قوم من يهود سمعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله (ص) عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قبل أن يأتوا رسول الله (ص) محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا
[ 321 ]
رسول الله (ص) عن ذلك لهم ليعلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم، فإن لم يكن من حكمه الرجم رضوا به حكما فيهم، وإن كان من حكمه الرجم حذروه وتركوا الرضا به وبحكمه. وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين قال: لقوم آخرين لم يأتوك من أهل الكتاب، هؤلاء سماعون لاولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه، يقولون لهم الكذب: محمد كاذب، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به. القول في تأويل قوله تعالى: يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا. يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السماعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعد من اليهود الكلم. وكان تحريفهم ذلك: تغييرهم حكم الله تعالى ذكره الذي أنزله في التوراة في المحصنات والمحصنين من الزناة بالرجم إلى الجلد والتحميم، فقال تعالى ذكره: يحرفون الكلم يعني: هؤلاء اليهود، والمعنى: حكم الكلم، فاكتفى بذكر الخبر من تحريف الكلم عن ذكر الحكم لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله: من بعد مواضعه والمعنى: من بعد وضع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر مواضعه عن ذكر وضع ذلك، كما قال تعالى ذكره: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والمعنى: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر. وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه، فتكون بعد وضعت موضع عن، كما يقال: جئتك عن فراغي من الشغل، يريد: بعد فراغي من الشغل. ويعني بقوله إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقول: هؤلاء الباغون السماعون للكذب، إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا فخذوه، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم، فاحذروا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: ثني الزهري، قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثهم في
[ 322 ]
قصة ذكرها: ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك قال: بعثوا وتخلفوا، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال: يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه للتحميم، وإن لم تؤتوه فاحذروا: أي الرجم. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إن أوتيتم هذا: إن وافقكم هذا، فخذوه يهود تقوله للمنافقين. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إن أوتيتم هذا فخذوه: إن وافقكم هذا فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يحرفون الكلم من بعد مواضعه حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدا، يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر: يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرجم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا هم اليهود، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزنا بالرجم، فنفسوا أن يرجموها، وقالوا: انطلقوا إلى محمد فعسى أن يكون عنده رخصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها. فأتوه فقالوا: يا أبا القاسم إن امرأة منا زنت، فما تقول فيها ؟ فقال لهم النبي (ص): كيف حكم الله في التوراة في الزاني ؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى. فقال لهم:
[ 323 ]
بالذي نجاكم من آل فرعون وبالذي فلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون إلا أخبرتموني ما حكم الله في التوراة في الزاني قالوا: حكمه الرجم. فأمر بها رسول الله (ص) فرجمت. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ذكر لنا أن هذا كان في قتيل من بني قريظة قتلته النضير، فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يقيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم، وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقود لفضلهم عليهم في أنفسهم تعززا. فقدم نبي الله (ص) المدينة على هيئة فعلهم هذا، فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله (ص)، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عمد، متى ما ترفعوه إلى محمد (ص) أخشى عليكم القود، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حذر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقول يحرف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعض. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقولون: ائتوا محمدا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. القول في تأويل قوله تعالى: ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا. وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) من حزنه على مسارعة الذين قص قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية، يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرعهم إلى جحود نبوتك، فإني قد حتمت عليهم أنهم لا يتوبون من ضلالتهم، ولا يرجعون عن كفرهم للسابق من غضبي عليهم، وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرعهم إلى ما جعلته سببا لهلاكهم واستحقاقهم وعيدي. ومعنى الفتنة في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل. يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله يا محمد مرجعه بضلالته عن سبيل الهدى، فلن تملك له من الله استنقاذا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة، فلا تشعر نفسك الحزن على ما فاتك من اهتدائه للحق. كما:
[ 324 ]
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وإن مسارعتهم إلى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم قهم في الدنيا خزى، ولهم في الآخرة عذاب عظيم). يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحزنك الذين يسارعنن في مالكفر، من اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وإن مسارعتهم إلى ذلك أن الله قد أراد فتنتهم وطبع على قلوبهم، ولا يهتدون أبدا. وأولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يقول: هؤلاء الذين لم يرد الله أن أن يطهر من دنس الكفر ووسخ الشرك قلوبهم بطهارة الاسلام ونظافة الايمان فيتوبوا بل أراد بهم الخزى في الدنيا وذلك الذل والهوان وفي الآخرة عذاب جهنم خالدين فيها أبدا. وبنحو الذي قلنا في معنى الخزي روي القول عن عكرمة. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن علي بن الارقم وغيره، عن عكرمة: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي قال: مدينة في الروم تفتح فيسبون. القول في تأويل قوله تعالى: * (سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) *.. يقول تعالى ذكره: هؤلاء اليهود الذين وصفت لك يا محمد صفتهم سماعون لقيل الباطل والكذب من قبل بعضهم لبعض محمد كاذب، ليس بنبي، وقيل بعضهم: إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم، وغير ذلك من الاباطيل والافك، ويقبلون الرشا، فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه. كما:
[ 325 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبو عقيل، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: سماعون للكذب أكالون للسحت قال: تلك الحكام سمعوا كذبة، وأكلوا رشوة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: سماعون للكذب أكالون للسحت قال: كان هذا في حكام اليهود بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرشا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أكالون للسحت قال: الرشوة في الحكم وهم يهود. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي وإسحاق الازرق، وحدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أكالون للسحت قال: السحت: الرشوة. حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الاعلى، قالا: ثنا ابن فضيل، عن الاعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل لعبد الله: ما السحت ؟ قال: الرشوة. قالوا: في الحكم ؟ قال: ذاك الكفر. حدثنا سفيان، قال: ثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله، قال: السحت: الرشوة. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حريث، عن عامر، عن مسروق، قال: قلنا لعبد الله: ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال عبد الله: ذاك الكفر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروقعن عبد الله قال السحت الرشا قال نعم. حدثنا ابن المثنى قال محمد بن جعفر قال شعبة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: سألت عبد الله عن السحت، فقال: الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلها.
[ 326 ]
حدثنا سوار، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن منصور وسليمان الاعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله أنه قال: السحت: الرشا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: السحت، قال: الرشوة في الدين. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن خيثمة، قال: قال عمر: ما كان من السحت: الرشا، ومهر الزانية. حدثني سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: السحت: الرشوة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: أكالون للسحت قال: الرشا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن طلحة، عن أبي هريرة، قال: مهر البغي سحت، وعسب الفحل سحت، وكسب الحجام سحت، وثمن الكلب سحت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد الاحمر، عن جويبر، عن الضحاك، قال: السحت: الرشوة في الحكم. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، قال: سألت ابن مسعود عن السحت، قال: الرشا، فقلت: في الحكم ؟ قال: ذاك الكفر. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أكالون للسحت يقول: للرشا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن مسروق، عن علقمة: أنهما سألا
[ 327 ]
ابن مسعود عن الرشوة، فقال: هي السحت، قالا في الحكم ؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا هذه الآية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن المسعودي، عن بكير بن أبي بكير، عن هاشم بن صبيح، قال: شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبا شديدا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: من شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يرفع بها ظلما، فأهدي له فقبل، فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الاخذ على الحكم قال: الاخذ على الحكم كفر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: سماعون للكذب أكالون للسحت وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب. حدثنا هناد، قال: ثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: سألت ابن مسعود عن السحت، أهو الرشا في الحكم ؟ فقال: لا، من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق، ولكن السحت يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتقبلها. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن هبيرة السبائي، قال: من السحت ثلاثة: مهر البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يعطى الكهان في الجاهلية. حدثنا هناد، قال: ثنا ابن مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، أنه قال في كسب الحجام، ومهر البغي،
[ 328 ]
وثمن الكلب، والاستجعال في القضية، وحلوان الكاهن، وعسيلب الفحل، والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة: من السحت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أكالون للسحت قال: الرشوة في الحكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموالى، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر، أن رسول الله (ص)، قال: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت ؟ قال: الرشوة في الحكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله، قال: قال لي أنس بن مالك، إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة فإنها سحت وكان أبوه على شرط المدينة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن مسروق، عن عبد الله، قال: الرشوة سحت. قال مسروق: فقلنا لعبد الله: أفي الحكم ؟ قال: لا، ثم قرأ: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأصل السحت: كلب الجوع، يقال منه: فلان مسحوت المعدة: إذا كان أكولا لا يلفى أبدا إلا جائعا. وإنما قيل للرشوة السحت، تشبيها بذلك كأن بالمسترشي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشره إلى الطعام، يقال منه: سحته وأسحته، لغتان محكيتان عن العرب، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
[ 329 ]
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف يعني بالمسحت: الذي قد أستأصله هلاكا بأكله إياه وإفساده، ومنه قوله تعالى: فيسحتكم بعذاب وتقول العرب للحالق: اسحت الشعر: أي استأصله. القول في تأويل قوله تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين. يعني تعالى ذكره بقوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم: إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد، وهم قوم المرأة البغية، محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحق الذي جعله الله حكما له، فيمن فعل فعل المرأة البغية منهم، أو أعرض عنهم، فدع الحكم بينهم إن شئت والخيار إليك في ذلك. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو أعرض عنهم يهود، زنى رجل منهم له نسب حقير فرجموه، ثم زنى منهم شريف فحمموه، ثم طافوا به، ثم استفتوا رسول الله (ص) ليوافقهم. قال: فأفتاهم فيه بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم، فناشدهم بالله أيجدونه في التوراة، فكتموه إلا رجلا من أصغرهم أعور، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه لفي التوراة حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، عن ابن شهاب: أن الآية التي في سورة المائدة: فإن جاءوك فاحكم بينهم كانت في شأن الرجم.
[ 330 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إنهم أتوه يعني اليهود في امرأة منهم زنت يسألونه عن عقوبتها، فقال لهم رسول الله (ص): كيف تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ؟ فقالوا نؤمر برجم الزانية. فأمر بها رسول الله (ص)، فرجمت، وقد قال الله تبارك وتعالى: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال: كانوا يحدون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض: لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به فجلدوه وحملوه على حمار إكاف، وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار، إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف فقالوا: ارجموه ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذي قبله ؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا. فلما كان النبي (ص)، قالوا: سلوه، لعلكم تجدون عنده رخصة فنزلت: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم... إلى قوله: إن الله يحب المقسطين. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قتيل قتل في يهود منهم قتله بعضهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الآيات في المائدة، قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم... إلى قوله: المقسطين إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله (ص)، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله (ص) على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواء. والله أعلم أي ذلك كان.
[ 331 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدى مئة وسق تمر. فلما بعث رسول الله (ص) قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله (ص). فنزلت: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان في حكم حي بن أخطب للنضري ديتان، والقرظي دية، لانه كان من النضير قال: وأخبر الله نبيه (ص) بما في التوراة، قال: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... إلى آخر الآية. قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم بن أخطب، فقالوا: نتحاكم إلى محمد فقال الله تبارك وتعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فخيره، وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله... الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحمموا وجه الشريف، وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنئ بالشريفة رجموه، وفعلوا بها ذلك. فتحاكموا إلى النبي (ص)، فرجمها. قال: وكان النبي (ص) قال لهم: من أعلمكم بالتوراة ؟ قالوا: فلان الاعور. فأرسل إليه، فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة ؟ قال: كذاك تزعم يهود، فقال له النبي (ص): أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طورسيناء ما تجد في التوراة في الزانيين ؟ فقال: يا أبا القاسم يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحممون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنب البعير، ويرجمون الدنئ إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي (ص): أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طورسيناء ما تجد في التوراة ؟ فجعل يروغ والنبي (ص) ينشده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طورسيناء، حتى قال: يا أبا القاسم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. فقال رسول الله (ص): فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال
[ 332 ]
عبد الله: فكنت فيمن رجمهما، فما زال يجني عليها ويقيها الحجارة بنفسه حتى مات. ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية هل هو ثابت اليوم وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثل الذي جعل لنبيه (ص)، في هذه الآية، أم ذلك منسوخ ؟ فقال بعضهم: ذلك ثابت اليوم لم ينسخه شئ، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الآية مثل ما جعله الله لرسوله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إن رفع إليك أحد من المشركين في قضاء، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله، وإن شئت أعرض عنهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم، قالا: إذا أتاك المشركون فحكموك فاحكم بينهم، أو أعرض عنهم، وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين ولا تعده إلى غيره. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خل عنهم وأهل دينهم يحكمون فيهم إلا في سرقة أو قتل. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: نحن مخيرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم
[ 333 ]
نحكم بينهم، وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا أو نتركهم وحكمهم بينهم. قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب، وذلك قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، وحدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي في قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قالا: إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، وإن حكم بينهم حكم بينهم بما في كتاب الله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رخصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. حدثنا هناد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي، قالا: إذا أتاك المشركون فحكموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعده إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلهم وأهل دينهم. وقال آخرون: بل التخيير منسوخ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسخت بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السدي، قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله. حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار، قالا: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: لم ينسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وقوله:
[ 334 ]
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد نسختها: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد قال: نسختها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج بن منهال، قال: ثنا همام، عن قتادة، قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم يعني الهيود. فأمر الله نبيه (ص) أن يحكم بينهم، ورخص له أن يعرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى الآية التي بعدها: وأنزلنا إليك الكتاب... إلى قوله: فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم فأمر الله نبيه (ص) أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخص له إن شاء أن يعرض عنهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن عدي: إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال: نسخت بقوله: فاحكم بينهم بما أنزل الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال: مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حد يحكم بينهم فيه بكتاب الله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما نزلت: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم كان النبي (ص) إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. ثم نسخها فقال: فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وكان مجبورا على أن يحكم بينهم. حدثنا محمد بن عمار، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، قال: آيتان نسختا من هذه
[ 335 ]
السورة، يعني المائدة، آية القلائد، وقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، فكان النبي (ص) مخيرا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ، وإن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا وترك الحكم بينهم والنظر مثل الذي جعله الله لرسوله (ص) من ذلك في هذه الآية. وإنما قلنا: ذلك أولاهما بالصواب، لان القائلين أن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، وقد دللنا في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الاحكام أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالامرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذ حكمت بينهم باختيارك الحكم بينهم إذا اخترت ذلك ولم تختر الاعراض عنهم، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله أن له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلوما بذلك أن لا دلالة في قوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله أنه ناسخ قوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا، بل هو دليل على مثل الذي دل عليه قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط. وإذا لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الاخرى، ولا نفي أحد الامرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله (ص) خبر يصح بأن أحدهما ناسخ صاحبه، ولا من المسلمين على ذلك إجماع صح ما قلنا من أن كلا الامرين يؤيد أحدهما صاحبه ويوافق حكمه حكمه ولا نسخ في أحدهما للآخر. وأما قوله: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا فإن معناه: وإن تعرض يا محمد عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم، فلن يضروك شيئا، يقول: فلن يقدروا لك على ضر في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم.
[ 336 ]
وأما قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط فإن معناه: وإن اخترت الحكم والنظر يا محمد بين أهل العهد إذا أتوك، فاحكم بينهم بالقسط، وهو العدل، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكما في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا (ص). وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط قالا: إن حكم بينهم حكم بما في كتاب الله. حدثنا سفيان، قال: ثنا يزيد بن هاون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط قال: أمر أن يحكم فيهم بالرجم. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي في قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط قال: بالرجم. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بالقسط: بالعدل. حدثنا هناد، قال: ثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله: فاحكم بينهم بالقسط قال: أمر أن يحكم بينهم بالرجم. وأما قوله: إن الله يحب المقسطين فمعناه: إن الله يحب العاملين في حكمه بين الناس، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمر أنبياءه صلوات الله عليهم، يقال منه: أقسط الحاكم في حكمه إذا عدل وقضى بالحق يقسط إقساطا به. وأما قسط فمعناه: الجور، ومنه قول الله تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا يعني بذلك: الجائرين على الحق. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) *.. يعني تعالى ذكره: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود يا محمد بينهم، فيرضون بك حكما
[ 337 ]
بينهم، وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، التي يقرون بها أنها حق وأنها كتابي الذي أنزلته على نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك يتولون يقول: يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة علي وعصيانا لي. وهذا وإن كان من الله تعالى ذكره خطابا لنبيه (ص)، فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية، يقول لهم تعالى: كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد (ص) مع جحود نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجب جاءكم به موسى من عند الله ؟ يقول: فإذا كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذى تقرون بنبوته في كتابي فأنتم بترك حكمي الذى يخبركم به نبيي محمد أنه حكمي أحرى مع جحودكم نبوته ثم قال تعالى ذكره مخبر عن حال هألاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمة الزائلين عن محجة الحق وما أولئك بالمأمنين يقول ليس من فعل هذا الفعل: أي من تولى عن حكم الله الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه في خلقه بالذي صدق الله ورسوله فأقر بتوحيده ونبوة نبيه (ص) لان ذلك ليس من فعل أهل الايمان. وأصل التولي عن الشئ: الانصراف عنه كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: ثم يتولون من بعد ذلك قال: توليهم ما تركوا من كتاب الله. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وعندهم التوراة فيها حكم الله: أي بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم، ثم يتولون من بعد ذلك الآية. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال يعني الرب تعالى ذكره يعيرهم: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يقول الرجم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين
[ 338 ]
هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *.. يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا التوراة فيها بيان ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين، ونور يقول: وفيها جلاء ما أظلم عليهم وضياء ما التبس من الحكم. يحكم بها النبيون الذين أسلموا يقول: يحكم بحكم التوراة في ذلك: أي فيما احتكموا إلى النبي (ص) فيه من أمر الزانيين النبيون الذين أسلموا، وهم الذين أذعنوا الحكم الله وأقروا به. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبينا محمدا (ص) في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم، وفي تسويته بين دم قتلى النضير وقريظة في القصاص والدية، ومن قبل محمد من الانبياء يحكم بما فيها من حكم الله. كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا يعني النبي (ص). حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الاديان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: ثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك قال: فأتوا النبي (ص) وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت المدراس، فقام على الباب، فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من
[ 339 ]
زنى إذا أحصن ؟ قالوا: يحممم ويجبه ويجلد والتجبيه: أن يحمل الزانيان على حمار تقابل أقفيتهما، ويطاف بهما وسكت شاب، فلما رآه سكت ألظ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي (ص): فما أول ما ارتخص أمر الله ؟ قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زني رجل في أسرة من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا ترجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي (ص): فإنى أحكم بما في التوراة. فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا فكان النبي منهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: يحكم بها النبيون الذين أسلموا النبي (ص) ومن قبله من الانبياء يحكمون بما فيها من الحق. حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: يحكم بها النبيون الذين أسلموا يعني النبي (ص). للذين هادوا يعني اليهود، فاحكم بينهم ولا تخشهم. القول في تأويل قوله تعالى: والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان على ما أمر بالحكم به فيها مع النبيين الذين أسلموا، الربانيون والاحبار. والربانيون: جمع رباني، وهم العلماء الحكماء، البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم. والاحبار: هم العلماء. وقد بينا معنى الربانيين فيما مضى بشواهده، وأقوال أهل التأويل فيه. وأما الاحبار: فإنهم جمع حبر، وهو العالم المحكم للشئ، ومنه قيل لكعب: كعب الاحبار. وكان الفراء يقول: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الاحبار: حبر بكسر الحاء.
[ 340 ]
وكان بعض أهل التأويل يقول: عنى بالربانيين والاحبار في هذا الموضع: ابنا صوريا اللذان أقرا لرسول الله (ص) بحكم الله تعالى في التوراة على الزانيين المحصنين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كان رجلان من اليهود أخوان يقال لهما ابنا صوريا، وقد اتبعا النبي (ص) ولم يسلما، وأعطياه عهدا أن لا يسألهما عن شئ في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدهما ربيا، والآخر حبرا، وإنما اتبعا النبي (ص) يتعلمان منه. فدعاهما فسألهما، فأخبراه الامر كيف كان حين زنى الشريف وزنى المسكين، وكيف غيروه. فأنزل الله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا يعني: النبي (ص) والربانيون والاحبار: هما ابنا صوريا. للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا، فقال: والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الانبياء لليهود والربانيون من خلقه والاحبار. وقد يجوز أن يكون عني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التنزيل مسلمو الانبياء وكل رباني وحبر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنى به خاص من الربانيين والاحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها، فكل رباني وحبر داخل في الآية بظاهر التنزيل. وبمثل الذي قلنا في تأويل الاحبار قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: الربانيون والاحبار: قراؤهم وفقهاؤهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن: الربانيون والاحبار: الفقهاء والعلماء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الربانيون العلماء الفقهاء، وهم فوق الاحبار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: الربانيون: فقهاء اليهود، والاحبار: علماؤهم.
[ 341 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا سنيد بن داود، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: والربانيون والاحبار كلهم يحكم بما فيها من الحق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والاحبار: العلماء. وأما قوله: بما استحفظوا من كتاب الله فإن معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والاحبار يعني العلماء بما استودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة. والباء في قوله: بما استحفظوا من صلة الاحبار. وأما قوله: وكانوا عليه شهداء فإنه يعني أن الربانيين والاحبار بما استودعوا من كتاب الله يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسملوا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وكانوا عليه شهداء يعني الربانيين والاحبار هم الشهداء لمحمد (ص) بما قال أنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود فقضى بينهم بالحق. القول في تأويل قوله تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا. يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي وإمضائه عليهم على ما أمرت، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني، ولا تكتموا الرجم الذي جعلته حكما في التوراة على الزانيين المحصنين، ولكن اخشوني دون كل أحد من خلقي، فإن النفع والضر بيدي، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استحفظتم من كتابي. كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلا تخشوا الناس واخشون يقول: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت. وأما قوله: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا يقول: ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى أيها الاحبار عوضا خسيسا، وذلك هو الثمن القليل. وإنما
[ 342 ]
أراد تعالى ذكره نهيهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الاحكام التي بدلوها، طلبا منهم للرشا كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا قال: لا تأكلوا السحت على كتابي. وقال مرة أخرى، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قال: لا تأخذوا به رشوة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا: ولا تأخذوا طعما قليلا على أن تكتموا ما أنزلت. القول في تأويل قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه، وجعله حكما بين عباده فأخفاه، وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الاشراف بالقصاص وفي الادنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة فأولئك هم الكافرون يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه. هم الكافرون يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه وغطوه عن الناس وأظهروا لهم غيره وقضوا به لسحت أخذوه منهم عليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع. فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حرفوا كتاب الله وبدلوا حكمه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي (ص) في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكافرين كلها.
[ 343 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن القاسم، قال: ثنا أبو حيان، عن أبي صالح، قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون ليس في أهل الاسلام منها شئ، هي في الكفار. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون أحق هو ؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا. فقالوا: لا والله، ولكنك تعرف. قال: أنتم أولى بهذا مني لا أرى وإنكم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عمران بن حدير، قال: قعد إلى أبي مجلز نفر من الاباضية، قال: فقالوا له: يقول الله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون. قال أبو مجلز: إنهم يعملون ما يعملون يعني الامراء ويعلمون أنه ذنب. قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. قالوا: أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم. قال: أنتم أحق بذلك منا، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، وحدثنا ابن
[ 344 ]
وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: نعم الاخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة، ولتسلكن طريقهم قدر الشراك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، قال: قيل لحذيفة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، قال: سأل رجل حذيفة، عن هؤلاء الآيات: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون قال: فقيل: ذلك في بني إسرائيل ؟ قال: نعم الاخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مرة، ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة قال: هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في قيل اليهود الذي كان منهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، لاهل الكتاب كلهم لما تركوا من كتاب الله.
[ 345 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى أبو معاوية، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، قال: مر على النبي (ص) بيهودي محمم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد من زنى ؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم، فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال: لا، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حده في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع جميعا على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله (ص): اللهم أني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه. فأمر به فرجم، فأنزل الله: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر... إلى قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون يعني اليهود، فأولئك هم الظالمون يعني اليهود، فأولئك هم الفاسقون للكفار كلها. حدثني يونس بن عبد الاعلى، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: من حكم بكتابه الذي كتب بيده وترك كتاب الله وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي (ص)، نحو حديث القاسم، عن الحسن. غير أن هنادا قال في حديثه: فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شئ نقيمه على الشريف والضعيف فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. وسائر الحديث نحو حديث القاسم. حدثنا الربيع، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فقال عبيد الله: أما والله إن كثيرا من الناس يتأولون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلن عليه، وما أنزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال: هي قريظة والنضير وذلك أن إحدى الطائفتين كانت قد غزت الاخرى وقهرتها قبل قدوم
[ 346 ]
النبي (ص) المدينة، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مئة وسق. فأعطوهم فرقا وضيما. فقدم النبي (ص) وهم على ذلك، فذلت الطائفتان بمقدم النبي (ص)، والنبي (ص) لم يظهر عليهما. فبينما هما على ذلك أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا، فقالت العزيزة: أعطونا مائة وسق فقالت الذليلة: وهل كان هذا قط في حيين دينهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم ضعف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا فرقا منكم وضيما، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدا (ص) فتراضيا على أن يجعلوا النبي (ص) بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها، فخشيت أن لا يعطيها النبي (ص) من أصحابها ضعف ما تعطي أصحابها منها، فدسوا إلى النبي (ص) إخوانهم من المنافقين، فقالوا لهم: اخبروا لنا رأى محمد (ص)، فإن أعطانا ما نريد حكمناه، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه فذهب المنافق إلى النبي (ص)، فأعلم الله تعالى ذكره النبي (ص) ما أرادوا من ذلك الامر كله. قال عبيد الله: فأنزل الله تعالى ذكره فيهم: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر هؤلاء الآيات كلهن، حتى بلغ: وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه... إلى الفاسقون قرأ عبيد الله ذلك آية آية وفسرها على ما أنزل، حتى فرغ من تفسير ذلك لهم في الآيات، ثم قال: إنما عنى بذلك يهود، وفيهم أنزلت هذه الصفة. وقال بعضهم: عنى بالكافرين أهل الاسلام، وبالظالمين: اليهود، وبالفاسقين: النصارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، قال: نزلت الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. حدثنا ابن وكيع وأبو السائب، وواصل بن عبد الاعلى، قالوا: ثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: آية فينا، وآيتان في أهل الكتاب: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فينا وفيهم: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون والفاسقون في أهل الكتاب.
[ 347 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريا عنه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: هذا في المسلمين. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون قال: النصارى. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، قال في هؤلاء الآيات التي في المائدة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: فينا أهل الاسلام. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون قال: في اليهود. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون قال: في النصارى. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: نزلت الاولى في المسلمين، والثاني في اليهود، والثالثة في النصارى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن زكريا، عن الشعبي، بنحوه. حدثنا هناد، قال: ثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه. وقال آخرون: بل عنى بذلك: كفردون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله.
[ 348 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح بنحوه. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله. حدثني الحسن، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات: ومن لم يحكم بما أنزل الله فمن فعل هذا فقد كفر ؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وكذا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل ابن عباس عن قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال هي به كفر قال ابن طاووس به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل عن طاوس: فأولئك هم الكافرون قال كفر لا ينقل عن الملة قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهي مراد بها جميع الناس مسلموهم وكفارهم. ذكر من قال ذلك:
[ 349 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي لهذه الامة بها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: نزلت في بني إسرائيل، ورضي لكم بها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مصور، عن إبراهيم في هذه الآية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: نزلت في بني إسرائيل، ثم رضي بها لهؤلاء. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمن، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت. قال: فقالا: أفي الحكم ؟ قال: ذاك الكفر. ثم تلا هذه الآية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن لم يحكم بما أنزل الله يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا وجار وهو يعلم فهو من الكافرين. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، فأما الظلم والفسق فهو للمقر به ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. وأولى هذه الاقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لان ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى.
[ 350 ]
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا ؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس لانه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون) *.. يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله. ويعني بقوله: كتبنا: فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حق بالنفس، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة. والعين بالعين يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة، ويجدع الانف بالانف، ويقطع الاذن بالاذن، ويقلع السن بالسن، ويقتص من الجارح غيره ظلما للمجروح. وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) عن اليهود، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته وإدباره عنه بعد إقباله، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرون بها أنها كتابي ووحي إلى رسولي موسى (ص) فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قود، ومن فقأ عينا بغير حق فعينه بها مفقوأة قصاصا، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنا فسنه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتص منه مثل الجرح الذي جرحه، ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول: فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 351 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما رأت قريظة النبي (ص) قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة، فقالوا: يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم قبل قدوم النبي (ص)، وكانت النضير يتعززون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدية من وسوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة. فقال: دم القرضي وفاء من دمه النضيري. فغضب بنو النضير، وقالوا: لا نطيعك في الرجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت: أفحكم الجاهلية يبغون، ونزل: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص قال: فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقئون العينين بالعين ؟. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا خلاد الكوفي، قال: ثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك، قال: كان بين حيين من الانصار قتال، فكان بينهم قتلي، وكان لاحد الحيين على الآخر طول. فجاء النبي (ص)، فجعل يجعل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والمرأة بالمرأة فنزلت: الحر بالحر والعبد بالعبد. قال سفيان: وبلغني عن ابن عباس أنه قال: نسختها: النفس بالنفس. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قا: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فيها في التوراة، والعين بالعين حتى: والجروح قصاص قال مجاهد عن ابن عباس، قال: كان علي بني إسرائيل القصاص في القتلى، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره: وكتبنا عليهم فيها في التوراة، فخفف الله عن أمة محمد (ص)، فجعل عليم الدية في النفس والجراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن تصدق به فهو كفارة له. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين
[ 352 ]
بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص قال: إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سن، أو عين، أو أنف، إنما هو القصاص أو العفو. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وكتبنا عليهم فيها أي في التوراة، أن النفس بالنفس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وكتبنا عليهم فيها أي في التوراة، أن النفس بالنفس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... حتى بلغ: والجروح قصاص بعضها ببعض. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله أن النفس بالنفس قال يقول تقتل النفس بالنفس وتفقأ العين بالعين ويقطع الانف بالانف وتنزع السن بالسن وتقتص الجراح بالجراح فهذا يستوة فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساأهم إذا كان في النفس وما دون النفس ويستوى فيه العبيد رجالهم ونساأهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس: القول في تأويل قوله تعالى: فمن تصدق به فهو كفارة له. اختلف أهل التأويل في المعنى به: فمن تصدق به فهو كفارة له فقال بعضهم: عني بذلك المجروح وولى القتيل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهثيم بن الاسود، عن عبد الله بن عمرو: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: يهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الاسود، عن عبد الله بن عمرو بنحوه.
[ 353 ]
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الاسود أبي العريان، قال: رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى، وهو عبد الله بن عمرو، فقال في هذه الآية: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: يهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدق به. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: للمجروح. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: للمجروح. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن رجل قال حرمي: نسيت اسمه عن جابر بن زيد بمثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: للمجروح. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: دفع رجل من قريش رجلا من الانصار، فاندقت ثنيته، فرفعه الانصاري إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل، قال معاوية: شأنك وصاحبك قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من مسلم يصاب بشئ من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة. فقال له الانصاري: أنت سمعته من رسول الله (ص) ؟ قال: سمعته أذناني ووعاه قلبي. فخلى سبيل القرشي، فقال معاوية: مروا له بمال. حدثنا محمود بن خداش، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا مغيرة،
[ 354 ]
عن الشعبي، قال: قال ابن الصامت: سمعت رسول الله (ص) يقول: من جرح في جسده جراحة فتصدق بها، كفر عنه ذنوبه بمثل ما تصدق به. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: كفارة للمجروح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن زكريا، قال: سمعت عامرا يقول: كفارة لمن تصدق به. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فمن تصدق به فهو كفارة له يقول: لولي القتيل الذي عفا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان، قال: كنت بالشام، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى، قال: فمن تصدق به فهو كفارة له قال فمن تصدق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه. فإذا هو عبد الله بن عمرو. وقال آخرون: عنى بذلك الجارح، وقالوا معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قود أو قصاص على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم، كما القصاص منه كفارة له قالوا: فأما أجر العافي المتصدق فعلى الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: كفارة للجارح، وأجر الذي أصبب على الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال: سمعت مجاهدا يقول لابي إسحاق: فمن تصدق بهه فهو كفارة له يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق: للمتصدق. فقال مجاهد: للمذنب الجارح.
[ 355 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله. حدثنا هناد وسفيان بن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد: فمن تصدق به فهو كفارة له قالا: الذي تصدق عليه، وأجر الذي أصبيب على الله. قال هناد في حديثه، قالا: كفارة للذي تصدق به عليه. حدثنا هناد، قال: ثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر، قال: كفارة لمن تصدق به عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، قالا: كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفارة له. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: كفارة للجارح وأجر للعافي، لقوله: فمن عفا وأصلح فأجره على الله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: كفارة للمتصدق عليه. حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا خالد، قال: ثنا حصين، عن ابن عباس: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: هي كفارة للجارح. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فمن تصدق به فهو كفارة له قال: فالكفارة للجارح، وأجر المتصدق على الله.
[ 356 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، أنه كان يقول: فمن تصدق به فهو كفارة له يقول: للقاتل، وأجر للعافي. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق قال: ثنا عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت، قال: هتم رجل على عهد معاوية، فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثا فلم يقبل. فحدث رجل من أصحاب النبي (ص) أن رسول الله (ص)، قوله: فمن تصدق بدم فما دونه، كان كفارة له من يوم تصدق إلى يوم ولد. قال: فتصدق الرجل. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له يقول: من جرح فتصدق بالذي جرح به على الجارح، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه من أجل أنه تصدق عليه الذي جرح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني به: فمن تصدق به فهو كفارة له المجروح، فلان تكون الهاء في قوله له عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات. فإن ظن ظان أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتص منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما، لقول النبي (ص) إذا أخذ البيعة على أصحابه: أن لا تقتلوا ولا تزنوا ولا تسرقوا ثم قال: فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه حده، فهو كفارته. فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو ولي المقتول عنه نظيره في أن ذلك له كفارة فان ذلك لو وجب أن يكون كذلك لوجب أن يكون عفو المقذوف عن قاذفه بالزنا وتركه أخذه بالواجب له من الحد وقد قذفه قاذفه وهو عفيف مسلم محصن كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه،
[ 357 ]
ومعصيته التي أتاها، وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله. فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفه بالواجب له من الحد كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه. فإن قال قائل: أو ليس لمجروح عند أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له: بلى. فإن قال: أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها، أكانت له قبله في الآخرة تبعة ؟ قيل له: هذا كلام عندنا محال، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم. وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الاخذ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صح لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفو له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لان الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به، إن لم يتب من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحب أم سخط، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الاصرار. فإن ظن ظان أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفارة مع ندمه وبذله نفسه لاخذ الحق منها تنصلا من ذنبه، بخبر النبي (ص). فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يقض عليه بحد ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي (ص) وقوله: فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته. ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله (ص) من قوله: فمن تصدق بدم، وما أشبه ذلك من الاخبار التي قد ذكرناها قبل. وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير، الذي: حدثني به الحرث بن محمد، قال: ثنا ابن سلام، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب، قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون، فقال له: يا هذا أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنا بها.
[ 358 ]
وإذا كان الامر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله، فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة لان الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه، فإبراؤه منه كفارة له من حقه الذي كان له أخذه به، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه، لانه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحق به العقوبة من ربه لان الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم، فقال في كتابه: لا جناح عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم. وقد يراد في هذا الموضع بالدم: العفو عنه. القول في تأويل قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. يقول تعالى ذكره: ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قود النفس القائلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعض ولم يقد من بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، وإن من يفعل ذلك من الظالمين، يعني ممن جاء على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) *.. يعني تعالى ذكره بقوله: وقفينا على آثارهم أتبعنا، يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد، فبعثناه نبيا مصدقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنه حق وأن العمل بما لم ينسخه الانجيل منه فرض واجب. وآتيناه الانجيل يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه الانجيل. فيه هدى ونور يقول: في الانجيل هدى، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه، ونور يقول: وضياء من عمي الجهالة، ومصدقا لما بين يديه يقول: أوحينا إليه ذلك، وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أنزل إلى نبيها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب من تحليل ما حلل وتحريم ما حرم. وهدى وموعظة يقول: أنزلنا الانجيل إلى عيسى مصدقا للكتب التي قبله، وبيانا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين
[ 359 ]
في زمان عيسى وموعظة لهم، يقول: وزجرا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الاعمال، وتنبيها لهم عليه. والمتقون: هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله، وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل فأغني ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليحكم أهل الانجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *.. اختلفت القراء في قراءة قوله: وليحكم أهل الانجيل فقرأ قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: وليحكم بتسكين اللام على وجه الامر من الله لاهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأن من قرأ ذلك كذلك أراد: وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. فيكون في الكلام محذوف ترك استغناء بما ذكر عما حذف. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: وليحكم أهل الانجيل بكسر اللام من ليحكم، بمعنى: كي يحكم أهل الانجيل. وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وكي يحكم أهله بما فيه من حكم الله. والذي يتراءى في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأي ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه الصواب وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبي من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمر بالعمل بما فيه أهله. فكذلك الانجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمر بالعمل به أهله. فسواء قرئ على وجه الامر بتسكين اللام أو قرئ على وجه الخبر بكسرها لاتفاق معنييهما. وأما ما ذكر عن أبي بن كعب من قراءته ذلك: وإن أحكم على وجه الامر، فذلك مما لم يصح به النقل عنه، ولو صح أيضا لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورة، إذ كان معناها صحيحا، وكان المتقدمون من أئمة القراء قد قراءوا بها. وإذا كان الامر في ذلك ما بينا، فتأويل الكلام إذا قرئ بكسر اللام من ليحكم: وآتينا عيسى ابن مريم الانجيل، فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعطة للمتقين، وكى يحكم أهل الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدلوا حكمه وخالفوه، فضلوا بخلافهم إياه، إذا لم يحكموا بما
[ 360 ]
أنزل الله فيه وخالفوه. (فأولئك هم الفاسقون) يعنى: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه. فأما إذا قرئ بتسكين اللام، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذى أمرناهم به فيه هم الفاسقون. وكان ابن زيد يقول: الفاسقون في هذا الموضع وفي غيره: هم الكاذبون. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون قال: ومن لم يحكم من أهل الانجيل أيضا بذلك، فأولئك هم الفاسقون قال: الكاذبون بهذا. قال: وقال ابن زيد: كل شئ في القرآن إلا قليلا فاسق فهو كاذب وقرأ قول الله: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ قال: الفاسق ههنا: كاذب. وقد بينا معنى الفسق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *.. وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص)، يقول تعالى ذكره: وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب، وهو القرآن الذي أنزله عليه. ويعني بقوله: بالحق: بالصدق، ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله. مصدقا لما بين يديه من الكتاب يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه. ومهيمنا عليه يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله، وشهيدا عليها أنها حق من عند الله، أمينا
[ 361 ]
عليها، حافظا لها. وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال إذا رقب الرجل الشئ وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه، فقال بعضهم: معناه: شهيدا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ومهيمنا عليه يقول: شهيدا. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومهيمنا عليه قال: شهيدا عليه. حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب يقول: الكتب التي خلت قبله، ومهيمنا عليه: أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ومهيمنا عليه: مؤتمنا على القرآن وشاهدا ومصدقا. وقال ابن جريج وآخرون: القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. وقال بعضهم: معناه: أمين عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، وحدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع جميعا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا عليه. حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو الاحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله: ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
[ 362 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق بإسناده، عن ابن عباس، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ومهيمنا عليه قال: والمهيمن: الامين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب وهو القرآن، شاهد على التوراة والانجيل، مصدقا لهما. مهيمنا عليه يعني: أمينا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس: ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا عليه. حدثني المثنى، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير: ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا على ما قبله من الكتب. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسين،
[ 363 ]
عن قوله: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال: مصدقا لهذه الكتب وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع، فقال: مؤتمنا عليه. وقال آخرون: معنى المهيمن المصدق. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومهيمنا عليه قال: مصدقا عليه. كل شئ أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شئ ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق. وقال آخرون: عنى بقوله: مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه نبي الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومهيمنا عليه محمد (ص)، مؤتمن على القرآن. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومهيمنا عليه قال: محمد (ص)، مؤتمن على القرآن. فتأويل الكلام على ما تأوله مجاهد: وأنزلنا الكتاب مصدقا الكتب قبله إليك، مهيمنا عليه. فيكون قوله مصدقا حالا من الكتاب وبعضا منه، ويكون التصديق من صفة الكتاب، والمهيمن حالا من الكاف التي في إليك، وهي كناية عن ذكر اسم النبي (ص)، والهاء في قوله: عليه عائدة على الكتاب. وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق، فلا يكون إلا من صفة ماكان المصدق صفة له، ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد لقيل: وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه لانه متقدم من صفة الكاف التي في إليك، وليس بعدها شئ يكون مهيمنا عليه عطفا عليه، وإنما عطف به على المصدق، لانه من صفة الكتاب الذي من صفته المصدق. فإن ظن ظان أن المصدق على قول مجاهد وتأويله هذا من صفة الكاف التي في إليك، فإن قوله: لما بين يديه من الكتاب يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن يكون المصدق من صفة الكاف التي في إليك، لان الهاء في قوله: بين يديه كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي (ص) في قوله إليك، ولو كان المصدق من صفة الكاف لكان
[ 364 ]
الكلام: وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديك من الكتاب ومهيمنا عليه، فيكون معنى الكلام حينئذ كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل، بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم يا محمد بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي، في كل ما احتمكوا فيه إليك من الحدود والجروح والقود والنفوس، فارجم الزاني المحصن، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما، وافقأ العين بالعين، واجدع الانف بالانف، فإن أنزلت إليك القرآن مصدقا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنا عليه، رقيبا يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله. ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين يقولون: إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك، فاختر الحكم عليهم، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم وإيثارا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فاحكم بينهم بما أنزل الله يقول: بحدود الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهودي والنصراني بالله ثم قرأ: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأنزل الله: أن لا يشركوا به شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا.
[ 365 ]
يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا شرعة. والشرعة: هي الشريعة بعينها، تجمع الشرعة شراعا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لان معناها ومعنى الشريعة واحد، فيردها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شئ فهو شريعة، ومن ذلك قيل لشريعة الماء: شريعة، لانه يشرع منها إلى الماء، ومنه سميت شرائع الاسلام شرائع، لشروع أهله فيه، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشئ: هم شرع سواء. وأما المنهاج، فإن أصله: الطريق البين الواضح، يقال منه: هو طريق نهج ومنهج بين، كما قال الراجز: من يك في شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج ثم يستعمل في كل شئ كان بينا واضحا المعنى يعمل به. ثم اختلف أهل التأويل في سهلا، فمعنى بقوله: لكل جعلنا منكم فقال بعضهم: عني بذلك أهل الملل المختلفة، أي أن الله جعل لكل ملة شريعة ومنهاجا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يقول سبيلا وسنة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللانجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والاخلاص لله الذي جاءت به الرسل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال: الدين واحد، والشريعة مختلفة. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا
[ 366 ]
سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي، قال: الايمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم (ص) شهادة أن لا إله إلا الله، والاقرار بما جاء من عند الله، لكل قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقر تاركا ولكنه مطيع. وقال آخرون: بل عني بذلك أمة محمد (ص). وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمد (ص) أيها الناس لكلكم: أي لكل من دخل في الاسلام وأقر بمحمد (ص) أنه لي نبي، شرعة ومنهاجا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال: سنة ومنهاجا السبيل لكلكم، من دخل في دين محمد (ص)، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا، يقول: القرآن هو له شرعة ومنهاج. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم أيها الامم جعلنا شرعة ومنهاجا. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لقوله: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولو كان عني بقوله: لكل جعلنا منكم أمة محمد وهم أمة واحدة، لم يكن لقوله: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم، ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد (ص) أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها. ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الانبياء قبله، وأنزل عليه الانجيل، وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبينا محمدا (ص)، وأخبرها أنه أنزل إليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولامته شريعة غير شرائع الانبياء والامم قبله الذين قص عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والاقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا، فهم مختلفو الاحوال فيما شرع لكل واحد منهم، ولامته فيما أحل لهم وحرم عليهم. وبنحو الذي قلنا في الشرعة والمنهاج من التأويل قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 367 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال: سنة وسبيلا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال: سنة وسبيلا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي شيبان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثاب، قال: سألت ابن عباس عن قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال: سنة وسبيلا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: شرعة ومنهاجا قال: سنة وسبيلا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يعني: سبيلا وسنة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، قال: سمعت الحسن يقول: الشرعة: السنة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، قال: سنة وسبيلا. حدثني محمد عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكله: شرعة ومنهاجا قال: الشرعة: السنة، ومنهاجا، قال: السبيل.
[ 368 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يقول: سبيلا وسنة. حدثني المثنى، قال: ثنا الحوضي، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس بنحوه. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: شرعة ومنهاجا يقول: سبيلا وسنة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: السنة والسبيل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يقول: سبيلا وسنة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرني عبيد بن سلمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله شرعة ومنهاجا قال: سبيلا وسنة. القول في تأويل قوله تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربكم لجعل بشرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الامم الاخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدة، لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم. ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين بشرائعكم ليختبركم فيعرف المطيع منكم من العاصي والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه (ص) من المخالف. والابتلاء: هو الاختبار، وقد ثبت ذلك بشواهده فيما مضى قبل. وقوله فيما آتاكم يعني: فيما أنزل عليكم من الكتب. كما:
[ 369 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ولكن ليبلوكم فيما آتاكم قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا قال: ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب. فإن قال قائل: وكيف قال: ليبلوكم فيما آتاكم، ومن المخاطب بذلك، وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لكل نبي مع الانبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا (ص)، والمخاطب النبي وحده ؟ قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا (ص)، فإنه قد أريد به الخبر عن الانبياء قبله وأممهم، ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. القول في تأويل قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس إلى الصالحان من الاعمال والقرب إلى ربكم بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء، ليتبين المحسن منكم من المسئ، فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه، فإن مصيركم إليه جميعا، فيخبر كل فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الاخرى، فيفصل بينهم بفصل القضاء، ويبين المحق بمجازاته إياه بجناته من المسئ بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانا، المحق منهم من المبطل. فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون ؟ فقيل: إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والادلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانا، فمصدق بذلك ومكذب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم، فكذلك خبره تعالى ذكره أنه يبنئنا عند المرجع إليه بما كنا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعا، فتعرفون المحق حينئذ من المبطل منكم. كما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا زيد بن حباب، عن أبي سنان، قال: سمعت الضحاك يقول: فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا قال: أمة محمد (ص) البر والفاجر. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 370 ]
(وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون) *.. يعني تعالى ذكره بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب، مصدقا لما بين يديه من الكتاب، وأن احكم بينهم ف أن في موضع نصب بالتنزيل. ويعني بقوله: بما أنزل الله: بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه. وأما قوله: ولا تتبع أهواءهم فإنه نهي من الله نبيه محمدا (ص) أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجريهم، وأمر منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه. وقوله: واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاأك محتكمين إليك أن يفتنوك، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم. وقوله: فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم يقول تعالى ذكر: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم، وقضيت فيهم، فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، يقول: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بالحق إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم. وإن كثيرا من الناس لفاسقون يقول: وإن كثيرا من اليهود لفاسقون، يقول: لتاركوا العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا ياوشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا
[ 371 ]
خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك فأبي رسول الله (ص)، فأنزل الله فيهم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك... إلى قوله: لقوم يوقنون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك قال: أن يقولوا في التوراة كذا، وقد بينا لك ما في التوراة. وقرأ: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص بعضها ببعض. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: دخل المجوس مع أهل الكتاب في هذه الآية: وأن احكم بينهم بما أنزل الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *.. يقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك فلم يرضوا بحكمك، وقد حكمت فيهم بالقسط حكم الجاهلية، يعني أحكام عبدة الاوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وإنه الحق الذي لا يجوز خلافه. ثم قال تعالى ذكره موبخا لهؤلاء الذين أبوا قبول حكم رسول الله (ص) عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلهم ذلك منهم: ومن هذا الذي هو أحسن حكما أيها اليهود من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله ويقر بربوبيته، يقول تعالى ذكره: أي حكم أحسن من حكم الله إن كنتم موقنين أن لكم ربا وكنتم أهل توحيد وإقرار به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أفحكم الجاهلية يبغون قال: يهود. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أفحكم الجاهلية يبغون: يهود. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا شيخ، عن مجاهد: أفحكم الجاهلية يبغون قال: يهود. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 372 ]
(يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *.. اختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين، فقال بعضهم: عنى بذلك: عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبى ابن سلول في براءة عبادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله (ص)، وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، قال: جاء عبادة ابن الصامت من بني الحرث بن الخزرج إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله (ص) لعبد الله ابن أبي: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه. قال: قد قبلت. فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض... إلى قوله: فترى الذين في قلوبهم مرض. حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لاوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك ابن صيف: غركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة: يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاء يهود، إني رجل لا بد لي منهم. فقال رسول الله (ص): يا أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك
[ 373 ]
دونه. قال: إذا أقبل. فأنزل الله تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض... إلى أن بلغ إلى قوله: والله يعصمك من الناس. حدثنا هناد، قال: ثنا يونس، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة ابن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله (ص)، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله (ص)، وكان أحد بني عوف بن الخزرج من له حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله (ص)، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض... الآية. وقال آخرون: بل عنى بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عصما، فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم قال: لما كانت وقعة أحد، اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بدهلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود. وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأنتصر معه. فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. وقال آخرون: بل عني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد أنه الذبح. ذكر من قال ذلك:
[ 374 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم قال: بعث رسول الله (ص) أبا لبابة بن عبد المنذر من الاوس، وهو من بني عمرو بن عوف، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الايمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بدهلك اليهودي والآخر بنصراني بالشأم، ولم يصح بواحد من هذه الاقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجة فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل. فإذ كان ذلك كذلك فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى، خوفا على نفسه من دوائر الدهر، لان الآية التي بعد هذه تدل على ذلك، وذلك قوله: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة... الآية. وأما قوله: بعضهم أولياء بعض فإنه عنى بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرفا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليا فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حرب، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضا بعضكم أولياء بعض، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء لان من والاهم فقد أظهر لاهل الايمان الحرب ومنهم البراءة، وأبان قطع ولايتهم. القول في تأويل قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم. يعني تعالى ذكره بقوله: ومن يتولهم منكم فإنه منهم ومن يتول اليهود والنصارى
[ 375 ]
دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم بأحكام نصارى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم ورضاهم بملتهم ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لانسابهم مخالفة وأصل دينهم لاصل دينهم مفارقا. وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين كانت دينونته به قبل مجئ الاسلام أو بعده، إلا أن يكون مسلما من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها، فإنه لا يقر على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردته عن الاسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحق، وفساد ما خالفه من قول من زعم أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ممن لم يكن منهم ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالف. ذكر من قال بما قلنا من التأويل: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب، فقرأ: ومن يتولهم منكم فإنه منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم ولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم أنها في الذبائح، من دخل في دين قوم فهو منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوجوا من نسائهم، فإن الله يقول في كتابه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم.
[ 376 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، قال: كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسا، وكان يتلو هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هارون بن إبراهيم، قال: سئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره من نصارى يتخذونها بيعة، قال: فتلا هذه الآية: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله لا يهدى القوم الظالمين. يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين، وكان لهم ظهيرا ونصيرا، لان من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب. وقد بينا معنى الظلم في غير هذا الموضع وأنه وضع الشئ في غير موضعه بما أغنى إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على مآ أسروا في أنفسهم نادمين) *.. اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها عبد الله بن أبي بن سلول. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد: فترى الذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبي، يسارعون فيهم في ولايتهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة... إلى آخر الآية فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
[ 377 ]
حدثنا هناد، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: فترى الذين في قلوبهم مرض يعني: عبد الله بن أبي، يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة لقوله: إني أخشى دائرة تصيبني. وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من المنافقين كانوا يناصحون اليهود ويغشون المؤمنين ويقولون: نخشي أن تكون دائرة لليهود على المؤمنين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم قال: المنافقون في مصانعة يهود ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادهم إياهم. وقول الله تعالى ذكره: نخشى أن تصيبنا دائرة قال: يقول: نخشى أن تكون الدائرة لليهود. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فترى الذين في قلوبهم مرض... إلى قوله: نادمين: أناس من المنافقين كانوا يودون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: فترى الذين في قلوبهم مرض قال: شك يسارعون فيهم نخشى أن تصيبنا دائرة والدائرة: ظهور المشركين عليهم. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويغشون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر، إما لليهود والنصارى، وإما لاهل الشرك من عبدة الاوثان أو غيرهم على أهل الاسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلة، فيكون بنا إليهم حاجة. وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين. فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمد الذين في قلوبهم مرض وشك إيمان بنبوتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك يسارعون فيهم يعني في اليهود والنصارى. ويعني
[ 378 ]
بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم. يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدونا. ويعني بالدائرة: الدولة، كما قال الراجز: ترد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا يعني: أن تدول للدهر دولة فنحتاج إلى نصرتهم إيانا، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. القول في تأويل قوله تعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. يعني تعالى ذكره بقوله: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فلعل الله أن يأتي بالفتح. ثم اختلفوا في تأويل الفتح في هذا الموضع، فقال بعضهم،: عني به ههنا القضاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فعسى الله أن يأتي بالفتح قال: بالقضاء. وقال آخرون: عني به فتح مكة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فعسى الله أن يأتي بالفتح قال: فتح مكة. والفتح في كلام العرب: هو القضاء كما قال قتادة، ومنه قول الله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق. وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعد الله نبيه محمدا (ص) بقوله: فعسى الله أن يأتي بالفتح فتح مكة، لان ذلك كان من عظيم قضاء الله وفصل حكمة بين أهل الايمان والكفر، ويقرر عند أهل الكفر والنفاق أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. وأما قوله: أو أمر من عنده فإن السدي كان يقول في ذلك ما:
[ 379 ]
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، السدي: أو أمر من عنده قال: الامر: الجزية. وقد يحتمل أن يكون الامر الذي وعد الله نبيه محمدا (ص) أن يأتي به، هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. غير أنه أي ذلك كان فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرهم وذلك أن الله تعالى قد أخبر عنهم أن ذلك الامر إذا جاء أصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. وأما قوله: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين فإنه يعني: هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى، يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمر من عنده يديل به المؤمنين على الكافرين اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من مخالة اليهود والنصارى ومودتهم وبغضة المؤمنين ومحادتهم نادمين. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين من موادتهم اليهود، ومن غشهم للاسلام وأهله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) *.. اختلف القراء في قراءة قوله: ويقول الذين آمنوا فقرأتها قراء أهل المدينة: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله بغير واو. وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده، على ما أسروا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنين تعجبا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله: أهؤلاء الذين أقسموا لنا بالله إنهم لمعنا وهم كاذبون في أيمانهم لنا وهذا المعنى قصد مجاهد في تأويله ذلك الذي: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 380 ]
مجاهد: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده حينئذ، يقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أفسموا بالله جهد إيمانهم، إنهم لمعكم، حبطت أعمالهم فأصحوا خاسرين. كذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير واو. وقرأ ذلك بعض البصريين: ويقول الذين آمنوا بالواو، ونصب يقول عطفا به على فعسى الله أن يأتي بالفتح. وذكر قارئ ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى يقول الذين آمنوا. ومحال غير ذلك، لانه لا يجوز أن يقال: وعسى الله أن يقول الذين آمنوا، وكان يقول: ذلك نحو قولهم: أكلت خبزا ولبنا، وكقول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين، وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ: هؤلاء الذين أقسموا بالله كذبا جهد أيمانهم إنهم لمعكم. وهي في مصاحف أهل العراق بالواو: ويقول الذين آمنوا. وقرأ ذلك قراء الكوفيين: ويقول الذين آمنوا بالواو ورفع يقول بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب. وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم يندمون، ويقول الذين آمنوا فيبتدئ يقول فيرفعها. وقراءتنا التي نحن عليها: ويقول بإثبات الواو في: ويقول، لانها كذلك هي في مصاحفنا مصاحف أهل الشرق بالواو، وبرفع يقول على الابتداء. فتأويل الكلام إذ كان القراءة عندنا على ما وصفنا: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين، ويقول المؤمنون: أهؤلاء الذين حلفوا لنا بالله جهد أيمانهم كذبا إنهم لمعنا. يقول الله تعالى ذكره مخبرا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم: حبطت أعمالهم يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا لا ثواب لها ولا أجر، لانهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرض واجب ولا على صحة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرها إذ لم تكن له فأصبحوا خاسرين يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون عند مجئ أمر
[ 381 ]
الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر قد وكسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم وهلكوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) *.. يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: يا أيها الذين آمنوا: أي صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد (ص) من يرتد منكم عن دينه يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم، فيبدله ويغيرة بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يقول: فسوف يجئ الله بدلا منهم المؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله. وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد (ص)، وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذا الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه ولا يرتد. فلما قبض الله نبيه (ص) ارتد أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة قال محمد: وما هي أيها الامير ؟ قال: قول الله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه... حتى بلغ: ولا يخافون لومة لائم. فقال محمد: أيها الامير، إنما عنى الله بالذين آمنوا: الولاة من قريش، من يرتد عن الحق. ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم، فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه. ذكر من قال ذلك:
[ 382 ]
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا حفص بن غياث، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن في قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا عبد بن سليمان، عن جويبر، عن سهل، عن الحسن في قوله: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: أبو بكر وأصحابه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين بن علي، عن أبي موسى، قال: قرأ الحسن: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: هي والله لابي بكر وأصحابه. حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا أحمد بن بشير، عن هشام، عن الحسن في قوله: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه. حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم قال: هو أبو بكر وأصحابه، لما ارتد من ارتد من العرب عن الاسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الاسلام. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه... إلى قوله: والله واسع عليم أنزل الله هذه الآية، وقد علم أن سيرتد مرتدون من الناس. فلما قبض الله نبيه محمدا (ص)، ارتد عامة العرب عن الاسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس قالوا: نصلي ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا فكلم أبو بكر في ذلك، فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا، أعطوها وزادوها. فقال: لا والله، لا أفرق بين شئ جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله (ص)، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا
[ 383 ]
عن الاسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون وهي الزكاة صغرة أقمياء. فأتته وفود العرب، فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم، أن يستعدوا أن قتلاهم في النار وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال ابن جريج: ارتدوا حين توفي رسول الله (ص)، فقاتلهم أبو بكر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هشام، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه قال: علم الله المؤمنين، وأوقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا، قال: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله المرتدة عن دينهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه. وقال آخرون: يعني بذلك قوما من أهل اليمن. وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الاشعري: عبد الله بن قيس. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الاشعري، قال: لما نزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: أومأ رسول الله (ص) إلى أبي موسى بشئ كان معه، فقال: هم قوم هذا.
[ 384 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضا يحدث عن أبي موسى، أن النبي (ص) قرأ هذه الآية: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: يعني قوم أبي موسى. حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، عن شعبة قال أبو السائب، قال أصحابنا هو عن سماك بن حرب، وأنا لا أحفظ سماكا عن عياض الاشعري، قال رسول الله (ص): هم قوم هذا يعني أبا موسى. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن سماك، عن عياض الاشعري، قال النبي (ص) لابي موسى: هم قوم هذا في قوله: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضا الاشعري يقول: لما نزلت: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله (ص): هم قومك يا أبا موسى، مأو قال: هم قوم هذا يعني أبا موسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو سفيان الحميري، عن حصين، عن عياض أو ابن عياض: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال: هم أهل اليمن. حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان، قال: ثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد، قال: لما أنزل الله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه... إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم يا رسول الله ؟ قال: لا بل هذا وقومه يعني أبا موسى الاشعري. وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: يحبهم ويحبونه قال: أناس من أهل اليمن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 385 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، قال: هم قوم سبأ. حدثنا مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا أبو داود، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرني من سمع شهر بن حوشب، قال: هم أهل اليمن. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما وهو أمير المدينة يسأله عن ذلك، فقال محمد: يأتي الله بقوم، وهم أهل اليمن. قال عمر: يا ليتني منهم قال: آمين وقال آخرون: هم أنصار رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يزعم أنهم الانصار. وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الردة بعد رسول الله (ص): يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هشام، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم قال: يقول: فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم، بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه. وأما على قول من قال: عني بذلك: أهل اليمن فإن تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانا لهم وأنصارا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح،
[ 386 ]
عن علي بن أبي طلحية، عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه... الآية وعيد من الله أنه من ارتد منكم أنه سيستبدل خيرا منهم. وأما على قول من قال: عني بذلك الانصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوله أنه عني به أبو بكر وأصحابه. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله (ص) أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الاشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله (ص) بالخبر الذي روي عنه ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه وذلك أنه لم يقاتل قوما كانوا أظهروا الاسلام على عهد رسول الله (ص) ثم ارتدوا على أعقابهم كفارا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله (ص)، ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي روي فيه عن رسول الله (ص)، أن كان (ص) معدن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآي كتابه. فإن قال لنا قائل: فإن كان القوم الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من ارتد عن دينه ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله (ص)، هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر أهل الردة أعوان أبي بكر على قتالهم، حتى تستجيز أن توجه تأويل الآية إلى ما وجهت إليه ؟ أم لم يكونوا أعوانا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خلف لوعد الله ؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعد المؤمنين أن يبدلهم بالمرتدين منهم يومئذ خيرا من المرتدين لقتال المرتدين، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخير منهم بدلا منهم، يعد فعل ذلك بهم قريبا غير بعيد، فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الاسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الاسلام وأنفع لهم ممن كان ارتد بعد رسول الله (ص) من طعام الاعراب وجفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الاسلام كلا. لا تفعا واختلفت القراء في قراءة قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فقرأته قراء أهل المدينة: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه بإظهار التضعيف بدالين
[ 387 ]
مجزومة الدال الآخرة، وكذلك ذلك في مصاحفهم. وأما قراء أهل العراق فإنهم قرءوا ذلك: من يرتد منكم عن دينه بالادغام بدال واحدة وتحريكها إلى الفتح بناء على التثنية، لان المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد إذا ثني أدغم، ويقال للواحد: اردد يا فلان إلى فلان حقه، فإذا ثني قيل: رد إليه حقه، ولا يقال: ارددا. وكذلك في الجمع ردوا، ولا يقال: ارددوا. فتبني العرب أحيانا الواحد على الاثنين، وتظهر أحيانا في الواحد التضعيف لسكون لام الفعل، وكلتا اللغتين فصيحة مشهورة في العرف. والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق بدال واحدة مشددة بترك إظهار التضعيف وبفتح الدال للعلة التي وصفت. القول في تأويل قوله تعالى: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. يعني تعالى ذكره بقوله: أذلة على المؤمنين: أرقاء عليهم رحماء بهم، من قول القائل: ذل فلان لفلان: إذا خضع له واستكان. ويعني بقوله: أعزة على الكافرين: أشداء عليهم غلظاء بهم، من قول القائل: قد عزني فلان: إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغلظة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سفيان بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: أذلة على المؤمنين: أهل رقة على أهل دينهم، أعزة على الكافرين: أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يعني بالذلة: الرحمة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، في قوله: أذلة على المؤمنين قال: رحماء بينهم، أعزة على الكافرين قال: أشداء عليهم.
[ 388 ]
حدثنا الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: قال سفيان: سمعت الاعمش يقول في قوله: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين: ضعفاء على المؤمنين. القول في تأويل قوله تعالى: يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. يعني تعالى ذكره بقوله: يجاهدون في سبيل الله هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتد منهم مرتد بدلا منهم، يجاهدون في قتال أعداء الله، على النحو الذي أمر الله بقتالهم والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوهم، فذلك مجاهدتهم في سبيل الله. ولا يخافون لومة لائم يقول: ولا يخافون في ذات الله أحدا، ولا يصدهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم لومة لائم لهم في ذلك. وأما قوله: ذلك فضل الله فإنه يعني: هذا النعت الذي نعتهم به تعالى ذكره من أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، فضل الله الذي تفضل به عليهم، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، منة عليه وتطولا. والله واسع يقول: والله جواد بفضله على من جاد به عليه، لا يخاف نفاد خزائنه فيكف من عطائه. عليم بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلا لمن استحقه ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضره. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) *.. يعني تعالى ذكره بقوله: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلا الله ورسوله والمؤمنون، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نصراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من ولاية يهود بني قينقاع وحلفهم إلى رسول الله (ص) والمؤمنين. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الصامت، قال: لما
[ 389 ]
حاربت بنو قينقاع رسول الله (ص)، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله (ص)، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه نزلت: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون لقول عبادة: أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرئه من بني قينقاع وولايتهم. إلى قوله: فإن حزب الله هم الغالبون. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، قال: جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله. وأما قوله: والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني به، فقال بعضهم: عني به علي بن أبي طالب. وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم، فقال: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتمه. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر، قال: سألته عن هذه الآية: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون قلنا: من الذين آمنوا ؟ قال: الذين آمنوا قلنا: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال علي من الذين آمنوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن عبد الملك، قال: سألت أبا جعفر، عن قول الله: إنما وليكم الله ورسوله، وذكر نحو حديث هناد عن عبدة.
[ 390 ]
حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا قال: علي بن أبي طالب. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا غالب بن عبيد الله، قال: سمعت مجاهدا يقول في قوله: إنما وليكم الله ورسوله... الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *.. وهذا إعلام من الله تعالى ذكره عباده جميعا، الذين تبرءوا من اليهود وحلفهم رضا بولاية الله ورسوله والمؤمنين، والذين تمسكوا بحلفهم، وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم، بأن من وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادهم، لانهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون دون حزب الشيطان. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أخبرهم يعني الرب تعالى ذكره من الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون والحزب: هم الانصار. ويعني بقوله: فإن حزب الله: فإن أنصار الله، ومنه قول الراجز: (وكيف أضوى وبلال حزبي) يعني بقوله أضوى: أستضعف وأضام، من الشئ الضاوي. ويعني بقوله: وبلال حزبي، يعني ناصري. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 391 ]
(يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) *.. يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد (ص): يا أيها الذين آمنوا: أي صدقوا الله ورسوله، لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والانبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا (ص) ومن قبل نزول كتابنا أولياء. يقول: لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء، فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة. وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا الدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الايمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يبدي بلسانه الايمان قولا وهو للكفر مستبطن، تلعبا بالدين واستهزاء به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس. حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحرث قد أظهرا الاسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله فيهما: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء... إلى قوله: والله أعلم بما كانوا يكتمون. فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من أن اتخاذ من اتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما كان بالنفاق منهم وإظهارهم للمؤمنين الايمان واستبطانهم الكفر وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلو بهم: إنا معكم. فنهى الله عن
[ 392 ]
موادتهم ومحالفتهم، والتمسك بحلفهم والاعتداء بهم أولياء، وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا، وفي دينهم طعنا وعليه إزراء. وأما الكفار الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء فإنهم المشركون من عبدة الاوثان نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الاوثان وسائر أهل الكفر أولياء دون المؤمنين. وكان ابن مسعود فيما: حدثني به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن ابن مسعود، يقرأ: من الذين أتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا. ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأولناه في ذلك. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة: والكفار أولياء بخفض الكفار، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفار أولياء. وكذلك ذلك في قراءة أبي بن كعب فيما بلغنا: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء. وقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: والكفار أولياء بالنصب، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا والكفار، عطفا بالكفار على الذين اتخذوا. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا المعنى صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب لان النهي عن اتخاذ ولي من الكفار نهي عن اتخاذ جميعهم أولياء، والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء نهي عن اتخاذ بعضهم وليا. وذلك أنه غير مشكل على أحد من أهل الاسلام أن الله تعالى ذكره إذا حرم اتخاذ ولي من المشركين على المؤمنين، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء، ولا إذا حرم اتخاذ جميعهم أولياء أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم طلب الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب لما ذكرنا من العلة. وأما قوله: واتقوا الله إن كنتم مؤمنين فإنه يعني: وخافوا الله أيها المؤمنون في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار أن تتخذوهم
[ 393 ]
أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدمه إليكم بالنهي عنه إن كنتم تؤمنون بالله وتصدقونه على وعيده على معصيته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) *.. يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم أيها المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عقلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب ما فعلوه. وقد ذكر عن السدي في تأويله ما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: حرق الكاذب فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة، فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) *.. يقول تعالى ذكره لنبيه (ص): قل يا محمد لاهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا حتى تستهزءوا بديننا إذا أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوا ولعبا، إلا أن آمنا بالله يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا. وأن أكثركم فاسقون يقول: إلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه. والعرب تقول: نقمت عليك كذا أنقم وبه قرأ القراء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم ونقمت أنقم لغتان، ولا نعلم قارئا قرأ بها بمعنى وجدت وكرهت، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات:
[ 394 ]
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله (ص) نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ قال: أو من بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون. عطفا بها على أن التي في قوله: إلا أن آمنا بالله لان معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وفسقكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل) *.. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار: هل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشر من ثواب ما تنقمون منا من إيماننا بالله، وما أنزل إلينا من كتاب الله، وما أنزل من قبلنا من كتبه ؟
[ 395 ]
غير أن العين لما سكنت، نقلت حركتها إلى الفاء، وهي الثاء من مثوبة، فخرجت مخرج مقولة، ومحورة، ومضوفة، كما قال الشاعر: وكنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قل هل أنبئكم بشر من ذلك متوبة عند الله يقول: ثوابا عند الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله قال: المثوبة: الثواب، مثوبة، مثوبة الخير ومثوبة الشر، وقرأ: شر ثوابا. وأما من في قوله: من لعنه الله فإنه في موضع خفض ردا على قوله: بشر من ذلك. فكأن تأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله بمن لعنه الله. ولو قيل هو في موضع رفع لكان صوابا على الاستئناف، بمعنى: ذلك من لعنه الله، أو هو من لعنه الله. ولو قيل هو في موضع نصب لم يكن فاسدا، بمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله، فيجعل أنبئكم على ما في من واقعا عليه. وأما معنى قوله: من لعنه الله فإنه يعني: من أبعده الله وأسحقه من رحمته وغضب عليه. وجعل منهم القردة والخنازير يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المسوخ القردة والخنازير، غضبا منه عليهم وسخطا، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا. وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم قردة فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا.
[ 396 ]
وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الانصاري، قال: حدثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها ملك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أن تلك المرأة كانت على بقية من الاسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها، قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة فخرجت وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله، حتى إذا اجتمع إليها رجال استجابوا لها، أمرتهم بالخروح، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعا، وانفلتت من بينهم. فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله لو كان لهذا الدين ولي وناصر لقد أظهره بعد قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازير قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعز دينه وأمر دينه قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وجعل منهم القردة والخنازير قال: مسخت من يهود. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه سنذكره في موضعه إن شاء الله. القول في تأويل قوله تعالى: وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء الحجاز والشام والبصرة وبعض الكوفيين: وعبد الطاغوت بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى: عابد، فجعل عبد فعلا ماضيا من صلة المضمر، ونصب الطاغوت بوقوع عبد عليه.
[ 397 ]
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: وعبد الطاغوت بفتح العين من عبد وضم بائها وخفض الطاغوت بإضافة عبد إليه، وعنوا بذلك: وخدم الطاغوت. حدثني بذلك المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثني حمزة، عن الاعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: وعبد الطاغوت يقول: خدم. قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرؤها. حدثني ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن الاعمش أنه كان يقرؤها كذلك. وكان الفراء يقول: إن يكن فيه لغة مثل حذر وحذر، وعجل وعجل، فهو وجه والله أعلم. وإلا فإن أراد قول الشاعر: أبني لبيني إن أمكم أمة وإن أباكم عبد فإن هذا من ضرورة الشعر. وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأما في القراءة فلا. وقرأ ذلك آخرون وعبد الطاغوت ذكر ذلك عن الاعمش، وكأن من قرأ ذلك كذلك أراد جمع الجمع من العبد، كأنه جمع العبد عبيدا، ثم جمع العبيد عبدا، مثل ثمار وثمر. وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه يقرؤه: وعبد الطاغوت. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: كان أبو جعفر النحوي يقرؤها: وعبد الطاغوت كما يقول: ضرب عبد الله. قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لان الله تعالى إنما ابتدأ الخبر بذم أقوام، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجه إليه من الصحة. وذكر أن بريدة الاسلمي كان يقرؤه: وعابد الطاغوت.
[ 398 ]
حدثني بذلك المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرؤه كذلك. ولو قرئ ذلك: وعبد الطاغوت، بالكسر كان له مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القراء بخلافها ووجه جوازها في العربية أن يكون مرادا بها وعبدة الطاغوت، ثم حذفت الهاء من العبدة للاضافة، كما قال الراجز: (قام ولاها فسقوهخ صرخدا) يريد: قام ولاتها، فحذف التاء من ولاتها للاضافة. وأما قراءة القراء فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما، وهو: وعبد الطاغوت بنصب الطاغوت وإعمال عبد فيه، وتوجيه عبد إلى أنه فعل ماض من العبادة. والآخر: عبد الطاغوت على مثال فعل، وخفض الطاغوت بإضافة عبد إليه. فإذا كانت قراءة القراء بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الاوجه التي هي أصح مخرجا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة قراءة من قرأ ذلك: وعبد الطاغوت بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت لانه ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: وجعل منهم القردة والخنازير وعبد والطاغوت بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت. ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومن عبد الطاغوت، وأن النصب بالطاغوت أولى على ما وصفت في القراءة لاعمال عبد فيه، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شئ في من والذي المضمرين مع من وفي إذا كفت من أو في منهما، ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه: وعبد الطاغوت، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز. وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح، فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة وهم مع
[ 399 ]
استقباحهم ذلك في الكلام قد اختاروا القراءة بها، وإعمال وجعل في من وهي محذوفة مع من ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شئ مما جاءت به مجمعة عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا، فهم لا يتناكرونه، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما. وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله: من لعنه، وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. وقد بينا معنى الطاغوت فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. وأما قوله: أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل فإه يعني بقوله: أولئك: هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصف صفتهم، فقال: من لعنه الله، وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، وعبد الطاغوت وكل ذلك صفة اليهود من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم شر مكانا في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب وبما أنزل إلى من قبلهم من الانبياء، وأضل عن سواء السبيل يقول تعالى ذكره: وأنتم مع ذلك أيها اليهود، أشد أخذا على غير الطريق القويم، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم. وهذا من لحن الكلام، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابا منه لهم بذلك تعريضا بالجميل من الخطاب، ولحن لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، وعلم نبيه (ص) من الادب أحسنه، فقال له: قل لهم يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزءون منهم شر أم من لعنه الله ؟ وهو يعني المقول ذلك لهم. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 400 ]
(وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون) *.. يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا لكم: آمنا: أي صدقنا بما جاء به نبيكم محمد (ص)، واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبا التصديق لكم بألسنتهم. وقد خرجوا به يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفي على الله جهلا منهم بالله. والله أعلم بما كانوا يكتمون يقول: والله أعلم بما كانوا عند قولهم لكم بألسنتهم: آمنا بالله وبمحمد وصدقنا بما جاء به، يكتمون منهم بمما يضمرونه من الكفر بأنفسهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وإذا جاأكم قالوا آمنا... الآية: أنا من اليهود كانوا يدخلون على النبي (ص)، فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر، وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله (ص). حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذا جاأكم قالوا آمنا، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارا وخرجوا كفارا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذا جاأكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق وتسر قلوبهم الكفر، فقال: دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإذا جاءكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النار واكفروا آخره لعلهم يرجعون فإذا
[ 401 ]
رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: وقد دخلوا بالكفر وهم قدح خرجوا به: أي إنه من عندهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) * ].. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): وترى يا محمد كثيرا من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل يسارعون في الاثم والعدوان يقول: يعجلون بمواقعة الاثم. وقيل: إن الاثم في هذا الموضع معنى به الكفر. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان قال: الاثم: الكفر. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وكان هذا في أحكام اليهود بين أيديكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يسارعون في الاثم والعدوان قال: هؤلاء اليهود لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون... إلى قوله: لبئس ما كانوا يصنعون قال: يصنعون ويعملون واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا. قال: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي وإن كان قولا غير مدفوع جواز صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله لا يتحاشون من شئ منها لا من كفر ولا من غيره لان الله تعالى ذكره عم في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الاثم والعدوان من غير أن يخص بذلك إثما دون إثم. وأما العدوان، فإنه مجاوزة الحد الذي حده الله لهم في كل ما حده لهم. وتأويل ذلك أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير
[ 402 ]
منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدون حدوده التي حد لهم فيما أحل لهم وحرم عليهم في أكلهم السحت، وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. يقول الله تعالى ذكره: لبئس ما كانوا يعملون يقول: أقسم لبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون في مسارعتهم في الاثم والعدوان وأكلهم السحت. القول في تأويل قوله تعالى: * (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) *.. يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الاثم والعدوان وأكل الرشا في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم عن قولهم الاثم يعني: عن قول الكذب والزور وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبا بأيديهم ثم يقولون: هذا من حكم الله، وهذا من كتبه. يقول الله: فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. وأما قوله: وأكلهم السحت فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به. وقد بينا معنى الربانيين والاحبار ومعنى السحت بشواهد ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. لبئس ما كانوا يصنعون وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والاحبار في تركهم نهى الذين يسارعون منهم في الاثم والعدوان وأكل السحت عما كانوا يفعلون من ذلك. وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا سلمة بن نبيط،
[ 403 ]
عن الضحاك بن مزاحم في قوله: لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم قال: ما في القرآن آية أخوف عندي منها أنا لا ننهى. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابو عطية، قال: ثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس، قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية: لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون قال: كذا قرأ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لولا يناهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون يعني الربانيين أنهم لبئس ما كانوا يصنعون القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين) *.. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جراءة اليهود على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخا لهم بذلك وتعريفا منه نبيه (ص) قديم جهلهم واغترارهم به وإنكارهم جميع
[ 404 ]
جميل أياديه عندهم وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجا لنبيه محمد (ص) بأنه له نبي مبعوث ورسول مرسل أن كانت هذه الانباء التي أنبأهم بها كانت من خفي علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود فضلا فأطلع الله على ذلك نبيه محمدا (ص) وسلم ليقرر عندهم صدقه ويقطع بذلك حجتهم. يقول تعالى ذكره: وقالت اليهود من بين إسرائيل يد الله مغلولة يعنون: أن خير الله ممسك، وعطاءه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه (ص): ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط. وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك، والمعنى: العطاء، لان عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم أو ببخل وشح وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الاعشى في مدح رجل: يداك يدا مجد فكف مفيدة وكف إذا ماضن بالزاد تنفق فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه، ويتحاورونه بينهم في كلامهم، فقال: وقالت اليهود يد الله مغلولة يعني بذلك أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا ويمنعنا فضله فلا يفضل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف. تعالى الله عما قال أعداء الله فقال الله مكذبهم ومخبرهم بسخطه عليهم: غلت أيديهم يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقبضت عن الانبساط بالعطيات، ولعنوا بما قالوا، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب، والافك. بل يداه مبسوطتان يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والاعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غير مغلولتين ولا مقبوضتين. ينفق كيف يشاء يقول: يعطى هذا ويمنع هذا فيقتر عليه.
[ 405 ]
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: يد الله مغلولة قال: لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل حتى جعل الله يده إلى نحره. وكذبوا حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يد الله مغلولة قال: اليهود تقول: لقد يجهدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب حتى إن يده إلى نحره. بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا... إلى: والله لا يحب المفسدين. أما قوله يد الله مغلولة قالوا: الله بخيل غير جواد، قال الله: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء قالوا: إن الله وضع يده على صدره فلا يبسطها حتى يرد علينا ملكنا. وأما قوله: ينفق كيف يشاء يقول: يرزق كيف يشاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة: وقالت اليهود يد الله مغلولة... الآية، نزلت في فنحاص اليهودي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: يد الله مغلولة يقولون: إنه بخيل ليس بجواد قال الله: غلت أيديهم: أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه: بل
[ 406 ]
يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقال: لا تجعل يدك مغلولة يقول: لا تمسك يدك عن النفقة. واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: بل يداه مبسوطتان فقال بعضهم: عني بذلك نعمتاه، وقال: ذلك بمعنى: يد الله على خلقه، وذلك نعمه عليهم وقال: إن العرب تقول: لك عندي يد، يعنون بذلك: نعمة. وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة، وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدي. وقال آخرون منهم: بل يده ملكه وقال: معنى قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة: ملكه وخزائنه. قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك: هو ملك يمينه، وفلان بيده عقدة نكاح فلانة: أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: فقدموا بين يدي نجواكم صدقة. وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفاته هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم. قالوا: وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصية آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده. قالوا: ولو كان لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ومشيئته في خلقه تعمه وهو لجميعهم مالك. قالوا: وإذا كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلوما إنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى اليد من الله القوة والنعمة أو الملك في هذا الموضع. قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون إن يد الله في قوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة هي نعمته، لقيل: بل يده مبسوطة، ولم يقل: بل يداه، لان نعمة الله لا تحصى بكثرة وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قالوا: ولو كانت نعمتين كانتا محصاتين.
[ 407 ]
قالوا: فإن ظن ظان أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ وذلك أن العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لاداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: والعصر إن الانسان لفي خسر، وكقوله: لقد خلقنا الانسان، وقوله: وكان الكافر على ربه ظهيرا. قال: فلم يرد بالانسان والكافر في هذه الاماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الانس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدى عن جنسه كما تقول العرب: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس، وكذلك قوله: وكان الكافر معناه: وكان الذين كفروا. قالوا: فأما إذا ثني الاسم، فلا يؤدى عن الجنس، ولا يؤدى إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم. قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثني لا يؤدى في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما. قالوا: وغير محال: ما أكثر الدرهم في أيدي الناس وما أكثر الدراهم في أيديهم لان الواحد يؤدي عن الجميع. قالوا: ففي قول الله تعالى: بل يداه مبسوطتان مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، ومع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع، ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول من قال: إن يد الله هي له صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت الاخبار عن رسول الله (ص)، وقال به العلماء وأهل التأويل. القول في تأويل قوله تعالى: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفي أمور هؤلاء اليهود مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم، احتجاحا عليهم لصحة نبوتك، وقطعا لعذر قائل منهم أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا، يعني بالطغيان: الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد (ص) والتمادي في ذلك. وكفرا يقول: ويزيدهم مع غلوهم في إنكار ذلك جحودهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: يد الله مغلولة. وإنما
[ 408 ]
أعلم تعالى ذكره نبيه (ص) أنهم أهل عتو وتمرد على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحق وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه يسلي بذلك نبيه محمدا (ص) عن الموجدة بهم في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إياه. وقد بينت معنى الطغيان فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا حملهم حسد محمد (ص) والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم. القول في تأويل قوله تعالى: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. يعني تعالى ذكره بقوله: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بين اليهود والنصارى. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة اليهود والنصارى. فإن قال قائل: وكيف قيل: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء جعلت الهاء والميم في قوله بينهم كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر ؟ قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين وفي بعض عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء، ثم قصد بقوله: ألقينا بينهم الخبر عن القريقين. القول في تأويل قوله تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله. يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شئ فاستقام واستوى فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخبث نياتهم. كالذي: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم
[ 409 ]
رددنا لكم الكرة عليهم. قال: كان الفساد الاول، فبعث الله عليهم عدوا، فاستباحوا الديار واستنكحوا النساء واستعبدوا الولدان وخربوا المسجد. فغبروا زمانا، ثم بعث الله فيهم نبيا، وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الانبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بختنصر، قتل من قتل منهم وسبى من سبى وخرب المسجد، فكان بختنصر للفساد الثاني. قال: والفساد: المعصية. ثم قال: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة... إلى قوله: وإن عدتم عدنا فبعث الله لهم عزيزا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره، وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا ونسوا. ومات عزير، وكانت أحداث، ونسوا العهد، وبخلوا ربهم، وقالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقالوا في عزير: إن الله اتخذه ولدا. وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نهوا عنه وعملوا بما كانوا يكفرون عليه. فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لم يظهروا على عدو آخر الدهر، فقال: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين، فبعث الله عليهم المجوس الثلاثة أربابا، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم وهم يقولون: يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، عسى الله أن يفكنا به من المجوس والعذاب الهون فبعث محمدا (ص)، واسمه محمد، واسمه في الانجيل أحمد فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، قال: فلعنة الله على الكافرين وقال: فباءوا بغضب على غضب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله هم اليهود. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارا
[ 410 ]
للحرب أطفأها الله، فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله، لقد جاء الاسلام حين جاء وهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله قال: كلما أجمعوا أمرهم على شئ فرقه الله، وأطفأ حدهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب. وقال مجاهد بما: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله قال: حرب محمد (ص). القول في تأويل قوله تعالى: ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين. يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيهم فيها بالفساد. والله لا يحب المفسدين يقول: والله لا يحب من كان عاملا بمعاصيه في أرضه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولادخلناهم جنات النعيم) *.. يقول تعالى ذكره: ولو أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، آمنوا بالله وبرسوله محمد (ص) فصدقوه واتبعوه وما أنزل عليه. واتقوا ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه. لكفرنا عنهم سيئاتهم يقول: محونا عنهم ذنوبهم، فغطينا عليها ولم نفضحهم بها. ولادخلناهم جنات النعيم يقول: ولادخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله. لكفرنا عنهم سيئاتهم. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 411 ]
(ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) *.. يعني تعالى ذكره بقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل ولو أنهم عملوا بما في التوراة والانجيل، وما أنزل إليهم من ربهم يقول: وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد (ص). فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والانجيل وما أنزل إلى محمد (ص)، مع اختلاف هذه الكتب ونسخ بعضها بعضا ؟ قيل: وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متفقة في الامر بالايمان برسل الله والتصديق بما جاءت به من عند الله فمعنى إقامتهم التوراة والانجيل وما أنزل إلى محمد (ص) تصديقهم بما فيها والعمل بما هي متفقة فيه وكل واحد منها في الخبر الذي فرض العمل به. وأما معنى قوله: لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإنه يعني: لانزل الله عليهم من السماء قطرها، فأنبتت لهم به الارض حبها ونباتها فأخرج ثمارها. وأما قوله: ومن تحت أرجلهم فإنه يعني تعالى ذكره: لاكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الارض، وذلك ما تخرجه الارض من حبها ونباتها وثمارها، وسائر ما يؤكل مما تخرجه الارض. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم يعني: لارسل السماء عليهم مدرارا. ومن تحت أرجلهم: تخرج الارض بركتها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم يقول: إذا لاعطتهم السماء بركتها والارض نباتها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن
[ 412 ]
تحت أرجلهم يقول: لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد (ص)، لانزلنا عليهم المطر فأنبت الثمر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم أما إقامتهم التوراة: فالعمل بها، وأما ما أنزل إليهم من ربهم: فمحمد (ص) وما أنزل عليه. يقول: لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أما من فوقهم: فأرسلت عليهم مطرا، وأما من تحت أرجلهم، يقول: لانبت لهم من الارض من رزقي ما يغنيهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال: بركات السماء والارض. قال ابن جريج: لاكلوا من فوقهم المطر، ومن تحت أرجلهم من نبات الارض. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: من فوقهم ومن تحت أرجلهم يقول: لاكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء، ومن تحت أرجلهم يقول: من الارض. وكان بعضهم يقول: إنما أريد بقوله: لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم التوسعة، كما يقول القائل: هو في خير من فرقه إلى قدمه. وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيدا على فساده. القول في تأويل قوله تعالى: منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون. يعني تعالى ذكره بقوله: منهم أمة: منهم جماعة. مقتصدة يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم قائلة فيه الحق إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غالية قائلة إنه ابن الله، تعالى عما قالوا من ذلك ولا مقصرة قائلة هو لغير رشدة. وكثير منهم يعني من بني إسرائيل من أهل الكتاب، اليهود والنصارى. ساء ما يعملون يقول: كثير منهم سيئ عملهم، وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد (ص) وتزعم أن المسيح ابن الله، وتكذب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما، فقال الله تعالى فيهم ذاما لهم: ساء ما يعملون في ذلك من فعلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 413 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: منهم أمة مقتصدة وهم مسلمة أهل الكتاب وكثير منهم ساء ما يعملون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: ثنا عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدا يقول: تفرقت بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: عيسى هو ابن الله، وقالت فرقة: هو الله، وقالت فرقة: هو عبد الله وروحه وهي المقتصدة، وهي مسلمة أهل الكتاب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: منهم أمة مقتصدة: يقول: على كتابه وأمره. ثم ذم أكثر القوم، فقال: وكثير منهم ساء ما يعملون. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: منهم أمة مقتصدة يقول: مؤمنة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون قال: المقتصدة أهل طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون قال: فهذه الامة المقتصدة الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا. قال: والغلو: الرغبة، والفسق: التقصير عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) *.. وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص)، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم
[ 414 ]
ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والازراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه، ما قام فيهم بأمر الله، ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه، وأن لا يتقى أحدا في ذات الله، فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه، ودافع عنه مكروه كل من يتقي مكروهه. وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه، فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلغ رسالتي. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... الآية، أخبر الله نبيه (ص) أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبي الله (ص) قيل له: لو احتجبت فقال: والله لابدين عقبي للناس ما صاحبتهم. حدثني الحرث بن محمد، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد، قال: لما نزلت: بلغ ما أنزل إليك من ربك قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع ؟ تجتمع علي الناس فنزلت: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته... الآية. حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل
[ 415 ]
فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس قال رسول الله (ص): لا تحرسوني إن ربي قد عصمني. حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله (ص) كان يعتقبه ناس من أصحابه، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس خرج فقال: يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كان النبي (ص) يتحارسه أصحابه، فأنزل الله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته... إلى آخرها. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا الحرث بن عبيد أبو قدامة الايادي، قال: ثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت: كان النبي (ص) يحرس، حتى نزلت هذه الآية: والله يعصمك من الناس قالت: فأخرج النبي (ص) رأسه من القبة، فقال: أيها الناس انصرفوا، فإن الله قد عصمني. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظي: أن رسول الله (ص) ما زال يحرس حتى أنزل الله: والله يعصمك من الناس. واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابي كان هم بقتل رسول الله (ص)، فكفاه الله إياه. ذكر من قال ذلك: حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قال: كان رسول الله (ص) إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي، فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني ؟ قال: الله. فرعدت
[ 416 ]
يد الاعرابي، وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله: والله يعصمك من الناس. وقال آخرون: بل نزلت لانه كان يخاف قريشا، فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كان النبي (ص) يهاب قريشا، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس استلقى ثم قال: من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثا. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، قال: قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله (ص) كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: قالت عائشة: من قال إن محمدا (ص) كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله، قال الله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... الآية. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، قال: قالت عائشة: من زعم أن محمدا (ص) كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الحميم، عن مسروق بن الاجدع، قال: دخلت على عائشة يوما، فسمعتها تقول: لقد أعظم الفرية من قال: إن محمدا كتم شيئا من الوحي، والله يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك. ويعني بقوله: والله يعصمك من الناس: يمنعك من أن ينالوك بسوء، وأصله من عصام القربة، وهو ما توكأ به من سير وخيط، ومنه قول الشاعر:
[ 417 ]
وقلت عليكم مالكا إن مالكا سيعصمكم إن كان في الناس عاصم يعني: يمنعكم. وأما قوله: إن الله لا يهدي القوم الكافرين فإنه يعني: إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) *.. وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه (ص) بابلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، يقول تعالى ذكره له: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب التوراة والانجيل، لستم على شئ مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى (ص) معشر اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى معشر النصارى، حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم ما جاءكم به محمد (ص) من الفرقان، فتعملوا بذلك كله وتؤمنوا بما فيه من الايمان بمحمد (ص) وتصديقه، وتقروا بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذبوا بشئ منه ولا تفرقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لان كتب الله يصدق بعضها بعضا، فمن كذب ببعضها فقد كذب بجميعها. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الاثر: حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولي زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء رسول الله (ص) رافع بن حارثة، وسلام بن مسكين، ومالك بن الصيف، ورافع بن حرملة، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق ؟ فقال
[ 418 ]
رسول الله (ص): بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن يتبينوه للناس، وأنا برئ من أحداثكم قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك ولا نتبعك. فأنزل الله: قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة، والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم... إلى: فلا تأس على القوم الكافرين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم قال: فقد صرنا من أهل الكتاب التوراة لليهود والانجيل للنصارى. وما أنزل إليكم من ربكم، وما أنزل إلينا من ربنا. أي لستم على شئ حتى تقيموا حتى تعملوا بما فيه. القول في تأويل قوله تعالى: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين. يعني تعالى ذكره بقوله: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا: وأقسم ليزيدن كثيرا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات الكتاب الذي أنزلته إليك يا محمد طغيانا، يقول: تجاوزا وغلوا في التكذيب لك على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول الفرقان، كفرا يقول: وجحودا لنبوتك. وقد أتينا على البيان عن معنى الطغيان فيما مضى قبل. وأما قوله: فلا تأس على القوم الكافرين يعني: يقول فلا تأس فلا تحزن، يقال: أسي فلان على كذا: إذا حزن يأسى أسى، ومنه قول الراجز: (وانحلبت عيناه من فرط الاسى)
[ 419 ]
يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن يا محمد على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائي لك، فإن مثل ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك ؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وليزيدن كثيرا منهم أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا قال: الفرقان. يقول: فلا تحزن. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: فلا تأس على القوم الكافرين قاال: لا تحزن. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *.. يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وهم أهل الاسلام، والذين هادوا وهم اليهود والصابئون. وقد بينا أمرهم. والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فصدق بالبعث بعد الممات، وعمل من العمل صالحا لمعاده، فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أمر مهم الله به من جزيل ثوابه. وقد بينا وجه الاعراب فيه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) *.. يقول تعالى ذكره: أقسم لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الاخلاص وتوحيدنا، والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه وأرسلنا إليهم بذلك رسلا، ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيل من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديد من العقاب، كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبتهم كذبوا منهم فريقا ويقتلون منهم فريقا، نقضا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجراءة علينا وعلى خلاف أمرنا. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 420 ]
(وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) *.. يقول تعالى: وظن هؤلاء الاسرائيليون الذين وصف تعالى ذكره صفتهم أنه أخذ ميثاقهم وأنه أرسل إليهم رسلا، وأنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا، أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون. فعموا وصموا يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم من إخلاص عبادتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي بحسبانهم ذلك وظنهم، وصموا عنه. ثم تبت عليهم، يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم، حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليهم من معاصي وخلاف أمري، والعمل بما أكرهه منهم إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي. ثم عموا وصموا كثير منهم يقول: ثم عموا أيضا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم من العمل بطاعتي والانتهاء إلى أمري واجتناب معاصي، وصموا كثير منهم يقول: عمي كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي عن الحق، وصموا بعد توبتي عليهم واستنقاذي إياهم من الهلكة. والله بصير بما يعملون يقول: بصير فيرى أعمالهم خيرها وشرها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وحسبوا أن لا تكون فتنة... الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاء فعموا وصموا، كلما عرض بلاء ابتلوا به هلكوا فيه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصموا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن: وحسبوا أن لا تكون فتنة قال بلاء.
[ 421 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وحسبوا أن لا تكون فتنة قال: الشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا قال: اليهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد: فعموا وصموا قال: يهود. قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: والفتنة: البلاء والتمحيص. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) *.. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فتن به الاسرائيليين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به فنقضوا فيه ميثاقي وغيروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم، بأن لا يعبدوا سواي ولا يتخذوا ربا غيري، وأن يوحدوني، وينتهوا إلى طاعتي عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته وأجريت على يده نحو الذي أجريت النصارى، عليهم غضب الله يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به أشركوا بي قالوا لخلق من خلقي وعبد مثلهم من عبيدي وبشر نحوهم معروف نسبه وأصله مولود من البشر يدعوهم إلى توحيدي ويأمرهم بعبادتي وطاعتي ويقر لهم بأني ربه وربهم وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئا، هو إلههم جهلا منهم الله وكفرا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدا ولا مولودا. ويعني بقوله: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يذل كل شئ وله يخضع كل موجود، ربي وربكم، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم. إنه من يشرك بالله فقد حرم
[ 422 ]
الله عليه الجنة أن يسكنها في الآخرة، ومأواه النار يقول: ومرجعه ومكانه الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكا في عبادته نار جهنم. وما للظالمين يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له وعبد غير الذي له عبادة الخلق، من أنصار ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) *.. وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الاسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل أنه لما ابتلاهم بعد حسبانهم أنهم لا يتبلون ولا يفتنون، قالوا كفرا بربهم وشركا: الله ثالث ثلاثة. وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية، كانوا فيما بلغنا يقولون: الاله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبا والدا غير مولود، وابنا مولودا غير والد، وزوجا متتبعة بينهما. يقول الله تعالى ذكره مكذبا لهم فيما قالوا من ذلك: وما من إله إلا إله واحد يقول: ما لكم معبود أيها الناس إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشئ ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود. وإن لم ينتهوا عما يقولون يقول: إن لم ينتهوا قائلوا هذه المقالة عما يقولون من قولهم: الله ثالث ثلاثة، ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الاخرى هو المسيح ابن مريم لان الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم. ولم يقل: ليمسنهم عذاب أليم، لان ذلك لو قيل كذلك صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصا لقائل القول الثاني، وهم القائلون: الله ثالث ثلاثة، ولم يدخل فيهم القائلون: المسيح هو الله. فعم بالوعيد تعالى ذكره كل كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أن وعيد الله وقد شمل كلا الفريقين من بين إسرائيل ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه. فإن قال قائل: وإن كان الامر على ما وصفت فعلى من عادت الهاء والميم اللتان في قوله: منهم ؟ قيل: على بني إسرائيل. فتأويل الكلام إذ ان الامر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الاسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسن الذين يقولون منهم إن المسيح هو الله والذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكل كافر سلك سبيلهم عذاب أليم بكفرهم بالله.
[ 423 ]
وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا في أنه عنى بهذه الآيات: النصارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال: قالت النصارى: هو المسيح وأمه، فذلك قول الله تعالى: أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) *.. يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران، القائل أحدهما: إن الله هو المسيح ابن مريم والآخر القائل: إن الله ثالث ثلاثة، عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا وقطعا به من كفرهما، ويسألان ربهما المغفرة مما قالا. والله غفور لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم، رحيم بهم ي قبوله توبتهم ومراجعتهم إلى ما يحب مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلف من إجرامهم قبل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) *.. وهذا (خبر) من الله تعالى ذكره احتجاجا لنبيه محمد (ص) على فرق النصارى في قولهم في المسيح. يقول مكذبا لليعقوبية في قيلهم: هو الله، والآخرين في قيلهم: هو ابن الله: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الامهات أبناءهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعبر حجة له على صدقه وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعبر حجة لهم على حقيقة صدقهم في أنهم لله رسل. وأمه
[ 424 ]
صديقة يقول تعالى ذكره: وأم المسيح صديقة، والصديقة: الفعيلة من الصدق، وكذلك قولهم فلان صديق: فعيل من الصدق، ومنه قوله تعالى ذكره: والصديقين والشهداء. وقد قيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه إنما قيل له الصديق لصدقه، وقد قيل: إنما سمي صديقا لتصديقه النبي (ص) في مسيره في ليلة واحدة إلى بيت المقدس من مكة وعوده إليها. وقوله: كانا يأكلان الطعام خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم. فإن من كان كذلك، فغير كائن إلها لان المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلا مربوبا لا ربا. القول في تأويل قوله تعالى: انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الآيات، وهي الادلة والاعلام والحجج على بطول ما يقولون في أنبياء الله، وفي فريتهم على الله، وادعائهم له ولدا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم رب وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): ثم انظر يا محمد أنى يؤفكون ؟ يقول: ثم انظر مع تبييننا لهم آياتنا على بطول قولهم: أي وجه يصرفون عن بياننا الذي بينته لهم، وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلون ؟ والعرب تقول لكل مصروف عن شئ: هو مأفوك عنه، يقال: قد أفكت فلانا عن كذا: أي صرفته عنه، فأنا آفكه أفكا، وهو مأفوك، وقد أفكت الارض: إذا صرف عنها المطر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) *.. وهذا أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه (ص) على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قيلهم فيه قبل. يقول تعالى ذكره لمحمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء الكفرة من
[ 425 ]
النصارى الزاعمين أن المسيح ربهم والقائلين إن الله ثالث ثلاثة: أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم وهو الذي خلقكم ورزقكم وهو يحييكم ويميتكم، شيئا لا يملك لكم شرا ولا نفعا ؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابن، لا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم إن أحله الله بهم، ولا نفعا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربا وإلها من كانت هذه صفته ؟ بل الرب المعبود الذي بيده كل شئ والقادر على كل شئ، فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون. وأما قوله: والله هو السميع العليم فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والله هو السميع لاستغفارهم لو استغفروه من قيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منظقهم ومنطق خلقه، العليم بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) *.. وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد (ص). يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح: يا أهل الكتاب يعني بالكتاب: الانجيل، لا تغلوا في دينكم يقول: لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا يقول: ولا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدي في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا: هو لغير رشدة، وتبهتوا أمه كما بيهتونها بالفرية، وهي صديقة. وأضلوا كثيرا يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح. وضلوا عن سواء السبيل يقول: وضل هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجة الحق وإنما يعني تعالى ذكره بذلك كفرهم بالله وتكذيبهم رسله عيسى ومحمدا (ص)، وذهابهم عن الايمان وبعدهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.
[ 426 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وضلوا عن سواء السبيل قال: يهود. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا فهم أولئك الذين ضلوا وأضلوا أتباعهم. وضلوا عن سواء السبيل عن عدل السبيل. القول في تأويل قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *.. يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص): قل لهؤلاء النصارى الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله داود وعيسى ابن مريم. وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال: لعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الانجيل، ولعنوا على عهد محمد (ص) في القرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم يقول: لعنوا في الانجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
[ 427 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازير. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الانجيل، ولعنوا على لسان محمد (ص) في القرآن. قال ابن جريج، وقال آخرون: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مر داود على نفر منهم وهم في بيت، فقال من في البيت ؟ قالوا: خنازير، قال: اللهم اجعلهم خنازير فكانوا خنازير ثم أصابتهم لعنته. ودعا عليهم عيسى فقال: اللهم العن من افترى علي وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل... الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه فجعلهم قردة خاسئين، وفي الانجيل على لسان عيسى فجعلهم خنازير. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أو محصن حصين بن نمير، عن حصين، يعني ابن عبد الرحمن، عن أبي مالك، قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. حدثني يعقوب، قال، ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الافطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (ص): إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأس أخاه على الذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه. فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم
[ 428 ]
داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ثم قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي المسئ، ولتأطرنه على الحق أطرا ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقي الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابا: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. وكان رسول الله (ص) متكئا، فجلس وقال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأطروا الظالم على الحق أطرا. حدثنا علي بن سهل الرملي، قال: ثنا المومل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا علي بن بذيمة عن أبي عبيدة أظنه عن مسروق عن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر جعل الرجل يرى أخاه وجاره وصاحبه على المنكر فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه ونديمه، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون... إلى (فاسقون). قال عبد الله: وكان رسول الله (ص) متكئا فاستوى جالسا، فغضب وقال: لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا. حدثنا ابن بشار، قال ثنا ابن مهدي، قال: ثنا سفيان عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله (ص): إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل يرى أخاه على الريب فينهاه عنه، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم حتى بلغ: ولكن كثيرا منهم
[ 429 ]
فاسقون. قال: وكان رسول الله (ص) متكئا، فجلس وقال: لا حتى تأخذوا يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: أملاه علي، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي (ص) بمثله. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله (ص)، فذكر نحوه. غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله (ص) متكئا، فاستوى جالسا ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يدي الظالم، فتأطروه على الحق أطرا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال: فقال: لعنوا في الانجيل وفي الزبور. وقال: قال رسول الله (ص): إن رحى الايمان قد دارت، فدوروا مع القرآن حيث دار، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه. وإنه كانت أمة من بني إسرائيل كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذهم قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة، فذلك قول الله تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود... إلى ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ماذا كانت معصيتهم ؟ قال: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون. فتأويل الكلام إذن: لعن لله الذين كفروا من اليهود بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره وكانوا يعتدون، يقول: وكانوا يتجاوزون حدوده. القول في تأويل قوله تعالى: * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) *..
[ 430 ]
يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله لا يتناهون يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضا. ويعني بالمنكر: المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه، لبئس ما كانوا يفعلون وهذا قسم من الله تعالى ذكره، يقول: أقسم لبئس الفعل كانوا يفعلون في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى وركوب محارمه وقتل أنبياء الله ورسله كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في في الكفر. القول في تأويل قوله تعالى: * (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) *.. يقول تعالى ذكره: ترى يا محمد كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا، يقول: يتولون المشركين من عبدة الاوثان، يعادون أولياء الله ورسله لبئس ما قدمت لهم أنفسهم يقول تعالى ذكره: أقسم لبئس الشئ الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة. أن سخط الله عليهم في موضع رفع ترجمة عن ما الذي في قوله: لبئس ما. وفي العذاب هم خالدون يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون، دائم مقامهم ومكثهم فيه. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) *.. يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل يؤمنون بالله والنبي يقول: يصدقون بالله ويقرون به ويوحدونه ويصدقون نبيه محمدا (ص)، بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل. وما أنزل إليه يقول: يقرون بما أنزل إلى محمد (ص) من عند الله من آي الفرقان. ما اتخذوهم أولياء يقول: ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين. ولكن كثيرا منهم فاسقون يقول: ولكن كثيرا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته وأهل استحلال لما حرم الله عليهم من القول والفعل. وكان مجاهد يقول في ذلك ما:
[ 431 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء قال: المنافقون. تم الجزء السادس من تفسير ابن جرير الطبري ويليه الجزء السابع يقول تعالى ذكره: ترى يا محمد كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا، يقول: يتولون المشركين من عبدة الاوثان، يعادون أولياء الله ورسله لبئس ما قدمت لهم أنفسهم يقول تعالى ذكره: أقسم لبئس الشئ الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة. أن سخط الله عليهم في موضع رفع ترجمة عن ما الذي في قوله: لبئس ما. وفي العذاب هم خالدون يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون، دائم مقامهم ومكثهم فيه. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) *.. يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل يؤمنون بالله والنبي يقول: يصدقون بالله ويقرون به ويوحدونه ويصدقون نبيه محمدا (ص)، بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل. وما أنزل إليه يقول: يقرون بما أنزل إلى محمد (ص) من عند الله من آي الفرقان. ما اتخذوهم أولياء يقول: ما اتخذوهم أصحابا وأنصارا من دون المؤمنين. ولكن كثيرا منهم فاسقون يقول: ولكن كثيرا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته وأهل استحلال لما حرم الله عليهم من القول والفعل. وكان مجاهد يقول في ذلك ما:
[ 431 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء قال: المنافقون. تم الجزء السادس من تفسير ابن جرير الطبري ويليه الجزء السابع وأوله: القول في تأويل قوله (لتجدن أشد الناس عداوة)