جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 5
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار الجزء السابع عشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
[ 2 ]
1415 ه / 1995 م
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: حرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم. واختلف أهل التأويل في المحصنات التي عناهن الله في هذه الآية، فقال بعضهم: هن ذوات الازواج غير المسبيات منهن. وملك اليمين: السبايا اللواتي فرق بينهن وبين أزواجهن السباء، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها الحربي لها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كل ذات زوج إتيانها زنا، إلا ما سبيت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
[ 4 ]
أيمانكم) * يقول: كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب، فهي لك حلال إذا استبرأتها. وحدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: ما سبيتم من النساء، إذا سبيت المرأة ولها زوج في قومها، فلا بأس أن يطأها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: كل امرأة محصنة لها زوج فهي محرمة إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج، فلا تحرم عليك به. قال: كان أبي يقول ذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا عتبة بن سعيد الحمصي، قال: ثنا سعيد، عن مكحول في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: السبايا. واعتل قائلو هذه المقالة بالاخبار التي رويت أن هذه الآية نزلت فيمن سبي من أوطاس. ذكر الرواية بذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري: أن نبي الله (ص) يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا، فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكان المسلمون يتأثمون من غشيانهن، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * أي هن حلال لكم إذا ما انقضت عددهن. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الا على، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل: أن أبا علقمة الهاشمي حدث، أن أبا سعيد الخدري حدث: أن نبي الله (ص) بعث يوم حنين سرية، فأصابوا حيا من أحياء العرب يوم أو طاس، فهزموهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب رسول الله (ص) يتأثمون من غشيانهن من أجل أزواجهن،
[ 5 ]
فأنزل الله تبارك وتعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم منهن، فحلال لكم ذلك. حدثني علي بن سعيد الكناني، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما سبي رسول الله (ص) أهل أو طاس، قلنا: يا رسول الله، كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن ؟ قال: فنزلت هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عثمان البتي، عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبنا نساء من سبي أو طاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي (ص)، فنزلت: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * فاستحللنا فروجهن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم أوطاس، أصاب المسلمون سبايا لهن أزواج في الشرك، فقال: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، قال: فاستحللنا بها فروجهن. وقال آخرون ممن قال: المحصنات ذوات الازواج في هذا الموضع. بل هن كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل لمشتريها، ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها، أو ما ملكت يمينك. حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة عن
[ 6 ]
إبراهيم: أنه سئل عن الامة تباع ولها زوج، قال: كان عبد الله يقول: بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: كل ذات زوج عليك حرام، إلا ما اشتريت بمالك، وكان يقول: بيع الامة: طلاقها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله: * (والمحصنات من النساء) * قال: هن ذوات الازواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك، فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك قالوا: بيعها طلاقها. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة أن أبي بن كعب وجابرا وابن عباس، قالوا: بيعها طلاقها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: بيع الامة طلاقها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور ومغيرة والاعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: بيع الامة طلاقها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سعيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله. مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة، عن
[ 7 ]
ابن عباس، قال: طلاق الامة ست: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها. حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي. قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن عيسى بن أبي إسحاق، عن أشعث، عن الحسن، عن أبي بن كعب: أنه قال: بيع الامة طلاقها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، عن عوف، عن الحسن، قال: بيع الامة طلاقها، وبيعه طلاقها. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا خالد، عن أبي قلابة، قال: قال عبد الله: مشتريها أحق ببضعها. يعني: الامة تباع ولها زوج. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، قال: طلاق الامة بيعها. حدثنا حميد، قال: ثنا سفيان بن حبيب، قال: ثنا يونس، عن الحسن أن أبيا، قال: بيعها طلاقها. حدثنا أحمد، قال: ثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن مسعود، قال: إذا بيعت الامة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. حدثنا حميد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنى سعيد، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: بيعها طلاقها. قال: فقيل لابراهيم: فبيعه ؟ قال: ذلك ما لا نقول فيه شيئا. وقال آخرون: بل معنى المحصنات في هذا الموضع: العفائف. قالوا: وتأويل الآية: والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم منهن بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن أبي جعفر، عن أبي العالية، قال: يقول: انكحوا ما طاب لكم من النساء: مثنى، وثلاث، ورباع، ثم حرم
[ 8 ]
ما حرم من النسب والصهر، ثم قال: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: فرجع إلى أول السورة إلى أربع، فقال: هن حرام أيضا، ألا بصداق وسنة وشهود. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين عن عبيدة، قال: أحل الله لك أربعا في أول السورة، وحرم نكاح كل محصنة بعد الاربع، إلا ما ملكت يمينك. قال معمر: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه: إلا ما ملكت يمينك، قال: فزوجك مما ملكت يمينك، يقول: حرم الله الزنا، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك. حدثني علي بن مسروق الكندي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قول الله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: أربع. حدثني علي بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحيم، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن عمر بن الخطاب، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: الاربع، فما بعدهن حرام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها، فقال: حرم الله ذوات القرابة، ثم قال: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * يقول: حرم ما فوق الاربع منهن. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والمحصنات من النساء) * قال: الخامسة حرام كحرمة الامهات والاخوات. ذكر من قال: عنى بالمحصنات في هذا الموضع العفائف من المسلمين وأهل الكتاب: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (والمحصنات) قال: العفيفة العاقلة من مسلمة، أو من أهل الكتاب.
[ 9 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن بعض أصحابه، عن مجاهد: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: العفائف. وقال آخرون: المحصنات في هذا الموضع ذوات الازواج، غير أن الذي حرم الله منهن في هذه الآية الزنا بهن، وأباحهن بقوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * بالنكاح أو الملك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: * (والمحصنات) * قال: نهى عن الزنا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والمحصنات من النساء) * قال: نهى عن الزنا أن تنكح المرأة زوجين. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: كل ذات زوج عليكم حرام، إلا الاربع اللاتي ينكحن بالبينة والمهر. حدثنا أحمد بن عثمان، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أنه سئل عن المحصنات من النساء، قال: هن ذوات الازواج. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: ذوات الازواج من المسلمين والمشركين. وقال علي: ذوات الازواج من المشركين. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس، في قوله: * (والمحصنات من النساء) * قال: كل ذات زوج عليكم حرام. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مكحول، نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم، نحوه.
[ 10 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *... إلى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * يعني: ذوات الازواج من النساء لا يحل نكاحهن، يقول: لا يخلب ولا يعد فتنشز على زوجها، وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومهر فهي من المحصنات التي حرم الله إلا ما ملكت أيمانكم، يعني: التي أحل الله من النساء، وهو ما أحل من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع. وقال آخرون: بل هن نساء أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، عن أيوب بن أبي العوجاء عن أبي مجلز في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * قال: نساء أهل الكتاب. وقال آخرون: بل هن الحرائر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنى حماد بن مسعدة، قال: ثنا سليمان بن عرعرة، في قوله: * (والمحصنات من النساء) * قال: الحرائر. وقال آخرون: المحصنات: هن العفائف وذوات الازواج، وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى الليث، قال: ثنى عقيل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول الله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *... الآية، قال: نرى أنه حرم في هذه الآية المحصنات من النساء ذوات الازواج أن ينكحن مع أزواجهن - والمحصنات: العفائف ولا يحللن إلا بنكاح، أو ملك يمين. والاحصان إحصانان: إحصان تزويج، وإحصان عفاف في الحرائر والمملوكات، كل ذلك حرم الله، إلا بنكاح أو ملك يمين. وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نساءكن يهاجرن إلى رسول الله (ص) ولهن أزواج،
[ 11 ]
فيتزوجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين، فنهى المسلمون عن نكاحهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنى حبيب بن أبي ثابت عن أبي سعيد الخدري، قال: كان النساء يأتينا ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن، يعني بقوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *. وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسا عليهم تأويل ذلك. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قال رجل لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * فلم يقل فيها شيئا ؟ قال: فقال: كان لا يعلمها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن مجاهد، قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الابل، قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *... إلى قوله: * (فما استمتعتم به منهن) *... إلى آخر الآية. قال أبو جعفر: فأما المحصنات فإنهن جمع محصنة، وهي التي قد منع فرجها بزوج، يقال منه: أحصن الرجل امرأته فهو يحصنها أحصانا وحصنت هي فهي تحصن حصانة: إذا عفت، وهي حاصن من النساء: عفيفة، كما قال العجاج: وحاصن من حاصنات ملس * عن الاذى وعن قراف الوقس ويقال أيضا إذا هي عفت وحفظت فرجها من الفجور: قد أحصنت فرجها فهي
[ 12 ]
محصنة، كما قال جل ثناؤه: * (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) * بمعنى: حفظته من الريبة ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها، وحفظها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها، ولذلك قيل للدرع درع حصينة. فإذا كان أصل الاحصان ما ذكرنا من المنع والحفظ فبين أن معنى قوله: * (والمحصنات من النساء) *: والممنوعات من النساء حرام عليكم * (إلا ما ملكت أيمانكم) *. وإذ كان ذلك معناه، وكان الاحصان قد يكون بالحرية، كما قال جل ثناؤه: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * ويكون بالاسلام، كما قال تعالى ذكره: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * ويكون بالعفة كما قال جل ثناؤه: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * ويكون بالزوج، ولم يكن تبارك وتعالى خص محصنة دون محصنة في قوله: * (والمحصنات من النساء) * فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الاحصان كان إحصانها حراما علينا سفاحا أو نكاحا، إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتاب الله جل ثناؤه، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله. فالذي أباحه الله تبارك وتعالى لنا نكاحا من الحرائر الاربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر، ومن الاماء ما سبينا من العدو سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لاهل الخمس منهن. فأما السفاح فإن الله تبارك وتعالى حرمه من جميعهن، فلم يحله من حرة ولا أمة ولا مسلمة ولا كافرة مشركة. وأما الامة التي لها زوج فإنها لا تحل لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها، أو وفاته وانقضاء عدتها منه، فأما بيع سيدها إياها فغير موجب بينها وبين زوجها فراقا ولا تحليلا لمشتريها، لصحة الخبر عن رسول الله (ص): أنه خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي كان سادتها زوجوها منه في حال رقها، وبين فراقه ولم
[ 13 ]
يجعل (ص) عتق عائشة إياها طلاقا. ولو كان عتقها وزوال ملك عائشة إياها لها طلاقا لم يكن لتخيير النبي (ص) إياها بين المقام مع زوجها والفراق معنى، ولوجب بالعتق الفراق، وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق، فلما خيرها النبي (ص) بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق كان معلوما أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقده ثابت، كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها، فكان نظيرا للعتق الذي هو زوال ملك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيع الذي هو زوال ملك مالكها عنها، إذ كان أحدهما زوالا ببيع والآخر بعتق في أن الفرقة لا يجب بها بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق وإن اختلفا في معان أخر، من أن لها في العتق الخيار في المقام مع زوجها والفراق، لعلة مفارقة معنى البيع، وليس ذلك لها في البيع. فإن قال قائل: وكيف يكون معنيا بالاستثناء من قوله: * (والمحصنات من النساء) * ما وراء الاربع من الخمس إلى ما فوقهن بالنكاح والمنكوحات به غير مملوكات ؟ قيل له: إن الله تعالى لم يخص بقوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * المملوكات الرقاب دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرها، بل عم بقوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * كلا المعنيين، أعني ملك الرقبة وملك الاستمتاع بالنكاح، لان جميع ذلك ملكته أيماننا، أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله: * (والمحصنات من النساء) * محصنة وغير محصنة، سوى من ذكرنا أولا بالاستثناء بقوله: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * بعض أملاك أيماننا دون بعض، غير الذي دللنا على أنه غير معني به، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن اعتل معتل منهم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس، قيل له: إن سبايا أوطاس لم يوطأن بالملك والسباء دون الاسلام، وذلك أنهن كن مشركات من عبدة الاوثان، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الاوثان لا يحللن بالملك دون الاسلام، وأنهن إذا أسلمن فرق الاسلام بينهن وبين الازواج، سبايا كن أو مهاجرات، غير أنهن إذا كن سبايا حللن إذا هن أسلمن بالاستبراء. فلا حجة لمحتج في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله: * (والمحصنات من النساء) * ذوات الازواج من السبايا دون غيرهن بخبر أبي سعيد الخدري أن ذلك نزل في سبايا أوطاس، لانه
[ 14 ]
وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسباء خاصة دون غيره من المعاني التي ذكرنا، مع أن الآية تنزل في معنى فتعم ما نزلت به فيه وغيره، فيلزم حكمها جميع ما عمته لما قد بينا من القول في العموم والخصوص في كتابنا كتاب البيان عن أصول الاحكام. القول في تأويل قوله تعالى: * (كتاب الله عليكم) *. يعني تعالى ذكره: كتابا من الله عليكم. فأخرج الكتاب مصدرا من غير لفظه. وإنما جاز ذلك لان قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) *... إلى قوله: * (كتاب الله عليكم) * بمعنى: كتب الله تحريم ما حرم من ذلك وتحليل ما حلل من ذلك عليكم كتابا. وبما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: * (كتاب الله عليكم) * قال: ما حرم عليكم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها فقال: * (كتاب الله عليكم) * قال: هو الذي كتب عليكم الاربع أن لا تزيدوا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قلت لعبيدة: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم) * وأشار ابن عون بأصابعه الاربع. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، عن قوله: * (كتاب الله عليكم) * قال: أربع. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كتاب الله عليكم) *: الاربع. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (كتاب الله عليكم) * قال: هذا أمر الله عليكم، قال: يريد ما حرم عليهم من هؤلاء وما أحل لهم. وقرأ: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) *... إلى آخر الآية. قال: كتاب الله عليكم الذي كتبه، وأمره الذي أمركم به. * (كتاب الله عليكم) *: أمر الله.
[ 15 ]
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله: * (كتاب الله عليكم) * منصوب على وجه الاغراء، بمعنى: عليكم كتاب الله، الزموا كتاب الله. والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب، وذلك أنه لا تنصب بالحرف الذي تغري به، لا تكاد تقول: أخاك عليك وأباك دونك، وإن كان جائزا. والذي هو أولى بكتاب الله أن يكون محمولا على المعروف من لسان من نزل بلسانه هذا مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا، وخلاف ما وجهه إليه من زعم أنه نصب على وجه الاغراء. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *: ما دون الاربع أن تبتغوا بأموالكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * يعني: ما دون الاربع. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأحل لكم ما وراء ذلكم من سمى لكم تحريمه من أقاربكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها، فقال: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * قال: ما وراء ذات القرابة، * (أن تبتغوا بأموالكم) *... الآية. وقال آخرون: بل معنى ذلك: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *: عدد ما أحل لكم من المحصنات من النساء الحرائر ومن الاماء. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * قال: ما ملكت أيمانكم. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب، ما نحن مبينوه، وهو أن الله جل ثناؤه بين لعباده المحرمات بالنسب والصهر، ثم المحرمات من المحصنات من النساء، ثم
[ 16 ]
أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرمات المبينات في هاتين الآيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحا وملك يمين لا سفاحا. فإن قال قائل: عرفنا المحللات اللواتي هن وراء المحرمات بالانساب والاصهار، فما المحللات من المحصنات والمحرمات منهن ؟ قيل: هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع على ما ذكرنا عن عبيدة والسدي من الحرائر، فأما ما عدا ذوات الازواج فغير عدد محصور بملك اليمين. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لان قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * عام في كل محلل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا، فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهن بأولى من بعض، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجة يجب التسليم لها، ولا حجة بأن ذلك كذلك. واختلف القراء في قراءة قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * فقرأ ذلك بعضهم: وأحل لكم بفتح الالف من أحل، بمعنى: كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم. وقرأه آخرون: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * اعتبارا بقوله: * (حرمت عليكم أمهاتكم... وأحل لكم ما وراء ذلكم) *. قال أبو جعفر: والذي نقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الاسلام غير مختلفتي المعنى، فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب الحق. وأما معنى قوله: * (ما وراء ذلكم) * فإنه يعني: ما عدا هؤلاء اللواتي حرمتهن عليكم أن تبتغوا بأموالكم، يقول: أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم، إما شراء بها وإما نكاحا بصداق معلوم، كما قال جل ثناؤه: * (ويكفرون بما وراءه) * يعني: بما عداه وبما سواه. وأما موضع أن من قوله: * (أن تبتغوا بأموالكم) * فرفع ترجمة عن ما التي في قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * في قراءة من قرأ: * (وأحل) * بضم الالف. ونصب على ذلك في قراءة من قرأ ذلك: وأحل بفتح الالف. وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين على معنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لان تبتغوا، فلما حذفت اللام الخافضة اتصلت بالفعل قبلها فنصبت. وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض بهذا المعنى إذ كانت اللام في هذا الموضع معلوما أن بالكلام إليها الحاجة.
[ 17 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (محصنين غير مسافحين) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (محصنين) * أعفاء بابتغائكم ما وراء ما حرم عليكم من النساء بأموالكم * (غير مسافحين) * يقول: غير مزانين. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله * (محصنين) * قال: متناكحين. * (غير مسافحين) * قال: زانين بكل زانية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: * (محصنين) * متناكحين. * (غير مسافحين) * السفاح: الزنا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (محصنين غير مسافحين) * يقول: محصنين غير زناة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهن فجامعتموهن، يعني من النساء، * (فآتوهن أجورهن فريضة) * يعني: صدقاتهن فريضة معلومة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) * يقول: إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله. والاستمتاع هو النكاح، وهو قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * قال: هو النكاح. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فما استمتعتم به منهن) *: النكاح. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: * (فما استمتعتم به منهن) * قال: النكاح أراد.
[ 18 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) *... الآية، قال: هذا النكاح، وما في القرآن الانكاح إذا أخذتها واستمتعت بها، فأعطها أجرها الصداق، فإن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ فرض الله عليها العدة وفرض لها الميراث. قال: والاستمتاع هو النكاح ههنا إذا دخل بها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتعتم به منهن بأجر تمتع اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولي وشهود ومهر. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. فهذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين، وينكح باذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برية، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فما استمتعتم به منهن) * قال: يعني نكاح المتعة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الاشعث، قال: ثنى حبيب ابن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفا، فقال: هذا على قراءة أبي. قال أبو كريب، قال يحيى: فرأيت المصحف عند نصير فيه: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء، قال: أما تقرأ سورة النساء ؟ قال: قلت بلى. قال: فما تقرأ فيها: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ؟ قلت: لا، لو قرأتها هكذا ما سألتك ! قال: فإنها كذا.
[ 19 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الاعلى، قال: ثنى داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فذكر نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، قال: قرأت هذه الآية على ابن عباس: * (فما استمتعتم به منهن) * قال ابن عباس: إلى أجل مسمى، قال قلت: ما أقرؤها كذلك ! قال: والله لانزلها الله كذلك ثلاث مرات. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير: أن ابن عباس قرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة وثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن عباس، بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: في قراءة أبي بن كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سألته عن هذه الآية: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * إلى هذا الموضع: * (فما استمتعتم به منهن) * أمنسوخة هي ؟ قال: لا. قال الحكم: قال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقى. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عيسى بن عمر القارئ الاسدي، عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: فما نكحتموه منهن فجامعتموه فآتوهن أجورهن، لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله ا (ص). حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز،
[ 20 ]
قال: ثنى الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه أن النبي (ص)، قال: استمتعوا من هذه النساء والاستمتاع عندنا يومئذ التزويج. وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام في غير هذا الموضع من كتبنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما روي عن أبي بن كعب وابن عباس من قراءتهما: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين، وغير جائز لاحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئا لم يأت به الخبر القاطع العذر عمن لا يجوز خلافه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لا حرج عليكم أيها الازواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهن فريضة فيما تراضيتم به، من حط وبراءة، بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال الله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم أنتم والنساء واللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى، إذا انقضى الاجل الذي أجلتموه بينكم وبينهم في الفراق، أن يزدنكم في الاجل وتزيدوا من الاجر والفريضة قبل أن يستبرئن أرحامهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الاولى، يعني: الاجرة التي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الاجل بينهما،
[ 21 ]
فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها، ثم تنقضي المدة، وهو قوله: * (فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) *. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهم على استمتاعكم بهن من مقام وفراق. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا جناح عليكم فيما وضعت عنكم نساؤكم من صدقاتهن من بعد الفريضة. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * قال: إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من عد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن من حط ما وجب لهن عليكم، أو إبراء أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. فأما الذي قاله السدي فقول لا معنى له فساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين. وأما قوله: * (إن الله كان عليما حكيما) * فإنه يعني: إن الله كان ذا علم بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه بما يدبر لكم ولهم من التدبير، وفيما يأمركم وينهاكم، لا يدخل حكمته خلل ولا زلل. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 22 ]
* (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) *.. اختلف أهل التأويل في معنى الطول الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسعة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * قال: الغنى. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * يقول: من لم يكن له سعة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * يقول: من لم يستطع منكم سعة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * قال: الطول: الغنى. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * قال: الطول:
[ 23 ]
السعة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * أما قوله طولا: فسعة من المال. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) *... الآية، قال: طولا: لا يجد ما ينكح به حرة. وقال آخرون: معنى الطول في هذا الموضع: الهوى. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى عبد الجبار بن عمرو، عن ربيعة أنه قال في قول الله: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * قال: الطول: الهوى، قال: ينكح الامة إذا كان هواه فيها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان ربيعة يلين فيه بعض التليين، كان يقول: إذا خشي على نفسه إذا أحبها - أي الامة وإن كان يقدر على نكاح غيرها فإني أرى أن ينكحها. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أنه سئل عن الحر يتزوج الامة، فقال: إن كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حب الامة في نفسه ؟ قال: إن خشي العنت فليتزوجها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة، عن الشعبي، قال: لا يتزوج الحر الامة إلا أن لا يجد. وكان إبراهيم يقول: لا بأس به. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول: لا نكره أن ينكح ذو اليسار الامة إذا خشي أن يسعى بها. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: السعة والغنى من المال، لاجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرم شيئا من الاشياء سوى نكاح الاماء لواجد الطول إلى الحرة، فأحل ما حرم من ذلك عند غلبته المحرم عليه له لقضاء لذة. فإذ كان ذلك إجماعا من الجميع فيما عدا نكاح الاماء لواجد الطول، فمثله في التحريم نكاح الاماء لواجد الطول: لا يحل له من أجل غلبة هوى سره فيها، لان ذلك مع وجوده الطول إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه فيترخص في أكلها ليحيى بها نفسه،
[ 24 ]
وما أشبه ذلك من المحرمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاك منه ما حرم عليهم منها في غيرها من الاحوال. ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبد في حرام لقضاء لذة، وفي إجماع الجميع على أن رجلا لو غلبه هوى امرأة حرة أو أمة أنها لا تحل له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به، ما يوضح فساد قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: الهوى، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاح الاماء. فتأويل الآية إذ كان الامر على ما وصفنا: ومن لم يجد منكم سعة من مال لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم. وأصل الطول: الافضال، يقال منه: طال عليه يطول طولا في الافضال، وطال يطول طولا في الطول الذي هو خلاف القصر. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) *. يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم أيها الناس طولا، يعني: من الاحرار أن ينكح المحصنات وهن الحرائر المؤمنات اللواتي قد صدقن بتوحيد الله وبما جاء رسول الله (ص) من الحق. وبنحو ما قلنا في المحصنات قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (أن ينكح المحصنات) * يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: * (أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم) * قال: المحصنات الحرائر، فلينكح الامة المؤمنة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما فتياتكم: فإماؤكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا أبو
[ 25 ]
بشر، عن سعيد بن جبير: * (أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * قال: أما من لم يجد ما ينكح به الحرة فيتزوج الامة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * قال: من لم يجد ما ينكح به حرة فينكح هذه الامة فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها، ولم يحل الله ذلك لاحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرة وينفق عليها، ولم يحل له حتى يخشى العنت. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان، عن هشام الدستوائي، عن عامر الاحول، عن الحسن: أن رسول الله (ص) نهى أن تنكح الامة على الحرة وتنكح الحرة على الامة، ومن وجد طولا لحرة فلا ينكح أمة. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الكوفيين والمكيين: * (أن ينكح المحصنات) * بكسر الصاد مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك سوى قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * فإنهم فتحوا الصاد منها، ووجهوا تأويله إلى أنهن محصنات بأزواجهن، وأن أزواجهن هم أحصنوهن. وأما سائر ما في القرآن فإنهم تأولوا في كسرهم الصاد منه إلى أن النساء هن أحصن أنفسهن بالعفة. وقرأت عامة قراء المدينة والعراق ذلك كله بالفتح، بمعنى أن بعضهن أحصنهن أزواجهن، وبعضهن أحضهن حريتهن أو إسلامهن. وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر، بمعنى أنهن عففن وأحصن أنفسهن. وذكرت هذه القراءة أعني بكسر الجميع عن علقمة على الاختلاف في الرواية عنه. قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الامصار مع اتفاق ذلك في المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، إلا في الحرف الاول من سورة النساء، وهو قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * فإني لا أستجيز الكسر في صاده لاتفاق قراءة الامصار على فتحها. ولو كانت القراءة
[ 26 ]
بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صوابا القراءة بها كذلك لما ذكرنا من تصرف الاحصان في المعاني التي بيناها، فيكون معنى ذلك لو كسر: والعفائف من النساء حرام عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم، بمعنى أنهن أحصن أنفسهن بالعفة. وأما الفتيات فإنهن جمع فتاة، وهن الشواب من النساء، ثم يقال لكل مملوكة ذات سن أو شابة فتاة، والعبد فتى. ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى الله بقوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * تحريم ما عدا المؤمنات منهن، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين ؟ فقال بعضهم: ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (من فتياتكم المؤمنات) * قال: لا ينبغي أن يتزوج مملوكة نصرانية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (من فتياتكم المؤمنات) * قال: لا ينبغي للحر المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز، ومالك ابن أنس، ومالك بن عبد الله بن أبي مريم، يقولون: لا يحل لحر مسلم ولا لعبد مسلم الامة النصرانية، لان الله يقول: * (من فتياتكم المؤمنات) * يعني بالنكاح. وقال آخرون: ذلك من الله على الارشاد والندب، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، قال: قال أبو ميسرة، أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر. ومنهم أبو حنيفة وأصحابه. واعتلوا لقولهم بقول الله: * (أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
[ 27 ]
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) * قالوا: فقد أحل الله محصنات أهل الكتاب عاما، فليس لاحد أن يخص منهن أمة ولا حرة. قالوا: ومعنى قوله: * (فتياتكم المؤمنات) *: غير المشركات من عبدة الاوثان. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين، وذلك أن الله جل ثناؤه أحل نكاح الاماء بشروط، فما لم تجتمع الشروط التي سماها فيهن، فغير جائز لمسلم نكاحهن. فإن قال قائل: فإن الآية التي في المائدة تدل على إباحتهن بالنكاح ؟ قيل: إن التي في المائدة قد أبان أن حكمها في خاص من محصناتهم، وأنها معنى بها حرائرهم دون إمائهم، قوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * وليست إحدى الآيتين دافعة حكمها حكم الاخرى، بل إحداهما مبينة حكم الاخرى، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الاخرى لو لم يكن جائزا اجتماع حكميهما على صحة، فأما وهما جائز اجتماع حكمهما على الصحة، فغير جائز أن يحكم لاحداهما بأنها دافعة حكم الاخرى إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس، ولا خبر بذلك ولا قياس، والآية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض) *. وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم وتأويل ذلك: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فلينكح بعضكم من بعض، بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا. فالبعض مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه إذ كان قوله: * (فمما ملكت أيمانكم) * في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم رد بعضكم على ذلك المعنى فرفع. ثم قال جل ثناؤه: * (والله أعلم بإيمانكم) *: أي والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، فصدق بذلك كله منكم، يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولا لحرة من فتياتكم المؤمنات، لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولا لحرة من هذا الموسر فتاته المؤمنة التي قد أبدت الايمان فأظهرته وكلوا سرائرهن إلى الله، فإن علم ذلك إلى الله دونكم، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن. القول في تأويل قوله تعالى: * (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف) *.
[ 28 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (فانكحوهن) * فتزوجوهن، وبقوله: * (بإذن أهلهن) *: بإذن أربابهن وأمرهم إياكم بنكاحهن ورضاهم ويعني بقوله: * (وآتوهن أجورهن) *: وأعطوهن مهورهن: كما: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وآتوهن أجورهن) * قال: الصداق. ويعني بقوله * (بالمعروف) * على ما تراضيتم به مما أحل الله لكم وأباحه لكم أن تجعلوه مهورا لهن. القول في تأويل قوله: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *. يعني بقوله: * (محصنات) * عفيفات، * (غير مسافحات) * غير مزانيات، * (ولا متخذات أخدان) * يقول: ولا متخذات أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لان الزواني كن في الجاهلية في العرب المعلنات بالزنا، والمتخذات الاخدان: اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سرا دون الاعلان بذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * يعني: تنكحوهن عفائف غير زواني في سر ولا علانية. * (ولا متخذات أخدان) * يعني: أخلاء. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (غير مسافحات) * المسافحات: المعالنات بالزنا. * (ولا متخذات أخدان) * ذات الخليل الواحد. قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ما بطن) *. حدثني محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا معتمر، قال: سمعت داود يحدث
[ 29 ]
عن عامر، قال: الزنا زنيان: تزني بالخدن ولا تزني بغيره، وتكون المرأة شؤما. ثم قرأ: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما المحصنات: فالعفائف، فلتنكح الامة بإذن أهلها محصنة، والمحصنات: العفائف، غير مسافحة، والمسافحة: المعالنة بالزنا، ولا متخذة صديقا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولا متخذات أخدان) * قال: الخيلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * المسافحة: البغي التي تؤاجر نفسها من عرض لها، وذات الخدن: ذات الخليل الواحد. فنهاهم الله عن نكاحهما جميعا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * أما المحصنات، فهن الحرائر، يقول: تزوج حرة. وأما المسافحات: فهن المعلنات بغير مهر. وأما متخذات أخدان: فذات الخليل الواحد المستسرة به. نهى الله عن ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، قال: الزنا وجهان قبيحان، أحدهما أخبث من الآخر: فأما الذي هو أخبثهما فالمسافحة التي تفجر بمن أتاها، وأما الآخر فذات الخدن. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * قال: المسافح: الذي يلقى المرأة فيفجر
[ 30 ]
بها، ثم يذهب وتذهب. والمخادن: الذي يقيم معها على معصية الله وتقيم معه، فذاك الاخدان. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإذا أحصن) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: فإذا أحصن بفتح الالف، بمعنى: إذا أسلمن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالاسلام. وقرأه آخرون: * (فإذا أحصن) * بمعنى: فإذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالازواج. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الاسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب. فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك غير جائز إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل، وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا فغير دافع أحدهما صاحبه، لان الله قد أوجب على الامة ذات الاسلام وغير ذات الاسلام على لسان رسوله (ص) الحد، فقال (ص): إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها كتاب الله ولا يثرب عليها، ثم إن عادت فليضربها كتاب الله ولا يثرب عليها، ثم إن عادت فليضربها كتاب الله ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الرابعة فليضربها كتاب الله وليبعها ولو بحبل من شعر. وقال (ص): أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. فلم يخصص بذلك ذات زوج منهن ولا غير ذات زوج، فالحدود واجبة على موالي الاماء إقامتها عليهن إذا فجرن بكتاب الله وأمر رسول الله (ص). فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما: حدثكم به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مالك بن أنس عن
[ 31 ]
الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن النبي (ص) سئل عن الامة تزني ولم تحصن، قال: اجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن زنت فاجلدها، فإن زنت - فقال في الثالثة أو الرابعة: فبعها ولو بضفير والضفير: الشعر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله (ص) سئل فذكر نحوه. فقد بين أن الحد الذي وجب إقامته بسنة رسول الله (ص) على الاماء هو ما كان قبل إحصانهن، فأما ما وجب من ذلك عليهن بالكتاب، فبعد إحصانهن ؟ قيل له: قد بينا أن أحد معاني الاحصان: الاسلام، وأن الآخر منه التزويج وأن الاحصان كلمة تشتمل على معان شتى، وليس في رواية من روى عن النبي (ص) أنه سئل عن الامة تزني قبل أن تحصن، بيان أن التي سئل عنها النبي (ص) هي التي تزني قبل التزويج، فيكون ذلك حجة لمحتج في أن الاحصان الذي سن (ص) حد الاماء في الزنا هو الاسلام دون التزويج، ولا أنه هو التزويج دون الاسلام. وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول، أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحد عليها، متزوجة كانت أو غير متزوجة، بظاهر كتاب الله والثابت من سنة رسول الله (ص)، إلا من أخرجه من وجوب الحد عليه منهن بما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله: * (فإذا أحصن) *. فإن ظن ظان أن في قول الله تعالى ذكره: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * دلالة على أن قوله: * (فإذا أحصن) * معناه: تزوجن، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهن بالايمان بقوله: * (من فتياتكم المؤمنات) * وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج، مع ما تقدم ذلك من وصفهن بالايمان، فقد ظن خطأ، وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فيتاتكم المؤمنات، فإذا هن آمن فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، فيكون الخبر بيانا عما يجب عليهن من الحد إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهن بعد البيان عما لا يجوز لناكحهن من المؤمنين من نكاحهن، وعمن يجوز نكاحه له منهن. فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام فغير جائز
[ 32 ]
لاحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الاسلام، من أجل ما تقدم من وصف الله إياهن بالايمان غير أن الذي نختار لمن قرأ: محصنات غير مسافحات بفتح الصاد في هذا الموضع أن يقرأ * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) * بضم الالف، ولمن قرأ * (محصنات) * بكسر الصاد فيه، أن يقرأ: فإذا أحصن بفتح الالف، لتأتلف قراءة القارئ على معنى واحد وسياق واحد، لقرب قوله: محصنات من قوله: * (فإذا أحصن) * ولو خالف من ذلك لم يكن لحنا، غير أن وجه القراءة ما وصفت. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته، فقال بعضهم: معنى قوله * (فإذا أحصن) *: فإذا أسلمن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن سعيد بن أبي معشر، عن إبراهيم، أن ابن مسعود، قال: إسلامها إحصانها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم أن سليمان بن مهران حدثه عن إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحرث: أن النعمان بن عبد الله بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود، فقال: أمتي زنت ؟ فقال: اجلدها خمسين جلدة ! قال: إنها لم تحصن ! فقال ابن مسعود: إحصانها إسلامها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرن سأل ابن مسعود عن أمة زنت وليس لها زوج، فقال: إسلامها إحصانها. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أن النعمان قال: قلت لابن مسعود: أمتي زنت ؟ قال: اجلدها، قلت: فإنها لم تحصن ! قال: إحصانها إسلامها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: كان عبد الله يقول: إحصانها: إسلامها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية: * (فإذا أحصن) * قال: يقول: إذا أسلمن.
[ 33 ]
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: قال عبد الله: الامة إحصانها: إسلامها. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال مغيرة: أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول: * (فإذا أحصن) * يقول: إذا أسلمن. حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: الاحصان: الاسلام. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن برد بن سنان، عن الزهري، قال: جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارا من ولائد الامارة في الزنا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإذا أحصن) * يقول: إذا أسلمن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن سالم والقاسم، قالا: إحصانها: إسلامها وعفافها، في قوله: * (فإذا أحصن) *. وقال آخرون: معنى قوله: * (فإذا أحصن) *: فإذا تزوجن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فإذا أحصن) * يعني: إذا تزوجن حرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: * (فإذا أحصن) * يقول: إذا تزوجن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة أن ابن عباس كان يقرأ: * (فإذا أحصن) * يقول: تزوجن. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: إحصان الامة أن ينكحها الحر، وإحصان العبد أن ينكح الحرة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تضرب الامة إذا زنت ما لم تتزوج. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: * (فإذا أحصن) * قال: أحصنتهن البعولة.
[ 34 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإذا أحصن) * قال: أحصنتهن البعولة. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزناد أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره أنه أصاب جارية له قد كانت زنت، وقال: أحصنتها. قال أبو جعفر: وهذا التأويل على قراءة من قرأ: * (فإذا أحصن) * بضم الالف، وعلى تأويل من قرأ: فإذا أحصن بفتحها. وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *: يعني جل ثناؤه بقوله: * (فإن أتين بفاحشة) *: فإن أتت فتياتكم، وهن إماؤكم، بعد ما أحصن باسلام، أو أحصن بنكاح بفاحشة، وهي الزنا، * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * يقول: فعليهن نصف ما على الحرائر من الحد إذا هن زنين قبل الاحصان بالازواج والعذاب الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع هو الحد. وذلك النصف الذي جعله الله عذابا لمن أتى بالفاحشة من إلاماء إذا هن أحصن خمسون جلدة، ونفي ستة أشهر، وذلك نصف عام، لان الواجب على الحرة إذا هي أتت بفاحشة قبل الاحصان بالزوج: جلد مائة، ونفي حول، فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة، وذلك الذي جعله الله عذابا للاماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * خمسون جلدة، ولا نفي ولا رجم. فإن قال قائل: وكيف * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * وهل يكون الجلد على أحد ؟ قيل: إن معنى ذلك فلازم أبدانهن أن تجلد نصف ما يلزم أبدان المحصنات، كما يقال: علي صلاة يوم، بمعنى: لازم علي أن أصلي صلاة يوم، وعلي
[ 35 ]
الحج والصيام مثل ذلك، وكذلك عليه الحد بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحد ليقام عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) *. يعني تعالى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي أبحت أيها الناس من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طولا لنكاح المحصنات المؤمنات، أبحته لمن خشي العنت منكم دون غيره ممن لا يخشى العنت. واختلف أهل التأويل في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو الزنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قوله: * (لمن خشي العنت منكم) * قال: الزنا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازلحف ناكح الامة عن الزنا إلا قليلا. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: العنت: الزنا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبيد بن يحيى، قال: ثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: العنت الزنا. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ما ازلحف ناكح الامة عن الزنا إلا قليلا، ذلك لمن خشي العنت منكم. حدثنا أبو سلمة، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * قال: الزنا.
[ 36 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي حماد، قال: ثنا فضيل، عن عطية العوفي، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (لمن خشي العنت منكم) * قال: الزنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن الشعبي وجويبر، عن الضحاك، قالا: العنت: الزنا. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) * قال: العنت: الزنا. وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تعنته، وهي الحد. والصواب من القول في قوله: * (ذلك لمن خشي العنت منكم) *: ذلك لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه. وذلك أن العنت هو ما ضر الرجل، يقال منه: قد عنت فلان فهو يعنت عنتا: إذا أتى ما يضره في دين أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: * (ودوا ما عنتم) * ويقال: قد أعنتني فلان فهو يعنتني: إذا نالني بمضرة، وقد قيل: العنت: الهلاك. فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضرر في الدين، وهو من العنت. والذين وجهوه إلى الاثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين وهي من العنت. والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحد، فإنهم قالوا: الحد مضرة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت. وقد عم الله بقوله: * (لمن خشي العنت منكم) * جميع معاني العنت، ويجمع جميع ذلك الزنا، لانه يوجب العقوبة على صاحبه في الدنيا بما يعنت بدنه، ويكتسب به إثما ومضرة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهل التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذة وقضاء شهوة فإنه بأدائه إلى العنت منسوب إليه موصوف به أن كان للعنت سببا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) *. يعني جل ثناؤه بذلك: وأن تصبروا أيها الناس عن نكاح الاماء خير لكم، والله غفور لكم نكاح الاماء أن تنكحوهن على ما أحل لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك إن
[ 37 ]
أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبين الله، رحيم بكم، إذ أذن لكم في نكاحهن عند الافتقار وعدم الطول للحرة. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: * (وأن تصبروا خير لكم) * قال: عن نكاح الامة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن مجاهد: * (وأن تصبروا خير لكم) * قال: عن نكاح الاماء. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأن تصبروا خير لكم) * يقول: وأن تصبر ولا تنكح الامة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لك. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وأن تصبروا خير لكم) * يقول: وأن تصبروا عن نكاح الاماء خير لكم، وهو حل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وأن تصبروا خير لكم) * يقول: وأن تصبروا عن نكاحهن، يعني: نكاح الاماء خير لكم. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: * (وأن تصبروا خير لكم) * قال: أن تصبروا عن نكاح الاماء خير لكم. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه: * (وأن تصبروا خير لكم) * قال: أن تصبروا عن نكاح الامة خير لكم. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (وأن تصبروا خير لكم) * قال: وأن تصبروا عن الامة خير لكم. وأن في قوله: * (وأن تصبروا) * في موضع رفع بخير، بمعنى: والصبر عن نكاح الاماء خير لكم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 38 ]
* (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يريد الله ليبين لكم) * حلاله وحرامه، * (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) * يقول وليسددكم سنن الذين من قبلكم، يعني: سبل من قبلكم من أهل الايمان بالله وأنبيائه ومناهجهم، فيما حرم عليكم من نكاح الامهات والبنات والاخوات، وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بين فيهما ما حرم من النساء. * (ويتوب عليكم) * يقول: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبل الاسلام، وقبل أن يوحي ما أوحى إلى نبيه من ذلك عليكم، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم. * (والله عليم) * يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم، وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون ما أحل أو حرم عليهم حافظ ذلك كله عليهم، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه. واختلف أهل العربية في معنى قوله: * (يريد الله ليبين لكم) * فقال بعضهم: معنى ذلك، يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم، وقال: ذلك كما قال: * (وأمرت لاعدل بينكم) * بكسر اللام، لان معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: يريد الله أن يبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، وقالوا: من شأن العرب التعقيب بين كي ولام كي وأن، ووضع كل واحدة منهن موضع كل واحدة من أختها مع أردت وأمرت، فيقولون: أمرتك أن تذهب ولتذهب، وأردت أن تذهب ولتذهب، كما قال الله جل ثناؤه: * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) *، وقال في موضع آخر: وأمرت أن أكون أول من أسلم، وكما قال: * (يريدون ليطفئوا نور الله) *، ثم قال في موضع آخر: * (يريدون أن يطفئوا) * واعتلوا في توجيههم أن مع أمرت وأردت إلى معنى كي وتوجيه كي مع ذلك إلى معنى أن لطلب أردت وأمرت الاستقبال، وأيهما لا يصلح معها الماضي، لا يقال: أمرتك أن قمت ولا أردت
[ 39 ]
أن قمت. قالوا: فلما كانت أن قد تكون مع الماضي في غير أردت وأمرت، ذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الافعال بحال، من كي واللام التي في معنى كي، قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع: أردت لكيما أن تطير بقربتي * فتتركها شنا ببيداء بلقع فجمع بينهن لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن، كما قال الآخر: قد يكسب المال الهدان الجافي * بغير لا عصف ولا اصطراف فجمع بين غير ولا، توكيدا للنفي، قالوا: وإنما يجوز أن يجعل أن مكان كي، وكي مكان أن في الاماكن التي لا يصحب جالب ذلك ماض من الافعال أو غير المستقبل، فأما ما صحبه ماض من الافعال وغير المستقبل فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال:
[ 40 ]
ظننت ليقوم، ولا أظن ليقوم، بمعنى: أظن أن يقوم، لان التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل، يقال: أظن أن قد قام زيد ومع المستقبل ومع الاسماء. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: إن اللام في قوله: * (يريد الله ليبين لكم) * بمعنى: يريد الله أن يبين لكم، لما ذكرت من علة من قال إن ذلك كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) *.. يعني بذلك تعالى ذكره: والله يريد أني يراجع بكم طاعته، والانابة إليه، ليعفو لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم من استحلالكم ما هو حرام عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما كنت تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * يقول: يريد الذين يطلبون لذات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر الله تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرم عليكم وركوبكم معاصيه * (ميلا عظيما) * جورا وعدولا عنه شديدا. واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنه يتبعون الشهوات، فقال بعضهم: هم الزناة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * قال: الزنا. * (أن تميلوا ميلا عظيما) * قال: يريدون أن تزنوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) * أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * قال: الزنا. * (أن تميلوا ميلا عظيما) * قال: يزني أهل الاسلام كما يزنون. قال: هي كهيئة * (ودوا لو تدهن فيدهنون) *.
[ 41 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * قال: الزنا. * (أن تميلوا) * قال: أن تزنوا. وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * قال: هم اليهود والنصارى، * (أن تميلوا ميلا عظيما) *. وقال آخرون: بل هم اليهود خاصة، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الاخوات من الاب، وذلك أنهم يحلون نكاحهن، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: ويريد الذين يحللون نكاح الاخوات من الاب، أن تميلوا عن الحق، فتستحلوهن كما استحلوا. وقال آخرون: معنى ذلك: كل متبع شهوة في دينه لغير الذي أبيح له. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) *... الآية، قال: يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، * (أن تميلوا) * في دينكم * (ميلا عظيما) * تتبعون أمر دينهم، وتتركون أمر الله وأمر دينكم. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل، وطلاب الزنا، ونكاح الاخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله أن تميلوا ميلا عظيما عن الحق، وعما أذن الله لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله وترك طاعته، ميلا عظيما. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الله عزوجل عم بقوله: * (ويريد الذين يتبعون الشهوات) * فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما دل عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتبعون الشهوات اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلا، لان كل متبع ما
[ 42 ]
نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه. فإذ كان ذلك بتأويل الآية أولى، وجبت صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا) *.. يعني جل ثناأه بقوله: * (يريد الله أن يخفف عنكم) *: يريد الله أن ييسر عليكم بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولا لحرة. * (وخلق الانسان ضعيفا) * يقول: يسر ذلك عليكم إذا كنتم غير مستطيعي الطول للحرائر، لانكم خلقتم ضعفاء عجزة عن ترك جماع النساء قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات، عند خوفكم العنت على أنفسكم، ولم تجدوا طولا لحرة لئلا تزنوا، لقلة صبركم على ترك جماع النساء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يريد الله أن يخفف عنكم) * في نكاح الامة، وفي كل شئ فيه يسر. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: * (وخلق الانسان ضعيفا) * قال: في أمر الجماع. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: * (وخلق الانسان ضعيفا) * قال: في أمر النساء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: * (وخلق الانسان ضعيفا) * قال: في أمور النساء، ليس يكون الانسان في شئ أضعف منه في النساء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (يريد الله أن يخفف عنكم) * قال: رخص لكم في نكاح هؤلاء الاماء حين اضطروا إليهن، * (وخلق الانسان ضعيفا) * قال: لو لم يرخص له فيها لم يكن إلا الامر الاول إذا لم يجد حرة. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 43 ]
* (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا) * صدقوا الله ورسوله، * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * يقول: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار، وغير ذلك من الامور التي نهاكم الله عنها، إلا أن تكون تجارة. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم، إلا أن تكون تجارة، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا خالد الطحان، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قال: الرجل يشتري السلعة، فيردها ويرد معها درهما. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب، فيقول: إن رضيته أخذته، وإلا رددته ورددت معه درهما، قال: هو الذي قال الله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء، فأما قرى فإنه كان محظورا بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: * (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) *... الآية. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا في قوله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *... الآية، فكان الرجل يتحرج أن يأكل عند
[ 44 ]
أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور، فقال: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم... إلى قوله: * (جميعا أو أشتاتا) * فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، فيقول: إني لاتجنح - والتجنح: التحرج ويقول: المساكين أحق مني به. فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحل طعام أهل الكتاب. قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي: وذلك أن الله تعالى ذكره حرم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن الله لم يحل قط أكل الاموال بالباطل، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الامة جميعا وجها لها أن قرى الضيف، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والاسلام، التي حمد الله أهلها عليه وندبهم إليها، وإن الله لم يحرم ذلك في عصر من العصور، بل ندب الله عباده، وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الاكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل، لان النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخا بالاباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صح القول الذي قلناه، من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الاموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله، أو على لسان رسوله (ص)، وشذ ما خالفه. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * فقرأها بعضهم: * (إلا أن تكون تجارة) * رفعا بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو تقع تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه أن تكون تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت، وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة. وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قراء الكوفيين: * (إلا أن تكون تجارة) * نصبا، بمعنى: إلا أن تكون الامول التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها، فتكون الاموال مضمرة في قوله: * (إلا أن تكون) * والتجارة منصوبة على الخبر. وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما، لاستفاضتهما في قراءة الامصار مع تقارب معانيهما. غير أن الامر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إلي من قراءته
[ 45 ]
بالرفع، لقوة النصب من وجهين: أحدهما: أن في تكون ذكرا من الاموال، والآخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة، كان فصيحا في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنية على اسم وخبر، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر: إذا كان طعنا بينهم وعناقا ففي هذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوفة المنكرين طلب الاقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *: اكتسابا أحل ذلك لها. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * قال: التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرها، وقد كنا نحدث أن التاجر الامين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة. وأما قوله: * (عن تراض) * فإن معناه كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: * (عن تراض منكم) * في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (عن تراض منكم) * في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن
[ 46 ]
أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: رسول الله (ص): البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المماسحة بيع هي ؟ قال: لا، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك. واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة، فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبا يعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان، باع أحدهما من الآخر برنسا، فقال: إني بعت من هذا برنسا، فاسترضيته فلم يرضني. فقال: أرضه كما أرضاك ! قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرض. قال: أرضه كما أرضاك ! قال: قد أرضيته فلم يرض. فقال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح، قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريج، مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنى أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. قال: قال أبو الضحى: كان شريح يحدث عن رسول الله (ص)، بنحوه.
[ 47 ]
وحدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون، قال: اشتريت من ابن سيرين سابريا فسام علي سومه، فقلت: أحسن ! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنت الثمن وضع الدراهم، فقال: اختر إما الدراهم وإما المتاع ! فاخترت المتاع فأخذته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تصادر فقد وجب البيع. حدثنا محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا سفيان بن دينار، عن طيسلة، قال: كنت في السوق، وعلي رضي الله عنه في السوق، فجاءته جارية إلى بيع فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا ! فأعطاها إياه. فقالت: لا أريده أعطني درهمي ! فأبى، فأخذه منه علي فأعطاها إياه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له، ثم إن المبتاع رده قبل أن يتفرقا، فقضى أنه قد وجب عليه. فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع، وقال البائع: لم أوجب له، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما (ما) افترقتما عن بيع ولا تخاير.
[ 48 ]
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله ما تفرقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرقا عن تراض بعد بيع أو تخاير. وعلة من قال هذه المقالة ما: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي (ص)، قال: كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا أن يكون خيارا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: ثنى يحيى بن أيوب، قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلا يقول له: خيرني ! ثم يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): لا يفترق اثنان إلا عن رضا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله (ص): يا أهل البقيع ! فسمعوا صوته، ثم قال: يا أهل البقيع ! فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهل البقيع لا يتفرقن بيعان إلا عن رضا. حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا سليمان بن معاذ، قال: ثنا السماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي (ص) بايع رجلا ثم قال له: اختر ! فقال: قد اخترت، فقال: هكذا البيع.
[ 49 ]
قالوا: فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي (ص) من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرقا عنه بأبدانهما، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما. وقال آخرون: بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده. وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الاجبار في النكاح لاحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما، الذي جرى ذلك فيه قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأولوا قول النبي (ص): البيعان بالخيار ما لم يتفرقا على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد. قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه، لصحة الخبر عن رسول الله (ص) بما: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (ص): البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يكون بيع خيار وربما قال: أو يقول أحدهما للآخر اختر. فإذ كان ذلك عن رسول الله (ص) صحيحا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لانه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على
[ 50 ]
صاحبه، ما لم يكن له مالكا، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء. أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع، ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها، لانها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذا فسد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك صح أن المعنى الآخر من قول رسول الله (ص)، أعني قوله: ما لم يتفرقا إنما هو التفرق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده، وإذا صح ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك: إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع. وإذا فسد ذلك صح ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصح تأويل من قال: معنى قوله: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * إلا أن يكون أكلكم الاموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم، أو يخير بعضكم بعضا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * ولا يقتل بعضكم بعضا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جل ثناؤه أهل الاسلام كلهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلا في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * يقول: أهل ملتكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * قال: قتل بعضكم بعضا. وأما قوله جل ثناؤه: * (إن الله كان بكم رحيما) * فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كف بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء
[ 51 ]
بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلا وسلبا وغصبا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) *.. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (ومن يفعل ذلك عدوانا) * فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن عدوانا وظلما * (فسوف نصليه نارا) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء أرأيت قوله: * (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا) * في كل ذلك، أو في قوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * ؟ قال: بل في قوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) *. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرمته عليه من أول هذه السورة إلى قوله: * (ومن يفعل ذلك) * من نكاح من حرمت نكاحه، وتعدى حدوده، وأكل أموال الايتام ظلما، وقتل النفس المحرم قتلها ظلما بغير حق. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلما بغير طيب نفس منه وقتل أخاه المؤمن ظلما، فسوف نصليه نارا قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال معناه: ومن يفعل ما حرم الله عليه من قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *... إلى قوله: * (ومن يفعل ذلك) * من نكاح المحرمات، وعضل المحرم عضلها من النساء، وأكل المال بالباطل، وقتل المحرم قتله من المؤمنين، لان كل ذلك مما وعد الله عليه أهله العقوبة. فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله: * (ذلك) * معنيا به جميع ما أوعد الله عليه العقوبة من أول السورة ؟ قيل: منع ذلك أن كل فصل من ذلك قد قرن بالوعيد، إلى قوله: * (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرم الله في الآي
[ 52 ]
التي بعده، إلى قوله: * (فسوف نصليه نارا) *. فكان قوله: * (ومن يفعل ذلك) * معنيا به ما قلنا مما لم يقرن بالوعيد مع إجماع الجميع على أن الله تعالى قد توعد على كل ذلك أولى من أن يكون معنيا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونا قبل ذلك. وأما قوله: * (عدوانا) * فإنه يعني به: تجاوزا لما أباح الله له إلى ما حرمه عليه، * (وظلما) * يعني: فعلا منه ذلك بغير ما أذن الله به، وركوبا منه ما قد نهاه الله عنه. وقوله: * (فسوف نصليه نارا) * يقول: فسوف نورده نارا يصلى بها فيحترق فيها. * (وكان ذلك على الله يسيرا) * يعني: وكان إصلاء فاعل ذلك النار وإحراقه بها على الله سهلا يسيرا، لانه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاء بالوعيد لمن توعده على من كان إذا حاول الوفاء به قدر المتوعد من الامتناع منه، فأما من كان في قبضة موعده فيسير عليه إمضاء حكمه فيه والوفاء له بوعيده، غير عسير عليه أمر أراده به. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما اختلف أهل التأويل في معنى الكبائر التي وعد الله جل ثناؤه عباده باجتنابها تكفير سائر سيئاتهم عنهم، فقال بعضهم: الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * هي ما تقدم الله إلى عباده بالنهي عنه من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين منها. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله بمثله. حدثني المثنى، قال: حجاج، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، مثله.
[ 53 ]
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الاعمش، عن إبراهيم، قال: ثنى علقمة، عن عبد الله، قال: الكبائر من أول سورة النساء، إلى قوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *. حدثنا الرفاعي، قال: ثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الكبائر من أول سورة النساء، إلى قوله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: سئل عبد الله عن الكبائر، قال: ما بين فاتحة سورة النساء إلى رأس الثلاثين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، قال: الكبائر: ما بين فاتحة سورة النساء إلى ثلاثين آية منها: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، أنه قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى الثلاثين منها: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة، سورة النساء، إلى هذا الموضع: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. ثم تلا: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) *. حدثني المثنى، قال: ثنا ابن وكيع، قال: ثنا مسعر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: قال عبد الله: الكبائر: ما بين أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين. وقال آخرون: الكبائر سبع. ذكر من قال ذلك: حدثني تميم بن المنتصر، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق،
[ 54 ]
عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة، وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر، فقال: يا أيها الناس إن الكبائر سبع ! فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها ؟ قالوا، يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال: الاشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لابي: يا أبت التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا ؟ فقال: يا نبي، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفئ ووجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو الاحوص سلام بن سليم، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله، الاشراك بالله منهن: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء) * و * (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * و * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * و * (الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) *، والفرار من الزحف: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) *، والتعرب بعد الهجرة: * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) *، وقتل النفس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير الليثي، قال: الكبائر سبع: الاشراك بالله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) *، وقتل النفس: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) *... الآية، وأكل الربا: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) *... الآية، وأكل أموال اليتامى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) *... الآية، وقذف المحصنة: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) *... الآية، والفرار من الزحف: * (ومن يولهم يومئذ
[ 55 ]
دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) *... الآية. والمرتد أعرابيا بعد هجرته: * (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) * الآية. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة عن الكبائر، فقال: الاشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون: فقلت لمحمد فالسحر ؟ قال: إن البهتان يجمع شرا كثيرا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: الكبائر: الاشراك، وقتل النفس الحرام، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والمرتد أعرابيا بعد هجرته. حدثني يعقوب، قال ثنا هشيم، ققال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بنحوه. وعلة من قال هذه المقالة ما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: أخبرني الليث، قال: ثنى خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول الله (ص) يوما، فقال: والذي نفسي بيده ؟ ثلاث مرات، ثم أكب، فأكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف. ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحب إلينا من حمر النعم، فقال: ما من عبد يصلى الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل: ادخل بسلام. حدثنى المثنى قال ثنا أو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال الكبائر سبع قتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم ورمى المحصنة وشهادة الزور وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف
[ 56 ]
وقال آخرون هي تسع ذكر من قال ذلك. حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن عليمة قال أخبرنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس قال كنت مع الحدثان وأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر فلقيت ابن عمر فقلت إني أصيب ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر قال وما هي قلت كذا وكذا قال ليس من الكبائر قال ئ لم يسمعه طيسلة قال هي تسع وسأعدهم عليك الاشراك بالله وقتل النسمة بغير حلها والفرار من الزحف وقذف المحصنة وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلما والحاد في المسجد الحرام والذي يستسخر وبكاء الوالدين من العقوق قال زيادة وقال طيسلة لما رأى ابن عمر فرقى قال أتخاف النار أن تدخلها قلت نعم قال وتحب أن تدخل الجنة قلت نعم قال أحي والداك قلت عندي أمي قال فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات. حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطي قال أخبرنا سلم بن ابن سلام قال أخبرنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بنه علي النهدي قال أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قال قلت أخبرني عن الكبائر قال هي تسع قلت ما هن قال الاشراك بالله وقذف المحصنة قال قلت قبل القتل قال نعم ورغما وقت النسفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والالحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا. حدثنا سليمان بن ثابت الخراز قال أخبرنا سلم بن سلام قال أخبرنا أيوب بن عتبة عن يحيى بن عبيد بن عمير عن أبيه عن النبي (ص) بمثله إلا أنه قال بدأ بالقتل قبل القذف.
[ 57 ]
وقال آخرون هي أربع ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن حميد قال ثنا حكام بن سلم عن عنبسة عن مطرف عن وبرة عن ابن مسعود قال الكبائر الاشراك بالله والقنوط من رحمة الله والاياس من روح الله والامن من مكر الله. حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال ثنا هشيم قال أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال قال عبد الله أكبر الكبائر الاشراك بالله والاياس من روح الله والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله. حدثنا أبو كريب قال ثنا أبو معاوية عن الاعمش عن وبرة بن عبد الرحمن قال قال عبد الله ان الكبائر الشرك بالله والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله والاياس من روح الله. حدثنى أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا ابن ادريس قال سمعت مطرفا عن وبرة عن أبي الطفيل قال قال عبد الله الكبائر أربع الاشراك بالله والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله. حدثني محمد بن عمارة الاسدي قال ثنا عبد الله قال أخبرنا شيبان عن الاعمش عن وبرة عن أبي الطيل قال سمعت ابن مسعود يقول أكير الكبائر الاشراك بالله. حدثنى محمد بن عمارة قال ثنا عبد الله قال أخبرنا اسرائيل عن أبي إسحاق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله بنحوه. حدثني ابن المثنى قال ثنى وهب بن جرير قال ثنا شعبة عن عبد الملك بن أبي الطفيل عن عبد الله قال الكبائر أربع الاشراك بالله والامن من مكر الله والاياس من روح الله والقنوط من رحمة الله وبه قال ثنا شعبة عن القاسم بن أبي برة عن أبي الطفيل عن عبد الله بمثله.
[ 58 ]
حدثنا ابن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن القاسم بن أبي برة عن أبي الطفيل عن عبد الله بن مسعود بنحوه. حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن ابن مسعود قال الكبائر أربع الاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله والامن لمكر الله والاياس من روح الله. حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن المسعودي عن فرات القزاز ععن أبي الطفيل عن عبد الله قال الكبائر القنوط من رحمة الله والاياس من روح الله والامن لمكر الله والشرك بالله. وقال آخرون كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ذكر من قال ذلك. حدثنا أبو كريب قال ثنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين عن ابن عباس قال ذكرت عنده الكبائر فقال كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن علية قال أخبرنا أيوب عن محمد قال أنبئت أن ابن عباى كان يقول كل ما نهى الله عنه كبيرة وقد ذكرت الطرفة قال هي النظرة. حدثنى محمد بن عبد الاعلى قال ثنا معتمر عن أبيه عن طاوس قال قال رجل لعبد الله بن عباس أخبرني بالكبائر السبع قال فقال ابن عباس هي أكثر من سبع وتسع فما أدري كم قالها من مرة. حدثنى محمد بن بشار قال ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي عن عوف قال قام أبو العالية الرياحي على حلقة أنا فيها فقال إن ناسا يقولون الكبائر سبع وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين أو يزدن على ذلك.
[ 59 ]
حدثنا على قال ثنا الوليد قال سمعت أبا عمر ويخبر عن الزهري عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أبع هي قال هي إلى السبعين أقرب. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن قيس بن سعد عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس كم الكبائر أسبع هي قال إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع اسغفار ولا صغيرة مع إصرار. حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن ليث عن طاوس قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ما هن قال هن إلى السبعين أدنى منها إلى السبع. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال قيل لابن عباس الكبائر سبع قال هي إلى السبعين أقرب. حدثنا أحمد بن حازم قال أخبرنا أبو نعيم قال ثنا عبد الله بن سعدان عن أبي الوليد قال سألت ابن عباس عن الكبائر قال كل شئ عصى الله فيه فهو كبيرة. وقال آخرون هي ثلاث ذكر من قال ذلك. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود قال الكبائر ثلاث اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله. وقال آخرون كل موجبة وكل ما أوعد الله أهله عليه النار فكبيرة ذكر من قال ذلك. حدثنى المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثنى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن علية قال أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن واسع قال قال سعيد بن جبير كل موجبة في القرآن كبيرة. حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن محمد بن مهرم الشعاب عن محمد بن واسع الازدي عن سعيد بن جبير قال كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو من الكبائر.
[ 60 ]
حدثنا علي بن سهل قال ثنا الوليد بن مسلم عن سالم أنه سمع الحسن يقول كل موجبة في القرآن كبيرة. حدثنى محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول ال له ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه قال الموجبات. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيحح عن مجاهد مثله. حدثنى يحيى بن أبي طالب قال ثنا يزيد قال ثنا جويبر عن الضحاك قال الكبائر كل موجبة أوجب الله لاهلها النار وكل عمل يقام به الحد فهو من الكبائر. قال أبو جعفر والذي نقول به في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله (ص) وذلك ما حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة قال ثنى عبيد الله بن أبي بكر قال سمعت أنس بن مالك قال ذكر رسول الله (ص) الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكبر ظني أنه قال شهادة الزور. حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا شعبة قال أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس عن النبي (ص) في الكبائر قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور. حدثنا ابن المثنى قال ثنا يحيى بن كثير قال ثنا شعبة عن عبيد الله بن
[ 61 ]
أبي بكر عن أنس قال ذكروا الكبائر عند رسول الله (ص) فقال الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور. حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن فراس عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي (ص) قال أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين أو قتل النفس شعبة الشاك واليمين الغموس. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ثنا عبد الله بن موسى قال ثنا شيبان عن فراس عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو قال جاء أعرابي إلى النبي (ص) فقال ما الكبائر قال الشرك بالله قال ثم مه قال وعقوق الوالدين قال ثم مه قال واليمين الغموس قلت للشعبي ما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمينه وهو فيها كاذب. حدثنى المثنى قال ثنا ابن أبي السرى محمد بن المتوكل العسقلاني قال ثنا محمد بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي رهم عن أبي أيوب الانصاري قال قال رسول الله (ص) من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة قيل وما الكبائر قال الاشراك بالله وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف. حدثنى عباس بن أبي طالب قال ثنا سعد ابن عبد الحميد عن جعفر عن ابن أبي جعفر عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن سلمان الاغر عن أبيه أبي عبد الله سلمان الاغر قال قال أبو أيوب خالد بن أيوب الانصاري عقبى بدري قالقال رسول الله (ص) ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة فسألوه ما الكبائر قال الاشراك بالله والفرار من الزحف وقتل النفس.
[ 62 ]
حدثنا أبو كريب قال ثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا عباد بن عباد عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة أن ناسا من أصحاب رسول الله (ص) ذكروا الكبائر وهو متكئ فقالوا الشرك بالله وأكل مال اليتيم وفرار من الزحف وقذف المحصنة وعقوق الوالدين وقول الزور والغلول والسحر وأكل الربا فقال رسول الله (ص) فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية. حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال ثنا سفيان عن أبي معاوية عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله قال سألت النبي (ص) ما الكبائر قال أن تدعو لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك وقرأ علينا رسول الله (ص) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون. حدثنى هذا الحديث عبد الله بن محمد الزهري فقال ثنا سفيان قال ثنا أبو معاوية النخعي وكان على السجن سمعه من أبي عمرو عن عبد الله بن مسعود سألت رسول الله (ص) فقلت أي العمل شر قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك وأت تقتل ولدك خشية أن يأكل معك وأن تزني بجارتك وقرأ علي الذين لا يدعون مع الله إلها آخر. قال أبو جعفر وأولى ما قيل في تأويل الكبائر بالصحة ما صح به الخبر عن رسول الله (ص) دون ما قاله غيره وإن كان كل قائل فيها قولان من الذين ذكرنا أقوالهم قد اجتهدوا بالغ في نفسه ولقوله في الصحة مذهب فالكبائر إذن الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس المحرم قتلها وقول الزور وقد يدخل في قول الزور شهادة الزور وقذف المحصنة واليمين الغموس والسحر ويدخل في قتل النفس المحرم
[ 63 ]
قتلها قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه والفرار من الزحف والزنا بحليلة الجار وإذا كان ذلك كذلك صح كل خبر روي عن رسول الله (ص) في معنى الكبائر وكان بعضه مصدقا بعضا وذلك أن الذي روي عن رسول الله (ص) أنه قال هي سبع يكون معنى قوله حينئذ هي سبع على التفصيل ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال هي الاشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور على الاجمال إذ كان قوله وقول الزور يحتمل معاني شتى وأن يجمع جميع ذلك قول الزور وأما خبر ابن مسعود الذي ثنى به الفريابي على ما ذكرت فإنه عندي غلط من عبيد الله ابن محمد لان الاخبار المتظاهرة من الاوجه الصحيحة عن ابن مسعود عن النبي (ص) بنحو الرواية التي رواها الزهري عن ابن عيينة ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود أن النبي (ص) سئل عن الكبائر فنقلهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود عن النبي (ص) أولى بالصحة من نقل الفريابي فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبها تكفير ما عداها من سيئاته وادخاله مدخلا كريما وأدى فرائضه التي فرضها الله عليه وجد الله لما وعده من وعد منجزا وعلى الوفاء به ذائبا وأما قوله نكفر عنكم سيئاتكم فإنه يعني به نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم صغائر سيئاتكم يعني صغائر ذنوبكم كما. حدثنى محمد بن الحسن قال ثنا أحمد بن مفضل قال ثنا أسباط عن السدى نكفر عنكم سيئاتكم الصغائر. حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن الحسن أن ناسا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها وأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقيه عمر رضي الله عنه فقال متى قدمت قال منذ كذا وكذا قال أبإذن قدمت قال فلا أدري كيف رد عليه فقال يا أمير المؤمنين إن ناسا لقوني بمصر فقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى أمر أن يعمل بها لا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال اجمعهم لي قال فجمعتهم له قال ابن عون أظنه قال في نهر فأخذ أدناهم رجلا فقال أنشدك بالله وبحق الاسلام عليك أقرأت القرآن كله قال نعم قال فهل أحصيته في نفسك قال اللهم لا قال ولو قال نعم لخصمه قال فهل أحصيته في بصرك هل أحصيته في لفظك هل أحصيته في أثرك قال ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال
[ 64 ]
ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات قال وتلا ان تجتنبوا كبائر ما تنهو عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما هل علم أهل المدينة أو قال هل علم أحد بما قدمتم قالوا لا قال لو علموا لوعظت بكم. حدثنى يعقوب قال ثنا ابن علية قال ثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة قال أتينا أنس بن مالك فكان فيما ثنا قال لم نرم مثل الذي بلغنا عن ربنا ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال ثم سكت هنيهة ثم قال والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فما لنا ولها ثم تلا أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية. حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن نبي الله (ص) قال اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال في خمس آيات من سورة النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقوله والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما. حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني أبو النضر عن صالح المري
[ 65 ]
عن قتادة عن ابن عباس قال ثمان آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس وغربت أولاهن يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والثانية والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما والثالثة يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء وزاد فيه ثم أقبل يفسرها في آخر الآية وكان الله للذين عملوا الذنوب غفورا رحيما وأما قوله وندخلكم مدخلا كريما فإن القراء اختلفت في قراءته فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض الكوفيين وندخلكم مدخلا كريما بفتح الميم وكذلك الذي في الحج لندخلنهم مدخلا يرضونه فمعنى وندخلكم مدخلا فيدخلون دخولا كريما وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة أن يكون المعنى في المدخل المكان والموضع لان العرب ربما فتحت الميم من ذلك بهذا المعنى كما قال الراجز: بمصبح الحمد وحيث نمسيأ وقد أنشدني بعضهم سماعا من العرب الحمد لله ممسنا ومصبحنا * بالخير صبحنا ربي ومسانا
[ 66 ]
وأنشدني آخر غيره: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ألانه من أصبح وأمسى وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة تضم ميمه في مثل هذا فتقول دحرجته مدحرجا فهو مدحرج ثم تحمل ما جاء على فعل يفعل على ذلك لان يفعل من يدخل وإن كان على أربعة وإن أصله أن يكون على يؤفعل يؤدخل ويؤخرج فهو نظير يدحرج وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين مدخلا بضم الميم يعني وندخلكم ادخالا كريما قال أبو جعفر وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك وندخلكم مدخلا كريما بضم الميم لما وصفنا من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في فعل فالمصدر منه مفعل وإن أدخل ودرج فعل منه على أربعة فالمدخل مصدره أولى من مفعل مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على أفعل كما يقال أقام بمكان فطاب له المقام إذا أريد به الاقامة وقام في موضعه فهو في مقام واسع كما قال جل ثناؤه أن المتقين في مقام أمين من قام يقوم ولو أريد به الاقامة لقرئ إن المتقين في مقام أمين كما قرئ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق بمعنى الادخال والاخراج ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ مدخل صدق ولا مخرج صدق بفتح الميم وأما المدخل الكريم فهو الطيب الحسن المكرم بنفي الآفات والعاهات عنه وبارتفاع الهموم والاحزان ودخول الكدر في عيش من دخله فلذلك سماه الله كريما كما. محمد بن الحسن قال ثنا أحمد بن مفضل قال ثنا أسباط عن السدي وندخلكم مدخلا كريما قال الكريم هو الحسن في الجنة. القول في تأويل قوله (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) يعني بذلك جل ثناؤه ولا تشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما) يعنى بذلك جل ثناؤه: ولا تتشهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. وذكر أن ذلك
[ 67 ]
نزل في يساء تمنين منتازل الرجال، وأن يكون تلهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذا كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغى بغير الحق. ذكر الأخبار بما ذكر نا: حدثنا محمد بن بشبار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبى نكجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يارسول الله لا نعطى الميراث، ولا نغزو في سبيل الله فنقتل ؟ فنزلت: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) (1). حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن تهشام، عن سفيان الثوري، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث ؟ فنزلت: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ونزلت ان المسلمين والمسلمات. حدثنى المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثنى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض يقول لا يتمنى الرجل يقول ليت أن لي مال فلان وأهله فنهى الله سبحانه عن ذلك ولكن ليسأل الله من فضله. حدثنى محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال قول النساء ليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قول النساء يتمنين ليتنا رجال فنغزو ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة أي رسول الله أتغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فنزلت ولا تتمنوا ما فضل الله
[ 68 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن شيخ من أهل مكة، قوله: * (m لا jjlkm ا l ا tqg ال fuq fY gY قال: كان النساء يقلن: ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال، ونغزو في سبيل الله ! فقال الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض). حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: تتمنى مال فلان ومال فلان، وما يدريك لع g هلاكه في ذلك المال. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا: نزلت في أ l سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة. [ رق ] وبه قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: هو الانسان يقول: وددت أن لي مال فلان ! قال: واسألوا الله من فضله، وقول النساء: ليتنا رجال فنغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يتم k بعضكم ما خ w الله بعضا من منازل الفضل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السد d، قوله: * (m لا jjlkm ا ما tqg ال fuq fY gY فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الاجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، فنريد أن يكون لنا في الاجر أجران، وقال النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل الرجال، فأنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب عليناسش القتال لقاتلنا. فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سلوا الله من فضله، يرزقكم الاعمال، وهو خير لكم. [ رق ] حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: نهيتم عن الامان d، و 6 للتم على ما هو خير منه، واسألوا الله من فضله. [ رق ] حدثني المثنى، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا، قال: قد نهاكم الله عن هذا، * (jjlkm mb ا ما tqg ال fuq fY gY ودلكم على خير منه، واسألوا الله من فضله. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي
[ 69 ]
فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلو الله من فضله. القول في تأويل قوله تعالى: * (لل v جا kw g ي ll f ا ا. مما اكتسبن). اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك. ذكر من قال ذلك: [ رق ] حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به m لا jjlkm ا ما tqg ال fuq fY gY للنساء نصيب مما اكتسبن) كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصب d شيئا، وإنما يجعلون الميراث لمن يحترف وينفع ويدفع، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصب d نصيبه، وجعل للذكر مثل ح 3 الانثيين، قال النساء: لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال ! وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليه k في الميراث ! فأنزل الله: * (لل v جا kw g ي ll f ا ا، يقول: المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها كما يجزي الرجل، قال الله تعالى: * (واسألو الله من فضله) *. [ رق ] حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنى أبو ليلى، قال سمعت أبا جرير يقول: لما نزل: * (لل 5 قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث ! فأنزل الله: * (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) يعني الذنوب، واسألوا الله يا معشر النساء من فضله. وقال آخرون: بل معنذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منهم. ذكر من قال ذلك: [ رق ] حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عل d بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (لل v جا kw g وللنساء نصيب مما اكتسبن) يعني: ما ترك الوالدان والاقربون، يقول: * (للذكر مثل حظ الأنثيين).
[ 70 ]
الحدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أبي إسحاق، عن عكرمة أو غيره، في قوله: * (لل v جا kw g ي ll f ا ا قال: في الميراث كانوا لا يو v ثون النساء. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال معناه: للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا، فعملوه من خير أو ش v، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال. وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه، لان الله ج g ثناؤه أخبر أن لك g فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب، وإنما الكسب العمل، والمكتسب: المحترف، فغير جائز أن يكون معنى الآية، وقد قال الله: * (لل [ v ا kw g ي ll f ا ا للرجال نصيب مما ورثوا، وللنساء نصيب مما ورثن، لان ذلك لو كان كذلك لقيل: للرجال نصيب مما لم يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم اكتسبن. من ذلك كمتا للرجال. وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأوزل الآية من قول من قال تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب، وتمإنما الكسب العمل، ومال مكتسب: الوارث، المحترف، فغير جائز أن يكون معنى الآية، وقد قال الله: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) للرجال نصيب مما يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن. القول في تأويل قوله تعالى: (واسئلوا الله من فضله). يعني بذلك ج g ثناؤه: واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته، ففضله في هذا الموضع: توفيقه ومعونته. كما: [ رق ] حدثنا محمد بن مسلم الرازي، قال: ثنا أبو جعفر النفيلي، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن سعيد: * (m ا s ئ g وا ال *) tqgY lk gY قال: العبادة ليست من أمر الدنيا. [ رق ] حدثنا محمد بن مسلم، قال: ثنى أبو جعفر، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن سعيد: و (واسئلوا الله من فضله) قال،: العبادة ليست من أمر الدنيا. حدثنا محمد بن مسلم، قال: ثنى أبو جعفر، قال: ثنا موسى، عن ليث، قال: فضله العبادة ليس من أمر الدنيا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هشام، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (واسئلوا الله من فضله) قال: ليس بعرض الدنيا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال ثنا أسباط، عن السد ى: (واسئلوا الله من فضله) يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير،
[ 71 ]
عن رجل لم يسمه، قال: قال رسول الله (ص): عن رجل لم يسمه، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " سلوالله من فضله فإنه يحب أن يسأل، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج " (1). القول في تأويل قوله تعالى: (إن الله كان بكل شئ عليما). يعنى بذلك جل ثناؤه: إن الله كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم * (ug يما) * يقول: ذا علم، ولا تتنموا غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لامره، والرضا بقضائه ومسئلته من فضله. [ / شا ] [ بم ] القول في تأويل قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا) *.. [ / مق ] [ شا ] يعني ج g ثناؤه بقوله: * (: mg ولكلكم أيها الناس جعلنا موالي، يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم. والعرب تسمي ابن الع l المولى، ومنه قول الشاعر: ومولى رمينا حوله وهو مدغل * بأعراضنا والمنديات سروع (2) يعنى بذلك: وابن عم رمينا حوله. و منه قول ما لفضل بن العباس: (3): مهلا بنى عمنا مهلا موالينا * لا تظهر ن لنا ما كان مدفونا (4)
[ 72 ]
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: [ رق ] حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا إدريس، قال: ثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: * (mg قال: ورثة. [ رق ] حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عل d بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان نم) قال: الموالي: العصبة، يعني: الورثة. [ رق ] حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: * (mg قال: الموالي: العصبة. [ رق ] حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قوله: * (mg قال: هم الاولياء. [ رق ] حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولكل جعلنا موالى) يقول: عصبة. [ رق ] حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (mg قال: الموالي: أولياء الاب أو الاخ أو ابن الاخ أو غيرهما من العصبة. [ رق ] حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السد mg (*: d أما موالي: فهم أهل الميراث. [ رق ] حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (حدثنى يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ولكل جعلنا موالى) قال: الموالي: العصبة هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم أسما، فقال الله تبارك وتعالى: * (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) فسموا الموالى. قال: اليوم موليان: مولى يرث ويورث فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث فهؤلاء العتاقة (3)، وقال ألا
[ 73 ]
ترون قول زكرياء: (وإنى خفت الموالى من ورائي) (1). فالموالي ههنا: الورثة ويعني بقوله: (مما ترك الوالدان والأقربون): مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث. فتأويل الكلام: ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم. القول في تأويل قوله تعالى: والذين عقدت أنيمانكم فأتوهم نصيبهم) (2). اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (والذين عقدت أيمانكم) بمعنى: والذين عقدت أيمانكم الحلف بينكم وبينهم، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين. وقرأ ذلك آخرون: (والذين عقدت أيمانكم) بمعنى: والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلف بينكم وبينهم. قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة أمصار المسلمين بمعنى واحد وفي دلالة قوله: * (أيمانكم) * على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف، مستغنى عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله عقدت، عاقدت، وذلك أن الذين قرءوا ذلك عاقدت، قالوا: لا يكون عقد الحلف إلا من فريقين، ولا بد لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك، وأغفلوا موضع دلالة قوله: أيمانكم، على أن معنى ذلك: أيمانكم وأيمان المعقود عليهم، وأن العقد إنما هو صفة للايمان دون العاقدين الحلف، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرئ: * (عقدت أيمانكم) * فالكلام محتاج إلى ضمير صلة في الكلام حتى يكون الكلام معناه: والذين عقدت لهم أيمانكم ذهابا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك من أن الايمان معني بها أيمان الفريقين وأما عاقدت أيمانكم، فإنه في تأويل: عاقدت أيمان هؤلاء أيما هؤلاء الحلف، فهما متقاربان في المعنى، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك: * (عقدت أيمانكم) * بغير ألف، أصح معنى من قراءة من قرأة: * (عاقدت) * للذي ذكرنا من الدلالة على المعني في صفة الايمان بالعقد على أنها أيمان الفريقين من الدلالة على ذلك بغيره. وأما معنى قوله: * (عقدت أيمانكم) * فإنه
[ 74 ]
وصلت وشدت ووكدت أيمانكم،، يعنى: مواثيقكم التى واثق بعضهم (1) بعضا، فآتوهم نصيبهم. ثم اختلف أهل التأويل في معنى النصيب الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضا في الاسلام، فقال بعضهم: هو نصيبه من الميراث لانهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب الله في الاسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الاسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية، ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الارحام والقرابات. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، في قوله: * (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا) * قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بنيهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ الله ذلك في الانفال، فقال: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قول الله: والذين عاقدت أيمانكم قال: كان الرجال يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولى فورثه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، ثني معاوية، عن علي بن طلحة، عن ابن عباس، قوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله: * (وألوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * يقول: إلا أن يوصوا لاوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز ن ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا كان الرجل يعاقد
[ 75 ]
الرجل في الجاهلية، فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك. فجعل له السدس من جميع المال في الاسلاك، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الانفال، فقال الله: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: والذين عاقدت أيمانكم قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمى دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فلما جاء الاسلام، بقي منهم ناس، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض) *. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة يقول في قوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل في الجاهلية، فيقول: هدمي هدمك، ودمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك. فجعل له السدس من جميع المال، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد الانفال، فقال: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * فصارت المواريث لذوي الارحام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، قال: هذا حلف كان في الجاهلية، كان الرجل يقول للرجل: ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: والذين عاقدت أيمانكم كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده: إن مت فلك مثل ما يرث بعض ولدي وهذا منسوخ. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين
[ 76 ]
عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لاهله وأقاربه الميراث، وبقي تابعه ليس له شئ، فأنزل الله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه، فأنزل الله بعد ذلك: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله (ص) من المهاجرين والانصار، فكان بعضهم يرث بعضا بتلك المؤاخات ثم نسخ الله ذلك بالفرائض، وبقوله: * (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا إدريس بن يزيد، قال: ثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الانصاري دون ذوي رحمه، للاخوة التي آخى رسول الله (ص) بينهم، فلما نزلت هذه الآية: * (ولكل جعلنا موالي) * نسخت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: والذين عاقدت أيمانكم الذين عقد رسول الله (ص)، * (فآتوهم نصيبهم) * إذا لم يأت رحم يحول بينهم، قال: وهو لا يكون اليوم، إنما كان في نفر آخى بينهم رسول الله (ص)، وانقطع ذلك، ولا يكون هذا لاحد إلا للنبي (ص)، كان آخى بين المهاجرين والانصار واليوم لا يؤاخي بين أحد. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في أهل العقد بالحلف، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا إدريس الاودي، قال: ثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والرفادة، ويوصي لهم، وقد ذهب الميراث.
[ 77 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: * (والذين عقدت أيمانكم) * قال: كان حلف في الجاهلية، فأمروا في الاسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والنصرة والمشورة، ولا ميراث. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من العون والنصر والخلف. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد في قوله الله: والذين عاقدت أيمانكم قال: كان هذا حلفا في الجاهلية، فما كان الاسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة، ولا ميراث. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: ابن جريج: والذين عاقدت أيمانكم أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو الحلف عقدت أيمانكم، قال: وأتوهم نصيبهم، قال: النصر. حدثني زكريا بن يحيى، قال: ثنا حجاج، قال: ابن جريج: أخبرني عطاء، قال: هو الحلف، قال: * (فآتوهم نصيبهم) * قال: العقل والنصر. حدثني محمد بن محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: والذين عاقدت أيمانكم قال: لهم نصيبهم من النصر والرفادة والعقل.. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: والذين عاقدت أيمانكم قال: هم الحلفاء.
[ 78 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عباد بن العوام، عن خصيف، عن عكرمة، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم أما عاقدت أيمانكم فالحلف كان الرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم يواسونه بأنفسهم، فإذا كان لهم حق أو قتال كان مثلهم، وإذا كان له حق أو نصرة خذلوه، فلما جاء الاسلام سألوا عنه، وأبى الله إلا أن يشدده، وقال رسول الله (ص): لم يزد الاسلام الحلفاء إلا شدة. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، فأمروا بالاسلام أن يوصوا لهم عند الموت وصية. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنى الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى سعيد بن المسيب، أن الله قال: ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال سعيد بن المسيب: إنما نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذوي الرحم والعصبة، وأبي الله للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن الله جعل لهم نصيبا في الوصية. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصواب في تأويل قوله: * (والذين عقدت أيمانكم) * قول من قال: والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها أن عقد الحلف بينها كان يكون بالايمان والعهود والمواثيق، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك. فإذ كان الله جل ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم، وكانت مؤاخاة النبي (ص) بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والانصار، لم تكن بينهم بأيمانهم، وكذلك التبني، كان معلوما أن الصواب من القول في ذلك قول من قال: هو الحلف دون غيره لما وصفنا من العلة. وأما قوله: * (فآتوهم نصيبهم) * فإن أولى التأويلين به، ما عليه الجميع مجمعون من
[ 79 ]
حكمه الثابت، وذلك إيتاء أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الاسلام بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرأي دون الميراث، وذلك لصحة الخبر عن رسول الله (ص)، أنه قال: لا حلف في الاسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة. حدثنا بذلك أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله (ص). وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل بن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): لا حلف في الاسلام، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة، وما يسرني أن لي حمر النعم وأنى نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم الضبي: أن قيس بن عاصم سأل النبي (ص) عن الحلف، فقال: لا حلف في الاسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي (ص) عن الحلف قال: فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الاسلام. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جدعان، عمن حدثه، عن أم سلمة أن رسول الله (ص)، قال: لا حلف في الاسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة.
[ 80 ]
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا حسين المعلم. وحدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد بن هارون قال: ثنا حسين المعلم. وحدثنا حاتم بن بكر الضبي، قال: ثنا عبد الاعلى، عن حسين المعلم، قال: ثنا أبي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله (ص) قال في خطبته يوم فتح مكة: فوا بحلف، فإنه لا يزيده الاسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الاسلام. حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد الله الصفار، قالا: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا زكريا بن أبي زائدة قال: ثنى سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: أن النبي (ص) قال: لا حلف في الاسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة. حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الاعلى، قالا: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله (ص)، قال: شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية، قال: وقال الزهري: قال رسول الله (ص): لم يصب الاسلام حلفا إلا زاده شدة قال: ولا حلف في الاسلام، قال: وقد ألف رسول الله (ص) بين قريش والانصار. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: لما دخل رسول الله (ص) مكة عام الفتح، قام خطيبا في الناس، فقال: يا أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية فإن الاسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الاسلام.
[ 81 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي (ص)، نحوه. حدثنا أبو كريب قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عبد الرحمن بن الحرث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي (ص) نحوه. فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله (ص) صحيحا، وكانت الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هي أم غير منسوخ، غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ - مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك، فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * هو ما ذكرنا من التأويل، وهو أن قوله: * (عقدت أيمانكم) * من الحلف، وقوله: * (فآتوهم نصيبهم) * من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي على ما أمر به من ذلك رسول الله (ص) في الاخبار التي ذكرناها عنه، دون قول من قال: معنى قوله: * (فآتوهم نصيبهم) * من الميراث، وإن ذلك كان حكما، ثم نسخ بقوله: * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * دون ما سوى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. وإذا صح ما قلنا في ذلك وجب أن تكون الآية محكمة لا منسوخة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان على كل شئ شهيدا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك وعلى غيره من أفعالكم، مراع لكل ذلك حافظ، حتى يجازي جميعكم على جميع ذلك جزاءه، أما المحسن منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى، وأما المسئ منكم المخالف أمري ونهى فبالسوأي. ومعنى قوله: * (شهيدا) *: ذو شهادة على ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون
[ 82 ]
نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (الرجال قوامون على النساء) *: الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والاخذ على أيديهن، فيما يجب عليهن لله ولانفسهم، * (بما فضل الله بعضهم على بعض) *: يعني بما فضل الله به الرجال على أزواجهم من سوقهم إليهن مهورهن، وإنفاقهم عليهن أموالهم، وكفايتهم إياهن مؤنهن. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن، ولذلك صاروا قواما عليهن، نافذي الامر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (الرجال قوامون على النساء) * يعني: أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) * يقول: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله، فإن أبت، فله أن يضربها ضربا غير مبرح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (الرجال قوامون على النساء) * قال: يأخذون على أيديهن ويؤدبونهن. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان، يقول: * (بما فضل الله بعضهم على بعض) * قال: بتفضيل الله الرجال على النساء.
[ 83 ]
وذكر أن هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي (ص) في ذلك، فقضى لها بالقصاص. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا الحسن: أن رجلا لطم امرأته، فأتت النبي (ص)، فأراد أن يقصها منه، فأنزل الله: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) * فدعاه النبي (ص)، فتلاها عليه وقال: أردت أمرا وأراد الله غيره. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) * ذكر لنا أن رجلا لطم امرأه، فأتت النبي (ص)، ثم ذكر نحوه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (الرجال قوامون على النساء) * قال: صك رجل امرأته، فأتت النبي (ص)، فأراد أن يقيدها منه، فأنزل الله: * (الرجال قوامون على النساء) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن جرير بن حازم، عن الحسن، أن رجلا من الانصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي (ص) بينهما القصاص، فنزلت: قوله: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) * ونزلت: * (الرجال قوامون على النساء بمعا فضل الله بعضهم على بعض) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لطم رجل امرأته، فأراد النبي (ص) القصاص، فبينما هم كذلك، نزلت الآية. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، أما: * (الرجال قوامون على النساء) * فإن رجلا من الانصار كان بينه وبين امرأته كلام، فلطمها، فانطلق أهلها، فذكروا ذلك للنبي (ص)، فأخبرهم: * (الرجال قوامون على النساء) *... الآية. وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.
[ 84 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، سمعت الزهري، يقول: لو أن رجلا شج امرأته، أو جرحها، لم يكن عليه في ذلك قود وكان عليه العقل، إلا أن يعدو عليها فيقتلها، فيقتل بها. وأما قوله: * (وبما أنفقوا من أموالهم) * فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: فضله عليها بنفقته وسعيه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول: * (وبما أنفقوا من أموالهم) * بما ساقوا من المهر. فتأويل الكلام إذا: الرجال قوامون على نسائهم بتفضيل الله إياهم عليهن وبإنفاقهم عليهن من أموالهم. وما التي في قوله: * (بما فضل الله) * والتي في قوله: * (وبما أنفقوا) * في معنى المصدر. القول في تأويل قوله تعالى: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فالصالحات) *: المستقيمات الدين، العاملات بالخير. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان، يقول: فالصالحات يعملن بالخير. وقوله: * (قانتات) * يعني: مطيعات لله ولازواجهن. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قوله: * (قانتات) * قال: مطيعات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (قانتات) * قال: مطيعات.
[ 85 ]
حدثني علي عن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (قانتات) *: مطيعات. حدثنا الحسن بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (قانتات) *: أي مطيعات لله ولازواجهن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: مطيعات. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: القانتات: المطيعات. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: * (قانتات) * قال: مطيعات لازواجهن. وقد بينا معنى القنوت فيما مضى وأنه الطاعة، ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: * (حافظات للغيب) * فإنه يعني: حافظات لانفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (حافظات للغيب) * يقول: حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (حافظات للغيب بما حفظ الله) * يقول: تحفظ على زوجها ماله وفرجها، حتى يرجع كما أمرها الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما قوله: * (حافظات للغيب) * ؟ قال: حافظات للزوج. حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: سألت عطاء، عن * (حافظات للغيب) * قال: حافظات للازواج. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول: * (حافظات للغيب) *: حافظات لازواجهن لما غاب من شأنهن.
[ 86 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا أبو معشر، قال: ثنا سعيد عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك قال: ثم قرأ رسول الله (ص): * (الرجال قوامون على النساء) *... الآية. قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول الله (ص) يدل على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحات في أديانهن، مطيعات لازواجهن، حافظات لهم في أنفسهن وأموالهم. وأما قوله: * (بما حفظ الله) * فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة القراء في جميع أمصار الاسلام: * (بما حفظ الله) * برفع اسم الله على معنى: بحفظ الله إياهن إذ صيرهن كذلك. كما: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: سألت عطاء، عن قوله: * (بما حفظ الله) * قال: يقول: حفظهن الله. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: * (بما حفظ الله) * قال: بحفظ الله إياها أنه جعلها كذلك. وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني: بما حفظ الله يعني: بحفظهن الله في طاعته، وأداء حقه بما أمرهن من حفظ غيب أزواجهن، كقول الرجل للرجل: ما حفظت الله في كذا وكذا، بمعنى: راقبته ولاحظته. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين من القراءة مجيئا يقطع عذر من بلغه ويثبت عليه حجته، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذ عنهم، وتلك القراءة ترفع اسم الله تبارك وتعالى: * (بما حفظ الله) * مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقبح نصبه في العربية لخروجه عن المعروف من منطق العرب. وذلك أن العرب لا تحذف الفاعل مع المصادر من أجل أن الفاعل إذا حذف معها لم يكن للفعل صاحب
[ 87 ]
معروف. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره ومعناه: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * فأحسنوا إليهن وأصلحوا، وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا عيسى الاعمى، عن طلحة بن مصرف، قال: في قراءة عبد الله: فالصالحات قانتات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن واللاتي تخافون نشوزهن. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * فأحسنوا إليهن. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * فأصلحوا إليهن. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) * يعني إذا كن هكذا، فأصلحوا إليهن. القول في تأويل قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن) *. اختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهن. ووجه صرف الخوف في هذا الموضع إلى العلم في قول هؤلاء نظير صرف الظن إلى العلم لتقارب معنييهما، إذ كان الظن شكا، وكان الخوف مقرونا برجاء، وكانا جميعا من فعل المرء بقلبه، كما قال الشاعر: ولا تدفنني في الفلاة فانني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها معناه: فإنني أعلم، وكما قال الآخر: أتاني كلام عن نصيب يقوله * وما خفت يا سلام أنك عائبي بمعنى: وما ظننت.
[ 88 ]
وقال جماعة من أهل التأويل: معنى الخوف في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف الرجاء. قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويدخلن ويخرجن، واستربتم بأمرهن، فعظوهن واهجروهن. وممن قال ذلك محمد بن كعب. وأما قوله: * (نشوزهن) * فإنه يعني: استعلاءهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه، بغضا منهن وإعراضا عنهم وأصل النشوز الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الارض نشز ونشاز. * (فعظوهن) * يقول: ذكروهن الله، وخوفوهن وعيده في ركوبها ما حرم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال: النشوز: البغض ومعصية الزوج: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * قال: بعضهن. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * قال: التي تخاف معصيتها. قال: النشوز: معصيته وخلافه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن) * قبل المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: النشوز: أن تحب فراقه، والرجل كذلك. ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله: * (فعظوهن) *: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فعظوهن) * يعني: عظوهن بكتاب الله، قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله ويعظم حقه عليها.
[ 89 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبوحذ يفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن) * قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: اتقي الله وارجعي إلى فراشك، فإن أطاعته فلا سبيل له عليها. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه، يقول: يأمرها بتقوى الله وطاعته. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إذا رأى الرجل خفة في بصرها في مدخلها ومخرجها، قال: يقول لها بلسانه: قد رأيت منك كذا وكذا فانتهى ! فإن أعتبت فلا سبيل له عليها، وإن أبت هجر مضجعها. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فعطوهن) * قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها: اتقي الله وارجعي. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: * (فعظوهن) * قال: بالكلام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (فعظوهن) * قال بالالسنة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: * (فعظوهن) * قال: عظوهن باللسان. القول في تأويل قوله تعالى: * (واهجروهن في المضاجع) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم أيها الازواج، فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن. ذكر من قال ذلك:
[ 90 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فعظوهن واهجروهن في المضاجع) * يعني: عظوهن، فإن أطعنكم وإلا فاهجروهن. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (واهجروهن في المضاجع) * يعني بالهجران أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: الهجر: هجر الجماع. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (تخافون نشوزهن) * فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقد عندها ويوليها ظهره، ويطؤها ولا يكلمها. هكذا في كتابي: ويطؤها ولا يكلمها. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: يضاجعها ويهجر كلامها ويوليها ظهره. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: لا يجامعها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروهن واهجروا كلامهن في تركهن مضاجعتكم، حتى يرجعن إلى مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * أنها لا تترك في الكلام، ولكن الهجران في أمر المضجع. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو حمزة، عن
[ 91 ]
عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: * (واهجروهن في المضاجع) * يقول: حتى يأتين مضاجعكم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: * (واهجروهن في المضاجع) *: في الجماع. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة: * (واهجروهن في المضاجع) * الكلام والحديث..... ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن زريق الطهوى، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن منصور، عن مجاهد في قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: لا تضاجعوهن. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الهجران أن لا يضاجعها. وبه قال حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر وإبراهيم، قالا: الهجران في المضجع أن لا يضاجعها على فراش. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي، أنهما قالا في قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * قالا: يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحب. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان: * (واهجروهن في المضاجع) * قالا: يهجرها في المضجع. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا شريك، عن
[ 92 ]
خصيف، عن مقسم: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: اهجروهن في المضاجع، قال: يعظها بلسانه، فإن أعتبت فلا سبيل له عليها، وإن أبت هجر مضجعها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: * (فعظوهن واهجروهن) * قالا: إذا خاف نشوزها وعظها، فإن قبلت وإلا هجر مضجعها. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: تبدأ يا ابن آدم فتعظها، فإن أبت عليك فاهجرها، يعني به: فراشها. وقال آخرون: معنى قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * قولوا لهن من القول هجرا في تركهن مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * قال: يهجرها بلسانه، ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها. وبه قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن عكرمة، قال: إنما الهجران بالمنطق أن يغلظ لها، وليس بالجماع. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن أبي الضحى، في قوله: * (واهجرهن في المضاجع) * قال: يهجر بالقول، ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد عن رجل، عن الحسن، قال: لا يهجرها إلا في المبيت في المضجع، ليس له أن يهجر في كلام ولا شئ إلا في الفراش. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني يعلى، عن سفيان، في قوله:
[ 93 ]
(واهجرهن في المضاجع) * قال: في مجامعتها، ولكن يقول لها: تعالي وافعلي ! كلاما فيه غلظة، فإذا فعلت ذلك فلا يكلفها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها. ولا معنى للهجر في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه: أحدها هجر الرجل كلام الرجل وحديثه، وذلك رفضه وتركه، يقال منه: هجر فلان أهله يهجرها هجرا وهجرانا. والآخر: الاكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازئ، يقال منه: هجر فلان في كلامه يهجر هجرا إذا هذي ومدد الكلمة، وما ز الت تلك هجيراه وإهجيراه، ومنه قول ذي الرمة: رمى فأخطأ والاقدار غالبة * فانصعن والويل هجيراه والحرب والثالث: هجر البعير إذا ربطه صاحبه بالهجار، وهو حبل يربط في حقويها ورسغها، ومنه قول امرئ القيس: رأت هلكا بنجاف الغبيط * فكادت تجد لذاك الهجارا فأما القول الذي فيه الغلظة والاذى فإنما هو الاهجار، ويقال منه: أهجر فلان في منطقه: إذا قال الهجر وهو الفحش من الكلام، يهجر إهجارا وهجرا. فإذ كان لا وجه للهجر في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة، وكانت المرأة المخوف نشوزها إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه، فغير جائز أن تكون عظته لذلك، ثم تصير المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك، ثم يكون الزوج مأمورا بهجرها في الامر الذي كانت عظته إياها عليه. وإذ كان ذلك كذلك بطل قول من قال: معنى قوله: * (واهجروهن في المضاجع) * واهجروا جماعهن. أو يكون إذ بطل
[ 94 ]
هذا المعنى. ومعنى: واهجروا كلامهن بسبب هجرهن مضاجعكم، وذلك أيضا لا وجه له مفهوم لان الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه (ص) أنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. على أن ذلك لو كان حلالا لم يكن لهجرها في الكلام معنى مفهوم، لانها إذا كانت عنه منصرفة وعليه ناشزا فمن سرورها أن لا يكلمها ولا يراها ولا تراه، فكيف يؤمر الرجل في حال بغض امرأته إياه وانصرافها عنه بترك ما في تركه سرورها من ترك جماعها ومجاذبتها وتكليمها، وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته إذا دعاها إلى فراشه، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه ؟ أو يكون إذ فسد هذان الوجهان يكون معناه: واهجروا في قولكم لهم، بمعنى: رددوا عليهن كلامكم إذا كلمتموهن بالتغليظ لهن، فإن كان ذلك معناه، فلا وجه لاعمال الهجر في كناية أسماء النساء الناشزات، أعني في الهاء والنون من قوله * (واهجروهن) *، لانه إذا أريد به ذلك المعنى، كان الفعل غير واقع، إنما يقال: هجر فلان في كلامه ولا يقال: هجر فلان فلانا. فإذا كان في كل هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق، فأولى الاقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله: * (واهجروهن) * موجها معناه إلى معنى الربط بالهجار على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا: هجره فهو يهجره هجرا. وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشزوهن، فعظوهن في نشوزهن عليكم، فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهن، وإن أبين الاوبة من نشوزهن فاستوثقوا منهن رباطا في مضاجعهن، يعني في منازلهن وبيوتهن التي يضطجعن فيها ويضاجعن فيها أزواجهن. كما: حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، عن شبل، قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي (ص) فقال: ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال: يطعمها ويكسوها، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت.
[ 95 ]
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا يزيد، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية عن أبيه، عن النبي (ص)، نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال: حرثك فأت حرثك أنى شئت، غير أن لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت وأطعم إذا طعمت واكس إذا اكتسيت، كيف وقد أفضى بعضكم إلا بعض إلا بما حل عليها ؟. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال عدة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن الحسن، قال: إذا نشزت المرأة على زوجها، فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن رجعت فذاك، وإلا فقد حل له أن يأخذ منها ويخليها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: * (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * قال: يفعل بها ذاك ويضربها حتى تطيعه في المضاجع، فإذا أطاعته في المضجع فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول في قوله: * (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * ضربا غير مبرج، قال: قال رسول الله (ص): اضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضربا غير مبرح. قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا قولهم لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب، ولم يوجبوا هجرا إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي (ص) أنه أمر بضربهن إذا عصين أزواجهن في المعروف من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن لما وصفنا من العلة.
[ 96 ]
فإن ظن ظان أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي (ص) الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصح أن ترك النبي (ص) أمر الرجل بهجر زوجته إذا عصيته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلا على صحة ما قلنا من أن معنى الهجر هو ما بيناه، لوجب أن يكون لا معنى لامر الله زوجها أن يعظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذكر للعظة في خبر عكرمة عن النبي (ص)، فإن الامر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن قوله (ص): إذا عصينكم في المعروف دلالة بينة أنه لم يبح للرجل ضرب زوجته إلا بعد عظتها من نشوزها، وذلك أنه لا تكون له عاصية، إلا وقد تقدم منه لها أمر أو عظة بالمعروف على ما أمر الله تعالى ذكره به. القول في تأويل قوله تعالى: * (واضربوهن) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فعظوهن أيها الرجال في نشوزهن، فإن أبين الاياب إلى ما يلزمهن لكم فشدوهن وثاقا في منازلهن، واضربوهن ليؤبن إلى الواجب عليهن من طاعة الله في اللازم لهن من حقوقكم. وقال أهل التأويل: صفة الضرب التي أبام الله لزوج الناشز أن يضربها الضرب غير المبرح. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الضرب غير المبرح. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (واهجروهن في المضاجع) * واضربوهن، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت، وإلا فقد حل لك منها الفدية.
[ 97 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. وبه قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * قال: تهجرها في المضجع، فإن أبت عليك فاضربها ضربا غير مبرح، أي غير شائن. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح، قال: السواك وشبهه يضربها به. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرج ؟ قال: بالسواك ونحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قال رسول الله (ص) في خطبته: ضربا غير مبرح قال: السواك ونحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال رسول الله (ص): لا تهجروا النساء إلا في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح يقول: غير مؤثر. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: ثنا يحيى بن بشر، عن عكرمة مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (واضربوهن) * قال: إن أقبلت في الهجران، وإلا ضربها ضربا غير مبرح.
[ 98 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، قال: تهجر مضجعها ما رأيت أن تنزع، فإن لم تنزع ضربها ضربا غير مبرح. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: * (واضربوهن) * قال: ضربا غير مبرح. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل، عن الحسن، قال: ضربا غير مبرح، غير مؤثر. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أطعنكم أيها الناس نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن فلا تهجروهن في المضاجع، فإن لم يطعنكم فاهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن راجعن طاعتكم عند ذلك وفئن إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن يقول أحدكم لاحداهن وهي له مطيعة: إنك لست تحبيني وأنت لي مبغضة، فيضربها على ذلك أو يؤذيها، فقال الله تعالى للرجال: * (فإن أطعنكم) *: أي على بغضهن لكم فلا تجنوا عليهن، ولا تكلفوهن محبتكم، فإن ذلك ليس بأيديهن فتضربوهن أو تؤذوهن عليه. ومعنى قوله: * (فلا تبغوا) *: لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل: بغيت الضالة: إذا التمستها، ومنه قول الشاعر في صفة الموت: بغاك وما تبغيه حتى وجدته * كأنك قد واعدته أمس موعدا بمعنى: طلبك وما تطلبه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) * قال: إذا أطاعتك فلا تتجن عليها العلل.
[ 99 ]
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: إذا أطاعته فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قوله: * (فلا تبغوا عليهن سبيلا) * قال: العلل. وقال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال الثوري في قوله: * (فإن أطعنكم) * قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلي، عن سفيان، قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لان قلبها ليس في يديها. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن أطاعته فضاجعته، فإن الله يقول: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) * يقول: فإن أطاعتك فلا تبغ عليها العلل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان عليا كبيرا) *. يقول: إن الله ذو علو على كل شئ، فلا تبغوا أيها الناس على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق سبيلا لعلو أيديكم على أيديهن، فإن الله أعلى منكم ومن كل شئ، وأعلى منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شئ، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شئ، وأكبر منكم ومن كل شئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدآ إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) يعني بقوله جل ثناؤه: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * وإن علمتم أيها الناس شقاق بينهما، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وهو إتيانه ما يشق عليه من الامور، فأما من المرأة فالنشوز، وتركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها، وأما من الزوج فتركه إمساكها بالمعروف، أو تسريحها بإحسان. والشقاق: مصدر من قول القائل: شاق فلان
[ 100 ]
فلانا: إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشق عليه من الامور، فهو يشاقه مشاقة وشقاقا، وذلك قد يكون عداوة، كما: حدثنا محمد بن الحسن، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، في قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما) * قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقته، يقول: عادته. وإنما أضيف الشقاق إلى البين، لان البين قد يكون اسما، كما قال جل ثناؤه: لقد تقطع بينكم في قراءة من قرأ ذلك. وأما قوله: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية من المأمور ببعثة الحكمين، فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطان الذي يرفع ذلك إليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا، فأيهما كان الظالم رده السلطان وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * قال: بل ذلك إلى السلطان. وقال آخرون: بل المأمور بذلك الرجل والمرأة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * إن ضربها فإن رجعت فإنه ليس له عليها سبيل، فإن أبت أن ترجع وشاقته، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها. ثم اختلف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم
[ 101 ]
بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما ؟ فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما، وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به، أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه، أو توكيل من وكل منهما في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة، قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاق إلى علي رضي الله عنه، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولى. وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي رضي الله عنه: كذبت، والله لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت به. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا هشام بن حسان، و عبد الله بن عون، عن محمد: أن عليا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته، ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهما علي رضي الله عنه أن يبعثا حكما من أهله وحكما من أهلها لينظرا. فلما دنا منه الحكمان، قال لهما علي رضي الله عنه: أتدريان مالكما ؟ لكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله حتى ترضى مثل ما رضيت به. وقال ابن عون في حديثه: كذبت، والله لا تبرح حتى تر ضى بمثل ما رضيت به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: شهدت عليا رضي الله عنه، فذكر مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: إذا هجرها في المضجع وضربها، فأبت أن ترجع وشاقته، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها، تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن
[ 102 ]
أرجع رجعت، وإن فرقت تفرقنا. وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئا من الاشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق. ويبعث الرجل حكما من أهله يوليه أمره، ويخبره يقول له حاجته إن كان يريدها، أو لا يريد أن يطلقها، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له: خذ لي منها مالها علي وطلقها ! فيوليه أمره، فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، فإن اتفق الحكمان على شئ فهو جائز، إن طلقا وإن أمسكا، فهو قول الله: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *، فإن بعثت المرأة حكما وأبي الرجل أن يبعث، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكما. وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، وهو قول قتادة، إنهما قالا: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست في أيديهما، ولم يملكا ذلك، يعني: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) *... الآية، إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم وليس بأيديهما فرقة، ولا يملكان ذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قيس بن سعد، قال: سألت عن الحكمين، قال: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، فما حكم الحكمان من شئ فهو جائز، يقول الله تبارك وتعالى: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * قال: يخلو حكم الرجل بالزوج، وحكم المرأة بالمرأة، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: اصدقني ما في نفسك ! فإذا صدق كل واحد منهما صاحبه اجتمع الحكمان وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقا لتصدقني الذي قال لك صاحبك، ولا صدقنك الذي قال لي صاحبي ! فذاك حين أرادا الاصلاح يوفق الله بينهما، فإذا فعلا ذلك
[ 103 ]
اطلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه إليه، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما، فأتيا عليه، فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا: أنت الظالمة العاصية، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحق وتطيعي الله فيه. وإن كان الرجل هو الظالم، قالا: أنت الظالم المضار لا تدخل لها بيتا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحق والعدل. فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ منها مالها، وهو له حلال طيب، وإن كان هو الظالم المسئ إليها المضار لها طلقها، ولم يحل له من مالها شئ، فإن أمسكها أمسكها بما أمر الله وأنفق عليها وأحسن إليها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين: حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان ما تنقم من زوجتك ؟ فيقول: أنقم منها كذا وكذا. قال: فيقول: أفرأيت إن نزعت عما تكره إلى ما تحب، هل أنت متقي الله فيها ومعاشرها بالذي يحق عليك في نفقتها وكسوتها ؟ فإذا قال نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان ؟ فتقول مثل ذلك، فإن قالت: نعم، جمع بينهما. قال: وقال علي رضي الله عنه: الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع، ولا يحكمان في الفرقة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن) * وهي المرأة التي تنشز على زوجها، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك، وهو بعد ما تقول لزوجها: والله لا أبر لك قسما، ولآذنن في بيتك بغير أمرك. ويقول السلطان: لا نجيز لك خلعا. حتى تقول المرأة لزوجها: والله لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك صلاة، فعند ذلك يقول السلطان: اخلع المرأة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن) * قال: تعظها، فإن أبت وغلبت فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضا فاضربها. فإن غلبت هذا أيضا، بعث حكم من أهله وحكم
[ 104 ]
من أهلها. فإن غلبت هذا أيضا وأرادت غيره، فإن أبي كان يقول: ليس بيد الحكمين من الفرقة شئ، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا: أنت يا فلان ظالم، انزع ! فإن أبى رفعا ذلك إلى السلطان، ليس إلى الحكمين من الفراق شئ. وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * فهذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسئ، فإن كان الرجل هو المسئ حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي، وذلك قوله: * (إن يريدا إصلاحا) * قال: هما الحكمان يوفق الله بينهما. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا روح، قال: ثنا عوف، عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله يفرقان ويجمعان إذا رأيا ذلك * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) *. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر: قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين، فقال: لم أولد إذ ذاك، فقلت: إنما أعني حكم الشقاق، قال: يقبلان على الذي جاء الاذى من عنده، فإن فعل وإلا أقبلا على الآخر، فإن فعل، وإلا حكما، فما حكما، فما حكما من شئ فهو جائز. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل،
[ 105 ]
عن عامر في قوله: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * قال: ما قضى الحكمان من شئ فهو جائز. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن داود، عن إبراهيم، قال: ما حكما من شئ فهو جائز، إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز، وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز، فإن أصلحا فهو جائز، وإن وضعا من شئ فهو جائز. حدثنا المثنى، قال: ثنا حبان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: شئ فهو جائز ثنا أبو جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * قال: ما صنع الحكمان من شئ فهو جائز عليهما، إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما، وإن طلقها واحدة أو طلقها على جعل فهو جائز، وما صنعا من شئ فهو جائز. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: إن شاء الحكمان أن يفرقا فرقا، وإن شاءا أن يجمعا جمعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ! فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرقا بينهما، فكره ذلك الرجل، فقال شريح: ففيم كانا اليوم ؟ وأجاز قولهما. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين. قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنهما بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما حدثنى المثنى، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: ثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة، فكان بينهما
[ 106 ]
كلام، فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لافرقن بينهما ! وقال معاوية: ما كنت لافرق بين شيخين من بني عبد مناف ! فأتياهما وقد اصطلحا. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * يكونان عدلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان، جعل عليهما حكمين: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة، يكونان أمينين عليهما جميعا. وينظران من أيهما يكون الفساد، فإن كان من قبل المرأة أجبرت على طاعة زوجها، وأمر أن يتقي الله ويحسن صحبتها وينفق عليها بقدر ما آتاه الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وإن كانت الاساءة من قبل الرجل أمر بالاحسان إليها، فإن لم يفعل قيل له: أعطها حقها، وخل سبيلها ! وإنما يلي ذلك منهما السلطان. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصواب في قوله: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * أن الله خاطب المسلمين بذلك، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، ولم يخصص بالامر بذلك بعضهم دون بعض. وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان، الذي هو سائس أمر المسلمين، أو من أقامه في ذلك مقام نفسه. واختلفوا في الزوجين والسلطان، ومن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان، أو السلطان ؟ ولا دلالة في الآية تدل على أن الامر بذلك مخصوص به أحد الزوجين، ولا أثر به عن رسول الله (ص)، والامة فيه مختلفة. وإذ كان الامر على ما وصفنا، فأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصا من الآية من أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية، والامر بقوله: * (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالامر بذلك أم لا ؟ وكان ظاهر الآية قد عمهما، فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل
[ 107 ]
واحد منهما حكما من قبله، لينظر في أمرهما، وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه، فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه، وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله به وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه، أو لم يوكل كل واحد من الزوجين بماله وعليه، أو بما له، أو بما عليه، فليس للحكمين كليهما إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما. وإن لم يوكلهما واحدا منها بشئ، وإنما بعثاهما للنظر ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما، لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شئ من ذلك. فإن قال قائل: وما معنى الحكمين إذ كان الامر على ما وصفت ؟ قيل: قد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: معنى الحكم: النظر العدل، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه، الذي: حدثنا به يحيى بن أبي طالب، عن يزيد، عن جويبر، عنه: لا، أنتما قاضيان تقضيان بينهما. على السبيل التي بينا من قوله. وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان يقضيان بينهما ما فوض إليهما الزوجان. وأي الامرين كاف ليس لهما ولا لواحد منهما الحكم بينهما بالفرقة، ولا بأخذ مال إلا برضا المحكوم عليه بذلك، وإلا ما لزم من حق لاحد الزوجين على الآخر في حكم الله، وذلك ما لزم الرجل لزوجته من النفقة والامساك بمعروف إن كان هو الظالم لها. فأما غير ذلك فليس ذلك لهما ولا لاحد من الناس غيرهما، لا السلطان، ولا غيره، وذلك أن الزوج إن كان هو الظالم للمرأة فللامام السبيل إلى أخذه بما يجب لها عليه من حق، وإن كانت المرأة هي الظالمة زوجها الناشزة عليه، فقد أباح الله له أخذ الفدية منها وجعل إليه طلاقها على ما قد بيناه في سورة البقرة. وإذ كان الامر كذلك لم يكن لاحد الفرقة بين رجل وامرأة بغير
[ 108 ]
رضا الزوج، ولا أخذ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه، إلا بحجة يجب التسليم لها من أصل أو قياس. وإن بعث الحكمين السلطان، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك، ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضا المرأة، يدل على ذلك ما قد بيناه قبل من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك، والقائلين بقوله. ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين، ويتعرفا الظالم منهما من المظلوم ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما. وإنما قلنا: ليس لهما التفريق للعلة التي ذكرناها آنفا، وإنما يبعث السلطان الحكمين إذا بعثهما إذا ارتفع إله الزوجان، فشكا كل واحد منهما صاحبه، وأشكل عليه المحق منهما من المبطل، لانه إذا لم يشكل المحق من المبطل، فلا وجه لبعثة الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (إن يريدا إصلاحا) *: إن يرد الحكمان إصلاحا بين الرجل والمرأة، أعني بين الزوجين المخوف شقاق بينهما، يقول: يوفق الله بين الحكمين، فيتفقا على الاصلاح بينهما، وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه من بعث للنظر في أمر الزوجين. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، في قوله: * (إن يريدا إصلاحا) * قال: أما إنه ليس بالرجل والمرأة، ولكنه الحكمان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * قال: هما الحكمان، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب.
[ 109 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * يعني بذلك الحكمين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: (إن يريدا إصلاحا) * ال: إن يرد الحكمان إصلاحا أصلحا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد: * (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) *: يوفق الله بين الحكمين. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك، قوله: * (إن يريدا إصلاحا) * قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأة والرجل جميعا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان عليما خبيرا) *. يعني جل ثناؤه: إن الله كان عليما بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره، خبيرا بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، لا يخفى عليه شئ منه، حافظ عليهم، حتى يجازي كلا منهم جزاءه بالاحسان إحسانا، وبالاساءة غفرانا أو عقابا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وذلوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانزجار عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه. * (وبالوالدين إحسانا) * يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا، يعني برا بهما، ولذلك نصب الاحسان، لانه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الاحسان إلى الوالدين على وجه الاغراء. وقد قال بعضهم: معناه: واستوصوا بالوالدين إحسانا، وهو قريب المعنى مما قلناه. وأما قوله: * (وبذي القربى) * فإنه يعني: وأمر أيضا بذي القربى، وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمه.
[ 110 ]
وأما قوله: * (واليتامى) * فإنهم جمع يتيم، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك. * (والمساكين) * وهو جمع مسكين، وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك. يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الاحسان إليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (والجار ذي القربى) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك والجار ذي القرابة والرحم منك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (والجار ذي القربى) * يعني: الذي بينك وبينه قرابة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (والجار ذي القربى) * يعني: ذا الرحم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: * (والجار ذي القربى) * قال: جارك هو ذو قرابتك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: * (والجار ذي القربى) * قالا: القرابة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: * (والجار ذي القربى) * قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والجار ذي القربى) * جارك ذو القرابة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والجار ذي القربة) * إذا كان له جار له رحم، فله حقان اثنان: حق القرابة، وحق الجار. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: * (والجار ذي القربى) * قال: الجار ذو القربى: ذو قرابتك.
[ 111 ]
وقال آخرون: بل هو جار ذي قرابتك. ذكر من قال ذلك: حدثنا عبد الرحمن، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن ميمون بن مهران، في قوله: * (والجار ذي القربى) * قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك. قال أبو جعفر: وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب، وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: * (والجار ذي القربى) * الجار دون غيره، فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة، ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: وجار ذي القربى، ولم يقل: والجار ذي القربى، فكان يكون حينئذ - إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية بين جار ذي القرابة دون الجار ذي القربى. وأما والجار بالالف واللام فغير جائز أن يكون ذي القربى إلا من صفة الجار. وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله: * (والجار ذي القربى) * بين الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة، وكان بينا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال، ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي: * (والجار ذي القربى) * المسلم. وهذا أيضا مما لا معنى له، وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الاغلب من كلام العرب، الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الانكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين، كان صرفه إلى القرابة بالرحم أولى من صرفه إلى القرب بالدين. القول في تأويل قوله تعالى: * (والجار الجنب) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (والجار الجنب) * الذي ليس بينك وبينه قرابة.
[ 112 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (والجار الجنب) * يعني: الجار من قوم جنب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والجار الجنب) *: الذي ليس بينهما قرابة وهو جار، فله حق الجوار. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والجار الجنب) * الجار الغريب يكون في القوم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والجار الجنب) * جارك من قوم آخرين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والجار الجنب) *: جارك لا قرابة بينك وبينه، البعيد في النسب وهو جار. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد، في قوله: * (والجار الجنب) * قال: المجانب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (والجار الجنب) *: الذي ليس بينك وبينه وجه ولا قرابة. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (والجار الجنب) * قال: من قوم آخرين. وقال آخرون: هو الجار المشرك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا نسيبان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي * (والجار الجنب) * قال: اليهودي والنصراني. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الجنب في هذا الموضع: الغريب البعيد، مسلما كان أو مشركا، يهوديا كان أو نصرانيا، لما بينا قبل أن الجار ذي القربى: هو الجار ذو القرابة والرحم، والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد،
[ 113 ]
ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران، قريبهم وبعيدهم. وبعد فإن الجنب في كلام العرب البعيد كما قال أعشى بني قيس: أتيت حريثا زائرا عن جنابة * فكان حريث في عطائي جامدا يعني بقوله: عن جنابة: عن بعد وغربة، ومنه قيل: اجتنب فلان فلانا: إذا بعد منه. وتجنبه غيره: إذا منعه إياه، ومنه قيل للجنب: جنب، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل. فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة. القول في تأويل قوله تعالى: * (والصاحب بالجنب) *. اختلف أهل التأويل في المعني بذلك، فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سفره. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (والصاحب بالجنب) *: الرفيق. في السفر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان، عن أبي بكر، قال: سمعت سعيد ابن جبير، يقول: * (والصاحب بالجنب) *: الرفيق في السفر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 114 ]
عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (والصاحب بالجنب) *: صاحبك في السفر. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والصاحب بالجنب) * وهو الرفيق في السفر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والصاحب بالجنب) *: الرفيق في السفر، منزله منزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد: * (والصاحب بالجنب) * قالا: الرفيق في السفر. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن علي و عبد الله، قالا: * (الصاحب بالجنب) *: الرفيق الصالح. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني سليم، عن مجاهد، قال: * (والصاحب بالجنب) *: رفيقك في السفر الذي يأتيك ويده مع يدك. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج، قال: أخبرنا سليم أنه سمع مجاهدا يقول: * (والصاحب بالجنب) * فذكر مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والصاحب بالجنب) *: الصاحب في السفر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو دكين، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير: * (والصاحب بالجنب) *: الرفيق الصالح. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (والصاحب بالجنب) * قال: الرفيق في السفر.
[ 115 ]
حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله. وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر أو القاسم، عن علي و عبد الله: * (والصاحب بالجنب) * قالا: هي المرأة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن جابر، عن علي وعبد الله، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (والصاحب بالجنب) * يعني الذي معك في منزلك. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال في هذه الآية: * (والصاحب بالجنب) * قال: هي المرأة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم: * (والصاحب بالجنب) * قال: المرأة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال الثوري، قال أبو الهيثم، عن إبراهيم: هي المرأة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله. حدثني عمرو بن بيذق، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله. وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (والصاحب بالجنب) *: الملازم. وقال أيضا: رفيقك الذي يرافقك.
[ 116 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (والصاحب بالجنب) *: الذي يلصق بك وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك. والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: * (والصاحب بالجنب) *: الصاحب إلى الجنب، كما يقال: فلان بجنب فلان وإلى جنبه، وهو من قولهم: جنب فلان فلانا فهو يجنبه جنبا، إذا كان لجنبه، ومن ذلك: جنب الخيل، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه، لان كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه، وقد أوصى الله تعال بجميعهم لوجوب حق الصاحب على المصحوب. وقد: حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد الله، عن الثقة عنده: أن رسول الله (ص) كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبي (ص) وسلم في غيضة طرفاء، فقطع فصيلين أحدهما معوج والآخر معتدل، فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوج، فقال الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنت أحق بالمعتدل مني ! فقال: كلا يا فلان، إن كل صاحب يصحب صاحبا مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، قال: ثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي (ص)، قال: إن خير الاصحاب عند الله تبارك وتعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره. وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلا فيه كل من جنب رجلا يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به، ولم يكن الله جل ثناؤه خص بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل، فالصواب أن يقال: جميعهم معنيون بذلك، وبكلهم قد أوصى الله بالاحسان إليه.
[ 117 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وابن السبيل) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: ابن السبيل: هو المسافر الذي يجتاز مارا. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وابن السبيل) * هو الذي يمر عليك وهو مسافر. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وابن السبيل) * قال: هو المار عليك وإن كان في الاصل غنيا. وقال آخرون: هو الضيف. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (وابن السبيل) * قال: الضيف له حق في السفر والحضر. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وابن السبيل) * وهو الضيف. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: * (وابن السبيل) * قال: الضيف. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله. والصواب من القول في ذلك: أن ابن السبيل: هو صاحب الطريق، والسبيل: هو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله الحق على من مر به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حملان. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما ملكت أيمانكم) *.
[ 118 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم. فأضاف الملك إلى اليمين، كما يقال: تكلم فوك، ومشت رجلك، وبطشت يدك، بمعنى: تكلمت، ومشيت، وبطشت. غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وصفت به، لانه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد، فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام، فكذلك قوله: * (وما ملكت أيمانكم) * لان مماليك أحدنا تحت يده، إنما يطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرفه فيما أحب صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى الايمان لذلك. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وما ملكت أيمانكم) * مما خولك الله كل هذا أوصى الله به. وإنما يعني مجاهد بقوله: كل هذا أوصى الله به الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم، فحق على عباده حفظ وصية الله فيهم ثم حفظ وصية رسوله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (إن الله لا يحب من كان مختالا) *: إن الله لا يحب من كان ذا خيلاء، والمختال المفتعل من قولك: خال الرجل فهو يخول خولا وخالا، ومنه قول الشاعر: فإن كنت سيدنا سدتنا * وإن كنت للخال فاذهب فخل
[ 119 ]
ومنه قول العجاج: والخال ثوب من ثياب الجهال وأما الفخور: فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحد على ما أتاه من طوله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مستطيل مفتخر. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (إن الله لا يحب من كان مختالا) * قال: متكبرا فخورا، قال: يعد ما أعطي، وهو لا يشكر الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي، قال: لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا، وتلا: * (وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) *. ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا، وتلا: * (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يحب المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل. ف الذين يحتمل أن يكون في موضع رفع ردا على ما في قوله * (فخورا) * من ذم،
[ 120 ]
ويحتمل أن يكون نصبا على النعت لمن. والبخل في كلام العرب منع الرجل سائله ما لديه وعنده من فضل عنه. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * قال: البخل: أن يبخل الانسان بما في يديه، والشح: أن يشح على ما في أيدي الناس. قال: يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام لا يقنع. واختلف القراء في قراءة قوله: * (ويأمرون الناس بالبخل) * فقرأته عامة قراء أهل الكوفة: بالبخل بفتح الباء والخاء. وقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين بضم الباء: * (بالبخل) *. وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته. وقد قيل: إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) *: الذين كتموا اسم محمد (ص) وصفته من اليهود، ولم يبينوه للناس، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * قال: هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) *... إلى قوله: * (وكان الله بهم عليما) * ما بين ذلك في يهود. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * وهم أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الاسلام ومحمدا (ص)، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، أما: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * فهم اليهود، * (ويكتمون ما آتاهم
[ 121 ]
الله من فضله) * اسم محمد (ص). أو * (يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) *: يبخلون باسم محمد (ص)، ويأمر بعضهم بعضا بكتمانه. حدثنا محمد بن مسلم الرازي، قال: ثني أبو جعفر الرازي، قال: ثنا يحيى، عن عارم، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، في قوله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * قال: هذا للعلم، ليس للدنيا منه شئ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * قال: هؤلاء يهود، وقرأ: * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * قال: يبخلون بما آتاهم الله من الرزق، ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب، إذا سئلوا عن الشئ وما أنزل الله كتموه. وقرأ: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * من بخلهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الاشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الانصار، وكانوا يخالطونهم، يتنصحون لهم من أصحاب رسول الله (ص)، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ! فأنزل الله فيهم: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) *: أي من النبوة التي فيها تصديق ما جاء به محمد (ص)، * (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *... إلى قوله: * (وكان الله بهم عليما) *. فتأويل الآية على التأويل الاول: والله لا يحب ذوي الخيلاء والفخر الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس من اسم محمد (ص) ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، وهم به عالمون، ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك، مثل علمهم بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته من حرم الله عليه كتمانه إياه.
[ 122 ]
وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد: إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم. ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء. وأولى الاقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين قالوا: إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية بالبخل، بتعريف من جهل أمر محمد (ص) أنه حق، وأن محمدا لله نبي مبعوث، وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه، فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك، ولا يبينوه للناس. وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لان الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الامم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا، بل ترى ذلك قبيحا، ويذم فاعله، ولا يمتدح، وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها، فالسخاء والجود تعده من مكارم الافعال، وتحث عليه، ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه، فبخلوا بتبيينه للناس، وكتموه دون البخل بالاموال. إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وسبله، ويأمرون الناس من أهل الاسلام بترك النفقة في ذلك، فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل. فهذا المعنى على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس، فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه * (وأعتدنا) *: وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم من المعرفة بنبوة محمد (ص)، المكذبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته من أمرهم الله ببيانه له من الناس، * (عذابا مهينا) * يعني: العقاب المذل من عذب بخلوده فيه عتادا له في آخرته، إذا قدم على ربه وجده بما سلف منه من جحوده فرض الله الذي فرض عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صفتهم
[ 123 ]
عذابا مهينا. * (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) * والذين في موضع خفض عطفا على الكافرين. وقوله: * (رئاء الناس) * يعني: ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة الله أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان. * (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * يقول: ولا يصدقون بواحدنية الله ولا بالميعاد إليه يوم القيامة، الذي فيه جزاء الاعمال أنه كائن. وقد قال مجاهد: إن هذا من صفة اليهود، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الاسلام تقية من رسول الله (ص) وأهل الايمان به، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود، لان اليهود كانت توحد الله وتصدق بالبعث والمعاد، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوة محمد (ص). وبعد ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وصفة الفريق الآخر الذين وصفهم في الآية قبلها، وأخبر أن لهم عذابا مهينا، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبئ عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله. ولو كانت الصفتان كلتاهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء الله: وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا. فإن ظن ظان أن دخول الواو غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب ؟ قيل: ذلك وإن كان كذلك، فإن الافصح في كلام العرب إذا أريد ذلك ترك إدخال الواو، وإذا أريد بالثاني وصف آخر غير الاول أدخل الواو. وتوجيه كلام الله إلى الافصح الاشهر من كلام من نزل بلسانه كتابه أولى بنا من توجيهه إلى الانكر من كلامهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يكن الشيطان له خليلا وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات، * (فساء قرينا) * يقول: فساء الشيطان قرينا. وإنما نصب القرين، لان في ساء ذكرا من الشيطان، كما قال جل ثناؤه: * (بئس للظالمين بدلا) *، وكذلك تفعل العرب في ساء ونظائرها، ومنه قول عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
[ 124 ]
يريد بالقرين: الصاحب والصديق. القول في تأويل قوله تعالى: * (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: أي شئ على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لو آمنوا بالله واليوم الآخر، لو صدقوا بأن الله واحد لا شريك له، وأخلصوا له التوحيد، وأيقنوا بالبعث بعد الممات، وصدقوا بأن الله مجازيهم بأعمالهم يوم القيامة * (وأنفقوا مما رزقهم الله) * يقول وأدوا زكاة أموالهم التي رزقهم الله، وأعطاهموها طيبة بها أنفسهم، ولم ينفقوها رئاء الناس التماس الذكر والفخر عند أهل الكفر بالله، والمحمدة بالباطل عند الناس، وكان الله بهؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس نفاقا، وهم بالله واليوم الآخر مكذبون، عليما، يقول: ذا علم بهم وبأعمالهم وما يقصدون ويريدون بانفاقهم، وما ينفقون من أموالهم، وأنهم يريدون بذلك الرياء والسمعة والمحمدة في الناس، وهو حافظ عليهم أعمالهم، لا يخفى عليه شئ منها حتى يجازيهم بها جزاءهم عند معادهم إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله، فإن الله لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة * (مثقال ذرة) * أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن، ولكنه يجازيه به، ويثيبه عليه. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه تلا: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) * قال: لان تفضل حسناتي ما يزن ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان بعض أهل العلم يقول: لان تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرة أحب إلي من أن تكون لي الدنيا جميعا.
[ 125 ]
وأما الذرة، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها، كما: حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: * (مثقال ذرة) * قال: رأس نملة حمراء. قال لي إسحاق بن وهب: قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن. وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الاخبار عن رسول الله (ص). حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله (ص)، قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة. حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا هشام بن سعد، قال: أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: والذي نفسي بيده ما أحدكم بأشد مناشدة في الحق يراه مصيبا له، من المؤمنين في إخوانهم إذا رأوا أن قد خلصوا من النار يقولون: أي ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا ويجاهدون معنا، قد أخذتهم النار ! فيقول الله لهم: اذهبوا فمن عرفتم صورته فأخرجوه ! ويحرم صورتهم على النار، فيجدون الرجل قد أخذته النار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه، فيخرجون منها بشرا كثيرا، ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: اذهبوا لمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط خير فأخرجوه ! فيخرجون منها بشرا كثيرا، ثم يعودون فيتكلمون، فلا يزال يقول لهم ذلك حتى يقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة فأخرجوه ! - فكان أبو سعيد إذا حدث بهذا الحديث، قال: إن لم تصدقوا فاقرءوا: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * فيقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا.
[ 126 ]
وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله (ص) بنحوه. وقال آخرون في ذلك. بما: حدثني به المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا صدقة بن أبي سهل، قال: ثنا أبو عمرو، عن زاذان، قال: أتيت ابن مسعود، فقال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الاولين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله: ألا من كان يطلب مظلمة، فليجئ إلى حقه فليأخذه ! قال: فيفرح والله الصبي أن يذوب له الحق على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه وإن كان صغيرا. ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * فيقال له: آت هؤلاء حقوقهم أي أعطهم حقوقهم. فيقول: أي رب من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله لملائكته: أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة، وأعطوهم منها ! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها: يا ربنا أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة. فيقول للملائكة: ضعفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة ! ومصداق ذلك في كتاب الله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *: أي الجنة يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك: إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثير ! فيقول الله: ضعوا عليها من أو زارهم واكتبوا له كتابا إلى النار ! قال صدقة: أو صكا إلى جهنم، شك صدقة أيتهما قال. وحدثت عن محمد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن عبد الله بن السائب، قال: سمعت زاذان يقول: قال عبد الله بن مسعود: يأخذ بيد العبد والامة يوم القيامة، فينادي مناد على رؤوس الاولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له حق
[ 127 ]
فليأت إلى حقه ! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحق على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصب للناس فيقول: آتوا إلى الناس حقوقهم ! فيقول: رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر مظلمته، فإن كان وليا لله، ففضل له مثقال ذرة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة ! - ثم قرأ علينا: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * وإن كان عبدا شقيا قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير. فيقول: خذوا من سيئاتهم، فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكا إلى النار. قال أبو جعفر: فتأويل الآية على تأويل عبد الله هذا: إن الله لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرة قبل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تبعته قبله. * (وإن تك حسنة يضاعفها) * يقول: وإن توجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها. * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * يقول: ويعطه من عنده أجرا عظيما. والاجر العظيم: الجنة على ما قاله عبد الله. ولكلا التأويلين وجه مفهوم، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة. وإنما اخترنا التأويل الاول لموافقته الاثر عن رسول الله (ص) مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الآية التي قبلها، التي حث الله فيها على النفقة في طاعته، وذم النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (وإن تك حسنة) *. فقرأت ذلك عامة قراء العراق: * (وإن تك حسنة) * بنصب الحسنة، بمعنى: وإن تك زنة الذرة حسنة يضاعفها. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة: وإن تك حسنة برفع الحسنة، بمعنى: وإن توجد حسنة على ما ذكرت
[ 128 ]
عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك. وأما قوله: * (يضاعفها) * فإنه جاء بالالف، ولم يقل: يضعفها، لانه أريد به في قول بعض أهل العربية: يضاعفها أضعافا كثيرة، ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل: يضعفها بالتشديد. ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الآية ما وعدهم فيها، فقال بعضهم: هم جميع أهل الايمان بالله وبمحمد (ص). واعتلوا في ذلك بما: حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: لقيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة ! قال: وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعته - يعني النبي (ص) يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة. وقال آخرون: بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والاعراب. واعتلوا في ذلك بما: حدثني محمد بن هارون أبو نشيط، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد الله بن عمر، قال: نزلت هذه الآية في الاعراب: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * قال: فقال رجل: فما للمهاجرين ؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * وإذا قال الله لشئ عظيم فهو عظيم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بهذه الآية المهاجرين دون الاعراب. وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسول الله (ص) شئ يدفع بعضه بعضا، فإذا كان صحيحا وعد الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه (ص) صحيحين، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملا والآخر مفسرا، إذ كانت أخباره (ص) يصدق بعضها بعضا. وإذا كان ذلك كذلك صح أن خبر أبي هريرة معناه: إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الايمان ألفي ألف حسنة، وللاعراب منهم عشر أمثالها، على ما روى ابن عمر عن النبي (ص)، وأن قوله: * (من جاء بالحسنة فله
[ 129 ]
عشر أمثالها) * يعني: من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له، ويؤته الله من لدنه أجرا، يعني: يعطه من عنده أجرا عظيما، يعني: عوضا من حسنته عظيما. وذلك العوض العظيم: الجنة، كما: حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا صدقة بن أبي سهل، قال: ثنا أبو عمرو، عن زاذان، عن ابن مسعود: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) *: أي الجنة يعطها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عباد بن أبي صالح، عن سعيد بن جبير، قوله: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * قال: الاجر العظيم: الجنة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * قال: أجرا عظيما: الجنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يظلم عباده مثقال ذرة، فكيف بهم * (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * يعني: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلها، أو تكذيبها، * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * يقول: وجئنا بك يا محمد على هؤلاء: أي على أمتك شهيدا، يقول: شاهدا. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * قال: إن النبيين يأتون يوم القيامة، منهم من أسلم معه من قومه الواحد والاثنان والعشرة وأقل وأكثر من ذلك، حتى يؤتى بقوم لوط (ص) لم يؤمن معه إلا ابنتاه، فيقال لهم: هل بلغتم ما أرسلتم به ؟ فيقولون: نعم، فيقال: من يشهد ؟ فيقولون: أمة محمد (ص)، فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل أودعوا عندكم شهادة، فبم تشهدون ؟ فيقولون: ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ ! فيقال: من يشهد على ذلك ؟ فيقولون: محمد (ص). فيدعى محمد عليه الصلاة والسلام، فيشهد أن أمته قد صدقوا، وأن الرسل قد بلغوا. فذلك قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن عليكم شهيدا)
[ 130 ]
* حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، ثنى حجاج: قال ابن جريج: قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * قال: رسولها، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم، * (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * قال: كان النبي (ص) إذا أتى عليها فاضت عيناه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسن، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، في قوله: * (وشاهد ومشهود) * قال: الشاهد محمد، والمشهود: يوم الجمعة. فذلك قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) *. حدثني عبد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن عبد الله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * قال: قال رسول الله (ص): شهيدا عليهم ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أن النبي (ص) قال لابن مسعود: اقرأ علي ! قال: أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: أني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأ ابن مسعود النساء، حتى بلغ: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * قال: قال استعبر النبي (ص)، وكف ابن مسعود. قال المسعودي: فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبي (ص)، قال: شهيدا عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد. القول في تأويل قوله تعالى: * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) يعني بذلك جل ثناؤه: يوم نجئ من كل أمة بشهيد، ونجئ بك على أمتك يا محمد
[ 131 ]
شهيدا، * (يود الذين كفروا) * يقول: يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله، لو تسوى بهم الارض. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز ومكة والمدينة: لو تسوى بهم الارض بتشديد السين والواو وفتح التاء، بمعنى: لو تتسوى بهم الارض، ثم أدغمت التاء الثانية في السين، يراد به: أنهم يودون لو صاروا ترابا، فكانوا سواء هم والارض. وقرأ آخرون ذلك: لو تسوى بهم الارض بفتح التاء وتخفيف السين، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة بالمعنى الاول، غير أنهم تركوا تشديد السين، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد. وقرأ ذلك آخرون: * (لو تسوى بهم الارض) * بمعنى: لو سواهم الله والارض، فصاروا ترابا مثلها بتصييره إياهم، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم. وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب، لان من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابا إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك، وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك فقد تمنى أن يكون ترابا. على أن الامر وإن كان كذلك، فأعجب القراءة إلي في ذلك: لو تسوى بهم الارض بفتح التاء وتخفيف السين، كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: * (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) * فأخبر الله عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابا، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا: يا ليتني كنت ترابا، فكذلك قوله: لو تسوى بهم الارض فيسووا هم، وهي أعجب إلي ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله: * (يا ليتني كنت ترابا) *. وأما قوله: * (ولا يكتمون الله حديثا) * فإن أهل التأويل تأولوه، بمعنى: ولا تكتم الله جوارحهم حديثا وإن جحدت ذلك أفواههم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو عن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن
[ 132 ]
سعيد بن جبير، قال: أتى رجل ابن عباس، فقال: سمعت الله يقول: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * وقال في آية أخرى: * (ولا يكتمون الله حديثا) *. فقال ابن عباس: أما قوله: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الاسلام قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين ! فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف علي في القرآن ؟ فقال: ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال: ليس بالشك، ولكنه اختلاف. قال: فهات ما اختلف عليك ! قال: أسمع الله يقول: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * وقال: * (ولا يكتمون الله حديثا) * وقد كتموا ! فقال ابن عباس: أما قوله: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لاهل الاسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره جحد المشركون، فقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء أن يغفر لهم، فختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك * (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) *. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا الزبير، عن الضحاك: أن نافع ابن الازرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله تبارك وتعالى: * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) *، وقوله: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * ؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقى علي ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نجحد ! فيسألهم، فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك تمنوا لو أن الارض سويت بهم، ولا يكتمون الله حديثا.
[ 133 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) * يعني: أن تسوى الارض بالجبال عليهم. فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولم يكتموا الله حديثا. كأنهم تمنوا أنهم سووا مع الارض، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثا. وقال آخرون: معنى ذلك يومئذ لا يكتمون الله حديثا، ويودون لو تسوى بهم الارض. وليس بمنكتم عن الله من شئ حديثهم، لعلمه جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإنهم إن كتموه بألسنتهم فجحدوه، لا يخفى عليه شئ منه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا) * صدقوا الله ورسوله * (لا تقربوا الصلاة) *: لا تصلوا * (وأنتم سكارى) * وهو جمع سكران، * (حتى تعلموا ما تقولون) * في صلاتكم، وتقرءون فيها مما أمركم الله به، أو ندبكم إلى قيله فيها مما نهاكم عنه وزجركم. ثم اختلف أهل التأويل في السكر الذي عناه الله بقوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * فقال بعضهم: عنى بذلك: السكر من الشراب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن، فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها، فنزلت: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *.
[ 134 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي (ص)، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، فقدموا عليا يصلي بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * قبل أن تحرم الخمر، فقال الله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) *... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر، فقال: وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين، قال: كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في البقرة، وبعد التي في النساء، فلما أنزلت التي في المائدة تركوها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريم الخمر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * قال: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر.
[ 135 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل وأبي رزين وإبراهيم في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * و * (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) *، وقوله: * (تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) * قالوا: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى من النوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * قال: سكر النوم. حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، عن الضحاك: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال ذلك: نهى من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر، للاخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله (ص) بأن ذلك كذلك نهي من الله، وأن هذه الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك معناه، والسكران في حال زوال عقله نظير المجنون في حال زوال عقله، وأنت ممن تحيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم بما يؤمر وينهى ؟ قيل له: إن السكران لو كان في معنى المجنون لكان غير جائز أمره ونهيه، ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذر، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأحر جسمه وأخدره، حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته وحدودها الواجبة عليه فيها من غير زوال عقله، فهو بما أمر به ونهي عنه عارف فهم، وعن أداء بعضه عاجز بخدر جسمه من الشراب. وأما من صار إلى حد لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخبل، ومعدود في المجانين، وليس ذلك الذي خوطب بقوله: * (لا تقربوا الصلاة) * لان ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكران ما وصفنا صفته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *.
[ 136 ]
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها جنبا إلا عابري سبيل، يعني: إلا أن تكونوا مجتازى طريق: أي مسافرين حتى تغتسلوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: المسافر. وقال ابن المثنى: في السفر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء، فقد أحللت لكم أن تمسحوا بالارض. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله، أو عن زر، عن علي رضي الله عنه: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: إلا أن تكونوا مسافرين فلا تجدوا الماء فتيمموا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: المسافر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن علي رضي الله عنه، قال: نزلت في السفر: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * وعابر السبيل: المسافر إذا لم يجد ماء تيمم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم فيصلي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: هو الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
[ 137 ]
مجاهد: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون صعيدا طيبا، حتى يجدوا الماء فيغتسلوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: مسافرين لا يجدون ماء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر، عن بكير بن الاخنس، عن الحسن بن مسلم، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: إلا أن يكونوا مسافرين، فلا يجدون الماء فيتيمموا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن الحكم: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: المسافر تصيبه الجنابة، فلا يجد ماء فيتيمم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير، وعن منصور، عن الحكم في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قالا: المسافر الجنب لا يجد الماء فيتيمم فيصلي. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * إلا أن يكون مسافرا. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم، نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: كنا نسمع أنه في السفر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: هو المسافر الذي لا يجد الماء فلا بد له من أن يتيمم ويصلي، فهو يتيمم ويصلي. قال: كان أبي يقول هذا. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه. فقال أهل هذه المقالة: أقيمت الصلاة مقام المصلى والمسجد، إذ كانت صلاة
[ 138 ]
المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجميع فيها، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلى الذي يصلون فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: هو الممر في المسجد. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن ابن يسار، عن ابن عباس: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه، فتمر مرا ولا تجلس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد في الجنب يمر في المسجد مجتازا وهو قائم لا يجلس وليس بمتوضئ، وتلا هذه الآية: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرا في المسجد ما لم يجلسا فيه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جنب مجتازا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: الجنب يمر في المسجد ولا يقعد فيه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قالا جميعا: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: إذا لم يجد طريقا إلا المسجد يمر فيه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * قال: لا بأس أن يمر الجنب في المسجد إذا لم يكن له طريق غيره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
[ 139 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجنب يمر في المسجد ولا يجلس فيه، ثم قرأ: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرا في المسجد ولا يقعدا فيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن سعيد، عن الزهري، قال: رخص للجنب أن يمر في المسجد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يزيد بن أبي حبيب، عن قول الله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * أن رجالا من الانصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قال: لا يجتاز في المسجد إلا أن لا يجد طريقا غيره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه، لا يمر الجنب في المسجد يتخذه طريقا. قال أبو جعفر: وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) *: إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *، فكان معلوما بذلك أن قوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * لو كان معنيا به المسافر لم يكن لاعادة ذكره في قوله: * (وإن كنتم مرضى أو
[ 140 ]
على سفر) * معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. والعابر السبيل: المجتازة مرا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر: إذا قطعه وجازه، ومنه قيل للناقة القوية على الاسفار لقوتها: وهي عبر أسفار لقوتها على الاسفار. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وإن كنتم مرضى) *: من جرح أو جدري وأنتم جنب. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو المنبه الفضل بن سليم، عن الضحاك، عن ابن مسعود، قوله: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل، والجريح لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق بن يوسف الازرق، عن شريك، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك، قال في هذه الآية: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * قال: هي للمريض الذي به الجراحة التي يخاف منها أن يغتسل فلا يغتسل، فرخص له في التيمم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن كنتم مرضى) * والمرض: هو الجراح والجراحة التي يتخوف عليها من الماء إن أصابه ضر صاحبه، فذلك يتيمم صعيدا طيبا. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة، عن سعيد بن جبير في قوله: * (وإن كنتم مرضى) * قال: إذا كان به جروح أو قروح يتيمم.
[ 141 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: * (وإن كنتم مرضى) * قال: من القروح تكون في الذراعين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: * (وإن كنتم مرضى) * قال: القروح في الذراعين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن جويبر، عن الضحاك، قال: صاحب الجراحة التي يخوف عليه منها يتيمم. ثم قرأ: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن كنتم مرضى) * والمرض: أن يصيب الرجل الجرح أو القرح أو الجدري، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن عاصم، يعني الاحول، عن الشعبي، أنه سئل عن المجدور تصيبه الجنابة ؟ قال: ذهب فرسان هذه الآية. وقال آخرون في ذلك ما: حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا) * قال: المريض الذي لا يجد أحدا يأتيه بالماء ولا يقدر عليه، وليس له خادم، ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبوا إليه، تيمم وصلى إذا حلت الصلاة. قال: هذا كله قول أبي: إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به لا يترك الصلاة، وهو أعذر من المسافر. فتأويل الآية إذا: وإذ كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غير مسافرين، فتيمموا صعيدا طيبا. وأما قوله: * (أو على سفر) * أو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب، فتيمموا صعيدا. وكذلك تأويل قوله: * (أو جاء منكم من الغائط) * يقول: أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم صعيدا طيبا. والغائط: ما اتسع من
[ 142 ]
الاودية وتصوب، وجعل كناية عن قضاء حاجة الانسان، لان العرب كانت تختار قضاء حاجتها في الغيطان فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تقضى في الغيطان حيث قضاها من الارض: متغوط، جاء فلان من الغائط يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الارض. وذكر عن مجاهد أنه قال في الغائط: الوادي. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * قال: الغائط: الوادي. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو لامستم النساء) *. يعني بذلك جل ثناؤه: أو باشرتم النساء بأيديكم. ثم اختلف أهل التأويل في اللمس الذي عناه الله بقوله: * (أو لامستم النساء) * فقال بعضهم: عنى بذلك: الجماع. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: اللمس: الجماع. قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع. قال: من أي الفريقين كنت ؟ قلت: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي، إن المس واللمس، والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: * (أو لامستم النساء) * قال: هو الجماع. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله: * (أو لامستم النساء)
[ 143 ]
فقال عبيد بن عمير: هو الجماع، وقلت أنا وعطاء: هو اللمس. قال: فدخلنا على ابن عباس، فسألناه، فقال: غلب فريق الموالي وأصابت العرب، هو الجماع، ولكن الله يعف ويكني. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير: اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد بن جبير وعطاء: الملامسة ما دون الجماع. وقال عبيد: هو النكاح. فخرج عليهم ابن عباس، فسألوه، فقال: أخطأ الموليان وأصاب العربي: الملامسة: النكاح، ولكن الله يكني ويعف. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، قال: اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير، فذكر نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: قال: سعيد بن جبير وعطاء في التماس: الغمز باليد، وقال عبيد بن عمير: الجماع. فخرج عليهم ابن عباس فقال: أخطأ الموليان، وأصاب العربي، ولكنه يعف ويكني. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: قال ابن عباس: اللمس: الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن علية وعبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس والمس والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني بما شاء. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: ثنا إسحاق الازرق، عن سفيان، عن عاصم الاحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: الملامسة: الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن المثنى، قا: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن جعفر بن أبي وحشية،
[ 144 ]
عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت العرب والموالي في الملامسة على باب ابن عباس قالت العرب: الجماع، وقالت الموالي: باليد. قال: فخرج ابن عباس، فقال: غلب فريق الموالي، الملامسة: الجماع. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: كنا على باب ابن عباس، فذكر نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال: قعد قوم على باب ابن عباس، فذكر نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: * (أو لامستم النساء) * الملامسة: هو النكاح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن الاعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، قال: اجتمعت الموالي والعرب في المسجد وابن عباس في الصفة، فاجتمعت الموالي على أنه اللمس دون الجماع، واجتمعت العرب على أنه الجماع، فقال ابن عباس: من أي الفريقين أنت ؟ قلت: من الموالي، قال: غلبت. [ رق ] حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس: الجماع. وبه عن سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن الاعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: هو الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مالك، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن داود، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (أو لامستم النساء) * قال: الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه، قال: الجماع.
[ 145 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الاعلى، عن يونس، عن الحسن، قال: الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مالك، عن خصيف، قال: سألت مجاهدا، فقال ذلك. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة والحسن، قالا: غشيان النساء. وقال آخرون: عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء جسد الانسان. وأوجبوا الوضوء على من مس بشئ من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله، أنه قال شيئا هذا معناه: الملامسة: ما دون الجماع. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله - أو عن أبي عبيدة منصور الذي شك قال: القبلة من المس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله، قال: اللمس: ما دون الجماع. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: اللمس: ما دون الجماع. حدثنا ابى وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: القبلة من اللمس. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال القبلة من اللمس، وفيها الوضوء. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، مثله.
[ 146 ]
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا سليم بن أخضر، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن قوله: * (أو لامستم النساء) * قال: فأشار بيده هكذا - وحكاه سليم وأراناه أبو عبد الله، فضم أصابعه. حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن قوله: * (أو لامستم النساء) * قال بيده، فظننت ما عنى فلم أسأله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: ذكروا عند محمد مس الفرج، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك، فقال محمد: قلت لعبيدة، قوله: * (أو لامستم النساء) * فقال بيده. قال ابن عون: بيده كأنه يتناول شيئا يقبض عليه. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا خالد، عن محمد، قال: قال عبيدة: اللمس باليد. قال: ثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن هذه الآية: * (أو لامستم النساء) * فقال بيده، وضم أصابعه، حتى عرفت الذي أراد. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللماس. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، قال: الملامسة: ما دون الجماع. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محل بن محرز، عن إبراهيم، قال: اللمس من شهوة ينقض الوضوء. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا: اللمس ما دون الجماع. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عطاء، قال: الملامسة: ما دون الجماع.
[ 147 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن أصحاب عبد الله، عن عبد الله، قال: الملامسة: ما دون الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن بيان، عن عامر، عن عبد الله، قال: الملامسة: ما دون الجماع. قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: الملامسة: ما دون الجماع، ثم قرأ: * (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، عن: * (أو لامستم النساء) * فقال بيده هكذا، فعرفت ما يعني. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبيه وحسن بن صالح، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي عبيدة، قال: القبلة من اللمس. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن خصيف، عن أبي عبيدة: القبلة والشئ. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: * (أو لامستم النساء) * الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله (ص) أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الاعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي (ص) يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الاعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن
[ 148 ]
عروة، عن عائشة: أن النبي (ص) قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت: من هي إلا أنت ؟ فضحكت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي (ص): أنه كان يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ. حدثنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: ثنا سهاد بن عباد، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة. وعن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (ص) ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا أبي، قال: ثني يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الاوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله (ص) كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءا. ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله (ص) الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع لمس الجماع لا جميع معاني اللمس، كما قال الشاعر: وهن يمشين بنا هميسا ؟ * إن تصدق الطير ننك لميسا يعني بذلك: ننك لماسا.
[ 149 ]
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (ص) أصابتهم جنابة وهم جراح. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهم في المريض لا يستطيع الغسل من الجنابة أو الحائض، قال: يجزيهم التيمم، ونال أصحاب رسول الله (ص) جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) *... الآية كلها. وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبي (ص) أعوزهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة أنها قالت: كنت في مسير مع رسول الله (ص)، حتى إذا كنا بذات الجيش، ضل عقدي، فأخبرت بذلك النبي (ص)، فأمر بالتماسه، فالتمس فلم يوجد. فأناخ النبي (ص)، وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك، فقال الناس: حبست عائشة النبي (ص) ! قالت: فجاء إلي أبو بكر، ورأس النبي (ص) في حجري وهو نائم، فجعل يهمزني ويقرصني ويقول: من أجل عقدك حبست النبي (ص) ! قالت: فلا أتحرك مخافة أن يستيقظ النبي (ص)، وقد أوجعني فلا أدري كيف أصنع. فلما رآني لا أحير إليه انطلق، فلما استيقظ النبي (ص) وأراد الصلاة فلم يجد ماء. قالت: فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت: فقال ابن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي
[ 150 ]
مليكة: أن النبي (ص) كان في سفر، ففقدت عائشة قلادة لها، فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وليس معهم ماء، فأتى أبو بكر على عائشة، فقال لها: شققت على الناس ! وقال أيوب بيده - يصف أنه قرصها قال: ونزلت آية التيمم، ووجدت القلادة في مناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا امرأة أعظم بركة منها. حدثني محمد بن عبد الله الهلالي، قال: ثني عمران بن محمد الحداد، قال: ثني الربيع بن بدر، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا من بلعرج يقال له: الاسلع، قال: كنت أخدم النبي (ص)، وأرحل له، فقال لي ذات ليلة: يا أسلع قم فارحل لي ! قلت: يا رسول الله أصابتني جنابة. فسكت ساعة، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، ووصف لنا ضربتين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثني الربيع بن بدر، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا يقال له الاسلع، قال: كنت أخدم النبي (ص)، فذكر مثله، إلا أنه قال: فسكت رسول الله (ص) شيئا - أو قال ساعة الشك من عمرو قال: وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، فقال رسول الله (ص): قم يا أسلع فتيمم ! قال: فتيممت ثم رحلت له. قال: فسرنا حتى مررنا بماء فقال: يا أسلع مس - أو أمس بهذا جلدك ! قال: وأراني التيمم كما أراه أبوه: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حفص بن نفيل، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: ثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان أبو عمرو حاجب عائشة: أن ابن عباس دخل عليها في مرضها، فقال: أبشري كنت أحب نساء رسول الله (ص) إلى رسول الله (ص)، ولم يكن رسول الله (ص) يحب إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الابواء، فأصبح رسول الله (ص) يلتقطها، حتى أصبح في المنزل،
[ 151 ]
فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله: * (تيمموا صعيدا طيبا) * فكان ذلك من سببك، وما أذن الله لهذه الامة من الرخصة. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله (ص) رجالا في طلبها، فوجدوها. وأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص)، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه، عن عائشة زوج النبي (ص)، أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون إلى المدينة، فأناخ رسول الله (ص) ونزل، فبينا رسول الله (ص) في حجري راقد، أقبل أبي، فلكزني لكزة، ثم قال: حبست الناس. ثم إن رسول الله (ص) استيقظ، وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، ونزلت: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) *... الآية. قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة. حدثني الحسن بن شبيب، قال: ثنا ابن عيينة، قال: ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: دخل ابن عباس على عائشة، فقال: كنت أعظم المسلمين بركة على المسلمين سقطت قلادتك بالابواء، فأنزل الله فيك آية التيمم. واختلف القراء في قراءة قوله: * (أو لامستم النساء) *. فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: * (أو لامستم) * بمعنى: أو لمستم نساءكم ولمسنكم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: أو لامستم النساء بمعنى: أو لمستم أنتم أيها الرجال
[ 152 ]
نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لانه لا يكون الرجل لامسا امرأته إلا وهي لامسته، فاللمس في ذلك يدل على معنى اللماس، واللماس على معنى اللمس من كل واحد منهما صاحبه، فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فلم تجدوا ماء) * أو لمستم النساء، فطلبتم الماء لتتطهروا به، فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن، * (فتيمموا) * يقول: فتعمدوا، وهو تفعلوا من قول القائل: تيممت كذا: إذا قصدته وتعمدته فأنا أتيممه، وقد يقال منه: يممه فلان فهو ييممه، وأيممته أنا وأممته خفيفة، وتيممت وتأممت، ولم يسمع فيها يممت خفيفة. ومنه قول أعشى بني ثعلبة: تيممت قيسا وكم دونه * من الارض من مهمه ذي شزن يعني بقوله: تيممت: تعمدت وقصدت، وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله: فأموا صعيدا. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن محمد، قال: ثنا عبدان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * قال: تحروا وتعمدوا صعيدا طيبا. وأما الصعيد، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الارض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (صعيدا طيبا) * قال: التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال آخرون: بل هو الارض المستوية. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الصعيد: المستوي. وقال آخرون: بل الصعيد: التراب. ذكر من قال ذلك:
[ 153 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، قال: الصعيد: التراب. وقال آخرون: الصعيد: وجه الارض. وقال آخرون: بل هو وجه الارض ذات التراب والغبار. وأولى ذلك بالصواب قول من قال: هو وجه الارض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية، ومنه قول ذي الرمة: كأنه بالضحى يرمي الصعيد به * دبابة في عظام الرأس خرطوم يعني: يضرب به وجه الارض. وأما قوله طيبا، فإنه يعني به: طاهرا من الاقذار والنجاسات. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (طيبا) * فقال بعضهم: حلالا. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن محمد، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: * (صعيدا طيبا) * قال: قال بعضهم: حلالا. وقال بعضهم بما: حدثني عبد الله، قال: ثنا عبدان، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * قال: الطيب: ما حولك. قلت: مكان جرد غير أبطح، أيجزئ عني ؟ قال: نعم. ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء أيها الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لمستم النساء، فأردتم أن تصلوا فتيمموا، يقول: فتعمدوا وجه الارض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم.
[ 154 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم، ولكنه ترك ذكر منه اكتفاء بدلالة الكلام عليه. والمسح منه بالوجه أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الارض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسح بما علق من الغبار وجهه، فإن كان الذي علق به الغبار كثيرا، فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلق بيديه من الغبار شئ، وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه أجزأه ذلك، لاجماع جميع الحجة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها شئ فتيمم به أن ذلك مجزئه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يعتد بخلافه. فلما كان ذلك إجماعا منهم كان معلوما أن الذي يراد به من ضرب الصعيد باليدين مباشرة الصعيد بهما بالمعنى الذي أمر الله بمباشرته بهما، لا لاخذ تراب منه. وأما المسح باليدين، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحد الذي أمر الله بمسحه من اليدين، فقال بعضهم: حد ذلك الكفان إلى الزندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك، قال: تيمم عمار فضرب بيديه إلى التراب ضربة واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الاخرى، ثم مسح وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يده على الاخرى ولم يمسح الذراع. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن أبي خالد، قال: رأيت الشعبي وصف لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الارض ضربة، ثم نفضهما ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفيه إحداهما على الاخرى، ولم يذكر أنه مسح الذراع. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن حصين، عن أبي مالك، قال: وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب، ثم رفعهما فنفخهما، فمسح وجهه وكفيه، ثم قال: هكذا التيمم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا سلام مولى حفص، قال: سمعت عكرمة، يقول: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الاوزاعي، عن سعيد وابن جابر، أن مكحولا كان يقول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، ويتأول
[ 155 ]
مكحول القرآن في ذلك: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * وقوله في التيمم: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء إلى المرافق. قال مكحول: قال الله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * فإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا بشر بن بكر التنيسي، عن ابن جابر: أنه رأى مكحولا يتيمم يضرب بيديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: التيمم: ضربة للوجه والكفين. وعلة من قال هذه المقالة من الاثر ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول الله (ص) عن التيمم، فقال: مرة بالكفين على الوجه. وفي حديث ابن بشر: أن عمارا سأل النبي (ص) عن التيمم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيدة بن سعيد القرشي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبزى، قال: جاء رجل إلى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء، فقال عمر: لا تصل ! فقال له عمار: أما تذكر أنا في مسير على عهد رسول الله (ص) فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فأتيت ر سول الله (ص)، فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك وضرب كفيه الارض ونفخ فيهما ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة ؟
[ 156 ]
وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس. وقال آخرون: حد المسح الذي أمر الله به في التيمم أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوراث بن سعيد، قال: ثنا أيوب، عن نافع: أن ابن عمر تيمم بمربد النعم، فضرب ضربة فمسح وجهه، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله أنه قال: التيمم مسحتان، يضرب الرجل بيديه الارض، يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر في التيمم، قال: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان يقول في المسح في التيمم إلى المرفقين. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا ابن عون، قال: سألت الحسن، عن التيمم، فضرب بيديه على الارض فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الآية: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * وقال في هذه الآية: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * قال: أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء الرأس والرجلان. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، وحدثنا ابن المثنى، قال: ثني
[ 157 ]
محمد بن أبي عدي جميعا، عن داود، عن الشعبي في التيمم، قال: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: أمر بالتيمم فيما أمر بالغسل. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سألت سالم بن عبد الله عن التيمم، فضرب بيديه على الارض ضربة فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الارض ضربة أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: وأخبرنا حبيب بن الشهيد، عن الحسن أنه سئل عن التيمم، فقال: ضربة يمسح بها وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين. وعلة من قال هذه المقالة أن التيمم بدل من الوضوء على المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. واعتلوا من الاثر بما: حدثني به موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الاعرج، عن أبي جهيم، قال: رأيت رسول الله (ص) يبول فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما فرغ قام إلى حائط، فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط، فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام. وقال آخرون: الحد الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم الآباط. ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمر بن أبي سلمة التنيسي، عن الاوزاعي، عن الزهري قال: التيمم إلى الآباط. وعلة من قال ذلك أن الله أمر بمسح اليد في التيمم كما أمر بمسح الوجه، وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكف إلى الابط يد. واعتلوا من الخبر بما:
[ 158 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله (ص)، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله (ص) حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة ! فضربنا بأيدينا ضربة لوجهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الحد الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصر عنه في مسحه بالتراب من يديه، الكفان إلى الزندين لاجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز، ثم هو فيما جاوز ذلك مخير إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرا فيما جاوز الكفين أن الله لم يحد في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدا لا يجوز التقصير عنه، فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه، وقد أجمع الجميع على أن التقصير عن الكفين غير مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، وما عدا ذلك فمختلف فيه، وإذ كان مختلفا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلا في عموم الآية كان خارجا مما لزمه من فرض ذلك. واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا ؟ فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء حكم من جاء من الغائط، وسائر من أحدث ممن جعل التيمم له طهورا لصلاته، وقد ذكرت قول بعض من تأول قول الله: * (أو لامستم النساء) * أو جامعتموهن، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك. واعتل قائلو هذه المقالة بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره بإجماع الحجة على ذلك نقلا عن نبيها (ص) الذي يقطع العذر، ويزيل الشك. وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزئ الجنب غير الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. قالوا: وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب، وتأولوا قول الله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازا فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم.
[ 159 ]
قالوا: وتأويل قوله: * (أو لامستم النساء) *: أو لامستموهن باليد دون الفرج ودون الجماع. قالوا: فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلا. قالوا: والتيمم لا يطهره لصلاته. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن شقيق، قال: كنت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الاشعري، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أيتيمم ؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا. فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * ؟ فقال عبد الله: إن رخص لهم في هذا لاوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال له أبو موسى: إنما كرهتم هذا لهذا ؟ قال: نعم. قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله (ص) في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، قال: فذكرت ذلك للنبي (ص)، فقال: إنما يكفيك أن تصنع هكذا، وضرب بكفيه ضربة واحدة ومسح بهما وجهه، ومسح كفيه ؟ قال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع لقول عمار ؟ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء ! فقال عمر: أما أنا فلو لم أجد الماء لم أكن لاصلي حتى أجد الماء. قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين حيث كنا بمكان كذا وكذا، ونحن نرعى الابل، فتعلم أنا أجنبنا ؟ - قال: نعم فأما أنا فتمرغت في التراب، فأتينا النبي (ص)، قال: إن كان الصعيد لكافيك، وضرب بكفيه الارض، ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه ؟ فقال: اتق الله يا عمار ! فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره، فقال: لا، ولكن نوليك من ذلك ما توليت.
[ 160 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم في دكان مسلم الاعور، فقلت: أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب ؟ قال: لا أصلي. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم يجد الماء والصلاة بقوله: * (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *. وقد بينا ثم أن معنى الملامسة في هذا الموضع: الجماع بنقل الحجة التي لا يجوز الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه ولا السهو ولا التواطؤ والتضافر، بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته، مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله (ص) من الاخبار التي قد ذكرنا بعضها وتركنا ذكر كثير منها استغناء بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * هل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدث حدثا يجب عليه منه الوضوء بالماء لو كان للماء واجدا ؟ فقال بعضهم: ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرض الطلب بعد الطلب محدثا كان أو غير محدث. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: التيمم لكل صلاة. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، مثله. حدثني عبد الله بن محمد، قال: ثنا عبدان المروزي، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الوراث، قال: أخبرنا عامر الاحول، عن نافع أنه حدثه، عن ابن عمر مثل ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة. حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، قال: يتيمم لكل صلاة. ويتأول هذه الآية: * (فلم تجدوا ماء) *.
[ 161 ]
قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: ثنا الفريابي، عن الاوزاعي، عن يحيى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قالوا: التيمم لكل صلاة. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن النخعي، قال: يتيمم لكل صلاة. وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله بالتيمم بعد طلب الماء من لزمه فرض الطلب إذا كان محدثا، فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي بتيممه الاول. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن يونس، عن الحسن، قال: التيمم بمنزلة الوضوء. حدثنا إسماعيل بن موسى السدي، قال: ثنا عمر بن شاكر، عن الحسن، قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء فليتوضأ. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الحسن، قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث، وكذلك التيمم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الحسن، قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، قال: يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: التيمم بمنزلة الوضوء. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: يتيمم المصلى لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضا لان الله جل ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن لم يجد الماء فالتيمم، ثم أخرج القائم إلى الصلاة من كان قد تقدم قيامه إليها الوضوء بالماء سنة رسول الله (ص)، إلا أن يكون قد أحدث حدثا ينقض طهارته، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل بعد طلبه الماء إذا أعوزه.
[ 162 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان عفوا غفورا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لم يزل عفوا عن ذنوب عباده وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به، كما عفا عنكم أيها المؤمنون عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى. * (غفورا) * يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذاب على خطاياهم، كما ستر عليكم أيها المؤمنون بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى. يقول: فلا تعودوا لمثلها فينا لكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك منكلة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ئ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *.. اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه: * (ألم تر إلى الذين) * فقال قوم: معناه: ألم تخبر. وقال آخرون: معناه: ألم تعلم. والصواب من القول في ذلك: ألم تر بقلبك يا محمد علما إلى الذين أوتوا نصيبا. وذلك أن الخبر والعلم لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب بالعلم لذلك كما قلنا فيه. وأما تأويل قوله: * (إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * فإنه يعني: إلى الذين أعطوا حظا من كتاب الله، فعلموه. وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) * فهم أعداء الله اليهود، اشتروا الضلالة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * إلى قوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * قال: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي.
[ 163 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم - يعني: من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله (ص) لوى لسانه وقال: راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ! ثم طعن في الاسلام وعابه، فأنزل الله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة) *... إلى قوله: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق بإسناده عن ابن عباس، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يشترون الضلالة) *: اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يختارون الضلالة، وذلك الاخذ على غير طريق الحق وركوب غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهم الحق. وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة مقامهم على التكذيب بمحمد (ص) وتركهم الايمان به، وهم عالمون أن السبيل الحق الايمان به وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم. وأما قوله: * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * يعني بذلك تعالى ذكره: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب أن تضلوا أنتم يا معشر أصحاب محمد (ص) المصدقين به أن تضلوا السبيل، يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق، ومحجة الحق، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالا مثلهم. وهذا من الله تعالى ذكره تحذير منه عباده المؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الاسلام في شئ من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئا من طعنهم في الحق. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جل ثناؤه: * (والله أعلم بأعدائكم) * يعني بذلك تعالى ذكره: والله أعلم منكم بعداوة هؤلاء اليهود أيها المؤمنون، يقول: فانتهوا إلى طاعتي عما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، فإني أعلم بما هم عليه لكم من الغش
[ 164 ]
والعداوة والحسد وأنهم إنما يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحق فتهلكوا. وأما قوله: * (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) * فإنه يقول: فبالله أيها المؤمنون فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا دون غيره، يكفكم مهمكم وينصركم على أعدائكم. * (وكفى بالله وليا) * يقول: وكفاكم وحسبكم بالله ربكم وليا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم والحراسة من أن يستفزكم أعداؤكم عن دينكم أو يصدوكم عن اتباع نبيكم. * (وكفى بالله نصيرا) * يقول: وحسبكم بالله ناصرا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغي دينكم العوج. القول في تأويل قوله تعالى: * (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *.. ولقوله جل ثناؤه: * (من الذين هادوا يحرفون الكلم) * وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرفون الكلم. فيكون قوله: * (من الذين هادوا) * من صلة الذين. وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: * (من الذين هادوا يحرفون) *. والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه. فتكون من محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: * (من الذين هادوا) * عليها، وذلك أن من لو ذكرت في الكلام كانت بعضا لمن، فاكتفى بدلالة من عليها، والعرب تقول: منا من يقول ذلك، ومنا لا يقوله، بمعنى: منا من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله، فتحذف من اكتفاء بدلالة من عليه، كما قال ذو الرمة: فظلوا ومنهم دمعه سابق له * وآخر يذري دمعة العين بالمهل
[ 165 ]
يعني: ومنهم من دمعه. وكما قال الله تبارك وتعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) *، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: * (من الذين هادوا يحرفون الكلم) * غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك القوم، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة: كأنك من جمال بني أقيش ؟ * يقعقع خلف رجليه بشن يعني: كأنك جمل من جمال أقيش. فأما نحويو الكوفة، فينكرون أن يكون المضمر مع من إلا من أو ما أشبهها. والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله: * (من الذين هادوا) * من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، لان الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصف الله صفتهم في قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام إذ كان الامر كذلك إلى أن يكون فيه متروك. وأما تأويل قوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * فإنه يقول: يبدلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم جماع كلمة. وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم: التوراة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) *: تبديل اليهود التوراة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: * (عن مواضعه) * فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه.
[ 166 ]
القول في تأويل قوله: * (ويقولون سمعنا وعصينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك، وعصينا أمرك. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الر حمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، في قوله: * (سمعنا وعصينا) * قال: قالت اليهود: سمعنا ما تقول، ولا نطيعك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (سمعنا وعصينا) * قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك. القول في تأويل قوله تعالى: * (واسمع غير مسمع) *. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجر رسول الله (ص) في عصره، أنهم كانوا يسبون رسول الله (ص) ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك الله. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واسمع غير مسمع) * قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الانسان: اسمع لاسمعت، أذى لرسول الله (ص)، وشتما له واستهزاء. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: * (واسمع غير مسمع) * قال: يقولون لك: واسمع لاسمعت. وقد روي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأولان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. ولو كان ذلك معناه لقيل: واسمع غير مسموع، ولكن معناه: واسمع لا تسمع، ولكن قال الله تعالى ذكره: * (ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسب النبي (ص).
[ 167 ]
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد: * (واسمع غير مسمع) * يقول: غير مقبول ما تقول، فهو كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (واسمع غير مسمع) * قال: غير مستمع. قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: * (واسمع غير مسمع) *: غير مقبول ما تقول. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: * (واسمع غير مسمع) * قال: كما تقول: اسمع غير مسموع منك. وحدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كان ناس منهم يقولون: * (واسمع غير مسمع) * كقولك: اسمع غير صاغ. القول في تأويل قوله تعالى: * (وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) *. يعني بقوله: * (وراعنا) *: أي راعنا سمعك، افهم عنا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته. ثم أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله (ص): * (ليا بألسنتهم) * يعني: تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، واستخفافا منهم بحق النبي (ص) * (وطعنا في الدين) *. كما: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبي (ص): راعنا سمعك ! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة، فقال: راعنا سمعك ليا بألسنتهم، واللي: تحريكهم ألسنتهم بذلك، * (وطعنا في الدين) *. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (راعنا ليا بألسنتهم) * كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك ! يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرف معناه.
[ 168 ]
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) *... إلى: * (وطعنا في الدين) * فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول الله (ص) ويطعنون في الدين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) * قال: راعنا طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه. قال: والراعن: الخطأ من الكلام. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، أبوروق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: * (ليا بألسنتهم) * قال: تحريفا بالكذب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم قالوا لنبي لله: سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا، * (لكان خيرا لهم وأقوم) * يقول: لكان ذلك خيرا لهم عند الله وأقوم، يقول: وأعدل وأصوب في القول. وهو من الاستقامة من قول الله: * (وأقوم قيلا) * بمعنى: وأصوب قيلا. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم) * قال: يقولون: اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد، قوله: * (وانظرنا) * قال: اسمع منا. حدثنا القاسم، ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (وانظرنا) * قال: أفهمنا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وانظرنا) * قال: أفهمنا.
[ 169 ]
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى: * (وانظرنا) * إلى: اسمع منا، وتوجيه مجاهد ذلك إلى: أفهمنا، ما لا نعرف في كلام العرب، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا: انتظرنا نفهم ما تقول، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها، فلا نعرف انظرنا في كلام العرب إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا، فأما انظرنا بمعنى انتظرنا، فمنه قول الحطيئة: وقد نظرتكم لو أن درتكم * يوما يجئ بها مسحي وإبساسي وأما انظرنا بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: ظاهرات الجمال والحسن ينظر * ن كما ينظر الاراك الظباء بمعنى كما ينظر إلى الاراك الظباء. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) *. يعني بذلك: ولكن الله تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد، واتباع الحق بكفرهم، يعني بجحودهم نبوة نبيه محمد (ص)، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * يقول:
[ 170 ]
فلا يصدقون بمحمد (ص)، وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرون بنبوته إلا قليلا، يقول: لا يصدقون بالحق الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلا. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * قال: لا يؤمنون هم إلا قليلا. وقد بينا وجه ذلك بعلله في سورة البقرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) *: اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله (ص)، قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به، * (آمنوا) * يقول: صدقوا بما أنزلنا إلى محمد من الفرقان، * (مصدقا لما معكم) يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران، * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: طمسه إياه: محوه آثارها حتى تصير كالاقفاء. ] وقال آخرون: معنى ذلك: أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكر الوجه، والمراد به بصره. * (فنردها على أدبارها) *: فنجعل أبصارها من قبل أقفائها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا) *... إلى قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها) * وطمسها أن تعمى فنردها على أدبارها، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لاحدهم عينين في قفاه. حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبدي، قال: ثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * قال: نجعلها في أقفائها فتمشي على أعقابها القهقرى.
[ 171 ]
حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية بنحوه، إلا أنه قال: طمسها أن يردها على أقفائها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (فنردها على أدبارها) * قال: نحول وجوهها قبل ظهورها. وقال آخرون: معنى ذلك من قبل أن نعمي قوما عن الحق، فنردها على أدبارها في الضلالة والكفر. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *: فنردها عن الصراط الحق، * (فنردها على أدبارها) * قال: في الضلالة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (أن نطمس وجوها) * عن صراط الحق، * (فنردها على أدبارها) * في الضلالة. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال الحسن: * (نطمس وجوها) * يقول: نطمسها عن الحق، * (فنردها على أدبارها) *: على ضلالتها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) *... إلى قوله: * (كما لعنا أصحاب السبت) * قال: نزلت في مالك بن الصيف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع. أما * (أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * يقول: فنعميها عن الحق، ونرجعها كفارا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * يعني: أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردهم على أدبارهم فكفروا بمحمد (ص) وما جاء به. وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها
[ 172 ]
وناحيتهم التي هم بها، فنردها على أدبارها من حيث جاءوا منه بدءا من الشام. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) * قال: كان أبي يقول: إلى الشام. وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نطمس وجوها فنمحو آثارها ونسويها، فنردها على أدبارها بأن نجعل الوجوه منابت الشعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لان شعور بني آدم في أدبار وجوههم، فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم، فقد ردها على أدبارها بتصييره إياها كالاقفاء وأدبار الوجوه. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها) *: من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسويها كالاقفاء، فنردها على أدبارها، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحول الوجوه أقفاء، والاقفاء وجوها، فيمشون القهقري، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة) * ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *... الآية، بأسه وسطوته، وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالايمان به، ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالايمان به يومئذ كفارا. وإذ كان ذلك كذلك، فبين فساد قول من قال: تأويل ذلك أن نعميها عن الحق فنردها في الضلالة، فما وجه رد من هو في الضلالة فيها ؟ وإنما يرد في الشئ من كان خارجا منه، فأما من هو فيه فلا وجه لان يقال: يرده فيه. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا أن الله قد تهدد الذين ذكرهم في هذه الآية برده وجوههم على أدبارهم، كان بينا فساد تأويل من قال: معنى ذلك يهددهم بردهم في ضلالتهم. وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة، فقول لقول أهل التأويل مخالف، وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا. وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردهم إلى الشام
[ 173 ]
من مساكنهم بالحجاز ونجد، فإنه وإن كان قولا له وجه كما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد، وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الاقفاء، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الاغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم له. وأما الطمس: فهو العفو والدثور في استواء، ومنه يقال: طمست أعلام الطريق تطمس طموسا، إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالارض، كما قال كعب بن زهير: من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت * عرضتها طامس الاعلام مجهول يعني بطامس الاعلام: داثر الاعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للاعمى الذي قد تعفي غر ما بين جفني عينيه فدثر: أعمى مطموس وطميس، كما قال الله جل ثناؤه: * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) *. قال أبو جعفر: الغر: الشق الذي بين الجفنين. فإن قال قائل: فإن كان الامر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعدهم به ؟ قيل: لم يكن لانه آمن منهم جماعة، منهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومخيرق، وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم. ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم، ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلم رسول الله (ص) رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله فيهم: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *... الآية.
[ 174 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة، قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال: أسلم كعب في زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال: يا كعب أسلم ! قال: ألستم تقرءون في كتابكم: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) * ؟ وأنا قد حملت التوراة. قال: فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينا، وهو يقول: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) *... الآية، فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (أو نلعنهم) *: أو نلعنكم، فنخزيكم، ونجعلكم قردة، * (كما لعنا أصحاب السبت) * يقول: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم، قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله: * (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم) * كما قال: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها) *. وقد يحتمل أن يكون معناه: من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعن أصحاب الوجوه، فجعل الهاء والميم في قوله: * (أو نلعنهم) * من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) *... إلى قوله: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * أي نحولهم قردة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * يقول: أو نجعلهم قردة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * أو نجعلهم قردة.
[ 175 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * قال: هم يهود جميعا، نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت. وأما قوله: * (وكان أمر الله مفعولا) * فإنه يعني: وكان جميع ما أمر الله أن يكون كائنا مخلوقا موجودا، لا يمتنع عليه خلق شئ شاء خلقه. والامر في هذا الموضع: المأمور، سمي أمر الله لانه عن أمره كان وبأمره، والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم، وإن الله لا يغفر أن يشرك به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام. وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله: * (أن يشرك به) * في موضع نصب بوقوع يغفر عليها وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرا، وذلك أن يوجه معناه: إلى أن الله لا يغفر بأن يشرك به على تأويل الجزاء، كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبا مع شرك أو عن شرك، وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون أن في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) *. ذكر الخبر بذلك حدثنى المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ثني محبر، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: لما نزلت: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) *... الآية، قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي (ص)، فقال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) *.
[ 176 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * قال: أخبرني محبر، عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) *... الآية، قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي، فقال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *. حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا آدم، قال: ثنا الهيثم بن حماد، قال: ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر، قال: كنا معشر أصحاب النبي (ص) لا نشك في قاتل النفس، وأكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فأمسكنا عن الشهادة. وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه، فقد افترى إثما عظيما، يقول: فقد اختلق إثما عظيما. وإنما جعله الله تعالى ذكره مفتريا، لانه قال زورا وإفكا بجحوده وحدانية الله وإقراره بأن لله شريكا من خلقه وصاحبة أو ولدا، فقائل ذلك مفتر، وكذلك كل كاذب فهو مفتر في كذبه مختلق له. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشآء ولا يظلمون فتيلا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرئونها من الذنوب، ويطرونها. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها، فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
[ 177 ]
(ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا) * وهم أعداء الله اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لا ذنوب لنا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال: هم اليهود والنصارى، قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وقالوا: * (لن يدخل الجنة إلا من كانع هودا أو نصارى) *. وحدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قال: قالت يهود: ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون، فإن كانت لهم ذنوب، فإن لنا ذنوبا، فإنما نحن مثلهم، قال الله تعالى ذكره: * (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال: قال أهل الكتاب: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * وقالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * وقالوا: نحن على الذي يحب الله. فقال تبارك وتعالى: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء) * حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا) * نزلت في اليهود، قالوا: إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل. وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لامامتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
[ 178 ]
نجيح، عن مجاهد في قوله: * (يزكون أنفسهم) * قال: يهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الاعرج، عن مجاهد، قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية. قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال: نزلت في اليهود كانوا يقدمون صبيانهم يقولون: ليست لهم ذنوب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال: كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم، يقولون ليس لهم ذنوب، فأنزل الله: * (ألم ترع إلى الذين يزكون أنفسهم) *... الآية. وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم كانت قولهم: إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون ويزكوننا. فقال الله لمحمد: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) *... إلى * (ولا يظلمون فتيلا) *. وقال آخرون: بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن الاعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد الله: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شئ ! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا، فيقول: والله
[ 179 ]
إنك لذيت وذيت، ولعله أن يرجع، ولم يحل من حاجته بشئ، وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) *... الآية. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحباء، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه، لانه ذلك هو أظهر معانيه لاخبار الله عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها. وأما الذين قالوا: معنى ذلك: تقديمهم أطفالهم للصلاة، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم. وأما قوله جل ثناؤه: * (بل الله يزكي من يشاء) * فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرئيها من الذنوب، يقول الله لهم: ما الامر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وإنكم برآء مما يكرهه الله، ولكنكم أهل فرية وكذب على الله، وليس المزكي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه الله، والله يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه إلى ما يرضاه من طاعته. وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جل ثناؤه: * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد طهرهم من الذنوب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يظلمون فتيلا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه، كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلا. واختلف أهل التأويل في معنى الفتيل، فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الاصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالاخرى. ذكر من قال ذلك:
[ 180 ]
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الفتيل: ما خرج من بين أصبعيك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * قال: ما فتلت بين أصبعيك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن زيد بن درهم أبي العلاء، قال: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس: * (ولا يظلمون فتيلا) * قال: الفتيل: هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ولا يظلمون فتيلا) * والفتيل: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج بينهما فهو ذلك. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * قال: الفتيل: الوسخ الذي يخرج من بين الكفين. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: الفتيل: ما فتلت به يديك فخرج وسخ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما. وأناس يقولون: الذي يكون في بطن النواة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: * (فتيلا) * قال: الذي في بطن النواة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني طلحة بن عمرو، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله.
[ 181 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدا يقول: الفتيل: الذي في شق النواة. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفتيل: في النوى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * قال: الفتيل: الذي في شق النواة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: الفتيل: شق النواة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الفتيل: الذي في بطن النواة. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: الفتيل: الذي يكون في شق النواة. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا يظلمون فتيلا) *: فتيل النواة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عطية، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة. قال أبو جعفر: وأصل الفتيل: المفتول، صرف من مفعول إلى فعيل، كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه إنما قصد بقوله: * (ولا يظلمون فتيلا) * الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقل الاشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الاخرى، كالذي هو في شق النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من الاشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له ولا قيمة، فواجب أن يكون كل ذلك داخلا في معنى الفتيل، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دل عليه ظاهر التنزيل. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 182 ]
* (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: انظر يا محمد كيف يفتري هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب القائلون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، الزاعمون أنه لا ذنوب لهم الكذب والزور من القول، فيختلقونه على الله. * (وكفى به) * يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذب والزور على الله * (إثما مبينا) * يعني: إنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح لهم أنهم أفكة فجرة. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * قال: هم اليهود والنصارى * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أعطوا حظا من كتاب الله فعلموه يؤمنون بالجبت والطاغوت، يعني: يصدقون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الايمان بهما كفر والتصديق بهما شرك. ثم اختلف أهل التأويل في معنى الجبت والطاغوت، فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: الجبت والطاغوت: صنمان. وقال آخرون: الجبت: الاصنام، والطاغوت: تراجمة الاصنام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتو نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
[ 183 ]
والطاغوت) * الجبت: الاصنام، والطاغوت: الذين يكونون بين أيدي الاصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وزعم رجال أن الجبت: الكاهن والطاغوت: رجل من اليهود يدعى كعب بن الاشرف، وكان سيد اليهود. وقال آخرون: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن قائد، قال: قال عمر رضي الله عنه: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العنسي، عن عمر مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. حدثني يعقوب، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (يؤمنون بالجبت والطاغوت) * قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطات والكاهن. وقال آخرون: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي يقول: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان. وقال آخرون: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر،
[ 184 ]
عن سعيد بن جبير في هذه الآية: * (الجبت والطاغوت، قال: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن رفيع، قال: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر، والجبت: الكاهن. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن داود، عن أبي العالية في قوله: * (الجبت والطاغوت) * قال: أحدهما السحر، والآخر الشيطان. وقال آخرون: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: * (يؤمنون بالجبت والطاغوت) * كنا نحدث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. وقال آخرون: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت: الكاهن: والطاغوت: الساحر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا عوف، عن محمد، قال في الجبت والطاغوت، قال: الجبت: الكاهن، والآخر: الساحر. وقال آخرون: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الاشرف. ذكر من قال ذلك:
[ 185 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (يؤمنون بالجبت والطاغوت) * الطاغوت: كعب بن الاشرف، والجبت: حيي بن أخطب. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الاشرف. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (الجبت والطاغوت) * قال: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت. كعب بن الاشرف. وقال آخرون: الجبت: كعب بن الاشرف، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: الجبت كعب بن الاشرف، والطاغوت: الشيطان كان في صورة إنسان. قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل: * (يؤمنون بالجبت والطاغوت) * أن يقال: يصدقون بمعبودين من دون الله يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين. وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله، أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك وكانت الاصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جبوتا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب، وكعب بن الاشرف، لانهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين. وقد بينت الاصل الذي منه قيل للطاغوت طاغوت، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *.
[ 186 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد (ص): * (هؤلاء) * يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر * (أهدى) * يعني أقوم وأعدل * (من الذين آمنوا) * يعني من الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد (ص) * (سبيلا) * يعني: طريقا. وإنما ذلك مثل، ومعنى الكلام: إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والاذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الايمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الاشرف، وأنه قائل ذلك. ذكر الآثار الواردة بما قلنا: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الاشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم ؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: * (إن شانئك هو الابتر) *، وأنزلت: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) *... إلى قوله: * (فلن تجد له نصيرا) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة في هذه الآية: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * ثم ذكر نحوه. وحدثني إسحاق بن شاهين، قال: أخبرنا خالد الواسطي، عن داود، عن عكرمة، قال: قدم كعب بن الاشرف مكة، فقال له المشركون: احكم بيننا وبين هذا الصنبور الابتر، فأنت سيدنا وسيد قومك. فقال كعب: أنتم والله خير منه. فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... إلى آخر الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة: أن كعب بن الاشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي (ص)، وأمرهم أن يغزوه، وقال: إنا معك نقاتله، فقالوا: إنكم
[ 187 ]
أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ! ففعل. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده. قال: بل أنتم خير وأهدى ! فنزلت فيه: * (ألم تر إلى الذين أوتو نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما كان من أمر رسول الله (ص) واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين، فهموا به وبأصحابه، فأطلع الله ورسوله على ما هموا به من ذلك، ورجع رسول الله (ص) إلى المدينة، فهرب كعب بن الاشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد، إنكم قوم تقرءون الكتاب، وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم، فأخبرنا: ديننا خير أم دين محمد ؟ قال كعب: اعرضوا علي دينكم ! فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه. قال: دينكم خير من دين محمد، فاثبتوا عليه ! ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع، وهو ينكح من النساء ما شاء ؟ وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء ! فذلك حين يقول: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت في كعب بن الاشرف وكفار قريش قال: كفار قريش أهدى من محمد عليه الصلاة والسلام. قال ابن جريج: قدم كعب بن الاشرف، فجاءته قريش فسألته عن محمد فصغر أمره ويسره وأخبرهم أنه ضال. قال: ثم قالوا له: ننشدك الله نحن أهدى أم هو ؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم ما هبت الريح ! قال: أنتم أهدى.
[ 188 ]
وقال آخرون: بل هذه الصفة جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم. ذكر الاخبار بذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن قاله، قال: أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الاحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن أبي الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهوذبن قيس، فأما وحوح، وأبو عامر، وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش، قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الاول، فاسألوهم أدينكم خير، أم دين محمد ؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ! فأنزل الله فيهم: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) *... إلى قوله: * (وآتيناهم ملكا عظيما) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) *... الآية، قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الاشرف وحيي بن أخطب ورجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا بموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه ؟ فإنا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم. فقالا: لا، بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه ! وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه. وقال آخرون: بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده، وإياه عني بقوله: * (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... إلى آخر الآية، قال: جاء حيي بن أخطب إلى المشركين، فقالوا: يا حيي إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال نحن وأنتم خير منهم ! فذلك قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... إلى قوله: * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *.
[ 189 ]
وأولى الاقوال بالصحة في ذلك قول من قال: إن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن يكون كانت الجماعة الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعد أو يكون حييا وآخر معه، إما كعبا وإما غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: أولئك هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم الذين لعنهم الله، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته بإيمانهم بالجبت والطاغوت وكفرهم بالله ورسوله، عنادا منهم لله ولرسوله، وبقولهم: * (للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *. * (ومن يلعن الله) * يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته، * (فلن تجد له نصيرا) * يقول: فلن تجد له يا محمد ناصرا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحل به فيدفع ذلك عنه، كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال كعب بن الاشرف وحيي بن أخطب ما قالا، يعني من قولهما: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الله: * (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (أم لهم نصيب من الملك) * أم لهم حظ من الملك، يقول: ليس لهم حظ من الملك. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أم لهم نصيب من الملك) * يقول: لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدا نقيرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قال الله: * (أم لهم نصيب من الملك) * قال: فليس لهم نصيب من الملك، * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذا يعطون الناس نقيرا من بخلهم.
[ 190 ]
واختلف أهل التأويل في معنى النقير، فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (نقيرا) * يقول: النقطة التي في ظهر النواة. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: النقير الذي في ظهر النواة. حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس، قال: النقير: وسط النواة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * النقير: نقير النواة: وسطها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * يقول: لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدا نقيرا، والنقير: النكتة التي في وسط النواة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني طلحة بن عمرو أنه سمع عطاء بن أبي رباح، يقول: النقير: الذي في ظهر النواة. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: النقير: النقرة التي تكون في ظهر النواة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: النقير: الذي في ظهر النواة. وقال آخرون: النقير: الحبة التي تكون في وسط النواة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (نقيرا) * قال: النقير: حبة النواة التي في وسطها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * قال: النقير: حبة النواة التي في وسطها.
[ 191 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: النقير في النوي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: النقير: نقير النواة الذي في وسطها. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: النقير: نقير النواة الذي يكون في وسط النواة. وقال آخرون: معنى ذلك: نقر الرجل الشئ بطرف أصابعه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء، قال: سمعت أبا العالية، ووضع ابن عباس طرف الابهام على ظهر السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الفرقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشئ الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكا وأهل قدرة على الاشياء الجليلة الاقدار. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى النقير أن يكون أصغر ما يكون من النقر، وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شاكلها من النقر. ورفع قوله: * (لا يؤتون الناس) * ولم ينصب باذا، ومن حكمها أن تنصب الافعال المستقبلة إذا ابتدئ الكلام بها، لان معها فاء، ومن حكمها إذا دخل فيها بعض حروف العطف أ توجه إلى الابتداء بها مرة وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى، وهذا الموضع مما أريد بالفاء فيه النقل عن إذا إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب فلا يؤتون الناس نقيرا إذا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم يحسدون الناس على مآ آتاهم الله من فضله فقد آتينآ آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (أم يحسدون الناس) * أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود. كما:
[ 192 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنى أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (أم يحسدون الناس) * قال: اليهود. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة مثله. وأما قوله: * (الناس) * فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عنى الله به، فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدا (ص) خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، قال: أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * قال: الناس في هذا الموضع: النبي (ص) خاصة. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * يعني: محمدا (ص). حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * قال: الناس: محمد (ص). حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: فذكر نحوه. وقال آخرون: بل عنى الله به العرب. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * أولئك اليهود حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عاتب اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الاوثان إنهم أهدى من محمد
[ 193 ]
وأصحابه سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذبة: أم يحسدون محمدا على ما آتاهم الله من فضله. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان ما قبل قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * مضى بذم القائلين من اليهود للذين كفروا: * (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) *، فإلحاق قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل أشبه وأولى، ما لم يأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك. واختلف أهل التأويل في تأويل الفضل الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * فقال بعضهم: ذلك الفضل هو النبوة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) *: حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله، بعث الله منهم نبيا فحسدوهم على ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: * (على ما آتاهم الله من فضله) * قال: النبوة. وقال آخرون: بل ذلك الفضل الذي ذكر الله أنه آتاهموه: هو إباحته ما أباح لنبيه محمد (ص) من النساء، ينكح منهن ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني بالناس: محمدا (ص) على ما ذكرت قبل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) *... الآية، وذلك أن أهل الكتاب قالوا: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا ؟ فقال الله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) *. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * يعني محمدا أن ينكح ما شاء من النساء.
[ 194 ]
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) * وذلك أن اليهود قالوا: ما شأن محمد أعطي النبوة كما يزعم وهو جائع عار، وليس له هم إلا نكاح النساء ؟ فحسدوه على تزويج الازواج، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل أن معنى الفضل في هذا الموضع النبوة التي فضل الله بها محمدا، وشرف بها العرب إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية تدل على أنها تقريظ للنبي (ص) وأصحابه رضي الله عنهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل الله جل ثناؤه الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح. القول في تأويل قوله تعالى: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) *. يعني: بذلك جل ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، الناس على ما آتاهم الله من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم، فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم بالكتاب ؟ ويعني بقوله: * (فقد آتينا آل إبراهيم) *: فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه * (الكتاب) * يعني: كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزبور، وسائر ما آتاهم من الكتب. وأما الحكمة، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا. * (وآتيناهم ملكا عظيما) *. واختلف أهل التأويل في معنى الملك العظيم الذي عناه الله في هذه الآية، فقال بعضهم: هو النبوة. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (أم يحسدون الناس) * قال: يهود، * (على ما آتاهم الله من فضله) * فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب وليسوا منهم، والحكمة، * (وآتيناهم ملكا عظيما) * قال: النبوة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: * (ملكا) *: النبوة.
[ 195 ]
وقال آخرون: بل ذلك تحليل النساء، قالوا: وإنما عنى الله بذلك: أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء، فقد أحل الله مثل الذي أحله له منهن لداود وسليمان وغيرهم من الانبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك وحسدوا محمدا عليه الصلاة والسلام ؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فقد آتينا آل إبراهيم) *: سليمان وداود * (الحكمة) * يعني: النبوة. * (وآتيناهم ملكا عظميا) * في النساء، فما باله حل لاولئك وهم أنبياء أن ينكح داود تسعا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مائة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا !. وقال آخرون: بل معنى قوله: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * الذي آتى سليمان بن داود. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * يعني: ملك سليمان. وقال آخرون: بل كانوا أيدوا بالملائكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن الحارث: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * قال: أيدوا بالملائكة والجنود. وأولى هذه الاقوال بتأويل الآي، وهي قوله: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * القول الذي روي عن ابن عباس أنه قال: يعني: ملك سليمان، لان ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال: إنه ملك النبوة، ودون قول من قال: إنه تحليل النساء والملك عليهن. لان كلام الله الذي خوطب به العرب غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب من يهود بني إسرائيل الذين قال لهم جل ثناؤه: * (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها *
[ 196 ]
(من آمن به) * يقول: من صدق بما أنزلنا على محمد (ص) مصدقا لما معهم. * (ومنهم من صد عنه) * ومنهم من أعرض عن التصديق به. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فمنهم من آمن به) * قال: بما أنزل على محمد من يهود * (ومنهم من صد عنه) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدوا عما أنزل الله على محمد (ص) من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله (ص) إنما رفع عنهم وعيد الله الذي توعدهم به، في قوله: * (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) * في الدنيا، وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لايمان من آمن منهم. وإن الوعيد لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه (ص)، فلما آمن بعضهم خرجوا من الوعيد الذي توعده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبة المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرا. ويعني قوله: * (وكفى بجهنم سعيرا) *: وحسبكم أيها المكذبون بما أنزلت على محمد نبيي ورسولي بجهنم سعيرا، يعني: بنار جهنم تسعر عليكم: أي توقد عليكم. وقيل: * (سعيرا) * أصله مسعورا، من سعرت تسعر فهي مسعورة، كما قال الله: * (وإذا الجحيم سعرت) * ولكنها صرفت إلى فعيل، كما قيل: كف خضيب ولحية دهين، بمعنى مخضوبة ومدهونة، والسعير: الوقود. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) *.. هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار برسوله. يقول الله لهم: إن الذين جحدوا ما
[ 197 ]
أنزلت على رسولي محمد (ص) من آياتي، يعني من آيات تنزيله ووحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد (ص)، فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به، * (سوف نصليهم نارا) * يقول: سوف ننضجهم في نار يصلون فيها: أي يشوون فيها. * (كلما نضجت جلودهم) * يقول: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت، * (بدلناهم جلودا غيرها) * يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن نوير، عن ابن عمر: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * قال: إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضا أمثال القراطيس. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * يقول: كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (كلما نضجت جلودهم) * قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الاول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه سبعون ذراعا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: بلغني عن الحسن: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * قال: ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. [ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد، وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعا، والله أعلم بأي ذراع. فإن سأل سائل، فقال: وما معنى قوله جل ثناؤه: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * ؟ وهل يجوز أن يبدلوا جلودا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا، فيعذبوا فيها ؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يبدلوا أجساما وأرواحا غير أجسامهم وأوراحهم التي
[ 198 ]
كانت لهم في الدنيا فتعذب ! وإن أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين أوعدهم الله العقاب على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون الكفار قد ارتفع عنهم العذاب ! قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك، فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الانسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الانسان ألم العذاب، وأما الجلد واللحم فلا يألمان. قالوا: فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان له في الدنيا، أو جلد غيره، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذبة، وإنما الآلمة المعذبة النفس التي تحس الالم، ويصل إليها الوجع. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير مستحيل أن يخلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم العذاب، إذ كانت الجلود لا تألم. وقال آخرون: بل الجلود تألم، واللحم وسائر أجزاء جرم بني آدم، وإذا أحرق جلده أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى جميعه. قالوا: ومعنى قوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) *: بدلناهم جلودا غير محترقة، وذلك أنها تعاد جديدة، والاولى كانت قد احترقت فأعيدت غير محترقة، فلذلك قيل غيرها، لانها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا التي عصوا الله وهي لهم. قالوا: وذلك نظير قول العرب للصائغ إذا استصاغته خاتما من خاتم مصوغ، بتحويله عن صياغته التي هو بها إلى صياغة أخرى: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ! فيكسره ويصوغ له منه خاتما غيره والخاتم المصوغ بالصياغة الثانية هو الاول، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتما قيل هو غيره. قالوا: فكذلك معنى قوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * لما احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق، قيل هي غيرها على ذلك المعنى. وقال آخرون: معنى ذلك: * (كلما نضجت جلودهم) * سرابيلهم، بدلناهم سرابيل من قطران غيرها. فجعلت السرابيل القطران لهم جلودا، كما يقال للشئ الخاص بالانسان: هو جلدة ما بين عينيه ووجهه لخصوصه به. قالوا: فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه: * (سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) * لما صارت لهم لباسا لا تفارق أجسامهم جعلت لهم جلودا، فقيل: كلما اشتعل القطران في أجسامهم واحترق بدلوا سرابيل من قطران آخر. قالوا: وأما جلود أهل الكفر من أهل النار فإنها لا تحرق، لان في
[ 199 ]
احتراقها إلى حال إعادتها فناءها، وفي فنائها راحتها. قالوا: وقد أخبرنا الله تعالى ذكره عنها أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها. قالوا: وجلود الكفار أحد أجزاء أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شئ فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها، وإذا جاز ذلك وجب أن يكون جائزا عليهم الفناء ثم الاعادة والموت ثم الاحياء، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون. قالوا: وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون دليل واضح أنه لا يموت شئ من أجزاء أجسامهم، والجلود أحد تلك الاجزاء. وأما معنى قوله: * (ليذوقوا العذاب) * فإنه يقول: فعلنا ذلك بهم ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته بما كانوا في الدنيا يكذبون آيات الله ويجحدونها. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان عزيزا حكيما) *. يقول: إن الله لم يزل عزيزا في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أراده بضر، ولا الانتصار منه أحد أحل به عقوبة، حكيما في تدبيره وقضائه. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *: والذين آمنوا بالله ورسوله محمد (ص)، وصدقوا بما أنزل الله على محمد مصدقا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الامم غيرهم. * (وعملوا الصالحات) * يقول: وأدوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرم الله عليهم من معاصيه، وذلك هو الصالح من أعمالهم. * (سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار) * يقول: سوف يدخلهم الله يوم القيامة جنات، يعني: بساتين * (تجري من تحتها الانهار) * يقول: تجري من تحت تلك الجنات الانهار. * (خالدين فيها أبدا) * يقول: باقين فيها أبدا بغير نهاية ولا انقطاع، دائم ذلك لهم فيها أبدا. * (لهم فيها أزواج) * يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها * (أزواج مطهرة) * يعني: بريئات من الادناس والريب الحيض والغائط والبول والحبل والبصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا.
[ 200 ]
وقد ذكرنا ما في ذلك من الاثار فيما مضى قبل، وأغنى ذلك عن إعادتها. وأما قوله: * (وندخلهم ظلا ظليلا) * فإنه يقول: وندخلهم ظلا كنينا، كما قال جل ثناؤه: * (وظل ممدود) *. وكما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، وحدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قالا جميعا، ثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *.. اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها: ولاة أمور المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم، قال: نزلت هذه الآية: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * في ولاة الامر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إديس، قال: ثنا ليث، عن شهر، قال: نزلت في الامراء خاصة * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) *. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إدريس، قال: ثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد، قال: قال علي رضي الله عنه: كلمات أصاب فيهن حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدى الامانة، وإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا.
[ 201 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: ثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن علي بنحوه. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا موسى بن عمير، عن مكحول، في قول الله: * (وأولي الامر منكم) * قال: هم أهل الآية التي قبلها: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) *... إلى آخر الآية. حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد، قال: قال أبي: هم الولاة، أمرهم أن يؤدوا الامانات إلى أهلها. وقال آخرون: أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * قال: يعني: السلطان يعطون الناس. وقال آخرون: الذي خوطب بذلك النبي (ص) في مفاتيح الكعبة أمر بردها على عثمان بن طلحة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قبض منه النبي (ص) مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله (ص) وهو يتلو هذه الآية: فداؤه أبي وأمي ! ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري، قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. وأولى هذه الاقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: هو خطاب من الله ولاة أمور المسلمين بأداء الامانة إلى من ولوا في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية. والقسم بينهم بالسوية، يدل على ذلك ما وعظ به الرعية في: *
[ 202 ]
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الراعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * ألا ترى أنه أمر فقال: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * ؟ والامانات: هي الفئ الذي استأمنهم على جمعه وقسمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها. * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) *... الآية كلها فأمر بهذا الولاة، ثم أقبل علينا نحن، فقال: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) *. وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا، ولذلك قال من قال: عني به قضاء الدين ورد حقوق الناس. كالذي: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * فإنه لم يرخص لموسر ولا معسر أن يمسكها. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * عن الحسن: أن نبي الله (ص) كان يقول: أد الامانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. فتأويل الآية إذا، إذ كان الامر على ما وصفنا: إن الله يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم الله، بأداء كل شئ من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم، لا
[ 203 ]
تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشئ منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم، ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والانصاف، وذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله، لا تعدوا ذلك فتجوروا عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين إن الله نعم الشئ يعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها في أمره إياكم، أن تؤدوا الامانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل * (ن الله كانع سميعا) * يقول: إن الله لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تجاوزوهم به، * (بصيرا) * بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شئ من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدا (ص)، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لامر الله إياكم بطاعته. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصا أميري فقد عصاني. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * فقال بعضهم: ذلك أمر من الله باتباع سنته. ذكر من قال ذلك:
[ 204 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * قال: طاعة الرسول: اتباع سنته. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * قال: طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة. وحدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله. وقال آخرون: ذلك أمر من الله بطاعة الرسول في حياته. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * إن كان حيا. والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته في اتباع سنته، وذلك أن الله عم بالامر بطاعته ولم يخصص ذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخص ذلك ما يجب التسليم له. واختلف أهل التأويل في أولي الامر الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الآية، فقال بعضهم هم الامراء. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) * قال: هم الامراء. حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) *، نزلت في رجل بعثه النبي (ص) على سرية.
[ 205 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي (ص) في السرية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمة ميمون بن مهران، عن قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامره منكم) * قال: أصحاب السرايا على عهد النبي (ص). حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: قال أبي: هم السلاطين. قال: وقال ابن زيد في قوله: * (وأولي الامر منكم) * قال أبي: قال رسول الله (ص): الطاعة الطاعة ! وفي الطاعة بلاء. وقال: ولو شاء الله لجعل الامر في الانبياء، يعني: لقد جعل إليهم والانبياء معهم، ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن زكريا ؟. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، ثنا أسباط، عن السدي: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) * قال: بعث رسول الله (ص) سرية عليها خالد ابن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا، وأتاهم ذو العيينتين، فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله، فجمعوا متاعهم. ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه، فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت ؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم ! فأقام. فلما أصبحوا أغار خالد، فلم يجد أحدا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني ! فقال خالد: وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي (ص)، فأحاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبا عند رسول الله (ص)،
[ 206 ]
فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الاجدع يسبني ؟ فقال رسول الله (ص): يا خالد لا تسب عمارا، فإنه من سب عمارا سبه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله. فغضب عمار، فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله تعالى قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) *. وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه. ذكر من قال ذلك: حدثني سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن علي بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله... قال: ثنا جابر بن نوح، عن الاعمش، عن مجاهد، في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) * قال: أولي الفقه منكم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث، عن مجاهد، في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: أولي الفقه والعلم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح: * (وأولي الامر منكم) * قال: أولي الفقه في الدين والعقل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * يعني: أهل الفقه والدين. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد: * (وأولي الامر منكم) * قال: أهل العلم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: أولي العلم والفقه.
[ 207 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء: * (وأولي الامر منكم) * قال: الفقهاء والعلماء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: * (وأولي الامر منكم) * قال: هم العلماء. قال: وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: * (وأولي الامر منكم) * قال: هم أهل الفقه والعلم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: * (وأولي الامر منكم) * قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * ؟. وقال آخرون: هم أصحاب محمد (ص). ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (* (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد. قال: وربما قال: أولي الفضل والفقه ودين الله. وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رضي الله عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا حفص بن عمر العدني، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * قال: أبو بكر وعمر. وأولي الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الامراء والولاة، لصحة الاخبار عن رسول الله (ص) بالامر بطاعة الائمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة. كالذي: حدثني علي بن مسلم الطوسي قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: ثني عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، أن النبي (ص): سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم.
[ 208 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله، عن النبي (ص)، قال: على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فمن أمر بمعصية فلا طاعة. حدثني ابن المثنى، قال: ثني خالد عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي (ص)، نحوه. فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لاحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: * (أطيعوا الله وأطعوا الرسول وأولي منكم) * بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الائمة ومن ولاه المسلمون دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية الله، ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لاحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للائمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم يها المؤمنون في شئ من أمر دينكم أنتم فيما بينكم أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه، * (فردوه إلى الله) * يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم أو انتم وأولو أمركم من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم. وأما قوله: * (والرسول فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا، فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيا وإن كان ميتا، فمن سنته: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله
[ 209 ]
واليوم الآخر. يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الاليم من العقاب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث عن مجاهد، في قوله: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * قال: فإن تنازع العلماء ردوه إلى الله والرسول. قال: يقول: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله. ثم قرأ مجاهد هذه الآية: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * قال: كتاب الله وسنة نبيه (ص). حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله: * (فردوه إلى الله والرسول) * قال: إلى الله إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنة نبيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمة ميمون بن مهران عن قوله: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * قال: الله: كتابه ورسوله: سنته. فكأنما ألقمه حجرا. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: أخبرنا جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * قال: الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله إن كان حيا، فإن قبضه الله إليه فالرد إلى السنة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * إن كان الرسول حيا، و * (إلى الله) * قال: إلى كتابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) *.
[ 210 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (ذلك) * فرد ما تنازعتم فيه من شئ إلى الله والرسول، خير لكم عند الله في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لان ذلك يدعوكم إلى الالفة، وترك التنازع والفرقة. * (وأحسن تأويلا) * يعني: وأحمد موئلا ومغبة، وأجمل عاقبة. وقد بينا فيما مضى أن التأويل: التفعيل من تأول، وأن قول القائل تأول: تفعل، من قولهم آل هذا الامر إلى كذا: أي رجع، بما أغنى عن إعادته. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وأحسن تأويلا) * قال: أحسن جزاء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * يقول: ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأحسن تأويلا) * قال: عاقبة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ذلك خير وأحسن تأويلا) * قال: وأحسن عاقبة. قال: والتأويل: التصديق. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب: * (يريدون أن يتحاكموا) * في خصومتهم * (إلى الطاغوت) * يعني: إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله. * (وقد أمروا أن يكفروا به) * يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمر
[ 211 ]
الله، واتبعوا أمر الشيطان. * (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) * يعني أن الشيطان يريد أن يصد هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدا، يعني: فيجور بهم عنها جورا شديدا. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول الله (ص) بين أظهرهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود لانه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لانه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيه هذه الآية: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) *... حتى بلغ: * (ويسلموا تسليما) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * فذكر نحوه، وزاد فيه: فأنزل الله * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * يعني المنافقين * (وما أنزل من قبلك) * يعني اليهود * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * يقول: إلى الكاهن * (وقد أمروا أن يكفروا به) * أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه أن يكفر بالكاهن. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي، لانه قد علم أن رسول الله (ص) لا يأخذ الرشوة في الحكم. فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، قال: فنزلت: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * يعني: الذي من الانصار * (وما أنزل من قبلك) * يعني: اليهودي * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * إلى الكاهن * (وقد أمروا أن يكفروا به) * يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا: * (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) *، وقرأ: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * إلى: * (ويسلموا تسليما) *. حدثنا محمد بن الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال:
[ 212 ]
زعم حضرمي أن رجلا من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، فقال اليهودي له: انطلق إلى نبي الله ! فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان، فتحاكما إليه. قال الله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) *... الآية، حتى بلغ: * (ضلالا بعيدا) * ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين: رجل من الانصار يقال له بشر، وفي رجل من اليهود في مدارأة كان بينهما في حق، فتدارءا بينهما فيه، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله (ص). فعاب الله عزوجل ذلك. وذكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي (ص) ليحكم بينهما، وقد علم أن نبي الله (ص) لن يجور عليه، فجعل الانصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعاب ذلك على الذي زعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) *... إلى قوله: * (صدودا) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوا ديته ستين وسقا من تمر. فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجل من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي (ص)، فقال النضيري: يا رسول الله إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا، ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالاسلام فأنزل الله يعيرهم بما فعلوا. فقال: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * فعيرهم، ثم ذكر قول النضيري: كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ونقتل منهم ولا يقتلون، فقال: * (أفحكم الجاهلية يبغون) *. وأخذ النضيري فقتله بصاحبه. فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم، وقالت قريظة:
[ 213 ]
نحن أكرم منكم، ودخلوا المدينة إلى أبي برزة الكاهن الاسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي برزة ينفر بيننا ! وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا، بل النبي (ص) ينفر بيننا، فتعالوا إليه ! فأبي المنافقون، وانطلقا إلى أبي برزة فسألوه، فقال: أعظموا اللقمة ! يقول: أعظموا الخطر. فقالوا: لك عشرة أو ساق، قال: لا، بل مائة وسق ديتي، فإني أخاف أن أنفر النضير تقتلني قريظة، أو أنفر قريظة فتقتلني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبي أن يحكم بينهم، فأنزل الله عزوجل: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * وهو أبو برزة، وقد أمروا أن يكفروا به، إلى قوله: * (ويسلموا تسليما) *. وقال آخرون: الطاغوت في هذا الموضع: هو كعب بن الاشرف. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) * والطاغوت: رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الاشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فذلك قوله: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) *... الآية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * قال: تنازع رجل من المنافقين ورجل من اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الاشرف ! وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي (ص) ! فقال الله تبارك وتعالى: * (ألم تر إلى الذين يزعمون) *... الآية والتي تليها فيهم أيضا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * فذكر مثله، إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) *...
[ 214 ]
إلى قوله: * (ضلالا بعيدا) * قال: كان رجلان من أصحاب النبي (ص) بينهما خصومة، أحدهم مؤمن، والآخر منافق. فدعاه المؤمن إلى النبي (ص)، ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف، فأنزل الله: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الاشرف، وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبي (ص)، فقال الله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) *... إلى قوله: * (صدودا) *. قال ابن جريج: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، قال: القرآن، وما أنزل من قبلك، قال: التوراة. قال: يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه المسلم إلى النبي (ص) ليحاكمه إليه، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت. قال ابن جريج: قال مجاهد: الطاغوت: كعب بن الاشرف. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * هو كعب بن الاشرف. وقد بينا معنى الطاغوت في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) * يعني بذلك: وإذا قيل لهم: تعالوا هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، * (وإلى الرسول) * ليحكم بيننا، *
[ 215 ]
(رأيت المنافقين يصدون عنك) * يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم صدودا. وقال ابن جريج في ذلك بما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) * قال: دعا المسلم المنافق إلى رسول الله (ص) ليحكم، قال: رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا. وأما على تأويل قول من جعل الداعي إلى النبي (ص) اليهودي والمدعو إليه المنافق على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) * فإنه على ما بينت قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك * (إذا أصابتهم مصيبة) * يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله، * (بما قدمت أيديهم) * يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، * (ثم جاءوك يحلفون بالله) * يقول: ثم جاءوك يحلفون بالله كذبا وزورا، * (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم وإن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت، لم ينيبوا ولم يتوبوا، ولكنهم يحلفون بالله كذبا وجرأة على الله ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الاحسان من بعضنا إلى بعض، والصواب فيما احتكمنا فيه إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (أولئك) * هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم، يعلم الله ما في قلوبهم - في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك،
[ 216 ]
وصدودهم عنك من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، * (فأعرض عنهم وعظهم) * يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله. * (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) * يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: لم نرسل يا محمد رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، يقول تعالى ذكره: فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليه. وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي (ص) فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودا عن رسول الله (ص). يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلت رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد (ص) من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرضا بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري وضيع فرضي. ثم أخبر جل ثناؤه أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه، يعني بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قول الله: * (إلا ليطاع بإذن الله) * واجب لهم أن يطيعه من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
[ 217 ]
وإنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضا بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضا بحكمه والمسارعة إلى طاعته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدودا، إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الاثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله، إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم الله رسوله (ص) مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله: * (فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) *. وأما قوله: * (لوجدوا الله توابا رحيما) * فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنوبهم لوجدوا الله توابا، يقول: راجعا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون، رحيما بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه. وقال مجاهد: عني بذلك: اليهودي والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الاشرف. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (ظلموا أنفسهم) *... إلى قوله: * (ويسلموا تسليما) * قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الاشرف. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (فلا) * فليس الامر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعو إليك يا محمد. واستأنف القسم جل ذكره، فقال: * (وربك) * يا محمد * (لا يؤمنون) * أي لا يصدقون بي وبك، وبما أنزل إليك، * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * يقول: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من
[ 218 ]
أمورهم، فالتبس عليهم حكمه، يقال: شجر يشجر شجورا وشجرا، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والامر مشاجرة وشجارا * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت، وإنما معناه: ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت: أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (حرجا مما قضيت) * قال: شكا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: * (حرجا مما قضيت) * يقول: شكا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) * قال: إثما * (ويسلموا تسليما) * يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعانا منهم بالطاعة، وإقرارا واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية وفيمن نزلت، لك بالنبوة تسليما واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية و فيمن نزلت، فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العوام وخصم له من الانصار، اختصما إلى النبي (ص) في بعض الامور. ذكر الرواية بذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس و الليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه، أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الانصار قد شهد بدرا مع رسول الله (ص) في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الانصاري: سرح الماء يمر ! فأبي عليه، فقال رسول الله (ص): اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ! فغضب الانصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله (ص)، ثم قال: اسق يا زبير ثم
[ 219 ]
احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك ! واستوعى رسول الله (ص) للزبير حقه قال أبو جعفر: والصواب: استوعب. وكان رسول الله (ص) قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللانصاري، فلما أحفظ رسول الله (ص) الانصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. قال: فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *... الآية. حدثني يعقوب، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الانصار في شرج من شراج الحرة، فقال رسول الله (ص): يا زبير، اشرب ثم خل سبيل الماء ! فقال الذي من الانصار: اعدل يا نبي الله وإن كان ابن عمتك ! قال: فتغير وجه رسول الله (ص) حتى عرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين، ثم خل سبيل الماء !، قال: ونزلت: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *. حدثني عبد الله بن عمير الرازي، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي (ص)، فقضى النبي (ص) للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك ؟ فأنزل الله: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) *. ذكر من قال ذلك:
[ 220 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * قال: هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الاشرف. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي بنحوه، إلا أنه قال: إلى الكاهن. قال أبو جعفر: وهذا القول - أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * أولى بالصواب، لان قوله، * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) *، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أولى. فإن ظن ظان أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الانصاري في شراج الحرة، وقول من قال في خبرهما، فنزلت: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الانصاري، إذ كانت الآية دالة على ذلك. وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيعدل به عن معنى ما قبله. - وأما قوله: * (ويسلموا) * فإنه منصوب عطفا على قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم) *. قوله: * (ثم لا يجدوا في أنفسهم) * نصب عطفا على قوله: * (حتى يحكموك فيما شجر بينهم) *. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 221 ]
(ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولو أنا كتبنا عليكم أن اقتلوا أنفسكم) *: ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه، يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله، إلا قليل منهم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم) * هم يهود - يعني: والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا ! فقال ثابت: والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ! فأنزل الله في هذا: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: لما نزلت: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) * قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا ! فبلغ ذلك النبي (ص)، فقال: إن من أمتي لرجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
[ 222 ]
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله: * (إلا قليل منهم) * فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع قليل لانه جعل بدلا من الاسماء المضمرة في قوله: * (ما فعلوه) * لان الفعل لهم. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن معناه: ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن معد يكرب: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: رفع القليل بالمعنى الذي دل عليه قوله: * (ما فعلوه إلا قليل منهم) * وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم. فقيل: ما فعلوه على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) *، ثم استثنى القليل، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ كان الفعل منفيا عنه. وهي في مصاحف أهل الشام: ما فعلوه إلا قليلا منهم. وإذا قرئ كذلك، فلا مرد به على قارئه في إعرابه، لانه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل مشغولا بما فيه كناية من قد جرى ذكره، ثم استثني منهم القليل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) *. يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك صدودا، * (فعلوا ما يوعظون به) * يعني: ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره، * (لكان خيرا لهم) * في عاجل دنياهم وآجل معادهم، * (وأشد تثبيتا) * وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. وذلك أن المنافق يعمل على شك، فعمله يذهب باطلا، وغناؤه يضمحل فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على
[ 223 ]
وناء وضعف، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشد تثبيتا لايمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله: * (وأشد تثبيتا) *: تصديقا. كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) * قال: تصديقا، لانه إذا كان مصدقا كان لنفسه أشد تثبيتا ولعزمه فيه أشد تصحيحا. وهو نظير قوله جل ثناؤه: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم) * وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا لآتيناهم من لدنآ أجرا عظيمائ ولهديناهم صراطا مستقيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم) * لايتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا * (أجرا) * يعني: جزاء وثوابا عظيما، وأشد تثبيتا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما، يعني: طريقا لا اعوجاج فيه، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم، وذلك الاسلام. ومعنى قوله: * (ولهديناهم) * ولو فقناهم للصراط المستقيم. ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام من الكرامة الدائمة لديه والمنازل الرفيعة عنده. فقال: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يعني بذلك وحسن أولئك رفيقا ئ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) *. يعنى بذلك جل ثناؤه: ومن يطع الله والرسول بالتسليم لامرهما، وإخلاص الرضا
[ 224 ]
بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه وفي الآخرة إذا دخل الجنة. * (والصديقين) * وهم جمع صديق. واختلف في معنى الصديقين، فقال بعضهم: الصديقون: تباع الانبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن الصديق فعيل على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق، كما يقال رجل سكير من السكر، إذا كان مدمنا على ذلك، وشريب وخمير. وقال آخرون: بل هو فعيل من الصدقة. وقد روي عن رسول الله (ص) بنحو تأويل من قال ذلك، وهو ما: حدثنا به سفيان بن وكيع، قال: ثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب، قال: أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة بنت المقداد، عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد عن المقداد، قال: قلت للنبي (ص): شئ سمعته منك شككت فيه ! قال: إذا شك أحدكم في الامر فليسألني عنه ! قال: قلت قولك في أزواجك: إني لارجو لهن من بعدي الصديقين ؟ قال: من تعنون الصديقين ؟ قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارا. قال: لا، ولكن الصديقين هم المصدقون. وهذا خبر لو كان إسناده صحيحا لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالصديق أن يكون معناه المصدق قوله بفعله، إذ كان الفعيل في كلام العرب إنما يأتي إذا كان مأخوذا من الفعل بمعنى المبالغة، إما في المدح وإما في الذم، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم: * (وأمه صديقة) *. وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلا من كان موصوفا بما قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين، * (والشهداء) * وهم جمع شهيد: وهو المقتول في سبيل الله، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جنب الله حتى قتل. * (والصالحين) * وهم جمع صالح: وهو كل من صلحت سريرته وعلانتيه. وأما قوله جل ثناؤه: * (وحسن أولئك رفيقا) * فإنه يعني: وحسن هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم رفقاء في الجنة. والرفيق في لفظ الواحد بمعنى الجميع، كما قال الشاعر:
[ 225 ]
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا * بأسهم أعداء وهن صديق بمعنى: وهن صدائق. وأما نصيب الرفيق فإن أهل العربية مختلفون فيه، فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، ويقول: هو كقول الرجل: كرم زيد رجلا، ويعدل به عن معنى: نعم الرجل، ويقول: إن نعم لا تقع إلى على اسم فيه ألف ولام أو على نكرة. وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير وينكر أن يكون حالا، ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول: كرم زيد من رجل، وحسن أولئك من رفقاء، وأن دخول من دلالة على أن الرفيق مفسره. قال: وقد حكي عن العرب: نعمتم رجالا، فدل على أن ذلك نظير قوله: وحسنتم رفقاء. وهذا القول أولى بالصواب للعلة التي ذكرنا لقائليه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لان قوما حزنوا على فقد رسول الله (ص) حذرا أن لا يروه في الآخرة. ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من الانصار إلى النبي (ص) وهو محزون، فقال له النبي (ص): يا فلان مالي أراك محزونا ؟ قال: يا نبي الله شئ فكرت فيه. فقال: ما هو ؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك ونجالسك، غدا ترفع مع النبيين فلا تضل إليك ! فلم يرد النبي (ص) شيئا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال: فبعث إليه النبي (ص) فبشره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال أصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قد مت رفعت فوقنا فلم نرك ! فأنزل الله: * (ومن يطع الله والرسول) *... الآية. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ومن يطع الله والرسل فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) * ذكر لنا أن رجالا
[ 226 ]
قالوا: هذا نبي الله نراه في الدنيا، فأما في الآخرة فيرفع فلا نراه ! فأنزل الله: * (ومن يطع الله والرسول) *... إلى قوله: * (رفيقا) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) *... الآية، قال: قال ناس من الانصار: يا رسول الله، إذا أدخلك الله الجنة فكنت في أعلاها ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع ؟ فأنزل الله: * (ومن يطع الله والرسول) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ومن يطع الله والرسول) *... الآية، قال: إن أصحاب النبي (ص) قالوا: قد علمنا أن النبي (ص) له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك فقال: إن الاعلين ينحدرون إلى من هم أسفل فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم، ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات، فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه. وأما قوله: * (ذلك الفضل من الله) * فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، * (الفضل من الله) * يقول ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم، لا باستجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم. فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله ؟ قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره. وقوله: * (وكفى بالله عليما) * يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم عليما بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يخفى عليه شئ من ذلك ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه حتى يجازي جميعهم، فيجزي المحسن منهم بالاحسان، والمسئ منهم بالاساءة، ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا) * صدقوا الله ورسوله، * (خذوا
[ 227 ]
حذركم) *: خذوا جنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم. * (فانفروا) * إليهم * (ثبات) * وهي جمع ثبة، والثبة: العصبة، ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوكم جماعة بعد جماعة متسلحين، ومن الثبة قول زهير: وقد أغدوا على ثبة كرام * نشاوى واجدين لما نشاء وقد تجمع الثبة على ثبين. * (أو انفروا جميعا) * يقول: أو انفروا جميعا مع نبيكم (ص) لقتالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (خذوا حذركم فانفروا ثبات) * يقول: عصبا، يعني: سرايا متفرقين، * (أو انفروا جميعا يعني كلكم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (فانفروا ثبات) * قال: فرقا قليلا قليلا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فانفروا ثبات) * قال: الثبات: الفرق. حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فانفروا ثبات) * فهي العصبة، وهي الثبة. * (أو انفروا جميعا) * مع النبي (ص). حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (فانفروا ثبات) * يعني: عصبا متفرقين. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 228 ]
(وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) *.. وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه (ص) وأصحابه ووصفهم بصفتهم، فقال: * (وإن منكم) * أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم ومن يتشبه بكم ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم. * (فإن أصابتكم مصيبة) * يقول: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم، قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسره تخلفه عنكم شماتة بكم، لانه من أهل الشك في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الاجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا ولا خائف عقابا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة) *... إلى قوله: * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * ما بين ذلك في المنافقين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * عن الجهاد والغزو في سبيل الله. * (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) * قال: هذا قول مكذب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: المنافق يبطئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، قال الله: * (فإن أصابتكم مصيبة) * قال: بقتل العدو من المسلمين، * (قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) * قال: هذا قول الشامت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فإن أصابتكم مصيبة) * قال: هزيمة.
[ 229 ]
ودخلت اللام في قوله * (لمن) * وفتحت لانها اللام التي تدخل توكيدا للخبر مع إن، كقول القائل: إن في الدار لمن يكرمك، وأما اللام الثانية التي في: * (ليبطئن) * فدخلت لجواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله ليبطئن. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) *.. يقول جل ثناؤه: * (ولئن أصابكم فضل من الله) *: ولئن أظفركم الله بعدوكم، فأصبتم منهم غنيمة، * (ليقولن) * هذا المبطئ المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله المنافق * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز) * بما أصيب معهم من الغنيمة * (فوزا عظيما) *. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة، وإن تخلفوا عنها فللشك الذي في قوبلهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا. وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين: يا ليتني كنت معهم، حسدا منهم لهم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * قال: قول حاسد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (ولئن أصابكم فضل من الله) * قال: ظهور المسلمين على عدوهم، فأصابوا الغنيمة * (ليقولن) * * (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) * قال: قول الحاسد. القول في تأويل قوله تعالى: * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.. وهذا حض من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين
[ 230 ]
كانوا أو مغلوبين، والتهاون بأحوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين، وقع جهادهم إياهم مغلوبين كانوا أو غالبين، منزلة من الله رفيعة. يقول الله لهم جل ثناؤه: * (فليقاتل في سبيل الله) * يعني: في دين الله والدعاء إليه والدخول فيما أمر به أهل الكفر به، * (الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) * يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعهم إياها بها، إنفاقهم أموالهم في طلب رضا الله، كجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، وبذلهم مهجهم له في ذلك. أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه، فقال: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * يقول: ومن يقاتل في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله أعداء الله، فيقتل، يقول: فيقتله أعداء الله أو يغلبهم، فيظفر بهم، * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابا وأجرا عظيما. وليس لما سمي جل ثناؤه عظيما مقدار يعرف مبلغه عباد الله. وقد دللنا على أن الاغلب على معنى شريت في كلام العرب بعت بما أغنى. وقد: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) * يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) * فيشري: يبيع، ويشري: يأخذ، وإن الحمقى باعوا الدنيا بالآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله، وفي المستضعفين، يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان. فأما من الرجال فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم، ليفتنوهم عن دينهم. فحض الله المؤمنين على
[ 231 ]
استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدهم عن دينهم من الرجال والنساء ؟ والولدان جمع ولد: وهم الصبيان. * (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون في دعائهم ربهم بأن ينجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها - والعرب تسمي كل مدينة قرية يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسها وأهلها. وهي في هذا الموضع فيما فسر أهل التأويل مكة وخفض الظالم، لانه من صفة الاهل، وقد عادت الهاء والالف اللتان فيه على القرية، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها أتبعت إعرابها إعراب الاسم الذي قبلها كأنها صفة له، فتقول: مررت بالرجل الكريم أبوه. * (واجعل لنا من لدنك وليا) * يعني أنهم يقولون أيضا في دعائهم: يا ربنا واجعل لنا من عندك وليا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك. * (واجعل لنا من لدنك نصيرا) * يقولون: واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، بصدهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم ونعلي دينك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين كانوا بمكة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * الصبيان * (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * مكة، أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين، وأما القرية: فمكة.
[ 232 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) * قال: وفي المستضعفين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة، في قوله: * (أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * قالا: خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأي بصدره إلى القرية الصالحة، فاحتجت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يقدروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر. وقال بعضهم: قرب الله إليه القرية الصالحة، فتوفته ملائكة الرحمة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * هم أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، وفيهم نزل قوله: * (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * فهي مكة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) * قال: وما لكم لا تفعلون، تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله بأن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة ؟ فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم لله هؤلاء ودينهم ؟ قال: والقرية الظالم أهلها: مكة. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 233 ]
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *.. يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله وأيقنوا بموعود الله لاهل الايمان به، * (يقاتلون في سبيل الله) * يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده. * (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) * يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم، * (يقاتلون في سبيل الطاغوت) * يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لاوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله مقويا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله (ص)، ومحرضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به. * (فقاتلوا) * أيها المؤمنون * (أولياء الشيطان) * يعني بذلك: الذين يتولونه ويطيعون أمره في خلاف طاعة الله والتكذيب به، وينصرونه. * (وإن كيد الشيطان كان ضعيفا) * يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الايمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وهن وضعف. وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لانهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حمية أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف. القول في تأويل قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *.. ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله (ص) كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن
[ 234 ]
يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك وقالوا ما أخبر عنهم في كتابه. فتأويل قوله: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) *: ألم تر بقلبك يا محمد فتعلم إلى الذين قيل لهم من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال: كفوا أيديكم، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم. * (وأقيموا الصلاة) * يقول: وأدوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها. * (وآتوا الزكاة) * يقول: وأعطوا الزكاة أهلها، الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرا لابدانكم وأموالكم، كرهوا ما أمروا به من كف الايدي عن قتال المشركين، وشق ذلك عليهم. * (فلما كتب عليهم القتال) * يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم، * (إذا فريق منهم) * يعني: جماعة منهم * (يخشون الناس) * يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم، * (كخشية الله أو أشد خشية) * أو أشد خوفا. * (وقالوا) * جزعا من القتال الذي فرض الله عليهم: * (لم كتبت علينا القتال) *: لم فرضت علينا القتال، ركونا منهم إلى الدنيا، وإيثارا للدعة فيها والحفظ، عن مكروه لقاء العدو، ومشقة حربهم وقتالهم. * (لولا أخرتنا) * يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا * (إلى أجل قريب) * يعني: إلى أن يموتوا على فرشهم وفي منازلهم. وبنحو الذي قلنا إن هذه الآية نزلت فيه قال أهل التأويل. ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي (ص)، فقالوا: يا رسول الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة ! فقال: إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) *... الآية.
[ 235 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * عن الناس، * (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم) * نزلت في أناس من أصحاب رسول الله (ص). قال ابن جريج: وقوله: * (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * قال: إلى أن نموت موتا هو الاجل القريب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) * فقرأ حتى بلغ: * (إلى أجل قريب) * قال: كان أناس من أصحاب رسول الله (ص)، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله (ص): ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة ! فنهاهم نبي الله (ص) عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * قال: هم قوم أسلموا قبل أن يفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، * (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) *... الآية، إلى: * (ألى أجل قريب) * وهو الموت، قال الله: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) *. وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها في اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) *... إلى قوله: * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * ما بين ذلك في اليهود. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم) *... إلى قوله: * (لم كتبت علينا القتال) *: نهى الله تبارك وتعالى هذه الامة أن يصنعوا صنيعهم.
[ 236 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (قل متاع الدنيا قليل) *: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا * (ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لانها فانية، وما فيها فان، * (والآخرة خير) * يعني: ونعيم الآخرة خير، لانها باقية، ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: والآخرة خير ومعنى الكلام ما وصفت من أنه معنى به نعيمها، لدلالة ذكر الآخرة بالذي ذكرت به على المعنى المراد منه * (لمن اتقى) * يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك. * (ولا تظلمون فتيلا) * يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا، وقد بينا معنى الفتيل فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا، * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * يقول: لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوكم حذرا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت بإزائكم أين كنتم، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * فقال بعضهم: يعنى به: قصور محصنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * يقول: في قصور محصنة. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد، قال: كان فيمن قبلكم امرأة، وكان لها أجير،
[ 237 ]
فولدت جارية فقالت لاجيرها: اقتبس لنا نارا ! فخرج فوجد بالباب رجلا، فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة ؟ قال: جارية، قال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة، ويتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الاجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة. فأخذ شفرة فدخل، فشق بطن الصبية. وعولجت فبرئت، فشبت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: أبغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها ! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتني بها ! فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي كذا، فقلت له كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوجته. قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعا، فبينا هو يوما عندها، إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية - وأرته الشق في بطنها وقد كنت أبغي، فما أدري بمائة أو أقل أو أكثر، قال: فإنه قال لي: يكون موتها بالعنكبوت. قال: فبنى لها برجا بالصحراء وشيده. فبينما هما يوما في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف فقالت: هذا يقتلني ؟ لا يقتله أحد غيري ! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته، وساح سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت، فنزلت هذه الآية: * (إينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * قال: قصور مشيدة. وقال آخرون: معنى ذلك: قصور بأعيانها في السماء. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) * وهي قصور بيض في سماء الدنيا مبنية. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله: * (إينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) * يقول: ولو كنتم في قصور في السماء.
[ 238 ]
واختلف أهل العربية في معنى المشيدة، فقال بعض أهل البصرة منهم: المشيدة: الطويلة. قال: وأما المشيد بالتخفيف، فإنه المزين. وقال آخرون منهم نحو ذلك القول، غير أنه قال: المشيد بالتخفيف: المعمول بالشيد، والشيد: الجص. وقال بعض أهل الكوفة: المشيد والمشيد أصلهما واحد، غير أن ما شدد منه فإنما يشدد لتردد الفعل فيه في جمع مثل قولهم: هذه ثياب مصبغة، وغنم مذبحة، فشدد لانها جمع يفرق فيها الفعل، وكذلك مثله قصور مشيدة، لان القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل: بروج مشيدة، ومنه قوله: * (وغلقت الابواب) * وكما يقال: كسرت العود: إذا جعلته قطعا، أي قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه: هذا ثوب مخرق وجلد مقطع، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد لم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم: رأيت كبشا مذبوحا، ولا يجيزون فيه مذبحا، لان الذبح لا يتردد فيه تردد التخرق في الثوب. وقالوا: فلهذا قيل: قصر مشيد، لانه واحد، فجعل بمنزلة قولهم: كبش مذبوح. وقالوا: جائز في القصر أن يقال قصر مشيد بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في كبش مذبوح لما ذكرنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) *: وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة يقولوا هذه من عند الله، يعني: من قبل الله ومن تقديره، وإن تصبهم سيئة، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، يقولوا لك يا محمد: هذه من عندك بخطئك التدبير. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) *. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي
[ 239 ]
جعفر قالا: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * قال: هذه في السراء والضراء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * فقرأ حتى بلغ: * (وأرسلناك للناس رسولا) * قال: إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) * فقرأ حتى بلغ: * (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه) * من عند محمد عليه الصلاة والسلام، أساء التدبير وأساء النظر، ما أحسن التدبير ولا النظر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل كل من عند الله) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (قل كل من عند الله) * قل يا محمد لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة هذه من عند الله، وإذا أصابتهم سيئة هذه من عندك: كل ذلك من عند الله دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده القتل والهزيمة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: * (قل كل من عند الله) * النعم والمصائب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: * (قل كل من عند الله) * النصر والهزيمة. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *.
[ 240 ]
يعني جل ثناؤه بقوله: * (فمال هؤلاء القوم) * فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، * (لا يكادون يفقهون حديثا) * يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به من أن كل ما أصابهم من خير أو شر أو ضر وشدة أو رخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. وهذا إعلام من الله عباده أن مفاتح الاشياء كلها بيده، لا يملك شيئا منها أحد غيره. [ / شا [ القول في تأويل قوله تعالى: * (مآ أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) *: ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليك. وأما قوله: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، يعني: بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * أما من نفسك، فيقول: من ذنبك. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفوا الله أكثر. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * يقول: الحسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح، والسيئة: ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه وكسرت رباعيته.
[ 241 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * يقول: بذنبك. ثم قال: * (كل من عند الله) * النعم والمصيبات. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، قالا: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * قال: هذه في الحسنات والسيئات. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * قال: عقوبة بذنبك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * بذنبك، كما قال لاهل أحد: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) * بذنوبكم. حدثني يونس، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: * (ما أصابك من سيئة فمن نفسك) * قال: بذنبك، وأنا قدرتها عليك. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: * (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * وأنا الذي قدرتها عليك. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح، بمثله. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول من في قوله: * (ما أصابك من حسنة) * و * (من سيئة) * ؟ قيل: اختلف في ذلك أهل العربية، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت من، لان من تحسن مع النفي، مثل: ما جاءني من أحد. قال: ودخول الخبر
[ 242 ]
بالفاء لازما بمنزلة من. وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت من مع ما، كما تدخل على إن في الجزاء لانهما حرفا جزاء، وكذلك تدخل مع من إذا كانت جزاء، فتقول العرب: من يزرك من أحد فتكرمه، كما تقول: إن يزرك من أحد فتكرمه. قال: وأدخلوها مع ما ومن، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لانها إذا حذفت صار الفعل رافعا شيئين، وذلك أن ما في قوله: * (ما أصابك من حسنة) * رفع بقوله: * (أصابك) * فلو حذفت من رفع قوله: * (أصابك) * السيئة، لان معناه: إن تصبك سيئة، فلم يجز حذف من لذلك، لان الفعل الذي هو على فعل أو يفعل لا يرفع شيئين، وجاز ذلك مع من، لانها تشتبه بالصفات، وهي في موضع اسم، فأما إن، فإن من تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع أي لانها تعرب فيبين فيها الاعراب، ودخلت مع ما لان الاعراب لا يظهر فيها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وأرسلناك للناس رسولا) *: إنما جعلناك يا محمد رسولا بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلانفسهم، وإن ردوا فعليها. * (وكفى بالله) * عليك وعليهم * (شهيدا) * يقول: حسبك الله تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته. القول في تأويل قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) *.. وهذا إعذار من الله إلى خلقه في نبيه محمد (ص)، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم أيها الناس محمدا، فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله، وأطيعوا أمره، فإنه مهما يأمركم به من شئ فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شئ فمن نهيي، فلا يقولن أحدكم: إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضل علينا ! ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك يا محمد، فأعرض عنه، فإنا لم نرسلك عليهم حفيظا، يعني حافظا لما يعملون محاسبا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم، وكفى بنا حافظين لاعمالهم ولهم عليها محاسبين. ونزلت هذه الآية فيما ذكر قبل أن يؤمر بالجهاد. كما:
[ 243 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: * (فما أرسلناك عليهم حفيظا) * قال: هذا أول ما بعثه، قال: * (إن عليك إلا البلاغ) *، قال: ثم جاء بعد هذا يأمره بجهادهم والغلظة حتى يسلموا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: * (ويقولون طاعة) * يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال، خشوا الناس كخشية الله وأشد خشية، يقولون لنبي الله (ص) إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ! * (فإذا برزوا من عندك) * يقول: فإذا خرجوا من عندك يا محمد * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * يعني بذلك جل ثناؤه: غير جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم. وكل عمل عمل ليلا فقد بيت، ومن ذلك بيت العدو وهو الوقوع بهم ليلا، ومنه قول عبيدة ابن همام: أتوني فلم أرض ما بيتوا * وكانوا أتوني بشئ نكر لانكح أيمهم منذرا * وهل ينكح العبد حر لحر يعني بقوله: فلم أرض ما بيتوا ليلا: أي ما أبرموه ليلا وعزموا عليه. ومنه قول النمر بن تولب العكلي: هبت لتعذلني بليل اسمع ! * سفها تبيتك الملامة فاهجعي !
[ 244 ]
يقول الله جل ثناؤه: * (والله يكتب ما يبيتون) * يعني بذلك جل ثناؤه: والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلا في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * قال: يغيرون ما عهد نبي الله (ص). حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا يوسف بن خالد، قال: ثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * قال: غير أولئك ما قال النبي (ص). حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * قال: غير أولئك ما قال النبي (ص). حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون) * قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي (ص) فأمرهم بأمر قالوا: طاعة، فإذا خرجوا من عنده غيرت طائفة منهم ما يقول النبي (ص). * (والله يكتب ما يبيتون) * يقول: ما يقولون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قوله: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * قال: يغيرون ما قال رسول الله (ص). حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله (ص) آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فإذا برزوا من عند رسول الله (ص) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله، فقال: * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * يقول: يغيرون ما قال النبي (ص). حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا
[ 245 ]
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) *: هم أهل النفاق. وأما رفع طاعة فإنه بالمتروك الذي دل عليه الظاهر من القول، وهو: أمرك طاعة، أو منا طاعة. وأما قوله: * (بيت طائفة) * فإن التاء من بيت تحركها بالفتح عامة قراء المدينة والعراق وسائر القراء، لانها لام فعل. وكان بعض قراء العراق يسكنها ثم يدغمها في الطاء لمقاربتها في المخرج. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، ترك الادغام، لانها - أعني التاء والطاء من حرفين مختلفين، وإذا كان كذلك كان ترك الادغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الاخرى جائزة - أعني الادغام في ذلك محكية. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) *. يقول جل ثناؤه لمحمد (ص): فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم: أمرك طاعة، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقما منهم، وتوكل أنت يا محمد على الله. يقول: أي وحسبك بالله وكيلا: أي فيما يأمرك، ووليا لها، ودافعا عنك وناصرا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (أفلا يتدبرون القرآن) * أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *: أي قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.
[ 246 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذب بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا، ما جهل الناس من أمره فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم. وقرأ: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * قال: فحق على المؤمن أن يقول: كل من عند الله، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض، وإذا جهل أمرا ولم يعرف أن يقول: الذي قال الله حق، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولا وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقية ما جاء من الله. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قوله: * (أفلا يتدبرون القرآن) * قال: يتدبرون النظر فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله (ص) أمر من الامن. فالهاء والميم في قوله: * (وإذا جاءهم) * من ذكر الطائفة المبيتة. يقول جل ثناؤه: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم * (أو الخوف) * يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم * (أذاعوا به) * يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله (ص) وقبل أمراء سرايا رسول الله (ص). والهاء في قوله: * (أذاعوا به) * من ذكر الامر وتأويله: أذاعوا بالامر من الامن أو الخوف الذي جاءهم، يقال: منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه، ومنه قول أبي الاسود: أذاع به في الناس حتى كأنه * بعلياء نار أو قدت بثقوب
[ 247 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * يقول: سارعوا به وأفشوه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوهم أمرهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * يقول: أفشوه وشنعوا به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * قال: هذا في الاخبار إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا. فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي (ص) هو الذي يخبرهم به. قال ابن جريج: قال ابن عباس: قوله * (أذاعوا به) * قال: أعلنوه وأفشوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أذاعوا به) * قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به قوم، إما منافقون، وإما آخرون ضعفاء. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أفشوه وشنعوا به، وهم أهل النفاق. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *. يعني جل ثناؤه بقوله: ولو ردوه: الامر الذي نالهم من عدوهم والمسلمين إلى رسول الله (ص)، وإلى أولي أمرهم، يعني: وإلى أمرائهم، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم
[ 248 ]
من الخبر، حتى يكون رسول الله (ص) أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بطوله، فيصححوه إن كان صحيحا، أو يبطلوه إن كان باطلا. * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه، ويستخرجونه منهم، يعني: أولي الامر. والهاء والميم في قوله: * (منهم) * من ذكر أولي الامر. يقول: لعلم ذلك من أولي الامر من يستنبطه. وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له مستنبط، يقال: استنبطت الركية: إذا استخرجت ماءها، ونبطتها أنبطها، والنبط: الماء المستنبط من الارض، ومنه قول الشاعر: قريب ثراه ما ينال عدوه * له نبطا آبي الهوان قطوب يعني بالنبط: الماء المستنبط. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم) * يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي (ص) وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به، * (لعلمه الذين يستنبطونه) * يعني عن الاخبار، وهم الذين ينقرون عن الاخبار. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم) * يقول: إلى علمائهم، * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * لعلمه الذين يفحصون عنه، ويهمهم ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ولو
[ 249 ]
ردوه إلى الرسول) * حتى يكون هو الذي يخبرهم، * (وإلى أولي الامر منهم) *: أولي الفقه في الدين والعقل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *: يتتبعونه ويتحسسونه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث، عن مجاهد: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: * (يستنبطونه) * قال: قولهم: ما كان ؟ ماذا سمعتم ؟ حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: * (الذين يستنبطونه) * قال: يتحسسونه. حدثني محمد بن سيعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (يستنبطونه منهم) * قال: يتتبعونه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) *... حتى بلغ: * (وإلى أولي الامر منهم) * قال: الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه ؟ قال: وهذا في الحرب، وقرأ: * (أذاعوا به ولو) * فعلوا غير هذا و * (ردوه) * إلى الله و * (إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) *.
[ 250 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به، الذين يقولون لرسول الله (ص) إذا أمرهم بأمر: طاعة، فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي تقول، لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا، كما اتبعه الذين وصف صفتهم. وخاطب بقوله تعالى ذكره: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) * الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) *. ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الآية، من هم، ومن أي شئ من الصفات استثناهم ؟ فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الامر، استثناهم من قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الامن أو الخوف. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم، إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما قوله: * (إلا قليلا) * فهو كقوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * إلا قليلا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد، عن قتادة: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * قال: يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم، وأما * (إلا قليلا) * فهو كقوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم... إلا قليلا) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج نحوه، يعني نحو قول قتادة، وقال: لعلموه إلا قليلا. وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله (ص) طاعة،
[ 251 ]
فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به، إلا قليلا منهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) * فانقطع الكلام، وقوله: * (إلا قليلا) * فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: * (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) * إلا قليلا، يعني بالقليل المؤمنين، يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما، ولم يجعل له عوجا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله: * (لاتبعتم الشيطان) * وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا هموا بما كان الآخرون هموا به من اتباع الشيطان، فعرف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * قال: هم أصحاب النبي (ص)، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا. قالوا: وقوله: * (إلا قليلا) * خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والاحاطة، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة، فجعل قوله: * (إلا قليلا) * دليلا على الاحاطة. واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب: أشم كثير يدي النوال * قليل المثالب والقادحه
[ 252 ]
قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه: أنه لا مثالب فيه ولا معايب، لان من وصف رجلا بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة، فإنما ذمه ولم يمدحه، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله: * (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) * إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان. وأولى هذه الاقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: عنى باستثناء القليل من الاذاعة، وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، ولو ردوه إلى الرسول. وإنما قلنا: إن ذلك أولى بالصواب لانه لا يخلو القول في ذلك من أحد الاقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قول: * (لاتبعتم الشيطان) * لان من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الاغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الاغلب من كلام العرب سبيل فنوجهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون: معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعا، ثم زعم أن قوله: * (إلا قليلا) * دليل على الاحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * لان علم ذلك إذا رد إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم، فبينه رسول الله (ص) وأولو الامر منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه. وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخل هذه الاقوال الثلاثة ما بينا من الخلل، فبين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الاذاعة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) *..
[ 253 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) *: فجاهد يا محمد أعداء الله من أهل الشرك به في سبيل الله، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الاسلام، وقاتلهم فيه بنفسك. فأما قوله: * (لا تكلف إلا نفسك) * فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حملك من ذلك دون ما حمل غيرك منه: أي إنك إنما تتبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كلفته دون ما كلفه غيرك. ثم قال له: * (وحرض المؤمنين) * يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك. * (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) * يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته، وأنكر رسالتك عنك وعنهم ونكايتهم. وقد بينا فيما مضى أن عسى من الله واجبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * (والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) * يقول: والله أشد نكاية في عدوه من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكلن عن قتالهم، فإني راصدهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لاوهن كيدهم وأضعف بأسهم وأعلي الحق عليهم. والتنكيل مصدر من قول القائل: نكلت بفلان، فأنا أنكل به تنكيلا: أذا أوجعته عقوبة. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وأشد تنكيلا) *: أي عقوبة. القول في تأويل قوله تعالى: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) * من يصر يا محمد شفعا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو الشفاعة الحسنة * (يكن له نصيب منها) * يقوله: يكن له من شفاعته تلك نصيب، وهو الحظ من ثواب الله، وجزيل كرامته. * (ومن يشفع شفاعة سيئة) * يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو الشفاعة السيئة * (يكن له كفل منها) * يعني: بالكفل النصيب والحظ من الوزر والاثم. وهو مأخوذ من كفل البعير والمركب،
[ 254 ]
وهو الكساء أو الشئ يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة، يقال منه: جاء فلان مكتفلا: إذا جاء على مركب قد وطئ له على ما بينا لركوبه. وقد قيل: إنه عنى بقوله: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) *... الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر. وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لانه في سياق الآية التي أمر الله نبيه (ص) فيها بحض المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله (ص)، والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل ولا لها ذكر بعد. ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة) * قال: شفاعة بعض الناس لبعض. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، قال: من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها، وإن لم يشفع ولان الله يقول: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) * ولم يقل: يشفع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: من يشفع شفاعة حسنة كتب له أجرها ما جرت منفعتها. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سئل ابن زيد، عن قول الله: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) * قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها هي بينك وبينه هما فيها شريكان. * (من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) * قال: هما شريكان فيها كما كان أهلها شريكين. ذكر من قال ذلك: الكفل النصيب: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) *: أي حظ منها. * (من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) * والكفل: هو الاثم.
[ 255 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (يكن له كفل منها) * أما الكفل: فالحظ. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (يكن له كفل منها) * قال: حظ منها، فبئس الحظ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكفل والنصيب واحد. وقرأ: * (يؤتكم كفلين من رحمته) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * فقال بعضهم: تأويله: وكان الله على كل شئ حفيظا وشهيدا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * يقول: حفيظا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (مقيتا) * شهيدا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (مقيتا) * قال: شهيدا، حسيبا، حفيظا. حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: ثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: ثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * قال: المقيت: الحسيب. وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شئ بالتدبير. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * قال: المقيت: الواصب.
[ 256 ]
وقال آخرون: هو القدير. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * أما المقيت: فالقدير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وكان الله على كل شئ مقيتا) * قال: على كل شئ قديرا. المقيت: القدير. قال أبو جعفر: والصواب من هذه الاقوال، قول من قال: معنى المقيت: القدير، وذلك أن ذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله (ص): وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على مساءته مقيتا أي قديرا. وقد قيل: إن منه قول النبي (ص): كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت في رواية من رواها: يقيت: يعني من هو تحت يديه في سلطانه من أهله وعياله، فيقدر له قوته. يقال منه: أقات فلان الشئ يقتيه إقاتة، وقاته يقوته قياتة وقوتا، والقوت الاسم. وأما المقيت في بيت اليهودي الذي يقول فيه: ليت شعري وأشعرن إذا ما * قربوها منشورة ودعيت
[ 257 ]
ألي الفضل أم علي إذا حو * سبت إني على الحساب مقيت فإن معناه: فإني على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإذا حييتم بتحية) *: إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. * (فحيوا بأحسن منها أوردوها) * يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم، * (أوردوها) * يقول: أوردوا التحية. ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيى، والتي هي مثلها، فقال بعضهم: التي هي أحسن منها أن يقول المسلم عليه إذا قيل: السلام عليكم: وعليكم السلام ورحمة الله، ويزيد على دعاء الداعي له، والرد أن يقول: السلام عليكم مثلها، كما قيل له، أو يقول: وعليكم السلام، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * يقول: إذا سلم عليك أحد، فقل أنت: وعليك السلام ورحمة الله، أو تقطع إلى السلام عليك، كما قال لك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * قال: في أهل الاسلام. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء، قال: في أهل الاسلام.
[ 258 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح، أنه كان يرد: السلام عليكم، كما يسلم عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم، أنه كان يرد: السلام عليكم ورحمة الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر أنه كان يرد: وعليكم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهل الاسلام، أو ردوها على أهل الكفر. ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: من سلم عليك من خلق الله، فاردد عليه وإن كان مجوسيا، فإن الله يقول: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) *. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) * للمسلمين، * (أو ردوها) * على أهل الكتاب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) * للمسلمين، * (أو ردوها) * على أهل الكتاب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) * يقول: حيوا أحسن منها: أي على المسلمين * (أو ردوها) * أي على أهل الكتاب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيي بتحية أن يحيي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الاسلام أن يرد عليه مثل ما قال. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال ذلك في أهل الاسلام،
[ 259 ]
ووجه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصحاح من الآثار عن رسول الله (ص) أنه واجب على كل مسلم رد تحية كل كافر أحسن من تحيته، وقد أمر الله برد الاحسن، والمثل في هذه الآية من غير تمييز منه بين المستوجب رد الاحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال: عنى برد الاحسن المسلم، وبرد المثل: أهل الكفر. والصواب إذ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول (ص)، أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلم عليه بين رد الاحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خص شيئا من ذلك سنة من رسول الله (ص)، فيكون مسلما لها. وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الاحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال: وعليكم، فلا ينبغي لاحد أن يتعدى ما حد في ذلك رسول الله (ص). فأما أهل الاسلام، فإن لمن سلم عليه منهم في الرد من الخيار ما جعل الله له من ذلك. وقد روي عن رسول الله (ص) في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر، وذلك ما: حدثني موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا عبد الله بن السري الانطاكي، قال: ثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الاحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: جاء رجل إلى النبي (ص)، فقال: السلام عليك يا رسول الله ! فقال: وعليك ورحمة الله !. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ! فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته !. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ! فقال له: وعليك ! فقال له الرجل: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي ؟ فقال: أنك لم تدع لنا شيئا، قال الله * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * فرددناها عليك. فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر الله به في كتابه ؟ قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج،
[ 260 ]
قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه قوله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: السلام: تطوع، والرد فريضة. القول في تأويل قوله تعالى: * (أن الله كان على كل شئ حسيبا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شئ مما تعملون أيها الناس من الاعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: حسيبا، قال: حفيظا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فعيل من الحساب الذي هو في معنى الاحصاء، يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحب حسابه. وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة أن معنى الحسيب في هذا الموضع: الكافي، يقال منه: أحسبني الشئ يحسبني أحسابا، بمعنى: كفاني، من قولهم: حسبي كذا وكذا. وهذا غلط من القول وخطأ، وذلك أنه لا يقال في أحسبت الشئ: أحسبت على الشئ فهو حسيب عليه، وإنما يقال: هو حسبه وحسيبه، والله يقول: * (إن الله كان على كل شئ حسيبا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) * المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له هو، الذي له عبادة كل شئ وطاعة كل طائع. وقوله: * (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * يقول: ليبعثنكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يجازي
[ 261 ]
الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته وأهل الايمان به والكفر. * (لا ريب فيه) * يقول: لا شك في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم. * (ومن أصدق من الله حديثا) * يعني بذلك: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينا، فلا تشكوا في صحته، ولا تمتروا في حقيته، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خلف له. * (ومن أصدق من الله حديثا) * يقول: وأي ناطق أصدق من الله حديثا ؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعا أو يدفع به عنها ضرا، والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لانه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضر عنها سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرا، ومن أصدق من الله حديثا وخبرا. القول في تأويل قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (فما لكم في المنافقين فئتين) *: فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين، * (والله أركسهم بما كسبوا) * يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم. والاركاس: الرد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فأركسوا في حميم النار إنهم * كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا يقال منه: أركسهم وركسهم. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: والله ركسهم بغير ألف. واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله (ص) في الذين تخلفوا عن رسول الله (ص) يوم أحد، وانصرفوا
[ 262 ]
إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولاصحابه: * (لو نعلم قتالا لاتبعناكم) *. ذكر من قال ذلك: حدثني الفضل بن زياد الواسطي، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد الانصاري يحدث عن زيد بن ثابت: أن النبي (ص) لما خرج إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبي (ص) فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا. فنزلت هذه الآية: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا) *... الآية، فقال رسول الله (ص) في المدينة: أنها طيبة وإنها تنفي خبثه اكما تنفي النار خبث الفضة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت، قال: خرج رسول الله (ص) فذكر نحوه. حدثني زريق بن السخت، قال: ثنا شبابة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت، قال: ذكروا المنافقين عند النبي (ص)، فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى: * (فما لكم في المنافقين وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب فئتين) *... إلى آخر ا لآية رسول الله (ص) في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فما لكم في المنافقين فئتين) * قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي (ص) إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون. فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم. فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم هلال بن عويمر الاسلمي، وبينه وبين النبي (ص) حلف، وهو الذي حصر صدره أن
[ 263 ]
يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالا، وبينه وبين النبي (ص) عهد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله بنحوه، غير أنه قال: فبين الله نفاقهم، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الاسلمي، وبينه وبين رسول الله (ص) حلف. وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الاسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (فما لكم في المنافقين فئتين) * وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالاسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم ! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله - أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك ! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شئ، فنزلت: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله) *... الآية. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فما لكم في المنافقين فئتين) *... الآية، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالاسلام، ولم يهاجرا إلى النبي (ص). فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال، وقال بعضهم: لا تحل لكم. فتشاجروا فيهما، فأنزل الله في ذلك: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) * حتى بلغ: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي (ص) أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا. فلقوهم،
[ 264 ]
فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال، وقالت طائفة: دماؤهم حرام، فأنزل الله: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) *. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (فما لكم في المنافقين فئتين) * هم ناس تخلفوا عن نبي الله (ص)، وأقاموا بمكة، وأعلنوا الايمان، ولم يهاجروا. فاختلف فيهم أصحاب رسول الله (ص)، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله (ص)، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله (ص) ولم يهاجروا. فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا. وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) * قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي (ص)، فقالت طائفة: أعداء الله المنافقون، وددنا أن رسول الله (ص) أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة: لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها. فخرجوا إلى الظهر يتنزهون، فإذا برءوا رجعوا. فقال الله: * (فما لكم في المنافقين فئتين) * يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين * (والله أركسهم بما كسبوا) *. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله (ص) في أمر أهل الافك. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) * حتى بلغ: * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى
[ 265 ]
يهاجروا في سبيل الله) * قال: هذا في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم. فقال سعد بن معاذ: فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه ! يريد عبد الله بن أبي ابن سلول. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله (ص) في قوم كانوا ارتدوا عن الاسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين: التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم، والآخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة، وفي قول الله تعالى ذكره: * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا) * أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لان الهجرة كانت على عهد رسول الله (ص) إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة، لانه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه. واختلف أهل العربية في نصب قوله: * (فئتين) * فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول: ما لك قائما، يعني ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين، وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل ما لك، قال: ولا يبالى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة. قال: ويجوز في الكلام أن يقول: ما لك السائر معنا، لانه كالفعل الذي ينصب بكان وأظن وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت فيه فعل ويفعل من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما ينصب كان وأظن لانهن نواقص في المعنى وإن ظننت أنهن تامات. وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لان المطلوب في قول القائل: ما لك قائما القيام، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظن وصواحباتها. القول في تأويل قوله عز وجل: * (والله أركسهم بما كسبوا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (والله أركسهم) * فقال بعضهم: معناه: ردهم، كما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: * (والله أركسهم بما كسبوا) * ردهم.
[ 266 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوقعهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (والله أركسهم بما كسبوا) * يقول: أوقعهم. وقال آخرون: معنى ذلك: أضلهم وأهلكهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: * (والله أركسهم) * قال: أهلكهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: * (والله أركسهم بما كسبوا) *: أهلكهم بما عملوا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والله أركسهم بما كسبوا) *: أهلكهم. وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) * أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الاسلام، فتوفقوا للاقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه، يعني بذلك: من خذله الله عنه فلم يوفقه للاقرار به. وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، يقول لهم جل ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحق واتباع الاسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين ؟ * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * يقول: ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الاقرار به وبنبيه محمد (ص) وما جاء به من عنده، فأضله عنه، فلن تجد له يا محمد سبيلا، يقول: فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله (عنه)، ولا منهجا يصل منه إلى الامر الذي قد حرمه الوصول إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في
[ 267 ]
سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا) *: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم وتصديق نبيكم محمد (ص)، * (كما كفروا) * يقوله: كما جحدوا هم ذلك. * (فتكونون سواء) * يقول: فتكونون كفارا مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. * (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) * يقول: حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون إلى دار الاسلام وأهلها * (في سبيل الله) * يعني في ابتغاء دين الله، وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا) * يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم، يعني: الهجرة في سبيل الله. القول في تأويل قوله: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الاقرار بالله ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الاسلام، ومن الكفر إلى الاسلام، فخذوهم أيها المؤمنون، واقتلوهم حيث وجدتموهم من بلادهم وغير بلادهم، أين أصبتموهم من أرض الله. * (ولا تتخذوا منهم وليا) * يقوله: ولا تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم، ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم، فإنهم كفار لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم. وهذا الخبر من الله جل ثناؤه إبانة عن صحة نفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم، وتحذير لمن دافع عنهم عن المدافعة عنهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) *:
[ 268 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) * يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *: فإن تولى هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الايمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة، فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم وصاروا منهم ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم، أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة. حدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الامان مثل ما لهؤلاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * قال: نزلت في هلال بن عويمر الاسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. وقد زعم بعض أهل العربية، أن معنى قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم) *: إلا الذين يتصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم: اتصل الرجل، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الاعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:
[ 269 ]
إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل * وبكر سبتها والانوف رواغم يعني بقوله: اتصلت: انتسبت. ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لان الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم إذا لم يكن لهم من العهد والامان ما لهم، لما كان رسول الله (ص) ليقاتل قريشا، وهم أنسباء السابقين الاولين. ولاهل الايمان من الحق بإيمانهم أكثر مما لاهل العهد بعهدهم، وفي قتال رسول الله (ص) مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الايمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم، الدليل الواضح أن انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه. فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبي (ص) من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش إنما كان بعد ما نسخ قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) * فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلو كم أو يقاتلوا قومهم) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) * فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم. ويعني بقوله: * (حصرت صدورهم) * ضاقت صدورهم عن أن يقاتلو كم أو أن يقاتلوا قومهم، والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شئ من فعل أو كلام قد حصر، ومنه الحصر في القراءة.
[ 270 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أو جاءوكم حصرت صدورهم) * يقول رجعوا فدخلوا فيكم * (حصرت صدورهم) * يقول: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم. وفي قوله: * (أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) * متروك ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر قد لان من شأن العرب فعل مثل ذلك، تقول: أتاني فلان ذهب عقله، بمعنى: قد ذهب عقله، ومسموع منهم: أصحبت نظرت إلى ذات التنانير، بمعنى: قد نظرت. ولاضمار قد مع الماضي جاز وضع الماضي من الافعال في موضع الحال، لان قد إذا دخلت معه أدنته من الحال وأشبه الاسماء. وعلى هذه القراءة، أعني: * (حصرت) * قرأ القراء في جميع الامصار، وبها يقرأ لاجماع الحجة عليها. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: أو جاءوكم حصرت صدورهم نصبا، وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائز القراءة بها عندي لشذوذها وخروجها عن قراءة قراء الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) *. يعني جل ثناؤه: * (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) *: ولو شاء الله لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم فيما أمركم به من الكف عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه: * (فإن اعتزلوكم) * يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين
[ 271 ]
أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو مصيرهم إليكم، حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم، فلم يقاتلوكم، * (وألقوا إليكم السلم) * يقول: وصالحوكم. والسلم: هو الاستسلام، وإنما هذا مثل كما يقول الرجل للرجل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي، إذا استسلم له وانقاد لامره، فكذلك قوله: * (وألقوا إليكم السلم) * إنما هو: ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم صلحا منهم لكم وسلما. ومن السلم قول الطرماح: وذاك أن تميما غادرت سلما * للاسد كل حصان وعثة اللبد يعني بقوله سلما: استسلاما. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) * قال: الصلح. وأما قوله: * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم صلحا منهم لكم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا: أي فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن، فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير. ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *... إلى قوله: * (فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *. ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن
[ 272 ]
عكرمة والحسن، قالا: قال: * (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *... إلى قوله: * (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) *. وقال في الممتحنة: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) * وقال فيها: * (إنما ينهاكم الله عنه الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم) *... إلى: * (فأولئك هم الظالمون) *. فنسخ هؤلاء الآيات الاربعة في شأن المشركين، فقال: * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) * فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الارض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) * ثم نسخ واستثنى فقال: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) *... إلى قوله: * (ثم أبلغه مأمنه) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فإن اعتزلوكم) * قال: نسختها: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة يقول في قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *... إلى قوله: * (فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) * ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيه (ص) أن يقاتل المشركين بقوله: * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) *... الآية، قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر، إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 273 ]
(ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) *.. وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الاسلام لرسول الله (ص) وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الاموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون الله ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم، يقول الله: * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * يعني: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم الله به من التقية وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم، يقول الله: * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * يعني: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا، فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) * قال ناس كانوا يأتون النبي (ص)، فيسلمون رياء، ثم يرجوعن إلى قريش فيرتكسون في الاوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالاسلام، فيقرب إلى العود والجحر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالاسلام: قل هذا ربي، للخنفساء والعقرب. وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الامان من رسول الله (ص) ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين. ذكر من قال ذلك:
[ 274 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) * قال: حي كانوا بتهامة، قالوا: يا نبي الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وأرداوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم. فأبى الله ذلك عليهم، فقال: * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه. وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الاشجعي. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الاشجعي، وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبي (ص). فقال: * (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة) * يقول: إلى الشرك. وأما تأويل قوله: * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * فإنه كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: * (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * قال: كلما ابتلوا بها عموا فيها. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه. والقول في ذلك ما قد بينت قبل، وذلك أن الفتنة في كلام العرب: الاختبار، والاركاس: الرجوع. فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهي كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه، ويلقوا إليكم السلم، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم. كما:
[ 275 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) * قال: الصلح. * (ويكفوا أيديهم) * يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، * (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * يقول جل ثناؤه: فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الارض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال. * (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا) * يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر، إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك. * (مبينا) * يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحق في قتلهم، وذلك قوله: * (سلطانا مبينا) *. والسلطان: هو الحجة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قوله: * (سلطانا مبينا) * أما السلطان المبين: فهو الحجة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *: وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا. يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الاشياء البتة. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: *
[ 276 ]
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه. وأما قوله: * (إلا خطأ) * فإنه يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من الاستنثاء الذي تسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع، كما قال جرير بن عطية: من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الارض إلا ريط برد مرحل يعني: لم تطأ على الارض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الارض. ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قتل من المؤمنين خطأ، فقال: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة) * يقول: فعليه تحرير رقبة مؤمنة من ماله ودية مسلمة يؤديها عاقلته إلى أهله: * (إلا أن يصدقوا) * يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه. وموضع أن من قوله: * (إلا أن يصدقوا) * نصب، لان معناه: فعليه ذلك إلا أن يصدقوا. وذكر أن هذه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلا مسلما بعد إسلامه وهو لا يعلم بإسلامه. ذكر الآثار بذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن جاهد في قول الله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * قال: عياش بن أبي ربيعة قتل رجلا مؤمنا كان يعذبه مع أبي جهل، وهو أخوه لامه، فاتبع النبي (ص) وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عياش هاجر إلى النبي (ص) مؤمنا، فجاء أبو جهل وهو أخوه لامه، فقال: إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها ! وهي أسماء ابنة
[ 277 ]
مخرمة. فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة، فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرا وافتتانا، وقالوا: إن أبا جهل ليقدر من محمد على ما يشاء ويأخذ أصحابه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فاتبع النبي (ص) ذلك الرجل وعياش يحسبه أنه كافر كما هو، وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنا، فجاءه أبو جهل وهو أخوه لامه، فقال: إن أمك، تنشدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها ! وقال أيضا: فيأخذ أصحابه فيربطهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج، عن عكرمة، قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرا إلى النبي (ص)، فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي (ص) فأخبره، ونزلت: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *... الآية، فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فكان أخا لابي جهل بن هشام لامه. وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الاولين قبل قدوم رسول الله (ص)، فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام ومعهما رجل من بني عامر بن لؤي، فأتوه بالمدينة، وكان عياش أحب إخوته إلى أمه، فكلموه وقالوا: إن أمك قد حلفت أن لا يظلها بيت حتى تراك وهي مضطجعة في الشمس، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع ! وأعطوه موثقا من الله لا يحجزونه حتى يرجع إلى المدينة. فأعطاه بعض أصحابه بعيرا له نجيبا، وقال: إن خفت منهم شيئا فاقعد على النجيب. فلما أخرجوه من المدينة أخذوه فأوثقوه، وجلده العامري، فحلف ليقتلن العامري. فلم يزل محبوسا بمكة حتى خرج يوم الفتح، فاستقبله العامري وقد أسلم ولا يعلم عياش بإسلامه، فضربه فقتله، فأنزل الله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن، * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) * فيتركوا الدية.
[ 278 ]
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أبي الدرداء. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *... الآية. قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، قال: فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئا، فأتى النبي (ص)، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله (ص): ألا شققت عن قلبه ؟ فقال: ما عسيت أجد ! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء ؟ قال: فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه، قال: كيف بي يا رسول الله ؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله ؟ قال: فكيف بي يا رسول الله ؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله. حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: ونزل القرآن: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *... حتى بلغ: * (إلا أن يصدقوا) * قال: إلا أن يضعوها. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عرف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان فالذي عني الله تعالى بالآية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه. وأما الرقبة المؤمنة فإن أهل العلم مختلفون في صفتها، فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الايمان بعد بلوغها وصلت وصامت، ولا يستحق الطفل هذه الصفة. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي حيان، قال: سألت الشعبي عن قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * قال: قد صلت وعرفت الايمان. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * يعني بالمؤمنة: من عقل الايمان وصام وصلى. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الاعمش، عن إبراهيم، قال: ما كان
[ 279 ]
في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزي إلا من صام وصلى، وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة، فالصبي يجزئ. حدثت عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كل شئ في كتاب الله * (فتحرير رقبة مؤمنة) * فمن صام وصلى وعقل، وإذا قال: فتحرير رقبة: فما شاء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن إبراهيم قال: كل شئ في القرآن * (فتحرير رقبة مؤمنة) * فالذي قد صلى، وما لم تكن مؤمنة، فتحرير من لم يصل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * والرقبة المؤمنة عند قتادة: من قد صلى. وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصل ولم يبلغ ذلك. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * قال: إذا عقل دينه. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال في: * (فتحرير رقبة مؤمنة) *: لا يجزئ فيها صبي. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * يعني بالمؤمنة: من قد عقل الايمان وصام وصلى، فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا بها عليه. وقال آخرون: إذا كان مولودا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن وإن كان طفلا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كل رقبة ولدت في الاسلام فهي تجزي. قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: لا يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الايمان من الرجال والنساء إذا كان ممن كان
[ 280 ]
أبواه على ملة من الملل سوى الاسلام وولد يتيما وهو كذلك، ثم لم يسلما ولا واحد منهما حتى أعتق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين مسلمين فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حد الاختيار والتمييز ولم يدرك الحلم فمحكوم له بحكم أهل الايمان في الموارثة والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن جنى، ويجب له إن جني عليه، وفي المناكحة. فإذا كان ذلك من جمعيهم إجماعا، فواجب أن يكون له من الحكم فيما يجزئ فيه من كفاره الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل الايمان مثل الذي له من حكم الايمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبى ذلك عكس عليه الامر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في شئ من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله. وأما الدية المسلمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها. وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: هي الموفرة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: * (ودية مسلمة إلى أهله) * قال: موفرة. وأما قوله: * (إلا أن يصدقوا) * فإنه يعني به: إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل أو على القتال أو على عاقلته، فأدغمت التاء من قوله يتصدقوا في الصاد فصارتا صادا. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي: إلا أن يتصدقوا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بكر بن الشرود: في حرف أبي: * (إلا أن يتصدقوا. القول في تأويل قوله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) *. يعني جل ثناؤ بقوله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدو لكم، يعني: من عداد قوم أعداء لكم في الدين مشركين، لم يأمنوكم الحرب على خلافكم على الاسلام، وهو مؤمن * (فتحرير رقبة مؤمنة) * يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلا من عداد المشركين والمقتول مؤمن والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدو لكم وهو مؤمن، أي بين أظهركم لم يهاجر، فقتله مؤمن، فلا دية عليه وعليه تحرير رقبة مؤمنة. ذكر من قال ذلك:
[ 281 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة والمغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * قال: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل. قال: ليس فيه دية، وفيه الكفارة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة في قوله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * قال: يعني: المقتول يكون مؤمنا وقومه كفار، قال: فليس له دية، ولكن تحرير رقبة مؤمنة. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * قال: يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار، فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * في دار الكفر، يقول: * (فتحرير رقبة مؤمنة) * وليس له دية. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * ولا دية لاهله من أجل أنهم كفار، وليس بينهم وبين الله عهد ولا ذمة. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن ابن عباس أنه قال في قول الله: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) *... إلى آخر الآية، قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله (ص)، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قائله رقبة ولا دية له. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة) * قال: هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدو لكم: أي ليس لهم عهد يقتل خطأ، فإن على من قتله تحرير رقبة مؤمنة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين، ولا دية عليه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فإن
[ 282 ]
كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) * القتيل مسلم وقومه كفار، * (فتحرير رقبة مؤمنة) * ولا يؤدي إليهم الدية فيتقوون بها عليكم. وقال آخرون: بل عني به الرجل من أهل الحرب يقدم دار الاسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مر بهم الجيش من أهل الاسلام هرب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * فهو المؤمن يكون في العدو من المشركين يسمعون بالسرية من أصحاب محمد (ص)، فيفرون ويثبت المؤمن فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم أيها المؤمنون وبينهم ميثاق: أي عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم، * (فدية مسلمة إلى أهله) * يقول: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله يتحملها عاقلته، وتحرير رقبة مؤمنة كفارة لقتله. ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أو كافر ؟ فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتله ديته، لان له ولقومه عهدا، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحل للمؤمنين شئ من أموالهم بغير طيب أنفسهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (وإن كان من قوم بينكم mfdkYl ميثاق) * يقول: إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سمعت الزهري يقول: دية الذمي دية المسلم. قال: وكان يتأول: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن
[ 283 ]
عيسى بن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) * قال: من أهل العهد، وليس بمؤمن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * وليس بمؤمن. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * بقتله: أي بالذي أصاب من أهل ذمته وعهده، * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) *... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) * يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق. قال: وأهل الذمة يدخلون في هذا، وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين، لانهم أهل ذمة. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقد، فتكون ديته لقومه وميراثه للمسلمين، ويعقل عنه قومه ولهم ديته. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن جابر بن زيد في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * قال: وهو مؤمن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن، في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * قال: هو كافر.
[ 284 ]
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال: عني بذلك المقتول من أهل العهد، لان الله أبهم ذلك، فقال: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم) * ولم يقل: وهو مؤمن كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب، أو عني المؤمن منهم وهو مؤمن. فكان في تركه وصفه بالايمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك. فإن ظن ظان أن في قوله تبارك وتعالى: * (فدية مسلمة إلى أهله) * دليلا على أنه من أهل الايمان، لان الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن، فقد ظن خطأ، وذلك أن دية الذمي وأهل الاسلام سواء، لاجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمنين من أهل الايمان سواء، فكذلك حكم ديات أحرارهم سواء، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النصف من ديات أهل الايمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليل على أن المعنى بقوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * من أهل الايمان، لان دية المؤمنة لا خلاف بين الجميع، إلا من لا يعد خلافا أنها على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية، فكذلك حكم ديات أهل الذمة لو كانت مقصرة عن ديات أهل الايمان لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات، فكيف والامر في ذلك بخلافه ودياتهم وديات المؤمنين سواء ؟. وأما الميثاق: فإنه العهد والذمة، وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك والاصل الذي منه أخذ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * يقول: عهد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * قال: هو المعاهدة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) *: عهد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، مثله.
[ 285 ]
فإن قال قائل: وما صفة الخطأ الذي إذا قتل المؤمن المؤمن أو المعاهد لزمته ديته والكفارة ؟ قيل: هو ما قال النخعي في ذلك. وذلك ما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الخطأ أن يريد الشئ فيصيب غيره. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخطأ أن يرمي الشئ فيصيب إنسانا وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقلة. فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك ؟ قيل: أما في قتل المؤمن فمائة من الابل إن كان من أهل الابل على عاقلة قاتله، لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حقه، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علي رضي الله عنه: في الخطأ شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وفي الخطأ: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن فراس والشيباني، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب، بمثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه، بنحوه.
[ 286 ]
حدثني واصل بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سواء، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: في قتل الخطأ الدية مائة أرباعا، ثم ذكر مثله. وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. حدثني واصل بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن مسعود: في قتل الخطأ مائة من الابل أخماسا: خمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو مخاض. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة عن عبد الله، قال: الدية أخماس دية الخطأ: خمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنو مخاض. واعتل قائلو هذه المقالة بحديث: حدثنا به أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الاحمر، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن الخشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي (ص) قضى في الدية في الخطأ أخماسا. قال أبو هشام: قال ابن أبي زائدة: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون بني مخاض. حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله أنه قضى بذلك. وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثني محمد بن بكر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن
[ 287 ]
عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا: في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض، وفي الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت في دية الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرن بنو لبون ذكور. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: وحدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت، مثله. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الابل مائة من الابل. ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصر بها في الذي وجبت له الاسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي حدها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها الذي وجبت عن أعلاها. وإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، فالواجب أن يكون مجزيا من لزمته دية قتل خطأ: أي هذه الاسنان التي اختلف المختلفون فيها أداها إلى من وجبت له، لان الله تعالى لم يحد ذلك بحد لا يجاوز به ولا يقصر عنه ولا رسوله إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للامام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين، وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار، وعليه علماء الامصار. وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رضي الله عنه للابل على أهل الذهب في عصره، والواجب أن يقوم في كل زمان قيمتها إذا عدم الابل عاقلة القاتل. واعتلوا بما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن مكحول، قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض، فتوفي رسول الله (ص) وهي ثمانمائة دينار، فخشي عمر من بعده، فجعلها اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار. وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبا ألف دينار، فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله، كما فرض الابل على أهل الابل. قالوا: وفي إجماع
[ 288 ]
علماء الامصار في كل عصر وزمان إلا من شذ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها، أوضح الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب وجوب الابل على أهل الابل، لانها لو كانت قيمة لمائة من الابل لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الابل. وهذا القول هو الحق في ذلك لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه. وأما من الورق على أهل الورق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم، وقد بينا العلل في ذلك في كتابنا كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الاسلام. وقال آخرون: إنما على أهل الورق من الورق عشرة آلاف درهم. وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاق، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها، فقال بعضهم: ديته ودية الحر المسلم سواء. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بشر بن السري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري: أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين كدية المسلم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بشر بن السري، عن الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن عيينة: أن ابن مسعود كان يجعل دية أهل الكتاب إذا كانوا أهل ذمة كدية المسلمين. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب، فأخبرته أن إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم وداود عن الشعبي أنهما قالا: دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم إذا كانت له ذمة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا: دية المعاهد دية المسلم.
[ 289 ]
حدثنا سوار بن عبد الله، قا: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم، أنه قال: دية المسلم والمعاهد سواء. حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سمعت الزهري يقول: دية الذمي دية المسلم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم مثله. ثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، وبلغه أن الحسن كان يقول: دية المجوسي ثمانمائة ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فقال: ديتهم واحدة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الشعبي، قال: دية المعاهد والمسلم في كفارتهما سواء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: دية المعاهد والمسلم سواء. وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصراني قال: جعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة. فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن يقول: أربعة آلاف، قال: لعله كان ذلك قبل، وقال: إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الله الاشجعي، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم. وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني واصل بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن أبي
[ 290 ]
عثمان - قال: كان قاضيا لاهل مرو قال: جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف. حدثنا عمار بن خالد الواسطي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن الاعمش، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر: دية النصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمائة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن ثابت، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر: دية أهل الكتاب أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح: أن رجلا من قومه رمى يهوديا أو نصرانيا بسهم فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه ديته أربعة آلاف. وبه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، أربعة آلاف. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مثله. قال: ثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عمر مثله. قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمائة. حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا عبد الملك، عن عطاء، مثله. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شئ.
[ 291 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متابعين) * فمن لم يجد رقبة مؤمنة يحررها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها، * (فصيام شهرين متتابعين) * يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * قال: من لم يجد عتقا - أو عتاقة، شك أبو عاصم في قتل مؤمن خطأ، قال: وقال آخرون: صوم الشهرين عن وأنزلت في عياش بن أي ربيعة قتل مؤمنا خطأ الدية والرقبة قالوا: وتأويل الآية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن المبارك، عن زكريا، عن الشعبي، عن مسروق: أنه سئل عن الآية التي في سورة النساء: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متابعين) * صيام الشهرين عن الرقبة وحدها، أو عن الدية والرقبة ؟ فقال: من لم يجد فهو عن الدية والرقبة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، عن مسروق بنحوه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الصوم عن الرقبة دون الدية، لان دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع الحجة على ذلك، نقلا عن نبينا (ص)، فلا يقضي صوم صائم عما لزم غيره في ماله. والمتابعة صوم الشهرين، ولا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه. ثم قال جل ثناؤه: * (توبة من الله وكان الله عليما حكيما) * يعني: تجاوزا من الله لكم إلى التيسير عليه بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين. * (وكان الله عليما حكيما) * يقول: ولم يزل الله عليما بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك، حكيما بما يقضي فيهم ويريد. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 292 ]
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله، مريدا إتلاف نفسه، * (فجزاؤه جهنم) * يقول: فثوابه من قتله إياه جهنم، يعني: عذاب جهنم، * (خالدا فيها) * يعني: باقيا فيها. والهاء والالف في قوله: فيها من ذكر جهنم. * (وغضب الله عليه) * يقول: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمدا، * (ولعنه) * يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه وأعد له عذابا عظيما، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره. واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبه أن يسمى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلا بحد حديد يجرح بحده، أو يبضع ويقطع، فلم يقلع عنه ضربا به، حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك، فقال بعضهم: لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: العمد: السلاح - أو قال: الحديد قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد، لا قود فيه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد: ما كان بخشبة، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس. حدثني أحمد بن حماد الدولابي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصي فهو خطأ ديته دية الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير ومغيرة، عن الحارث وأصحابه في الرجل
[ 293 ]
يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت، قال: أسأل الشهود أنه ضربه، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات، فإن كان بسلاح فهو قود، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد. وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الاغلب منه أنه يقتل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير، أنه قال: وأي عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم، قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود. وعلة من قال كل ما عدا الحديد خطأ، ما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبي (ص): كل شئ خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش. وعلة من قال: حكم كل ما قتل المضروب به من شئ حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد، ما: حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا أبو الوليد، قا: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتى به النبي (ص)، فقتله بين حجرين. قالوا: فأقاد النبي (ص) من قاتل بحجر وذلك غير حديد. قالوا: وكذلك حكم كل من قتل رجلا بشئ الاغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.
[ 294 ]
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: كل من ضرب إنسانا بشئ الاغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شئ، للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله (ص). وأما قوله: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: جزاؤه جهنم إن جازاه. وقال آخرون: عني بذلك رجل بعينه كان أسلم، فارتد عن إسلامه وقتل رجلا مؤمنا، قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلا قتله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلا من الانصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبي (ص) الدية قبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: ضرب النبي (ص) ديته على بني النجار، ثم بعث مقيسا وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي (ص)، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيدا، فضرب به الارض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألفي يتغنى: قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع فقال النبي (ص): أظنه قد أحدث حدثا، أما والله لئن كان فعل لا أؤمنه في حل ولا
[ 295 ]
حرم، ولا سلم ولا حرب فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *... الآية. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: إن الرجل إذا عرف الاسلام وشرائع الاسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم. وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكل قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن يحيى الجاري، عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأني له التوبة والهدى، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم (ص) يقول: ثكلته أمه ! رجل قتل رجلا متعمدا، جاء يوم القيامة آخذا بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دما، في قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الاخرى يقول: سل هذا فيم قتلني. والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم (ص)، وما نزل بعدهما من برهان. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله (ص): * (ومن يقتل
[ 296 ]
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا ؟ فقال: وأنى له التوبة !. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام عن يحيى، عن رجل، عن سالم، قال كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنا متعمدا أين منزله ؟ قال: جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال: وأنى له الهدى ثكلته أمه ! والذي نفسي بيده لسمعته يقول - يعني النبي (ص): يجئ يوم القيامة معلقا رأسه باحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذا صاحبه بيده الاخرى تشخب أوداجه حيال عرض الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني ؟ فما جاء نبي بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا عمان بن زريق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شئ، ولقد سمعته يقول: * (ويل لقاتل المؤمن، يجئ يوم القيامة آخذا رأسه بيده ثم ذكر الحديث نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أي عدي، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزي: سئل ابن عباس عن قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * فقال: لم ينسخها شئ. وقال في هذه الآية: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) * قال: نزلت في أهل الشرك. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن
[ 297 ]
منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين، فذكر نحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني سعيد بن جبير، أو حدثت عن سعيد بن جبير، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) *.... إلى آخر الآية، والتي في الفرقان: * (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) *... إلى: * (ويخلد فيه مهانا) * قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الاسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له. وأما التي في الفرقان، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الاسلام ؟ قال: فنزلت * (إلا من تاب) *... الآية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: ما نسخها شئ. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي من آخر ما نزلت ما نسخها شئ. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته، فقال: لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شئ. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إياس معاوية بن قرة، قال: أخبرني شهر بن حوشب، قال: سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * بعد قوله: * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) * بسنة.
[ 298 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سلم بن قتيبة، قال: ثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن ابن عباس، قال: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: نزلت بعد: * (إلا من تاب) * بسنة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو إياس، قال: ثني من سمع ابن عباس يقول: في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة، فقلت لابي إياس: من أخبرك ؟ فقال: شهر بن حوشب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * قال: ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *... الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في سورة الفرقان بثمان سنين، وهو قوله: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) *... إلى قوله: * (غفورا رحيما) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف، عن أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس، قال: هما المبهمتان: الشرك، والقتل. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر: الاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله، لان الله سبحانه يقول: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) *. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) * قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، قال: نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر.
[ 299 ]
حدثنا ابن البرقي قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما، يقول: يا رب دمي عند فلان ! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضي بينهما. ثم نزع بهذه الآية: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) *... الآية. قال ابن عباس: والذي نفسي بيده ما نسخها الله عزوجل منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلا يحدث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر، قوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) *... إلى آخر الآية، بعد قوله: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) *... إلى آخر الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلا يحدث خارجة بن زيد، قال: سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة، قال: أراه بستة أشهر، يعني: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * بعد: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: ما نسخها شئ منذ نزلت، وليس له توبة. قال أبو جعفر: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الايمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) *.
[ 300 ]
فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لان الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لاحد بقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * والقتل دون الشرك. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) *: يا أيها الذين صدقوا الله صدقوا رسوله، فيما جاءهم به من عند ربهم، * (إذا ضربتم في سبيل الله) * يقول: إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم * (فتبينوا) * يقول: فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله. * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) * يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم، * (لست مؤمنا) * فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، يقول: طلب متاع الحياة الدنيا، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده * (كذلك كنتم من قبل) * يقول: كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه، كذلك أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز الله دينه بتباعه وأنصاره، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم. وقد قيل: إن معنى قوله: * (كذلك كنتم من قبل) * كنتم كفارا مثلهم. * (فمن الله عليكم) * يقول: فتفضل الله عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. وقد قيل: فمن الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام. * (فتبينوا) * يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه، فلعل ألله أن يكون قد من عليه من الاسلام
[ 301 ]
بمثل الذي من به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الايمان. * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) * يقول: إن الله كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم * (خبيرا) * يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسئ باساءته. وذكر أن هذه الآية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول الله (ص) بعد ما قال: إني مسلم، أو بعد ما شهد شهادة الحق، أو بعد ما سلم عليهم، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه. ذكر الرواية والآثار بذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، أن ابن عمر، قال: بعث النبي (ص) محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الاضبط، فحياهم بتحية الاسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله (ص)، فتكلم فيه عيينة والاقرع، فقال الاقرع: يا رسول الله سن اليوم وغير غدا ! فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي ! فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له، فقال له النبي (ص): لاغفر الله لك فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الارض. فجاءوا إلى النبي (ص)، فذكروا ذلك له، فقال: إن الارض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله جل وعز أراد أن يعظكم. ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) *... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الاسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله (ص) إلى إضم، فخرجت في نفر من
[ 302 ]
المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الاضبط الاشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن. فلما مر بنا سلم علينا بتحية الاسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشئ كان وبينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله (ص) وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) *... الآية. حدثني هارون بن إدريس الاصم، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي حدرد الاسلمي، عن أبيه بنحوه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له، فقال: السلام عليكم ! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت هذه الآية: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) * تلك الغنيمة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، بنحوه. حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن عمرو سمع عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق المسلمون رجلا، ثم ذكر مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله (ص) وهو في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم ! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله (ص)، فأنزل الله عزوجل: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) *... إلى آخر الآية.
[ 303 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي (ص)، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالاسلام ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سرية محمد (ص) أخبر بها حيه - يعني قومه ففروا، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم، فيلقى إليهم السلام، فيقول المؤمنون: لست مؤمنا ! وقد ألقى السلام، فيقتلونه، فقال الله عزوجل: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) *.... إلى: * (تبتغون عرض الحياة الدنيا) * يعني: تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه، وذلك عرض الحياة الدنيا، فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله. وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله (ص) عليها رجل من بني ليث اسمه قليب، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس، فسلم عليهم فقتلوه، فأمر رسول الله (ص) لاهله بديته ورد إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) *... الآية، قال: هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان، ذكر لنا أن نبي الله (ص) بعث جيشا عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم، ففر أصحابه، فقال مرداس: إني مؤمن وإني غير متبعكم ! فصبحته الخيل غدوة، فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فتلقوه أصحاب رسول الله (ص) فقتلوه، وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله عزوجل في شأنه: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * لان تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يحيى بعضهم بعضا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 304 ]
عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) *... الآية. قال: بعث رسول الله (ص) سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبي (ص) إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون النبي (ص) ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فشد عليه فقتله ! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله ؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، تعوذ بها. فقال له رسول الله (ص): هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه ؟ قال: يا رسول الله إنما قلبه بضعة من جسده. فأنزل الله عزوجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: * (تبتغون عرض الحياة الدنيا) * فلما بلغ: * (فمن الله عليكم) * يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله (ص) فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ولا تقولوا لمن إليكم السلام لست مؤمنا) * قال: بلغني أن رجلا من المسلمين أغار على رجل من المشركين، فحمل عليه، فقال له المشرك: إني مسلم، أشهد أن لا إله إلا الله ! فقتله المسلم بعد أن قالها، فبلغ ذلك النبي (ص)، فقال للذي قتله: أقتلته وقد قال لا إله إلا الله ؟ فقال وهو يعتذر: يا نبي الله إنما قالها متعوذا وليس كذلك. فقال النبي (ص): فهلا شققت عن قلبه ؟ ثم مات قاتل الرجل فقبر، فلفظته الارض، فذكر ذلك للنبي (ص)، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الارض، حتى فعل به ذلك ثلاث مرات، فقال النبي (ص): إن الارض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران. قال معمر: وقال بعضهم: إن الارض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور،
[ 305 ]
عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قوما من المسلمين لقوا رجلا من المشركين في غنيمة له، فقال: السلام عليكم إني مؤمن ! فظنوا أنه يتعوذ بذلك، فقتلوه، وأخذوا غنيمته. قال: فأنزل الله عزوجل: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) * تلك الغنيمة، * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) * قال: خرج المقداد بن الاسود في سرية بعثه رسول الله (ص)، قال: فمروا برجل في غنيمة له، فقال: أني مسلم ! فقتله المقداد. فلما قدموا ذكروا ذلك للنبي (ص)، فنزلت هذه الآية: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) * قال: الغنيمة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء - فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) *، ثم قال في الخبر -: ونزل الفرقان: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * فقرأ حتى بلغ: * (لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) * غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا، * (فعند الله مغانم كثيرة) * خير من تلك الغنم، إلى قوله: * (إن الله كان بما تعملون خبيرا) *. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين، فقتلوه وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه: السلام عليكم، فإني مؤمن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) * قال: حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله لست مؤمنا، كما حرم عليهم الميتة، فهو آمن على ماله ودمه، ولا تردوا عليه قوله. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (فتبينوا) * فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين
[ 306 ]
وبعض الكوفيين والبصريين: * (فتبينوا) * بالباء والنون من التبين، بمعنى: التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح. وقرأ ذلك عظم قراء الكوفيين: فتثبتوا بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة. والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الالفاظ، لان المتثبت متبين، والمتبين متثبت، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) * فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين والكوفيين السلم بغير ألف، بمعنى الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: * (السلام) * بألف، بمعنى التحية. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: لمن ألقى إليكم السلم بمعنى: من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرا لكم بملتكم. وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك، فمن راو روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحق وقال: إني مسلم، ومن راو روى أنه قال: السلام عليكم، فحياهم تحية الاسلام، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه. وكل هذه المعاني يجمعها السلم، لان المسلم مستسلم، والمحيي بتحية الاسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لاهل الاسلام، فمعنى السلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية، وليس كذلك في السلام، لان السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية، فلذلك وصفنا السلم بالصواب. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (كذلك كنتم من قبل) * فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم، فمن الله عليكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: * (كذلك كنتم من قبل) * تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: * (كذلك كنتم من قبل) * تكتمون إيمانكم في المشركين.
[ 307 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا، فهداه كما هداكم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) * كفارا مثله، * (فتبينوا) *. وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الاول، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين، مستخفيا بدينه منهم. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لان الله عز ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الايمان بعد إلقائه إليهم السلام، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوذا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا، فيقال: كما كان كافرا كنتم كفارا، بل لا وجه لذلك، لان الله جل ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله. واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله: * (فمن الله عليكم) * فقال بعضهم: معنى ذلك: فمن الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الاسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: * (فمن الله عليكم) * فأظهر الاسلام. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فمن الله عليكم) * يقول: تاب الله عليكم. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله: * (كذلك كنتم من قبل) * ما وصفنا قبل، فالواجب أن يكون عقيب ذلك: * (فمن الله عليكم) * فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه
[ 308 ]
وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به، من توحيده وعبادته، حذرا من أهل الشرك. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون) *: لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الايمان بالله وبرسوله، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الاسفار والسير في الارض ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله وقتالهم في طاعة الله، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لاهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله والمجاهدون في سبيل الله، ومنهاج دينه، لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله وأعداء دينهم بأموالهم، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الايمان بالله وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة الله العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (غير أولي الضرر) *، فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة ومكة والشام: غير أولي الضرر) * نصبا، بمعنى: إلا أولي الضرر. وقرأ ذلك عامة قراء أهل العراق والكوفة والبصرة: * (غير أولي الضرر) * برفع غير على مذهب النعت للقاعدين. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: غير أولي الضرر بنصب غير، لان الاخبار متظاهرة بأن قوله: غير أولي الضرر نزل بعد قوله: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) * استثناء من قوله: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) *. ذكر بعض الاخبار الواردة بذلك: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول الله (ص) قال: ائتوني بالكتف واللوح ! فكتب: * (لا
[ 309 ]
يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) * وعمرو بن أم مكتوم خلف ظهره، فقال: هل لي من رخصة يا رسول الله ؟ فنزلت: غير أولي الضرر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو كبر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى، فقال: يا رسول الله كيف وأنا أعمى ؟ فما برح حتى نزلت: غير أولي الضرر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر قال: لما نزلت جاء عمرو بن أم مكتوم إلى النبي (ص)، وكان ضرير البصر، فقال: يا رسول الله ما تأمرني، فإني ضرير البصر ؟ فأنزل الله هذه الآية، فقال: ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة. حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة، قال: ثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء أنه لما نزلت: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * كلمه ابن أم مكتوم، فأنزلت: غير أولي الضرر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن ابن إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الآية: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) * قال: فأمر رسول الله (ص) زيدا، فجاء بكتف فكتبها، قال: فشكى إليه ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر. قال شعبة: وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الآية: * (لا يستوي القاعدون) * مثل حديث البراء. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني،
[ 310 ]
عن ابن إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: لما نزلت: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) * جاء ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله مالي رخصة ؟ قال: لاقال: ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخص ! فأنزل الله: غير أولي الضرر، وأمر رسول الله (ص) فكتبها، يعني الكاتب. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال: رأيت مروان بن الحكم جالسا، فجئت حتى جلست إليه، فحدثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول الله (ص) أنزل عليه: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) * قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ! قال: فأنزل عليه وفخذه على فخذي، فثقلت، فظننت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فقال: غير أولي الضرر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة ابن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله (ص)، فقال: اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ! فجاء عبد الله بن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبل الله، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله (ص) على فخذي حتى خشيت أن يرضها، ثم قال: اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم: أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره، قال: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * عن بدر والخارجون إلى بدر.
[ 311 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا حسين، قال: ثني حجاج، قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدث عن ابن عباس أنه سمعه يقول: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * عن بدر والخارجون إلى بدر. لما نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الاسدي: يا رسول الله، إننا أعميان، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) * فسمع بذلك عبد الله بن أم مكتوم الاعمى، فأتى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت ؟ فقال له رسول الله (ص): ما أمرت في شأنك بشئ وما أدري هل يكون لك ولاصحابك من رخصة ! فقال ابن أم مكتوم: اللهم إني أنشدك بصري ! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله (ص)، فقال: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله... إلى قوله: * (على القاعدين درجة) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: نزلت: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) * فقال رجل أعمى: يا نبي الله فأنا أحب الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد ! فنزلت: غير أولي الضرر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد، قال: لما نزلت هذه الآية في الجهاد: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * قال عبد الله بن أم مكتوم: يا رسول الله إني ضرير كما ترى ! فنزلت: غير أولي الضرر. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (لا
[ 312 ]
يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) * عذر الله أهل العذر من الناس، فقال: غير أولي الضرر كان منهم ابن أم مكتوم، * (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) *... إلى قوله: * (وكلا وعد الله الحسنى) * لما ذكر فضل الجهاد، قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إني أعمى ولا أطيق الجهاد ! فأنزل الله فيه: غير أولي الضرر. حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن عبد الله النفيلي، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنت عند رسول الله (ص)، فقال: ادع لي زيدا وقل له يأتي - أو يجيئ بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة، الشك من زهير اكتب: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) * فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله إن بعيني ضررا ! فنزلت قبل أن يبرح غير أولي الضرر. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن رجاء البصري، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه، إلا أنه قال: قال رسول الله (ص): ادع لي زيدا وليجئني معه بكتف ودواة، أو لوح ودواة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن، قال: لما نزلت: * (لا يستوي القاعدون) * قال عمرو بن أم مكتوم: يا رب ابتليتني فكيف أصنع ؟ قال فنزلت: غير أولي الضرر. وكان ابن عباس يقول في معنى: غير أولي الضرر نحوا مما قلنا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قا: ثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: غير أولي الضرر قال: أهل الضرر. القول في تأويل قوله تعالى: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) *.
[ 313 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) * فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة، يعني فضيلة واحدة، وذلك بفضل جهاده بنفسه، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في: * (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) * قال: على أهل الضرر. القول في تأويل قوله: * (وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وكلا وعد الله الحسنى) *: وعد الله الكل من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى. ويعني جل ثناؤه بالحسنى: الجنة، كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وكلا وعد الله الحسنى) * وهي الجنة، والله يؤتي كل ذي فضل فضله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال: الحسنى: الجنة. وأما قوله: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * فإنه يعني: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما. كما: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة) * قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. القول في تأويل قوله تعالى: * (درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (درجات منه) *: فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة.
[ 314 ]
واختلف أهل التأويل في معنى الدرجات التي قال جل ثناؤه * (درجات منه) *. فقال بعضهم بما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (درجات منه ومغفرة ورحمة) * كان يقال: الاسلام درجة، والهجرة في الاسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال آخرون بما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه) * الدرجات: هي السبع التي ذكرها في سورة براءة: * (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب) * فقرأ حتى بلغ: * (أحسن ما كانوا يعملون) *. قال هذه السبع الدرجات. قال: وكان أول شئ، فكانت درجة الجهاد مجملة، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة. فقرأ: * (لا يصيبهم ظمأ ولا نصب) * وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: * (ولا ينفقون نفقة) * قال: وهذه نفقة القاعد. وقال آخرون: عني بذلك درجات الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي بن الحسن الازدي، قال: ثنا الاشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سحيم، عن ابن محيريز في قوله: * (فضل الله المجاهدين على القاعدين) *... إلى قوله: * (درجات) * قال: الدرجات: سبعون درجة، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة. وأولى التأويلات بتأويل قوله، * (درجات منه) * أن يكون معنيا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز، لان قوله تعالى ذكره: * (درجات منه) * ترجمة وبيان عن قوله: * (أجرا عظيما) *، ومعلوم أن الاجر إنما هو الثواب والجزاء، وإذا كان ذلك كذلك، وكانت الدرجات والمغفرة والرحمة ترجمة عنه، كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله: *
[ 315 ]
(درجات منه) * إلى الاعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد كما قال قتادة وابن زيد. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبين أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما وثوابا جزيلا، وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله. * (ومغفرة) * يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها. * (ورحمة) * يقول: ورأفة بهم. * (وكانع الله غفورا رحيما) * يقول: ولم يزل الله غفورا لذنوب عباده المؤمنين، فيصفح لهم عن العقوبة عليها * (رحيما) * بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه وركوبهم معاصيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة) *: إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة * (ظالمي أنفسهم) * يعني: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل. * (قالوا فيم كنتم) * يقول: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم، في أي شئ كنتم من دينكم. * (قالوا كنا مستضعفين في الارض) * يعني: قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الارض، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الايمان بالله واتباع رسوله (ص)، معذرة ضعيفة وحجة واهية. * (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الايمان بالله واتباع رسوله (ص) إلى الارض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيه ؟ يقول الله جل ثناؤه: * (فأولئك مأواهم جهنم) *: أي فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، مأواهم جهنم، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم. * (وساءت مصيرا) * يعني: وساءت جهنم لاهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى. ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان، وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة وسوء البصر والمعرفة
[ 316 ]
بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الاسلام من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. ونصب المستضعفين على الاستثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: * (فأولئك مأواهم جهنم) *، يقول الله جل ثناؤه: * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) * يعني: هؤلاء المستضعفين، يقول: لعل الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الاسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها. * (وكان الله عفوا غفورا) * يقول: ولم يزل الله عفوا، يعني ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بتركه العقوبة عليها، غفورا ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله (ص) حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرا عنهم: * (قالوا كنا مستضعفين في الارض) *. ذكر الاخبار الواردة بصحة ما ذكرنا من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا أشعث، عن عكرمة: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله: * (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * إلى قوله: * (عفوا غفورا) * قال ابن عباس: فأنا منهم وأمي منهم، قال عكرمة: وكان العباس منهم. حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالاسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم. فنزلت: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم) *... الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله) *...
[ 317 ]
إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة - أو ابن لهيعة، الشك من يونس عن أبي الاسود، أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبي (ص)، فيأتى السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله فيهم: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *، حتى بلغ: * (فتهاجروا فيها) *. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال: أخبرنا حيوة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الاسدي، قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فنهاني عن ذلك أشد النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين، ثم ذكر مثل حديث يونس عن ابن وهب. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * هم قوم تخلفوا بعد النبي (ص) وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي (ص) ضربت الملائكة وجهه ودبره. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم) *... إلى قوله: * (وساءت مصيرا) * قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الاسود
[ 318 ]
وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله (ص) وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الاسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم. قال ابن جريج وقال مجاهد: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش. قال ابن جريج وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر، إلى قوله: * (وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * قال: يعني: الشيخ الكبير، والعجوز والجواري والصغار والغلمان. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... إلى قوله: * (وساءت مصيرا) * قال: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال: رسول الله (ص) للعباس: افد نفسك وابن أخيك ! قال: يا رسول الله ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك ؟ قال: يا عباس أنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا هذه الآية: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) * فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، حيلة في المال، والسبيل: الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم من الولدان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... إلى قوله: * (أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة. قال: فخرج ناس من المسلمين حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، فأنزل الله فيهم: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة
[ 319 ]
الناس كعذاب الله) *. فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا) *... إلى * (غفور رحيم) *. قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله * (إن الذين توفاهم الملائكة) * قال: هم خمسة فتية من قريش: علي بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة بن الاسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... الآية، حدثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالاسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم. وقوله * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * أناس من أهل مكة عذرهم الله، فاستثناهم فقال: * (أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) * قال: وكان ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... الآية، قال: أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله (ص)، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألته، يعني ابن زيد، عن قول الله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * فقرأ حتى بلغ: * (إلا المستضعفين من
[ 320 ]
الرجال والنساء والولدان) * فقال: لما بعث النبي (ص) وظهر ونبع الايمان نبع النفاق منه، فأتى إلى رسول الله (ص) رجال، فقالوا: يا رسول الله، لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ويفعلون ويفعلون لاسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله ! فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله ! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي (ص) معهم، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله فيهم: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... الآية كلها * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم * (أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) *. قال: ثم عذر الله أهل الصدق فقال: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم إقامتهم بين ظهري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا ! فقال الله: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم) * صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي (ص) * (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل) * خرجوا مع المشركين * (فأمكن منهم والله عليم حكيم) *. حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) * قال ابن عباس: أنا من المستضعفين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
[ 321 ]
نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ظالمي فسهم قالوا فيم كنتم) * قال: من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبيد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي، عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) كان يدعو في دبر صلاة الظهر: اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) * قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد (ص): هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم: * (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) *... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. وأما قوله: * (لا يستطيعون حيلة) * فإن معناه كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن
[ 322 ]
عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله: * (لا يستطيعون حيلة) * قال: نهوضا إلى المدينة، * (ولا يهتدون سبيلا) *: طريقا إلى المدينة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا يهتدون سبيلا) *: طريقا إلى المدينة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن الحسن، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: الحيلة: المال، والسبيل: الطريق إلى المدينة. وأما قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة) * ففيه وجهان: أحدهما أن يكون توفاهم في موضع نصب بمعنى المضي، لان فعل منصوبة في كل حال. والآخر أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة. فتكون إحدى التاءين من توفاهم محذوفة، وهي مرادة في الكلمة، لان العرب تفعل ذلك إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة ربما حذفت إحداهما وأثبتت الاخرى، وربما أثبتتهما جميعا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ومن يهاجر في سبيل الله) *: ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم إلى أرض الاسلام وأهلها المؤمنين، * (في سبيل الله) * يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم. * (يجد في الارض مراغما كثيرا) * يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغما كثيرا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب، يقال منه: راغم فلان قومه مراغما ومراغمة مصدران، ومنه قول نابغة بني جعدة: كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب
[ 323 ]
وقوله: * (وسعة) * فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارا بدينه إلى الله وإلى رسوله إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الاسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك فقد وقع أجره على الله، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الاسلام وأهل دينه. يقول جل ثناؤه: ومن يخرج مهاجرا من داره إلى الله وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه. * (وكان الله غفورا رحيما) * يقول: ولم يزل الله تعالى ذكره غفورا، يعني: ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا. وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم، فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها، وذلك قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... إلى قوله: * (وكان الله عفوا غفورا) * فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة. ذكر الآخبار الواردة بذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع، قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله (ص)، قال: ففعلوا، فأتاه الموت وهو بالتنعيم، فنزلت هذه الآية. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الآية: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * في ضمرة بن العيص بن الزنباع، أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع، حين بلغ التنعيم مات فنزلت فيه.
[ 324 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن العوام التيمي بنحو حديث يعقوب، عن هشيم، قال: وكان رجلا من خزاعة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) *... الآية، قال: لما أنزل الله هؤلاء الآيات ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة، قال: والله إن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها وإني لاهتدي، أخرجوني ! وهو مريض حينئذ. فلما جاوز الحرم قبضه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله) *... الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض: والله مالي من عذر إني لدليل بالطريق، وإني لموسر، فاحملوني ! فحملوه فأدركه الموت بالطريق، فنزلت فيه: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة يقول: لما أنزل الله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... الآيتين، قال رجل من بني ضمرة وكان مريضا: أخرجوني إلى الروح ! فأخرجوه، حتى إذا كان بالحصحاص مات، فنزل فيه: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن المنذر بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري، قوله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * قال: نزلت في رجل من خزاعة.
[ 325 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن الضحاك في قول الله عزوجل: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربت وجوههم وأدبارهم الملائكة قال لاهله: أخرجوني ! وقد أدنف للموت. قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عقبة قد سماها، فتوفي، فأنزل الله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *... الآية. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما سمع بهذه - يعني بقوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... إلى قوله: * (وكان الله عفوا غفورا) * ضمرة بن جندب الضمري قال لاهله وكان وجعا: أرحلوا راحلتي، فإن الاخشبين قد غماني - يعني: جبلي مكة لعلي أن أخرج فيصيبني روح ! فقعد على راحلته ثم توجه نحو المدينة فمات بالطريق، فأنزل الله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) *. وأما حين توجه إلى المدينة، فإنه قال: اللهم مهاجر إليك وإلى رسولك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: لما نزلت هذه الآية، يعني قوله: * (إن الذين توفاهم الملائكة) * قال جندب بن ضمرة الجندعي: اللهم أبلغت في المعذرة والحجة، ولا معذرة لي ولا حجة. قال: ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول الله (ص): مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولاية أم لا ؟ فنزلت: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) *. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول: لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... الآية، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبي (ص) مقيما بمكة، وكان ممن عذر الله كان شيخا كبيرا وضيئا، فقال
[ 326 ]
لاهله: ما أنا ببائت الليلة بمكة ! فخرجوا به مريضا حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه الموت، فنزل فيه: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله) *... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) * قال: هاجر رجل من بني كنانة يريد النبي (ص)، فمات في الطريق. فسخر به قومه واستهزءوا به، وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن ! قال: فنزلت القرآن: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) *. حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * وكان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر وكان مريضا، فقال لاهله: أخرجوني من مكة، فإني أجد الحر ! فقالوا: أين نخرجك ؟ فأشار بيده نحو المدينة. فنزلت هذه الآية: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *... إلى آخر الآية. حدثني الحارث بن أبي أسامة، قال: ثنا عبد العزيز بن أبان، قال: ثنا قيس، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) * قال: رخص فيها قوم من المسلمين ممن كان بمكة من أهل الضرر حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، فقالوا: قد بين الله فضيلة المجاهدين على القاعدين ورخص لاهل الضرر. حتى نزلت: * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *... إلى قوله: * (وساءت مصيرا) * قالوا: هذه موجبة. حتى نزلت: * (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) *، فقال ضمرة بن العيص الزرقي أحد بني ليث، وكان مصاب البصر: إني لذو حيلة لي مال ولي رقيق، فاحملوني ! فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الآية: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت) *... الآية.
[ 327 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل المراغم، فقال بعضهم: هو التحول من أرض إلى أرض. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (مراغما كثيرا) * قال: المراغم: التحول من الارض إلى الارض. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: * (مراغما كثيرا) * يقول: متحولا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (يجد في الارض مراغما كثيرا) * قال: متحولا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن أو قتادة: * (مراغما كثيرا) * قال: متحولا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزوجل: * (يجد في الارض مراغما كثيرا) * قال: مندوحة عما يكره. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: * (مراغما كثيرا) * قال: مزحزحا عما يكره. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (مراغما كثيرا) * قال: متزحزحا عما يكره. وقال آخرون: مبتغى معيشة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يجد في الارض مراغما كثيرا) * يقول: مبتغى للمعيشة. وقال آخرون: المراغم: المهاجر. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (مراغما) * المراغم: المهاجر.
[ 328 ]
قال أبو جعفر: وقد بينا أولى الاقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل. واختلفوا أيضا في معنى السعة التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال: * (وسعة) *، فقال بعضهم: هي السعة في الرزق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (مراغما كثيرا وسعة) * قال: السعة في الرزق. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (مراغما كثيرا وسعة) * قال: السعة في الرزق. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وسعة) * يقول: سعة في الرزق. وقال آخرون في ذلك ما: حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: * (يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) *: أي والله من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الارض مضطربا ومتسعا، وقد يدخل في السعة، السعة في الرزق، والغنى من الفقر، ويدخل فيه السعة من ضيق الهم، والكرب الذي كان فيه أهل الايمان بالله من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني السعة التي هي بمعنى الروح والفرج من مكروه ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظهري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دلالة على أنه عنى بقوله: وسعة بعض معاني السعة التي وصفنا، فكل معاني السعة هي التي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش وغم جوار أهل الشرك وضيق الصدر، بتعذر إظهار الايمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الانداد والآلهة، داخل في ذلك. وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية، أعني قوله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * أنها في حكم الغازي يخرج للغزو
[ 329 ]
فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت، أن له سهمه من المغنم وإن لم يكن شهد الوقعة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حببب، أن أهل المدينة يقولون: من خرج فاصلا وجب سهمه، وتأولوا قوله تبارك وتعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإذا ضربتم في الارض) *: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الارض، * (فليس عليكم جناح) * يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم، * (أن تقصروا من الصلاة) *: يعني أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقل عددها في حال ضربكم في الارض، أشار إلى واحدة في قول آخرين. وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له. ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: * (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * يعني: الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوا مبينا، يقول: عدوا قد أبانوا لكم عداوتهم، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الاوثان والاصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة. واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله، فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين. ذكر من قال ذلك: حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن
[ 330 ]
جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * وقد أمن الناس ! فقال: عجبت مما عجبت منه حتى سألت النبي (ص) عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبي (ص)، مثله. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن جريج، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث عن عبد الله بن بابيه، يحدث عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال الله تبارك وتعالى: * (أن تقصروا من الصلاة إن حفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * ! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله (ص)، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هشام بن عبد الملك، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلي ركعتين، فلقيني قراء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي ؟ قلت: ركعتين، قالوا: أسنة أو قرآن ؟ قلت: كل ذلك سنة وقرآن، قلت: صلى رسول الله (ص) ركعتين، قالوا: إنه كان في حرب ! قلت: قال الله: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون) * وقال: * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * فقرأ حتى بلغ: * (فإذا اطمأننتم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا يوسف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي، قال: سأل قوم من التجار
[ 331 ]
رسول الله (ص)، فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الارض، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله: * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي (ص)، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) *... إلى قوله: * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * فنزلت صلاة الخوف. قال أبو جعفر: وهذا تأويل للآية حسن لو لم يكن في الكلام إذا، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها، ولو لم يكن في الكلام إذا كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، الآية. وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبي بن كعب: وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا. حدثني بذلك الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا، ولا يقرأ: إن خفتم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بكر بن شرود، عن الثوري، عن واصل الاحدب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنه قرأ: أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم، قال بكر: وهي في الامام مصحف عثمان رحمه الله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *. وهذه القراءة تنبئ على أن قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * مواصل قوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الارض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: * (وإذا كنت فيهم) * قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية. وذلك أن تأويل قراءة أبي هذه التي ذكرناها
[ 332 ]
عنه: وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا، فحذفت لا لدلالة الكلام عليها، كما قال جل ثناؤه: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق. وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدو يخشى أن يفتنه في صلاته. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الانصاري، قال: ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: ثني عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال: سمعت أبي، يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتموا صلاتكم ! فقالوا: إن رسول الله (ص) يصلي في السفر ركعتين ؟ فقالت: إن رسول الله (ص) كان في حرب وكان يخاف، هل تخافون أنتم ؟. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا (ص) يعمل عملا عملنا به. حدثنا علي بن سهل الرملي، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين. حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثني أبي، قال: ثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أي أصحاب رسول الله (ص) كان يتم الصلاة في السفر ؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص. وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة، قالوا: وفيها نزل. ذكر من قال ذلك:
[ 333 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * قال: يوم كان النبي (ص) وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلى النبي (ص) بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا، شك أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: * (فلتقم طائفة منهم معك) * فصلى العصر، فصف أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الاولون سجدة والآخرون قيام، ثم سجد الآخرون حين قام النبي (ص) ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصف الآخر، واستأخر الاول، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة وقصر العصر إلى ركعتين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * قال: كان النبي (ص) وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتواقفوا، فصلى النبي (ص) بأصحابه صلاة الظهر ركعتين ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (فلتقم طائفة منهم معك) * فصلى بهم صلاة العصر، فصف أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الاولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي (ص)، ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فقدم الصف الآخر واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أول مرة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله (ص) بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: كانوا على حال لو أردنا لاصبنا غرة، لاصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاح، وصفوا خلف رسو ل الله (ص) مستقبلي القبلة والمشركون مستقبلهم، فكبر رسول الله (ص) وكبروا جميعا، ثم ركع
[ 334 ]
وركعوا جميعا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء. ثم نكص الصف الذي يليه وتقدم الآخرون فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله (ص) فركعوا جميعا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم، سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووا معه، فقعدوا جميعا، ثم سلم عليهم جميعا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان النحوي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي. وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول الله (ص) بعسفان، ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري، أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة، أي يوم أنزل ؟ أو أي يوم هو ؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل من القوم إلى رسول الله (ص) فقال: يا محمد ! قال: نعم، قال: هل تخافني ؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني ؟ قال: الله يمنعني منك. قال: فسل السيف ثم هدده وأوعده. ثم نادى بالرحيل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله (ص) بطائفة من القوم، وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم، فكانت للنبي (ص) أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح. وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الاقامة. قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال
[ 335 ]
الخوف ركعتان تمام غير قصر، كما أن صلاة الاقامة أربع ركعات في حال الاقامة، قالوا: فقصرت في السفر في حال الامن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمام في السفر، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الامن فيه، فجعلت على النصف ركعة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا) *... إلى قوله: * (عدوا مبينا) * إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحل إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة، يقوم الامام، ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدو، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتى الطائفة الاخرى، فتصلى مع الامام ركعة أخرى، ثم يجلس الامام فيسلم، فيقومون فيصلون لانفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الامام، فيكون للامام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول الله: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *... إلى قوله: * (وخذوا حذركم) *. حدثني أحمد بن الوليد القرشي، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك الحنفي، قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة ؟ قال: يصلي الامام بطائفة ركعة، ثم يجئ هؤلاء مكان هؤلاء ويجئ هؤلا مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للامام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير، قال: كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين ؟ إنما هي ركعة. حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية، قال: ثنا المسعودي، قال: ثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله، قال: صلاة الخوف ركعة.
[ 336 ]
حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، قال: ثني بكر بن سوادة أن زياد بن نافع حدثه، عن كعب - وكان من أصحاب رسول الله (ص) قطعت يده يوم اليمامة: أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان. واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الاسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم يحفظ صلاة رسول الله (ص) في الخوف ؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفا وصف موازي العدو، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان، عن الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان، قال: سألت زيد بن ثابت عنه، فحدثني بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاشعث، عن الاسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثني يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين: صفا خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.
[ 337 ]
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق الازرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صحير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الاخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الاخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الاخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا يعقوب بن ماهان، قال: ثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الاخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله (ص) صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله (ص) ركعة وسجدتين ثم سلم، فكانت للنبي (ص) ركعتين ولهم ركعة. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة، حدثه عن زيادة بن نافع، حدثه عن أبي موسى، أن جابر بن عبد الله حدثهم: أن رسول الله (ص) صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين. حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا سعيد بن عبيد الهنائي، قال: ثنا عبد الله بن شقيق، قال: ثنا أبو هريرة: أن رسول الله (ص) نزل بين
[ 338 ]
ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلة واحدة ! وإن جبريل أتى النبي (ص) وأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بعضهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الاخرى فيصلوا معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله (ص)، ولرسول الله (ص) ركعتين. وقال آخرون: عنى به القصر في السفر، إلا أنه عنى به القصر في شدة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله: * (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) *. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وإذا ضربتم في الارض) *... الآية، قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: عنى بالقصر فيها القصر من حدودها، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: * (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * لدلالة قول الله تعالى: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * على أن ذلك كذلك، لان إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.
[ 339 ]
فإن ظن ظان أن ذلك أمر من الله باتمام عددها الواجب عليه في حال الامن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الاربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الامة مجمعة من أن المسافر لا يستحق أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأن وزال الخوف، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها على ما بينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الارض من أصحابك يا محمد الخائفين عدوهم أن يفتنهم، * (فأقمت لهم الصلاة) * يقول: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها، * (فلتقم طائفة منهم معك) * يعني: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك، وليكن سائرهم في وجوه العدو. وترك ذكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلية مع النبي (ص) أن يفعله لدلالة الكلام المذكور على المراد به والاستغناء بما ذكر عما ترك ذكره. * (وليأخذوا أسلحتهم) *.
[ 340 ]
واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح، فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع رسول الله (ص)، قال: ومعنى الكلام: * (وليأخذوا) * يقول: ولتأخذ الطائفة المصلية معك من طوائفهم * (أسلحتهم) *، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم كالسيف يتقلده أحدهم والسكين والخنجر يشده إلى درعه وثيابه التي هي عليه ونحو ذلك من سلاحه. وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم، الطائفة التي كانت بازاء العدو ودون المصلية مع رسول الله (ص)، وذلك قول ابن عباس. حدثني بذلك المثنى، قال: ثنا أبو صالح، ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فإذا سجدوا) * يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلي بصلاتك، ففرغت من سجودها. * (فليكونوا من ورائكم) * يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدو في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصل معك ولم تدخل معك في صلاتك. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) * فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلوا ففرغوا من صلاتهم فليكونوا من ورائكم. ثم اختلف أهل هذه المقالة، فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الامام ركعة، سلمت وانصرفت من صلاتها حتى تأتي مقام أصحابها بازاء العدو ولا قضاء عليها، وهم الذين قالوا: عنى الله بقوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) *: أن تجعلوها إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم ركعة. ورووا عن النبي (ص) أنه صلى بطائفة صلاة الخوف ركعة ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه. وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة التي أمرها الله بالقيام مع نبيها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو إذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي (ص) على ما أمرها به في كتابه أن تقوم في مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله (ص)،
[ 341 ]
فتصلى لانفسها بقية صلاتها وتسلم، وتأتي مصاف أصحابها، وكان على النبي (ص) أن يثبت قائما في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلت معه الركعة الاولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلت معه مما يجوز قصر عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصاف أصحابها، وتأتي الطائفة الاخرى التي كانت مصافة عدوها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها. ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون، فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبي (ص) إذا فرغ من ركعتيه ورفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الاولى لاشتغالها بعدوها أن تقوم فتقضى ركعتها الفائتة مع النبي (ص)، وعلى النبي (ص) انتظارها قاعدا في تشهده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم. وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الاولى إذا قعد النبي (ص) للتشهد أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده، فإذا فرغ النبي (ص) من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ، فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائل من الذين ذكرنا قولهم روى عن رسول الله (ص) أخبارا كما قال فعل. ذكر من قال: انتظر النبي (ص) الطائفتين حتى قضت صلاتهما ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي (ص) صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفت مع رسول الله (ص) وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما فأتموا لانفسهم، ثم جاءت الطائفة الاخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسا، فأتموا لانفسهم، ثم سلم بهم.
[ 342 ]
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، قال: صلى النبي (ص) بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدم وتخلف الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن رسول الله (ص) أنه قال في صلاة الخوف: تقوم طائفة بين يدي الامام وطائفة خلفه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم، ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين ثم يسلم. ذكر من قال: كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي (ص) حتى يفرغ النبي (ص) من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليها بعد: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم، قال: ثني صالح بن خوات بن جبير أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف أن يقوم الامام إلى القبلة يصلي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدو فيصلي، فيركع الامام بالذين معه، ويسجد ثم يقوم، فإذا استوى قائما ركع الذين وراءه لانفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا والامام قائم فقاموا إزاء العدو، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الامام، فركع بهم الامام وسجد ثم سلم، فقاموا فركعوا لانفسهم ركعة وسجدتين ثم سلموا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن
[ 343 ]
القاسم بن محمد أن صالح بن خوات أخبره عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وسأله، قال: ثنا يحيى بن سعيد الانصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، قال: يقوم الامام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لانفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك ويجئ أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين. قال بندار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي (ص) بمثل حديث يحيى بن سعيد، وقال لي: اكتبه إلى جنبه، فلست أحفظه، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد. حدثنا نصر بن علي، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا عبيد الله، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات: أن الامام يقوم فيصف صفين، طائفة مواجهة العدو، وطائفة خلف الامام، فيصلي الامام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لانفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفون، ويجئ الآخرون فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم فيقومون، فيصلون لانفسهم ركعة. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات، عن رجل من أصحاب النبي (ص) أنه قال: صلاة الخوف أن تقوم طائفة من خلف الامام، وطائفة يلون العدو، فيصلي الامام بالذين خلفه ركعة، ويقوم قائما فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم، ويجئ أصحابهم والامام قائم، فيصلي بهم ركعة فيسلم، ثم يقومون فيصلون
[ 344 ]
إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون. قال عبيد الله: فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئا هو أحسن عندي من هذا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) * فهذا عند الصلاة في الخوف يقوم الامام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم، ويقفون بازاء العدو، فيصلي الامام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم فيصلون لانفسهم الركعة الثانية والامام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم، فيقفون موقفهم، ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الامام الركعة الثانية، ثم يسلم فيقوم القوم فيصلون لانفسهم الركعة الثانية، فهكذا صلى رسول الله (ص) يوم بطن نخلة. وقال آخرون: بل تأويل قوله: * (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) * فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي (ص) حين دخل في صلاته، فدخلت معه في صلاته السجدة الثانية من ركعتها الاولى فليكونوا من ورائكم، يعني: من ورائك يا محمد ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي (ص)، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بازاء العدو وعليها بقية صلاتها. قالوا: وكانت تأتي الطائفة الاخرى التي كانت بازاء العدو حتى تدخل مع النبي (ص) في بقية صلاته، فيصلي بهم النبي (ص) الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عز ذكره: * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) *. ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان يبقى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها بعد فراغ النبي (ص) من صلاته وسلامه من صلاته على قول قائلي هذه المقالة ومتأولي هذا التأويل، فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبي (ص) الركعة الثانية من صلاتها إذا سلم النبي (ص) من صلاته فقامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي (ص) في مقامها بعد فراغ النبي (ص) من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبي (ص) الركعة الاولى بإزاء العدو بعد لم تتم صلاتها، فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع
[ 345 ]
النبي (ص) مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الاولى التي صلت مع رسول الله (ص) الركعة الاولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله (ص) فقضت بقية صلاتها. ذكر الرواية بذلك: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خصيف، قال: ثنا أبو عبيدة بن عبد الله، قال: قال عبد الله: صلى بنا رسول الله (ص) صلاة الخوف فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء - أو مستقبلي العدو. فصلى النبي (ص) بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم، وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي (ص)، فصلى بهم رسول الله (ص) ركعة، ثم سلم رسول الله، ثم قام هؤلاء فصلوا لانفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أصحابهم مستقبلي العدو، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لانفسهم ركعة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله (ص) صلاة الخوف، فذكر نحوه. حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن النبي (ص)، نحوه. وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلت مع رسول الله (ص) الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يسلم رسول الله (ص) من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقف أصحابها الذين صلوا مع رسول الله (ص) الركعة الاولى، وتجئ الطائفة الاولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الاولى مع رسول الله فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها، فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة. وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة، فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هنالك وسلمت مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وأقبلت الطائفة التي صلت مع رسول الله (ص) الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله (ص) الركعة الثانية من
[ 346 ]
صلاة رسول الله (ص)، فقضت الركعة الثانية من صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت انصرفت إلى أصحابها. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف، قال: يصف صفا خلفه وصفا بازاء العدو في غير مصلاه، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك الذين بازاء العدو فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم عليهم، وقد صلى هو ركعتين، وصلى كل صف ركعة، ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو، فقاموا مقامهم، وجاءوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بازاء العدو، وجاء أولئك فصلوا ركعة. قال سفيان: فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، وحدثني علي، قال: ثنا زيد جميعا، عن سفيان، قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه. حدثني الحرث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن عمر بن الخطاب، مثل ذلك. وقال آخرون: بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها من غير تضييع منهم بعضها. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: ثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الاشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها، قال: فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس، فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة وخلفهم الآخرون، فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقامت كل طائفة فصلت ركعة. حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي موسى، بنحوه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير، قالا: صلى أبو موسى الاشعري بأصحابه بأصبهان، وما بهم يومئذ خوف، ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم، فصفهم صفين، صفا خلفه وصفا مواجهة العدو مقبلين على عدوهم، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم، وجاء أولئك فصفهم خلفه، فصلى بهم ركعة، ثم سلم فقضى هؤلاء ركعة
[ 347 ]
وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فكانت للامام ركعتين في جماعة ولهم ركعة ركعة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى مثله. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في صلاة الخوف: يصلي طائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس، ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم، ثم يجئ أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. حدثنا نصر بن علي، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه. حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا ابن عياش، قال: ثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله (ص) أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان يحدث: أنه صلى مع رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عبد الاعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر عن النبي (ص)، بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبي (ص) في صلاة الخوف: يقوم الامير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو ثم ذكر نحوه. حدثنا محمد بن هارون الحربي، قال: ثنا أبو المغيرة الحمصي، قال: ثنا الاوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي (ص) صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه.
[ 348 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *... إلى قوله: * (فليصلوا معك) * فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح فيقبلون على العدو، والطائفة الاخرى يصلون مع الامام ركعة ثم يأخذون أسلحتهم، فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الامام ركعة فيكون للامام ركعتان ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى، وهذا تمام الصلاة. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف، والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي (ص) صلاة الخوف، إذ كان العدو بين الامام والقبلة. ذكر الاخبار المنقولة بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله (ص) في غزاة، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم، قال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها ! فأنزل الله عزوجل على نبيه عليه الصلاة والسلام: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *... إلى آخر الآية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول الله (ص) العصر وكانوا قبالته في القبلة فجعل المسلمين خلفه صفين فكبر رسول الله (ص) فكبروا جميعا، ثم ركع وركعوا معه جميعا، فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خفلهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله (ص) من سجوده وقام، سجد الصف الثاني، ثم قاموا وتأخر الذين يلون رسول الله (ص) وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله (ص)، فلما ركع ركعوا معه جميعا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله (ص) من سجوده، وقعد الذين يلونه سجد الصف المؤخر ثم قعدوا، فتشهدوا مع رسول الله (ص) جميعا، فلما سلم رسول الله (ص) سلم عليهم جميعا، فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردنا !
[ 349 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمر بن ذر، قال: ثني مجاهد، قال: كان النبي (ص) بعسفان، والمشركون بضجنان، بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبي (ص) الظهر فرأوه سجد وسجد الناس، قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه ! فحذره الله ذلك، فقام النبي (ص) في الصلاة، فكبر وكبر الناس معه، فذكر نحوه. حدثني عمران بن بكار، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا ابن عياش، قال: أخبرني عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت مع رسول الله (ص)، فلقينا المشركين بنخل، فكانوا بيننا وبين القبلة، فلما حضرت الظهر صلى بنا رسول الله (ص) ونحن جميع، فلما فرغنا تذامر المشركون فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون، فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن هي أحب إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم ! قال: فجاء جبريل إلى رسول الله (ص) بالخبر وعلمه كيف يصلي، فلما حضرت العصر قام نبي الله (ص) مما يلي العدو، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعا، ثم ذكر نحوه. حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله (ص) بنحوه. حدثنا مؤمل بن هشام، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله (ص)، فذكر نحوه. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله (ص) بعسفان، فصلي بنا رسول الله (ص) صلاة الظهر وعلى المشركين خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غر ! ولقد أصبنا منهم غفلة ! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسول الله (ص) صلاة العصر، يعني فرقتين: فرقة تصلى مع النبي (ص)، وفرقة تصلى خلفهم يحرسونهم، ثم كبر فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد بالذين يلون رسول الله (ص)، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعا، ثم سجد بالذين
[ 350 ]
يلونه حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم تقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم. قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، ورووا هذه الرواية: وإذا كنت يا محمد فيهم، يعني في أصحابك خائفا، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، يعني ممن دخل معك في صلاتك، * (فإذا سجدوا) *، يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رأوسها من سجودها * (فليكونوا من ورائكم) * يقول: فليصر من خلفك، خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك. * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) * يعني الطائفة الحارسة التي صلت معه غير أنها لم تسجد بسجوده، فمعنى قوله: * (لم يصلوا) * على مذهب هؤلاء: لم يسجدوا بسجودك: * (فليصلوا معك) * يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الاولى. * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * يعني الحارسة. وأولى الاقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها، * (فليكونوا من ورائكم) * يعني من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصل معك الركعة الاولى بإزاء العدو بعد فراغها من بقية صلاتها، * (ولتأت طائفة أخرى) * وهي الطائفة التي كانت بازاء العدو لم يصلوا، يقول: لم يصلوا معك الركعة الاولى * (فليصلوا معك) * يقول: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك. * (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) * لقتال عدوهم بعد ما يفرغون من صلاتهم، وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله (ص) أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لان الله عز ذكره قال: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * وقد دللنا على أن إقامتها إتمامها بركوعها وسجودها، ودللنا مع ذلك على أن قوله: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * إنما هو إذن بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف. فإذا صح ذلك كان بينا أن لا وجه
[ 351 ]
لتأويل من تأول ذلك أن الطائفة الاولى إذا سجدت مع الامام فقد انقضت صلاتها، لقوله: * (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) * لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرت قبل، ولانه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلها عنى به القصر من عدد الركعات. وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال: أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة على نحو صلاة النبي (ص) بعسفان أبعد، وذلك أن الله جل ثناؤه يقول: * (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) * وكلتا الطائفتين قد كانت صلت مع النبي (ص) ركعته الاولى في صلاته بعسفان، ومحال أن تكون التي صلت مع النبي (ص) هي التي لم تصل معه. فإن ظن ظان أنه أريد بقوله: * (لم يصلوا) *: لم يسجدوا، فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني الصلاة، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الاظهر والاشهر من وجوههما ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية أمر من الله عز ذكره للطائفة الاولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الامام من بقية صلاته، ولا على المسلمين الذين بازاء العدو في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر، لم يكن لامرها بتأخير ذلك وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها معنى. غير أن الامر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الائمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله (ص) أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة لصحة الاخبار بكل ذلك عن رسول الله (ص)، وأنه من الامور التي علم رسول الله (ص) أمته ثم أباح لهم العمل بأي ذلك شاءوا. وأما قوله: * (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم) * فإنه يعني: تمنى الذين كفروا بالله، لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. * (فيميلون عليكم ميلة واحدة) * يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم جملة واحدة، فيصيبون منكم غرة بذلك فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم. يقول جل ثناؤه: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم ولكن أقيموا الصلاة على ما بينت لكم، وخذوا من عدوكم حذركم وأسلحتكم.
[ 352 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولا جناح عليكم) * ولا حرج عليكم ولا إثم، * (إن كان بكم أذى من مطر) * يقول: إن نالكم من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوكم. * (أو كنتم مرضى) * يقول: جرحى أو أعلاء. * (أن تضعوا أسلحتكم) * إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوكم حذركم، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارون. * (إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * يعني بذلك: أعد لهم عذابا مذلا يبقون فيه أبدا لا يخرجون منه، وذلك هو عذاب جهنم. وقد ذكر أن قوله: * (أو كنتم مرضى) * نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحا. ذكر من قال ذلك: حدثنا العباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى) * عبد الرحمن بن عوف كان جريحا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم، وأنتم مواقفو عدوكم التي بيناها لكم، فاذكروا الله على كل أحوالكم قياما وقعودا، ومضطجعين على جنوبكم بالتعظيم له، والدعاء لانفسكم بالظفر على عدوكم، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *. وكما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: * (فاذكروا الله قياما) * يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة
[ 353 ]
إلا جعل لها جزاءا معلوما. ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وأما قوله: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله: * (فإذا اطمأننتم) *: فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم، * (فأقيموا) * يعني: فأتموا * (الصلاة) * التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الارض. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله: * (فإذا اطمأننتم) * قال: الخروج من دار السفر إلى دار الاقامة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (فإذا اطمأننتم) * يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم فأتموا الصلاة. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة، أي فأتموا حدودها بركوعها وسجودها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإذا اطمأننتم) * قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * قال: فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة لا تصلها راكبا ولا ماشيا ولا قاعدا. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * قال: أتموها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم أيها المؤمنون واطمأنت أنفسكم بالامن، فأقيموا الصلاة، فأتموها بحدودها المفروضة عليكم، غير قاصريها عن شئ من حدودها.
[ 354 ]
وأنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لان الله تعالى ذكره عرف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين: إحداهما شدة حال خوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام، والاخرى حال غير شدة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها، وإتمامها على ما وصفه لهم جل ثناؤه من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضا من عدوهم وهي حالة لا قصر فيها، لانه يقول جل ثناؤه لنبيه (ص) في هذه الحال: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. فمعلوم بذلك أن قوله: * (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحالة التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم فأقيموها، وتلك حالة شدة الخوف، لانه قد أمرهم باقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: فريضة مفروضة. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، قال: ثني علي عن ابن عباس: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: مفروضا، الموقوت: المفروض. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أما كتابا موقوتا: فمفروضا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد: * (كتابا موقوتا) * قال: مفروضا. وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا واجبا. ذكر من قال ذلك:
[ 355 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: كتابا واجبا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (كتابا موقوتا) * قال: واجبا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن معمر بن هشام، عن أبي جعفر في قوله: * (كتابا موقوتا) * قال: موجبا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * والموقوت: الواجب. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا معمر بن يحيى، قال: سمعت أبا جعفر يقول: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: وجوبها. وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا منجما يؤدونها في أنجمها. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * قال: منجما، كلما مضى نجم جاء نجم آخر، يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر.
[ 356 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم بمثله. قال أبو جعفر: وهذه الاقوال قريب معنى بعضها من بعض، لان ما كان مفروضا فواجب، وما كان واجبا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم. غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة قول من قال: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا منجما، لان الموقوت إنما هو مفعول من قول القائل: وقت الله عليك فرضه فهو يقته، ففرضه عليك موقوت، إذا أخبر أنه جعل له وقتا يجب عليك أداؤه. فكذلك معنى قوله: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * إنما هو كانت على المؤمنين فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه، فبين ذلك لهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تهنوا في ابتغآء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولا تهنوا) *: ولا تضعفوا، من قولهم: وهن فلان في هذا الامر يهن وهنا ووهونا. وقوله: * (في ابتغاء القوم) *: يعني في التماس القوم وطلبهم، والقوم هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله * (إن تكونوا تألمون) * يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون تيجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا. * (فإنهم يألمون كما تألمون) * يقول: فإن المشركين ييجعون مما ينالهم منكم من الجراح والاذى، مثل ما تيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها. * (وترجون) * أنتم أيها المؤمنون * (من الله) * من الثواب على ما ينالكم منهم، * (ما لا يرجون) * هم على ما ينالهم منكم. يقول: فأنتم إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم بما هم به مكذبون، وأولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما يهنون هم فيه ولا يجدون، فكيف على ما جدوا فيه ولم يهنوا ؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون) * منهم، * (فإنهم يألمون كما تألمون) * يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله من الاجر والثواب ما لا يرجون.
[ 357 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) * قال: يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون من الجراحات، فإنهم ييجعون كما تيجعون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) *: لا تضعفوا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ولا تهنوا) * يقول: لا تضعفوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) * قال: يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم، * (إن تكونوا تألمون) * القتال، * (فإنهم يألمون كما تألمون) * قال: وهذا قبل أن تصيبهم الجراح إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه فإنهم يألمون كما تألمون، * (وترجون من الله ما لا يرجون) * يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم مكان القتال. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (إن تكونوا تألمون) *: توجعون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (إن تكونوا تألمون) * قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون كما توجعون. * (وترجون) * أنتم من الثواب فيما يصيبكم * (ما لا يرجون) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي (ص) الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد لا جرح إلا بجرح، الحرب سجال، يوم لنا ويوم لكم ! فقال رسول الله (ص) لاصحابه: أجيبوه ! فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: عزى لنا ولا عزى لكم. فقال رسول الله (ص): قولواله: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: أعل هبل ! أعل هبل ! فقال رسو الله (ص): قولوا له: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: موعدنا
[ 358 ]
وموعدكم بدر الصغرى. ونام المسلمون وبهم الكلوم. قال عكرمة: وفيها أنزلت: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس) *، وفيهم أنزلت: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) *. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) * قال: ييجعون كما تيجعون. وقد ذكرنا عن بعضهم أنه كان يتأول قوله: * (وترجون من الله ما لا يرجون) *: وتخافون من الله ما لا يخافون، من قول الله: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * بمعنى: لا يخافون أيام الله. وغير معروف صرف الرجاء إلى معنى الخوف في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جل ثناؤه: * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر الهذلي: لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أسبعة لاقت معا أم واحدا وكما قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
[ 359 ]
وهي فيما بلغنا لغة أهل الحجاز، يقولونها بمعنى: ما أبالي وما أحفل. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكان الله عليما حكيما) *: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله عليما بمصالح خلقه، حكيما في تدبيره وتقديره، ومن علمه أيها المؤمنون بمصالحكم عرفكم عند حضور صلاتكم، وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم ومن حكمته بصركم بما فيه تأييدكم، وتوهين كيد عدوكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمائ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) *: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني القرآن، * (لتحكم بين الناس) * لتقضي بين الناس، فتفصل بينهما * (بما أراك الله) * يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه. * (ولا تكن للخائنين خصيما) * يقول: ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، خصيما تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه. * (واستغفر الله) * يا محمد وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان ما لا لغيره. * (إن الله كان غفورا رحيما) * يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها، إذا استغفروه منها، رحيما بهم، فافعل ذلك أنت يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. وقد قيل إن النبي (ص) لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هم به من ذلك. وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جل ثناؤه نبيه (ص) في خصومته عنهم بنو أبيرق.
[ 360 ]
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه الله بها، فقال بعضهم: كانت سرقة سرقها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) *... إلى قوله: * (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله) * فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبي: اعذره في الناس بلسانك ! ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني، قال: ثنا محمد بن سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير مبشر، وكان بشير رجلا منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله (ص) ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله (ص) ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة أضموا وقالوا ابن الابيرق قالها قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والاسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك، ابتاع الرجل منهم، فخص به نفسه، فأما العيال: فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك،
[ 361 ]
فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فعدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا. قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ! رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ! قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها ! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله (ص) فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله (ص) فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله (ص): سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله (ص)، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله (ص) فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت !. قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله (ص) في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله (ص)، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * يعني: بني أبيرق، * (واستغفر الله) * أي مما قلت لقتادة، * (إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين
[ 362 ]
يختانون أنفسهم) * أي بني أبيرق * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس) *... إلى قوله: * (ثم يستغفر الله، يجد الله غفورا رحيما) *: أي أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم، * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * قولهم للبيد: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك) * يعني أسيرا وأصحابه. * (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) *... إلى قوله: * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *، فلما نزل القرآن أتي رسول الله (ص) بالسلاح، فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل، فأنزل اللهفيه: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) *... إلى قوله: * (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) *. فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر. فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالابطح، ثم قالت: أهديت إلي شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) * يقول: بما أنزل الله عليك وبين لك، * (ولا تكن للخائنين خصيما) * فقرأ إلى قوله: * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *. ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما هم به نبي الله (ص) من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه (ص) وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الانصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده، ثم قذفها
[ 363 ]
على يهودي كان يغشاهم، يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى نبي الله (ص) يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله (ص) ليعذروا صاحبهم، وكان نبي الله عليه الصلاة والسلام قد هم بعذره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * إلى قوله: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) * يعني بذلك قومه، * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) *، وكان طعمة قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * وذلك أن نفرا من الانصار غزوا مع النبي (ص) في بعض غزواته، فسرقت درع لاحدهم، فأظن بها رجلا من الانصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله (ص)، فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله (ص)، فلما رأى السارق ذلك، عمد إليها فألقاها في بيت رجل برئ، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله (ص) ليلا، فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا برئ، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ! فقام رسول الله (ص) فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب، * (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *.... الآية، ثم قال للذين أتوا رسول الله (ص) ليلا: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) *.... إلى قوله: * (أم من يكون عليهم وكيلا) * يعني الذين أتوا رسول الله (ص) مستخفين بالكذب. ثم قال: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * يعني: السارق والذين يجادلون عن السارق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إنا
[ 364 ]
أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) *... الآية. قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي (ص) وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علي ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ! قال: حتى مال عليه النبي (ص) ببعض القول، فعاتبه الله عزوجل في ذلك، فقال: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله) * بما قلت لهذا اليهودي، * (إن الله كان غفورا رحيما) *. ثم أقبل على جيرانه فقال: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) * فقرأ حتى بلغ: * (أمن يكون عليهم وكيلا) *. قال: ثم عرض التوبة فقال: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) * فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه. * (وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * وإن كان مشركا. * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * فقرأ حتى بلغ إلى قوله: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) * قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له. وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتا ليسرقه، فهدمه الله عليه فقتله، فذلك قوله: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي) * فقرأ حتى بلغ: * (وساءت مصيرا) *. ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظفر. وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * جحوده وديعة كان أودعها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) * قال: أما ما أراك الله: فما أوحي الله إليك، قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، واستودعه رجل من اليهود درعا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة، فاحتفر عنها، فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته، فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف وضع الدرع ! فلما
[ 365 ]
علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليل الانصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه، فسبوه، وقال: أتخونونني ؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليل. وجادلت الانصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله (ص) فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي، فإني إن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي. فأتاه أناس من الانصار فقالوا: يا رسول الله جادل عن طعمة وأكذب اليهودي ! فهم رسول الله (ص) أن يفعل، فأنزل الله عليه: * (ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله) * مما أردت * (إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *. ثم ذكر الانصار ومجادلتهم عنه، فقال: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) * يقول: يقولون ما لا يرضى من القول، * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) *. ثم دعا إلى التوبة، فقال: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) *. ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه... ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) *. ثم ذكر الانصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله: * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * يقول: النبوة. ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة، فقال: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *. فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه. ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة، فقال: ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني ؟ ! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا، وأنزل الله فيه: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنن نوله ما تولى) *... إلى: * (وساءت مصيرا) *.
[ 366 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الانصار طعمة بن أبيرق مشربه له فيها درع، وخرج فغاب. فلما قدم الانصاري فتح مشربته فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمي بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين. فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه، فلما رأى ذلك قومه أتوا النبي (ص)، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * يعني طعمة بن أبيرق وقومه، * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا) * محمد (ص) وقوم طعمة. * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * محمد وطعمة وقومه، قال: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) *... الآية، طعمة. * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * يعني: زيد بن السمين، * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * طعمة بن أبيرق. * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) * يا محمد، * (لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) * قوم طعمة ابن أبيرق. * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * محمد (ص). * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف) * حتى تنقضي الآية للناس عامة. * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين) *... الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهري ثم السلمي حليف لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلحج. فلما أصبح أخرجوه من مكة، فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة، فعرض لهم، فقال: ابن سبيل منقطع به ! فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات. قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أنزلت في طعمة بن أبيرق، يقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخزرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، ثنا عبيد بن سلمان،
[ 367 ]
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) * يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الانصار استودع درعا فجحد صاحبها، فخونه رجال من أصحاب نبي الله (ص)، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله (ص)، وقالوا: خونوا صاحبنا وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازجر عنه ! فقام نبي الله فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه برئ وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) *... إلى قوله: * (أم من يكون عليهم وكيلا) * فبين الله خيانته. فلحق بالمشركين من أهل مكة، وارتد عن الاسلام، فنزل فيه: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) * إلى قوله: وساءت مصيرا) *. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية جحوده ما أودع، لان ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب، وتوجيه تأويل القرآن إلى الاشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ولا تجادل) * يا محمد فتخاصم * (عن الذين يختانون أنفسهم) * يعني: يخونون أنفسهم، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق، يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم. * (إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما) * يقول: إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الاثم في ذلك وغيره، مما حرمه الله عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد تقدم ذكر الرواية عنهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) * قال: اختان رجل عما له درعا، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم، فجادل عم الرجل قومه، فكان النبي (ص) عذره، ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 368 ]
(يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يستخفون من الناس) * يستخفى هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية من الناس الذي لا يقدرون لهم على شئ إلا ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه حياء منهم، وحذرا من قبيح الاحدوثة. * (ولا يستخفون من الله) * الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شئ من أعمالهم، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب، وهو أحق أن يستحيا منه من غيره، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه * (وهو معهم) * يعني: والله شاهدهم، * (إذ يبينون ما لا يرضى من القول) * يقول حين يسوون ليلا ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه، ويكذبون فيه. وقد بينا معنى التبييت في غير هذا الموضع، وأنه كل كلام أو أمر أصلح ليلا. وقد حكي عن بعض الطائيين أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للاسود بن عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل: وبيت قولي عبد المليك قاتلك الله عبدا كنودا بمعنى: بدلت قولي. وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله: يبيتون: يؤلفون. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي رزين: * (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) * قال: يؤلفون ما لا يرضى من القول. حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، قال: ثنا أبو يحيى الحماني، عن سفيان، عن الاعمش، عن أبي رزين، بنحوه.
[ 369 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن أبي رزين، مثله. قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه، وذلك أن التأليف هو التسوية والتغيير عما هو به وتحويله عن معناه إلى غيره. وقد قيل: عني بقوله، * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) *: الرهط الذين مشوا إلى رسول الله (ص) في مسألة المدافعة عن بني أبيرق والجدال عنه على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره. * (وكان الله بما يعملون محيطا) * يعني جل ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء المستخفون من الناس فيما أوتوا من جرمهم حياء منهم من تبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم محيطا محصيا، لا يخفى عليه شئ منه، حافظا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) * ها أنتم الذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في قوله: * (عنهم) * من ذكر الخائنين. * (فمن يجادل الله عنهم) * يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم يوم القيامة: أي يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم، ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحل بهم من أليم العذاب ونكال العقاب. وأما قوله: * (أمن يكون عليهم وكيلا) * فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة: أي ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة. وقد بينا معنى الوكالة فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 370 ]
(ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل ذنبا، وهو السوء، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله، * (ثم يستغفر الله) * يقول: ثم يتوب إلى الله بانابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الاعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جرمه، * (يجد الله غفورا رحيما) * يقول: يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه، رحيما به. واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) *. وقال آخرون: بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين، الذين قال الله لهم: * (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) * وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الآيات قبلها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال: قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد أتى الله بني إسرائيل خيرا. فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرا مما أتاهم، جعل الله الماء لكم طهورا، وقال: و * (الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) * وقال: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) *. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي
[ 371 ]
ثابت، قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها، فقال ابن مغفل: ما لها ؟ لها النار ! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها، ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * قال: فمسحت عينها ثم مضت. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) * قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه، وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا، ثم يستغفر الله، يجد الله غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والارض والجبال. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يأت ذنبا على عمد منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضره وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله، يقول: فلا تجادلوا أيها الذين تجادلون عن هؤلاء الخونة، فانكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يتبعون بها، فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم، ولا تخاصموا. وأما قوله: * (وكان الله عليما حكيما) * فإنه يعني: وكان الله عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها. * (حكيما) * يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه. وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثما، وهو ما لا يحل من المعصية. وإنما فرق بين الخطيئة والاثم، لان الخطيئة قد تكون من قبل العمد وغير
[ 372 ]
العمد، والاثم لا يكون إلا من العمد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما، فقال: ومن يأت خطيئة على غير عمد منه لها، أو إثما على عمد منه ثم يرم به بريئا، يعني ثم يصف ما أتى من خطئه أو إثمه الذي تعمده بريئا مما أضافه إليه ونحله إياه، * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * يقول: فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا وإثما عظيما، يعني وجرما عظيما على علم منه وعمد لما أتى من معصيته وذنبه. واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: * (بريئا) * بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البرئ من الاثم الذي كان أتاه ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل. فقال بعضهم: عنى الله عزوجل بالبرئ رجلا من المسلمين يقال له لبيد بن سهل. وقال آخرون: بل عنى رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. وممن قال كان يهوديا، ابن سيرين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين: * (ثم يرم به بريئا) * قال: يهوديا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. وقيل: * (يرم به بريئا) * بمعنى: ثم يرم بالاثم الذي أتى هذا الخائن من هو برئ مما رماه به، فالهاء في قوله به عائدة على الاثم، ولو جعلت كناية من ذكر الاثم والخطيئة كان جائزا، لان الافعال وإن اختلفت العبارات عنها فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعل. وأما قوله: * (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * فإن معناه: فقد تحمل هذا الذي رمي بما أتى من المعصية وركب من الاثم والخطيئة من هو برئ مما رماه به من ذلك بهتانا، وهو ا لفرية والكذب، وإثما مبينا، يعني وزرا مبينا، يعني أنه يبين عن أمر عمله وجراءته على ربه وتقدمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما
[ 373 ]
يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *.. يعني بقوله جل ثناؤه: * (ولولا فضل الله عليك ورحمته) * ولولا أن الله تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قبله، * (لهمت طائفة منهم) * يقول: لهمت فرقة منهم، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، * (أن يضلوك) * يقول: يزلوك عن طريق الحق، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه (ص) وشهادتهم للخائن عنده بأنه برئ مما ادعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره، إلا أنفسهم. فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسهم ؟ قيل: وجه إضلالهم أنفسهم: أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الاخذ بها فيه من سبله، وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الاثم والعدوان والامر بالتعاون على الحق، فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول الله (ص) في طلب حقه منهم، فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه، أخذا منهم في غير سبيل الله، وذلك هو إضلالهم أنفسهم، الذي وصفه الله فقال: * (وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ) * وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شئ، لان الله مثبتك ومسددك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحق في أمره وأمرهم، ففاضحه وإياهم. وقوله: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) * يقول: ومن فضل الله عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك الكتاب، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شئ، وهدى وموعظة، * (والحكمة) *: يعني وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده. * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * من خبر الاولين والآخرين، وما كان، وما هو كائن قبل، ذلك من فضل الله عليك يا محمد مذ خلقك، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته،
[ 374 ]
ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن، ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شئ من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدك عن سبيله. وهذه الآية تنبيه من الله نبيه محمدا (ص) على موضع حظه، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (لا خير في كثير من نجواهم) *: لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. * (إلا من أمر بصدقة أو معروف) * والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير. * (أو إصلاح بين الناس) * وهو الاصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الاصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الالفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به. ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك، فقال: * (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الامر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلب رضا الله بفعله ذلك، * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * يقول: فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما، ولا حد لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه. واختلف أهل العربية في معنى قوله: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة) * فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم إلا في نجوى من أمر بصدقة. كأنه عطف من على الهاء والميم التي في نجواهم. وذلك خطأ عند أهل العربية لان إلا لا تعطف على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد. وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون من في موضع خفض ونصب، وأما الخفض فعل قولك: * (لا خير في كثير من نجواهم) * إلا فيمن أمر بصدقة، فتكون النجوى على هذا التأويل هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا
[ 375 ]
هو رابعهم) * وكما قال: * (وإذ هم نجوى) *. وأما النصب، فعلى أن تجعل النجوى فعلا فيكون نصبا، لانه حينئذ يكون استثناء منقطعا، لانه من خلاف النجوى، فيكون ذلك نظير قول الشاعر: وما بالربع من أحد إلا أواري لايا ما أبينها وقد يحتمل من على هذا التأويل أن يكون رفعا، كما قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل من في موضع خفض بالرد على النجوى، وتكون النجوى بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج السكرى والجرحى والمرضى، وذلك أن ذلك أظهر معانيه، فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير
[ 376 ]
من المتناجين يا محمد من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ومن يشاقق الرسول) *: ومن يباين الرسول محمدا (ص) معاديا له، فيفارقه على العداوة له، * (من بعد ما تبين له الهدى) * يعني: من بعد ما تبين له أن رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم. * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * يقول: ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لان الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم. * (نوله ما تولى) * يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الاوثان والاصنام، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ولا تنفعه. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (نوله ما تولى) * قال: من آلهة الباطل. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * (ونصله جهنم) * يقوله: ونجعله صلى نار جهنم، يعني نحرقه بها، وقد بينا معنى الصلى فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * (وساءت مصيرا) * يقول: وساءت جهنم مصيرا: موضعا يصير إليه من صار إليه. ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الابيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الاوثان بمكة مرتدا مفارقا لرسول الله (ص) ودينه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به، * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * يقول: ويغفر ما دون الشرك
[ 377 ]
بالله من الذنوب لمن يشاء، يعني بذلك جل ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه. وكذلك حكم كل من اجترم جرما، فإلى الله أمره، إلا أن يكون جرمه شركا بالله وكفرا، فإنه ممن حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه، فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار. وقال السدي في ذلك بما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين. وأما قوله: * (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) * فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكا، فقد ذهب عن طريق الحق، وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا وزوالا شديدا. وذلك أنه باشراكه بالله في عبادته، فقد أطاع الشيطان وسلك طريقه وترك طاعة الله ومنهاج دينه، فذاك هو الضلال البعيد والخسران المبين. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *.. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى ومناة، فسماهن الله إناثا بتسمية المشركين إياهن بتسمية الاناث. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * قال: اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك بنحوه، إلا أنه قال: كلهن مؤنث. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * يقول: يسمونهم إناثا: لات، ومناة، وعزى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إن
[ 378 ]
يدعون من دونه إلا إناثا) * قال: آلهتهم: اللات، والعزى، ويساف، ونائلة، هم إناث يدعونهم من دون الله. وقرأ: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *. وقال آخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * يقول: ميتا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) *: أي إلا ميتا لا روح فيه. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * قال: والاناث: كل شئ ميت ليس فيه روح خشبة يابسة، أو حجر يابس، قال الله تعالى: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *... إلى قوله: * (فليبتكن آذان الانعام) *. وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. ذكر من قال ذلك: حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * قال: الملائكة يزعمون أنهم بنات الله. وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الاوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا، فأنزل الله ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل الله: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) *. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحراني، قال: سمعت الحسن يقول: كان لكل حي من العرب، فذكر نحوه.
[ 379 ]
وقال آخرون: الاناث في هذا الموضع: الاوثان. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهاد في قوله: * (إناثا) * قال: أوثانا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان في مصحف عائشة: إن يدعون من دونه إلا إناثا. قال أبو جعفر: روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أن يدعون من دونه إلا أثنا، بمعنى جمع وثن، فكأنه جمع وثنا وثنا، ثم قلب الواو همزة مضمومة، كما قيل: ما أحسن هذه الاجوه، بمعنى الوجوه، وكما قيل: * (وإذا الرسل أقتت) * بمعنى: وقتت. وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: إن يدعون من دونه إلا أنثا، كأنه أراد جمع الاناث، فجمعها أنثا، كما تجمع الثمار ثمرا. والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها قراءة من قرأ: * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * بمعنى جمع أنثى، لانها كذلك في مصاحف المسلمين، ولاجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك. وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله، ويسمونها بالاناث من الاسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لان الاظهر من معاني الاناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الاشهر من معانيه، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن يدعون من دونه إلا إناثا، يقول: ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه، إلا إناثا، يعني: إلا ما سموه بأسماء الاناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك. يقول جل ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الاوثان والانداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم
[ 380 ]
يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا. والاناث من كل شئ أخسه، فهم يقرون للخسيس من الاشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شئ وبيده الخلق والامر. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) *: وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الاوثان الاناث من دون الله بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا، يعني متمردا على الله في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا) * قال: تمرد على معاصي الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (لعنه الله) *: أخزاه وأقصاه وأبعده. ومعنى الكلام: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا قد لعنه الله وأبعده من كل خير. وقال: * (لاتخذن) * يعني بذلك أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه: * (لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * يعني بالمفروض: المعلوم، كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك: * (نصيبا مفروضا) * قال: معلوما. فإن قال قائل: وكيف يتخذ الشيطان من عباد الله نصيبا مفروضا ؟ قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب باغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلال والكفر، حتى يزيلهم عن منهج الطريق، فمن أجاب دعاءه واتبع ما زينه له، فهو من نصيبه المعلوم وحظه المقسوم. وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله: * (لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) * ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى أنهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله المفروض، وأنه ممن صدق عليهم ظنه. وقد دللنا على معنى اللعنة فيما مضى، فكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن آذان الانعام ولامرنهم
[ 381 ]
فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينائ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *.. يعني بقوله جل ثناؤه مخبرا عن قيل الشيطان المريد، الذي وصف صفته في هذه الآية: ولاضلهم ولاصدن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الاسلام إلى الكفر. * (ولامنينهم) * يقول: لازيغنهم بما أجعل في نفوسهم من الاماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي، والشرك بك. * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام) * يقول: ولآمرن النصيب المفروض لي من عبادك بعبادة غيرك من الاوثان والانداد، حتى ينسكوا له، ويحرموا، ويحللوا له، ويشرعوا غير الذي شرعته لهم فيتبعوني ويخالفونك. والبتك: القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البحيرة ليعلم أنها بحيرة. وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البحيرة فيستجيبون له ويعملون بها طاعة له. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فليبتكن آذان الانعام) * قال: البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام) * أما يبتكن آذان الانعام: فيشقونها فيجعلونها بحيرة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة: * (فليبتكن آذان الانعام) * قال: دين شرعه لهم إبليس كهيئة البحائر والسوائب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *.
[ 382 ]
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (فليغيرن خلق الله) * فقال بعضهم: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم باخصائهم إياها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، أنه كره الاخصاء، وقال: فيه نزلت * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس، أنه كره الاخصاء، وقال: فيه نزلت * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: هو الاخصاء، يعني قول الله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، قال: ثني رجل، عن ابن عباس، قال: إخصاء البهائم مثلة، ثم قرأ: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: من تغيير خلق الله الاخصاء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرني شبل، أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الخصاء، قال: فأمرت أبا التياح، فسأل الحسن عن خصاء الغنم، فقال: لا بأس به. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا عمي وهب بن نافع، عن القاسم بن أبي بزة، قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله: * (فليغيرن خلق الله) * فسألته، فقال: هو الخصاء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة، قال: قال لي مجاهد: سهل عنها عكرمة: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * فسألته،
[ 383 ]
فقال: الاخصاء. قال مجاهد: ماله لعنه الله ! فوالله لقد علم أنه غير الاخصاء. ثم قال: سله ! فسألته، فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * ؟ قال: لدين الله. فحدثت به مجاهدا فقال: ما له أخزاه الله ! حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن ليث، قال: قال عكرمة: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الاخصاء. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هارون النحوي، قال: ثنا مطر الوراق، قال: سئل عكرمة، عن قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: هو الاخصاء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: الاخصاء. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: منه الخصاء. حدثنا عمرو، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة أنه كره الاخصاء، قال: وفيه نزلت: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) *. وقال آخرون: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن دين الله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن وأبو أحمد، قالا: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله.
[ 384 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني قيس بن مسلم، عن إبراهيم مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا عمي، عن القاسم بن أبي بزة، قال: أخبرت مجاهدا بقوله عكرمة في قوله: * (فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هارون النحوي، قال: ثنا الوراق، قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله: * (فليغيرن خلق الله) *، فقال: كذب العبد * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد وعكرمة، قالا: دين الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي وحفص، عن ليث، عن مجاهد، قال: دين الله، ثم قرأ: * (ذلك الدين القيم) *. حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الفطرة دين الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الفطرة: الدين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدا يقول: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * أي دين الله، في قول الحسن وقتادة.
[ 385 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الاسود، عن القاسم ابن أبي بزة في قوله: * (فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: أما خلق الله: فدين الله. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله، وهو قول الله: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) * يقول: لدين الله. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله، وقرأ: * (لا تبديل لخلق الله) * قال: لدين الله. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا قيس بن مسلم، عن إبراهيم: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: دين الله. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا معاذ، قال: ثنا عمران بن حدير، عن عيسى بن هلال، قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * فكتب: إنه دين الله. وقال آخرون: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله بالوشم. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * قال: الوشم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن نوح، عن قيس، عن خالد بن قيس، عن الحسن: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الوشم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره، عن الحسن: * (فليغيرن خلق الله) * قال: الوشم.
[ 386 ]
حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو هلال الراسبي، قال: سأل رجل الحسن: ما تقول في امرأة قشرت وجهها ؟ قال: ما لها لعنها الله ! غيرت خلق الله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: لعن الله المتفلجات والمتنمصات والمستوشمات المغيرات خلق الله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لعن الله الواشرات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله، قال: لعن الله المتنمصات والمتفلجات - قال شعبة: وأحسبه قال: المغيرات خلق الله. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، قال: دين الله، وذلك لدلالة الآية الاخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) *. وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه ووشره، وغير ذلك من المعاصي، ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به، لان الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله، وينهى عن جميع طاعته، فذلك
[ 387 ]
معنى أمره نصيبه المفروض من عباد الله بتغيير ما خلق الله من دينه، ولا معنى لتوجيه من وجه قوله: * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * إلى أنه وعد الامر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض، أو بعض ما أمر به دون بعض. فإذ كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، إنما فعل ذلك لان معناه: كان عنده أنه عنى به تغيير الاجسام، فإن في قوله جل ثناؤه إخبارا عن قيل الشيطان: * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام) * ما ينبئ أن معنى ذلك غير ما ذهب إليه، لان تبتيك آذان الانعام من تغيير خلق الله، الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الامر بتغيير خلق الله من الاجسام مفسرا، فلا وجه لاعادة الخبر عنه به مجملا، إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر وبالخاص عن العام دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص، وتوجيه كتاب الله إلى الافصح من الكلام وأولى من توجيه إلى غيره ما وجد إليه السبيل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) *. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن حال نصيب الشيطان المفروض من الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى، يقول الله: ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله، وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليا لنفسه ونصيرا دون الله، * (فقد خسر خسرانا مبينا) * يقول: فقد هلك هلاكا، وبخس نفسه حظها فأوبقها بخسا مبينا يبين عن عطبه وهلاكه، لان الشيطان لا يملك له نصرا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمره، بل يخذله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيا ممهلا بالعقوبة، كما وصفه الله جل ثناؤه بقوله: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * يعني بذلك جل ثناؤه: يعد الشيطان المريد أولياءه، الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء، وظهيرا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمينهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم. ثم قال: * (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * يقول: وما يعد الشيطان أولياءه الذين أتخذوه وليا من دون الله إلا غرورا، يعني: إلا باطلا. وإنما جعل عدته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم غرورا، لانهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقته من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، حتى إذا حصحص الحق وصاروا إلى الحاجة إليه، قال لهم عدو
[ 388 ]
الله: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل) *، وكما قال للمشركين ببدر، وقد زين لهم أعمالهم: * (لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان) * وحصحص الحق، وعاين حد الامر، ونزول عذاب الله بحزبه * (نكس على عقبيه وقال إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب) *، فصارت عداته عدو الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورا * (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (أولئك) *: هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله، * (مأواهم جهنم) * يعني: مصيرهم الذي يصيرون إليه جهنم، * (ولا يجدون عنها محيصا) * يقول: لا يجدون عن جهنم إذا صيرهم الله إليها يوم القيامة، معدلا يعدلون إليه، يقال منه: حاص فلان عن هذا الامر يحيص حيصا وحيوصا: إذا عدل عنه، ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعثنا رسول الله (ص) سرية كنت فيهم، فلقينا المشركين فحصنا حيصة، وقال بعضهم: فجاضوا جيضة، والحيص والجيض متقاربا المعنى. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *: والذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا له بالوحدانية ولرسوله (ص) بالنبوة وعملوا الصالحات، يقول: وأدوا فرائض الله التي فرضها عليهم. * (سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار) * يقوله: سوف
[ 389 ]
ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله جزاء بما عملوا في الدنيا من الصالحات جنات: يعني بساتين تجري من تحتها الانهار. * (خالدين فيها أبدا) * يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها أبدا دائما. وقوله * (وعد الله حقا) * يعني: عدة من الله لهم ذلك في الدنيا حقا، يعني يقينا صادقا، لا كعدة الشيطان الكاذبة التي هي غرور من وعدها من أوليائه، ولكن عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ولا يخلف وعده. وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه لما سبق من خبره جل ثناؤه، عن قول الشيطان الذي قصه في قوله، وقال: * (لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولاضلنهم ولامنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام) * ثم قال جل ثناؤه: * (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) * ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا، وعدا منه حقا، لا كوعد الشيطان الذي وصف صفته. فوصف جل ثناؤه الوعدين والواعدين وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما تنبيها منه جل ثناؤه خلقه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والعطب، لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته، فيفوزوا بما أعد لهم في جنانه من ثوابه. ثم قال لهم جل ثناؤه: * (ومن أصدق من الله قيلا) * يقول: ومن أصدق أيها الناس من الله قيلا: أي لا أحد أصدق منه قيلا، فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا، وتكفرون به، وتخالفون أمره، وأنتم تعلمون أن لا أحد أصدق منه قيلا، وتعملون بما يأمركم به الشيطان، رجاء لادراك ما يعدكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عداته غرور لا صحة لها ولا حقيقة، وتتخذونه وليا من دون الله وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء ؟ ومعنى القيل والقول: واحد. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) *.. اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * فقال بعضهم: عني بقوله * (ليس بأمانيكم) * أهل الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: تفاخر النصارى وأهل الاسلام، فقال
[ 390 ]
هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، قال: فأنزل الله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: لما نزلت: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *. حدثني أبو السائب وابن وكيع، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فأنزل الله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال: ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *... إلى آخر الآيتين. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به) *... إلى قوله: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) * فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الاديان. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قال: التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك. فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فرد الله عليهم قولهم، فقال: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * ثم فضل الله المؤمنين عليهم، فقال: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *.
[ 391 ]
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * تخاصم أهل الاديان، فقال أهل التوراة: كتابنا أول كتاب وخيرها، ونبينا خير الانبياء. وقال أهل الانجيل نحوا من ذلك. وقال أهل الاسلام: لا دين إلا دين الاسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم. فقضى الله بينهم، فقال: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) *. ثم خير بين أهل الاديان، ففضل أهل الفضل، فقال: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) *... إلى قوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *... إلى: * (ولا نصيرا) * تحاكم أهل الاديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير من الكتب، أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الانبياء. وقال أهل الانجيل مثل ذلك. وقال أهل الاسلام: لا دين إلا الاسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * وخير بين أهل الاديان فقال: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يعلى بن عبيد وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الانجيل وأهل الايمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل. فأنزل الله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) *، ثم خص الله أهل الايمان فقال: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جلس أهل التوراة وأهل الانجيل وأهل الزبور وأهل الايمان، فتفاخروا، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وهؤلاء: نحن أفضل. فأنزل الله: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *.
[ 392 ]
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال: افتخر أهل الاديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الانبياء على الله موسى، كلمه الله قيلا، وخلا به نجيا، وديننا خير الاديان. وقالت النصارى: عيسى بن مريم خاتم الرسل، وآتاه الله التوراة والانجيل، ولو أدركه موسى لاتبعه، وديننا خير الاديان. وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الاديان وخيرها. وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين، وسيد الانبياء، والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله، وهو أمين على كل كتاب، والاسلام خير الاديان. فخير الله بينهم، فقال: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *. وقال آخرون: بل عنى الله بقوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *: أهل الشرك به من عبدة الاوثان. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال: قريش قالت: لن نبعث ولن نعذب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ليس بأمانيكم) * قال: قالت قريش: لن نبعث ولن نعذب، فأنزل الله: * (من يعمل سوءا يجز به) *. حدثني يعقوب ابن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قال: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *، أو قالوا * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) * شك أبو بشر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * قال: قريش وكعب بن الاشرف، * (من يعمل سوءا يجز به) *.
[ 393 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... إلى آخر الآية، قال: جاء حيى بن أخطب إلى المشركين، فقالوا له: يا حيي إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال: أنتم خير منه. فذلك قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... إلى قوله: * (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) *. ثم قال للمشركين: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * فقرأ حتى بلغ: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) * رسول الله (ص) وأصحابه * (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *. قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، وقرأ: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) *. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قال: قالت قريش: لن نبعث ولن نعذب. وقال آخرون: عني به أهل الكتاب خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي أسيد، قال: سمعت الضحاك يقول: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) *... الآية، قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي (ص). قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله: * (ليس بأمانيكم) * مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان المسلمين لم يجر لامانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله: * (ليس بأمانيكم) * وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله: * (ولامنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام) * وقوله: * (يعدهم ويمنيهم) * فإلحاق معنى قوله: * (ليس بأمانيكم) * بما قد جري ذكره قبل أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول (ص)، ولا أجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذن: ليس الامر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوا لله من إنقاذكم ممن أرادكم
[ 394 ]
بسوء، ونصرتكم عليه، وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوء، أو من غيركم يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. ومما يدل أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عني بقوله: * (ليس بأمانيكم) * مشركو العرب كما قال مجاهد: إن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه، وأخبر بحال وعده، ثم أتبع ذلك بصفة وعده الصادق بقوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سند خلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا) * وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، وتمنيته إياهم الاماني بقوله: * (يعدهم ويمنيهم) * كما ذكر وعده إياهم، فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عدته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك صح أن قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به) *... الآية، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضم جل ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * لان أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله: * (ولاضلنهم ولامنينهم ولآمرنهم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عنى بالسوء كل معصية لله، وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أن زياد بن الربيع سأل أبي بن كعب عن هذه الآية: * (من يعمل سوءا يجز به) * فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى ! النكبة والعود والخدش. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن هشام الدستوائي، قال: ثنا قتادة، عن
[ 395 ]
الربيع بن زياد، قال: قلت لابي بن كعب، قول الله تبارك وتعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا ! قال: والله إن كنت لاراك أفقه مما أرى ! لا يصيب رجلا خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة. حدثنا القاسم بن بشر بن معرور، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول في قوله: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: يجز به في الدنيا، قال: قلت: وما تبلغ المصيبات ؟ قال: ما تكره. وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: الكافر. ثم قرأ: * (وهل يجازى إلا الكفور) * قال: من الكفار. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل، عن حميد، عن الحسن، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو همام الاهوازي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، أنه كان يقول: * (من يعمل سوءا يجز به) * و * (وهل يجازى إلا الكفور) * يعني بذلك: الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة. حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا مبارك، عن الحسن، في قوله: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: والله ما جازى الله عبدا بالخير والشر إلا عذبه، قال: * (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * قال: أما والله لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب، إذا توبقه ذنوبه.
[ 396 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، يعني المشركين. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: إنما ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته فإنه من أهل الجنة * (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) *. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (من يعمل سوءا يجز به) * يعني بذلك: اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا. وقال آخرون: معنى السوء في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله: * (من يعمل سوءا يجز به) *: من يشرك بالله يجز بشركه ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (من يعمل سوءا يجز به) * يقول: من يشرك يجز به، وهو السوء، * (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) * إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب الله عليه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: الشرك. قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويل الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة، وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول (ص). فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره ؟ قيل: إنه لم يعد بقوله: *
[ 397 ]
(نكفر عنكم سيئاتكم) * ترك المجازاة عليها، وإنما وعد التكفير بترك الفضيحة منه لاهلها في معادهم، كما فضح أهل الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم، يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله: * (نكفر عنكم سيئاتكم) * وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار) *. وبنحو الذي قلنا في ذلك، تظاهرت الاخبار عن رسول الله (ص). ذكر الاخبار الواردة بذلك: حدثنا أبو كريب، وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني، قالوا: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: * (من يعمل سوءا يجز به) * شقت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص)، فقال: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها. حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي، قالا: ثنا يزيد بن حيان، قالا: حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، قال: ثنا محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر، قال: لما نزلت: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال: يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارته. حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، قال: ثني عبد الله بن عمر، أنه سمع أبا بكر يقول: سمعت النبي (ص) يقول من يعمل سوءا يجز به في الدنيا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي
[ 398 ]
زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبي الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ؟ فقال النبي (ص): أية آية ؟ قال: يقول الله: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * فما عملناه جزينا به ؟ فقال النبي (ص): غفر الله لك يا أبا بكر ! ألست تمرض، ألست تحزن، ألست تصيبك اللاواء ؟ قال: فهو ما تجزون به. حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي، عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال أبو بكر: كيف الصلاح ؟ ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه ألست تنكب ؟. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير، أن أبا بكر قال للنبي (ص): كيف الصلاح ؟ فذكر نحوه. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو مالك الجنبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر ابن أبي زهير الثقفي، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، فذكر نحوه، إلا أنه قال: فكل سوء عملناه جزينا به ؟ وقال أيضا: ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن، أليس تصيبك اللاواء ؟ قال: بلى. قال: هو ما تجزون به. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، قال: لما نزلت هذه الآية: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، وإنا لنجزى بكل شئ نعمله ؟ قال: يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللاواء ؟ فهذا مما تجزون به. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا ابن أبي خالد، قال: ثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر، فذكر مثل ذلك. حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن مسلم، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية: * (من يعمل سوءا يجز به) * ! قال: يا أبا بكر إن المصيبة في الدنيا جزاء.
[ 399 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا أبو عامر الخراز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت: إني لا علم أي آية في كتاب الله أشد ! فقال لي النبي (ص): أي آية ؟ فقلت: * (من يعمل سوءا يجز به) * قال: إن المؤمن ليجازى بأسوإ عمله في الدنيا، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنصب، فكان آخره أن ذكر النكبة، فقال: كل ذي عمل يجزى بعمله يا عائشة، إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب. فقلت: أليس يقول الله: * (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) * ؟ فقال: ذاك عند العرض، إنه من نوقش الحساب عذب، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت. حدثني القاسم بن بشر بن معرور، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية، قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، و * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله (ص) عنها، فقال: يا عائشة ذاك مثابة الله العبد بما يصيبه من الحمى والكبر، والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في كمه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الاحمر من الكير. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو عامر الخراز، قال: ثنا ابن أبي مليكة عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني لا علم أشد آية في القرآن، فقال: ما هي يا عائشة ؟ قلت: هي هذه الآية يا رسول الله: * (من يعمل سوءا يجز به) * فقال: هو ما يصيب العبد المؤمن، حتى النكبة ينكبها.
[ 400 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن الربيع بن صبح، عن عطاء، قال: لما نزلت * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) * قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية ! قال: يا أبا بكر إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح، قال: لما نزلت، قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله (ص): إنما هي المصيبات في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ولا يجد) * الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به، * (من دون الله) * يعني: من بعد الله وسواه، * (وليا) * يلي أمره، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله، * (ولا نصيرا) * يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحل به من عقوبة الله وأليم نكاله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: الذين قال لهم: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * يقول الله لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم، وذكور عبادي وإناثهم وهو مؤمن بي وبرسولي محمد، مصدق بوحدانيتي، ونبوة محمد (ص) وبما جاء به من عندي، لا أنتم أيها المشركون بي المكذبون رسولي، فلا تطمعوا أن تحلوا وأنتم كفار محل المؤمنين بي وتدخلوا مداخلهم في القيامة وأنتم مكذبون برسولي. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن) * قال: أبى أن يقبل الايمان إلا بالعمل الصالح، وأبى أن يقبل الاسلام إلا بالاحسان.
[ 401 ]
وأما قوله: * (ولا يظلمون نقيرا) * فإنه يعني: ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة، فيكف بما هو أعظم من ذلك وأكثر. وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عباده أن لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرا، ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم. وبالذي قلنا في معنى النقير قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: * (ولا يظلمون نقيرا) * قال: النقير: الذي يكون في ظهر النواة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عطية، قال: النقير: الذي في وسط النواة. فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول من في قوله: * (ومن يعمل من الصالحات) *، ولم يقل: ومن يعمل الصالحات ؟ قيل: لدخولها وجهان: أحدهما أن يكون الله قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الاعمال الصالحات، فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت عن عمله منها قواه. والآخر منهما أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدى الفرائض، وإن قصر في بعض الواجب له عليه، تفضلا منه على عباده المؤمنين، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الايمان به أحرى. وقد تقول قوم من أهل العربية أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف، ويتأوله: ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. وذلك عندي غير جائز، لان دخولها لمعنى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) *.. وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للاسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها، يقول الله: * (ومن أحسن دينا) * أيها الناس، وأصوب طريقا وأهدى سبيلا، * (ممن أسلم وجهه لله) * يقول: ممن استسلم وجهه لله، فانقاد له بالطاعة، مصدقا نبيه محمدا (ص) فيما جاء به من عند ربه. * (وهو محسن) * يعني: وهو عامل بما أمره به ربه، محرم حرامه،
[ 402 ]
ومحلل حلاله. * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) * يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به، حنيفا، يعني: مستقيما على منهاجه وسبيله. وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى الحنيف والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وممن قال ذلك أيضا الضحاك. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك، قال: فضل الله الاسلام على كل دين، فقال: * (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) *... إلى قوله: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وليس يقبل فيه عمل غير الاسلام، وهي الحنيفية. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم وليا. فإن قال قائل: وما معنى الخلة التي أعطيها إبراهيم ؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحب فيه، على ما يعرف من معاني الخلة. وأما من الله لابراهيم، فنصرته على من حاوله بسوء، كالذي فعل به إذا أراده نمروذ بما أراده به من الاحراق بالنار، فأنقذه منها، وأعلى حجته عليه إذ حاجه، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله، وتمكينه مما أحب، وتصييره إماما لمن بعده من عباده وقدوة لمن خلفه في طاعته وعبادته، فذلك معنى مخالته إياه. وقد قيل: سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم: من أهل مصر في امتيار طعام لاهله من قبله فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملات غرائري من هذا الرمل لئلا أغم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون ! ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا، فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فعلم، فقال: نعم هو من خليلي الله. قالوا: فسماه الله بذلك خليلا. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 403 ]
(ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم خليلا لطاعته ربه، وإخلاصه العبادة له، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، لا من حاجة به إليه وإلى خلته، وكيف يحتاج إليه وإلى خلته، وله ما في السموات وما في الارض من قليل وكثير ملكا، والمالك الذي إليه حاجة ملكه دون حاجته إليه، فكذلك حاجة إبراهيم إليه، لا حاجته إليه، فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا، ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضاي ومحبتي لاتخذكم لي أولياء. * (وكان الله بكل شئ محيطا) * ولم يزل الله محصيا لكل ما هو فاعله عباده من خير وشر، عالما بذلك، لا يخفى عليه شئ منه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ويستفتونك في النساء) * ويسألك يا محمد أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن. فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهن، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه. * (قل الله يفتيكم فيهن) * قل لهم يا محمد: الله يفتيكم فيهن، يعني في النساء. * (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) *. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) * فقال بعضهم: يعني بقوله: * (وما يتلى عليكم) * قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم، قالوا: والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض، التي في أول هذه السورة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا
[ 404 ]
يورثون المرأة، فلما كان الاسلام قال: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * في أول السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهن ما كتب الله لهن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: * (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته، في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا لا يورثون في الجاهلية النساء والصبي حتى يحتلم، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) * في أول سورة النساء من الفرائض. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كانوا في الجاهلية لا يورثون اليتيمة ولا ينكحونها ويعضلونها، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن) *... إلى آخر الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرني الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) *... الآية، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الرجل الصغير، ولا المرأة، فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء، شق ذلك على الناس، وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال ! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث، قالوا: لئن تم هذا إنه لواجب ما منه بد، ثم قالوا: سلوا ! فسألوا النبي (ص)، فأنزل الله: * (ويستفتونك في
[ 405 ]
النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * في أول السورة: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) *. قال سعيد بن جبير: وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم ينكحها. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها عن التزويج حتى تموت، فيرثوها، فأنزل الله هذا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن) * قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدمامة والامر الذي يرغب عنها فيه ولها مال، قال: فلا يتزوجها ولا يزوجها حتى تموت فيرثها، قال: فنهاهم الله عن ذلك. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: * (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * قال: كانت المرأة إذا كانت عند ولي يرغب عنها حبسها أن لم يتزوجها ولم يدع أحدا يتزوجها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) * قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا، كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيرا، ففرض الله لهن الميراث حقا واجبا، ليتنافس أو لينفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في
[ 406 ]
الكتاب) * يعني الفرائض التي افترض في أمر النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل، فيرغب أن ينكحها، أو يجامعها ولا يعطيها مالها، رجاء أن تموت فيرثها، وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا، وكان ذلك في الجاهلية، فبين الله لهم ذلك. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن) * حتى بلغ: * (وترغبون أن تنكحوهن) * فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دمامة ولها مال، فكان يرغب عنها أن يتزوجها ويحبسها لمالها، فأنزل الله فيه ما تسمعون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن) * قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة، فيرغب عنها أن ينكحها، ولا ينكحها رغبة في مالها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) *... إلى قوله: * (بالقسط) * قال: كان جابر بن عبد الله الانصاري ثم السلمي له ابنة عم عمياء، وكانت دميمة، وكانت قد ورثت عن أبيها مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي (ص) عن ذلك. وكان ناس في حجورهم جوار أيضا مثل ذلك، فجعل جابر يسأل النبي (ص)، أترث الجارية إذا كانت قبيحة عيماء ؟ فجعل النبي (ص) يقول نعم، فأنزل الله فيهن هذا. وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في آخر سورة النساء، وذلك قوله: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) *... إلى آخر السورة. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث، قال: ثنا عبد العزيز، قال: ثنا سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن حبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الولدان حتى يحتلموا، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء) * إلى قوله: * (فإن الله كان به عليما) * قال: ونزلت هذه الآية: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد) *... الآية كلها.
[ 407 ]
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، يعني في أول هذه السورة، وذلك قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبي (ص)، عن قول الله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله (ص) بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب الآية الاولى التي قال فيها: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، مثله. فعلى هذه الاقوال الثلاثة التي ذكرناها ما التي في قوله: * (وما يتلى عليكم) * في موضع خفض بمعنى العطف على الهاء والنون التي في قوله: * (يفتيكم فيهن) * فكأنهم وجهوا تأويل الآية: قل الله يفتيكم أيها الناس في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب. وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) في قوم من أصحابه سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما تركوا المسألة عنه. ذكر من قال ذلك:
[ 408 ]
حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع، قال سفيان: ثنا عبد الاعلى، وقال ابن المثنى: ثني عبد الاعلى قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى في هذه الآية: * (ويستفتونك في النساء) * قال: استفتوا نبي الله (ص) في النساء، وسكتوا عن شئ كانوا يفعلونه، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت: * (قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * قال: والمستضعفين من الولدان. قال: كانوا يورثون الاكابر ولا يورثون الاصاغر، ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه، فقال: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو أعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) *، ولفظ الحديث لابن المثنى. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الذي يتلى علينا في الكتاب الذي قال الله جل ثناؤه: * (قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم) *: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *... الآية، والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من الميراث عمن ورثنه عنه. وأولى هذه الاقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معنى قوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) *: وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أول هذه السورة وآخرها. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قبل أحد، وإذا لم يكن ذلك لها قبل أحد لم يكن مما كتب لها، وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل عني بقوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) *: الاقساط في صدقات يتامى النساء وجه، لان الله قال في سياق الآية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء أمر اليتيمة المحولة بينها وبين ما كتب الله لها، والصداق قبل عقد النكاح ليس مما كتب الله لها على أحد، فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الآية هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه. فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيد مما يدل عليه ظاهر التنزيل، وذلك
[ 409 ]
أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) * هو * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *، وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوله صار الكلام مبتدأ من قوله: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) * ترجمة بذلك عن قوله * (فيهن) * ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن، ولا دلالة في الآية على ما قاله، ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ما وجد إليه سبيل. فإذا كان الامر على ما وصفنا، فقوله: * (في يتامى النساء) * بأن يكون صلة لقوله: * (وما يتلى عليكم) * أولى من أن يكون ترجمة عن قوله: * (قل الله يفتيكم فيهن) * لقربه من قوله: * (وما يتلى عليكم في الكتاب) *، وانقطاعه عن قوله: * (يفتيكم فيهن) *. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما كتب لهن، يعني: ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (لا تؤتونهن ما كتب لهن) * قال: لا تورثونهن. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قوله: * (لا تؤتونهن ما كتب لهن) * قال: من الميراث، قال: كانوا لا يورثون النساء، وترغبون أن تنكحوهن. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (وترغبون أن تنكحوهن) * فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم. حدثنا حميد بن مسعدة السامي، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عبيد الله بن عون، عن الحسن: * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال: ترغبون عنهن. حدثنا يعقوب وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: قالت عائشة في قوله الله: * (وترغبون أن تنكحوهن) *: رغبة
[ 410 ]
أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، يعني ابن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، عن ابن شهاب، قال: قال عروة، قالت عائشة، فذكر مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا ابن عون عن محمد، عن عبيدة: * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال: وترغبون فيهن. حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: قلت لعبيدة: * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال: ترغبون فيهن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه. قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: وترغبون عن أن تنكحوهن، لان حبسهم أموالهن عنهن، مع عضلهم إياهن إنما كان ليرثوا أموالهن دون زوج إن تزوجن. ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن إنما حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن، لم يكن للحبس عنهن وجه معروف، لانهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه. القول في تأويل قوله: * (والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وقد ذكرنا
[ 411 ]
الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذي أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لانهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (والمستضعفين من الولدان) * كانوا لا يورثون جارية ولا غلاما صغيرا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. والقسط: أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن) * قال: لا تورثونهن مالا، * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث، ونسخت المواريث ذلك الاول. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * أمروا لليتامى بالقسط: بالعدل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: * (والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * قال: كانوا لا يورثون إلا الاكبر فالاكبر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (والمستضعفين من الولدان) * فكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله: * (لا تؤتونهن ما كتب لهن) * فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: * (للذكر مثل حظ الانثيين) * صغيرا كان أو كبيرا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن
[ 412 ]
أبيه، عن ابن عباس، قال: * (والمستضعفين من الولدان، وأن تقوموا لليتامى بالقسط) * وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف، شيئا، فأمر الله أن يعطيه نصيبه من الميراث. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك ! وإذا كانت بها حدثنا القاسم، قال: ثنا دمامة ولا مال لها، قال: تزوجها فأنت أحق بها ! الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: يا أمير المؤمنين ما أمري، وما أمر يتيمتي ؟ قال: في أي بالكما ؟ قال: ثم قال علي: أمتزوجها أنت غنية جميلة ؟ قال: نعم والاله ! قال: فتزوجها دميمة لا مال لها ! ثم قال علي: تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير. قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامي بالقسط كان العدل فيما أمر الله فيهم. القول في تأويل قوله: * (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ومهما يكن منكم أيها المؤمنون من عدل في أموال اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك، وفي غيره، وإلى طاعته، فإن الله كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم، وهو محص ذلك كله عليكم، حافظ له حتى يجازيكم به جزاءكم يوم القيامة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الانفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (وإن امرأة خافت من بعلها) * يقول: علمت من زوجها * (نشوزا) * يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أثرة عليها، وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة،
[ 413 ]
وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها. * (أو إعراضا) * يعني: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه، التي كانت لها منه * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * يقول فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها، أن يصلحا بينهما صلحا، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح، يقول: * (والصلح خير) * يعني: والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة، وتماسكا بعقد النكاح، خير من طلب الفرقة والطلاق. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الاحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا أتى عليا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا، فقال: قد تكون المرأة عند الرجل، فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو فقرها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها شيئا فلا حرج. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن خالد، عن عرعرة، قال: سئل علي رضي الله عنه: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * قال: المرأة الكبيرة أو الدميمة أو لا يحبها زوجها فيصطلحان. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الاحوص، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا سأل عليا رضي الله عنه عن قوله: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * قال: تكون المرأة عند الرجل دميمة فتنبو عينه من دمامتها أو كبرها، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئا فليس عليه جناح. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: جاء رجل إلى عمر، فسأله عن آية، فكره ذلك وضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * فقال: عن مثل هذا فسلوا ! ثم قال:
[ 414 ]
هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شئ فهو جائز. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوج عليها، فيتصالحا بينهما صلحا، عن أن لها يوما ولهذه يومان أو ثلاثة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال: حتى تلد أو تكبر، وقال أيضا: فلا جناح عليهما أن يصالحا على ليلة، والاخرى ليلتين. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: ثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت، فيريد أن يستبدل بها فتكره أن تفارقه، فيتزوج عليها، فيصالحا على أن يجعل لها أياما، وللاخرى الايام والشهر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يفارقها، فتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوج، فيقول: إني لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها، فتصالحه على أن يكون لها في الايام يوم، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا عليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) * قالت هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون يستكثر منها، ولا يكون لها ولد ولها صحبة، فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو
[ 415 ]
إعراضا) * قال: هذا الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد عجزت، أو هي دميمة لا يستكثر منها، فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بنحوه، غير أنه قال: فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * فتلك المرأة تكون عند الرجل لا يرى منها كثير ما يحب، وله امرأة غيرها أحب إليه منها، فيؤثرها عليها، فأمره الله إذا كان ذلك أن يقول لها: يا هذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الاثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي، وإن كرهت خليت سبيلك. فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيرها فلا جناح عليه، وهو قوله: * (والصلح خير) * وهو التخيير. حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر، قالا: ثنا ابن وهب، قال: ثني ابن أبي الزناد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أنزل الله هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن، فتجعل يومها لامرأة أخرى، قالت: ففي ذلك أنزلت: * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) *. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قول الله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: هي المرأة تكون مع زوجها، فيريد أن يتزوج عليها فتصالحه من يومها على صلح. قال: فهما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت به فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول ذلك. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن مجاهد أنه كان يقول ذلك. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن
[ 416 ]
عبيدة في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *... إلى آخر الآية، قال: يصالحها على ما رضيت دون حقها، فله ذلك ما رضيت، فإذا أنكرت أو قالت: غرت، فلها أن يعدل عليها أو يرضيها أو يطلقها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد، قال: سألت عبيدة عن قول الله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: هو الرجل تكون له امرأة قد خلا من سنها، فتصالحه عن حقها على شئ، فهو له ما رضيت، فإذا كرهت، فلها أن يعدل عليها أو يرضيها من حقها، أو يطلقها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) * فذكر نحو ذلك، إلا أنه قال: فإن سخطت فله أن يرضيها، أو يوفيها حقها كله، أو يطلقها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: قال إبراهيم: إذا شاءت كانت على حقها، وإن شاءت أبت، فردت الصلح فذاك بيدها، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها على حقها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما) * قال: قال علي: تكون المرأة عند الرجل الزمان الكثير، فتخاف أن يطلقها، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت، يبيت عندها في كذا وكذا ليلة، وعند أخرى ما تراضيا عليه، وأن تكون نفقتها دون ما كانت، وما صالحته عليه من شئ فهو جائز. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن عبد الملك، عن أبيه، عن الحكم: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يخلي سبيلها، فإذا خافت ذلك منه فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، تدع من أيامها إذا تزوج. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *... إلى قوله: *
[ 417 ]
(والصلح خير) * هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فينكح عليها المرأة الشابة، فيكره أن يفارق أم ولده، فيصالحها على عطية من ماله ونفسه، فيطيب له ذلك الصلح. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * فقرأ حتى بلغ * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خلا من سنها وهان عليه بعض أمرها، فيقول: إن كنت راضية من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضين به قبل اليوم، فإن اصطلحا من ذلك على أمر الله فقد أحل لهما ذلك، وإن أبت فإنه لا يصلح له أن يحبسها على الخسف. حدثت عن الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أن رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت امرأته الاولى أن تقيم على ذلك، فطلقها تطليقة، حتى إذا بقي من أجلها يسير، قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك. قالت: بل راجعني وأصبر على الاثرة ! فراجعها. ثم آثر عليها فلم تصبر على الاثرة فطلقها أخرى، وآثر عليها الشابة. قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) *. قال الحسن: قال عبد الرزاق: قال معمر: وأخبرني أيوب عن ابن سيرين، عن عبيدة بمثل حديث الزهري، وزاد فيه، فإن أضر بها الثالثة فإن عليه أن يوفيها حقها، أو يطلقها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: قول الرجل لامرأته: أنت كبيرة، وأنا أريد أن أستبدل امرأة شابة وضيئة، فقري على ولدك، فلا أقسم لك من نفسي شيئا. فذلك الصلح بينهما، وهو أبو السنابل بن بعكك.
[ 418 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: * (من بعلها نشوزا أو إعراضا) * ثم ذكر نحوه، قال شبل: فقلت له: فإن كانت لك امرأة فتقسم لها، ولم تقسم لهذه ؟ قال: إذا صالحته على ذلك فليس عليه شئ. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جبار، قال: سألت عامرا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها فتقول: لا تطلقني، واقسم لي يوما، وللتي تزوج يومين ! قال: لا بأس به هو صلح. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) * قال: المرأة ترى من زوجها بعض الجفاء وتكون قد كبرت، أو لا تلد، فيريد زوجها أن ينكح غيرها فيأتيها، فيقول: إني أريد أن أنكح امرأة شابة أنسب منك، لعلها أن تلد لي وأوثرها في الايام والنفقة. فإن رضيت بذلك وإلا طلقها، فيصطلحان على ما أحبا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قال: نشوزا عنها، عرض بها الرجل تكون له المرأتان - أو إعراضا بتركها * (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) * إما أن يرضيها فتحلله، وإما أن ترضيه فتعطفه على نفسها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * يعني: البغض. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فيتزوج عليها المرأة الشابة، فيميل إليها، وتكون أعجب إليه من الكبيرة، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من ماله، ويقسم لها من نفسه نصيبا معلوما. حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخرم، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا
[ 419 ]
سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله (ص)، فقالت: لا تطلقني على نسائك، ولا تقسم لي ! ففعل، فنزلت: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *. واختلفت القراء في قراءة قوله: أن يصالحا بينهما صلحا فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحا، ثم أدغمت التاء في الصاد فصيرتا صادا مشددة. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: * (أن يصلحا بينهما صلحا) * بضم الياء وتخفيف الصاد، بمعنى: اصلح الزوج والمرأة بينهما. وأعجب القراءتين في ذلك إلي، قراءة من قرأ: إلا أن يصالحا بينهما صلحا. بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: يتصالحا، لان التصالح في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى وأفصح وأكثر على ألسن العرب من الاصلاح، والاصلاح في خلاف الافساد أشهر منه في معنى التصالح. فإن ظن ظان أن في قوله: * (صلحا) * دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك: * (يصلحا) * بضم الياء أولى بالصواب، فإن الامر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الصلح اسم وليس بفعل فيتسدل به على أولى القراءتين بالصواب في قوله: * (يصلحا بينهما صلحا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأحضرت الانفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: نصيبها منه. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، قالا: جميعا ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: في الايام.
[ 420 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: في الايام والنفقة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي وابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: في النفقة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا روح، عن ابن جريج، عن عطا، قال: في النفقة. وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: في الايام. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: نفس المرأة على نصيبها من زوجها من نفسه وماله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بمثله. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير: في النفقة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الاخنس، عن سعيد بن جبير، قال: في الايام والنفقة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، قال: في الايام والنفقة. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: المرأة تشح على مال زوجها ونفسه. حدثنا المثنى، قال: أخبرنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: جاءت المرأة حين نزلت هذه الآية: *
[ 421 ]
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * قالت: إني أريد أن تقسم لي من نفسك ! وقد كانت رضيت أن يدعها فلا يطلقها ولا يأتيها، فأنزل الله: * (وأحضرت الانفس الشح) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: تطلع نفسها إلى زوجها وإلى نفقته. قال: وزعم أنها نزلت في رسول الله (ص)، وفي سدوة بنت زمعة كانت قد كبرت، فأراد رسول الله (ص) أن يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها ويجعل يومها لعائشة، فشحت بمكانها من رسول الله (ص). وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (وأحضرت الانفس الشح) * قال: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بذلك: أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن في الايام والنفقة. والشح: الافراط في الحرص على الشئ، وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها. فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضرائرهن. وبنحو ما قلنا في معنى الشح، ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (وأحضرت الانفس الشح) * والشح: هواه في الشئ يحرص عليه. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من قول من قال: عني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح، على ما قاله ابن زيد، لان مصالحة الرجل امرأته باعطائه إياها من ماله جعلا على أن تصفح له عن القسم لها غير جائزة، وذلك أنه غير معتاض عوضا من جعله الذي بذله لها، والجعل لا يصح إلا على عوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جعل للمرأة جعلا على أن تصفح له عن يومها وليلتها فلم يملك عليها عينا ولا منفعة. وإذا
[ 422 ]
كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال: عني بذلك: الرجل والمرأة. فإن ظن ظان أن ذلك إذ كان حقا للمرأة، ولها المطالبة به، فللرجل افتداؤه منها بجعل، فإن شفعة المستشفع في حصة من دار اشتراها رل من شريك له فيها حق، له المطالبة بها، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداء ذلك منه بجعل، وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عوض غير جائز، إذ كان غير معتاض منه المطلوب في الشفعة عينا ولا نفعا، ما يدل على بطول صلح الرجل امرأته على عوض، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها. وإذ فسد ذلك صح أن تأويل الآية ما قلنا. وقد أبان الخبر الذي تركناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، أن قوله: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) *... الآية، نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت الكبيرة أن تقر على الاثرة، فطلقها تطليقة وتركها، فلما قارب انقضاء عدتها، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الاثرة، فاختارت الرجعة والصبر على الاثرة، فراجعها وآثر عليها، فلم تصبر فطلقها. ففي ذلك دليل واضح على أن قوله: * (وأحضرت الانفس الشح) * إنما عني به: وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن على ما وصفنا. وأما قوله: * (وإن تحسنوا وتتقوا) * فإنه يعني: وإن تحسنوا أيها الرجال في أفعالكم إلى نسائكم إذا كرهتم منهن دمامة أو خلقا، أو بعض ما تكرهون منهن بالصبر عليهن، وأيفائهن حقوقهن، وعشرتهن بالمعروف * (وتتقوا) * يقول: وتتقوا الله فيهن بترك الجور منكم عليهن فيما يجب لمن كرهتموه منهن عليكم من القسمة له والنفقة والعشرة بالمعروف. * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * يقول: فإن الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم أيها الرجال من الاحسان إليهن، والعشرة بالمعروف، والجور عليهن فيما يلزمكم لهن ويجب * (خبيرا) * يعني عالما خابرا، لا يخفي عليه منه شئ، بل هو به عالم، وله محص عليكم، حتى يوفيكم جزاء ذلك المحسن منكم بإحسانه والمسئ بإساءته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) *.. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) *: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك،
[ 423 ]
مما لا تملكونه وليس إليكم. * (ولو حرصتم) * يقول: ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوح حرصتم) * قال: واجب أن لا تستطيعوا العدل بينهن. * (فلا تميلوا كل الميل) * يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهن كل الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق في القسم لهن، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف. * (فتذرها كالمعلقة) * يقول: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ما قلنا في قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوح حرصتم) *: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ه ولو حرصتم) * قال: بنفسه في الحب والجماع. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال بنفسه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * فقال: في الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: في الحب والجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل، عن عمرو، عن الحسن: في الحب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: في الحب والجماع.
[ 424 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال: في المودة، كأنه يعني الحب. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * يقول: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أما قلبي فلا أملك، وأما سوى ذلك فأرجو أن أعدل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * يعني: في الحب والجماع. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قالا جميعا: ثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله (ص) كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد تملك ولا أملك العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية في عائشة: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: في الشهوة والجماع. حدثنا ابن وكيع، ثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: في الجماع.
[ 425 ]
حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، قال: قال سفيان في قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال: في الحب والجماع. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) * قال: ما يكون من بدنه وقلبه، فذلك شئ لا يستطيع يملكه. ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله: * (فلا تميلوا كل الميل) *: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن محمد، قال: قلت لعبيدة: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: بنفسه. حدثنا سفيان، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال هشام: أظنه قال: في الحب والجماع. حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله: * (كل الميل) * قال: بنفسه. حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: أخبرنا الاوزاعي، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قول الله: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: بنفسه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: في الغشيان والقسم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فلا تميلوا كل الميل) *: لا تعمدوا الاساءة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: يتعمد أن يسئ ويظلم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 426 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: هذا في العمل في مبيته عندها، وفيما تصيب من خيره. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فلا تميلوا كل الميل) * يقول: يميل عليها فلا ينفق عليها، ولا يقسم لها يوما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: * (فلا تميلوا كل الميل) * قال: يتعمد الاساءة، يقول: لا تميلوا كل الميل، قال: بلغني أنه الجماع. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان النبي (ص) يقسم بين نسائه، فيعدل ويقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، عن النبي (ص)، بمثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، قال: من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الاخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط. ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله: * (فتذروها كالمعلقة) *: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فتذروها كالمعلقة) * قال: تذروها لا هي أيم، ولا ذات زوج. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: * (فتذروها كالمعلقة) * قال: لا أيما ولا ذات بعل.
[ 427 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن، * (فتذروها كالمعلقة) * قال: لا مطلقة، ولا ذات بعل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فتذروها كالمعلقة) *: أي كالمحبوسة أو كالمسجونة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فتذروها كالمعلقة) * قال: كالمسجونة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله: * (فتذروها كالمعلقة) * يقول: لا مطلقة، ولا ذات بعل. حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: * (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) * لا مطلقة، ولا ذات بعل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد: * (فتذرها كالمعلقة) * قال: لا أيما، ولا ذات بعل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: * (فتذروها كالمعلقة) * ليس بأيم، ولا ذات زوج. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: لا تدعها، كأنها ليس لها زوج. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فتذروها كالمعلقة) * قال: لا أيما، ولا ذات بعل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فتذروها كالمعلقة) * قال: المعلقة: التي ليست بمخلاة ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي عند زوجها ولا مفارقة فتبتغي لنفسها، فتلك المعلقة. قال أبو جعفر: وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله: * (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) * الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهن من القسمة بينهن
[ 428 ]
والنفقة، وترك الجور في ذلك بإيثار أحداهن على الاخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن، مما في القلوب من المحبة والهوى. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك. * (وتتقوا) * يقول: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم عنه، بأن تميلوا لاحداهن على الاخرى، فتظلموها حقها مما أوجبها الله له عليكم. * (فإن الله كان غفورا) * يقول: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهن قبل ذلك بتركه عقوبتكم عليه، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل. * (رحيما) * يقول: وكان رحيما بكم إذا تاب عليكم، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جوركم في ذلك عليهن، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهن لكم من القسم على أن يطلقن. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها، أو أعرض عنها بالميل منها إلى ضرتها لجمالها أو شبابها، أو غير ذلك مما تميل النفوس به إليها الصلح، لصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، وطلبت حقها منه من القسم والنفقة وما أوجب الله لها عليه، وأبى الزوج الاخذ عليها بالاحسان الذي ندبه الله إليه بقوله: وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وإلحاقها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها، مائل، فتفرقا بطلاق الزواج إياها، * (يغن الله كلا من سعته) * يقول يغن الله الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله، أما هذه فبزوج هو أصلح لها من المطلق الاول، أو برزق واسع وعصمة، وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة أو عفة. * (وكان الله واسعا) * يعني: وكان الله واسعا لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه. * (حكيما) * فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها وفي غير ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه.
[ 429 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * قال: الطلاق يغني الله كلا من سعته. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات السبع والارضون السبع من الاشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه بعقب ذلك قوله: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * تنبيها منه خلقه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجته، وتذكيرا منه له أنه الذي له الاشياء كلها وأن من كان له ملك جميع الاشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه، وكل ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كل ذي وحشة. ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعي في أمر بني أبيرق وتوبيخهم ووعيد من فعل ما فعل المرتد منهم، فقال: * (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم) * يقول: ولقد أمرنا أهل الكتاب وهم أهل التوراة والانجيل وإياكم، يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم: * (اتقوا الله) * يقول: احذروا أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه، * (وإن تكفروا) * يقول: وإن تجحدوا وصيته إياكم أيها المؤمنون فتخالفوها، * (فإن لله ما في السموات وما في الارض) * يقول: فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم وحلول غضبه عليكم كما حل بهم، إذ بدلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش وأمن الشرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والارض لا يمتنع عليه شئ أراده بجميعه وبشئ منه من إعزاز من أراد إعزازه وإذلال من
[ 430 ]
أراد إذلاله وغير ذلك من الامور كلها، لان الخلق خلقه بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قوامهم وبقاؤهم وهلاكهم وفناؤهم، وهو الغني الذي لا حاجة تحل به إلى شئ ولا فاقة تنزل به تضطره إليكم أيها الناس ولا إلى غيركم، والحميد الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمد بصنائعه الحميدة إليكم وآلائه الجميلة لديكم، فاستديموا ذلك يها الناس باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف، عن أبي روق عن علي رضي الله عنه: * (وكان الله غنيا حميدا) * قال: غنيا عن خلقه * (حميدا) * قال: مستحمدا إليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات والارض، وهم القيم بجميعه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شئ منه، ولا يئوده حفظه وتدبيره. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: * (وكفى بالله وكيلا) * قال: حفيظا. فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله: * (ولله ما في السموات وما في الارض) * في آيتين إحداهما في إثر الاخرى ؟ قيل: كرر ذلك لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والارض في الآيتين، وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه، وفي الاخرى حفظ بارئه إياه به وعلمه به وتدبيره. فإن قال: أفلا قيل: وكان الله غنيا حميدا وكفى بالله وكيلا ؟ قيل: إن الذي في الآية التي قال فيها: * (وكان الله غنيا حميدا) * مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغني وأنه محمود ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرر قوله: * (ولله ما في السموات وما في الارض) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (إن يشأ) * الله أيها الناس * (يذهبكم) * أي يذهبكم باهلاككم وإفنائكم. * (ويأت بآخرين) * يقول: ويأت بناس آخرين غيركم، لمؤازرة نبيه محمد (ص) ونصرته. * (وكان الله على ذلك قديرا) * يقول: وكان الله على إهلاككم وإفنائكم، واستبدال
[ 431 ]
آخرين غيركم بكم قديرا، يعني: ذا قدرة على ذلك. وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات الخائنين الذين خانوا الدرع التي وصفنا شأنها، الذين ذكرهم الله في قوله: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * وحذر أصحاب محمد (ص) أن يكونوا مثلهم، وأن يفعلوا فعل المرتد منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين، وعرفهم أن من فعل فعله منهم فلن يضر إلا نفسه ولن يوبق بردته غير نفسه، لانه المحتاج مع جميع ما في السموات وما في الارض إلى الله، والله الغني عنهم. ثم توعدهم في قوله: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين) * بالهلاك والاستئصال إن هم فعلوا فعل ابن أبيرق طعمة المرتد، وباستبدال آخرين غيرهم بهم لنصرة نبيه محمد (ص) وصحبته ومؤازرته على دينه، كما قال في الآية الاخرى: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) *. وقد روي عن النبي (ص) أنها لما نزلت، ضرب بيده على ظهر سلمان، فقال: هم قوم هذا يعني عجم الفرس، كذلك. حدثت عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (ص). وقال قتادة في ذلك بما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) * قادر والله ربنا على ذلك، أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (من كان يريد) * ممن أظهر الايمان لمحمد (ص) من أهل النفاق الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الايمان. * (ثواب الدنيا) * يعني: عرض
[ 432 ]
الدنيا، بإظهار ما أظهر من الايمان بلسانه. * (فعند الله ثواب الدنيا) * يعني: جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبي مشهدا، وأمنه على نفسه وذريته وماله، وما أشبه ذلك. وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم. فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله، فإن الله مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا، وجزاءه في الآخرة من العقاب والنكال وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه، كما قال في الآية الاخرى: * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *. وإنما عنى بذلك جل ثناؤه الذين سعوا في أمر بني أبيرق، والذين وصفهم في قوله: * (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبينون ما لا يرضى من القول من القول) * ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم. وقوله: * (كان الله سميعا بصيرا) * يعني: وكان الله سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين وقولهم لهم آمنا. * (بصيرا) *: يعني: وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغش والغل الذي في صدورهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *. وهذا تقدم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سعوا إلى رسول الله (ص) في أمر بني أبيرق، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر، يقول الله لهم: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) * يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني بالعدل. * (شهداء لله) * والشهداء: جمع شهيد، ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله: قوامين، من ذكر
[ 433 ]
الذين آمنوا، ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم. * (ولو على أنفسكم) * يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله الذي سوى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحق منكم، لانه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الامور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها. * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني على فقير أو لفقير على غني إلى أحد الفريقين فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله. فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط، وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟ قيل، نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره، فيقر له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه. وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله (ص) وشهادتهم لهم عنده بالصلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لانسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها. وقد قيل: إنها نزلت تأديبا لرسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) * قال: نزلت في النبي (ص)، واختصم إليه رجلان غني وفقير، وكان ضلعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير، فقال: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) *... الآية. وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسووا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
[ 434 ]
عن ابن عباس، قوله: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين) * قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيا لغناه، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته، وذلك قوله: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * فتذروا الحق فتجوروا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة، قال: كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) *... الآية، فلم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الاخ لاخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والاخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) *... إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة، قال: يقول هذا للشاهد. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) *... الآية، هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو أشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والاقساط والعدل ميزان الله في الارض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، من الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق، وبالعدل يصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويرد المعتدي، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس. يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا، فالله أولى بهما، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام قال: يا رب أي شئ وضعت في الارض أقل ؟ قال: العدل أقل ما وضعت في الارض، فلا يمنعك غني عني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق. وقال جل ثناؤه: * (فالله أولى بهما) *.
[ 435 ]
وقد قيل: * (إن يكن غنيا أو فقيرا) *... الآية، أريد: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير، لان ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال بهما، ولم يقل به. وقال آخرون: إنما قيل بهما لانه قال: * (إن يكن غنيا أو فقيرا) * فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه، وهو مجهول، وإذا كان مجهولا جاز الرد عليه بالتوحيد والتثنية والجمع. وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبي: فالله أولى بهم. وقال آخرون: أو بمعنى الواو في هذا الموضع. وقال آخرون: جاز تثنية قوله بهما، لانهما قد ذكرا كما قيل: * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما) *. وقيل: جاز لانه أضمر فيه من كأنه قيل: إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا، بمعنى: غنيين أو فقيرين، فالله أولى بهما. وتأويل قوله، * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * أي عن الحق، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وجه إلى أن معناه: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها. وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك، بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عني: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لاحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا. ووجهوا معنى الآية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السدي من قوله: إن الآية نزلت في رسول الله (ص)، على ما ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه لاحدهما على الآخر. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرفوها ولا تقيموها، أو تعرضوا عنها فتتركوها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن
[ 436 ]
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) *... إلى قوله: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * يقول: تلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والاعراض الترك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإن تلووا) *: أي تبدلوا الشهادة، * (أو تعرضوا) * قال: تكتموها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن تلووا) * قال: بتبديل الشهادة، والاعراض: كتمانها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * قال: إن تحرفوا، أو تتركوا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * قال: تلجلجوا أو تكتموا، وهذا في الشهادة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * أما تلووا: فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها، وأما تعرضوا: فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وإن تلووا) * فتكتموا الشهادة، تلوي: تنقص منها، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبى أن تشهد عليه، تقول: أكتم عنه لانه مسكين أرحمه فتقول: لا أقيم الشهادة عليه، وتقول: هذا غني أبقيه وأرجو ما قبله فلا أشهد عليه، فذلك قوله: * (إن يكن غنيا أو فقيرا) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن تلووا) * تحرفوا * (أو تعرضوا) *: تتركوا. حدثنا محمد بن عمارة، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا فضيل بن
[ 437 ]
مرزوق، عن عطية في قوله: * (وإن تلووا) * قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها، * (أو تعرضوا) * قال: فتتركوها. حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيموها على وجهها * (أو تعرضوا) * قال: تكتموا الشهادة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا شيبان، عن قتادة أنه كان يقول: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * يعني: تلجلجوا * (أو تعرضوا) * قال: تدعها فلا تشهد. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * أما تلووا: فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحق، يعني في الشهادة. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوله: إنه لي الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه. وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لان الله جل ثناؤه قال: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) * فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (وإن تلووا) * فقرأ ذلك عامة قراء الامصار سوى الكوفة * (وإن تلووا) * بواوين من: لو اني الرجل حقي، والقوم يلوونني ديني، وذلك إذا مطلوه، ليا. وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: وإن تلوا بواو واحدة، ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه، وبقيت واو واحدة، كأنه أراد: تلوؤا، ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ: * (وإن تلووا) * بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب، وذلك أن الواو الثانية من قوله: * (تلووا) * واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة. والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: إن تلوا، من
[ 438 ]
الولاية، فيكون معناه: وإن تلوا أمور الناس، أو تتركوا. وهذا معنى إذا وجه القارئ قراءته على ما وصفنا إليه، خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله (ص) والتابعون تأويل الآية. فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * بمعنى اللي: الذي هو مطل، فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها، فتغيروها، وتبدلوا، أو تعرضوا عنها، فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دين الرجل، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، كما قال الاعشى: يلوينني ديني النهار وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا وأما تأويل قوله: * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * فإنه أراد: فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها، خبيرا، يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسن منكم بإحسانه، والمسئ باساءته، يقول: فاتقوا ربكم في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا) *: بمن قبل محمد من الانبياء والرسل، وصدقوا بما جاءوهم به من عند الله. * (آمنوا بالله ورسوله) * يقول: صدقوا بالله، وبمحمد
[ 439 ]
رسوله، أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الامم قبلكم. * (والكتاب الذي نزل على رسوله) * يقول: وصدقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن. * (والكتاب الذي أنزل من قبل) * يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزله على محمد (ص) وهو التوراة والانجيل. فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الايمان بالله ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين ؟ قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمهم مؤمنين، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق، وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالانجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما، وصنف أهل إنجيل وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذبون بمحمد (ص) والفرقان. فقال جل ثناؤه لهم: * (يا أيها الذين آمنوا) * يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل، * (آمنوا بالله ورسوله) * محمد (ص)، * (والكتاب الذين نزل على رسوله) * فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم، * (وبالكتاب الذين أنزل من قبل) * الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لان كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالايمان بما أمرهم بالايمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) *. وأما قوله: * (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) * فإن معناه: ومن يكفر بمحمد (ص) فيجحد نبوته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لان جحود الشئ من ذلك بمعنى جحوده جميعه، وذلك لانه لا يصح إيمان أحد من الخلق إلا بالايمان بما أمره الله بالايمان به، والكفر بشئ منه كفر بجميعه، فلذلك قال: * (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) * بعقب خطابه أهل الكتاب، وأمره إياهم بالايمان بمحمد (ص) تهديدا منه لهم، وهم مقرون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر سوى محمد (ص) وما جاء به من الفرقان. وأما قوله: * (فقد ضل ضلالا بعيدا) * فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا، لان كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده، والخروج عن دين الله: الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 440 ]
(إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) *.. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: * (إن الذين آمنوا) * بموسى * (ثم كفروا) * به * (ثم آمنوا) * يعني النصارى بعيسى، * (ثم كفروا) * به * (ثم ازدادوا كفرا) * بمحمد، * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) * وهم اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت، وآمنت النصارى بالانجيل، ثم كفرت، وكفرهم به: تركهم إياه، ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد (ص)، فقال الله: * (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) * يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد (ص). حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: إن الذين آمنوا ثم كفروا) * قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة، ثم كفروا. ثم ذكر النصاري، ثم قال: * (ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) * يقول: آمنوا بالانجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرا بمحمد (ص). وقال آخرون: بل عني بذلك: أهل النفاق أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) * قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم. * (ثم ازدادوا كفرا) * قال: ثموا على كفرهم حتى ماتوا. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ثم ازدادوا كفرا) * قال: ماتوا.
[ 441 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ثم ازدادوا كفرا) * قال: حتى ماتوا. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا) *... الآية، قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك. وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين: التوراة والانجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا، فلم تقبل منهم التوبة فيها مع إقامتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) * قال: هم اليهود والنصارى أذنبوا في شركهم، ثم تابوا فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والانجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد (ص) والفرقان، فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لان الآية قبلها في قصص أهل الكتابين، أعني قوله: * (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) * ولا دلالة تدل على أن قوله: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا) * منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أولى حتى تأي دلالة دالة على انقطاعه منه. وأما قوله: * (لم يكن الله ليغفر لهم) * فإنه يعني: لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رءوس الاشهاد. * (ولا ليهديهم سبيلا) * يقول: ولم يكن ليسددهم لاصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها عقوبة لهم على عظيم جرمهم وجراءتهم على ربهم. وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الآية، وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال يستتاب ثلاثا: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي عليه السلام، قال: إن كنت لمستتيب المرتد ثلاثا. ثم قرأ هذه الآية: * (إن الذين آمنوا ثم آمنوا ثم كفروا) *.
[ 442 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثا، ثم قرأ: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازداداوا كفرا) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر، قال: يستتاب المرتد ثلاثا. وقال آخرون: يستتاب كلما ارتد. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم، قال: يستتاب المرتد كلما ارتد. قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرة الاولى، الدليل الواضح على أن الحكم كل مرة ارتد فيها عن الاسلام حكم المرة الاولى في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حقن له دمه، لان العلة التي حقنت دمه في المرة الاولى إسلامه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الاولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها، إلا أن يفرق بين حكم المرة الاولى وسائر المرات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم، فيخرج من حكم القياس حينئذ. القول في تأويل قوله تعالى: * (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: * (وبشر المنافقين) *: أخبر المنافقين، وقد بينا معنى التبشير فيما مضى بما أغني عن إعادته. * (بأن لهم عذابا أليما) * يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم، عذابا أليما، وهو الموجع، وذلك عذاب جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) *. أما قوله جل ثناؤه: * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والالحاد
[ 443 ]
في ديني أولياء: يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. * (أيبتغون عندهم العزة) * يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الايمان بي. * (فإن العزة لله جميعا) * يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الاذلاء الاقلاء، فهلا اتخذوا الاولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزة والمنعة والنصر من عند الله، الذي له العزة والمنعة، الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء فيعزهم ويمنعهم ؟ وأصل العزة: الشدة، ومنه قيل للارض الصلبة الشديدة: عزاز، وقيل: قد استعز على المريض: إذا اشتد مرضه وكاد يشفي، ويقال: تعزز اللحم: إذا اشتد، ومنه قيل: عز علي أن يكون كذا وكذا، بمعنى: اشتد علي. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) *.. يعني بذلك جل ثناؤه: بشر المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. * (وقد نزل عليكم في الكتاب) * يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن. * (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * يعني: بعد ما علموا نهى الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه، ويستهزئون بها، * (حتى يخوضوا في حديث غيره) * يعني بقوله: * (يخوضوا) *: يتحدثوا حديثا غيره بأن لهم عذابا أليما. وقوله: * (إنكم إذا مثلهم) * يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله، ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لانكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه. وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم.
[ 444 ]
وبنحو ذلك كان جماعة من الامة الماضية يقولون تأولا منهم هذه الآية، إنه مراد بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لابراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل ! أو ليس ذلك في كتاب الله: * (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة، قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب، فضربهم وفيهم صائم، فقالوا: إن هذا صائم ! فتلا: * (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) * وقول: * (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *، وقوله: * (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) *، ونحو هذا من القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله. وقوله: * (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم) * يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به أهله. واختلفت القراء في قراءة قوله: وقد نزل عليكم في الكتاب فقرأ ذلك عامة القراء بضم النون وتثقيل الزاي وتشديدها على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأ بعض الكوفين بفتح النون وتشديد الزاي على معنى: وقد نزل الله عليكم. وقرأ ذلك بعض المكيين: وقد نزل عليكم بفتح النون وتخفيف الزاي، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
[ 445 ]
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاثة وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام، غير أن الذي أختار القراءة به قراءة من قرأ: وقد نزل بضم النون وتشديد الزاي، على وجه ما لم يسم فاعله، لان معنى الكلام فيه: التقديم على ما وصفت قبل، على معنى الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها... إلى قوله: * (حديث غيره) * * (أيبتغون عندهم العزة) *. فقوله: * (فإن العزة لله جميعا) * يعني التأخير، فلذلك كان ضم النون من قوله: نزل أصوب عندنا في هذا الموضع. وكذا اختلفوا في قراءة قوله: * (والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) * فقرأه بفتح وأنزل أكثر القراء، بمعنى: والكتاب الذي نزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل. وقرأ ذلك بعض قراء البصرة بضمه في الحرفين كلاهما، بمعنى: ما لم يسم فاعله. وهما متقاربتا المعنى، غير أن الفتح في ذلك أعجب إلي من الضم، لان ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: * (آمنوا بالله ورسوله) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (الذين يتربصون بكم) * الذين ينتظرون أيها المؤمنون بكم. * (فإن كان لكم فتح من الله) * يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم. * (قالوا) * لكم * (ألم نكن معكم) * نجاهد عدوكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم. * (وإن كان للكافرين نصيب) * يعني: وإن كان لاعدائكم من الكافرين حظ منكم بإصابتهم منكم. * (قالوا ألم نكن معكم) * يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين: * (ألم نستحوذ عليكم) *: ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا. * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الايمان جنته وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره. * (ولن
[ 446 ]
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * يعني: حجة يوم القيامة، وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة، بأن يقولوا لهم: أن ادخلوا مدخلهم، ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا، فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (فإن كان لكم فتح من الله) * قال: المنافقون يتربصون بالمسلمين، فإن كان لكم فتح قال: إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة، قال المنافقون: ألم نكن معكم ؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون ! وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين: ألم نستحوذ عليكم، ونمنعكم من المؤمنين ؟ قد كنا نثبطهم عنكم !. واختلف أهل التأويل في تأول قوله: * (ألم نستحوذ عليكم) * فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (ألم نستحوذ عليكم) * قال: نغلب عليكم. وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ألم نستحوذ عليكم) * ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه. قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى، وذلك أن من تأوله بمعنى: ألم نبين لكم إنما أراد إن شاء الله ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم. وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة، ومنه قول الله جل ثناؤه: * (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) * بمعنى غلب عليهم، يقال منه: حاذ عليه، واستحاذ يحيذ ويستحيذ، وأحاذ يحيذ. ومن لغة من قال حاذ، قول العجاج في صفة ثور وكلب:
[ 447 ]
يحوذهن وله حوذي وقد أنشد بعضهم: يحوزهن وله حوزي وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال أحاذ، قول لبيد في صفة عير وأتن: إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها وأوردها على عوج طوال يعني بقوله: وأحوذ جانبيها: غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيه فلم يشذ منها شئ. وكان القياس في قوله: * (استحوذ عليهم الشيطان) * أن يأتي استحاذ عليهم، لان الواو إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن، جعلت العرب حركتها في فاء الفعل قبلها، وحولوها ألفا متبعة حركة ما قبلها، كقولهم: استحال هذا الشئ عما كان عليه من حال يحول، واستنار فلان بنور الله من النور، واستعاذ بالله من عاذ يعوذ. وربما تركوا ذلك على أصله، كما قال لبيد: وأحوذ، ولم يقل: وأحاذ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: * (استحوذ عليهم الشيطان) *. وأما قوله: * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * فلا خلاف بينهم في أن معناه: ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا. ذكر الخبر عمن قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن ذر، عن نسيع
[ 448 ]
الحضرمي، قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له علي: ادنه ! ثم قال: * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * يوم القيامة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن ذر، عن تسيع الكندي في قوله: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: كيف هذه الآية: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * ؟ فقال علي: ادنه ! * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله) * يوم القيامة * (للكافرين على المؤمنين سبيلا) *. حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن ذر، عن بسيع الحضرمي، عن علي بنحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، قال: سمعت سليمان يحدث عن ذر، عن رجل، عن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * قال: في الآخرة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * يوم القيامة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * قال: ذاك يوم القيامة. وأما السبيل في هذا الموضع فالحجة. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * قال: حجة. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 449 ]
(إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) *. قد دللنا فيما مضى قبل على معنى خداع المنافق ربه ووجه خداع الله إياهم، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك. فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله باحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الايمان، مع علمه بباطن ضمائرهم، واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا حتى يلقوه في الآخرة، فيوردهم بما استنبطنوا من الكفر نار جهنم. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * قال: يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسور. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * قال: نزلت في عبد الله بن أبي، وأبي عامر بن النعمان، وفي المنافقين، يخادعون الله وهو خادعهم، قال: مثل قوله في البقرة: * (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم) *. قال: وأما قوله: * (وهو خادعهم) * فيقول: في النور الذي يعطي المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سلب، وما ذكرا لله من قوله: * (انظرونا نقتبس من نوركم) * قال: قوله: * (وهو خادعهم) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن، أنه كان إذا قرأ: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * قال: يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، ومضي المؤمنين بنورهم، فينادونهم: * (انظرونا نقتبس من نوركم) *... إلى قوله: * (ولكنكم فتنتم أنفسكم) * قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.
[ 450 ]
وأما قوله: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس) * فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئا من الاعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله، لانهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الاعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى إليها، رياء للمؤمنين، ليحسبوهم منهم وليسوا منهم، لانهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالي. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) * قال: والله لولا الناس ما صلى المنافق ولا يصلي إلا رياء وسمعة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس) * قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلوا. وأما قوله: * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شئ قليل ؟ قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الاموال، لا ذكر موقن مصدق بتوحيد الله مخلص له الربوبية، فلذلك سماه الله قليلا، لانه غير مقصود به الله ولا مبتغي به التقرب إلى الله، ولا مرادا به ثواب الله، وما عنده فهو وإن كثر من وجه نصب عامله، وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي الاشهب، قال: قرأ الحسن: * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * قال: إنما قل لانه كان لغير الله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا يذكرون الله إلا قليلا) * قال: إنما قل ذكر المنافق لان الله لم يقبله، وكل ما رد الله قليل وكل ما قبل الله كثير. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 451 ]
(مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (مذبذبين) *: مرددين، وأصل التذبذب: التحرك والاضطراب، كما قال، النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذ بذب وإنا عنى بذلك: أن المنافقين متحيرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شئ على صحة فهم لامع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله (ص)، الذي: حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي (ص)، قال: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيتهما تتبع). وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى عن عبد الوهاب، فوقفه على ابن عمر ولم يرفعه، قال: ثنا عبد الوهاب مرتين كذلك. ثني عمران بن بكار، قال: ثنا أبو روح، قال: ثنا ابن عباس، قال ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله (ص)، مثله. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (مذبذبين بين ذلك
[ 452 ]
لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك. قال: وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن، ناداه الكافر: أن هلم إلي فإني أخشى عليك ! وناداه المؤمن: أن هلم إلي فإن عندي وعندي ! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتي عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنما على نشز، فأتتها فلم تعرف، ثم رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (مذبذبين) * قال: المنافقون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * يقول: لا إلى أصحاب محمد (ص)، ولا إلى هؤلاء اليهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (مذبذبين بين ذلك) * قال: لم يخلصوا الايمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (مذبذبين بين ذلك) *: بين الاسلام والكفر * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) *. وأما قوله: * (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) * فإنه يعني: من يخذ له الله عن طريق الرشاد وذلك هو الاسلام الذي دعا الله إليه عباده، يقول: من يخذ له الله عنه فلم يوفقه له، فلن تجد له يا محمد سبيلا: يعني طريقا يسلكه إلى الحق غيره. وأي سبيل يكون له إلى الحق غير الاسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه: أنه من يتبع غيره دينا فلن يقبل منه، ومن أضله الله عنه فقد غوى، فلا هادي له غيره. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 453 ]
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) *. وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه. يقول لهم جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين. ثم قال جل ثناؤه متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين إن هو لم يرتدع عن موالاته وينجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه (ص) بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما: أتريدون أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ممن قد آمن بي وبرسولي أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا، يقول: حجة باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم وأخبركم بمحلهم عنده * (مبينا) * يعني: عن صحتها وحقيتها، يقول: لا تعرضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) * قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول عذرا مبينا) * حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (سلطانا مبينا) * قال: حجة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: *
[ 454 ]
(إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل منع النار) *: إن المنافقين في الطبق الاسفل من أطباق جهنم. وكل طبق من أطباق جهنم درك، وفيه لغتان: درك بفتح الراء، ودرك بتسكينها، فمن فتح الراء جمعه في في الكثرة الدروك، ومن سكن الراء قال: ثلاثة أدرك، وللكثير: الدروك. وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة: في الدرك بفتح الراء. وقرأته عامة قراء الكوفة بتسكين الراء. وهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنى ذلك واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قراءة الاسلام. غير أني رأيت أهل العلم بالعربية يذكرون أن فتح الراء منه في العرب أشهر من تسكينها، وحكموا سماعا منهم: أعطني دركا أصل به حبلي، وذلك إذا سأل ما يصل به حبله الذي قد عجز عن بلوغ الركية. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) * قال: في توابيت من حديد مبهمة عليهم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة، عن خيثمة، عن عبد الله قال: إن المنافقين في توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن ذكوان، عن أبي هريرة: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) * قال: في توابيت ترتج عليهم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) * يعني: في أسفل النار.
[ 455 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عبد الله بن كثير، قوله: * (في الدرك الاسفل من النار) * قال: سمعنا أن جهنم أدراك، منازل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله: * (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار) * قال: توابيت من نار تطبق عليهم. وأما قوله: * (ولن تجد لهم نصيرا) * فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء المنافقين يا محمد من الله إذا جعلهم في الدرك الاسفل من النار ناصرا ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليم عقابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) *. وهذا استثناء من الله جل ثناؤه، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا وأخلصوا الدين لله وحده وتبرءوا من الآلهة والانداد، وصدقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرين على نفاقهم، حتى يوفيهم مناياهم في الآخرة، وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يحلهم مع المؤمنين محل الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة، ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء، فقال: وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) *. فتأويل الآية: * (إلا الذين تابوا) * أي راجعوا الحق، وأبوا إلا الاقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه، من نفاقهم. * (وأصلحوا) *: يعني وأصلحوا أعمالهم، فعملوا بما أمرهم الله به وأدوا فرائضه، وانتهوا عما نهاهم عنه وانزجروا عن معاصيه. * (واعتصموا بالله) * يقول: وتمسكوا بعهد الله. وقد دللنا فيما مضى قبل، على أن الاعتصام: التمسك والتعلق، فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه من طاعته وترك معصيته. * (وأخلصوا دينهم لله) * يقول: وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاء الناس ولا على شك منهم في دينهم وامتراء منهم، في أن الله محص عليهم ما عملوا، فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه وجزاء المسئ
[ 456 ]
على إساءته، أو يتفضل عليه ربه فيعفو، متقربين بها إلى الله مريدين بها وجه الله، فذلك معنى إخلاصهم لله دينهم. ثم قال جل ثناؤه: * (فأولئك مع المؤمنين) * يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم له مع المؤمنين في الجنة، لا مع المنافقين الذي ماتوا على نفاقهم، الذي أوعدهم الدرك الاسفل من النار. ثم قال: * (وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) * يقول: وسوف يعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له على إيمانهم، ثوابا عظيما، وذلك درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار، وهي السفلى منها، لان الله جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد المنافقين على نفاقهم ما ذكر في كتابه. وهذا القول، هو معنى قول حذيفة بن اليمان الذي: حدثنا به ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين ! فقال عبد الله: وما علمك بذلك ؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحى. فلما تفرقوا مر به علقمة فدعاه، فقال: أما إن صاحبك يعلم الذي قلت ! ثم قرأ * (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) *: ما يصنع الله أيها المنافقون بعذابكم، إن أنتم تبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم، بالانابة إلى توحيده والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد (ص) فصدقتموه وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به. يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدرك الاسفل من النار إن أنتم أنبتم إلى طاعته وراجعتم العمل بما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، لانه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه جزاء منه له على جراءته عليه وعلى خلافه أمره ونهيه وكفرانه شكر نعمه عليه. فإن أنتم شكرتم له على نعمة وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى
[ 457 ]
تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعة له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم فلم تبلغه آمالكم. * (وكان الله شاكرا) * لكم ولعباده على طاعتهم إياه باجزاله لهم الثواب عليها، وإعظامه لهم العوض منها. * (عليما) * بما تعملون أيها المنافقون وغيركم من خير وشر وصالح وطالح، محص ذلك كله عليكم محيط بجميعه، حتى يجازيكم جزاءكم يوم القيامة، المحسن بإحسانه والمسئ باساءته. وقد: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما) * قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذب عليما) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) *: ما يصنع الله أيها المنافقون بعذابكم، إن أنتم تبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم، بالانابة إلى توحيده والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد (ص) فصدقتموه وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به. يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدرك الاسفل من النار إن أنتم أنبتم إلى طاعته وراجعتم العمل بما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، لانه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه جزاء منه له على جراءته عليه وعلى خلافه أمره ونهيه وكفرانه شكر نعمه عليه. فإن أنتم شكرتم له على نعمة وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى
[ 457 ]
تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعة له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم فلم تبلغه آمالكم. * (وكان الله شاكرا) * لكم ولعباده على طاعتهم إياه باجزاله لهم الثواب عليها، وإعظامه لهم العوض منها. * (عليما) * بما تعملون أيها المنافقون وغيركم من خير وشر وصالح وطالح، محص ذلك كله عليكم محيط بجميعه، حتى يجازيكم جزاءكم يوم القيامة، المحسن بإحسانه والمسئ باساءته. وقد: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما) * قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا. تم الجزء الخامس من تفسير ابن جرير الطبري ويليه الجزء السادس وأوله القول في تأويله قوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول)