جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 4
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آى القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار الجزء الرابع
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرم على بني إسرائيل - وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن - شيئا من الاطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا، إلا ما كان يعقوب حرمه على نفسه، فإن ولده حرموه استنانا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ولا على لسان رسول له إليهم من قبل نزول التوراة. ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نزل في التوراة أم لا ؟ فقال بعضهم: لما أنزل الله عز وجل التوراة، حرم عليهم من ذلك ما كانوا يحرمونه قبل نزولها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * قالت اليهود: إنما نحرم ما حرم إسرائيل على نفسه، وإنما حرم إسرائيل العروق، كان يأخذه عرق النسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئن الله عافاه منه لا يأكل عرقا أبدا، فحرمه الله عليهم ثم قال: * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *: ما حرم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) *. فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن الله حرم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرمه على
[ 4 ]
نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم، وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا أيها اليهود إن أنكرتم ذلك بالتوراة، فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوارة، وأنكم إنما تحرمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه. وقال آخرون: ما كان شئ من ذلك عليهم حراما، ولا حرمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شئ حرموه على أنفسهم اتباعا لابيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبيه محمد (ص): قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا ؟ ليتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إلا ما حرم إسرئيل على نفسه) * إسرائيل: هو يعقوب، أخذه عرق النسا، فكان لا يثبت الليل من وجعه، وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا، وذلك قبل نزول التوراة على موسى. فسأل نبي الله (ص) اليهود ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقالوا: نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل فقال الله لمحمد (ص): * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) *... إلى قوله: * (فأولئك هم الظالمون) * وكذبوا وافتروا، لم تنزل التوراة بذلك. وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. وكأن الضحاك وجه قوله: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون: الاستثناء المنقطع. وقال آخرون تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن ذلك حرام على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرمه على إسرائيل ولا على ولده. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * فإنه حرم على نفسه العروق، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل،
[ 5 ]
فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ! وليس مكتوبا في التوراة. وسأل محمد (ص) نفرا من أهل الكتاب، فقال ما شأن هذا حراما ؟ فقالوا: هو حرام علينا من قبل الكتاب. فقال الله عز وجل: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) *... إلى: * (إن كنتم صادقين) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه - يعني إسرائيل - عرق النسا، فكان لا يثبت بالليل من شدة الوجع، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا، وذلك قبل أن تنزل التوارة، فقال اليهود للنبي (ص): نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد (ص): * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * وكذبوا، ليس في التوراة. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوارة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإن كان حراما عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا بوحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراة، فحرم الله عليهم فيها ما شاء، وأحل لهم فيها ما أحب. وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) * وإسرائيل: هو يعقوب. * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * يقول: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها ما شاء. وأحل لهم ما شاء. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه. واختلف أهل التأويل في الذي كان سرائيل حرمه على نفسه، فقال بعضهم: كان الذي حرمه إسرائيل على نفسه العروق. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس، فقال: إنه جعل امرأته عليه حراما.
[ 6 ]
قال: ليست عليك بحرام قال: فقال الاعرابي: ولم والله يقول في كتابه: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * ؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حرم على نفسه ؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال: إسرائيل عرضت له الانساء فأضنته، فجعل لله عليه إن شفاه الله منها لا يطعم عرقا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدث: أن أعرابيا أتى ابن عباس، فذكر رجلا حرم امرأته، فقال: إنها ليست بحرام. فقال الاعرابي: أرأيت قول الله عز وجل: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * ؟ فقال: إن إسرائيل كان به عرق النسا، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العروق من اللحم، وإنها ليست عليك بحرام. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * قال: إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل الله عليه - أو أقسم، أو قال - لا يأكله من الدواب. قال: والعروق كلها تبع لذلك العرق. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن الذي حرم إسرائيل على نفسه، أن الانساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته، فتألى إن الله شفاه لا يطعم نسا أبدا فتتبعت بنوه العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه، وزاد فيه: قال: فتألى لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم، وكان الذي حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة العروق. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
[ 7 ]
قتادة في قوله: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * قال: اشتكى إسرائيل عرق النسا، فقال: إن الله شفاني لاحرمن العروق، فحرمها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنزل الله عز وجل: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) *. قال سفيان: له زقاء: يعني صياح. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * قال: كان يشتكي عرق النسا، فحرم العروق. حدثني المثني، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) * قال: كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرم على نفسه أن يأكل عرقا. وقال آخرون: بل الذي كان إسرائيل حرم على نفسه: لحوم الابل وألبانها. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى، فقالوا: إنه عرق النسا، فقال: رب إن أحب الطعام إلي لحوم الابل وألبانها، فإن شفيتني فإني أحرمها علي ! قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح: لحوم الابل وألبانها حرم إسرائيل. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن
[ 8 ]
الحسن في قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * قال: كان إسرائيل حرم على نفسه لحوم الابل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحوم الابل، وإنما كان حرم إسرائيل على نفسه لحوم الابل قبل أن تنزل التوراة، فقال الله: * (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه إلا لحم الابل. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان قال: ثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: ثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيت بالليل له زقاء - يعني صياح - قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله - يعني لحوم الابل - قال: فحرمه اليهود. وتلا هذه الآية: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * أي: إن هذا قبل التوراة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الاعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * قال: حرم العروق ولحوم الابل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فبات بليلة يزقو، فحلف أن لا يأكله أبدا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: * (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) * قال: حرم لحوم الانعام. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب، قول ابن عباس الذي رواه الاعمش، عن حبيب، عن سعيد، عنه، أن ذلك العروق ولحوم الابل، لان اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمهما، كما كان عليه من ذلك أوائلها وقد روي عن رسول الله (ص) بنحو ذلك خبر، وهو ما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله (ص)، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال
[ 9 ]
رسول الله (ص): أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الابل، وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ فقالوا: اللهم نعم. وأما قوله: * (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) * فإن معناه: قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الابل وألبانها، ائتوا بالتوراة فاتلوها ! يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطل على الله من أمرهم، أن ذلك ليس مما أنزلته في التوراة * (إن كنتم صادقين) *، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريم ذلك علينا منها. وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لانهم لا يجيئون بذلك أبدا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيه (ص)، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له عليهم، لان ذلك إذا كان يخفى على كثير من أهل ملتهم، فمحمد (ص) وهو أمي من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده، كان أحرى أن لا يعلمه. فكان في ذلك له (ص) من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله (ص) إليهم، لان ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفي علومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون) * يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذب على الله منا ومنكم من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وعدمكم ما ادعيتم من تحريم الله العروق ولحوم الابل وألبانها فيها، * (فأولئك هم الظالمون) * يعني: فمن فعل ذلك منهم * (فأولئك) * يعني فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، * (هم الظالمون) * يعني فهم الكافرون القائلون على الله الباطل. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي: * (فأولئك هم الظالمون) * قال: نزلت في اليهود. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 10 ]
* (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد: صدق الله فيما أخبرنا به من قوله: * (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروق ولا لحوم الابل وألبانها، وأن ذلك إنما كان شيئا حرمه إسرائيل على نفسه وولده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة، وفي كل ما أخبر به عباده من خبر دونكم وأنتم يا معشر اليهود الكذبة في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، المفترية على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق * (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * يقول: فإن كنتم أيها اليهود محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لانبيائه ورسله، فاتبعوا ملة إبراهيم خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضاه الله من خلقه دينا، وابتعث به أنبياءه، وذلك الحنيفة، يعني الاستقامة على الاسلام وشرائعه، دون اليهودية والنصرانية والمشركة. وقوله: * (وما كان من المشركين) * يقول: لم يكن يشرك في عبادته أحدا من خلقه، فكذلك أنتم أيضا أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله، تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه. وأنتم يا معشر عبدة الاوثان، فلا تتخذوا الاوثان والاصنام أربابا، ولا تعبدوا شيئا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينه إخلاص العبادة لربه وحده، من غير إشراك أحد معه فيه، فكذلك أنتم أيضا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدا، فإن جميعكم مقرون بأن إبراهيم كان على حق وهدى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائل الملل غيرها أيها الاحزاب، فإنها بدع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صواب وحق من ملة إبراهيم هو الحق الذي ارتضيته وابتعثت به أنبيائي ورسلي وسائر ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءني به يوم القيامة. وإنما قال جل ثناؤه: * (وما كان من المشركين) * يعني به: وما كان من عددهم وأوليائهم، وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم، ونصرة بعضهم بعضا، فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين: اليهود والنصارى، وسائر الاديان غير الحنيفية، قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الاديان المشركة، ولكنه كان حنيفا مسلما. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 11 ]
* (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) * اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: إن أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه مباركا وهدى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أول بيت وضع في الارض، لانه قد كانت قبله بيوت كثيرة. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الاحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، قال: قام رجل إلى علي، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الارض ؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت خالد ابن عرعرة قال: سمعت عليا، وقيل له: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) * هو أول بيت كان في الارض ؟ قال: لا قال: فأين كان قوم نوح ؟ وأين كان قوم هود ؟ قال: ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا وهدى. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سأل حفص الحسن وأنا أسمع، عن قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * قال: هو أول مسجد عبد الله فيه في الارض. حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي، قال: ثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) * قال: قد كانت قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للعبادة. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن، قوله: * (إن أول بيت وضع للناس) * يعبد الله فيه * (للذي ببكة) *. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * قال: وضع للعبادة.
[ 12 ]
وقال آخرون: بل هو أول بيت وضع للناس. ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أول، فقال بعضهم: خلق قبل جميع الارضين، ثم دحيت الارضون من تحته. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا شيبان، عن الاعمش، عن بكير بن الاخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: خلق الله البيت قبل الارض بألفي سنة، وكان إذا كان عرشه على الماء، زبدة بيضاء، فدحيت الارض من تحته. حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خصيف، قال: سمعت مجاهدا يقول: إن أول ما خلق الله الكعبة، ثم دحى الارض من تحتها. حدثني محمد بن عمرو: قال ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (إن أول بيت وضع للناس) * كقوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *. حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) * أما أول بيت، فإنه يوم كانت الارض ماء، وكان زبدة على الارض، فلما خلق الله الارض، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الارض. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * قال: أول بيت وضعه الله عز وجل، فطاف به آدم ومن بعده. وقال آخرون موضع الكعبة، موضع أول بيت وضعه الله في الارض. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمن الطوفان زمن أغرق الله قوم نوح
[ 13 ]
رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الارض، فصار معمورا في السماء. ثم إن إبراهيم تتبع منه أثرا بعد ذلك، فبناه على أساس قديم كان قبله. والصواب من القول في ذلك: ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مبارك وهدى وضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: إن أول بيت وضع للناس: أي لعبادة الله فيه مباركا وهدى، يعني: بذلك ومآبا لنسك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له، للذي ببكة، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله (ص) وذلك ما: حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع أول ؟ قال: المسجد الحرام قال: ثم أي ؟ قال: المسجد الاقصى قال: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة. فقد بين هذا الخبر عن رسول الله (ص)، أن المسجد الحرام هو أول مسجد وضعه الله في الارض على ما قلنا، فأما في وضعه بيتا بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضه في هذا الموضع وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله: * (للذي ببكة مباركا) * فإنه يعني: للبيت الذي بمزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم وأصل البك: الزحم، يقال منه: بك فلان فلانا: إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكا، وهم يتباكون فيه: يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه، فكان بكة: فعلة من بك فلان فلانا: زحمه، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها. فإذا كانت بكة ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حول البيت، وكان لا طواف يجوز خارج المسجد، كان معلوما بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارج المسجد فمكة لا بكة، لانه لا معنى خارجه يوجب على الناس التباك فيه. وإذا كان ذلك كذلك كان بينا بذلك فساد قول من قال بكة: اسم لبطن مكة، ومكة: اسم للحرم. ذكر من قال في ذلك ما قلنا، من أن بكة في موضع مزدحم الناس للطواف: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك
[ 14 ]
الغفاري في قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * قال: بكة: موضع البيت، ومكة: ما سوى ذلك. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر، قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي، وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بكة يبك بعضها بعضا. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا سلمة، عن مجاهد، قال: إنما سميت بكة، لان الناس يتباكون فيها، الرجال والنساء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد، قال: قلت أي شئ سميت بكة ؟ قال: لانهم يتباكون فيها، قال: يعني يتزاحمون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الاسود بن قيس، عن أخيه، عن ابن الزبير، قال: إنما سميت بكة لانهم يأتونها حجاجا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * فإن الله بك به الناس جميعا، فيصلي النساء قدام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: بكة: بك الناس بعضهم بعضا، الرجال والنساء يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، قال: بكة: موضع البيت، ومكة: ما حولها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله أنه سأل ابن شهاب عن بكة. قال: بكة البيت والمسجد. وسأله عن مكة. فقال ابن شهاب: مكة: الحرم كله. حدثنا الحسين. قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج. عن عطاء ومجاهد، قالا بكة: بك فيها الرجال والنساء.
[ 15 ]
حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة: بكة: المسجد. ومكة: البيوت. وقال بعضهم بما: حدثني به يحيى بن أبي طالب. قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) * قال: هي مكة. وقيل: * (مباركا) * لان الطواف به مغفرة للذنوب، فأما نصب قوله: * (مباركا) * فإنه على الخروج من قوله: * (وضع) *، لان في وضع ذكرا من البيت هو به مشغول وهو معرفة، ومبارك نكرة لا يصلح أن يتبعه في الاعراب. وأما على قول من قال: هو أول بيت وضع للناس على ما ذكرنا في ذلك قول من ذكرنا قوله، فإنه نصب على الحال من قوله: * (للذي ببكة) *، لان معنى الكلام على قولهم: إن أول بيت وضع للناس، البيت ببكة مباركا. فالبيت عندهم من صفته الذي ببكة، والذي بصلته معرفة، والمبارك نكرة، فنصب على القطع منه في قول بعضهم. وعلى الحال في قول بعضهم. وهدى في موضع نصب على العطف على قوله مباركا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه قراء الامصار: * (فيه آيات بينات) * على جماع آية، بمعنى: فيه علامات بينات. وقرأ ذلك ابن عباس: فيه آية بينة يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها علامة واحدة. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (فيه آيات بينات) * وما تلك الآيات. فقال بعضهم: مقام إبراهيم والمشعر الحرام، ونحو ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (فيه آيات بينات) *: مقام إبراهيم، والمشعر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) * قالا: مقام إبراهيم من الآيات البينات.
[ 16 ]
وقال آخرون: الآيات البينات * (مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) *. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (فيه آيات بينات) * قال: * (مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) *. وقال آخرون: الآيات البينات: هو مقام إبراهيم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) * أما الآيات البينات: فمقام إبراهيم. وأما الذين قرءوا ذلك: * (فيه آية بينة) * على التوحيد، فإنهم عنوا بالآية البينة: مقام إبراهيم ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن بن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فيه آيات بينات) * قال: قدماه في المقام آية بينة. يقول: * (ومن دخله كان آمنا) * قال: هذا شئ آخر. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد * (فيه آية بينة مقام إبراهيم) * قال: أثر قدميه في المقام آية بينة. وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: الآيات البينات منهن مقام إبراهيم، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما، فيكون الكلام مرادا فيهن منهن، فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل: * (آيات بينات) * ؟ قيل: منهن: المقام، ومنهن الحجر، ومنهن الحطيم، وأصح القراءتين في ذلك قراءة من قرأ * (فيه آيات بينات) * على الجماع، لاجماع قراء أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها. وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل: * (مقام إبراهيم) * فقد ذكرناه في سورة البقرة، وبينا أولى الاقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا: المقام المعروف به.
[ 17 ]
فتأويل الآية إذا: إن أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين، للذي ببكة، فيه علامات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم منهن أثر قدم خليله إبراهيم (ص) في الحجر الذي قام عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) *. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله الخبر عن أن كل من جر في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن يها مأخوذا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ومن دخله كان آمنا) * وهذا كان في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم ألجأ إلى حرم الله، لم يتناول ولم يطلب، فأما في الاسلام، فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، من قتل فيه قتل، وعن قتادة أن الحسن كان يقول: إن الحرم لا يمنع من حدود الله، لو أصاب حدا في غير الحرم فلجأ إلى الحرم ولم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد، ورأى قتادة ما قاله الحسن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: * (ومن دخله كان آمنا) * قال: كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم فإن سرق فيه أحد قطع، وإن قتل فيه قتل، ولو قدر فيه على المشركين قتلوا. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، قال: ثنا خصيف، عن مجاهد في الرجل يقتل، ثم يدخل الحرم، قال: يؤخذ فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء في الرجل يصيب الحد، ويلجأ إلى الحرم: يخرج من الحرم فيقام عليه الحد. فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنا بها في الجاهلية.
[ 18 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخله يكن آمنا بها، بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل: من قام لي أكرمته: بمعنى من يقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية، كان الحرم مفزع كل خائف، وملجأ كل جان، لانه لم يكن يهاج به ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الاسلام، لان الاسلام زاده تعظيما وتكريما. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد قال: ثنا خصيف، قال ثنا مجاهد، قال: قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحد قتل أو سرق، فدخل الحرم، ولم يبايع ولم يؤو حتى يتبرم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. قال: فقلت لابن عباس: ولكني لا أرى ذلك، أرى أن يؤخذ برمته، ثم يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدة. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا عبد الملك، عن عطاء، قال: أخذ ابن الزبير سعدا مولى معاوية، وكان في قلعة بالطائف، فأرسل إلى ابن عباس من يشاوره فيهم، إنهم لنا عين، فأرسل إليه، ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال: فأرسل إليه، ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم ؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس: أفلا قبل أن تدخلهم الحرم ؟ زاد أبو السائب في حديثه فأخرجهم فصلبهم، ولم يصغ إلى قول ابن عباس. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: من أحدث حدثا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم ولم يعرض له ولم يبايع ولم يكلم ولم يؤو حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج من الحرم أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدثا أقيم عليه الحد. حدثنا أبو كريب قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: من أحدث حدثا ثم
[ 19 ]
استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه حدثني يعقوب، قال: على شئ إلى أن يخرج، فإذا خرج أقاموا عليه الحد ثنا هشيم، قال: ثنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يقيم الحد في الحرم، فقال له عبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرم إلا أن يكون أصابه فيه. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرف، عن عامر، قال: إذا أصاب الحد، ثم هرب إلى الحرم، فقد أمن، فإذا أصابه في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي، قال: من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه في الحرم ومن أصابه خارجا من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، وعن عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح في الرجل يقتل، ثم يدخل الحرم، قال: لا يبيعه أهل مكة، ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه، ولا يؤوونه - عد أشياء كثيرة - حتى يخرج من الحرم، فيؤخذ بذنبه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الرجل إذا أصاب حدا ثم دخل الحرم أنه لا يطعم، ولا يسقى، ولا يؤوى، ولا يكلم، ولا ينكح، ولا يبايع، فإذا خرج منه أقيم عليه الحد. حدثني المثنى، قال: ثني حجاج، قال: ثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: إذا أحدث الرجل حدثا، ثم دخل الحرم، لم يؤو، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يطعم، ولم يسق، حتى يخرج من الحرم.
[ 20 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: * (ومن دخله كان آمنا) *: فلو أن رجلا قتل رجلا، ثم أتى الكعبة فعاذ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحل له أبدا أن يقتله. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يكن آمنا من النار. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي بن مسلم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي، قال: ثنا زياد ابن أبي عياض، عن يحيى بن جعدة، في قوله: * (ومن دخله كان آمنا) * قال: آمنا من النار. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه. فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه، حتى يخرج منه. فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الحد عليه فيه ؟ قيل: لاتفاق جميع السلف على أن من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به، فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لاخذه بها، فقال بعضهم: صفة ذلك منعه المعاني التي يضطر مع منعه وفقده إلى الخروج منه. وقال آخرون: لا صفة لذلك غير إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي توصل إلى إقامة حد الله عليه معها، فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحد فيه، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقام عليه فيه الحد، فكلتا المسألتين أصل مجمع على حكمهما على ما وصفنا. فإن قال لنا قائل: وما دلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت إذا أتاه مستجيرا به من جريرة جرها أو من حد أصابه من الحرم جائز لاقامة الحد عليه وأخذه بالجريرة، وقد أقررت بأن الله عز وجل قد جعل من دخله آمنا، ومعنى الآمن غير معنى الخائف، فيما هما
[ 21 ]
فيه مختلفان ؟ قيل: قلنا ذلك لاجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الامة، على أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فاحشة أتاها وجبت عليه بها عقوبة منه ببعض معاني الاخراج لاخذه بما لزمه، واجب على إمام المسلمين وأهل الاسلام معه. وإنما اختلفوا في السبب الذي يخرج به منه، فقال بعضهم: السبب الذي يجوز إخراجه به منه ترك جميع المسلمين مبايعته وإطعامه وسقيه وإيواء وكلامه وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قرار للعائذ به فيه مع بعضها، فكيف مع جميعها ؟ وقال آخرون منهم: بل إخراجه لاقامة ما لزمه من العقوبة واجب بكل معاني الاخراج. فلما كان إجماعا من الجميع على أن حكم الله - فيمن عاذ بالبيت من حد أصابه أو جريرة جرها - إخراجه منه لاقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولامامهم إخراجه منه بأي معنى أمكنهم إخراجه منه حتى يقيموا عليه الحد الذي لزمه خارجا منه إذا كان لجأ إليه من خارج على ما قد بينا قبل. وبعد: فإن الله عز وجل لم يضع حدا من حدوده عن أحد من خلقه من أجل بقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك. وقد تظاهرت الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة. ولا خلاف بين جميع الامة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبي (ص) يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أن حرم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحق البقاع أن تؤدى فيه فرائض الله التي ألزمها عباده من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله كحرم الله وحرم رسوله (ص)، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم الله لاقامة الحد لما ذكرنا من فعل الامة ذلك وراثة. فمعنى الكلام إذ كان الامر على ما وصفنا: ومن دخله كان آمنا ما كان فيه. فإذا كان ذلك كذلك، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذا به، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه. وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الاخراج منه، فحينئذ هو غير داخله، ولا هو فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *.
[ 22 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحج إليه. وقد بينا فيما مضى معنى الحج ودللنا على صحة ما قلنا من معناه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: * (من استطاع إليه سبيلا) *، وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج ؟ فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: الزاد والراحلة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي خناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: الزاد والبعير. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *، والسبيل: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به. حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: قال ابن عباس: من ملك ثلثمائة درهم، فهو السبيل إليه. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان، قال: سمعت عطاء يقول: السبيل: الزاد والراحلة. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما من استطاع إليه سبيلا، فإن ابن عباس قال: السبيل: راحلة وزاد. حدثني المثنى، وأحمد بن حازم، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: الزاد والراحلة.
[ 23 ]
حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: أخبرنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: الزاد والراحلة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحسن، قال: قرأ النبي (ص) هذه الآية: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * فقال رجل: يا رسول الله، ما السبيل ؟ قال: الزاد والراحلة. واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله (ص) بنحو ما قالوا في ذلك. ذكر الرواية بذلك عن رسول الله (ص): حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر، يحدث عن ابن عمر، قال: قام رجل إلى رسول الله (ص)، فقال: ما السبيل ؟ قال: الزاد والراحلة. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم الخوزي، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، أن النبي (ص)، قال في قوله عز وجل: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: السبيل إلى الحج الزاد والراحلة. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا يونس، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: قرأ رسول الله (ص): * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قالوا: يا رسول لله، ما السبيل ؟ قال: الزاد والراحلة. حدثنا أبو عثمان المقدمي، والمثنى بن إبراهيم، قالا: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هلال بن عبيد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي، قال: ثنا أبو إسحاق، عن الحرث، عن علي، عن النبي (ص)، قال: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت
[ 24 ]
الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: بلغنا أن نبي الله (ص)، قال له قائل، أو رجل: يا رسول الله، ما السبيل إليه ؟ قال: من وجد زادا وراحلة. حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: ثنا شاذ بن فياض البصري، قال: ثنا هلال بن هشام، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحرث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): من ملك زادا وراحلة فلم يحج مات يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله يقول في كتابه: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *... الآية. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه ؟ قال: الزاد والراحلة. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي (ص)، مثله. وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقة للوصول إليه. قال: وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه، بامتناع الطريق من العدو الحائل، وبقلة الماء وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عز وجل بأن يكون مستطيعا إليه السبيل، وذلك الوصول إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده، وإن أعوزه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك. ذكر ذلك من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان،
[ 25 ]
عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل، عن ابن الزبير، قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال: على قدر القوة. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (من استطاع إليه سبيلا) * قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابا صحيحا ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي حجته. فقال له قائل: كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه ؟ والله لانطلق إليه ولو حبوا ! كذلك يجب عليه الحج. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: من وجد شيئا يبلغه فقد وجد سبيلا، كما قال الله عز وجل: * (من استطاع إليه سبيلا) *. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو هانئ، قال: سئل عامر عن هذه الآية: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال: السبيل: ما يسره الله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا. وقال آخرون: السبيل إلى ذلك: الصحة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثنى بن إبراهيم، قالوا: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، قال: ثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة، قالا: أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال: السبيل: الصحة. وقال آخرون بما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله عز وجل: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال: من وجد قوة في النفقة
[ 26 ]
والجسد والحملان، قال: وإن كان في جسده ما لا يستطيع الحج فليس عليه الحج، وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيح الجسد ولا يجد مالا ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يمشي. وأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء، إن ذلك على قدر الطاقة، لان السبيل في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلى الحج لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدو، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، وضعف عن المشي، فعليه فرض الحج لا يجزيه إلا أداؤه فإن لم يكن واجدا سبيلا، أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقا الحج بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه، فهو ممن لا يجد إليه طريقا، ولا يستطيعه، لان الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه، ومن كان عاجزا عنه ببعض الاسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لان الله عز وجل لم يخصص إذ ألزم الناس فرض الحج بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية. فأما الاخبار التي رويت عن رسول الله (ص) في ذلك بأنه الزاد والراحلة، فإنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين. واختلف القراء في قراءة الحج، فقرأ ذلك جماعة من قراء أهل المدينة والعراق بالكسر: * (ولله على الناس حج البيت) *، وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: ولله على الناس حج البيت وهما لغتان معروفتان للعرب، فالكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية، ولم نر أحدا من أهل العربية ادعى فرقا بينهما في معنى ولا غيره غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين، إلا ما: حدثنا به أبو هشام الرفاعي، قال: قال حسن الجعفي: الحج مفتوح: اسم، والحج مكسور: عمل. وهذا قول لم أر أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت من أنهما لغتان بمعنى واحد. والذي نقول به في قراءة ذلك، أن القراءتين إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الاسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا
[ 27 ]
غيره، فهما قراءتان قد جاءتا مجئ الحجة، فبأي القراءتين - أعني بكسر الحاء من الحج أو فتحها - قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته. وأما من التي مع قوله: * (من استطاع) * فإنه في موضع خفض على الابدال من الناس، لان معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حج البيت حجه، فلما تقدم ذكر الناس قبل من بين بقوله: * (من استطاع إليه سبيلا) *، الذي عليه فرض ذلك منهم، لان فرض ذلك على بعض الناس دون جميعهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه، وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والانس. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد، قال: سمعت مقسما، عن ابن عباس في قوله: * (ومن كفر) * قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء وجويبر، عن الضحاك في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * قالا: من جحد الحج وكفر به. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، قال: من جحد به. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عمران القطان، يقول: من زعم أن الحج ليس عليه. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * قال: من أنكره، ولا يرى أن ذلك عليه حقا، فذلك كفر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ومن كفر) * قال: من كفر بالحج. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبي بشر، عن
[ 28 ]
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * قال: من كفر بالحج كفر بالله. حدثني المثنى، قال: ثنا يعلى بن أسد، قال: ثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر) * قال: من لم يره عليه واجبا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ومن كفر) * قال بالحج. وقال آخرون: معنى ذلك: أن لا يكون معتقدا في حجه أن له الاجر عليه، ولا أن عليه بتركه إثما ولا عقوبة. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: ثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد، في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * قال: هو ما إن حج لم يره برا، وإن قعد لم يره مأثما. حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: هو ما إن حج لم يره برا، وإن قعد لم يره مأثما. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مطر، عن أبي داود نفيع، قال: قال رسول الله (ص): * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * فقام رجل من هذيل، فقال: يا رسول الله من تركه كفر ؟ قال: من تركه ولا يخاف عقوبته، ومن حج ولا يرجو ثوابه، فهو ذاك. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * يقول: من كفر بالحج، فلم ير حجه برا، ولا تركه مأثما. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الآخر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: سألته
[ 29 ]
عن قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * ما هذا الكفر ؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: * (ومن كفر) * قال من كفر بالله واليوم الآخر. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * قال: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله (ص) أهل الاديان كلهم، فقال: يا أيها الناس إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجوا ! فآمنت به ملة واحدة، وهي من صدق النبي (ص) وآمن به، وكفرت به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله. فأنزل الله عز وجل: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *. حدثني أحمد بن حازم، قال: أخبرنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو هانئ، قال: سئل عامر، عن قوله: * (ومن كفر) * قال: من كفر من الخلق، فإن الله غني عنه. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي (ص)، في قول الله: * (ومن كفر) * قال: من كفر بالله واليوم الآخر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا) * فقالت الملل: نحن مسلمون ! فأنزل الله عز وجل: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * فحج المؤمنون، وقعد الكفار. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *. فقرأ * (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) * فقرأ حتى بلغ: * (من استطاع إليه سبيلا ومن كفر) * قال: من كفر بهذه الآيات، * (فإن الله غني
[ 30 ]
عن العالمين) *. ليس كما يقولون: إذا لم يحج وكان غنيا وكانت له قوة فقد كفر بها. وقال قوم من المشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل، فقال الله عز وجل: * (فإن الله غني عن العالمين) *. وقال آخرون بما: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، قال: أخبرنا أبو عمر الضرير، قال: ثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * قال: من كفر بالبيت. وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، أما من كفر فمن وجد ما يحج به ثم لا يحج، فهو كافر. وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قول من قال: معنى * (ومن كفر) *: ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن الله غني عنه وعن حجه وعن العالمين جميعا. وإنما قلنا ذلك أولى به، لان قوله: * (ومن كفر) * بعقب قوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * بأن يكون خبرا عن الكافر بالحج، أحق منه بأن يكون خبرا عن غيره، مع أن الكافر بفرض الحج على من فرضه الله عليه بالله كافر، وإن الكفر أصله الجحود، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا، فلا شك إن حج لم يرج بحجه برا، وإن تركه فلم يحج لم يره مأثما. فهذه التأويلات وإن اختلفت العبارات بها فمتقاربات المعاني. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) * يعني بذلك: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الديانة بما أنزل الله عز وجل من كتبه، ممن كفر بمحمد (ص)، وجحد نبوته، لم تجحدون بآيات الله ؟ يقول: لم تجحدون حجج الله التي آتاها محمدا في كتبكم وغيرها، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوته وحجته. وأنتم تعلمون، يقول: لم تجحدون ذلك من أمره، وأنتم تعلمون
[ 31 ]
صدقه. فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم معتمدون الكفر بالله وبرسوله، على علم منهم ومعرفة من كفرهم. وقد: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) * أما آيات الله: فمحمد (ص). حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون) * قال: هم اليهود والنصارى. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله، * (لم تصدون عن سبيل الله) * يقول: لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لانبيائه وأوليائه وأهل الايمان * (من آمن) * يقول: من صدق بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله * (تبغونها عوجا) * يعني تبغون لها عوجا والهاء والالف اللتان في قوله: * (تبغونها) * عائدتان على السبيل، وأنثها لتأنيث السبيل. ومعنى قوله: تبغون لها عوجا، من قول الشاعر، وهو سحيم عبد بني الحسحاس: بغاك وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا يعني طلبك وما تطلبه يقال: ابغني كذا، يراد: ابتغه لي، فإذا أرادوا: أعني على طلبه، وابتغه معي قالوا: أبغني بفتح الالف، وكذلك يقال: احلبني، بمعنى: اكفني الحلب وأحلبني: أعني عليه، وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع فعلى هذا. وأما العوج: فهو الاود والميل، وإنما يعني بذلك الضلال عن الهدى يقول جل ثناؤه: * (ولم تصدون) * عن دين الله من صدق الله ورسوله، تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته وخرج الكلام على السبيل، والمعنى لاهله، كأن المعنى: تبغون لاهل دين الله،
[ 32 ]
ولمن هو على سبيل الحق عوجا، يقول: ضلالا عن الحق وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة. والعوج بكسر أوله: الاود في الدين والكلام، والعوج بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شئ منتصب قائم. وأما قوله: * (وأنتم شهداء) * فإنه يعني: شهداء على أن الذي تصدون عنه من السبيل حق تعلمونه وتجدونه في كتبكم. * (وما الله بغافل عما تعلمون) * يقول: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعلمونها مما لا يرضاه لعباده، وغير ذلك من أعمالكم حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة، أو يؤخر ذلك لكم، حتى تلقوه، فيجازيكم عليها. وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) * والآيات بعدهما إلى قوله: * (فأولئك لهم عذاب عظيم) * نزلت في رجل من اليهود حاول الاغراء بين الحيين من الاوس والخزرج بعد الاسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء، فعنفه الله بفعله ذلك وقبح له ما فعل ووبخه عليه، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله (ص)، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف. ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني الثقة، عن زيد بن أسلم، قال: مر شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله (ص) من الاوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه. فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملا بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار. وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الاوس والخزرج، وكان الظفر فيه للاو س على الخزرج. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن
[ 33 ]
قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الاوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - فخرجوا إليها وتحاور الناس، فانضمت الاوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الاسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الاوس والخزرج بعضهم بعضا. ثم انصرفوا مع رسول الله (ص) سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا) *... الآية وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * إلى قوله: * (أولئك لهم عذاب عظيم) *. وقيل: إنه عنى بقوله: * (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) * جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله (ص) أيام نزلت هذه الآيات والنصارى، وأن صدهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبي الله محمد (ص)، هل يجدون ذكره في كتبهم أنهم لا يجدون نعته في كتبهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا) * كانوا إذا سألهم أحد: هل تجدون محمدا ؟ قالوا: لا ! فصدوا عنه الناس، وبغوا محمدا عوجا: هلاكا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
[ 34 ]
* (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) * يقول: لم تصدون عن الاسلام، وعن نبي الله ومن آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمدا رسول الله، وأن الاسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله) * قال: هم اليهود والنصارى، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة. فتأويل الآية ما قاله السدي: يا معشر اليهود لم تصدون عن محمد، وتمنعون من اتباعه المؤمنين بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم. ومحمد على هذا القول: هو السبيل * (تبغونها عوجا) *: تبغون محمدا هلاكا. وأما سائر الروايات غيره والاقوال في ذلك، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل، من أن معنى السبيل التي ذكرها في هذا الموضع الاسلام وما جاء به محمد من الحق من عند الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك، فقال بعضهم: عنى بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * الاوس والخزرج، وبالذين أوتوا الكتاب: شاس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلم. وقال آخرون: فيمن عني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم، غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الانصار حتى هموا بالقتال ووجدوا اليهودي به مغمزا فيهم ثعلبة بن عنمة الانصاري. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم
[ 35 ]
كافرين) * قال: نزلت في ثعلبة بن غنمة الانصاري، كان بينه وبين أناس من الانصار كلام، فمشى بينهم يهودي من قينقاع، فحمل بعضهم على بعض حتى همت الطائفتان من الاوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا، فأنزل الله عز وجل: * (إن تطيعوا فريقا من الذين أؤتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) * يقول: إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن حميد الاعرج عن مجاهد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أؤتوا الكتاب) * قال: كان جماع قبائل الانصار بطنين الاوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن، حتى من الله عليهم بالاسلام وبالنبي (ص)، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألف بينهم بالاسلام قال: فبينا رجل من الاوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان، ومعهما يهودي جالس، فلم يزل يذكرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم، حتى استبا، ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه، وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصف بعضهم لبعض. قال: ورسول الله (ص) شاهد يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله (ص)، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أؤتوا الكتاب) * إلى قوله: * (عذاب عظيم) *. فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم (ص) من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والانجيل، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين، يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدقتموه من الحق الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جل ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غل وغش وحسد وبغض. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أؤتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) *: قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم، فلا تأمنوهم على دينكم
[ 36 ]
ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الاعداء الحسدة الضلال. كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم ؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة ! حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) * يعني بذلك جل ثناؤه: وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدوا على أعقابكم * (وأنتم تتلى عليكم آيات الله) * يعني: حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد (ص). * (وفيكم رسوله) * حجة أخرى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحق، ويبصركم الهدى والرشاد، وينهاكم عن الغي والضلال يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوة نبيكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة، والآيات البينة، على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله) *... الآية، علمان بينان: وجدان نبي الله (ص)، وكتاب الله، فأما نبي الله فمضى (ص)، وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته. وأما قوله: * (من يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) * فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسك بدينه وطاعته، * (فقد هدي) * يقول: فقد وفق لطريق واضح ومحجة مستقيمة غير معوجة، فيستقيم به إلى رضا الله وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (ومن يعتصم بالله فقد هدي) * قال: يؤمن بالله.
[ 37 ]
وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به، ومنه قول الفرزدق: أنا ابن العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا ولذلك قيل للحبل: عصام، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته: عصام، ومنه قول الاعشى: إلى المرء قيس أطيل السرى وآخذ من كل حي عصم يعني بالعصم: الاسباب، أسباب الذمة والامان، يقال منه: اعتصمت بحبل من فلان، واعتصمت حبلا منه، واعتصمت به واعتصمه. وأفصح اللغتين: إدخال الباء، كما قال عز وجل: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * وقد جاء اعتصمته، كما قال الشاعر: إذا أنت جازيت الاخاء بمثله وآسيتني ثم اعتصمت حباليا فقال: اعتصمت حباليا، ولم يدخل الباء، وذلك نظير قولهم: تناولت الخطام وتناولت بالخطام، وتعلقت به وتعلقته، كما قال الشاعر: تعلقت هندا ناشئا ذات مئزر وأنت وقد فارقت لم تدر ما الحلم وقد بينت معنى الهدى والصراط وأنه معني به الاسلام فيما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
[ 38 ]
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تحاور القبيلتين الاوس والخزرج، كان منه قوله: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن الاغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس، قال: كانت الاوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية: * (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) *... إلى آخر الآيتين، * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء) *... إلى آخر الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدق الله ورسوله، * (اتقوا الله) * خافوا الله وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه، * (حق تقاته) * حق خوفه، وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. * (ولا تموتن) * أيها المؤمنون بالله ورسوله، * (إلا وأنتم مسلمون) * لربكم، مذعنون له بالطاعة، مخلصون له الالوهية والعبادة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله: * (اتقوا الله حق تقاته) * قال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله.
[ 39 ]
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله. حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا جرير، عن زبيد، عن عبد الله، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن المسعودي، عن زبيد الايامي، عن مرة، عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير، عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون: * (اتقوا الله حق تقاته) * قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، نحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عمرو بن مرة عن مرة، عن الربيع بن خثيم، قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكره فلا ينسى. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت مرة الهمداني يحدث عن الربيع بن خثيم في قول الله عز وجل: * (اتقوا الله حق تقاته) * فذكر نحوه.
[ 40 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن طاوس: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) * أن يطاع فلا يعصى. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن، في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) * قال: حق تقاته أن يطاع فلا يعصي. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم تقدم إليهم، يعني إلى المؤمنين من الانصار، فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * أما حق تقاته: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، عن قتادة: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) * أن يطاع فلا يعصى، قال: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *. وقال آخرون: بل تأويل ذلك كما: حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * قال: حق تقاته أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا ؟ فقال بعضهم: هي محكمة غير منسوخة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن تجاهد في الله حق جهاده. ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن نجيح، عن قيس بن سعد، عن طاوس: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) * فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، * (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) *.
[ 41 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال طاوس، قوله: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * يقول: إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * ثم أنزل التخفيف واليسر، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه، فقال: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * فجاءت هذه الآية فيها تخفيف وعافية ويسر. - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال الانماطي، قال: ثنا همام، عن قتادة: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن ألا وأنتم مسلمون) * قال: نسختها هذه الآية التي في التغابن * (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا) * وعليها بايع رسول الله (ص) على السمع والطاعة فيما استطاعوا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: لما نزلت: * (اتقوا الله حق تقاته) * ثم نزل بعدها: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * فنسخت هذه الآية التي في آل عمران. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * فلم يطق الناس هذا، فنسخه الله عنهم، فقال: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) * قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم، نسخها عنهم، وجاء بهذه الاخرى، فقال: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * فنسخها. وأما قوله: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * فإن تأويله كما:
[ 42 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن طاوس: * (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * قال: على الاسلام وعلى حرمة الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الالفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لامر الله. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام. وأما الحبل، فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، ولذلك سمي الامان حبلا، لانه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الاخرى إليك حبالها ومنه قول الله عز وجل: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) *. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: الجماعة.
[ 43 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن العوام، عن الشعبي، عن عبد الله في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: حبل الله: الجماعة. وقال آخرون: عنى بذلك القرآن، والعهد الذي عهد فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: بعهد الله وأمره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله، قال: إن الصراط محتضر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق ! ليصدوا عن سبيل الله. فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله هو كتاب الله. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد بن المفضل، عن أسباط، عن السدي: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * أما حبل الله: فكتاب الله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (بحبل الله) *: بعهد الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء: * (بحبل الله) * قال: العهد. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن الاعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: حبل الله: القرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: القرآن. حدثنا سعيد بن يحيى، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الارض.
[ 44 ]
وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * يقول: اعتصموا بالاخلاص لله وحده. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) * قال: الحبل: الاسلام. وقرأ * (ولا تفرقوا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تفرقوا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولا تفرقوا) *: ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله (ص) والانتهاء إلى أمره. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم) * أن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والالفة والجماعة، فارضوا لانفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: * (ولا تفرقوا) *: لا تعادوا عليه، يقول: على الاخلاص لله، وكونوا عليه إخوانا. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، أن الاوزاعي حدثه، أن يزيد الرقاشي حدثه، أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة. قال: فقيل يا رسول الله، وما هذه الواحدة ؟ قال: فقبض يده وقال: الجماعة * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *. حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت الاوزاعي يحدث عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي (ص)، نحوه.
[ 45 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطنة المري، عن عبد الله أنه قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة. حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطنة، قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، ثم ذكر نحوه. حدثنا إسماعيل بن حفص الآملي، قال: ثنا عبد الله بن نمير أبو هشام، قال: ثنا مجالد بن سعيد، عن عامر، عن ثابت بن قطنة المري، قال: قال عبد الله: عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نحوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (واذكروا نعمت الله عليكم) *: واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الالفة والاجتماع على الاسلام. واختلف أهل العربية في قوله: * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله: * (واذكروا نعمت الله عليكم) *، ثم فسر بقوله: * (فألف بين قلوبكم) * وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول: أمسك الحائط أن يميل. وقال بعض نحويي الكوفة: قوله * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * تابع قوله: * (واذكروا نعمت الله عليكم) * غير منقطعة منها. والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: * (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * متصل بقوله: * (واذكروا نعمت الله عليكم) * غير منقطع عنه. وتأويل ذلك: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم
[ 46 ]
أعداء: أي بشرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالاسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الاسلام واجتماع كلمتكم عليه. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالاسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الالفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب ! حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء) *: يقتل بعضكم بعضا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالاسلام، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانا. فالنعمة التي أنعم الله على الانصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها هي ألفة الاسلام واجتماع كلمتهم عليها، والعداوة التي كانت بينهم، التي قال الله عز وجل: * (إذ كنتم أعداء) * فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الاوس والخزرج في الجاهلية قبل الاسلام، يزعم العلماء بأيام العرب، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: كانت الحرب بين الاوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الاسلام وهم على ذلك، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لاب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالاسلام، وألف بينهم برسوله محمد (ص). فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالاسلام واتباع الرسول (ص) والايمان به، وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانا. وكان سبب ذلك ما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بني
[ 47 ]
عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدى له رسول الله (ص) حين سمع به، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الاسلام، قال: فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي ! قال: فقال له رسول الله (ص): وما الذي معك ؟ قال مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله (ص): اعرضها علي ! فعرضها عليه، فقال: إن هذا الكلام حسن، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي هدى ونور. قال: فتلا عليه رسول الله (ص) القرآن ودعاه إلى الاسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بعاث. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني الحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بني عبد الاشهل: أن محمود بن أسد أحد بني عبد الاشهل، قال: لما قدم أبو الجيش أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الاشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، سمع بهم رسول الله (ص)، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ قالوا: وما ذاك ؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب. ثم ذكر لهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له ! قال: فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله (ص) عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الاوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه (ص)، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله (ص) الموسم الذي لقي فيه النفر من الانصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله لهم
[ 48 ]
خيرا. قال ابن حميد: قال سلمة: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله (ص) قال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالى يهود ؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا: بلى. قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الاسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ، قالوا لهم: إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر، ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، ولا يسبقنكم إليه ! فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، وسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك ! ثم انصرفوا عن رسول الله (ص)، راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا، وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله (ص)، ودعوهم إلى الاسلام، حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر من رسول الله (ص) حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الاولى، فبايعوا رسول الله (ص) على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
[ 49 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقي النبي (ص) ستة نفر من الانصار، فآمنوا به وصدقوه، فأراد أن يذهب معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن بين قومنا حربا، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد. فوعدوه العام المقبل، وقالوا: يا رسول الله نذهب، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب ! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلح، وهو يوم بعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا قد آمنوا، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا، فذلك حين يقول: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) *. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما: * (إذ كنتم أعداء) * ففي حرب * (فألف بين قلوبكم) * بالاسلام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، بنحوه، وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان، فتثاور الحيان، فقال بعضهم لبعض: موعدكم الحرة ! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآية: * (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) *... الآية، فأتاهم رسول الله (ص)، فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا، وحتى إن لهم لحنينا، يعني البكاء. وسمير الذي زعم السدي أن قوله * (إذ كنتم أعداء) * عنى به حربه، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله: إن سميرا أرى عشيرته قد حدبوا دونه وقد أبقوا إن يكن الظن صادقي ببني النجار لم يطعموا الذي علفوا وقد ذكر علماء الانصار أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها
[ 50 ]
الاوس والخزرج وأولها كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي، يقال له: الحر بن سمير، من مزينة، وكان حليفا لمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد (ص)، فذلك معنى قول السدي: حرب ابن سمير. وأما قوله: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) * فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالاسلام وكلمة الحق والتعاون على نصرة أهل الايمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم، ولا تحاسد. كما: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) *، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود: كيف أصبحتم ؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وكنتم على شفا حفرة من النار) *: وكنتم يا معشر المؤمنين من الاوس والخزرج على حرف حفرة من النار، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للاسلام، يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، قبل أن ينعم الله عليكم بالاسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فانقذكم الله منها بالايمان الذي هداكم له. وشفا الحفرة: طرفها وحرفها، مثل شفا الركية والبئر، ومنه قول الراجز: نحن حفرنا للحجيج سجله نابتة فوق شفاها بقله يعني فوق حرفها، يقال: هذا شفا هذه الركية مقصور، وهما شفواها. وقال: * (فأنقذكم منها) *: يعني فأنقذكم من الحفرة، فرد الخبر إلى الحفرة، وقد ابتدأ الخبر عن
[ 51 ]
الشفا، لان الشفا من الحفرة، فجاز ذلك، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل التي ذكرها في هذه الآية خبرا عن الحفرة، كما قال جرير بن عطية: رأت مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال فذكر مر السنين، ثم رجع إلى الخبر عن السنين. وكما قال العجاج: طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل. وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته) * كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكعومين على رأس حجر بين الاسدين: فارس، والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شئ يحسدون
[ 52 ]
عليه، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الارض، كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالاسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالاسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله: * (وكنتم على شفا حفرة من النار) * يقول: كنتم على الكفر بالله، * (فأنقذكم منها) *: من ذلك، وهداكم إلى الاسلام. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * بمحمد (ص) يقول: كنتم على طرف النار من مات منكم أوبق في النار، فبعث الله محمدا (ص)، فاستنقذكم به من تلك الحفرة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا حسن بن يحي: * (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * قال: عصبية. القول في تأويل قوله تعالى: * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) *. يعني جل ثناؤه بقوله: كذلك كما بين لكم ربكم في هذه الآيات أيها المؤمنون من الاوس والخزرج، من علماء اليهود، الذي يضمرونه لكم، وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم، يعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم، وصنائعه لديكم، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله، وعلى لسان رسوله (ص). * (لعلكم تهتدون) * يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 53 ]
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (ولتكن منكم) * أيها المؤمنون، * (أمة) * يقول: جماعة * (يدعون) * الناس * (إلى الخير) * يعني إلى الاسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، * (ويأمرون بالمعروف) * يقول: يأمرون الناس باتباع محمد (ص)، ودينه الذي جاء به من عند الله، * (وينهون عن المنكر) *: يعني وينهون عن الكفر بالله، والتكذيب بمحمد، وبما جاء به من عند الله بجهادهم بالايدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة. وقوله: * (وأولئك هم المفلحون) * يعني: المنجحون عند الله، الباقون في جناته ونعيمه. وقد دللنا على معنى الافلاح في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون الثقفي، أنه سمع صبيحا، قال: سمعت عثمان يقرأ: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن الزبير يقرأ، فذكر مثل قراءة عثمان التي ذكرناها قبل سواء. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * قال: هم خاصة أصحاب رسول الله، وهم خاصة الرواة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) * يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعدما جاءهم البينات، من حجج الله، فيما
[ 54 ]
اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جراءة على الله، وأولئك لهم: يعني ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيم. يقول جل ثناؤه: فلا تفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات) * قال: هم أهل الكتاب، نهى الله أهل الاسلام أن يتفرقوا ويختلفوا، كما تفرق واختلف أهل الكتاب، قال الله عز وجل: * (وأولئك لهم عذاب عظيم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) * ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) * قال هم اليهود والنصارى. القول في تأويل قوله تعالى: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ئ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) * يعني بذلك جل ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وأما قوله: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * فإن معناه: فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال لهم: * (أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) *. ولا بد لأما من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه، وإنما جاز ترك ذكر فيقال لدلالة ما ذكر من الكلام عليه. وأما معنى قوله جل ثناؤه: * (أكفرتم بعد إيمانكم) *
[ 55 ]
فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عني به، فقال بعضهم: عني به أهل قبلتنا من المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *... الآية، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: والذي نفس محمد بيده، ليردن علي الحوض ممن صحبني أقوام، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني، فلاقولن رب أصحابي أصحابي، فليقالن إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وقوله: * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) * هؤلاء أهل طاعة الله والوفاء بعهد الله، قال الله عز وجل: * (ففي رحمة الله هم فيها خالدون) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح، عن أبي مجالد، عن أبي أمامة: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) * قال: هم الخوارج. وقال آخرون: عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الايمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا علي بن الهيثم، قال: أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، في قوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسود وجهه وعيرهم: * (أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * قال: هو الايمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقروا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الاسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين، يقول: أكفرتم بعد إيمانكم، يقول بعد ذلك الذي كان
[ 56 ]
في زمان آدم، وقال في الآخرين: الذين استقاموا على إيمانهم ذلك، فأخلصوا له الدين والعمل، فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته. وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله: * (أكفرتم بعد إيمانكم) *: المنافقون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) *... الآية، قال: هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الايمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم. وأولى الاقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأن الايمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه، هو الايمان الذي أقروا به يوم قيل لهم: * (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) *. وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين: أحدهما سوداء وجوهه، والآخر بيضاء وجوهه، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سود وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله: * (أكفرتم بعد إيمانكم) * بعض الكفار دون بعض، وقد عم الله جل ثناؤه الخبر عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة، كان معلوما أنها المرادة بذلك. فتأويل الآية إذا: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه قوم، وتسود وجوه آخرين، فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئا، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم، يعني: بعد تصديقكم به، * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * يقول: بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالاقرار به والتصديق، وأما الذين ابيضت وجوههم ممن ثبت على عهد الله وميثاقه، فلم يبدل دينه، ولم ينقلب على عقبيه بعد الاقرار بالتوحيد، والشهادة لربه بالالوهة، وأنه لا إله غيره * (ففي رحمة الله) * يقول: فهم في رحمة الله، يعني في جنته ونعيمها، وما أعد الله لاهلها فيها، * (هم فيها خالدون) * أي باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 57 ]
* (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (تلك آيات الله) *: هذه آيات الله وقد بينا كيف وضعت العرب تلك وذلك مكان هذا وهذه في غير هذا الموضع فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وقوله: * (آيات الله) * يعني: مواعظ الله، وعبره وحججه. * (نتلوها عليك) * نقرؤها عليك ونقصها. * (بالحق) * يعني: بالصدق واليقين وإنما يعني بقوله: * (تلك آيات الله) * هذه الآيات التي ذكر فيها أمور المؤمنين من أنصار رسول الله (ص) وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده وبالمبدلين دينه والناقضين عهده بعد الاقرار به. ثم أخبر عز وجل نبيه محمدا (ص) أنه يتلو ذلك عليه بالحق وأعلمه أن من عاقبه من خلقه بما أخبر أنه معاقبه من تسويد وجهه وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه ومن جازاه منهم بما جازاه من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه بتخليده في دائم نعيمه فبغير ظلم منه لفريق منهم بل لحق استوجبوه وأعمال لهم سلفت، جازاهم عليها، فقال تعالى ذكره: * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * يعني بذلك: وليس الله يا محمد بتسويد وجوه هؤلاء، وإذاقتهم العذاب العظيم، وتبييض وجوه هؤلاء، وتنعيمه إياهم في جنته، طالبا وضع شئ مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه، إعلاما بذلك عباده، أنه لن يصلح في حكمته بخلقه، غير ما وعد أهل طاعته والايمان به، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به، وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولله ما في السماوات وما في الارض وإلى الله ترجع الامور) * يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم، وتسويد الوجوه، ويثيب أهل الايمان به، الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها، بما وصف أنه مثيبهم به، من الخلود في جنانه، من غير ظلم منه لاحد الفريقين فيما فعل، لانه لا حاجة به إلى الظلم، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه، وإلى سلطانه سلطانا، وإلى ملكه ملكا، لنقصان في بعض أسبابه، يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصا من أسبابه عن التمام، فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب، وما في الدنيا والآخرة، فلا معنى لظلمه أحدا فيجوز أن يظلم شيئا، لانه ليس من أسبابه شئ ناقص يحتاج إلى تمام، فيتم ذلك بظلم غيره، تعالى الله علوا كبيرا، ولذلك قال جل ثناؤه عقيب قوله: * (وما الله يريد ظلما للعالمين) * * (ولله ما في السموات وما في الارض وإلى الله ترجع الامور) *.
[ 58 ]
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله: * (وإلى الله ترجع الامور) * ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله: * (ولله ما في السموات وما في الارض) * فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: ذلك نظير قول العرب: أما زيد فذهب زيد، وكما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فأظهر في موضع الاضمار. وقال بعض نحويي الكوفة: ليس ذلك نظير هذا البيت، لان موضع الموت الثاني في البيت موضع كناية، لانه كلمة واحدة، وليس ذلك كذلك في الآية، لان قوله: * (ولله ما في السموات وما في الارض) * خبر ليس من قوله: * (وإلى الله ترجع الامور) * في شئ، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الاخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة إلى الاخرى، وما قال الشاعر: لا أرى الموت محتاج إلى تمام الخبر عنه. وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب، لان كتاب الله عز وجل لا يؤخذ معانيه، وما فيه من البيان إلى الشواذ من الكلام والمعاني وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم وجه صحيح موجود. وأما قوله: * (وإلى الله ترجع الامور) * فإنه يعني تعالى ذكره: إلى الله مصير أمر جميع خلقه الصالح منهم، والطالح والمحسن والمسئ، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء بغير ظلم منه أحدا منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
[ 59 ]
وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * اختلف أهل التأويل في قوله: * (كنتم خيرا أمة أخرجت للناس) * فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله (ص)، من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: هم الذين خرجوا معه من مكة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال أنتم، فكنا كلنا، ولكن قال: * (كنتم) * في خاصة من أصحاب رسول الله (ص)، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، قال عمر: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: تكون لاولنا، ولا تكون لآخرنا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: هم الذين هاجروا مع النبي (ص) إلى المدينة.
[ 60 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها: ورأى من الناس رعة سيئة، فقرأ هذه: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *... الآية، ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الامة، فليؤد شرط الله منها. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: هم أصحاب رسول الله (ص) خاصة، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله أخرجوا للناس في زمانكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * يقول: على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله، يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: يقول: كنتم خير الناس للناس، على هذا الشرط، أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله، يقول لمن بين ظهريه كقوله: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) *. وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون بهم في السلاسل، تدخلونهم في الاسلام. حدثنا عبيد بن أسباط، قال: ثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: خير الناس للناس.
[ 61 ]
وقال آخرون: إنما قيل: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * لانهم أكثر الامم استجابة للاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الاسلام من هذه الامة، فمن ثم قال: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) *. وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * قال: قد كان ما تسمع من الخير في هذه الامة: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن: يعقوب بن إبراهيم حدثني قال: ثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع النبي (ص) يقول في قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * قال: أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال ذات يوم، وهو مسند ظهره إلى الكعبة: نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها. وأما قوله: * (تأمرون بالمعروف) * فإنه يعني: تأمرون بالايمان بالله ورسوله، والعمل
[ 62 ]
بشرائعه، * (وتنهون عن المنكر) * يعني: وتنهون عن الشرك بالله، وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه. كما: حدثنا علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * يقول: تأمرونهم بالمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والاقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر والمنكر: هو التكذيب، وهو أنكر المنكر. وأصل المعروف: كل ما كان معروفا ففعله جميل مستحسن غير مستقبح في أهل الايمان بالله. وإنما سميت طاعة الله معروفا، لانه مما يعرفه أهل الايمان ولا يستنكرون فعله. وأصل المنكر ما أنكره الله، ورأوه قبيحا فعله، ولذلك سميت معصية الله منكرا، لان أهل الايمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون ركوبها. وقوله: * (وتؤمنون بالله) * يعني: تصدقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة. فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: * (كنتم خير أمة) * وقد زعمت أن تأويل الآية أن هذه الامة خير الامم التي مضت، وإنما يقال: كنتم خير أمة، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه ؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: * (واذكروا إذ أنتم قليل) * وقد قال في موضع آخر: * (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) * فإدخال كان في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لان الكلام معروف معناه. ولو قال أيضا في ذلك قائل: كنتم بمعنى التمام، كان تأويله: خلقتم خير أمة، أو وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحا، وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ أخرجت للناس، والقولان الاولان اللذان قلنا، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل. وقال آخرون معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة، وقال: الامة: الطريقة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) *. يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدق أهل التوراة والانجيل من اليهود والنصارى
[ 63 ]
بمحمد (ص)، وما جاءهم به من عند الله، لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم، وآجل آخرتهم. * (منهم المؤمنون) * يعني من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدقون رسول الله (ص) فيما جاءهم به من عند الله، وهم عبد الله بن سلام، وأخوه، وثعلبة بن سعية وأخوه، وأشباههم ممن آمنوا بالله، وصدقوا برسوله محمد (ص)، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله. * (وأكثرهم الفاسقون) * يعني: الخارجون عن دينهم، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة، والتصديق بمحمد (ص)، ومن دين النصارى اتباع ما في الانجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد (ص) ونعته، ومبعثه، وأنه نبي الله، وكلتا الفرقتين، أعني اليهود والنصارى مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به الذي قال جل ثناؤه * (وأكثرهم الفاسقون) *. وقال قتادة بما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) *: ذم الله أكثر الناس. القول في تأويل قوله تعالى: * (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) * يعني بذلك جل ثناؤه: لن يضركم يا أهل الايمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم، وتكذيبهم نبيكم محمدا (ص) شيئا إلا أذى، يعني بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولا يضرونكم بذلك، وهذا من الاستثناء المنقطع، الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قيل ما اشتكى شيئا إلا خيرا، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (لن يضروكم إلا أذى) * يقول: لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (لن يضروكم إلا أذى) * قال: أذى تسمعونه منهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (لن يضروكم إلا أذى) * قال: إشراكهم في عزير وعيسى والصليب.
[ 64 ]
حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (لن يضروكم إلا أذى) *... الآية، قال: تسمعون منهم كذبا على الله، يدعونكم إلى الضلالة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وإن يقاتلكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يهزموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزاما، فقوله: * (يولوكم الادبار) * كناية عن انهزامهم، لان المنهزم يحول ظهره إلى جهة الطالب هربا إلى ملجأ، وموئل يئل إليه منه، خوفا على نفسه، والطالب في أثره، فدبر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازمة. * (ثم لا ينصرون) * يعني: ثم لا ينصرهم الله أيها المؤمنون عليكم لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد (ص)، لان الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم أيها المؤمنون بنصركم. وهذا وعد من الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) وأهل الايمان نصرهم على الكفرة من أهل الكتاب. وإنما رفع قوله: * (ثم لا ينصرون) * وقد جزم قوله: * (يولوكم الادبار) * على جواب الجزاء ائتنافا للكلام، لان رءوس الآيات قبلها بالنون، فألحق هذه بها، قال: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * رفعا، وقد قال في موضع آخر: * (لا يقضى عليهم فيموتوا) * إذ لم يكن رأس آية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وبآءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * يعني بقول جل ثناؤه * (ضربت عليهم الذلة) * ألزموا الذلة، والذلة: الفعلة من الذل، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. * (أينما ثقفوا) * يعني: حيثما لقوا. يقول جل ثناؤه: ألزم اليهود المكذبون بمحمد (ص) الذلة أينما كانوا من الارض، وبأي مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين، إلا بحبل من الله، وحبل من الناس كما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن في
[ 65 ]
قوله: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل منالله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة) * قال: أدركتهم هذه الامة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قل: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * قال: أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. وأما الحبل الذي ذكره الله في هذا الموضع، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين، وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الاسلام. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إلا بحبل من الله) * قال: بعهد، * (وحبل من الناس) * قال: بعهدهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * يقول: إلا بعهد من الله، وعهد من الناس. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال عكرمة: يقول: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * قال: بعهد من الله، وعهد من الناس. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * يقول: إلا بعهد من الله، وعهد من الناس. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * يقول: إلا بعهد من الله، وعهد من الناس. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * فهو عهد من الله، وعهد من الناس، كما يقول الرجل: ذمة الله، وذمة رسوله (ص)، فهو الميثاق.
[ 66 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: * (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * قال: بعهد من الله، وعهد من الناس لهم. قال ابن جريج وقال عطاء: العهد: حبل الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * قال: إلا بعهد وهم يهود، قال: والحبل: العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التيهان لرسول الله (ص) حين أتته الانصار في العقبة: أيها الرجل إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس، يقول: عهودا. قال: واليهود لا يأمنون في أرض من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل، وقرأ: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب هم في البلدان كلها مستذلون، قال الله: * (وقطعناهم في الارض أمما) * يهود. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * بقول: بعهد من الله، وعهد من الناس. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله. واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * فقال بعض نحويي الكوفة: الذي جلب الباء في قوله: * (بحبل) * فعل مضمر قد ترك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فأضمر ذلك. واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: رأتني بحبليها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
[ 67 ]
وقال: أراد: أقبلت بحبليها. وبقول الآخر: حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل أحنو لصيد فأوجب إعمال فعل محذوف وإظهار صلته وهو متروك، وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الابيات، فغير دال على صحة دعواه، لان في قول الشاعر: رأتني بحبليها، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكا، ففي إخباره عنها أنها رأته بحبليها إخبار منه أنها رأته ممسكا بالحبلين، فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الامساك، وكانت الباء صلة لقوله: رأتني، كما في قول القائل: أنا بالله مكتف بنفسه، ومعرفة السامع معناه أن تكون الباء محتاجة إلى كلام يكون لها جالبا غير الذي ظهر، وأن المعنى أنا بالله مستعين. وقال بعض نحويي البصرة: قوله: * (إلا بحبل من الله) * استثناء خارج من أول الكلام، قال: وليس ذلك بأشد من قوله: * (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) *. وقال آخرون من نحويي الكوف: هو استثناء متصل. والمعنى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا: أي بكل مكان، إلا بموضع حبل من الله، كما تقول: ضربت عليهم الذلة في الامكنة إلا في هذا المكان، وهذا أيضا طلب الحق، فأخطأ المفصل، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة، وليس ذلك صفة اليهود لانهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس، أو بغير حبل من الله عز وجل، وغير حبل من الناس، فالذلة مضروبة
[ 68 ]
عليهم على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة، أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم. وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. ولكن القول عندنا أن الباء في قوله: * (إلا بحبل من الله) * أدخلت لان الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى الباء، وذلك أن معنى قولهم: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) *: ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا، ثم قال: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * على غير وجه الاتصال بالاول، ولكنه على الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، كما قيل: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستنثاء، فليس قوله باستثناء متصل بالاول بمعنى إلا خطأ، فإن له قتله كذلك، ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: * (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) * وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله بمعنى أن القوم إذا لقوا، فالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكل حال، ولكن معناه ما بينا آنفا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق) *. يعني تعالى ذكره: * (وباءوا بغضب من الله) *: وتحملوا غضب الله، فانصرفوا به مستحقيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى المسكنة، وأنها ذل الفاقة والفقر وخشوعهما، ومعنى الغضب من الله فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: أي بؤؤهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة عليهم، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله، يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه. * (ويقتلون الانبياء بغير حق) * يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداء على الله، وجراءة عليه بالباطل، وبغير حق استحقوا منهم القتل. فتأويل الكلام: ألزموا الذلة بأي مكان لقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه، وألزموا ذل الفاقة، وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله، وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلما واعتداء.
[ 69 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) *. يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الانبياء، ومعصيتهم ربهم، واعتدائهم أمر ربهم. وقد بينا معنى الاعتداء في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته. فأعلم ربنا جل ثناؤه عباده، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ادخر لهم في الآجل من العقوبة والنكال، وأليم العذاب، إذ تعدوا حدود الله، واستحلوا محارمه، تذكيرا منه تعالى ذكره لهم، وتنبيها على موضع البلاء الذي من قبله أتوا لينيبوا ويذكروا، وعظة منه لامتنا، أن لا يستنوا بسنتهم، ويركبوا منهاجهم، فيسلك بهم مسالكهم، ويحل بهم من نقم الله ومثلاته ما أحل بهم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) * اجتنبوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس القول في تأويل قوله تعالى: * (ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آنآء الليل وهم يسجدون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (ليسوا سواء) * ليس فريقا أهل الكتاب، أهل الايمان منهم والكفر سواء، يعني بذلك: أنهم غير متساوين، يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد والخير والشر. وإنما قيل: ليسوا سواء، لان فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) * ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة، فقال: * (ليسوا سواء) *: أي ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم، وأثنى عليهم بعد ما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونخب الجنان، ومحالفة الذل
[ 70 ]
والصغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة، فقال: * (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) *... الآيات الثلاث، إلى قوله: * (والله عليم بالمتقين) * فقوله: أمة قائمة مرفوعة بقوله: من أهل الكتاب. وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدمين منهم في صناعتهم، أن ما بعد سواء في هذا الموضع من قوله: * (أمة قائمة) * ترجمة عن سواء، وتفسير عنه بمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل، وأخرى كافرة، وزعموا أن ذكر الفرقة الاخرى ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين، وهي الامة القائمة، ومثلوه بقول أبي ذؤيب: عصيت إليها القلب إني لامرها سميع فما أدري أرشد طلابها ولم يقل: أم غير رشد اكتفاء بقوله: أرشد من ذكر أم غير رشد. وبقول الآخر: أزال فلا أدري أهم هممته وذو الهم قدما خاشع متضائل وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل المريد أن يقول: سواء أقمت أم قعدت، سواء أقمت حتى يقول أم قعدت، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيا بواحد دون ما كان ناقصا عن ذلك، وذلك نحو ما أبالي أو ما أدري، فأجازوا في ذلك ما أبالي أقمت، وهم يريدون: ما أبالي أقمت أم قعدت، لاكتفاء ما أبالي بواحد، وكذلك في ما أدري، وأبوا الاجازة في سواء من أجل نقصانه، وأنه غير مكتف بواحد، فأغفلوا في توجيههم قوله: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) * على ما حكينا عنهم إلى ما وجهوه
[ 71 ]
إليه مذاهبهم في العربية، إذ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع سواء، وأخطئوا تأويل الآية، فسواء في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء، لا بالمعنى الذي تأوله من حكينا قوله. وقد ذكر أن قوله: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) *... الآيات الثلاث، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا، فحسن إسلامهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الاسلام ومنحوا فيه، قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله) * إلى قوله: * (وأولئك من الصالحين) *. حدثنا أبو كريب قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) *... الآية، يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: * (أمة قائمة) *: عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية ومبشر، وأسيد وأسد ابنا كعب. وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله سواء عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) * قال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد (ص). حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 72 ]
عن السدي: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) *... الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الامة التي هي قائمة. وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال: قد تمت القصة عند قوله: * (ليسوا سواء) * عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب، وأهل الكفر منهم، وأن قوله: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) *. خبر مبتدأ عن مدح مؤمنيهم، ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج. ويعني جل ثناؤه بقوله: * (أمة قائمة) *: جماعة ثابتة على الحق. وقد دللنا على معنى الامة فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وأما القائمة، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناها: العادلة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (أمة قائمة) * قال: عادلة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (أمة قائمة) * يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (أمة قائمة) * يقول: قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (من أهل الكتاب أمة قائمة) * يقول: أمة مهتدية قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وقال آخرون: بل معنى قائمة: مطيعة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أمة قائمة) * الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود، كمثل هذه الامة التي هي قانتة لله والقانتة: المطيعة. وأولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل ذلك ما قاله ابن عباس وقتادة، ومن قال
[ 73 ]
بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الاقوال الاخر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله: * (قائمة) * مستقيمة على الهدى، وكتاب الله وفرائضه، وشرائع دينه، بالعدل والطاعة، وغير ذلك من أسباب الخير من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله (ص). ونظير ذلك الخبر الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي (ص) أنه قال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة، ثم ضرب لهم مثلا فالقائم على حدود الله هو الثابت على التمسك بما أمره الله به واجتناب ما نهاه الله عنه. فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه، وما سن له رسوله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) *. يعني بقوله: * (يتلون آيات الله) *: يقرءون كتاب الله آناء الليل، ويعني بقوله: * (آيات الله) *: ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ، يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبرونه ويتفكرون فيه. وأما * (آناء الليل) *: فساعات الليل، واحدها: إني، كما قال الشاعر: حلو ومر كعطف القدح مرته في كل إني قضاه الليل ينتعل وقد قيل إن واحد الآناء: إنى مقصور، كما واحد الامعاء: معى. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما
[ 74 ]
قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (يتلون آيات الله آناء الليل) *: أي ساعات الليل. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: * (آناء الليل) *: ساعات الليل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول: * (آناء الليل) *: ساعات الليل. وقال آخرون * (آناء الليل) *: جوف الليل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يتلون آيات الله آناء الليل) * أما آناء الليل: فجوف الليل. وقال آخرون: بل عني بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الاخيرة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود في قوله: * (يتلون آيات الله آناء الليل) *: صلاة العتمة، هم يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله -، عن سليمان بن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: احتبس علينا رسول الله (ص) ذات ليلة كان عند بعض أهله ونسائه، فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشرنا وقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب، فأنزل الله: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله اناء الليل وهم يسجدون) *. حدثني يونس، قال: ثنا، علي بن معبد، عن أبي يحيى الخراساني، عن نصر بن طريف، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: خرج علينا رسول الله (ص) ونحن ننتظر العشاء - يريد العتمة - فقال لنا: ما على الارض أحد من أهل الاديان ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم قال: فنزلت: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) *.
[ 75 ]
وقال آخرون: بل عني بذلك قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، قال: بلغني أنها نزلت: * (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) * فيما بين المغرب والعشاء. وهذه الاقوال التي ذكرتها على اختلافها متقاربة المعاني، وذلك أن الله تعالى ذكره، وصف هؤلاء القوم، بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوف الليل، فكل تال له ساعات الليل. غير أن أولى الاقوال بتأويل الآية، قول من قال: عني بذلك: تلاوة القرآن في صلاة العشاء، لانها صلاة لا يصليها أحد من أهل الكتاب، فوصف الله أمة محمد (ص) بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله. وأما قوله: * (وهم يسجدون) * فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى السجود في هذا الموضع اسم الصلاة لا السجود، لان التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع، فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلو آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فالسجود هو السجود المعروف في الصلاة. القول في تأويل قوله تعالى: * (يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ئ يعني بقوله عز وجل: يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين * (يؤمنون بالله واليوم الآخر) *: يصدقون بالله، وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم، وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الاعمال والثواب والعقاب. وقوله: * (ويأمرون بالمعروف) * يقول: يأمرون الناس بالايمان بالله ورسوله، وتصديق محمد (ص)، وما جاءهم به. * (وينهون عن المنكر) * يقول: وينهون
[ 76 ]
الناس عن الكفر بالله، وتكذيب محمد، وما جاءهم به من عند الله: يعني بذلك: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى، الذي يأمرون الناس بالكفر، وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف من الاعمال، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله: * (ويسارعون في الخيرات) * يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم. ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب هم من عداد الصالحين، لان من كان منهم فاسقا قد باء بغضب من الله، لكفره بالله وآياته، وقتلهم الانبياء بغير حق، وعصيانه ربه، واعتدائه في حدوده. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما تفعلوا من خير فلن تكفروه والله عليم بالمتقين) *. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) * جميعا، ردا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقرأته عامة قراء المدينة والحجاز وبعض قراء الكوفة بالتاء في الحرفين جميعا: * (وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) * بمعنى: وما تفعلوا أنتم أيها المؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم. وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزا بالياء والتاء في الحرفين. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) * بالياء في الحرفين كليهما، يعني بذلك الخبر عن الامة القائمة، التالية آيات الله. وإنما اخترنا ذلك، لان ما قبل هذه الآية من الآيات خبر عنهم، فإلحاق هذه الآية إذ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم بمعاني الآيات قبلها أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ. حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرؤهما جميعا بالياء. فتأويل الآية إذا على ما اخترنا من القراءة: وما تفعل هذه الامة من خير، وتعمل من عمل لله فيه رضا فلن يكفرهم الله ذلك، يعني بذلك: فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه، ولكنه يجزل لهم الثواب عليه، ويسني لهم الكرامة والجزاء.
[ 77 ]
وقد دللنا على معنى الكفر مضى قبل بشواهده، وأن أصله تغطية الشئ، فكذلك ذلك في قوله: * (فلن يكفروه) *: فلن يغطي على ما فعلوا من خير، فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يشكرون على ما فعلوا من ذلك، فيجزل لهم الثواب فيه. وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأول ذلك من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وما تفعلوا من خير فلن تكفروه يقول: لن يضل عنكم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله. وأما قوله: * (والله عليم بالمتقين) * فإنه يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بمن اتقاه بطاعته، واجتناب معاصيه، وحافظ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها، ويجازيهم بها. تبشيرا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا، وحضا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الاخلاق التي ارتضاها لهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وهذا وعيد من الله عز وجل للامة الاخرى الفاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون وأنهم قد باءوا بغضب منه، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله، وما جاء به محمد (ص) من عند الله. يقول تعالى ذكره: * (إن الذين كفروا) * يعني الذين جحدوا نبوة محمد (ص)، وكذبوا به، وبما جاءهم به من عند الله، * (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * يعني: لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا وأولاده الذين رباهم فيها شيئا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة، ولا في الدنيا إن عجلها لهم فيها. وإنما خص أولاده وأمواله، لان أولاد الرجل أقرب أنسبائه إليه، وهو على ماله أقرب منه على مال غيره، وأمره فيه أجوز من أمره في مال غيره، فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه وماله الذي هو نافذ الامر فيه، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا. ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله: * (وأولئك أصحاب النار) *، وإنما جعلهم أصحابها، لانهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها، كصاحب الرجل الذي لا يفارقه وقرينه الذي لا يزايله. ثم وكد ذلك بإخباره
[ 78 ]
عنهم أنهم فيها خالدون، صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، إذ كان من الاشياء ما يفارق صاحبه في بعض الاحوال ويزايله في بعض الاوقات، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النار التي أصلوها، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع، نعوذ بالله منها ومما قرب منها من قول وعمل. القول في تأويل قوله تعالى: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: شبه ما ينفق الذين كفروا: أي شبه ما يتصدق به الكافر من ماله، فيعطيه من يعطيه على وجه القربة إلى ربه، وهو لوحدانية الله جاحد ولمحمد (ص) مكذب في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحل عند حاجته إليه ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه، كشبه ريح فيها برد شديد * (أصابت) * هذه الريح التي فيها البرد الشديد * (حرث قوم) * يعني زرع قوم، قد أملوا إدراكه، ورجوا ريعه وعائدة نفعه، * (ظلموا أنفسهم) * يعني أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدوا حدوده * (فأهلكته) * يعني فأهلكت الريح التي فيها الصر زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الامل، ورجاء عائدة نفعه عليهم. يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته حين يلقاه يبطل ثوابها، ويخيب رجاءه منها. وخرج المثل للنفقة، والمراد بالمثل: صنيع الله بالنفقة، فبين ذلك قوله: * (كمثل ريح فيها صر) * فهو كما قد بينا في مثله من قوله: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) * وما أشبه ذلك. فتأويل الكلام: مثل إبطال الله أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر إبطال الله أجر ذلك لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله: * (كمثل ريح فيها صر) * ولمعرفة السامع ذلك معناه. واختلف أهل التأويل في معنى النفقة التي ذكرها في هذه الآية، فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) * قال: نفقة الكافر في الدنيا.
[ 79 ]
وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه مما لا يصدقه بقلبه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته) * يقول: مثل ما يقول فلا يقبل منه كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صر أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم. وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل. وقد تقدم بياننا تأويل الحياة الدنيا بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. وأما الصر، فإنه شدة البرد، وذلك بعصوف من الشمال في إعصار الطل والانداء في صبيحة معتمة بعقب ليلة مصحية. كما: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة يقول: * (ريح فيها صر) * قال: برد شديد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: * (ريح فيها صر) * قال: برد شديد وزمهرير. حدثنا علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي. عن ابن عباس، قوله: * (ريح فيها صر) * يقول: برد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: الصر: البرد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (كمثل ريح فيها صر) *: أي برد شديد. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في الصر: البرد الشديد. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (كمثل ريح فيها صر) * يقول: ريح فيها برد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (ريح فيها
[ 80 ]
صر) * قال: صر باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها الضريب: تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع، تقول: قد ضرب الليلة أصابه ضريب تلك الصر التي أصابته. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك: * (ريح فيها صر) * قال: ريح فيها برد. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم، وإبطاله أجورها ظلما منه لهم، يعني: وضعا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله، لان عملهم الذي عملوه لم يكن لله، وهم له بالوحدانية دائنون ولامره متبعون، ولرسله مصدقون. بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولامره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والاقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد الاعتذار إليه من إحباط وافر عمله له ظالما، بل الكافر هو الظالم نفسه لاكسابها من معصية الله وخلاف أمره ما أوردها به نار جهنم وأصلاها به سعير سقر. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) * يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم، * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) * يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لانفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين. وإنما جعل البطانة مثلا لخليل الرجل فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطلاعه على أسراره، وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه، محل ما ولي جسده من ثيابه، فنهى الله المؤمنين به
[ 81 ]
أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم عن مخالتهم، فقال تعالى ذكره: * (لا يألونكم خبالا) * يعني لا يستطيعونكم شرا، من ألوت آلو ألوا، يقال: ما ألا فلان كذا، أي ما استطاع، كما قال الشاعر: جهراء لا تألو إذا هي أظهرت بصرا ولا من عيلة تغنيني يعني لا تستطيع عند الظهر إبصارا. وإنما يعني جل ذكره بقوله: * (لا يألونكم خبالا) * البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا: أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. وأصل الخبال والخبال: الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة، يدل على ذلك الخبر عن النبي (ص): من أصيب بخبل - أو جراح. وأما قوله: * (ودوا ما عنتم) * فإنه يعني: ودوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسركم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة بالاسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الاسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شئ من أمورهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: قال
[ 82 ]
محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم، فنهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) * إلى قوله: * (وتؤمنون بالكتاب كله) *. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * في المنافقين من أهل المدينة، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولوهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم) * نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم، أي يتولوهم من دون المؤمنين. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (لا تتخذوا بطانة من دونكم) * هم المنافقون. حدثت عن عمار. قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) * يقول: لا تستدخلوا المنافقين، تتولوهم دون المؤمنين. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الازهر بن راشد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص): لا تستضيئوا بنار أهل الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال: فلم ندر ما ذلك حتى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله: لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمد، وأما قوله: ولا تستيضئوا بنار أهل الشرك، فإنه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شئ من أموركم. قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) *.
[ 83 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) * أما البطانة: فهم المنافقون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) *... الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) *... الآية، قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قوله: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) *... الآية. واختلفوا في تأويل قوله * (ودوا ما عنتم) * فقال بعضهم معناه: ودوا ما ضللتم عن دينكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ودوا ما عنتم) * يقول: ما ضللتم. وقال آخرون بما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ودوا ما عنتم) * يقول في دينكم، يعني: أنهم يودون أن تعنتوا في دينكم. فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: * (ودوا ما عنتم) * فجاء بالخبر عن البطانة بلفظ الماضي في محل الحال والقطع بعد تمام الخبر، والحالات لا تكون إلا بصور الاسماء والافعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ قيل: ليس الامر في ذلك على ما ظننت من أن قوله: * (ودوا ما عنتم) * حال من البطانة، وإنما هو خبر عنهم ثان، منقطع عن الاول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الاولى، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد. وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله: * (ودوا ما عنتم) * من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله: * (لا يألونكم خبالا) * فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام البطانة بصلته، ولكن القول في ذلك كما بينا قبل من أن قوله: * (ودوا ما عنتم) * خبر مبتدأ عن البطانة غير الخبر الاول، وغير حال من البطانة ولا قطع منها.
[ 84 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم، وعدواتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة، فذلك من أوكد الاسباب من معاداتهم أهل الايمان، لان ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك، فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدلالة لاهل الايمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة. وقد قال بعضهم: معنى قوله: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * قد بدت بغضاؤهم لاهل الايمان إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الآية: أهل النفاق، دون من كان مصرحا بالكفر من اليهود وأهل الشرك. ذكر من قال ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * يقول: قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للاسلام وأهله وبغضهم إياهم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * يقول: من أفواه المنافقين. وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للاسلام وأهله، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الايمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم، كان بينا أن الذي نهى الله
[ 85 ]
المؤمنون عن اتخاذهم لانفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله (ص) وأصحابه من أهل الكتاب، لانهم لو كانوا المنافقين لكان الامر فيهم على ما قد بينا، ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب، لم يكن المؤمنون متخذيهم لانفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله (ص)، ممن كان له من رسول الله (ص) عهد وعقد من يهود بني إسرائيل. والبغضاء: مصدر، وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود: قد بدا البغضاء من أفواههم، على وجه التذكير، وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث، لان المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم، فيجوز تذكير ما خرج منها على لفظ المؤنث وتأنيثه، كما قال عز وجل: * (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) * وكما قال: * (فقد جاءكم بينة من ربكم) * وفي موضع آخر: * (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) * * (وجاءتكم بينة من ربكم) *. وقال: * (من أفواههم) * وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لان المعني به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما تخفي صدورهم أكبر) *. يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم، يعني صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة فتخفيه عنكم أيها المؤمنون أكبر، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وما تخفي صدورهم أكبر) * يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (وما تخفي صدورهم أكبر) * يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
[ 86 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: قد بينا لكم أيها المؤمنون الآيات، يعني بالآيات: العبر، قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم، * (إن كنتم تعقلون) * يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته عليكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) * يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم أيها المؤمنون الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم، وهم لا يحبونكم، بل ينتظرون لكم العداوة والغش، وتؤمنون بالكتاب كله. ومعنى الكتاب في هذا الموضع، معنى الجمع، كما يقال: أكثر الدرهم في أيدي الناس، بمعنى الدراهم، فكذلك قوله: * (وتؤمنون بالكتاب كله) *، إنما معناه: بالكتب كلها كتابكم الذي أنزل الله إليكم، وكتابهم الذي أنزله إليهم، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده. يقول تعالى ذكره: فأنتم إذ كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أن الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم، كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه، أولى بعداوتكم إياهم، وبغضائهم وغشهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (وتؤمنون بالكتاب كله) *: أي بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. وقال: * (ها أنتم أولاء) * ولم يقل: هؤلاء أنتم، ففرق بين ها وأولاء بكناية اسم
[ 87 ]
المخاطبين، لان العرب كذلك تفعل في هذا إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، وذلك مثل أن يقال لبعضهم: أين أنت ؟ فيجيب المقول ذلك له: ها أنا ذا، فيفرق بين التنبيه وذا بمكني اسم نفسه، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، ثم يثنى ويجمع على ذلك، وربما أعادوا حرف التنبيه مع ذا، فقالوا: ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبا، فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان، قالوا: هذا هو، وهذا أنت، وكذلك يفعلون مع الاسماء الظاهرة، يقولون: هذا عمرو قائما، إن كان هذا تقريبا. وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب تفرقة بين هذا إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام، وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. وقوله: * (تحبونهم) * خبر للتقريب. وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الايمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الايمان. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله) * فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي له ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لاباد خضراءه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه لاباد خضراءه. وكان مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين. حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ) *. يعني بذلك تعالى ذكره: إن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من
[ 88 ]
دونهم، ووصفهم بصفتهم إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص)، أعطوهم بألسنتهم تقية، حذرا على أنفسهم منهم، فقالوا لهم: قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد (ص)، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، عضوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، * (أناملهم) * وهي أطراف أصابعهم، تغيظا مما بهم من الموجدة عليهم، وأسا على ظهر يسندون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ) *: إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك. * (وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ) * يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحا لكانوا على المؤمنين، فهم كما نعت الله عز وجل. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله، إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه، ولم يقل: لو يجدون ريحا وما بعده. حدثنا عباس بن محمد، قال: ثنا مسلم، قال: ثني يحيى بن عمرو بن مالك البكري، قال: ثنا أبي، قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية: * (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ) * قال: هم الاباضية. والانامل: جمع أنملة، ويقال أنملة، وربما جمعت أنملا، قال الشاعر: أودكما ما بل حلقي ريقتي وما حملت كفاي أنملي العشرا وهي أطراف الاصابع، كما:
[ 89 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، الانامل: أطراف الاصابع. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل) *: الاصابع. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الاحوص، عن عبد الله، قوله: * (عضوا عليكم الانامل من الغيظ) * قال: عضوا على أصابعهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) *. يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك، قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ: موتوا بغيظكم الذي بكم على المؤمنين، لاجتماع كلمتهم، وائتلاف جماعتهم. وخرج هذا الكلام مخرج الامر، وهو دعاء من الله نبيه محمدا (ص) بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه (ص): قل يا محمد، اهلكوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، يعني بذلك: إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين، قالوا: آمنا، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبما في صدور جميع خلقه، حافظ على جميعهم ما هو عليه منطو من خير وشر، حتى يجازي جميعهم على ما قدم من خير وشر، واعتقد من إيمان وكفر، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة أو غل وغمر. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) * يعني بقوله تعالى ذكره: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) * إن تنالوا أيها المؤمنون سرورا بظهوركم على عدوكم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وتصديق نبيكم، ومعاونتكم
[ 90 ]
على أعدائكم، يسؤهم. وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم، أو بإصابة عدو لكم منكم، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) *، فإذا رأوا من أهل الاسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الاسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) * قال: هم المنافقون إذا رأوا من أهل الاسلام جماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم، وإذا رأوا من أهل الاسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرهم ذلك وأعجبوا به، قال الله عز وجل: * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) * قال: إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا. وأما قوله: * (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) * فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه، من اتخاذ بطانة لانفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم، وتتقوا ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم، وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله، لا يضركم كيدهم شيئا: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. ويعني بكيدهم: غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق. واختلف القراء في قراءة قوله: * (لا يضركم) * فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين: لا يضركم مخففة بكسر الضاد من قول القائل: ضارني فلان فهو يضيرني ضيرا، وقد حكي سماعا من العرب: ما ينفعني ولا يضورني. فلو كانت قرئت على
[ 91 ]
هذه اللغة لقيل: لا يضركم كيدهم شيئا، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به، وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة: * (لا يضركم كيدهم شيئا) * بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل: ضرني فلان فهو يضرني ضرا. وأما الرفع في قوله: * (لا يضركم) * فمن وجهين: أحدهما على إتباع الراء في حركتها، إذ كان الاصل فيها الجزم، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الحروف التي قبلها، وذلك حركة الضاد، وهي الضمة، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها، كما قالوا: مد يا هذا. والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك: أن تكون مرفوعة على صحة، وتكون لا بمعنى ليس، وتكون الفاء التي هي جواب الجزاء متروكة لعلم السامع بموضعها. وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئا، ثم تركت الفاء من قوله: * (لا يضركم كيدهم) * ووجهت لا إلى معنى ليس، كما قال الشاعر: فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا ولو كانت الراء محركة إلى النصب والخفض كان جائزا، كما قيل: مد يا هذا، ومد. وقوله: * (إن الله بما تعملون محيط) * يقول جل ثناؤه: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصد عن سبيله والعداوة لاهل دينه وغير ذلك من معاصي الله، محيط بجميعه، حافظ له لا يعزب عنه شئ منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ويذيقهم عقوبته عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين) *: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم أيها المؤمنون كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي، واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم
[ 92 ]
أيها المؤمنون أمري، ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه، وخالفتم أمري، وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين، فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم، إن صبروا على أمره، واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حل بهم من البلاء بأحد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله (ص)، وتنازعوا الرأي بينهم. وأخرج الخطاب في قوله: * (وإذ غدوت من أهلك) * على وجه الخطاب لرسول الله (ص)، والمراد بمعناه الذين نهاهم أن يتخذ الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين، فقد بين إذا أن قوله: وإذ إنما جرها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت. وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحد. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * قال: مشى النبي (ص) يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * ذلك يوم أحد، غدا نبي الله (ص) من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * فغدا النبي (ص) من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * فهو يوم أحد. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين) * قال: هنا يوم أحد.
[ 93 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: مما نزل في يوم أحد: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين) *. وقال آخرون: عنى بذلك يوم الاحزاب. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * قال: يعني محمدا (ص) غدا يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الاحزاب. وأولى هذين القولين بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: يوم أحد، لان الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة. ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله (ص)، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الاحزاب. فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول الله (ص) إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا: أن رسول الله (ص) راح حين صلى الجمعة إلى أحد، دخل فلبس لامته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الانصار، فصلى عليه رسول الله (ص)، ثم خرج عليهم وقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل ؟. قيل: إن النبي (ص) وإن كان خروجه للقوم كان رواحا فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه، وذلك أن المشركين
[ 94 ]
نزلوا منزلهم من أحد فيما بلغنا يوم الاربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة، حتى راح رسول الله (ص) إليهم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوا قبل خروجه، وقد علمت أن التبوئة اتخاذ الموضع ؟ قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوه عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم بيوم أو يومين. وذلك أن رسول الله (ص) لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحدا، قال فيما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي لاصحابه: أشيروا علي ما أصنع ؟ فقالوا: يا رسول الله اخرج إلى هذه الاكلب. فقالت الانصار: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا ؟ فدعا رسول الله (ص) عبد الله بن أبي ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره فقال: يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الاكلب. وكان رسول الله (ص) يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الازقة، فأتاه النعمان بن مالك الانصاري، فقال: يا رسول الله، لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لادخلن الجنة ! فقال له: بم ؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفر من الزحف. قال: صدقت ؟ فقتل يومئذ. ثم إن رسول الله (ص) دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله (ص) والوحي يأتيه ! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله (ص): لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني ابن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا قالوا: لما سمع رسول الله (ص) والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله (ص): إني قد رأيت بقرا فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع
[ 95 ]
حصينة، فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله (ص)، يرى رأي رسول الله (ص) في ذلك أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله (ص) يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا ! فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل الناس برسول الله (ص) الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (ص)، فلبس لامته. فكانت تبوئة رسول الله (ص) المؤمنين مقاعد للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا على ما وصفه الذين حكينا قولهم، يقال منه: بوأت القوم منزلا وبوأته لهم فأنا أبوئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلا تبوئة. وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال وذلك جائز، كما يقال: ردفك وردف لك، ونقدت لها صداقها ونقدتها، كما قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل والكلام: أستغفر الله لذنب. وقد حكي عن العرب سماعا: أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة، ويقال منه: أبأت الابل: إذا رددتها إلى المباءة، والمباءة: المراح الذي تبيت فيه، والمقاعد: جمع مقعد وهو المجلس. فتأويل الكلام: واذكر إذ غدوت يا محمد من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوهم. وقوله: * (والله سميع عليم) * يعني بذلك تعالى ذكره: والله سميع لما يقول المؤمنون لك، فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك ولقائهم عدوك وعدوهم من قول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة، وقول
[ 96 ]
من قال لك: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، على ما قد بينا قبل، ومما تشير به عليهم أنت يا محمد. عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: * (والله سميع عليم) *: أي سميع لما يقولون، عليم بما يخفون. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني بذلك جل ثناؤه: والله سميع عليم حين همت طائفتان منكم أن تفشلا. والطائفتان اللتان همتا بالفشل ذكر لنا أنهم بنو سلمة وبنو حارثة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * قال: بنو حارثة كانوا نحو أحد، وبنو سلمة نحو سلع، وذلك يوم الخندق. قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) *... الآية، وذلك يوم أحد، والطائفتان: بنو سلمة، وبنو حارثة، حيان من الانصار، هموا بأمر، فعصمهم الله من ذلك. قال قتادة: وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (إذ همت طائفتان منكم) *... الآية، وذلك يوم أحد، فالطائفتان: بنو سلمة، وبنو حارثة، حيان من الانصار، فذكر مثل قول قتادة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 97 ]
عن السدي، قال: خرج رسول الله (ص) إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعمل قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا، وقال: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * وهم بنو سلمة، وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله، وبقي رسول الله (ص) في سبعمائة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة: نزلت في بني سلمة من الخزرج، وبنى حارثة من الاوس، ورأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * فهم بنو حارثة وبنو سلمة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * والطائفتان: بنو سلمة من جشم بن الخزرج، وبنو حارثة بن النبيت من الاوس، وهما الجناحان. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) *... الآية، قال: هما طائفتان من الانصار هما أن يفشلا، فعصمهم الله، وهزم عدوهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * قال: هم بنو سلمة، وبنو حارثة وما نحب أن لو لم تكن همتا لقول الله عز وجل: * (والله وليهما) *. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول، فذكر نحوه.
[ 98 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) * قال: هذا يوم أحد. وأما قوله * (أن تفشلا) * فإنه يعني: هما أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوهما، يقال منه: فشل فلان عن لقاء عدوه يفشل فشلا. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفشل: الجبن. وكان همهما الذي هما به من الفشل: الانصراف عن رسول الله (ص) والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي بن سلول بمن معه، جبنا منهم، من غير شك منهم في الاسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله (ص) لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله وليهما) *: أي الدافع عنهما ما هما به من فشلهما، وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما من غير شك أصابهما في دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته، حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما، ولحقتا بنبيهما (ص)، يقول: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * أي من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن فليتوكل علي، وليستعن بي، أعنه على أمره، وأدفع عنه، حتى أبلغ به وأقويه على نيته. وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ: والله وليهم. وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك، لان الطائفتين وإن كانتا في لفظ اثنين، فإنهما في معنى جماع بمنزلة الخصمين والحزبين. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا، لا يضركم كيدهم شيئا، وينصركم ربكم، * (ولقد نصركم الله ببدر) * على أعدائكم * (وأنتم) * يومئذ * (أذلة) * يعني قليلون، في غير منعة من الناس، حتى أظهركم الله على عدوكم مع كثرة عددهم، وقلة عددكم، وأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ، فإن تصبروا لامر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم * (فاتقوا الله) * يقول تعالى ذكره: فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه * (لعلكم تشكرون) * يقول:
[ 99 ]
لتشكروه على ما من به عليكم من النصر على أعدائكم، وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) * يقول: وأنتم أقل عددا، وأضعف قوة. * (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * أي فاتقون، فإنه شكر نعمتي. واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر بدرا، فقال بعضهم: سمي بذلك لانه كان ماء لرجل يسمى بدرا، فسمي باسم صاحبه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبي، قال: كانت بدر لرجل يقال له بدر، فسميت به. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي أنه قال: * (ولقد نصركم الله ببدر) * قال: كانت بدر بئرا لرجل يقال له بدر، فسميت به. وأنكر ذلك آخرون وقالوا: ذلك اسم سميت به البقعة كما سمي سائر البلدان بأسمائها ذكر من قال ذلك: حدثنا الحرث بن محمد، قال: ثنا ابن سعد، قال: ثنا محمد بن عمر الواقدي، قال: ثنا منصور، عن أبي الاسود، عن زكريا، عن الشعبي، قال: إنما سمي بدرا لانه كان ماء لرجل من جهينة يقال له بدر. وقال الحرث: قال ابن سعد: قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح، فأنكراه، وقالا: فلاي شئ سميت الصفراء ؟ ولاي شئ سميت الحمراء ؟ ولاي شئ سمي رابغ ؟ هذا ليس بشئ، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري، فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار. قال الواقدي: فهذا المعروف عندنا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: بدر ماء عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة.
[ 100 ]
وأما قوله: * (أذلة) * فإنه جمع ذليل، كما الاعزة جمع عزيز، والالبة جمع لبيب. وإنما سماهم الله عز وجل أذلة لقلة عددهم، لانهم كانوا ثلثمائة نفس وبضعة عشر، وعدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف، على ما قد بينا فيما مضى، فجعلهم لقلة عددهم أذلة. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * وبدر: ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه نبي الله (ص) والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله (ص). وذكر لنا أنه قال لاصحابه يومئذ: أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت: فكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا، والمشركون يومئذ ألف أو راهقوا ذلك. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * قال: يقول: وأنتم أذلة قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلثمائة. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو قول قتادة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) * أقل عددا وأضعف قوة. وأما قوله: * (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * فإن تأويله كالذي قد بينت كما: حدثنا ابن حميد، قال ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) *: أي فاتقوني، فإنه شكر نعمي. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
[ 101 ]
منزلين ئ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * يعني تعالى ذكره: * (ولقد نصركم الله ببد وأنتم أذلة) * إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * ؟ وذلك يوم بدر. ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حربهم، في أي يوم وعدوا ذلك ؟ فقال بعضهم: إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدهم بملائكته إن أتاهم العدو من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يمدوا. ذكر من قال ذلك: حدثني حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين، قال: فشق ذلك على المسلمين، فقيل لهم: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * قال: فبلغت كرزا الهزيمة فرجع، ولم يمدهم بالخمسة. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: لما كان يوم بدر، بلغ رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: * (ويأتوكم من فورهم هذا) *: يعني كرزا وأصحابه، * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * قال: فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة، فلم يمدهم، ولم تنزل الخمسة، وأمدوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة) *... الآية كلها، قال: هذا يوم بدر. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين ببدر، قال: فشق ذلك على
[ 102 ]
المسلمين، فأنزل الله عز وجل: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم) *... إلى قوله: * (من الملائكة مسومين) * قال: فبلغته هزيمة المشركين فلم يمد أصحابه، ولم يمدوا بالخمسة. وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لاخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق، وثنى عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا أنه قال بعد إذ ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر، ومعي بصري، لاريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس، أن ابن عباس، قال: ثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم ! قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، مولى عبد الله بن الحرث، عن عبد الله بن عباس، قال: لم تقاتل الملائكة في يوم من الايام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الايام عددا ومددا لا يضربون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني
[ 103 ]
أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن ابن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا، قال: إني لاتبع رجلا من المشركين يوم بدر لاضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد: ثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله (ص): كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعونة، قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم. فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، قد قدم. قال: قال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي، فعندك الخبر ! قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ! قال لا شئ والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ما بين السماء والارض ما يليق لها شئ، ولا يقوم لها شئ، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك الملائكة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد، قال: ثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا
[ 104 ]
جسيما، فقال رسول الله (ص) لابي اليسر: كيف أسرت العباس أبا اليسر ؟ قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول الله (ص): لقد أعانك عليه ملك كريم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * أمدوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة. حدثت عن عمار، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * فإنهم أتوا محمدا (ص) مسومين. حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن مجاهد، قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وقال آخرون: إن الله عز وجل إنما وعدهم يوم بدر أن يمدهم إن صبروا عند طاعته، وجهاد أعدائه واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الاحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا سليمان بن زيد أبو آدم المحاربي، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم، فلم يفتح علينا، فرجعنا. فبينما رسول الله (ص) في بيته يغسل رأسه، إذ جاءه جبريل (ص)، فقال: يا محمد وضعتم أسلحتكم، ولم تضع الملائكة أوزارها ! فدعا رسول الله (ص) بخرقة، فلف بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا، فقمنا كالزمعين لا نعبأ بالسير شيئا، حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله عز وجل بثلاثة آلاف من الملائكة، وفتح الله لنا فتحا يسيرا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل.
[ 105 ]
وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم، ولم يتقوا، ولم يمدوا بشئ في أحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ثني عمرو بن دينار، عن عكرمة، سمعه يقول: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) * قال: يوم بدر قال: فلم يصبروا ولم يتقوا، فلم يمدوا يوم أحد، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة يقول: لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد - أو قال: إلا بملك واحد، أبو جعفر يشك. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: سمعت عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف) * إلى: * (خمسة آلاف من الملائكة مسومين) * كان هذا موعدا من الله يوم أحد، عرضه على نبيه محمد (ص) أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ففر المسلمون يوم أحد، وولوا مدبرين، فلم يمدهم الله. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) *... الآية كلها قالوا لرسول الله (ص)، وهم ينظرون المشركين: يا رسول الله أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر ؟ فقال رسول الله (ص): ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وإنما أمدكم يوم بدر بألف ؟ قال: فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا، قال: بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم... الآية كلها. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد (ص) أنه قال للمؤمنين: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة) * ؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف، خمسة آلاف إن صبروا لاعدائهم، واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم. وقد
[ 106 ]
يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف. وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به كذلك فنسلم لاحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * فأما في يوم أحد، فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينال منهم ما نيل منهم. فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره. وقد بينا معنى الامداد فيما مضى، والمدد، ومعنى الصبر والتقوى. وأما قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: معنى قوله: * (من فورهم هذا) *: من وجههم هذا. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة، قال: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * قال: من وجههم هذا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (من فورهم هذا) * يقول: من وجههم هذا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) *: من وجههم هذا. حدثت عن عمار بن الحسن، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * يقول: من وجههم هذا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * يقول: من وجههم هذا.
[ 107 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * يقول: من سفرهم هذا، ويقال: يعني عن غير ابن عباس، بل هو من غضبهم هذا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (من فورهم هذا) * من وجههم هذا وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة في قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) * قال: فورهم ذلك كان يوم أحد، غضبوا ليوم بدر مما لقوا. حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبا صالح مولى أم هانئ يقول: * (من فورهم هذا) * يقول: من غضبهم هذا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * قال: غضب لهم، يعني الكفار، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة، وذلك يوم أحد. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: * (من فورهم هذا) * قال: من غضبهم هذا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (ويأتوكم من فورهم هذا) * يقول: من وجههم وغضبهم. وأصل الفور: ابتداء الامر يؤخذ فيه، ثم يوصل بآخر، يقال منه: فارت القدر فهي تفور فورا وفورانا: إذا ما ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل، ومضيت إلى فلان من فوري ذلك، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فيه. فالذي قال في هذه الآية: معنى قوله: * (من فورهم هذا) *: من وجههم هذا، قصد إلى أن تأويله: ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين.
[ 108 ]
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا، فإنما عنوا أن تأويل ذلك: ويأتيكم كفار قريش وتباعهم يوم أحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها * (يمددكم ربكم بخمسة آلاف) *. كذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله * (ويأتوكم من فورهم هذا) * اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحد بملائكته، فقال بعضهم: لم يمدوا بهم، لان المؤمنين لم يصبروا لاعدائهم، ولم يتقوا الله عز وجل بترك من ترك من الرماة طاعة رسول الله (ص) في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله (ص) بالثبوت فيه، ولكنهم أخلوا به طلبا للغنائم، فقتل من المسلمين، ونال المشركون منهم ما نالوا. وإنما كان الله عز وجل وعد نبيه (ص) إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا الله. وأما الذين قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر، فإن بعضهم قالوا: لم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من المشركين مددا لهم ببدر، ولم يمد الله المؤمنين بملائكته، لان الله عز وجل إنما وعدهم أن يمدهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المدد. وأما الذين قالوا: إن الله تعالى ذكره أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول الله عز وجل: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) *، قال: فالالف منهم قد أتاهم مددا، وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط فيما زاد على الالف، فأما الالف فقد كانوا أمدوا به، لان الله عز وجل كان قد وعدهم ذلك، ولن يخلف الله وعده. واختلف القراء في قراءة قوله: * (مسومين) * فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: مسومين بفتح الواو، بمعنى أن الله سومها. وقرأ ذلك بعض قراء أهل الكوفة والبصرة: * (مسومين) * بكسر الواو، بمعنى أن الملائكة سومت لنفسها. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو، لتظاهر الاخبار عن (أصحاب) رسول الله (ص) فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم، بأن الملائكة هي التي سومت أنفسها من غير إضافة تسويمها إلى الله عز وجل أو إلى غيره من خلقه.
[ 109 ]
ولا معنى لقول من قال: إنما كان يختار الكسر في قوله: * (مسومين) * لو كان في البشر، فأما الملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويم أنفسها إمكان ذلك في البشر وذلك أن غير مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها بحق تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوموا أنفسهم بحق الذي سوم البشر طلبا منها بذلك طاعة ربها، فأضيف تسويمها أنفسها إليها، وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه، وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسها تقربا منها إلى ربها، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها. ذكر الاخبار بما ذكرنا من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة دون إضافة ذلك إلى غيرهم، على نحو ما قلنا فيه: حدثني يعقوب، قال: أخبرنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: إن أول ما كان الصوف ليومئذ، يعني يوم بدر، قال رسول الله (ص): تسوموا فإن الملائكة قد تسومت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مختار بن غسان، قال: ثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن الزبير بن المنذر، عن جده أبي أسيد، وكان بدريا، فكان يقول: لو أن بصري معي ثم ذهبتم معي إلى أحد، لاخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * يقول: معلمين، مجزوزة أذناب خيلهم ونواصيها، فيها الصوف أو العهن، وذلك التسويم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: * (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * قال: مجزوزة أذنابها وأعرافها، فيها الصوف أو العهن، فذلك التسويم.
[ 110 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (مسومين) * ذكر لنا أن سيماها يومئذ الصوف بنواصي خيلهم وأذنابهم، وأنهم على خيل بلق. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (مسومين) * قال: كان سمياها صوفا في نواصيها. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، أنه كان يقول: * (مسومين) * قال: كانت خيولهم مجزوزة الاعراف، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعهن. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: كانوا يومئذ على خيل بلق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، وبعض أشياخنا، عن الحسن، نحو حديث معمر، عن قتادة. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (مسومين) *: معلمين. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * فإنهم أتوا محمدا (ص)، مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة، قال: نزلت الملائكة في سيما الزبير، عليهم عمائم صفر، وكانت عمامة الزبير صفراء. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (مسومين) * قال: بالصوف في نواصيها وأذنابها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، قال: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، عليهم عمائم صفر، وكان على الزبير يومئذ عمامة صفراء.
[ 111 ]
حدثني أحمد بن يحيى الصوفي، قال: ثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: ثنا أبي، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء يوم بدر، فاعتم بها، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبي الله (ص) معممين بعمائم صفر. فهذه الاخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله (ص) أنه قال لاصحابه: تسوموا فإن الملائكة قد تسومت وقول أبي أسيد: خرجت الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وقول من قال منهم: * (مسومين) *: معلمين، ينبئ جميع ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها، على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى. وأما الذين قرؤا ذلك مسومين بالفتح، فإنهم أراهم تأولوا في ذلك ما: حدثنا به حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة: بخمسة آلاف من الملائكة مسومين يقول: عليهم سيما القتال. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: بخمسة آلاف من الملائكة مسومين يقول: عليهم سيما القتال، وذلك يوم بدر، أمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، يقول: عليهم سيما القتال. فقالوا: كان سيما القتال عليهم، لا أنهم كانوا تسوموا بسيما فيضاف إليهم التسويم، فمن أجل ذلك قرؤا: مسومين بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى من سومهم تلك السيما. والسيما: العلامة، يقال: هي سيما حسنة، وسيمياء حسنة، كما قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يا فعاله سيمياء لا تشق على البصر يعني الشاعر بذلك علامة من حسن. فإذا أعلم الرجل بعلامة يعرف بها في حرب أو غيره، قيل: سوم نفسه، فهو يسومها تسويما. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) * يعني تعالى ذكره: وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بالملائكة
[ 112 ]
الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم، يعني بشرى يبشركم بها، * (ولتطمئن قلوبكم به) * يقول: وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم. * (وما النصر إلا من عند الله) *: يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله، لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة، يقول: فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا، لا بالجموع وكثرة العدد، فإن نصركم إن كان إنما يكون بالله وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، فإنه إلى أن يكون ذلك بعون الله وبتقويته إياكم على عدوكم، وإن كان معكم من البشر جموع كثيرة أخرى، فاتقوا الله واصبروا على جهاده عدوكم، فإن الله ناصركم عليهم. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وما جعله الله إلا بشرى لكم) * يقول: إنما جعلهم ليستبشروا بهم، وليطمئنوا إليهم، ولم يقاتلوا معهم يومئذ، يعني يوم أحد. قال مجاهد: ولم يقاتلوا معهم يومئذ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به) * لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أني أعرف الحكمة التي لا إلى أحد من خلقي. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وما النصر إلا من عند الله) * لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل العزيز الحكيم. وأما معنى قوله: * (العزيز الحكيم) * فإنه جل ثناؤه يعني: العزيز في انتقامه من أهل الكفر بأيدي أوليائه من أهل طاعته، الحكيم في تدبيره لكم أيها المؤمنون على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره. يقول: فأبشروا أيها المؤمنون بتدبيري لكم على أعدائكم، ونصري إياكم عليهم إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به وصبرتم لجهاد عدوي وعدوكم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 113 ]
* (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) * يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد نصركم الله ببدر * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * ويعني بالطرف: الطائفة والنفر. يقول تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر كيما يهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله فجحدوا وحدانية ربهم ونبوة نبيهم محمد (ص). كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * فقطع الله يوم بدر طرفا من الكفار، وقتل صناديدهم ورؤساءهم، وقادتهم في الشر. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) *... الآية كلها، قال: هذا يوم بدر، قطع الله طائفة منهم، وبقيت طائفة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * أي ليقطع طرفا من المشركين بقتل ينتقم به منهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفا من الذين كفروا، وقال: إنما عنى بذلك من قتل بأحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ذكر الله قتلى المشركين، يعني بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلا، فقال: * (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * ثم ذكر الشهداء فقال: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) *... الآية. وأما قوله: * (أو يكبتهم) * فإنه يعني بذلك أو يخزيهم بالخيبة بما رجوا من الظفر بكم. وقد قيل: إن معنى قوله: * (أو يكبتهم) *: أو يصرعهم لوجوههم، ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول: كبته الله لوجهه، بمعنى صرعه الله.
[ 114 ]
فتأويل الكلام: ولقد نصركم الله ببدر، ليهلك فريقا من الكفار بالسيف، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر، * (فينقلبوا خائبين) * يقول: فيرجعوا عنكم خائبين لم يصيبوا منكم شيئا ما رجوا أن ينالوه منكم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) * أو يردهم خائبين، أو يرجع من بقي منهم خائبين، لم ينالوا شيئا مما كانوا يأملون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (أو يكبتهم) * يقول: يخزيهم فينقلبوا خائبين. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * يعني بذلك تعالى ذكره: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم، فإنهم ظالمون، ليس لك من الامر شئ، فقوله: * (أو يتوب عليهم) * منصوب عطفا على قوله: * (أو يكبتهم) *. وقد يحتمل أن يكون تأويله: ليس لك من الامر شئ حتى يتوب عليهم، فيكون نصب يتوب بمعنى أو التي هي في معنى حتى. والقول الاول أولى بالصواب، لانه لا شئ من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك. وتأويل قوله: * (ليس لك من الامر شئ) *: ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهي فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري أقضي فيهم، وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني، وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددت لاهل الكفر بي. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم قال لمحمد (ص): * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *: أي ليس لك من الحكم في شئ في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتي، فإن
[ 115 ]
شئت فعلت. أو أعذبهم بذنوبهم، * (فإنهم ظالمون) * أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي. وذكر أن الله عز وجل إنما أنزل هذه الآية على نبيه محمد (ص)، لانه لما أصابه بأحد ما أصابه من المشركين، قال كالآيس لهم من الهدى أو من الانابة إلى الحق: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم. ذكر الرواية بذلك. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا حميد، قال: قال أنس: قال النبي (ص) يوم أحد، وكسرت رباعيته، وشج، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزلت: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس، عن النبي (ص) بنحوه. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن حميد الطويل، عن أنس، عن النبي (ص) بنحوه. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص) حين شج في جبهته، وكسرت رباعيته: لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم فأوحى الله إليه: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثني يعقوب عن ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن الحسن أن النبي (ص) قال يوم أحد: كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل فنزلت: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *.
[ 116 ]
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن حميد، عن أنس، عن النبي (ص)، نحو ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله (ص) يوم أحد، وقد جرح نبي الله (ص) في وجهه، وأصيب بعض رباعيته، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح،، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن مطر، عن قتادة، قال: أصيب النبي (ص) يوم أحد وكسرت رباعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه، ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول: كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قوله: * (ليس لك من الامر شئ) *... الآية، قال: قال الربيع بن أنس، أنزلت هذه الآية على رسول الله (ص) يوم أحد وقد شج رسول الله (ص) في وجهه، وأصيبت رباعيته، فهم رسول الله (ص) أن يدعو عليهم، فقال: كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله وهم يدعونه إلى الشيطان ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار فهم أن يدعو عليهم، فأنزل الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * فكف رسول الله (ص) عن الدعاء عليهم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم) *... الآية كلها، فقال: جاء أبو سفيان من الحول غضبان لما صنع بأصحابه يوم بدر، فقاتل أصحاب محمد (ص) يوم أحد قتالا شديدا، حتى قتل منهم بعدد الاسارى يوم بدر، فقال رسول الله (ص) كلمة علم الله أنها قد خالطت غضبا: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الاسلام فقال الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *.
[ 117 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن رباعية النبي (ص) أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه، وكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل عن النبي (ص) الدم، والنبي (ص) يقول: كيف يفلح قوم صنعوا بنبيهم هذا فأنزل الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم: أن النبي (ص) دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته، ووثأ وجهه، فقال: اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا ! قال: فما حال عليه الحول حتى مات كافرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: شج النبي (ص) في فرق حاجبه، وكسرت رباعيته. قال ابن جريج: ذكر لنا أنه لما جرح، جعل سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول الله (ص) يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله ؟. فأنزل الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ) *. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي (ص)، لانه دعا على قوم، فأنزل الله عز وجل: ليس الامر إليك فيهم. ذكر من الرواية بذلك: حدثني يحيى بن حبيب بن عربي، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله (ص)، كان يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * قال: وهداهم الله للاسلام. حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا أحمد بن سفيان، عن عمر بن حمزة، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (ص): اللهم العن أبا سفيان ! اللهم
[ 118 ]
العن الحارث بن هشام ! اللهم العن صفوان بن أمية ! فنزلت: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد الله بن كعب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: صلى رسول الله (ص) الفجر، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية، قال: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنين آل يوسف ! فأنزل الله: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم) *... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أخبره عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبا هريرة يقول: كان رسول الله (ص) يقول حين يفرغ في صلاة الفجر من القراءة، ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله. ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله: * (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) *. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 119 ]
* (ولله ما في السماوات وما في الارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله غفور رحيم) * يعني بذلك تعالى ذكره: ليس لك يا محمد من الامر شئ، ولله جميع ما بين أقطار السموات والارض من مشرق الشمس إلى مغربها دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضي فيهم ما أحب، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله غفور رحيم) *: أي يغفر الذنوب، ويرحم العباد على ما فيهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تأكلوا الربا في إسلامكم، بعد إذ هداكم له، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الاجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك، وأزيدك على مالك ! فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. كما: حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الاجل، قالوا: نزيدكم وتؤخرون ! فنزلت: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) *: أي لا تأكلوا في الاسلام إذ هداكم له، ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره مما لا يحل لكم في دينكم.
[ 120 ]
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * قال: ربا الجاهلية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) * قال: كان أبي يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الاجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شئ يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة، أو يقضيه. قال: فهذا قوله: * (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) *. وأما قوله: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) * فإنه يعني: واتقوا الله أيها المؤمنون في أمر الربا فلا تأكلوه، وفي غيره مما أمركم به، أو نهاكم عنه، وأطيعوه فيه لعلكم تفلحون، يقول: لتنجحوا فتنجوا من عقابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه، والخلود في جنانه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) *: أي فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذركم من عذابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واتقوا أيها المؤمنون النار أن تصلوها بأكلكم الربا بعد نهيي إياكم عنه التي أعددتها لمن كفر بي، فتدخلوا مداخلهم بعد إيمانكم بي بخلافكم أمري، وترككم طاعتي. كما:
[ 121 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) * التي جعلت دارا لمن كفر بي. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وأطيعوا الله أيها المؤمنون فيما نهاكم عنه من أكل الربا وغيره من الاشياء، وفيما أمركم به الرسول. يقول: وأطيعوا الرسول أيضا كذلك لعلكم ترحمون، يقول: لترحموا فلا تعذبوا. وقد قيل: إن ذلك معاتبة من الله عز وجل أصحاب رسول الله (ص) الذين خالفوا أمره يوم أحد، فأخلوا بمراكزهم التي أمروا بالثبات عليها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق: * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) * معاتبة للذين عصوا رسوله حين أمرهم بالذي أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره، يعني في يوم أحد. القول في تأويل قوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين) * يعني تعالى ذكره بقوله: * (وسارعوا) * وبادروا وسابقوا إلى مغفرة من ربكم، يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها * (وجنة عرضها السموات والارض) * يعنى سارعوا أيضا إلى جنة عرضها السموات والارض، ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع، والارضين السبع، إذا ضم بعضها إلى بعض. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وجنة عرضها السموات والارض) * قال: قال ابن عباس: تقرن السموات السبع والارضون السبع، كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة. وإنما قيل: * (وجنة عرضها السموات والارض) * فوصف عرضها بالسموات
[ 122 ]
والارضين، والمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والارض، تشبيها به في السعة والعظم، كما قيل: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * يعني إلا كبعث نفس واحدة، وكما قال الشاعر: كأن عذيرهم بجنوب سلى نعام قاق في بلد قفار أي عذير نعام، وكما قال الآخر: حسبت بغام راحلتي عناقا وما هي ويب غيرك بالعناق يريد صوت عناق. وقد ذكر أن رسول الله (ص) سئل فقيل له: هذه الجنة عرضها السموات والارض، فأين النار ؟ فقال: هذا النهار إذا جاء، أين الليل ؟. ذكر الاخبار عن رسول الله (ص) وغيره. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله (ص) بحمص شيخا كبيرا قد أقعد، قال: قدمت على رسول الله (ص) بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: قلت من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية، فإذا هو: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين، فأين النار ؟ فقال رسول الله (ص): سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار ؟. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن
[ 123 ]
جنة عرضها السموات والارض، أين النار ؟ قال: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ فقالوا: اللهم نزعت مثله من التوراة. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نجران، فسألوه وعنده أصحابه، فقالوا: أرأيت قوله: * (وجنة عرضها السموات والارض) * فأين النار ؟ فأحجم الناس، فقال عمر: أرأيتم إذا جاء الليل، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل ؟ فقالوا: نزعت مثلها من التوراة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن طارق بن شهاب، عن عمر، بنحوه في الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر، فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والارض، بمثل حديث قيس بن مسلم. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا جعفر بن عون، أخبرنا الاعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر، فقال: تقولون: جنة عرضها السموات والارض أين تكون النار ؟ فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء، أين يكون الليل ؟ أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار ؟ فقال: إنه لمثلها في التوراة، فقال له صاحبه: لم أخبرته ؟ فقال له صاحبه: دعه إنه بكل موقن. حدثني أحمد بن حازم، قال: أخبرنا أبو نعيم، قال: ثنا جعفر بن برقان، قال: ثنا يزيد بن الاصم أن رجلا من أهل الكتاب أتى ابن عباس، فقال: تقولون جنة عرضها السموات والارض، فأين النار ؟ فقال ابن عباس: أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار، أين يكون الليل ؟ وأما قوله: * (أعدت للمتقين) * فإنه يعني: إن الجنة التي عرضها كعرض السموات
[ 124 ]
والارضين السبع أعدها الله للمتقين، الذين اتقوا الله، فأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم، فلم يتعدوا حدوده، ولم يقصروا في واجب حقه عليهم فيضيعوه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين) *: أي ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * أعدت الجنة التي عرضها السموات والارض للمتقين، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله، إما في صرفه على محتاج، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله. وأما قوله: * (في السراء) * فإنه يعني: في حال السرور بكثرة المال، ورخاء العيش والسراء: مصدر من قولهم سرني هذا الامر مسرة وسرورا، والضراء: مصدر من قولهم: قد ضر فلان فهو يضر إذا أصابه الضر، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * يقول: في العسر واليسر. فأخبر جل ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله. وقوله: * (والكاظمين الغيظ) * يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: كظم فلان غيظه: إذا تجرعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها. وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: كظمت القربة: إذا ملاتها ماء، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غما وحزنا، ومنه قول الله عز وجل، * (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) * يعني ممتلئ من الحزن، ومنه قيل
[ 125 ]
لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء، ومن قيل: أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه. والغيظ: مصدر من قول القائل: غاظني فلان فهو يغيظني غيظا، وذلك إذا أحفظه وأغضبه. وأما قوله: * (والعافين عن الناس) * فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم، وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم. وأما قوله * (والله يحب المحسنين) * فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الامور التي وصف أنه أعد للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والارض. والعاملون بها هم المحسنون، وإحسانهم هو عملهم بها. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) *... الآية: * (والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) * أي وذلك الاحسان، وأنا أحب من عمل به. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *: قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم. حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا محرز أبو رجاء، عن الحسن، قال: يقال يوم القيامة: ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا. ثم قرأ هذه الآية: * (والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل، عن عم له، عن أبي هريرة في قوله: * (والكاظمين الغيظ) * أن النبي (ص) قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملاه الله أمنا وإيمانا. حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (والكاظمين الغيظ) *... إلى الآية: * (والله يحب
[ 126 ]
المحسنين) *، فالكاظمين الغيظ كقوله: * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) *، يغضبون في الامر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون، يلتمسون بذلك وجه الله، * (والعافين عن الناس) * كقوله: * (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) *... إلى: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) *: أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين، المنفقين في السراء والضراء، والذين إذا فعلوا فاحشة وجميع هذه النعوت من صفة المتقين الذين قال تعالى ذكره: * (وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين) *. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: * (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *، ثم قرأ: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) *... إلى * (أجر العاملين) * فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) * قال: هذان ذنبان: الفاحشة ذنب، وظلموا أنفسهم ذنب. وأما الفاحشة فهي صفة لمتروك، ومعنى الكلام: والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة. ومعنى الفاحشة: الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عز وجل فيه. وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد والمقدار في كل شئ، ومنه قيل للطويل المفرط الطول: إنه لفاحش الطول، يراد به: قبيح الطول، خارج عن المقدار المستحسن، ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد: كلام فاحش، وقيل للمتكلم به: أفحش في كلامه: إذا نطق بفحش. وقيل: إن الفاحشة في هذا الموضع معني بها الزنا. ذكر من قال ذلك:
[ 127 ]
حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا حبان، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن جابر: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) * قال: زنى القوم ورب الكعبة. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) * أما الفاحشة: فالزنا. وقوله: * (أو ظلموا أنفسهم) * يعني به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته. كما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قوله: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) * قال: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم. وقوله: * (ذكروا الله) * يعني بذلك ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه. * (فاستغفروا لذنوبهم) * يقول: فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها. * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * يقول: وهل يغفر الذنوب: أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه إلا الله ؟ * (ولم يصروا على ما فعلوا) * يقول: ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها، ومعصيتهم التي ركبوها * (وهم يعلمون) * يقول: لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها، وهم يعلمون أن الله قد تقدم بالنهي عنها، وأوعد عليها العقوبة، من ركبها. وذكر أن هذه الآية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أمتنا مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: أنهم قالوا: يا نبي الله، بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: اجدع أذنك، أجدع أنفك، افعل ! فسكت رسول الله (ص)، فنزلت: * (وسارعوا إلى مغفزة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين) *... إلى قوله: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) *، فقال رسول الله (ص): ألا أخبركم بخير من ذلك ؟ فقرأ هؤلاء الآيات.
[ 128 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عمر ابن أبي خليفة العبدي، قال: ثنا علي بن زيد بن جدعان، قال: قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا، أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته، فأعطينا خيرا من ذلك هذه الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، قال: لما نزلت: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) * بكى إبليس فزعا من هذه الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) * بكى. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي، قال: سمعت علي بن ربيعة، يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء، عن علي، قال: كنت إذا سمعت من رسول الله (ص) شيئا، نفعني الله بما شاء أن ينفعني، فحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - عن النبي (ص)، قال: ما من عبد قال شعبة: وأحسبه قال مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب... وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتين الآيتين: * (من يعمل سوءا يجز به) * * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن مسعر وسفيان، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الوالبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله (ص) حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره، استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال: قال رسول الله (ص): ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ، ثم يصلي، قال أحدهما: ركعتين وقال الآخر: ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له.
[ 129 ]
حدثنا الزبير بن بكار، قال: ثني سعد بن أبي سعيد المقبري، عن أخيه، عن جده عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما حدثني أحد عن رسول الله (ص) إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله (ص) إلا أبا بكر، فإنه كان لا يكذب. قال علي رضي الله عنه: فحدثني أبو بكر، أن رسول الله (ص) قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتوضأ ثم يصلي ركعتين، ويستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفره الله له. وأما قوله * (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) * فإنه كما بينا تأويله، وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق: * (والذين إذا فعلوا فاحشة) *: أي إن أتوا فاحشة * (أو ظلموا أنفسهم) * بمعصية ذكروا نهي الله عنها، وما حرم الله عنها، فاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو. وأما قوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * فإن اسم الله مرفوع، ولا جحد قبله، وإنما يرفع ما بعده إلا باتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل: ما في الدار أحد إلا أخوك، فأما إذا قيل: قام القوم إلا أباك، فإن وجه الكلام في الاب النصب. ومن بصلته في قوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * معرفة فإن ذلك إنما جاء رفعا، لان معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحد، أو ما يغفر الذنوب أحد إلا الله، فرفع ما بعد إلا من الله على تأويل الكلام، لا على لفظه. وأما قوله: * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل الاصرار ومعنى الكلمة، فقال بعضهم: معنى ذلك: لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب، ولم يقيموا عليه، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم الله به. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * فإياكم والاصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
[ 130 ]
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) * قال: قدما قدما في معاصي الله، لا ينهاهم مخافة الله حتى جاءهم أمر الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (لا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) *: أي لم يقيموا على معصيتي، كفعل من أشرك بي فيما عملوا به من كفر بي. وقال آخرون: معنى ذلك: لم يواقعوا الذنب إذا هموا به. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (ولم يصروا على ما فعلوا) * قال: إتيان العبد ذنبا إصرارا حتى يتوب. حدثني محمد عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (ولم يصروا على ما فعلوا) * قالوا: لم يواقعوا. وقال آخرون: معنى الاصرار: السكوت على الذنب، وترك الاستغفار. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) *: أما يصروا: فيسكتوا ولا يستغفروا. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: الاصرار الاقامة على الذنب عامدا، أو ترك التوبة منه. ولا معنى لقول من قال: الاصرار على الذنب: هو مواقعته، لان الله عز وجل مدح بترك الاصرار على الذنب مواقع الذنب، فقال: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) *، ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم، لان الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه وجه. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة.
[ 131 ]
حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي، قال: ثنا عبد الحميد الحماني، عن عثمان بن واقد، عن أبي نصيرة، عن مولى لابي بكر، عن أبي بكر، عن رسول الله (ص). فلو كان مواقع الذنب مصرا، لم يكن لقوله ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة معنى، لان مواقعة الذنب، إذا كانت هي الاصرار، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره، كما لا يزيل عن الزاني اسم زان، وعن القاتل اسم قاتل توبته منه، ولا معنى غيرها، وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصر عليه، فمعلوم بذلك أن الاصرار غير الموقعة، وأنه المقام عليه على ما قلنا قبل. واختلف أهل التأويل في تأويل قولهم: * (وهم يعلمون) * فقال بعضهم: معناه: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (وهم يعلمون) *: فيعلمون أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا فلم يستغفروا. وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلمون أن الذي أتوا معصية الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وهم يعلمون) * قال: يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري. قال أبو جعفر: وقد تقدم بياننا أولى ذلك بالصواب. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) * يعني تعالى ذكره بقوله: أولئك الذين ذكر أنه أعد لهم الجنة التي عرضها السموات والارض من المتقين، ووصفهم به، ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم * (جزاؤهم) * يعني ثوابهم من أعمالهم التي وصفهم تعالى ذكره أنهم عملوها، * (مغفرة من ربهم) * يقول: عفو لهم من الله عن عقوبتهم على ما سلف من ذنوبهم، ولهم على ما أطاعوا الله فيه من أعمالهم بالحسن منها جنات، وهي البساتين * (تجري من تحتها الانهار) * يقول: تجري خلال
[ 132 ]
أشجارها الانهار، وفي أسافلها جزاء لهم على صالح أعمالهم، * (خالدين فيها) * يعني دائمي المقام في هذه الجنات التي وصفها، * (ونعم أجر العاملين) * يعني ونعم جزاء العاملين لله الجنات التي وصفها كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) *: أي ثواب المطيعين. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * يعني بقوله تعالى ذكره: * (قد خلت من قبلكم سنن) * مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا معشر أصحاب محمد وأهل الايمان به، من نحو قوم عاد وثمود، وقوم هود، وقوم لوط وغيرهم من سلاف الامم قبلكم سنن، يعني مثلات سير بها فيهم وفيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهل التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجله الذي أجلته لادالة أنبيائهم وأهل الايمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، ونزلت بساحتهم نقمتي، فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرا. * (فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * يقول: فسيروا أيها الظانون أن إدالتي من أدلت من أهل الشرك يوم أحد على محمد وأصحابه لغير استدراج مني لمن أشرك بي، وكفر برسلي، وخالف أمري في ديار الامم الذين كانوا قبلكم، ممن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي، والجاحدون وحدانيتي، فانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبيائي، وما الذي آل إليه عن خلافهم أمري، وإنكارهم وحدانيتي، فتعلموا عند ذلك أن إدالتي من أدلت من المشركين على نبي محمد وأصحابه بأحد، إنما هي استدراج وإمهال، ليبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم، ثم إما أن يؤول حالهم إلى مثل ما آل إليه حال الامم الذين سلفوا قبلهم من تعجيل العقوبة عليهم، أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 133 ]
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * فقال: ألم تسيروا في الارض، فتنظروا كيف عذب الله قوم نوح، وقوم لوط، وقوم صالح، والامم التي عذب الله عز وجل ؟ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن) * يقول: في الكفار والمؤمنين، والخير والشر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (قد خلت من قبلكم سنن) * في المؤمنين والكفار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم - يعني بالمسلمين يوم أحد - والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم، وتعريفا لهم فيما صنعوا وما هو صانع بهم: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الارض تروا مثلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه من ذلك مني، وإن أمكنت لهم: أي لئلا يظنوا أن نقمتي انقطعت عن عدوهم وعدوي للدولة التي أدلتها عليكم بها، لابتليكم بذلك، لاعلم ما عندكم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * يقول: متعهم في الدنيا قليلا، ثم صيرهم إلى النار. وأما السنن، فإنها جمع سنة، والسنة، هي المثال المتبع، والامام الموتم به، يقال منه: سن فلان فينا سنة حسنة، وسن سنة سيئة: إذا عمل عملا اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد ابن ربيعة:
[ 134 ]
من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها وقول سليمان بن قتة: وإن الالى بالطف من آل هاشم تآسوا فسنوا للكرام التآسيا وقال ابن زيد في ذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن) * قال: أمثال. القول في تأويل قوله تعالى: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * اختلف أهل التأويل في المعن الذي أشير إليه بهذا، فقال بعضهم: عنى بقوله هذا: القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا: عباد، عن الحسن في قوله: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * قال: هذا القرآن. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة. قوله: * (هذا بيان للناس) * وهو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال في قوله: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * خاصة.
[ 135 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جريج في قوله: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * خاصة. وقال آخرون: إنما أشير بقوله هذا إلى قوله: * (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * ثم قال: هذا الذي عرفتكم يا معشر أصحاب محمد بيان للناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق بذلك. وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: قوله هذا إشارة إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين، وتعريفهم حدوده، وحضهم على لزوم طاعته، والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم، لان قوله هذا إشارة إلى حاضر، إما مرئي، وإما مسموع، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة. فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحت لكم وعرفتكموه، بيان للناس، يعني بالبيان: الشرح والتفسير. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (هذا بيان للناس) * أي هذا تفسير للناس إن قبلوه. حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: * (هذا بيان للناس) * قال: من العمى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الشعبي، مثله. وأما قوله: * (وهدى وموعظة) * فإنه يعني بالهدى: الدلالة على سبيل الحق ومنهج الدين، وبالموعظة: التذكرة للصواب والرشاد. كما: حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: * (وهدى) * قال: من الضلالة، * (وموعظة) * من الجهل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن بيان، عن الشعبي مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (للمتقين) *: أي لمن أطاعني وعرف أمري.
[ 136 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) * وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لاصحاب رسول الله (ص) على ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد، قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأحد من القتل والقروح، عن جهاد عدوكم وحربهم، من قول القائل: وهن فلان في هذا الامر فهو يهن وهنا: * (ولا تحزنوا) *: ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم أنتم الاعلون، يعني الظاهرون عليهم، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم، يقول: إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي في نبيي محمد (ص) فيما يعدكم، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، قال: كثر في أصحاب محمد (ص) القتل والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم اليأس، فأنزل الله عز وجل القرآن، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الامم الماضية فقال: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كننم مؤمنين) * إلى قوله: * (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *: يعزي أصحاب محمد (ص) كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن، في قوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) * قال: يأمر محمدا يقول: ولا تهنوا أن تمضوا في سبيل الله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (ولا تهنوا) *: ولا تضعفوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 137 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا) * يقول: ولا تضعفوا. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ولا تهنوا) * قال ابن جريج: ولا تضعفوا في أمر عدوكم، * (ولا تحزنوا وأنتم الاعلون) * قال: انهزم أصحاب رسول الله (ص) في الشعب، فقالوا: ما فعل فلان ؟ ما فعل فلان ؟ فنعى بعضهم بعضا، وتحدثوا أن رسول الله (ص) قد قتل، فكانوا في هم وحزن. فبينما هم كذلك، إذ علا خالد بن الوليد الجبل بخيل المشركين فوقهم وهم أسفل في الشعب، فلما رأوا النبي (ص) فرحوا، وقال النبي (ص): اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر. قال: وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: * (وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولا تهنوا) * أي لا تضعفوا، * (ولا تحزنوا) * ولا تأسوا على ما أصابكم، * (وأنتم الاعلون) * أي لكم تكون العاقبة والظهور، * (إن كنتم مؤمنين) *: إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي (ص): اللهم لا يعلون علينا ! فأنزل الله عز وجل: * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) * اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * كلاهما بفتح القاف، بمعنى: إن يمسسكم القتل
[ 138 ]
والجراح يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتل وجراح مثله. وقرأ عامة قراء الكوفة: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * بفتح القاف في الحرفين لاجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح. وكان بعض أهل العربية يزعم أن القرح والقرح لغتان بمعنى واحد، والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. ذكر من قال: إن القرح الجراح والقتل: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * قال: جراح وقتل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن، في قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * قال: إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) *. والقرح: الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله (ص) يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * قال: ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين الجراح، وفشا فيهم القتل، فذلك قوله: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله، يعزي أصحاب محمد (ص) ويحثهم على القتال.
[ 139 ]
حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) * والقرح: هي الجراحات. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إن يمسسكم قرح) * أي جراح، * (فقد مس القوم قرح مثله) *: أي جراح مثلها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: نام المسلمون وبهم الكلوم - يعني يوم أحد - قال عكرمة: وفيهم أنزلت: * (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس) * وفيهم أنزلت: * (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) *. وأما تأويل قوله: * (إن يمسسكم قرح) * فإنه: إن يصبكم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إن يمسسكم) *: إن يصبكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *. يعني تعالى ذكره (بقوله): * (وتلك الايام نداولها بين الناس) * أيام بدر وأحد، ويعني بقوله: * (نداولها بين الناس) *: نجعلها دولا بين الناس مصرفة، ويعني بالناس: المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين، وأدا المشركين من المسلمين بأحد، فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم، يقال منه: أدال الله فلانا من فلان فهو يديله منه إدالة إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) * قال: جعل الله الايام دولا، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب رسول الله (ص).
[ 140 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *: إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبتلي المؤمن بالكافر ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) * فأظهر الله عز وجل نبيه (ص) وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد. وقد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلي المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب، وأما من ابتلي منهم من المسلمين يوم أحد، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله (ص). حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *: يوما لكم، ويوما عليكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: * (نداولها بين الناس) * قال: أدال المشركين على النبي (ص) يوم أحد. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) * فإنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله (ص) يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي (ص) الجبل، فجاء أبو سفيان، فقال: يا محمد، يا محمد، ألا تخرج، ألا تخرج ؟ الحرب سجال، يوم لنا، ويوم لكم ! فقال رسول الله (ص) لاصحابه: أجيبوه ! فقالوا: لا سواء لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: لنا عزى، ولا عزى لكم. فقال رسول الله (ص): قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعل هبل ! فقال رسول الله (ص)، قولوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان:
[ 141 ]
موعدكم وموعدنا بدر الصغرى. قال عكرمة: وفيهم أنزلت: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن المبارك. عن ابن جريج. عن ابن عباس، في قوله: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *: فإنه أدال على النبي (ص) يوم أحد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) *: أي نصرفها للناس للبلاء والتمحيص. حدثني إبراهيم بن عبد الله، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله: * (وتلك الايام نداولها بين الناس) * قال: يعني الامراء. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) *. يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس. ولو لم يكن في الكلام واو لكان قوله: ليعلم متصلا بما قبله، وكان: وتلك الايام نداولها بين الناس ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت الواو فيه آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرا مطلوبا للام التي في قوله: وليعلم، متعلقة به. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (وليعلم الله الذين آمنوا) * معرفة، وأنت لا تستجيز في الكلام: قد سألت فعلمت عبد الله، وأنت تريد: علمت شخصه، إلا أن تريد: علمت صفته وما هو ؟ قيل: إن ذلك إنما جاز مع الذين، لان في الذين تأويل من وأي، وكذلك جائز مثله في الالف واللام، كما قال تعالى ذكره: * (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) * لان في الالف واللام من تأويل أي، ومن مثل الذي في الذي. ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على أي جاز، كما يقال: سألت لاعلم عبد الله من عمرو، ويراد بذلك: لاعرف هذا من هذا. فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم، نداول
[ 142 ]
بين الناس، فاستغنى بقوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا منكم) * عن ذكر قوله: * (من الذين نافقوا) * لدلالة الكلام عليه، إذ كان في قوله: * (الذين آمنوا) * تأويل أي على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: * (لنعلم أي الحزبين أحصى) * غير أن الالف واللام والذي ومن، إذا وضعت مع العلم موضع أي نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل: وليعلمن الكاذبين، فأما أي فإنها ترفع. وأما قوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * فإنه يعني: وليعلم الله الذين آمنوا، وليتخذ منكم شهداء: أي ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها. والشهداء جمع شهيد، كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) * أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرم من أهل الايمان بالشهادة. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) * قال: فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: ربنا أرنا يوما كيوم بدر، نقاتل فيه المشركين، ونبليك فيه خيرا، ونلتمس فيه الشهادة ! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) * فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم، ثم تصير حواصل الامور وعواقبها لاهل طاعة الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) * قال: قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) * كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر، يبلون فيه خيرا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق. فلقي المسلمون يوم أحد فاتخذ الله منهم
[ 143 ]
شهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل، فقال: * (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) *... الآية. وأما قوله: * (والله لا يحب الظالمين) * فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله لا يحب الظالمين) *: أي المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرة على المعصية. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) * يعني تعالى ذكره بقوله: * (وليمحص الله الذين آمنوا) *: وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فيبتليهم بإدالة المشركين منهم حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الايمان من المنافق. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، في قوله: * (وليمحص الله الذين آمنوا) * قال: ليبتلي. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (وليمحص الله الذين آمنوا) * قال: ليمحص الله المؤمن حتى يصدق. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وليمحص الله الذين آمنوا) * يقول: يبتلي المؤمنين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (وليمحص الله الذين آمنوا) * قال: يبتليهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) * فكان تمحيصا للمؤمنين، ومحقا للكافرين.
[ 144 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وليمحص الله الذين آمنوا) *: أي يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) * قال: يمحق من محق في الدنيا، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار. وأما قوله: * (ويمحق الكافرين) * فإنه يعني به: أنه ينقصهم ويفنيهم، يقال منه: محق فلان هذا الطعام: إذا نقصه أو أفناه، يمحقه محقا، ومنه قيل لمحاق القمر: محاق، وذلك نقصانه وفناؤه. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (ويمحق الكافرين) * قال: ينقصهم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ويمحق الكافرين) * قال: يمحق الكافر حتى يكذبه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق * (ويمحق الكافرين) * أي يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) يعني بذلك جل ثناؤه: أم حسبتم يا معشر أصحاب محمد، وظننتم أن تدخلوا الجنة، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده، * (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * يقول: ولما يتبين لعبادي المؤمنين، المجاهد منكم في سبيل الله، على ما أمره به. وقد بينت معنى قوله: * (ولما يعلم الله) *: وليعلم الله، وما أشبه ذلك بأدلته فيما مضى بما أغنى عن إعادته وقوله: * (ويعلم الصابرين) * يعني: الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه. كما:
[ 145 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) * وتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أختبركم بالشدة، وأبتليكم بالمكاره، حتى أعلم أصدق ذلك منكم الايمان بي، والصبر على ما أصابكم في. ونصب * (ويعلم الصابرين) * على الصرف، والصرف أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف، لانه مصروف عن معنى الاول، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام، وذلك كقولهم: لا يسعني شئ ويضيق عنك، لان لا التي مع يسعني لا يحسن إعادتها مع قوله: ويضيق عنك، فلذلك نصب. والقراء في هذا الحرف على النصب، وقد روى عن الحسن أنه كان يقرأ: ويعلم الصابرين فيكسر الميم من يعلم، لانه كان ينوي جزمها على العطف به على قوله: * (ولما يعلم الله) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (ولقد كنتم تمنون الموت) *: ولقد كنتم يا معشر أصحاب محمد تمنون الموت يعني أسباب الموت وذلك القتال، * (فقد رأيتموه) * فقد رأيتم ما كنتم تمنونه. والهاء في قوله رأيتموه، عائدة على الموت، ومعنى: * (وأنتم تنظرون) * يعني: قد رأيتموه بمرأى منكم ومنظر: أي بقرب منكم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه قيل: * (وأنتم تنظرون) * على وجه التوكيد للكلام، كما يقال: رأيته عيانا، ورأيته بعيني، وسمعته بأذني، وإنما قيل: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) * لان قوما من أصحاب رسول الله (ص) ممن لم يشهد بدرا، كانوا يتمنون قبل أحد يوما مثل يوم بدر، فيبلوا الله من أنفسهم خيرا، وينالوا من الاجر مثل ما نال أهل بدر، فلما كان يوم أحد فر بعضهم وصبر بعضهم، حتى أوفى بما كان عاهد الله قبل ذلك، فعاتب الله من فر منهم، فقال: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) *... الآية، وأثنى على الصابرين منهم والموفين بعهدهم. ذكر الاخبار بما ذكرنا من ذلك:
[ 146 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) * قال: غاب رجال عن بدر، فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه، فيصيبوا من الخير والاجر مثل ما أصاب أهل بدر. فلما كان يوم أحد ولى من ولى، فعاتبهم الله - أو فعابهم، أو فعتبهم - على ذلك، شك أبو عاصم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه، إلا أنه قال: فعاتبهم الله على ذلك، ولم يشك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *: أناس من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى الله أهل بدر من الفضل والشرف والاجر، فكانوا يتمنون أن يرزقوا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال حتى كان في ناحية المدينة يوم أحد، فقال الله عز وجل كما تسمعون: * (ولقد كنتم تمنون الموت) * حتى بلغ: * (الشاكرين) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) * قال: كانوا يتمنون أن يلقوا المشركين فيقاتلوهم، فلما لقوهم يوم أحد ولوا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن أناسا من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل، فكانوا يتمنون أن يروا قتالا فيقاتلوا، فسيق إليهم القتال، حتى كان بناحية المدينة يوم أحد، فأنزل الله عز وجل: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) *... الآية. حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي (ص) كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي (ص) لنفعلن ولنفعلن ! فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلهم صدق، فأنزل الله عز وجل: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: كان ناس من أصحاب النبي (ص) لم يشهدوا بدرا، فلما رأوا فضيلة أهل بدر، قالوا: اللهم إنا
[ 147 ]
نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر، نبليك فيه خيرا ! فرأوا أحدا، فقال لهم: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *: أي لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم، يعني الذين حملوا رسول الله (ص) على خروجه بهم إلى عدوهم لما فاتهم من الحضور في اليوم الذي كان قبله ببدر، رغبة في الشهادة التي قد فاتتهم به يقول: * (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) *: أي الموت بالسيوف في أيدي الرجال، قد حل بينكم وبينهم، وأنتم تنظرون إليهم، فصددتم عنهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) * يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه داعيا إلى الله وإلى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه يقول. جل ثناؤه: فمحمد (ص) إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لاصحاب محمد معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحد: إن محمدا قتل، ومقبحا إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم: * (أفئن مات) * محمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدوكم، * (انقلبتم على أعقابكم) * يعني ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه، ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الايمان به، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه. * (ومن ينقلب على عقبيه) * يعني بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه، * (فلن يضر الله شيئا) * يقول: فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه، بل نفسه يضر بردته، وحظ نفسه ينقص بكفره. * (وسيجزي الله الشاكرين) * يقول: وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه بنبوته على ما جاء به محمد (ص) إن هو مات أو قتل واستقامته على منهاجه، وتمسكه بدينه وملته بعده. كما:
[ 148 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: * (وسيجزي الله الشاكرين) *: الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه. فكان علي رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحباء الله، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر، قال: إن أبا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الآية: * (وسيجزي الله الشاكرين) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وسيجزي الله الشاكرين) *: أي من أطاعه وعمل بأمره. وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله (ص) فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه. ذكر الاخبار الواردة بذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * إلى قوله: * (وسيجزي الله الشاكرين) * ذاكم يوم أحد حين أصابهم القرح والقتل، ثم تنازعوا نبي الله (ص) بقية ذلك، فقال أناس: لو كان نبيا ما قتل. وقال أناس من علية أصحاب نبي الله (ص): قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم، حتى يفتح الله لكم، أو تلحقوا به. فقال الله عز وجل: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * يقول: إن مات نبيكم، أو قتل، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه، وزاد فيه: قال الربيع: وذكر لنا والله أعلم أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الانصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم ! فأنزل الله عز وجل: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟) * يقول: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
[ 149 ]
عن السدي، قال: لما برز رسول الله (ص) يوم أحد إليهم - يعني إلى المشركين - أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجه خيل المشركين، وقال: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الاسود على المشركين، فهزماهم، وحمل النبي (ص) وأصحابه، فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين قدم، فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله (ص) وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله (ص) ! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماح، صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، وحمل على أصحاب النبي (ص)، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل، تبادروا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم، فأتى ابن قميئة الحارثي أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، فرمى رسول الله (ص) بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله (ص) يدعو الناس: إلي عباد الله ! إلي عباد الله ! فاجتمع إليه ثلاثون رجلا، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة، فرمي بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبي بن خلف الجمحي - وقد حلف ليقتلن النبي (ص)، فقال النبي (ص): بل أنا أقتلك - فقال: يا كذاب أين تفر ؟ فحمل عليه فطعنه النبي (ص) في جنب الدرع، فجرح جرحا خفيفا، فوقع يخور خوران الثور، فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة، قال: أليس قال: لاقتلنك ؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم. ولم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح. وفشا في الناس أن رسول الله (ص) قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي، فنأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ! يا قوم إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم ! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد (ص) ! اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وانطلق رسول الله (ص) يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه،
[ 150 ]
فقال: أنا رسول الله، ففرحوا حين وجدوا رسول الله (ص) حيا، وفرح رسول الله (ص) حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله (ص)، ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا، فقال الله عز وجل للذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) *. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ومن ينقلب على عقبيه) * قال: يرتد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الانصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: ثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عبد النجار، قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والانصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم ؟ قالوا: قد قتل محمد رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل. وبه سمي أنس بن مالك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد (ص): ألا إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى دينكم الاول ! فأنزل الله عز وجل: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *... الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 151 ]
مجاهد، قال: ألقي في أفواه المسلمين يوم أحد أن النبي (ص) قد قتل، فنزلت هذه الآية: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *... الآية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة، والناس يفرون، ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله (ص) ؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم، فيقولون: والله ما ندري ما فعل ! فقال: والذي نفسي بيده لئن كان النبي (ص) قتل لنعطينهم بأيدينا، إنهم لعشائرنا وإخواننا ! وقالوا: إن محمدا إن كان حيا لم يهزم، ولكنه قد قتل، فترخصوا في الفرار حينئذ، فأنزل الله عز وجل على نبيه (ص): * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *... الآية. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) *... الآية: ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق، قالوا يوم فر الناس عن نبي الله (ص)، وشج فوق حاجبه، وكسرت رباعيته: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الاول ! فذلك قوله: * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * ؟ قال: ما بينكم وبين أن تدعو الاسلام وتنقلبوا على أعقابكم، إلا أن يموت محمد أو يقتل، فسوق يكون أحد هذين، فسوف يموت أو يقتل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * إلى قوله: * (وسيجزي الله الشاكرين) *: أي لقول الناس قتل محمد، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم، أي أفئن مات نبيكم أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله، وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم ؟ * (ومن ينقلب على عقبيه) *: أي يرجع عن دينه، * (فلن يضر الله شيئا) *: أي لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال: أهل المرض والارتياب والنفاق، حين فر الناس عن النبي (ص): قد قتل محمد، فألحقوا بدينكم الاول ! فنزلت هذه الآية.
[ 152 ]
ومعنى الكلام: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ! فجعل الاستفهام في حرف الجزاء، ومعناه أن يكون في جوابه (خبر) وكذلك كل استفهام دخل على جزاء، فمعناه أن يكون في جوابه (خبر) لان الجواب خبر يقوم بنفسه والجزاء شرط لذلك الخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك، ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء، كما قال الشاعر: حلفت له إن تدلج الليل لا يزل أمامك بيت من بيوتي سائر فمعنى لا يزل رفع، ولكنه جزم لمجيئه بعد الجزاء فصار كالجواب. ومثله: * (أفإن مت فهم الخالدون) * و * (فكيف تتقون إن كفرتم) * ولو كان مكان فهم الخالدون يخلدون، وقيل: أفئن مت يخلدوا جاز الرفع فيه والجزم، وكذلك لو كان مكان انقلبتم تنقلبوا جاز الرفع والجزم لما وصفت قبل. وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله: انقلبتم اكتفاء بالاستفهام في أول الكلام، وأن الاستفهام في أوله دال على موضعه ومكانه. وقد كان بعض القراء يختار في قوله: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا
[ 153 ]
لمبعوثون) * ترك إعادة الاستفهام مع أئنا، اكتفاء بالاستفهام في قوله: * (أئذا متنا وكنا ترابا) *، ويستشهد على صحة وجه ذلك باجتماع القراء على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: انقلبتم، اكتفاء بالاستفهام في قوله: * (أفئن مات) * إذا كان دالا على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه، وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن، وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين) * يعني تعالى ذكره بذلك: وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الاجل الذي كتبه الله له وأذن له بالموت فحينئذ يموت، فأما قبل ذلك فلن تموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) *: أي أن لمحمد أجلا هو بالغه إذا أذن الله له في ذلك كان. وقد قيل: إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. وقد اختلف أهل العربية في معنى الناصب قوله: * (كتابا مؤجلا) *، فقال بعض نحويي البصرة: هو توكيد، ونصبه على: كتب الله كتابا مؤجلا، قال: وكذلك كل شئ في القرآن من قوله حقا، إنما هو: أحق ذلك حقا، وكذلك: * (وعد الله) * و * (رحمة من ربك) * و * (صنع الله الذي أتقن كل شئ) * و * (كتاب الله عليكم) * إنما هو: صنع الله هكذا صنعا، فهكذا تفسير كل شئ في القرآن من نحو هذا، فإنه كثير. وقال بعض نحويي الكوفة في قوله: * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) * معناه: كتب الله آجال النفوس، ثم قيل: كتابا مؤجلا، فأخرج قوله: كتابا مؤجلا، نصبا من المعنى الذي في الكلام، إذ كان قوله: * (وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله) * قد أدى عن معنى كتب، قال: وكذلك سائر ما في القرآن من نظائر ذلك، فهو على هذا النحو.
[ 154 ]
وقال آخرون منهم: قول القائل: زيد قائم حقا، بمعنى: أقول زيد قائم حقا، لان كل كلام قول، فأدى المقول عن القول، ثم خرج ما بعده منه، كما تقول: أقول قولا حقا، وكذلك ظنا ويقينا، وكذلك وعد الله، وما أشبهه. والصواب من القول في ذلك عندي، أن كل ذلك منصوب على المصدر من معنى الكلام الذي قبله، لان في كل ما قبل المصادر التي هي مخالفة ألفاظها ألفاظ ما قبلها من الكلام معاني ألفاظ المصادر وإن خالفها في اللفظ فنصبها من معاني ما قبلها دون ألفاظه. القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين. يعني بذلك جل ثناؤه: من يرد منكم أيها المؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا دون ما عند الله من الكرامة، لمن ابتغى بعمله ما عنده * (نؤته منها) * يقول: نعطه منها، يعني: من الدنيا، يعني: أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه، وطلب ما عنده في الآخرة. * (ومن يرد ثواب الآخرة) * يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الآخرة، يعني ما عند الله من كرامته التي أعدها للعاملين له في الآخرة، * (نؤته منها) * يقول: نعطه منها، يعني من الآخرة، والمعنى: من كرامة الله التي خص بها أهل طاعته في الآخرة. فخرج الكلام على الدنيا والآخرة، والمعنى ما فيهما. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) *: أي فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة، نؤته ما قسم له منها من رزق، ولا حظ له في الآخرة، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ما وعده مع ما يجرى عليه من رزقه في دنياه. وأما قوله: * (وسنجزي الشاكرين) * يقول: وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني
[ 155 ]
إليه بطاعته إياي وانتهائه إلى أمري وتجنبه محارمي في الآخرة، مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي. وقال ابن إسحاق في ذلك بما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وسنجزي الله الشاكرين) * أي ذلك جزاء الشاكرين، يعنى بذلك: إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة مع ما يجرى عليه من الرزق في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: * (وكأين) * بهمز الالف وتشديد الياء وقرأه آخرون: بمد الالف وتخفيف الياء. وهما قراءتان مشهورتان في قراءة المسلمين، ولغتان معروفتان لا اختلاف في معناهما، فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب، لاتفاق معنى ذلك وشهرتهما في كلام العرب. ومعناه: وكم من نبي. القول في تأويل قوله تعالى: * (قاتل معه ربيون كثير) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: * (قاتل معه ربيون كثير) *، فقرأ ذلك جماعة من قراء الحجاز والبصرة: قتل بضم القاف، وقرأه جماعة أخرى بفتح القاف وبالالف، وهي قراءة جماعة من قراء الحجاز والكوفة. فأما من قرأ * (قاتل) * فإنه اختار ذلك لانه قال: لو قتلوا لم يكن لقوله: * (فما وهنوا) * وجه معروف، لانه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا. وأما الذين قرؤا ذلك: قتل، فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل. وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بضم القاف: قتل معه ربيون كثير لان الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية، والآيات التي قبلها من قوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * الذين انهزموا يوم أحد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح: إن محمدا قد قتل، فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال، فقال: أفإن مات محمد أو قتل أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم، وانقلبتم على أعقابكم ؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الانبياء قبلهم وقال لهم: هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الانبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج
[ 156 ]
نبيهم والقتال على دينه أعداء دين الله على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم، ولم تهنوا ولم تضعفوا كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الانبياء إذا قتل نبيهم، ولكنهم صبروا لاعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم ! وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأول. وأما الربيون، فإنهم مرفوعون بقوله: معه، لا بقوله: قتل. وإنما تأويل الكلام: وكائن من نبي قتل ومعه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله. وفي الكلام إضمار واو، لانها واو تدل على معنى حال قتل النبي (ص)، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام عليها من ذكرها، وذلك كقول القائل في الكلام: قتل الامير معه جيش عظيم، بمعنى: قتل ومعه جيش عظيم. وأما الربيون، فإن أهل العربية اختلفوا في معناه، فقال بعض نحويي البصرة: هم الذين يعبدون الرب واحدهم ربي. وقال بعض نحويي الكوفة: لو كانوا منسوبين إلى عبادة الرب لكانوا ربيون بفتح الراء، ولكنه العلماء والالوف، والربيون عندنا: الجماعة الكثيرة، واحدهم ربي، وهم جماعة. واختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم مثل ما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: الربيون: الالوف. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الثوري، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو بن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: * (ربيون كثير) * قال: جموع كثيرة.
[ 157 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (قاتل معه ربيون كثير) * قال: جموع. حدثني حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: الالوف. وقال آخرون بما: حدثني به سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: علماء كثير. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن في قوله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: فقهاء علماء. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية. عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: الجموع الكثيرة. قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيل: قتل معه ربيون كثير. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير يقول: جموع كثيرة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: قتل معه ربيون كثير قال: علماء كثيرة. وقال قتادة: جموع كثيرة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله: * (ربيون كثير) * قال: جموع كثيرة. حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: قتل معه ربيون كثير قال: جموع كثيرة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 158 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: قتل معه ربيون كثير يقول: جموع كثيرة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير يقول: جموع كثيرة قتل نبيهم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جعفر بن حبان، والمبارك عن الحسن في قوله: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قال جعفر: علماء صبروا. وقال ابن المبارك: أتقياء صبروا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قتل معه ربيون كثير يعني الجموع الكثيرة قتل نبيهم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (قاتل معه ربيون كثير) * يقول: جموع كثيرة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه جماعات. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير الربيون: الجموع الكثيرة. وقال آخرون: الربيون: الاتباع. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير قال: الربيون: الاتباع، والربانيون: الولاة، والربيون: الرعية. وبهذا عاتبهم الله حين انهزموا عنه، حين صاح الشيطان إن محمدا قد قتل، قال: كانت الهزيمة عند صياحه في سنينة صاح: أيها الناس إن محمدا رسول الله قد قتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم. القول في تأويل قوله: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) *.
[ 159 ]
يعني بقوله تعالى ذكره: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) *: فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله، ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء الله، ولا نكلوا عن جهادهم. * (وما ضعفوا) * يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبيهم. * (وما استكانوا) * يعني: وما ذلوا فيتخشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم، ومداهنتهم فيه، خيفة منهم، ولكن مضوا قدما على بصائرهم ومنهاج نبيهم، صبرا على أمر الله وأمر نبيهم وطاعة الله، واتباعا لتنزيله ووحيه. * (والله يحب الصابرين) * يقول: والله يحب هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لامره وطاعته، وطاعة رسوله، في جهاد عدوه، لا من فشل ففر عن عدوه، ولا من انقلب على عقبيه فذل لعدوه لان قتل نبيه أو مات، ولا من دخله وهن عن عدوه وضعف لفقد نبيه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) * يقول: ما عجزوا، وما تضعضعوا لقتل نبيهم، * (وما استكانوا) * يقول: ما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم، بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا) * يقول: ما عجزوا، وما ضعفوا لقتل نبيهم، * (وما استكانوا) * يقول: وما ارتدوا عن نصرتهم، قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله (ص) حتى لحقوا بالله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فما وهنوا) *: فما وهن الربيون لما أصابهم في سبيل الله، من قتل النبي (ص)، * (وما ضعفوا) * يقول: ما ضعفوا في سبيل الله لقتل النبي، * (وما استكانوا) * يقول: ما ذلوا حين قال رسول الله (ص): اللهم ليس لهم أن يعلونا، * (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فما وهنوا) * لفقد
[ 160 ]
نبيهم، * (وما ضعفوا) * عن عدوهم، * (وما استكانوا) * لما أصابهم في الجهاد عن الله، وعن دينهم، وذلك الصبر * (والله يحب الصابرين) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (وما استكانوا) * قال: تخشعوا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وما استكانوا) * قال: ما استكانوا لعدوهم، * (والله يحب الصابرين) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) * يعني تعالى ذكره بقوله: * (وما كان قولهم) *: وما كان قول الربيين. والهاء والميم من ذكر أسماء الربيين. * (إلا أن قالوا) * يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم. وقوله: * (ربنا اغفر لنا ذنوبنا) * يقول: لم يعتصموا إذ قتل نبيهم إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) *. وأما الاسراف: فإنه الافراط في الشئ، يقال منه: أسرف فلان في هذا الامر إذا تجاوز مقداره فأفرط، ومعناه ههنا: اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله: * (وإسرافنا في أمرنا) * قال: خطايانا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإسرافنا في أمرنا) *: خطايانا وظلمنا أنفسنا. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (وإسرافنا في أمرنا) * يعني: الخطايا الكبار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، قال: الكبائر.
[ 161 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (وإسرافنا في أمرنا) * قال: خطايانا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (وإسرافنا في أمرنا) * يقول: خطايانا. وأما قوله: * (وثبت أقدامنا) * فإنه يقول: اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم، ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم. * (وانصرنا على القوم الكافرين) * يقول: وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك. وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديب لهم، يقول الله عز وجل: هلا فعلتم إذ قيل لكم: قتل نبيكم، كما فعل هؤلاء الربيون، الذين كانوا قبلكم من أتباع الانبياء، إذ قتلت أنبياؤهم، فصبرتم لعدوكم صبرهم، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فينصركم الله عليهم كما نصروا، فإن الله يحب من صبر لامره وعلى جهاد عدوه، فيعطيه النصر والظفر على عدوه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) *: أي فقولوا كما قالوا، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم، فلم يفعلوا كما فعلتم. والقراءة التي هي القراءة في قوله: * (وما كان قولهم) * النصب لاجماع قراء الامصار على ذلك نقلا مستفيضا وراثة عن الحجة. وإنما اختير النصب في القول، لان إلا أن لا تكون إلا معرفة، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم دون الاسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي كان إذا كان بعده أن الخفيفة، كقوله: * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) * وقوله: * (ثم لم تكن فتنتهم
[ 162 ]
إلا أن قالوا) *. فأما إذا كان الذي يلي كان اسما معرفة، والذي بعده مثله، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي كان، فإن جعلت الذي ولي كان هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده، وإن جعلت الذي ولي كان هو الخبر نصبته ورفعت الذي بعده، وذلك كقوله جل ثناؤه: * (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى) * إن جعلت العاقبة الاسم رفعتها، وجعلت السوأى هي الخبر منصوبة، وإن جعلت العاقبة الخبر نصبت، فقلت: وكان عاقبة الذين أساؤوا السوأى، وجعلت السوأى هي الاسم، فكانت مرفوعة، وكما قال الشاعر: لقد علم الاقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها روى أيضا: ما كان داؤها بثهلان إلا الخزي، نصبا ورفعا، على ما قد بينت، ولو فعل مثل ذلك مع أن كان جائزا، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب. القول في تأويل قوله تعالى: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) * يعني بذلك تعالى ذكره: فأعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم، وعلى جهاد عدوهم، والاستعانة بالله في أمورهم، واقتفائهم مناهج إمامهم، على ما أبلوا في الله * (ثواب الدنيا) * يعني: جزاء في الدنيا، وذلك النصر على عدوهم وعدو الله، والظفر والفتح عليهم، والتمكين لهم في البلاد، * (وحسن ثواب الآخرة) * يعني: وخير جزاء الآخرة، على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة، وذلك الجنة ونعيمها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وما كان
[ 163 ]
قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) * فقرأ حتى بلغ: * (والله يحب المحسنين) *: أي والله لآتاهم الله الفتح والظهور والتمكين والنصر على عدوهم في الدنيا، * (وحسن ثواب الآخرة) * يقول: حسن الثواب في الآخرة: هي الجنة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (وما كان قولهم) * ثم ذكر نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا) * قال: النصر والغنيمة، * (وحسن ثواب الآخرة) * قال: رضوان الله ورحمته. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فآتاهم الله ثواب الدنيا) *: حسن الظهور على عدوهم، * (وحسن ثواب الآخرة) *: الجنة، وما أعد فيها. وقوله: * (والله يحب المحسنين) * يقول تعالى ذكره: فعل الله ذلك بإحسانهم، فإنه يحب المحسنين، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبيهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) * يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، في وعد الله ووعيده وأمره ونهيه * (إن تطيعوا الذين كفروا) *، يعني: الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد (ص) من اليهود والنصارى، فيما يأمرونكم به، وفيما ينهونكم عنه، فتقبلوا رأيهم في ذلك، وتنتصحوهم فيما تزعمون أنهم لكم فيه ناصحون، * (يردوكم على أعقابكم) * يقول: يحملوكم على الردة بعد الايمان والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الاسلام، * (فتنقلبوا خاسرين) * يقول: فترجعوا عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين، يعني: هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم. ينهي بذلك أهل الايمان بالله أن يطيعوا أهل الكفر في آرائهم، وينتصحوهم في أديانهم. كما:
[ 164 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) *: أي عن دينكم: فتذهب دنياكم وآخرتكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) * قال ابن جريج: يقول: لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم، ولا تصدقوهم بشئ في دينكم. حدثنا محمد قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) * يقول: إن تطيعوا أبا سفيان يردكم كفارا. القول في تأويل قوله تعالى: * (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) * يعني بذلك تعالى ذكره: أن الله مسددكم أيها المؤمنون، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا. وإنما قيل: * (بل الله مولاكم) * لان قوله: * (إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم) * نهي لهم عن طاعتهم، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا، فيردوكم على أعقابكم، ثم ابتدأ الخبر، فقال: * (بل الله مولاكم) * فأطيعوه دون الذين كفروا فهو خير من نصر، ولذلك رفع اسم الله، ولو كان منصوبا على معنى: بل أطيعوا الله مولاكم دون الذين كفروا، كان وجها صحيحا. ويعني بقوله: * (بل الله مولاكم) *: وليكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا، * (وهو خير الناصرين) * لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله، فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا وإياه فاستنصروا دون غيره ممن يبغيكم الغوائل ويرصدكم بالمكاره. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (بل الله مولاكم) * إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا في قلوبكم، * (وهو خير الناصرين) *: أي فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينكم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 165 ]
* (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) * يعني بذلك جل ثناؤه: سيلقى الله أيها المؤمنون في قلوب الذين كفروا بربهم، وجحدوا نبوة محمد (ص) ممن حاربكم بأحد الرعب، وهو الجزع والهلع بما أشركوا بالله، يعني بشركهم بالله وعبادتهم الاصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة، وهي السلطان التي أخبر عز وجل أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعد من الله جل ثناؤه أصحاب رسول الله (ص) بالنصر على أعدائهم، والفلج عليهم ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته، ثم أخبرهم ما هو فاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إليه، فقال جل ثناؤه: * (ومأواهم النار) * يعني: ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة النار * (وبئس مثوى الظالمين) * يقول: وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) * إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة، أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر، ولا ظهور عليكم ما اعتصمتم واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم منهم بذنوب قدمتموها لانفسكم، خالفتم بها أمري، وعصيتم فيها نبي الله (ص). حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشرير تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فانهزموا، فلقوا أعرابيا، فجعلوا له جعلا، وقالوا له: إن لقيت محمدا فأخبره بما قد جمعنا لهم ! فأخبر الله عز وجل رسوله (ص)، فطلبهم حتى بلغ حمراء الاسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي (ص) وما قذف في قلبه من الرعب،
[ 166 ]
فقال: * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) * يعني بقوله تعالى ذكره: ولقد صدقكم الله أيها المؤمنون من أصحاب محمد (ص) بأحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد (ص). والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأحد قوله للرماة: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وكان وعدهم رسول الله (ص) النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره، كالذي: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما برز رسول الله (ص) إلى المشركين بأحد، أمر الرماة، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين، وقال: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب، فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ! فضربه علي، فقطع رجله فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم ! فكبر رسول الله (ص). وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الاسود على المشركين، فهزماهم، وحمل النبي (ص) وأصحابه، فهزموا أبا سفيان، فلما رأئ ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل، فرمته الرماة، فانقمع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله (ص) وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر
[ 167 ]
رسول الله (ص). فانطلق عامتهم، فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي (ص)، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل، تنادوا، فشدوا على المسلمين، فهزموهم وقتلوهم. حدثنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين، أجلس رسول الله (ص) رجالا بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم ! إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا فلما التقى القوم، هزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخلهن، فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة ! قال عبد الله: مهلا، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله (ص) ؟ فأبوا، فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلا. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي أسحاق، عن البراء، بنحوه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، ابن عباس قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) * فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال، حتى نزل أحدا، وخرج رسول الله (ص)، فأذن في الناس، فاجتمعوا، وأمر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الاسود الكندي، وأعطى رسول الله (ص) اللواء رجلا من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسر، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله (ص) الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك ! وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم ! وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي (ص) إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد، فهزمه ومن معه، كما قال: * (لقد صدقكم الله
[ 168 ]
وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) * وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم، وأنه معهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، أن محمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا في قصة ذكرها عن أحد، ذكر أن كلهم قد حدث ببعضها، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث، فكان فيما ذكر في ذلك: أن رسول الله (ص) نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا تقاتلوا حتى نأمر بالقتال، وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين، فقال رجل من الانصار حين نهى رسول الله (ص) عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ! وصفنا رسول الله (ص) للقتال، وهو في سبعمائة رجل، وتصاف قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمر رسول الله (ص) على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلم بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ! إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك ! فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، واقتتلوا حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين، فأنزل الله عز وجل نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
[ 169 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، قال: قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوازم، ما دون إحداهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل ! فانكفأنا وأنكفأ علينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) *: أي لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) *، وذلك يوم أحد، قال لهم: إنكم ستظهرون فلا تأخذوا ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا فتركوا أمر نبي الله (ص)، وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ تحسونهم بإذنه) *. يعني تعالى ذكره بذلك: ولقد وفى الله لكم أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله (ص) بما وعدكم من النصر على عدوكم بأحد، حين تحسونهم، يعني: حين تقتلونهم. يقال منه: حسه يحسه حسا: إذا قتله. كما: حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي، قال: ثنا يعقوب بن عيسى، قال: ثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله: * (إذ تحسونهم بإذنه) * قال: الحس: القتل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عز وجل: * (إذ تحسونهم) * قال: القتل.
[ 170 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (إذ تحسونهم بإذنه) * قال: تقتلونهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم) * أي قتلا بإذنه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إذ تحسونهم) * يقول: إذ تقتلونهم. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (إذ تحسونهم بإذنه) * والحس القتل. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) * يقول: تقتلونهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إذ تحسونهم) * بالسيوف: أي بالقتل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن: * (إذ تحسونهم بإذنه) * يعني: القتل. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: * (إذ تحسونهم بإذنه) * يقول: تقتلونهم. وأما قوله: * (بإذنه) * فإنه يعني: بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسليطي إياكم عليهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إذ تحسونهم) * بإذني وتسليطي أيديكم عليهم، وكفي أيديهم عنكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) *.
[ 171 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (حتى إذا فشلتم) *: حتى إذا جبنتم وضعفتم، * (وتنازعتم في الامر) * بقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره، وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم (ص) بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأحد، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين الذين ذكرنا قبل أمرهم. وأما قوله: * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * فإنه يعني بذلك: من بعد الذي أراكم الله أيها المؤمنون بمحمد من النصر والظفر بالمشركين، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله (ص) أقعدهم فيها، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم. وبنحو الذي قلنا تظاهرت الاخبار عن أهل التأويل، وقد مضى ذكر بعض من قال، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى. ذكر من قال ذلك:: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر) * أي اختلفتم في الامر، * (وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) * وذاكم يوم أحد، عهد إليهم نبي الله (ص) وأمرهم بأمر، فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم نبي الله (ص)، فانصرف عليهم عدوهم بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) بعث ناسا من الناس - يعني: يوم أحد - فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله (ص): كونوا ههنا فردوا وجه من قدمنا، وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا وأن رسول الله (ص) لما هزم القوم هو وأصحابه، اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم، فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأوا الغنائم، قالوا: انطلقوا إلى رسول الله (ص) فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها ! وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله (ص) فنثبت مكاننا. فذلك قوله: * (منكم من يريد الدنيا) * للذين أرادوا الغنيمة، * (ومنكم من يريد الآخرة) * للذين قالوا: نطيع رسول الله (ص) ونثبت مكاننا. فأتوا محمدا (ص)، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم، يقول: * (وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) * كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (حتى إذا
[ 172 ]
فشلتم) * يقول: جبنتم عن عدوكم، * (وتنازعتم في الامر) * يقول: اختلفتم وعصيتم، * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * وذلك يوم أحد، قال لهم: إنكم ستظهرون فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا، فتركوا أمر نبي الله (ص) وعصوا، ووقعوا في الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إليهم، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به، فانصرف عليهم عدوهم من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (حتى إذا فشلتم) * قال ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل: الجبن. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) * من الفتح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (حتى إذا فشلتم) *: أي تخاذلتم، * (وتنازعتم في الامر) * أي اختلفتم في أمري، * (وعصيتم) *: أي تركتم أمر نبيكم (ص) وما عهد إليكم، يعني: الرماة. * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * أي الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن: * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * يعني: من الفتح. وقيل: معنى قوله: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) * حتى إذا تنازعتم في الامر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أنه من المقدم الذي معناه التأخير، وإن الواو دخلت في ذلك، ومعناها: السقوط كما قلنا في: * (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) * معناه: ناديناه، وهذا مقول في حتى إذا وفي فلما أن، ومنه قول الله عز وجل: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) * ثم قال: * (واقترب الوعد الحق) * ومعناه: اقترب، وكما قال الشاعر:
[ 173 ]
حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا إن اللئيم العاجز الخب القول في تأويل قوله تعالى: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (منكم من يريد الدنيا) *: الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله (ص) في الشعب من أحد لخيل المشركين، ولحقوا بمعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين * (ومنكم من يريد الآخرة) * يعني بذلك: الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي أقعدهم فيها رسول الله (ص)، واتبعوا أمره، محافظة على عهد رسول الله (ص)، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم، والدار الآخرة. كما: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة، هم أصحاب الدنيا والذين بقوا، وقالوا: لا نخالف قول رسول الله (ص) أرادوا الآخرة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * فإن نبي الله (ص) أمر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال: كونوا مسلحة للناس بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم، فلما لقي بني الله (ص) يوم أحد أبا
[ 174 ]
سفيان ومن معه من المشركين، هزمهم نبي الله (ص): فلما رأى المسلحة أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنيمة الغنيمة لا تفتكم ! وثبت بعضهم مكانهم، وقالوا: لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله (ص). ففي ذلك نزل: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي (ص) كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: أدركوا الناس ونبي الله (ص) لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ! وقال بعضهم: لا نريم حتى يأذن لنا النبي (ص)، فنزلت: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * قال ابن جريج: قال ابن مسعود: ما علمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله (ص) كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن المبارك، عن الحسن: * (منكم من يريد الدنيا) * هؤلاء الذين يحوزون الغنائم، * (ومنكم من يريد الآخرة) * الذين يتبعونهم يقتلونهم. حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العبقري، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي عن عبد خير، قال: قال عبد الله: ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله (ص) يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) *. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن عبد خير، قال: قال ابن مسعود: ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله (ص) يومئذ أحدا يريد الدنيا حتى قال الله ما قال. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله (ص) يريد الدنيا حتى كان اليوم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 175 ]
عن أبيه، عن ابن عبا س، قال: كان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي (ص) كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق * (منكم من يريد الدنيا) * أي الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة، * (ومنكم من يريد الآخرة) *: أي الذين جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم، وفي أنفسكم من هزيمتكم إياهم، وظهوركم عليهم، فرد وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنيا على الآخرة، عقوبة لكم على ما فعلتم، ليبتليكم، يقول: ليختبركم، فيتميز المنافق منكم من المخلص، الصادق في إيمانه منكم. كما: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن في قوله: * (ثم صرفكم عنهم) * قال: صرف القوم عنهم، فقتل من المسلمين بعدة من أسروا يوم بدر، وقتل عم رسول الله (ص)، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه، وكان يمسح الدم عن وجهه، ويقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟، فنزلت: * (ليس لك من الامر شئ) *... الآية، فقالوا: أليس كان رسول الله (ص) وعدنا النصر ؟ فأنزل الله عز وجل: * (ولقد صدقكم الله وعده) * إلى قوله: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) *: أي صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) *.
[ 176 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (ولقد عفا عنكم) *: ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله (ص)، والتاركون طاعته، فيما تقدم إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرف وجوهكم عنهم إذ لم يستأصل جمعكم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن، في قوله: * (ولقد عفا عنكم) * قال: قال الحسن وصفق بيديه: وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون، وقتل عم رسول الله (ص)، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه ؟ قال: ثم يقول: قال الله عز وجل: قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم. قال: ثم يقول الحسن: هؤلاء مع رسول الله (ص)، وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شئ فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (ولقد عفا عنكم) * قال: لم يستأصلكم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولقد عفا عنكم) *: ولقد عفا الله عن عظيم ذلك لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم، ولكن عدت بفضلي عليكم. وأما قوله: * (والله ذو فضل على المؤمنين) * فإنه يعني: والله ذو طول على أهل الايمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم، فإن عاقبهم على بعض ذلك، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) * يقول: وكذلك من الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم، لما أصابوا من معصيته، رحمة لهم، وعائدة عليهم لما فيهم من الايمان. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم
[ 177 ]
في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصابكم والله خبير بما تعملون) * يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم، وهربكم، * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) *. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري: * (إذ تصعدون) * بضم التاء وكسر العين، وبه القراءة عندنا لاجماع الحجة من القراء على القراءة به، واستنكارهم ما خالفه. وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: إذ تصعدون بفتح التاء والعين. حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن يونس بن عبيد، عن الحسن. فأما الذين قرءوا: * (تصعدون) * بضم التاء وكسر العين، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوهم أخذوا في الوادي هاربين. وذكروا أن ذلك في قراءة أبي: إذ تصعدون في الوادي. حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا أبو عبيد، قال: ثنا حجاج، عن هارون. قالوا: الهرب في مستوى الارض، وبطون الاودية والشعاب، إصعاد لا صعود، قالوا وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدرج، لان معنى الصعود: الارتقاء والارتفاع على الشئ علوا. قالوا: فأما الاخذ في مستوى الارض الهبوط، فإنما هو إصعاد، كما يقال: أصعدنا من مكة، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان، بمعنى خرجنا منها سفرا إليها، وابتدأنا منها الخروج إليها. قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا تلوون على أحد) * ذاكم يوم أحد أصعدوا في الوادي فرارا، ونبي الله (ص) يدعوهم في أخراهم، قال: إلي عباد الله، إلي عباد الله. وأما الحسن فإني أراه ذهب في قراءته: إذ تصعدون بفتح التاء والعين إلى أن القوم
[ 178 ]
حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل. وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، وجعل رسول الله (ص) يدعو الناس: إلي عباد الله، إلي عباد الله ! فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دعاء نبي الله (ص) إياهم، فقال: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) *. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: انحازوا إلى النبي (ص)، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) * قال: صعدوا في أحد فرارا. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: * (إذ تصعدون) * بضم التاء وكسر العين، بمعنى السبق والهرب في مستوى الارض، أو في المهابط، لاجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالآية تأويل من قال: أصعدوا في الوادي، ومضوا فيه، دون قول من قال: صعدوا على الجبل. وأما قوله: * (ولا تلوون على أحد) * فإنه يعني: ولا تعطفون على أحد منكم، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوكم مصعدين في الوادي. ويعني بقوله: * (والرسول يدعوكم في أخراكم) *: ورسول الله (ص) يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه في أخراكم، يعني أنه يناديكم من خلفكم: إلي عباد الله، إلي عباد الله !. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (والرسول يدعوكم في أخراكم) *: إلي عباد الله ارجعوا، إلي عباد الله ارجعوا !.
[ 179 ]
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والرسول يدعوكم في أخراكم) *: رأوا نبي الله (ص) يدعوهم: إلي عباد الله ! حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أنبهم الله بالفرار عن نبيهم (ص)، وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (والرسول يدعوكم في أخراكم) * هذا يوم أحد حين انكشف الناس عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فأثابكم غما بغم) * يعني: فجازاكم بفراركم عن نبيكم، وفشلكم عن عدوكم، ومعصيتكم ربكم غما بغم، يقول: غما على غم. وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال ثوابا، إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم، فدل بذلك جل ثناؤه أن كل عوض كالمعوض من شئ من العمل، خيرا كان أو شرا، أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إليه، فإنه مستحق اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة، ونظير ذلك قول الشاعر: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا فجعل العطاء العقوبة، وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه: لاجازينك على فعلك، ولاثيبنك ثوابك. وأما قوله: * (غما بغم) * فإنه قيل: غما بغم، معناه: غما على غم، كما قيل: * (ولاصلبنكم في جذوع النخل) * بمعنى: ولاصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز
[ 180 ]
ذلك، لان معنى قول القائل: أثابك الله غما على غم: جزاك الله غما بعد غم تقدمه، فكان كذلك معنى: فأثابكم غما بغم، لان معناه: فجزاكم الله غما بعقب غم تقدمه، وهو نظير قول القائل: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان، وضربته بالسيف، وعلى السيف. واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم، وما كان غمهم الاول والثاني، فقال بعضهم: أما الغم الاول، فكان ما تحدث به القوم أن نبيهم (ص) قد قتل. وأما الغم الآخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فأثابكم غما بغم) * كانوا تحدثوا يومئذ أن نبي الله (ص) أصيب، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم، قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله (ص) ستة وستون رجلا من الانصار، وأربعة من المهاجرين. وقوله: * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) * يقول: ما فاتكم من غنيمة القوم، ولا ما أصابكم في أنفسكم من القتل والجراحات. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فأثابكم غما بغم) * قال: فرة بعد فرة، الاولى: حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل، والثانية: حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين، حتى قتلوا منهم سبعين رجلا، ثم انحازوا إلى النبي (ص)، فجعلوا يصعدون في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم.. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. وقال آخرون: بل غمهم الاول كان قتل من قتل منهم، وجرح من جرح منهم، والغم الثاني: كان من سماعهم صوت القائل: قتل محمد (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (غما بغم) * قال: الغم الاول: الجراح والقتل، والغم الثاني: حين سمعوا أن نبي الله (ص) قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول: * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن
[ 181 ]
أبيه، عن الربيع: * (فأثابكم غما بغم) * قال: الغم الاول: الجراح والقتل، والغم الآخر: حين سمعوا أن رسول الله (ص) ق قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول الله: * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) *. وقال آخرون: بل الغم الاول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب. وذلك أن أبا سفيان فيما زعم بعض أهل السير لما أصاب من المسلمين ما أصاب، وهرب المسلمون، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله (ص) في شعب أحد الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. ذكر الخبر بذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: انطلق رسول الله (ص) يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه، وضع رجل سهما في قوسه، فأراد أن يرميه، فقال: أنا رسول الله ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله (ص) حيا، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله (ص) حين ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه، نسوا ذلك الذي كانوا عليه، وهمهم أبو سفيان فقال رسول الله (ص): ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل ! حنظلة بحنظلة، ويوم بيوم بدر. وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب وكان جنبا فغسلته الملائكة، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، قال أبو سفيان: لنا العزى، ولا عزى لكم، فقال رسول الله (ص) لعمر: قل الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: فيكم محمد ؟ قالوا: نعم، قال: أما إنها قد كانت فيكم مثلة، ما أمرت بها، ولا نهيت عنها، ولا سرتني، ولا ساءتني. فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم، فقال: * (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) * الغم الاول: ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والغم الثاني: إشراف العدو عليهم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون، فشغلهم أبو سفيان.
[ 182 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا فيما ذكروا من حديث أحد، قالوا: كان المسلمون في ذلك اليوم لما أصابهم فيه من شدة البلاء أثلاثا: ثلث قتيل، وثلث جريح، وثلث منهزم، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع، وحتى خلص العدو إلى رسول الله (ص) فدث بالحجارة حتى وقع لشقه، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله (ص) ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله (ص)، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فكان أول من عرف رسول الله (ص) بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله (ص). كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله (ص) ! فأشار إلي رسول الله أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله (ص) نهضوا به ونهض نحو الشعب معه علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصامت في رهط من المسلمين. قال: فبينا رسول الله (ص) في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله (ص) اللهم إنه لا ينبغي
[ 183 ]
لهم أن يعلونا فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين، حتى أهبطوهم عن الجبل. ونهض رسول الله (ص) إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله (ص) قد بدن، فظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض، فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض حتى استوى عليها ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف، أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فقال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل ! أي أظهر دينك. فقال رسول الله (ص) لعمر: قم فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان، قال له أبو سفيان: هلم إلي يا عمر ! فقال له رسول الله (ص): ائته فانظر ما شأنه ! فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة، وأشار لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمدا. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاكم مثله، والله ما رضيت، ولا سخطت، ولا نهيت، ولا أمرت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق: * (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) *: أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم، فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم، ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم، والله خبير بما تعلمون. وكان الذي فرج عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم أن الله عز وجل رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم، فلما رأوا رسول الله (ص) حيا بين أظهرهم،
[ 184 ]
هان عليهم ما فاتهم من القوم، فهان الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم، حين صرف الله القتل عن نبيهم (ص). حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (فأثابكم غما بغم) * قال ابن جريج: قال مجاهد: أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا، فلما تولجوا في الشعب يتصافون وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا، فأصابهم حزن في ذلك أيضا أنساهم حزنهم في أصحابهم، فذلك قوله: * (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) * قال ابن جريج: قوله: * (على ما فاتكم) * يقول: على ما فاتكم من غنائم القوم * (ولا ما أصابكم) * في أنفسكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد بن عمير، قال: جاء أبو سفيان بن حرب، ومن معه، حتى وقف بالشعب، ثم نادى: أفي القوم ابن أبي كبشة ؟ فسكتوا، فقال أبو سفيان: قتل ورب الكعبة، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فسكتوا، فقال: قتل ورب الكعبة ! ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا، فقال: قتل ورب الكعبة ! ثم قال أبو سفيان: اعل هبل، يوم بيوم بدر، وحنظلة بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مثلا لم يكن عن رأي سراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه ! فقال النبي (ص) لعمر بن الخطاب: قم فناد فقل: الله أعلى وأجل، نعم هذا رسول الله (ص)، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. وقال آخرون في ذلك بما: حدثني به محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) * فرجعوا فقالوا: والله لنأتينهم، ثم لنقتلنهم، قد خرجوا منا فقال رسول الله (ص): مهلا
[ 185 ]
فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني. فبينما هم كذلك، إذ أتاهم القوم، قد أنسوا، وقد اخترطوا سيوفهم، فكان غم الهزيمة وغمهم حين أتوهم، * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) * من القتل * (ولا ما أصابكم) * من الجراحة * (فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا) *... الآية، وهو يوم أحد. وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله: * (فأثابكم غما بغم) * أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين، والظفر بهم، والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم ربكم، وخلافكم أمر نبيكم (ص)، غم ظنكم أن نبيكم (ص) قد قتل، وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم. والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه، قوله: * (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) * والفائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم، إما من ظهور عليهم بغلبهم، وإما من غنيمة يحتازونها، وأن قوله: * (ولا ما أصابكم) * هو ما أصابهم إما في أبدانهم، وإما في إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الغم الثاني هو معنى غير هذين، لان الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله (ص)، أنه أثابهم غما بغم، لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم، وهو الغم الاول على ما قد بيناه قبل. وأما قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) * فإن تأويله على ما قد بينت من أنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور وحيازة غنائمهم، ولا ما أصابكم في أنفسكم من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم. وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه، كما: حدثنا يونس، قال: أخبرنا وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) * قال: على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون، * (ولا ما أصابكم) * من الهزيمة. وأما قوله: * (والله خبير بما تعلمون) * فإنه يعني جل ثناؤه: والله بالذي تعلمون - أيها المؤمنون من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم، وانهزامكم منهم، وترككم نبيكم وهو
[ 186 ]
يدعوكم في أخراكم، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم، وما أصابكم في أنفسهم - ذو خبرة وعلم، وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه، والمسئ بإساءته، أو يعفو عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) * يعني بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل الله أيها المؤمنون من بعد الغم الذي أثابكم ربكم بعد غم تقدمه قبله أمنة، وهي الامان على أهل الاخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك. ثم بين جل ثناؤه عن الامنة التي أنزلها عليهم ما هي ؟ فقال: نعاسا، بنصب النعاس على الابدال من الامنة. ثم اختلفت القراء في قراءة قوله: * (يغشى) * فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض الكوفيين بالتذكير بالياء: * (يغشى) *. وقرأ جماعة من قراء الكوفيين بالتأنيث: * (تغشى) * بالتاء. وذهب الذين قرؤوا ذلك بالتذكير إلى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من المؤمنين دون الامنة، فذكره بتذكير النعاس. وذهب الذين قرؤوا ذلك بالتأنيث إلى أن الامنة هي التي تغشاهم، فأنثوه لتأنيث الامنة. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراء الامصار غير مختلفتين في معنى ولا غيره، لان الامنة في هذا الموضع هي النعاس، والنعاس: هو الامنة. وسواء ذلك، وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الحق في قراءته، وكذلك جميع ما في القرآن من نظائره من نحو قوله: * (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل تغلي في البطون) * و * (ألم يك نطفة من مني تمنى) * * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط) *.
[ 187 ]
فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما الله عز وجل فيما افترقتا فيه من صفتهما، فآمنت إحداهما بنفسها حتى نعست، وأهمت الاخرى نفسها حتى ظنت بالله غير الحق ظن الجاهلية ؟ قيل: كان سبب ذلك فيما ذكر لنا، كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل قال: ثنا أسباط، عن السدي: أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي (ص) بدرا من قابل، فقال لهم: نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة، فبعث رسول الله (ص) رجلا، فقال: انظر فإن رأيتهم قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم، فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا على أثقالهم، فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله واصبروا ! ووطنهم على القتال، فلما أبصرهم الرسول تعدوا على الاثقال سراعا عجالا، نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله (ص)، فناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم، فقال الله عز وجل يذكر حين أخبرهم النبي (ص) إن كانوا ركبوا الاثقال فإنهم منطلقون فناموا: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن، * (يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة، قال: كنت فيمن أنزل عليه النعاس يوم أحد أمنة، حتى سقط من يدي مرارا. قال أبو جعفر: يعني: سوطه، أو سيفه. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تحت حجفته يميد من النعاس.
[ 188 ]
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: كنت فيمن صب عليه النعاس يوم أحد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة: أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه من النعاس. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا والله أعلم عن أنس أن أبا طلحة حدثهم أنه كان يومئذ ممن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه ويسقط، والطائفة الاخرى: المنافقون، ليس لهم همة إلا أنفسهم * (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) *... الآية كلها. حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: ثنا ضرار بن صرد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول الله عز وجل: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) * قال ألقي علينا النوم يوم أحد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) *... الآية، وذاكم يوم أحد، كانوا يومئذ فريقين، فأما المؤمنون فغشاهم الله النعاس أمنة منه ورحمة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، نحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (أمنة نعاسا) * قال: ألقي عليهم النعاس، فكان ذلك أمنة لهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، قال: قال عبد الله: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) * قال: أنزل النعاس أمنة منه على أهل اليقين به، فهم نيام لا يخافون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 189 ]
عن قتادة، في قوله: * (أمنة نعاسا) * قال: ألقى الله عليهم النعاس، فكان أمنة لهم. وذكر أن أبا طلحة قال: ألقي علي النعاس يومئذ، فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا إسحاق بن إدريس، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة، وهشام بن عروة بن الزبير أنهما قالا: لقد رفعنا رؤوسنا يوم أحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يميل بجنب حجفته قال: وتلا هذه الآية: * (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وطائفة منكم أيها المؤمنون قد أهمتهم أنفسهم، يقول: هم المنافقون لا هم لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل على أنفسهم، وخوف المنية عليها في شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بالله الظنون الكاذبة، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله، شكا في أمر الله، وتكذيبا لنبيه (ص)، ومحسبة منهم أن الله خاذل نبيه، ومعل عليه أهل الكفر به، يقولون: هل لنا من الامر شئ. كالذي: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: والطائفة الاخرى: المنافقون، ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظنونا كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله، يقولون: * (لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: والطائفة الاخرى: المنافقون ليس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون: * (لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا) * قال الله عز وجل: * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) *... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) * قال: أهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم تخوف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة.
[ 190 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) * إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون. وأما قوله: * (ظن الجاهلية) * فإنه يعني أهل الشرك. كالذي: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ظن الجاهلية) * قال: ظن أهل الشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ظن الجاهلية) * قال: ظن أهل الشرك. وفي رفع قوله: * (وطائفة) * وجهان: أحدهما أن تكون مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: * (قد أهمتهم) *، والآخر بقوله: * (يظنون بالله غير الحق) * ولو كانت منصوبة كان جائزا، وكانت الواو في قوله: * (وطائفة) * ظرفا للفعل، بمعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال: * (والسماء بنيناها بأيد) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا) *: يعني بذلك: الطائفة المنافقة التي قد أهمتهم أنفسهم، يقولون: ليس لنا من الامر من شئ، قل إن الامر كله لله، ولو كان لنا من الامر شئ ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قيل لعبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج اليوم ! قال: وهل لنا من الامر من شئ ؟ قل إن الامر كله لله. وهذا أمر مبتدأ من الله عز وجل، يقول لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المنافقين إن الامر كله لله، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحب، ثم عاد إلى الخبر عن ذكر نفاق المنافقين، فقال: * (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) * يقول: يخفي يا محمد هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك صفتهم في أنفسهم من الكفر والشك في الله ما لا يبدون لك، ثم أظهر نبيه (ص) على ما كانوا يخفونه بينهم من نفاقهم، والحسرة التي أصابتهم على
[ 191 ]
حضورهم مع المسلمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرا عن قيلهم الكفر، وإعلانهم النفاق بينهم، يقولون: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا، يعني بذلك أن هؤلاء المنافقين يقولون: لو كان الخروج إلى حرب من خرجنا لحربه من المشركين إلينا، ما خرجنا إليهم، ولا قتل منا أحد في الموضع الذي قتلوا فيه بأحد. وذكر أن ممن قال هذا القول معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف. ذكر الخبر بذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير، قال: والله إني لاسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا. حدثني سعيد بن يحيى بن الاموي، قال: ثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: ثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، بمثله. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: * (قل إن الامر كله) * بنصب الكل على وجه النعت للامر والصفة له. وقرأه بعض قراء أهل البصرة: * (قل إن الامر كله لله) * برفع الكل على توجيه الكل إلى أنه اسم، وقوله لله خبره، كقول القائل: إن الامر بعضه لعبد الله. وقد يجوز أن يكون الكل في قراءة من قرأه بالنصب منصوبا على البدل. والقراءة التي هي القراءة عندنا النصب في الكل لاجماع أكثر القراء عليه، من غير أن تكون القراءة الاخرى خطأ في معنى أو عربية. ولو كانت القراءة بالرفع في ذلك مستفيضة في القراء، لكانت سواء عندي القراءة بأي ذلك قرئ لاتفاق معاني ذلك بأي وجهيه قرئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) *: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد للذين وصفت لك صفتهم من المنافقين: لو كنتم في بيوتكم لم تشهدوا مع المؤمنين مشهدهم، ولم تحضروا معهم حرب أعدائهم من المشركين، فيظهر للمؤمنين ما كنتم تخفونه من نفاقكم، وتكتمونه من شرككم في دينكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل، يقول: لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد
[ 192 ]
كتب عليه القتل منهم، ويخرج من بيته إليه، حتى يصرع في الموضع الذي كتب عليه أن يصرع فيه. وأما قوله: * (وليبتلي الله ما في صدوركم) *: فإنه يعني به: وليبتلي الله ما في صدوركم أيها المنافقون كنتم تبرزون من بيوتكم إلى مضاجعكم. ويعني بقوله: * (وليبتلي الله ما في صدوركم) *: وليختبر الله الذي في صدوركم من الشك، فيميزكم بما يظهره للمؤمنين من نفاقكم من المؤمنين. وقد دللنا فيما مضى على أن معاني نظائر قوله: * (ليبتلي الله) * * (وليعلم الله) * وما أشبه ذلك، وإن كان في ظاهر الكلام مضافا إلى الله الوصف به، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته، وأن معنى ذلك: وليختبر أولياء الله، وأهل طاعته، الذي في صدوركم من الشك والمرض، فيعرفوكم من أهل الاخلاص واليقين. * (وليمحص ما في قلوبكم) * يقول: وليتبينوا ما في قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله (ص) وللمؤمنين من العداوة أو الولاية. * (والله عليم بذات الصدور) * يقول: والله ذو علم بالذي في صدور خلقه من خير وشر وإيمان وكفر، لا يخفى عليه شئ من أمورهم، سرائرها وعلانيتها، وهو لجميع ذلك حافظ، حتى يجازي جميعم جزاءهم على قدر استحقاقهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن إسحاق يقول. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة. عن ابن إسحاق، قال: ذكر الله تلاومهم، يعني: تلاوم المنافقين وحسرتهم على ما أصابهم. ثم قال لنبيه (ص): قل لو كنتم في بيوتكم لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم، لاخرج الذي كتب عليهم القتل إلى موطن غيره يصرعون فيه، حتى يبتلي به ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور، أي لا يخفى عليه شئ مما في صدورهم مما استخفوا به منكم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا الحرث بن مسلم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: سئل عن قوله: * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) * قال: كتب الله على المؤمنين أن يقاتلوا في
[ 193 ]
سبيله، وليس كل من يقاتل يقتل، ولكن يقتل من كتب الله عليه القتل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) * يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين ولوا عن المشركين من أصحاب رسول الله (ص) يوم أحد وانهزموا عنهم، وقوله: * (تولوا) *: تفعلوا، من قولهم: ولى فلان ظهره. وقوله: * (يوم التقى الجمعان) * يعني: يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأحد، * (إنما استنزلهم الشيطان) *: أي إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان. وقوله استزل: استفعل، من الزلة، والزلة: هي الخطيئة. * (ببعض ما كسبوا) * يعني: ببعض ما عملوا من الذنوب. * (ولقد عفا الله عنهم) * يقول: ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه. * (إن الله غفور) * يعني به: مغط على ذنوب من آمن به واتبع رسوله بعفوه عن عقوبته إياهم عليها. * (حليم) * يعني: أنه ذو أناة، لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة. ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها كل من ولى الدبر عن المشركين بأحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: خطب عمر يوم الجمعة، فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) * قال: لما كان يوم أحد هزمناهم، ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى، والناس يقولون: قتل محمد ! فقلت: لا أجد أحدا يقول قتل محمد إلا قتلته. حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) *... الآية كلها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) *... الآية، وذلك يوم أحد، ناس من أصحاب رسول الله (ص) تولوا عن القتال وعن نبي الله يومئذ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون أنه قد تجاوز لهم عن ذلك، وعفا عنهم.
[ 194 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) *... الآية، فذكر نحو قول قتادة. وقال آخرون: بل عني بذلك خاص ممن ولى الدبر يومئذ، قالوا: وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما انهزموا يومئذ تفرق عن رسول الله (ص) أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة، فقاموا عليها، فذكر الله عز وجل الذين انهزموا، فدخلوا المدينة، فقال: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) *... الآية. وقال آخرون: بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة، قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) * قال: نزلت في رافع بن المعلى وغيره من الانصار وأبي حذيفة بن عتبة، ورجل آخر. قال ابن جريج: وقوله: * (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) * إذ لم يعاقبهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان - رجلان من الانصار - حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلي الاعوص. فأقاموا به ثلاثا، ثم رجعوا إلى رسول الله (ص)، فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) *... الآية، والذين استزلهم الشيطان: عثمان بن عفان، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان الانصاريان، ثم الزرقيان.
[ 195 ]
وأما قوله: * (ولقد عفا الله عنهم) * فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، أن يعاقبهم، بتوليهم عن عدوهم. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: * (ولقد عفا الله عنهم) * يقول: ولقد عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله في توليهم يوم أحد: * (ولقد عفا الله عنهم) * فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفو عن المسلمين كلهم. وقد بينا تأويل قوله: * (إن الله غفور حليم) * فيما مضى. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاء به محمد من عند الله، لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله، فجحد نبوة محمد (ص)، وقال لاخوانه من أهل الكفر * (إذا ضربوا في الارض) * فخرجوا من بلادهم سفرا في تجارة، * (أو كانوا غزى) * يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاة، فهلكوا فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم، * (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) * يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار، أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل أو مات في سفر خرج فيه في طاعة الله أو تجارة: لو لم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا. * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * يعني: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل الله قولهم ذلك حزنا في قلوبهم وغما، ويجهلون أن ذلك إلى الله جل ثناؤه وبيده. وقد قيل: إن الذين نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتشبهوا بهم فيما نهاهم عنه من سوء اليقين بالله، هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. ذكر من قال ذلك:
[ 196 ]
حدثني محمد قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنو لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم) *... الآية. قال: هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى) * قول المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون في ذلك: هم جميع المنافقين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد. قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم) *... الآية: أي لا تكونوا كالمنافقين الذي ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله، والضرب في الارض في طاعة الله، وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا، وما قتلوا. وأما قوله: * (إذا ضربوا في الارض) * فإنه اختلف في تأويله، فقال بعضهم: هو السفر في التجارة، والسير في الارض لطلب المعيشة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إذا ضربوا في الارض) * وهي التجارة. وقال آخرون: بل هو السير في طاعة الله وطاعة رسوله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إذا ضربوا في الارض) *: الضرب في الارض في طاعة الله وطاعة رسوله. وأصل الضرب في الارض: الابعاد فيها سيرا. وأما قوله: * (أو كانوا غزى) * فإنه يعني: أو كانوا غزاة في سبيل الله. والغزى: جمع غاز، جمع على فعل كما يجمع شاهد: شهد، وقائل: قول. وقد ينشد بيت رؤبة: فاليوم قد نهنهني تنهنهي وأول حلم ليس بالمسفة وقول إلا ده فلا ده
[ 197 ]
وينشد أيضا: وقولهم إلا ده فلا ده وإنما قيل: * (لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى) * بإصحاب ماضي الفعل الحرف الذي لا يصحب مع الماضي منه إلا المستقبل، فقيل: وقالوا لاخوانهم ثم قيل: إذا ضربوا. وإنما يقال في الكلام: أكرمتك إذ زرتني، ولا يقال: أكرمتك إذا زرتني، لان القول الذي في قوله: * (وقالوا لاخوانهم) * وإن كان في لفظ الماضي فإنه بمعنى المستقبل، وذلك أن العرب تذهب بالذين مذهب الجزاء، وتعاملها في ذلك معاملة من وما، لتقارب معاني ذلك في كثير من الاشياء، وإن جمعهن أشياء مجهولات غير مؤقتات توقيت عمرو وزيد. فلما كان ذلك كذلك، وكان صحيحا في الكلام فصيحا أن يقال للرجال: أكرم من أكرمك، وأكرم كل رجل أكرمك، فيكون الكلام خارجا بلفظ الماضي مع من وكل مجهول، ومعناه الاستقبال، إذ كان الموصوف بالفعل غير موقت، وكان الذين في قوله: * (لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض) * غير موقتين، أجريت مجرى من وما في ترجمتها التي تذهب مذهب الجزاء وإخراج صلاتها بألفاظ الماضي من الافعال وهي بمعنى الاستقبال، كما قال الشاعر في ما: وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الامر واستيجاب ما كان في غد فقال: ما كان في غد، وهو يريد: ما يكون في غد، ولو كان أراد الماضي لقال: ما كان في أمس، ولم يجز له أن يقول: ما كان في غد. ولو كان الذي موقتا، لم يجز أن يقال: ذلك خطأ أن يقال لك: من هذا الذي أكرمك إذا زرته ؟ لان الذي ههنا موقت، فقد خرج من معنى الجزاء، ولو لم يكن في الكلام هذا، لكان جائزا فصيحا، لان الذي يصير حينئذ
[ 198 ]
مجهولا غير موقت، ومن ذلك قول الله عز وجل: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) * فرد يصدون على كفروا، لان الذين غير موقتة، فقوله: * (كفروا) * وإن كان في لفظ ماض، فمعناه الاستقبال، وكذلك قوله: * (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا) *، وقوله: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * معناه: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم، وإلا من يتوب ويؤمن، ونظائر ذلك في القرآن والكلام كثير، والعلة في كل ذلك واحدة. وأما قوله: * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * فإنه يعني بذلك: حزنا في قلوبهم. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (في قلوبهم) * قال: يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (والله يحيي ويميت) *: والله المعجل الموت لمن يشاء من حيث يشاء، والمميت من يشاء كلما شاء دون غيره من سائر خلقه. وهذا من الله عز وجل ترغيب لعباده المؤمنين على جهاد عدوه، والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم، وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله، وإعلام منه لهم أن الاماتة والاحياء بيده، وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين. ثم قال جل ثناؤه: * (والله بما تعملون بصير) * يقول: إن الله يرى ما تعملون من خير وشر، فاتقوه أيها المؤمنون، فإنه محص ذلك كله، حتى يجازي كل عامل بعمله على قدر استحقاقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق.
[ 199 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله يحيي ويميت) *: أي يعجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * يخاطب جل ثناؤه عباده المؤمنين يقول لهم: لا تكونوا أيها المؤمنون في شك من أن الامور كلها بيد الله، وأن إليه الاحياء والاماتة، كما شك المنافقون في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب، ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة، وأخبرهم أن موتا في سبيل الله وقتلا في الله خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ويتأخرون عن لقاء العدو. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) *: أي إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله أو قتل خير لو علموا فأيقنوا مما يجمعون في الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد، تخوفا من الموت والقتل لما جمعوا من زهيد الدنيا وزهادة في الآخرة. وإنما قال الله عز وجل: * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * وابتدأ الكلام: ولئن متم أو قتلتم بحذف جزاء لئن لان في قوله: * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * معنى جواز للجزاء، وذلك أنه وعد خرج مخرج الخبر. فتأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، ليغفرن الله لكم وليرحمنكم، فدل على ذلك بقوله: * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) * وجمع مع الدلالة به عليه الخبر عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا، وما يجمعون فيها. وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنه إن قيل: كيف يكون: * (لمغفرة من الله ورحمة) * جوابا لقوله: * (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) * فإن القول فيه أن يقال
[ 200 ]
فيه: كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم، فذكر لهم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في السبيل، فقال: * (لمغفرة من الله ورحمة) * يقول: لذلك * (خير مما تجمعون) * يعني لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون. ودخلت اللام في قوله: * (لمغفرة من الله) * لدخولها في قوله: ولئن، كما قيل: * (ولئن نصروهم ليولن الادبار) * القول في تأويل قوله تعالى: * (ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون) * يعني بذلك جل ثناؤه: ولئن متم أو قتلتم أيها المؤمنون، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم، فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقربكم من الله، ويوجب لكم رضاه، ويقربكم من الجنة، من الجهاد في سبيل الله، والعمل بطاعته على الركون إلى الدنيا، وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم، بل هو زائل عنكم، وعلى ترك طاعة الله والجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم، ويوجب لكم سخطه، ويقربكم من النار. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولئن متم أو قتلتم) * أي ذلك كان، * (لالى الله تحشرون) * أي أن إلى الله المرجع، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا تغتروا بها، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه آثر عندكم منها. وأدخلت اللام في قوله: * (لالى الله تحشرون) * لدخولها في قوله ولئن، ولو كانت اللام مؤخرة، إلى قوله: تحشرون، لاحدثت النون الثقيلة فيه، كما تقول في الكلام: لئن أحسنت إلي لاحسنن إليك، بنون مثقلة، فكان كذلك قوله: ولئن متم أو قتلتم لتحشرن إلى الله، ولكن لما حيز بين اللام وبين تحشرون بالصفة أدخلت في الصفة، وسلمت تحشرون، فلم تدخلها النون الثقيلة، كما تقول في الكلام: لئن أحسنت إلي لاليك أحسن، بغير نون مثقلة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف
[ 201 ]
عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (فبما رحمة من الله) *: فبرحمة من الله وما صلة، وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * والعرب تجعل ما صلة في المعرفة والنكرة، كما قال: * (فبما نقضهم ميثاقهم) * والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا في المعرفة، وقال في النكرة: * (عما قليل ليصبحن نادمين) * والمعنى: عن قليل. وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: فكفى بنا فضلا على من غيرناحب النبي محمد إيانا إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو، وإن خفضت أتبعت من فأعربته، فذلك حكمة على ما وصفنا مع النكرات، فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الاتباع، كما قيل: * (فبما نقضهم ميثاقهم) * والرفع جائز في العربية. وبنحو ما قلنا في قوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. وأما قوله: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * فإنه يعني بالفظ: الجافي، وبالغليظ القلب: القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة، وكذلك صفته (ص)، كما وصفه الله: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) *.
[ 202 ]
فتأويل الكلام: فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك، وبمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم لتباعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به، وأغلظت عليه، لتركك ففارقك، ولم يتبعك، ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) *: إي والله، لطهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رؤوفا. وذكر لنا أن نعت محمد (ص) في التوراة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخوب في الاسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) * قال: ذكر لينه لهم، وصبره عليهم لضعفهم، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم. وأما قوله: * (لانفضوا من حولك) * فإنه يعني: لتفرقوا عنك. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قوله: * (لانفضوا من حولك) * قال: انصرفوا عنك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (لا نفضوا من حولك) * أي لتركوك. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (فاعف عنهم) *: فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك، وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم، ومكروه في نفسك. * (واستغفر لهم) * وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم، واستحقوا عليه عقوبة منه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فاعف عنهم) *: أي فتجاوز عنهم، * (واستغفر لهم) * ذنوب من قارف من أهل الايمان منهم.
[ 203 ]
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه (ص) أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه ؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه (ص) بقوله: * (وشاورهم في الامر) * بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبا منه بذلك أنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) * أمر الله عز وجل نبيه (ص) أن يشاور أصحابه في الامور وهو يأتيه وحي السماء، لانه أطيب لانفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وشاورهم في الامر) * قال: أمر الله نبيه (ص) أن يشاور أصحابه في الامور، وهو يأتيه الوحي من السماء لانه أطيب لانفسهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وشاورهم في الامر) *: أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنيا، تؤلفهم بذلك على دينهم. وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك، وإن كان له الرأي وأصوب الامور في التدبير، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: * (وشاورهم في الامر) * قال: ما أمر الله عز وجل نبيه (ص) بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما شاور قوم قط، إلا هدوا لارشد أمورهم. وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه، وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده، فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الامر، ينزل بهم من أمر دينهم
[ 204 ]
ودنياهم، فيتشاوروا بينهم، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم، لان المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يخلهم الله عز وجل من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الايمان: * (وأمرهم شورى بينهم) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفيان بن عيينة في قوله: * (وشاورهم في الامر) * قال: هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي (ص) فيه أثر. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمر نبيه (ص) وسلم بمشاورة أصحابه، فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالاسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته ما في الامور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته (ص) يفعله. فأما النبي (ص)، فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الامور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخ للحق وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم. وأما قوله: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم، فإن الله يحب المتوكلين، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) * فإذا عزمت: أي على أمر جاءك مني، أو أمر من دينك في جهاد عدوك، لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك، فامض على ما أمرت به، على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك، وتوكل على الله: أي ارض به من العباد، إن الله يحب المتوكلين.
[ 205 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * أمر الله نبيه (ص)، إذا عزم على أمر أن يمضي فيه، ويستقيم على أمر الله، ويتوكل على الله. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) *... الآية، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني تعالى ذكره بذلك: إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه، والكافرين به، فلا غالب لكم من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم، وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم. * (وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) * يعني: إن يخذلكم ربكم، بخلافكم أمره، وترككم طاعته وطاعة رسوله، فيكلكم إلى أنفسكم، فمن ذا الذي ينصركم من بعده، يقول: فأيسوا من نصرة الناس، فإنكم لا تجدون أمرا من بعد خذلان الله إياكم أن خذلكم، يقول: فلا تتركوا أمري، وطاعتي وطاعة رسولي، فتهلكوا بخذلاني إياكم. * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * يعني: ولكن على ربكم أيها المؤمنون فتوكلوا دون سائر خلقه، وبه فارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فاستسلموا، وجاهدوا فيه أعداءه، يكفكم بعونه، ويمددكم بنصره. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *: أي إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس، لن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك، فلن ينصرك الناس، فمن الذي ينصركم من بعده: أي لا تترك أمري للناس، وارفض (أمر) الناس لامري * (وعلى الله) * (لا على الناس) * (فليتوكل المؤمنون) *. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 206 ]
* (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الحجاز والعراق: * (وما كان لنبي أن يغل) * بمعنى: أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم. واحتج بعض قارئي هذه القراءة، أن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص)، في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي (ص): لعل رسول الله (ص) أخذها. ورووا في ذلك روايات. فمنها ما: حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا خصيف، قال: ثنا مقسم، قال: ثني ابن عباس، أن هذه الآية: * (وما كان لبني أن يغل) * نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، قال: فقال بعض الناس: أخذها ! قال: فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا خصيف، قال: سألت سعيد بن جبير: كيف تقرأ هذه الآية: * (وما كان لنبي أن يغل) * أو يغل ؟ قال: لا، بل يغل، فقد كان النبي والله يغل ويقتل. حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس: * (وما كان لنبي أن يغل) * قال: كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال من أصحاب النبي (ص): فلعل النبي أخذها، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان لنبي أن يغل) * قال سعيد: بل والله إن النبي ليغل ويقتل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خلاد، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر، فقالوا: أخذها رسول الله (ص)، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان لنبي أن يغل) *. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا زهير، قال: ثنا
[ 207 ]
خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة، في قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * قالا: يغل، قال: قال عكرمة أو غيره، عن ابن عباس، قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر، فقالوا: أخذها رسول الله (ص)، قال: فأنزل الله هذه الآية: * (وما كان لنبي أن يغل) *. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا قزعة بن سويد الباهلي، عن حميد الاعرج، عن سعيد بن جبير، قال: نزلت هذه الآية: * (وما كان لنبي أن يغل) * في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة. حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: ثنا معتمر، عن أبيه، عن سليمان الاعمش، قال: كان ابن مسعود يقرأ: * (ما كان لنبي أن يغل) * فقال ابن عباس: بلى، ويقتل. قال: فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة، قالوا: إن رسول الله (ص)، غلها يوم بدر، فأنزل الله: * (وما كان لنبي أن يغل) *. وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك بفتح الياء وضم الغين: إنما نزلت هذه الآية في طلائع كان رسول الله (ص) وجههم في وجه، ثم غنم النبي (ص)، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل هذه الآية على نبيه (ص)، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرفه الواجب عليه من الحكم فيما أفاء الله عليه من الغنائم، وأنه ليس له أن يخص بشئ منها أحدا ممن شهد الوقعة أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم دون أحد. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * يقول: ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله. يقول: ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي (ص)، استنوا به. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، أنه كان يقرأ: * (ما كان لنبي أن يغل) * قال: أن يعطي بعضا، ويترك بعضا، إذا أصاب مغنما. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال:
[ 208 ]
بعث رسول الله (ص) طلائع، فغنم النبي (ص)، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل: * (وما كان لنبي أن يغل) *. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: * (ما كان لنبي أن يغل) * يقول: ما كان لنبي أن يقسم لطائفة من أصحابه، ويترك طائفة، ولكن يعدل، ويأخذ في ذلك بأمر الله عز وجل، ويحكم فيه بما أنزل الله. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (ما كان لنبي أن يغل) * قال: ما كان له إذا أصاب مغنما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا، ولكن يقسم بينهم بالسوية. وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح الياء وضم الغين: إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبي (ص)، لا يكتم من وحي الله شيئا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *: أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة. فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبي أن يكون غالا، بمعنى: أنه ليس من أفعال الانبياء خيانة أممهم. يقال منه: غل الرجل فهو يغل، إذا خان، غلولا، ويقال أيضا منه: أغل الرجل فهو يغل إغلالا، كما قال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، يعني: غير الخائن، ويقال منه: أغل الجازر: إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ما كان لنبي أن يغل) * يقول: ما كان ينبغي له أن يخون، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (ما كان لنبي أن يغل) * قال: أن يخون.
[ 209 ]
وقرأ ذلك آخرون: ما كان لنبي أن يغل بضم الياء وفتح الغين، وهي قراءة عظم قراء أهل المدينة والكوفة. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبي أن يغله أصحابه. ثم أسقط الاصحاب، فبقي الفعل غير مسمى فاعله، وتأويله: وما كان لنبي أن يخان. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن أنه كان يقرأ: وما كان لنبي أن يغل قال عوف: قال الحسن: أن يخان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وما كان لنبي أن يغل يقول: وما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي (ص) يوم بدر، وقد غل طوائف من أصحابه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وما كان لنبي أن يغل قال: أن يغله أصحابه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: وما كان لنبي أن يغل قال الربيع بن أنس، يقول: ما كان لنبي أن يغله أصحابه الذين معه، قال: ذكر لنا - والله أعلم - أن هذه الآية أنزلت على نبي الله (ص) يوم بدر، وقد غل طوائف من أصحابه. وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبي أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق. وكأن متأولي ذلك كذلك وجهوا قوله: وما كان لنبي أن يغل إلى أنه مراد به يغلل، ثم خففت العين من يفعل فصارت يفعل، كما قرأ من قرأ قوله: فإنهم لا يكذبونك بتأول يكذبونك. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: * (وما كان لنبي أن يغل) * بمعنى: ما الغلول من صفات الانبياء، ولا يكون نبيا من غل. وإنما اخترنا ذلك، لان الله عز وجل أوعد عقيب قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * أهل الغلول، فقال: * (ومن يغلل يأت
[ 210 ]
بما غل يوم القيامة) *... الآية، والتي بعدها، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * لانه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله (ص) أن يتهموا رسول الله (ص) بالغلول، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة، وسوء الظن برسول الله (ص)، لا بالوعيد على الغلول، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بين، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الانبياء وأخلاقهم، لان ذلك جرم عظيم، والانبياء لا تأتي مثله. فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك: فأولى منه: وما كان لنبي أن يخونه أصحابه إن ذلك كما ذكرت، ولم يعقب الله قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * إلا بالوعيد على الغلول، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ: يغل بضم الياء وفتح الغين، لان معنى ذلك: وما كان للنبي أن يغله أصحابه، فيخونوه في الغنائم، قيل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبي (ص) فيخونوه، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبي (ص)، فإن قالوا: نعم، خرجوا من قول أهل الاسلام، لان الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الاسلام قط. وإن قال قائل: لم يكن ذلك لهم في نبي ولا غيره ؟ قيل: فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبي (ص) وغلوله وغلول بعض اليهود، بمنزلة فيما حرم الله على الغال من أموالهما، وما يلزم المؤتمن من أداء الامانة إليهما. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا من أن الله عز وجل نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه، ناهيا بذلك عباده عن الغلول، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه، فقال: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *... الآيتين معا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) *.
[ 211 ]
يعني بذلك تعالى ذكره: ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا، وفيئهم، وغير ذلك، يأت به يوم القيامة في المحشر. كما حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة عن رسول الله (ص): أنه قام خطيبا، فوعظ وذكر، ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجئ يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك ألا هل عسى رجل منكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. ألا هل عسى رجل منكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. ألا هل عسى رجل منكم يجئ يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ألا هل عسى رجل منكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، مثل هذا، زاد فيه: على رقبته بعير له رغاء، لا ألفين أحدكم على رقبته نفس لها صياح. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أبو حيان، عن أبي زرعة، عن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قام رسول الله (ص) فينا يوما، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره، فقال: لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن عبد الرحمن.
[ 212 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حفص بن بشر، عن يعقوب القمي، قال: ثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، ينادي: يا محمد يا محمد ! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء، يقول: يا محمد يا محمد ! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة، ينادي: يا محمد يا محمد ! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم ينادي: يا محمد يا محمد ! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أسباط بن محمد، قال: ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن ذكوان، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد، قال: بعث رسول الله (ص) مصدقا، فجاء بسواد كثير، قال: فبعث رسول الله (ص) من يقبضه منه، فلما أتوه، جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم، قال: فقالوا: من أين لك هذا ؟ قال: أهدي إلي، فأتوا رسول الله (ص)، فأخبروه بذلك، فخرج فخطب، فقال: أيها الناس، ما بالي أبعث قوما إلى الصدقة، فيجئ أحدهم بالسواد الكثير، فإذا بعثت من يقبضه قال: هذا لي، وهذا لكم ! فإن كان صادقا أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه، أو في بيت أمه ؟ ثم قال: أيها الناس، من بعثناه على عمل فغل شيئا، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة تخور، أو شاة تثغو. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول الله (ص) رجلا من الازد، يقال له ابن التبية على صدقات بني سليم، فلما جاء قال: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي. فقال رسول الله (ص): أفلا يجلس أحدكم في بيته فتأتيه هديته ! ثم حمد الله
[ 213 ]
وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيقول أحدهم: هذا الذي لكم، وهذا هدية أهديت إلي أفلا يجلس في بيت أبيه أو بيت أمه فتأتيه هديته ! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدكم من ذلك شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، فلا أعرفن ما جاء رجل يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تثغو. ثم رفع يده فقال: ألا هل بلغت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد، حدثه بمثل هذا الحديث، قال: أفلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك ؟ ثم رفع يده حتى إني لانظر إلى بياض إبطيه، ثم قال اللهم هل بلغت قال أبو حميد: بصر عيني، وسمع أذني. حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث أن موسى بن جبير، حدثه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الانصاري، حدثه أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر يوما الصدقة، فقال: ألم تسمع رسول الله (ص) حين ذكر غلول الصدقة: من غل منها بعيرا أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة ؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى. حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا يحيى بن سعيد الانصاري، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله (ص) بعث سعد بن عبادة مصدقا، فقال: إياك يا سعد أن تجئ يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء ! قال: لا آخذه ولا أجئ به فأعفاه. حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد، قال: ثنا الربيع بن روح، قال: ثنا ابن عياش، قال: ثنا عبيد الله بن عمر بن حفص، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي (ص): أنه استعمل سعد بن عبادة، فأتى النبي (ص)، فسلم عليه، فقال له
[ 214 ]
النبي (ص): إياك يا سعد أن تجئ يوم القيامة تحمل على عنقك بعيرا له رغاء ! فقال سعد: فإن فعلت يا رسول الله إن ذلك لكائن ؟ قال: نعم، قال سعد: قد علمت يا رسول الله أني أسأل فأعطي، فأعفني ! فأعفاه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حبان، قال: ثنا عبد الرحمن بن الحرث، قال: ثني جدي عبيد بن أبي عبيد، وكان أول مولود بالمدينة، قال: استعملت على صدقة دوس، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه، فسلم، فخرجت إليه، فسلمت عليه، فقال: كيف أنت والبعير ؟ كيف أنت والبقر ؟ كيف أنت والغنم ؟ ثم قال: سمعت حبي رسول الله (ص) قال: من أخذ بعيرا بغير حقه جاء به يوم القيامة له رغاء، ومن أخذ بقرة بغير حقها جاء بها يوم القيامة لها خوار، ومن أخذ شاة بغير حقها جاء بها يوم القيامة على عنقه لها ثغاء فإياك والبقر فإنها أحد قرونا وأشد أظلافا !. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثني محمد، عن عبد الرحمن بن الحرث، عن جده عبيد بن أبي عبيد، قال: استعملت على صدقة دوس، فلما قضيت العمل قدمت، فجاءني أبو هريرة فسلم علي، فقال: أخبرني كيف أنت والابل ؟ ثم ذكر نحو حديثه عن زيد، إلا أنه قال: جاء به يوم القيامة على عنقه له رغاء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * قال قتادة: كان النبي (ص)، إذا غنم مغنما، بعث مناديا: ألا لا يغلن رجل مخيطا فما دونه ! ألا لا يغلن رجل بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ! ألا لا يغلن رجل فرسا، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة !. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ثم توفى كل نفس) *: ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها وافيا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك: * (وهم لا يظلمون) * يقول: لا
[ 215 ]
يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم من غير أن يعتدي عليهم، فينقصوا عما استحقوه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) * اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله بغلوله ما غل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن طريف، عن الضحاك في قوله: * (أفمن اتبع رضوان الله) * قال: من لم يغل. * (كمن باء بسخط من الله) *: كمن غل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف، عن الضحاك قوله: * (أفمن اتبع رضوان الله) * قال: من أدى الخمس. * (كمن باء بسخط من الله) *: فاستوجب سخطا من الله. وقال آخرون في ذلك بما: حدثني به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (أفمن اتبع رضوان الله) * على ما أحب الناس وسخطوا، * (كمن باء بسخط من الله) * لرضا الناس وسخطهم ؟ يقول: أفمن كان على طاعتي، فثوابه الجنة ورضوان من ربه، كمن باء بسخط من الله، فاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنم وبئس المصير ؟ أسوأ المثلان ؟ أي فاعرفوا. وأولى التأولين بتأويل الآية عندي، قول الضحاك بن مزاحم، لان ذلك عقيب وعيد الله على الغلول ونهيه عباده عنه، ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده، أسواء المطيع لله فيما أمره ونهاه، والعاصي له في ذلك: أي أنهما لا يستويان ولا تستوي حالتاهما عنده، لان لمن أطاع الله فيما أمره ونهاه: الجنة، ولمن عصاه فيما أمره ونهاه: النار. فمعنى قوله: * (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله) * إذا: أفمن ترك الغلول وما
[ 216 ]
نهاه الله عنه عن معاصيه وعمل بطاعة الله في تركه ذلك وفي غيره مما أمره به ونهاه من فرائضه، متبعا في كل ذلك رضا الله، ومجتنبا سخطه، * (كمن باء بسخط من الله) * يعني: كمن انصرف متحملا سخط الله وغضبه، فاستحق بذلك سكنى جهنم، يقول: ليسا سواء. وأما قوله: * (وبئس المصير) * فإنه يعني: وبئس المصير الذي يصير إليه ويؤوب إليه من باء بسخط من الله جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) * يعني تعالى ذكره بذلك: أن من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب الجزيل، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعقاب الاليم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) *: أي لكل درجات مما عملوا في الجنة والنار، إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (هم درجات عند الله) * يقول: بأعمالهم. وقال آخرون: معنى ذلك لهم درجات عند الله، يعني: لمن اتبع رضوان الله منازل عند الله كريمة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (هم درجات عند الله) * قال: هي كقوله لهم درجات عند الله. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (هم درجات عند الله) * يقول: لهم درجات عند الله. وقيل قوله: * (هم درجات) * كقول القائل: هم طبقات، كما قال ابن هرمة: إن حم المنون يكون قوم لريب الدهر أم درج السيول
[ 217 ]
وأما قوله: * (والله بصير بما يعملون) * فإنه يعني: والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفى عليه من أعمالهم شئ، يحصي على الفريقين جميعا أعمالهم، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشر. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله بصير بما يعملون) * يقول: إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. القول في تأويل قوله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * يعني بذلك: لقد تطول الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا، حين أرسل فيهم رسولا من أنفسهم، نبيا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول * (يتلو عليهم آياته) * يقول: يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله. * (ويزكيهم) * يعني: يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه، والحكمة ويعني بالحكمة: السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله (ص) وبيانه لهم * (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * يعني: إن كانوا من قبل أن يمن الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته، لفي ضلال مبين، يقول: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقا، ولا يبطلون باطلا. وقد بينا أصل الضلالة فيما مضى، وأنه الاخذ على غير هدى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع والمبين: الذي يبين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه أنه على غير استقامة ولا هدى. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * من الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من
[ 218 ]
هذه الامة، جعله الله رحمة لهم، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم قوله: * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * الحكمة: السنة. * (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) *: ليس الله كما تقول أهل حروراء: محنة غالبة من أخطأها أهريق دمه، ولكن الله بعث نبيه (ص) إلى قوم لا يعلمون فعلمهم، وإلى قوم لا أدب لهم فأدبهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: * (لقد من الله على المؤمنين) * إلى قوله * (لفي ضلال مبين) *: أي لقد من الله عليكم يا أهل الايمان إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم، يتلو عليكم آياته، ويزكيكم فيما أخذتم، وفيما علمتم، ويعلمكم الخير والشر، لتعرفوا الخير فتعملوا به، والشر فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه، لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته. * (وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين) * أي في عمياء من الجاهلية لا تعرفون حسنة، ولا تستغيثون من سيئة، صم عن الحق، عمي عن الهدى. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير) * يعني تعالى ذكره بذلك: أو حين أصابتكم أيها المؤمنون مصيبة، وهي القتلى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والجرحى الذين جرجوا منهم بأحد، وكان المشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرا. * (قد أصبتم مثليها) * يقول: قد أصبتم أنتم أيها المؤمنون من المشركين مثل هذه المصيبة التي أصابوا هم منكم، وهي المصيبة التي أصابها المسلمون من المشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين. * (قلتم أنى هذا) * يعني: قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد: * (أنى هذا) * من أي وجه هذا، ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونحن مسلمون، وهم مشركون، وفينا نبي الله (ص)، يأتيه الوحي من السماء، وعدونا أهل كفر بالله وشرك ؟ قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك: * (هو من عند
[ 219 ]
أنفسكم) * يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري، وترككم طاعتي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم. * (إن الله على كل شئ قدير) * يقول: إن الله على جميع ما أراد بخلقه من عفو وعقوبة وتفضل وانتقام قدير، يعني: ذو قدرة. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (قل هو من عند أنفسكم) * بعد إجماع جميعهم على أن تأويل سائر الآية على ما قلنا في ذلك من التأويل، فقال بعضهم: تأويل ذلك: قل هو من عند أنفسكم، بخلافكم على نبي الله (ص)، إذ أشار عليكم بترك الخروج إلى عدوكم والاصحار لهم، حتى يدخلوا عليكم مدينتكم، ويصيروا بين آطامكم، فأبيتم ذلك عليه، وقلتم: أخرج بنا إليهم حتى نصحر لهم فنقاتلهم خارج المدينة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) * أصيبوا يوم أحد، قتل منهم سبعون يومئذ، وأصابوا مثليها يوم بدر، قتلوا من المشركين سبعين، وأسروا سبعين. * (قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) * ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال لاصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون، فقال نبي الله (ص) لاصحابه: إنا في جنة حصينة - يعني بذلك: المدينة - فدعوا القوم أن يدخلوا علينا نقاتلهم فقال ناس له من أصحابه من الانصار: يا نبي الله: إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع في الغزو في الجاهلية، فبالاسلام أحق أن نمتنع فيه، فابرز بنا إلى القوم ! فانطلق رسول الله (ص)، فلبس لامته، فتلاوم القوم، فقالوا عرض نبي الله (ص) بأمر، وعرضتم بغيره، اذهب يا حمزة فقل لنبي الله (ص): أمرنا لامرك تبع ! فأتى حمزة فقال له: يا نبي الله إن القوم قد تلاوموا، وقالوا: أمرنا لامرك تبع. فقال رسول الله (ص): إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يناجز، وإنه ستكون فيكم مصيبة قالوا: يا نبي الله خاصة أو عامة ؟ قال: سترونها. ذكر لنا أن نبي الله (ص) رأى في المنام أن بقرا تنحر، فتأولها قتلا في أصحابه. ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم، فكان قتل
[ 220 ]
عمه حمزة، قتل يومئذ، وكان يقال له أسد الله. ورأى أن كبشا عتر، فتأوله كبش الكتيبة عثمان بن أبي طلحة أصيب يومئذ، وكان معه لواء المشركين. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه، غير أنه قال: * (قد أصبتم مثليها) * يقول: مثلي ما أصيب منكم، * (قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) * يقول: بما عصيتم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ممن قتلوا وأسروا، فقال الله عز وجل: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين، فذلك قوله: * (قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) * إذ نحن مسلمون نقاتل غضبا لله، وهؤلاء مشركون، * (قل هو من عند أنفسكم) * عقوبة لكم بمعصيتكم النبي (ص) حين قال ما قال. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) * قالوا: فإنما أصابنا هذا، لانا قبلنا الفداء يوم بدر من الاسارى، وعصينا النبي (ص) يوم أحد، فمن قتل منا كان شهيدا، ومن بقي منا كان مطهرا، رضينا بالله ربا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن وابن جريج، قالا: معصيتهم أنه قال لهم: لا تتبعوهم يوم أحد فاتبعوهم. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، ثم ذكر ما أصيب من المؤمنين، يعني بأحد، وقتل منهم سبعون إنسانا، * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) * كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلا وقتلوا سبعين. * (قلتم أنى هذا) *: أي من أين هذا ؟ * (قل هو من عند أنفسكم) * أنكم عصيتم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 221 ]
عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) * يقول: إنكم أصبتم من المشركين يوم بدر، مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم، فقال: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) *: أي إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم فبذنوبكم قد أصبتم مثليها قتلا من عدوكم في اليوم الذي كان قبله ببدر، قتلى وأسرى، ونسيتم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبيكم (ص)، إنكم أحللتم ذلك بأنفسكم. * (إن الله على كل شئ قدير) *: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) *... الآية، يعني بذلك: أنكم أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد. وقال بعضهم: بل تأويل ذلك: قل هو من عند أنفسكم بإسارتكم المشركين يوم بدر، وأخذكم منهم الفداء، وترككم قتلهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين، وقتلوا سبعين، فقال رسول الله (ص): اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتتقووا به على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون أو تقتلوهم فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون. قال: فأخذوا الفدية منهم، وقتلوا منهم سبعين، قال عبيدة: وطلبوا الخيرتين كلتيهما. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله (ص): إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم. قالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعدتهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني إسماعيل، عن ابن عون، عن
[ 222 ]
محمد، عن عبيدة السلماني، وحدثني حجاج عن جرير، عن محمد، عن عبيدة السلماني، عن علي، قال: جاء جبريل إلى النبي (ص)، فقال له: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الاسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين، أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. قال: فدعا رسول الله (ص) الناس، فذكر ذلك لهم. فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره ! قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ئ وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) * يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم يوم التقى الجمعان، وهو يوم أحد حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بالذي أصابهم: ما نال من القتل من قتل منهم، ومن الجراح من جرح منهم * (فبإذن الله) * يقول: فهو بإذن الله كان، يعني: بقضائه وقدره فيكم. وأجاب ما بالفاء، لان ما حرف جزاء، وقد بينت نظير ذلك فيما مضى قبل: * (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا) * بمعنى: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأحد، ليميز أهل الايمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين. وقد بينا تأويل قوله: * (وليعلم المؤمنين) * فيما مضى، وما وجه ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين) *: أي ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوكم فبإذني، كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم بعد أن جاءكم نصري وصدقتم وعدي، ليميز بين المنافقين والمؤمنين، * (وليعلم الذين نافقوا) * منكم، أي ليظهروا ما فيهم.
[ 223 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون) *. يعني تعالى ذكره بذلك: عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله (ص) وعن أصحابه، حين سار نبي الله (ص) إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا ! فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إليهم، ولكنا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال. فأبدوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: * (لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه، من عداوة رسول الله (ص) وأهل الايمان به. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا كلهم، قد حدث، قال: خرج رسول الله (ص) - يعني: حين خرج إلى أحد - في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، فقال أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم ! ومضى رسول الله (ص). حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * يعني: عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، الذين رجعوا عن رسول الله (ص)، حين سار إلى عدوه من المشركين بأحد. وقوله: * (لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * يقول: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظن أن
[ 224 ]
يكون قتال، فظهر منهم ما كانوا يخفون في أنفسهم. يقول الله عزوجل: * (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) * وليس في قلوبهم * (والله أعلم بما يكتمون) *: أي يخفون. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: خرج رسول الله (ص) - يعني: يوم أحد - في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا.. قال: فذكر الله أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول، وقول عبد الله بن جابر بن أبي عبد الله الانصاري حين دعاهم، فقالوا: ما نعلم قتالا، ولئن أطعتمونا لترجعن معنا، فقال: * (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: * (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) * قال: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: * (لو نعلم قتالا) * قال: لو نعلم أنا واجدون معكم قتالا، لو نعلم مكان قتال لاتبعناكم. واختلفوا في تأويل قوله * (أو ادفعوا) * فقال بعضهم: معناه: أو كثروا، فإنكم إذا كثرتم دفعتم القوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أو ادفعوا) * يقول: أو كثروا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (أو ادفعوا) * قال: بكثرتكم العدو وإن لم يكن قتال. وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابطوا إن لم تقاتلوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا إسماعيل بن حفص الآملي وعلي بن سهل الرملي، قالا: ثنا
[ 225 ]
الوليد بن مسلم، قال: ثنا عتبة بن ضمرة، قال: سمعت أبا عون الانصاري في قوله: * (قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) * قال: رابطوا. وأما قوله: * (والله أعلم بما يكتمون) * فإنه يعني به: والله أعلم من هؤلاء المنافقين الذين يقولون من العداوة والشنآن، وأنهم لو علموا قتالا ما تبعوهم، ولا دافعوا عنهم، وهو تعالى ذكره محيط بما يخفونه من ذلك، مطلع عليه، ومحصيه عليهم حتى يهتك أستارهم في عاجل الدنيا، فيفضحهم به، ويصليهم به الدرك الاسفل من النار في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) * يعني تعالى ذكره بذلك: وليعلم الله الذين نافقوا، الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا. فموضع الذين نصب على الابدال من الذين نافقوا، وقد يجوز أن يكون رفعا على الترجمة عما في قوله: * (يكتمون) * من ذكر الذين نافقوا فمعنى الآية: وليعلم الله الذين قالوا لاخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأحد يوم أحد، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم، * (وقعدوا) * يعني: وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عز وجل عنهم من قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله: * (لو أطاعونا) * يعني: لو أطاعنا من قتل بأحد من إخواننا وعشائرنا * (ما قتلوا) * يعني: ما قتلوا هنالك. قال الله عز وجل لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين: فادرءوا، يعني: فادفعوا من قول القائل: درأت عن فلان القتل، بمعنى: دفعت عنه، أدرؤه درءا، ومنه قول الشاعر: تقول وقد درأت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني
[ 226 ]
يقول تعالى ذكره: قل لهم: فادفعوا إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم: لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد (ص) وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش، ما قتلوا هنالك بالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتخلفهم عن محمد (ص) وشهود جهاد أعداء الله معه، الموت، فإنكم قد قعدتم عن حربهم، وقد تخلفتم عن جهادهم، وأنتم لا محالة ميتون. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (الذين قالوا لاخوانهم) * الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم: * (لو أطاعونا ما قتلوا) *... الآية: أي أنه لا بد من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله، حرصا على البقاء في الدنيا وفرارا من الموت. ذكر من قال: الذين قالوا لاخوانهم هذا القول هم الذين قال الله فيهم: * (وليعلم الذين نافقوا) * حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) *... الآية، ذكر لنا أنها نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: هم عبد الله بن أبي وأصحابه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: هو عبد الله بن أبي الذي قعد وقال لاخوانه الذين خرجوا مع النبي (ص) يوم أحد: * (لو أطاعونا ما قتلوا) *... الآية. قال ابن جريج عن مجاهد، قال: قال جابر بن عبد الله: هو عبد الله بن أبي ابن سلول. حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا) *... الآية، قال: نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ئ
[ 227 ]
فرحين بمآ آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يعني تعالى ذكره * (ولا تحسبن) *: ولا تظنن. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولا تحسبن) *: ولا تظنن. وقوله: * (الذين قتلوا في سبيل الله) * يعني: الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله (ص) * (أمواتا) * يقول: ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا، لا يحسون شيئا، ولا يلتذون، ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا ! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسول الله (ص) هؤلاء الآيات. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق بن الاجدع، قال: سألنا عبد الله بن مسعود، عن هذه الآيات: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) *... الآية، قال: أما إنا قد سألنا عنها، فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطلع الله إليهم اطلاعة، فيقول: يا عبادي ما
[ 228 ]
تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة، نأكل منها حيث شئنا - ثلاث مرات - ثم يطلع فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة، نأكل منها حيث شئنا، إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا في أجسادنا، ثم تردنا إلى الدنيا، فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى. حدثنا الحسن بن يحيى العبدي، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله، عن هذه الآية، ثم ذكر نحوه، وزاد فيه: أني قد قضيت أن لا ترجعوا. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء - ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحد - قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر، في قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطلع إليها ربها، فيقول: ماذا تريدون ؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحرث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): الشهداء على بارق: نهر بباب الجنة في قبة خضراء وقال عبدة: في روضة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني الحرث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي (ص) بمثله، إلا أنه قال: في قبة خضراء وقال: يخرج عليهم فيها. حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني الحرث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي (ص)، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني
[ 229 ]
الحرث بن الفضيل الانصاري عن محمود بن لبيد الانصاري، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أيضا، يعني: إسماعيل بن عياش، عن ابن إسحاق، عن الحرث بن الفضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، عن النبي (ص) بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني بعض أصحابي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله (ص): ألا أبشرك يا جابر ؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله ! قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال له: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك ؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله (ص)، قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد ! فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *. كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة، وأن مساكنهم السدرة. حدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بنحوه، إلا أنه قال: تعارف في طير خضر وبيض وزاد فيه أيضا: وذكر لنا عن بعضهم في قوله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء) * قال: هم قتلى بدر وأحد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب ! ألا رسول لنا يخبر النبي (ص) عنا بما أعطيتنا ؟ فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) *... الآيتين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
[ 230 ]
الاعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن هذه الآيات: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * قال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، قال: فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون من شئ فأزيدكموه ؟ قالوا: ربنا ألسنا نسرح في الجنة في أيها شئنا ثم اطلع عليهم الثالثة، فقال: هل تشتهون من شئ فأزيدكموه ؟ قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا، فنقاتل في سبيلك مرة أخرى ! فسكت عنهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة، عن عبد الله: أنهم قالوا في الثالثة حين قال لهم: هل تشتهون من شئ فأزيدكموه ؟ قالوا: تقرئ نبينا عنا السلام، وتخبره أن قد رضينا ورضي عنا ! حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد (ص) يرغب المؤمنين في ثواب الجنة ويهون عليهم القتل: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *: أي قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر، يبلون فيه خيرا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون فيه الجنة، والحياة في الرزق. فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله فقال: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) *... الآية. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ذكر الشهداء، فقال: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم) * إلى قوله: * (ولا هم يحزنون) *. زعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش، فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة، تبيت في القناديل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون ؟ ماذا تشتهون ؟ فيقولون: ربنا نحن فيما اشتهت أنفسنا ! فيسألهم ربهم أيضا: ماذا تشتهون ؟ وماذا تريدون ؟ فيقولون: نحن فيما
[ 231 ]
اشتهت أنفسنا ! فيسألون الثالثة فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا ! لما يرون من فضل الثواب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عباد، قال: ثنا إبراهيم بن معمر، عن الحسن، قال: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا ما يموت ثم تلا هذه الآية: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *. حدثنا محمد بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس، قال: ثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال: ثني أنس بن مالك في أصحاب النبي (ص) الذين أرسلهم نبي الله (ص) إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين، أو سبعين، قال: وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي (ص) حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله (ص) أهل هذا الماء ؟ فقال - أراه أبو ملحان الانصاري -: أنا أبلغ رسالة رسول الله (ص) ! فخرج حتى أتى حيا منهم، فاحتبى أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله (ص) إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله ! فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل. قال: قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك: أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا، وأنزل الله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي (ص)، لقوا ربهم، فأكرمهم، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب، قالوا: يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ! فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه (ص): * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
[ 232 ]
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * إلى قوله: * (ولا هم يحزنون) *، فهذا النبأ الذي بلغ الله ورسوله والمؤمنين ما قال الشهداء. وفي نصب قوله: * (فرحين) * وجهان: أحدهما: أن يكون منصوبا على الخروج من قوله: * (عند ربهم) * والآخر من قوله: * (يرزقون) *. ولو كان رفعا بالرد على قوله: بل أحياء فرحون كان جائزا. القول في تأويل قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. يعني بذلك تعالى ذكره: ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم، من جهاد أعداء الله مع رسوله، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم، صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك، * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يعني بذلك: لا خوف عليهم لانهم قد أمنوا عقاب الله، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا، ونكد عيشها، للخفض الذي صاروا إليه والدعة والزلفة، ونصب أن لا بمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *... الآية، يقول: لاخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *... الآية، قال يقول: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يلحقون فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *
[ 233 ]
قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم، وأدخلهم الجنة، جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة، قالوا: ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه ! فإذا شهدوا قتالا تعجلوا إلى ما نحن فيه ! فقال الله تعالى: إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه ! ففرحوا به واستبشروا، وقالوا: يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالا أتوكم. قال: فذلك قوله: * (فرحين بما آتاهم الله من فضله) *... إلى قوله: * (أجر المؤمنين) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *: أي ويسرون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) * قال: هم إخوانهم من الشهداء ممن يستشهد من بعدهم، * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * حتى بلغ: * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) *. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) *، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله، فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ! فيستبشر حين يقدم عليه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * يقول جل ثناؤه: * (يستبشرون) * يفرحون، * (بنعمة من الله) * يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه، * (وفضل) * يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله (ص) وجهاد أعدائه. * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) *. كما:
[ 234 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن أبي إسحاق: * (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) *... الآية، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب. واختلف القراء في قراءة قوله: * (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) *، فقرأ ذلك بعضهم بفتح الالف من أن بمعنى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. وبكسر الالف على الاستئناف، واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله: وفضل والله لا يضيع أجر المؤمنين قالوا: فذلك دليل على أن قوله: وإن الله مستأنف غير متصل بالاول. ومعنى قوله: * (لا يضيع أجر المؤمنين) *: لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله. وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك: * (وأن الله) * بفتح الالف، لاجماع الحجة من القراء على ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) * يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، المستجيبين لله والرسول، من بعد ما أصابهم الجراح والكلوم، وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله (ص) إلى حمراء الاسد في طلب العدو أبي سفيان، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد، وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله (ص) في أثره حتى بلغ حمراء الاسد وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليري الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم. كالذي: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني حسان بن عبد الله، عن عكرمة، قال: كان يوم أحد السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد، يوم الاحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله (ص) في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالامس، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي
[ 235 ]
سبع وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله (ص) على نفسي، فتخلف على أخواتك ! فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله (ص)، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله (ص) مرهبا للعدو، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله (ص) من بني عبد الاشهل كان شهد أحدا، قال: شهدت مع رسول الله (ص) أحدا أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله (ص) بالخروج في طلب العدو، قلت لاخي، أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله (ص) ؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل ! فخرجنا مع رسول الله (ص)، وكنت أيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله (ص) حتى انتهى إلى حمراء الاسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثا: الاثنين والثلاثاء والاربعاء، ثم رجع إلى المدينة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فقال الله تبارك وتعالى: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *: أي الجراح، وهم الذين ساروا مع رسول الله (ص) الغد من يوم أحد إلى حمراء الاسد على ما بهم من ألم الجراح. * (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *... الآية، وذلك يوم أحد بعد القتل والجراح، وبعد ما انصرف المشركون أبو سفيان وأصحابه، فقال (ص): ألا عصابة تشد لامر الله تطلب عدوها ؟ فإنه أنكى للعدو، وأبعد للسمع فانطلق عصابة منهم على ما يعلم الله تعالى من الجهد. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: انطلق أبو سفيان منصرفا من أحد حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا،
[ 236 ]
وقالوا: بئسما صنعتم إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا واستأصلوهم ! فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا. فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الاسد، ثم رجعوا من حمراء الاسد، فأنزل الله جل ثناؤه فيهم: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: إن الله عز وجل قذف في قلب أبي سفيان الرعب - يعني: يوم أحد - بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي (ص): إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب. وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة. وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى نبي الله (ص)، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإن رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال: إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم. فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لاحضض الناس فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا. فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله تعالى: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) *. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي، أما والله إن أباك وجدك - تعني: أبا بكر والزبير - ممن قال الله تعالى فيهم: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن أبا سفيان بن حرب لما راح هو وأصحابه يوم أحد قال المسلمون للنبي (ص): إنهم عامدون إلى المدينة، فقال: إن ركبوا الخيل وتركوا الاثقال فإنهم عامدون إلى
[ 237 ]
المدينة، وإن جلسوا على الاثقال وتركوا الخيل فقد أرعبهم الله وليسوا بعامديها، فركبوا الاثقال، فرعبهم الله. ثم ندب ناسا يتبعونهم ليروا أن بهم قوة، فاتبعوهم ليلتين أو ثلاثا، فنزلت: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) *. حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قالت لي عائشة: إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. تعني: أبا بكر والزبير. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان عبد الله من الذين استجابوا لله والرسول. فوعد تعالى ذكره محسن من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله (ص): * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) * إذا اتقى الله فخافه، فأدى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره أجرا عظيما، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم، على ما قدم من صالح أعماله في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) * يعني تعالى ذكره: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، والذين في موضع خفض مردود على المؤمنين، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الاول هم قوم فيما ذكر لنا، كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله (ص) وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الاسد، والناس الثاني: هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد، يعني بقوله: * (قد جمعوا لكم) *: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرة إليكم لحربكم * (فاخشوهم) * يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، * (فزادهم إيمانا) * يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقينا إلى يقينهم، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم
[ 238 ]
رسول الله (ص) بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله، وتوكلا عليه، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * يعني بقوله: حسبنا الله: كفانا الله، يعني: يكفينا الله، ونعم الوكيل، يقول: ونعم المولى لمن وليه وكفله، وإنما وصف تعالى نفسه بذلك لان الوكيل في كلام العرب: هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره، فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله، ووثقوا به، وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة، فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم. واختلف أهل التأويل في الوقت الذي قال من قال لاصحاب رسول الله (ص): * (إن الناس قد جمعوا لكم) * فقال بعضهم: قيل ذلك لهم في وجههم الذي خرجوا فيه مع رسول الله (ص) من أحد إلى حمراء الاسد في طلب أبي سفيان ومن معه من المشركين. ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك، ومن قائله: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: مر به، يعني برسول الله (ص) معبد الخزاعي بحمراء الاسد، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله (ص) بتهامة صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ! ثم خرج من عند رسول الله (ص) من حمراء الاسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله (ص) وأصحابه، وقالوا: أصبنا في أحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبا سفيان معبدا، قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فهم من الحنق عليكم بشئ لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا
[ 239 ]
الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك ! فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر، قال: وما قلت ؟ قال: قلت: كادت تهد من الاصوات راحلتي إذ سالت الارض بالجرد الابابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الارض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمطت البطحاء بالخيل إني نذير لاهل البسل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم ؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ! فمر الركب برسول الله (ص) وهو بحمراء الاسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله (ص): حسبنا الله ونعم الوكيل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فقال الله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *. والناس الذين قال لهم ما قالوا: النفر من عبد القيس، الذين قال لهم أبو سفيان ما قال، إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم، يقول الله تبارك وتعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) *... الآية. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
[ 240 ]
قال: لما ندموا - يعني: أبا سفيان وأصحابه - على الرجوع عن رسول الله (ص) وأصحابه وقالوا: ارجعوا فاستأصلوهم ! فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا، فلقوا أعرابيا، فجعلوا له جعلا فقالوا: إن لقيت محمدا وأصحابه، فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم. فأخبر الله جل ثناؤه رسول الله (ص)، فطلبهم حتى بلغ حمراء الاسد، فلقوا الاعرابي في الطريق، فأخبرهم الخبر، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ثم رجعوا من حمراء الاسد، فأنزل الله تعالى فيهم وفي الاعرابي الذي لقيهم: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيرا واردة المدينة ببضاعة لهم وبينهم وبين النبي (ص) حبال، فقال: إن لكم علي رضاكم إن أنتم رددتم عني محمدا ومن معه إن أنتم وجدتموه في طلبي وأخبرتموه أني قد جمعت له جموعا كثيرة ! فاستقبلت العير رسول الله (ص)، قالوا له: يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعا كثيرة، وأنه مقبل إلى المدينة، وإن شئت أن ترجع فافعل. ولم يزده ذلك ومن معه إلا يقينا، * (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) *.. الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: انطلق رسول الله (ص) وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الاعراب والناس يأتون عليهم، فيقولون لهم: هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس، فقالوا: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) *، فأنزل الله تعالى فيهم: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *. وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول الله (ص) وأصحابه من قال ذلك له في غزوة بدر الصغرى وذلك في مسير النبي (ص) عام قابل من وقعة أحد للقاء عدوه أبي سفيان وأصحابه للموعد الذي كان واعده الالتقاء بها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
[ 241 ]
نجيح، عن مجاهد في قوله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * قال: هذا أبو سفيان، قال لمحمد: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ! فقال محمد (ص): عسى ! فانطلق رسول الله (ص) لموعده حتى نزل بدرا، فوافقوا السوق فيها، وابتاعوا، فذلك قوله تبارك وتعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) * وهي غزوة بدر الصغرى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه، وزاد فيه: وهي بدر الصغرى. قال ابن جريج: لما عمد النبي (ص) لموعد أبي سفيان، فجعلوا يلقون المشركين، ويسألونهم عن قريش، فيقولون: * (قد جمعوا لكم) * يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرعبوهم، فيقول المؤمنون: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * حتى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد. قال: وقدم رجل من المشركين وأخبر أهل مكة بخيل محمد عليه الصلاة والسلام وقال في ذلك: نفرت قلوصي عن خيول محمد وعجوة منثورة كالعنجد (واتخذت ماء قديد موعدي) قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو: قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد تهوى على دين إبيها الا تلد قد جعلت ماء قديد موعدي (وماء ضجنان لها ضحى الغد) حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كانت بدر متجرا في الجاهلية، فخرج ناس من المسلمين يريدونه، ولقيهم ناس من المشركين فقالوا لهم: * (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) *، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الاهبة للقتال وأهبة التجارة، * (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) *، فأتوهم فلم يلقوا أحدا، فأنزل الله عز وجل فيهم: * (إن الناس
[ 242 ]
قد جمعوا لكم فاخشوهم) *. قال ابن يحيى، قال عبد الرزاق، قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم (ص) حين ألقي في النار، فقال: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) *. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: إن الذي قيل لرسول الله (ص) وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، كان في حال خروج رسول الله (ص)، وخروج من خرج معه في أثر أبي سفيان، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد إلى حمراء الاسد، لان الله تعالى ذكره إنما مدح الذين وصفهم بقيلهم: * (حسبنا الله ونعم الوكيل) * لما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم، بقوله: * (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) * ولم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول الله (ص) من جرحى أصحابه بأحد إلى حمراء الاسد. وأما قول الذين خرجوا معه إلى غزوة بدر الصغرى، فإنه لم يكن فيهم جريج، إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه، وبرأ كلمه، وذلك أن رسول الله (ص) إنما خرج إلى بدر الخرجة الثانية إليها لموعد أبي سفيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أحد في شعبان سنة أربع من الهجرة، وذلك أن وقعة أحد كانت في النصف من شوال من سنة ثلاث، وخروج النبي (ص) لغزوة بدر الصغرى إليها في شعبان من سنة أربع، ولم يكن للنبي (ص) بين ذلك وقعة مع المشركين كانت بينهم فيها حرب جرح فيها أصحابه، ولكن قد كان قتل في وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى، وكانت وقعة الرجيع فيما بين وقعة أحد وغزوة النبي (ص) بدر الصغرى. القول في تأويل قوله تعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) * يعني جل ثناؤه بقوله: * فانقلبوا بنعمة من الله) * فانصرف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح من وجههم الذي توجهوا فيه، وهو سيرهم في أثر عدوهم إلى حمراء الاسد. * (بنعمة من الله) * يعني: بعافية من ربهم لم يلقوا بها عدوا. * (وفضل) * يعني: أصابوا فيها من الارباح بتجارتهم التي اتجروا بها، والاجر الذي اكتسبوه. * (لم يمسسهم سوء) * يعني: لم ينلهم بها مكروه من عدوهم ولا أذى. * (واتبعوا رضوان الله) * يعني بذلك أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من
[ 243 ]
اتباع أثر العدو وطاعتهم. * (والله ذو فضل عظيم) * يعني: والله ذو إحسان وطول عليهم بصرف عدوهم الذي كانوا قد هموا بالكرة إليهم، وغير ذلك من أياديه عندهم، وعلى غيرهم بنعمه، عظيم عند من أنعم به عليه من خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) * قال: والفضل: ما أصابوا من التجارة والاجر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: وافقوا السوق فابتاعوا، وذلك قوله: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) * قال: الفضل ما أصابوا من التجارة والاجر. قال ابن جريج: ما أصابوا من البيع نعمة من الله وفضل، أصابوا عفوه وعزته، لا ينازعهم فيه أحد. قال: وقوله: * (لم يمسسهم سوء) * قال: قتل، * (واتبعوا رضوان الله) * قال: طاعة النبي (ص). حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (والله ذو فضل عظيم) * لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أطاعوا الله، وابتغوا حاجتهم، ولم يؤذهم أحد. * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) *. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أعطي رسول الله (ص) - يعني: حين خرج إلى غزوة بدر الصغرى - ببدر دراهم ابتاعوا بها من موسم بدر، فأصابوا تجارة، فذلك قول الله: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) *. أما النعمة: فهي العافية، وأما الفضل: فالتجارة، والسوء: القتل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) * يعني بذلك تعالى ذكره: إنما الذي قال لكم أيها المؤمنون: إن الناس قد جمعوا لكم، فخوفوكم بجموع عدوكم، ومسيرهم إليكم، من فعل الشيطان، ألقاه على أفواه من
[ 244 ]
قال ذلك لكم، يخوفكم بأوليائه من المشركين أبي سفيان وأصحابه من قريش، لترهبوهم، وتجبنوا عنهم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * يخوف والله المؤمن بالكافر، ويرهب المؤمن بالكافر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * قال: يخوف المؤمنين بالكفار. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * يقول: الشيطان يخوف المؤمنين بأوليائه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) *: أي أولئك الرهط، يعني: النفر من عبد القيس الذين قالوا لرسول الله (ص) ما قالوا، وما ألقى الشيطان على أفواههم، * (يخوف أولياءه) * أي يرهبكم بأوليائه. حدثني يونس، قال: أخبرنا علي بن معبد، عن عتاب بن بشير، مولى قريش، عن سالم الافطس، في قوله: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) * قال: يخوفكم بأوليائه. وقال آخرون: معنى ذلك: إنما ذلكم الشيطان يعظم أمر المشركين أيها المنافقون في أنفسكم فتخافونه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ذكر أمر المشركين وعظمهم في أعين المنافقين فقال: * (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) *: يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونهم. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (يخوف أولياءه) * وهل يخوف الشيطان أولياءه ؟ قيل: إن كان معناه يخوفكم بأوليائه يخوف أولياءه. قيل ذلك نظير قوله: * (لينذر بأسا شديدا) * بمعنى: لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا ينذر، وإنما ينذر به. وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوف الناس أولياءه، كقول
[ 245 ]
القائل: هو يعطي الدراهم، ويكسو الثياب، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم، ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه. وليس الذي شبه ذلك بمشبه، لان الدراهم في قول القائل: هو يعطي الدراهم معلوم أن المعطى هي الدراهم، وليس كذلك الاولياء في قوله: * (يخوف أولياءه) * مخوفين، بل التخويف من الاولياء لغيرهم، فلذلك افترقا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) *. يقول: فلا تخافوا أيها المؤمنون المشركين، ولا يعظمن عليكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم مع طاعتكم إياي، ما أطعتموني، واتبعتم أمري، وإني متكفل لكم بالنصر والظفر، ولكن خافون، واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري، فتهلكوا إن كنتم مؤمنين. يقول: ولكن خافوني دون المشركين، ودون جميع خلقي أن تخالفوا أمري إن كنتم مصدقي رسولي وما جاءكم به من عندي. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم) * يقول جل ثناؤه: ولا يحزنك يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر مرتدين على أعقابهم من أهل النفاق، فإنهم لن يضروا الله بمسارعتهم في الكفر شيئا، كما أن مسارعتهم لو سارعوا إلى الايمان لم تكن بنافعته، كذلك مسارعتهم إلى الكفر غير ضارته. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * يعني: هم المنافقون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * أي المنافقون. القول في تأويل قوله تعالى: * (يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: يريد الله أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر نصيبا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم، فسارعوا فيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من
[ 246 ]
ثواب الآخرة، لهم عذاب عظيم في الآخرة، وذلك عذاب النار. وقال ابن إسحاق في ذلك بما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة) *: أن يحبط أعمالهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم) * يعني بذلك جل ثناؤه: المنافقين الذين تقدم إلى نبيه (ص) فيهم، أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر، فقال لنبيه (ص): إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم، فارتدوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه، ورضوا بالكفر بالله وبرسوله، عوضا من الايمان، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم، عن إيمانهم شيئا، بل إنما يضرون بذلك أنفسهم بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قبل لها به. وإنما حث الله جل ثناؤه بهذه الآيات من قوله: * (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) * إلى هذه الآية عباده المؤمنين على إخلاص اليقين، والانقطاع إليه في أمورهم، والرضا به ناصرا وحده دون غيره من سائر خلقه، ورغب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجع بها قلوبهم، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميع من خالفه وحاده، وأن من خذله فلن ينصره ناصر ينفعه نصره ولو كثرت أعوانه أو نصراؤه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إن الذين اشتروا الكفر بالايمان) *: أي المنافقين * (لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم) *: أي موجع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هم المنافقون. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * يعني بذلك تعالى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، أن إملاءنا لهم خير لانفسهم. ويعني بالاملاء: الاطالة في العمر والانساء في الاجل، ومنه
[ 247 ]
قوله جل ثناؤه: * (واهجرني مليا) *: أي حينا طويلا، ومنه قيل: عشت طويلا وتمليت حينا والملا نفسه: الدهر، والملوان: الليل والنهار، ومنه قول تميم بن مقبل: ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلى الملوان يعني بالملوان: الليل والنهار. وقد اختلفت القراء في قراءة قوله: ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم فقرأ ذلك جماعة منهم: * (ولا يحسبن) * بالياء وفتح الالف من قوله * (أنما) * على المعنى الذي وصفت من تأويله. وقرأه آخرون: ولا تحسبن بالتاء و * (أنما) * أيضا بفتح الالف من أنما، بمعنى: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم. فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتحت الالف من قوله: * (أنما) * في قراءة من قرأ بالتاء، وقد علمت أن ذلك إذا قرئ بالتاء فقد أعملت تحسبن في الذين كفروا، وإذا أعملتها في ذلك لم يجز لها أن تقع على أنما لان أنما إنما يعمل فيها عامل يعمل في شيئين نصبا ؟ قيل: أما الصواب في العربية ووجه الكلام المعروف من كلام العرب كسر إن إذا قرئت تحسبن بالتاء، لان تحسبن إذا قرئت بالتاء، فإنها قد نصبت الذين كفروا، فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما في أن، ولكني أظن أن من قرأ ذلك بالتاء في تحسبن وفتح
[ 248 ]
الالف من أنما، إنما أراد تكرير تحسبن على أنما، كأنه قصد إلى أن معنى الكلام: ولا تحسبن يا محمد أنت الذين كفروا، لا تحسبن أنما نملي لهم خير لانفسهم، كما قال جل ثناؤه: * (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) * بتأويل: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة ؟ وذلك وإن كان وجها جائزا في العربية، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل. والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ: * (ولا يحسبن الذين كفروا) * بالياء من يحسبن، وبفتح الالف من أنما، على معنى الحسبان للذين كفروا دون غيرهم، ثم يعمل في أنما نصبا، لان يحسبن حينئذ لم يشغل بشئ عمل فيه، وهي تطلب منصوبين. وإنما اخترنا ذلك لاجماع القراء على فتح الالف من أنما الاولى، فدل ذلك على أن القراءة الصحيحة في يحسبن بالياء لما وصفنا، وأما ألف إنما الثانية فالكسر على الابتداء بالاجماع من القراء عليه. وتأويل قوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *: إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما، يقول: يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر * (ولهم عذاب مهين) * يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة. وبنحو ما قلنا في ذلك جاء الاثر. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن خيثمة، عن الاسود، قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، وقرأ: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * وقرأ: * (نزلا من عند الله وما عند الله خير للابرار) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان
[ 249 ]
الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) * يعني بقوله: * (ما كان الله ليذر المؤمنين) * ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا * (حتى يميز الخبيث من الطيب) * يعني بذلك: حتى يميز الخبيث، وهو المنافق المستسر للكفر، من الطيب، وهو المؤمن المخلص الصادق الايمان بالمحن والاختبار، كما ميز بينهم يوم أحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليه. واختلف أهل التأويل في الخبيث الذي عنى الله بهذه الآية، فقال بعضهم فيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * قال: ميز بينهم يوم أحد، المنافق من المؤمن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * قال ابن جريج: يقول: ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب. قال: ابن جريج: قال مجاهد: يوم أحد ميز بعضهم عن بعض، المنافق عن المؤمن. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) *: أي المنافق. وقال آخرون: معنى ذلك: حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) * يعني: الكفار. يقول: لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة، * (حتى يميز الخبيث من الطيب) *: يميز بينهم في الجهاد والهجرة.
[ 250 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (حتى يميز الخبيث من الطيب) * قال: حتى يميز الفاجر من المؤمن. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) * قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر ! فأنزل الله: * (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) *: حتى يخرج المؤمن من الكافر. والتأويل الاول أولى بتأويل الآية، لان الآيات قبلها في ذكر المنافقين وهذه في سياقتها، فكونها بأن تكون فيهم أشبه منها بأن تكون في غيرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كان ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما: حدثنا به محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولا. وقال آخرون بما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) * أي فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه: * (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * بعلمه. وأولى الاقوال في ذلك بتأويله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد، وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء، فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * قال: يخلصهم لنفسه.
[ 251 ]
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، ابتداؤها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده، يعني بغير محن، حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله: * (وما كان ليطلعكم على الغيب) *، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) *. يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: * (وإن تؤمنوا) *: وإن تصدقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي، وأطلعته على المنافقين منكم، وتتقوا ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد (ص) وفيما نهاكم عنه، * (فلكم أجر عظيم) * يقول: فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا) *: أي ترجعوا وتتوبوا، * (فلكم أجر عظيم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه جماعة من أهل الحجاز والعراق: * (ولا يحسبن الذين يبخلون) * بالياء من يحسبن وقرأته جماعة أخر: ولا تحسبن بالتاء. ثم اختلف أهل العربية في تأويل ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم. فاكتفى بذكر يبخلون من البخل، كما تقول: قدم فلان فسررت به، وأنت تريد فسررت بقدومه، وهو عماد. وقال بعض نحويي أهل
[ 252 ]
البصرة: إنما أراد بقوله: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم لا تحسبن البخل هو خيرا لهم، فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان به وهو البخل، لانه قد ذكر الحسبان، وذكر ما آتاهم الله من فضله، فأضمرهما إذ ذكرهما، قال: وقد جاء من الحذف ما هو أشد من هذا، قال: * (لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل) * ولم يقل: ومن أنفق من بعد الفتح، لانه لما قال: * (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد) * كان فيه دليل على أنه قد عناهم. وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة، أن من في قوله: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) * في معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح في منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتح، فالاول مكتف. وقال في قوله: * (لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) * محذوف، غير أنه لم يحذف إلا وفي الكلام ما قام مقام المحذوف، لان هو عائد البخل، وخيرا لهم عائد الاسماء، فقد دل هذان العائدان على أن قبلهما اسمين، واكتفى بقوله: يبخلون، من البخل. قال: وهذا إذا قرئ بالتاء، فالبخل قبل الذين، وإذا قرئ بالياء، فالبخل بعد الذين، وقد اكتفى بالذين يبخلون من البخل، كما قال الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف كأنه قال: جرى إلى السفه، فاكتفى عن السفه بالسفيه، كذلك اكتفى بالذين يبخلون من البخل. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: * (ولا تحسبن الذين يبخلون) * بالتاء بتأويل: ولا تحسبن أنت يا محمد بخل الذين يبخلون بما أتاهم الله من
[ 253 ]
فضله، هو خيرا لهم، ثم ترك ذكر البخل، إذ كان في قوله هو خيرالهم، دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله: * (الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) *. وإنما قلنا قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لان المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله: * (ولا يحسبن الذين يبخلون) * بالياء لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله: * (هو خيرا لهم) * خبرا عنه، وإذا قرئ ذلك بالتاء كان قوله: * (الذين يبخلون) * اسما له، قد أدى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله: * (هو خيرا لهم) * خبرا لها، فكان جاريا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بالتاء في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بالياء غير خطأ، ولكنه ليس بالافصح ولا الاشهر من كلام العرب. وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك: ولا تحسبن يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الاموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات هو خيرا لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم: هم الذين آتاهم الله من فضله، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدوا زكاتها. وقال آخرون: بل عنى بذلك اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما أنزل الله في التوراة من أمر محمد (ص) ونعته. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله... إلى * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * يعني بذلك: أهل الكتاب أنهم بخلوا بالكتاب أن يبينوه للناس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله قال: هم يهود، إلى قوله: * (والكتاب المنير) *. وأولى التأويلين بتأويل هذه الآية التأويل الاول وهو أنه معني بالبخل في هذا
[ 254 ]
الموضع: منع الزكاة لتظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) أنه تأول قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: البخيل الذي منع حق الله منه أنه يصير ثعبانا في عنقه، ولقول الله عقيب هذه الآية: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * فوصف جل ثناؤه قول المشركين من اليهود الذين زعموا عند أمر الله إياهم بالزكاة أن الله فقير. القول في تأويل قوله تعالى: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (سيطوقون) *: سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة طوقا في أعناقهم، كهيئة الاطواق المعروفة. كالذي: حدثني الحسن بن قزعة، قال: ثنا مسلمة بن علقمة، قال: ثنا داود، عن أبي قزعة، عن أبي مالك العبدي، قال: ما من عبد يأتيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فيبخل عليه إلا أخرج له الذي بخل به عليه شجاعا أقرع. وقال: وقرأ: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة... إلى آخر الآية. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن أبي قزعة، عن رجل، عن النبي (ص)، قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو معاوية محمد بن خازم، قال: ثنا داود، عن أبي قزعة حجر بن بيان، قال: قال رسول الله (ص): ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل أعطاه الله إياه فيبخل به عليه، إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه ثم قرأ: ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله حتى انتهى إلى قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *. حدثني زياد بن عبيد الله المري، قال: ثنا مروان بن معاوية، وحدثني محمد بن عبد الله الكلابي، قال: ثنا عبد الله بن بكر السهمي، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، واللفظ ليعقوب جميعا، عن
[ 255 ]
بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت نبي الله (ص) يقول: لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده فيمنعه إياه إلا دعا له يوم القيامة شجاعا يتلمظ فضله الذين منع. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: ثعبان ينقر رأس أحدهم، يقول: أنا مالك الذي بخلت به. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا وائل يحدث أنه سمع عبد الله، قال في هذه الآية: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: شجاع يلتوي برأس أحدهم. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، قال: ثنا خلاد بن أسلم، قال أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن عبد الله، بمثله، إلا أنهما قالا: قال شجاع أسود. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: يجئ ماله يوم القيامة ثعبانا، فينقر رأسه فيقول: أنا مالك الذي بخلت به، فينطوي على عنقه. حدثت عن سفيان بن عيينة، قال: ثنا جامع بن شداد وعبد الملك بن أعين، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله (ص): ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له شجاع أقرع يطوقه ثم قرأ علينا رسول الله (ص): ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم... الآية. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (سيطوقون ما بخلوا به) * فإنه يجعل ماله يوم القيامة شجاعا أقرع يطوقه، فيأخذ بعنقه، فيتبعه حتى يقذفه في النار.
[ 256 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي وائل، قال: هو الرجل الذي يرزقه الله مالا، فيمنع قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيجعل حية فيطوقها، فيقول: مالي ولك ؟ فيقول: أنا مالك. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق، قال: سألت ابن مسعود عن قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: يطوقون شجاعا أقرع، ينهش رأسه. وقال آخرون: معنى ذلك: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * فيجعل في أعناقهم طوقا من نار. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: طوقا من النار. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: طوقا من نار. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: * (سيطوقون) * قال: طوقا من نار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: طوق من نار. وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتموا نبوة محمد (ص) من أحبار اليهود ما كتموا من ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * ألم تسمع أنه قال: * (يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * يعني: أهل الكتاب، يقول: يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان.
[ 257 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * قال: سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به، إلى قوله: * (والكتاب المنير) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (سيطوقون) * سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة. وأولى الاقوال بتأويل هذه الآية التأويل الذي قلناه في ذلك في مبدإ قوله: * (سيطوقون ما بخلوا به) * للاخبار التي ذكرنا في ذلك عن رسول الله (ص)، ولا أحد أعلم بما عنى الله تبارك وتعالى بتنزيله منه عليه الصلاة والسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولله ميراث السموات والارض والله بما تعملون خبير) *. يعني بذلك جل ثناؤه: أنه الحي الذي لا يموت، والباقي بعد فناء جميع خلقه. فإن قال قائل: فما معنى قوله: * (له ميراث السموات والارض) * والميراث المعروف: هو ما انتقل من ملك مالك إلى وارثه بموته ولله الدنيا قبل فناء خلقه وبعده ؟ قيل: إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بالبقاء، وإعلام خلقه أنه كتب عليهم الفناء. وذلك أن ملك المالك إنما يصير ميراثا بعد وفاته، فإنما قال جل ثناؤه: * (ولله ميراث السموات والارض) * إعلاما بذلك منه عباده أن أملاك جميع خلقه منتقلة عنهم بموتهم، وأنه لا أحد إلا وهو فان سواه، فإنه الذي إذا هلك جميع خلقه، فزالت أملاكهم عنهم لم يبق أحد يكون له ما كانوا يملكونه غيره. وإنما معنى الآية: لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، بعد ما يهلكون، وتزول عنهم أملاكهم في الحين الذي لا يملكون شيئا، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خلقه. ثم أخبر تعالى ذكره أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل، وغيرهم من سائر خلقه، ذو خبرة وعلم، محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه، المحسن بالاحسان، والمسئ على ما يرى تعالى ذكره. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 258 ]
* (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ئ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *. ذكر أن هذه الآية وآيات بعدها نزلت في بعض اليهود، الذين كانوا على عهد رسول الله (ص). ذكر الآثار بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه، عن ابن عباس، قال: دخل أبو أبكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس، فوجد من يهود ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم ! فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل ! قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لاغنياء، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ! فذهب فنحاص إلى رسول الله (ص)، فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ! فقال رسول الله (ص) لابي بكر: ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لابي بكر: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) * وفي قول أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب: * (لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور) *.
[ 259 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: دخل أبو بكر، فذكر نحوه، غير أنه قال: وإنا عنه لاغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان غنيا، ثم ذكر سائر الحديث نحوه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * قالها فنحاص اليهودي من بني مرثد، لقيه أبو بكر فكلمه، فقال له: يا فنحاص، اتق الله وآمن وصدق، وأقرض الله قرضا حسنا ! فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا فقير، يستقرضنا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، إن كان ما تقول حقا، فإن الله إذا لفقير. فأنزل الله عز وجل هذا، فقال أبو بكر: فلولا هدنة كانت بين النبي (ص) وبين بني مرثد لقتلته. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صك أبو بكر رجلا منهم الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء لم يستقرضنا وهو غني وهم يهود. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، قال الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، لم يستقرضنا وهو غني ؟ قال شبل: بلغني أنه فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: إن الله ثالث ثلاثة، ويد الله مغلولة. حدثنا ابن حميد، قال: ثني يحيى بن واضح، قال: حدثت عن عطاء، عن الحسن، قال: لما نزلت: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * قالت اليهود: إن ربكم يستقرض منكم ! فأنزل الله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الحسن البصري، قال: لما نزلت: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * قال: عجبت اليهود فقالت: إن الله فقير يستقرض، فنزلت: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * قال: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغني.
[ 260 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبر نا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، قال: فأنزل الله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) * قال: هؤلاء اليهود. فتأويل الآية إذا: لقد سمع الله قول الذين قالوا من اليهود: إن الله فقير إلينا ونحن أغنياء عنه، سنكتب ما قالوا من الافك والفرية على ربهم وقتلهم أنبياءهم بغير حق. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (سنكتب ما قالوا وقتلهم) * فقرأ ذلك قراء الحجاز وعامة قراء العراق: * (سنكتب ما قالوا) * بالنون، * (وقتلهم الانبياء بغير حق) * بنصب القتل. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: سيكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق بالياء من سيكتب، وبضمها ورفع القتل على مذهب ما لم يسم فاعله، اعتبارا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله: ونقول ذوقوا، يذكر أنها في قراءة عبد الله: ويقال، فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قراء الاسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ: سيكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ: ويقال، لان قوله: ونقول عطف على قوله: سنكتب. فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرأ جميعا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله، فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سمي فاعله من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: * (سنكتب) * بالنون * (وقتلهم) * بالنصب لقوله: ونقول، ولو كانت القراءة في سيكتب بالياء وضمها، لقيل: ويقال، على ما قد بينا.
[ 261 ]
فإن قال قائل: كيف قيل: * (وقتلهم الانبياء بغير حق) * وقد ذكرت الآثار التي رويت، أن الذين عنوا بقوله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير) * بعض اليهود الذين كانوا على عهد نبينا محمد (ص)، ولم يكن من أولئك أحد قتل نبيا من الانبياء، لانهم لم يدركوا نبيا من أنبياء الله فيقتلوه ؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما قيل ذلك كذلك لان الذين عنى الله تبارك وتعالى بهذه الآية كانوا راضين بما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الانبياء، وكانوا منهم، وعلى منهاجهم، من استحلال ذلك واستجازته. فأضاف جل ثناؤه فعل ما فعله من كانوا على منهاجه وطريقته إلى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة، ونحلة واحدة، وبالرضا من جميعهم فعل ما فعل فاعل ذلك منهم على ما بينا من نظائره فيما مضى قبل. القول في تأويل قوله: * (ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ونقول للقائلين بأن الله فقير ونحن أغنياء، القاتلين أنبياء الله بغير حق يوم القيامة: ذوقوا عذاب الحريق، يعني بذلك: عذاب نار محرقة ملتهبة، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، وإنما الحريق صفة لها، يراد أنها محرقة، كما قيل: عذاب أليم يعني: مؤلم، ووجيع يعني: موجع. وأما قوله: * (ذلك بما قدمت أيديكم) *: أي قولنا لهم يوم القيامة: ذوقوا عذاب الحريق بما أسلفت أيديكم، واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، وبأن الله عدل لا يجور، فيعاقب عبدا له بغير استحقاق منه العقوبة، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم يوم القيامة من اليهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقتلوا الانبياء بغير حق، بما جازاهم به من عذاب الحريق، بما اكتسبوا من الآثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا على الله بعد الاعذار إليهم بالانذار، فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالما ولا واضعا عقوبته في غير أهلها، وكذلك هو جل ثناؤه غير ظلام أحدا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحب من فواضله ونعمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان
[ 262 ]
تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) *. يعني بذلك جل ثناؤه: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول. وقوله: * (الذين قالوا إن الله) * في موضع خفص ردا على قوله: * (الذين قالوا إن الله فقير) * ويعني بقوله: * (قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول) * أوصانا وتقدم إلينا في كتبه وعلى ألسن أنبيائه، أن لا نؤمن لرسول. يقول: أن لا نصدق رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله، من أمر ونهي وغير ذلك * (حتى يأتينا بقربان تأكله النار) * يقول: حتى يجيئنا بقربان، وهو ما تقرب به العبد إلى ربه من صدقة، وهو مصدر مثل العدوان والخسران من قولك: قربت قربانا. وإنما قال: تأكله النار، لان أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلا على قبول الله منه ما قرب له، ودلالة على صدق المقرب فيما ادعى أنه محق فيما نازع أو قال كما: حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (حتى يأتينا بقربان تأكله النار) * كان الرجل يتصدق، فإذا تقبل منه أنزلت عليه نار من السماء فأكلته. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (بقربان تأكله النار) * كان الرجل إذا تصدق بصدقة، فتقبلت منه بعث الله نارا من السماء، فنزلت على القربان فأكلته. فقال الله تعالى لنبيه محمد (ص): * (أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات) * يعني: بالحجج الدالة على صدق نبوتهم وحقيقة قولهم، * (وبالذي قلتم) * يعني: وبالذي ادعيتم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه، والاقرار بنبوته من أكل النار قربانه إذا قرب لله دلالة على صدقه، * (فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) * يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاؤكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم إن كنتم صادقين في أن الله عهد إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقربان تأكله النار حجة له على نبوته ؟
[ 263 ]
وإنما أعلم الله عباده بهذه الآية، أن الذين وصف صفتهم من اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله (ص)، لن يفروا، أن يكونوا في كذبهم على الله، وافترائهم على ربهم، وتكذيبهم محمدا (ص) وهم يعلمونه صادقا محقا، وجحودهم نبوته، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في عهد الله تعالى إليهم أنه رسوله إلى خلقه، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبياء الله بعد قطع الله عذرهم بالحجج التي أيدهم الله بها، والادلة التي أبان صدقهم بها، افتراء على الله، واستخفافا بحقوقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) *. وهذا تعزية من الله جل ثناؤه نبيه محمدا (ص) على الاذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك يا محمد كذب هؤلاء الذين قالوا: إن الله فقير، وقالوا: إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وافتراؤهم على ربهم اغترارا بإمهال الله إياهم، ولا يعظمن عليك تكذيبهم إياك، وادعاؤهم الاباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذبوك، وكذبوا على الله، فقد كذبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذر، والادلة الباهرة العقل، والآيات المعجزة الخلق، وذلك هو البينات. وأما الزبر: فإنه جمع زبور: وهو الكتاب، وكل كتاب فهو زبور، ومنه قول امرئ القيس: لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يماني ويعني بالكتاب: التوراة والانجيل، وذلك أن اليهود كذبت عيسى وما جاء به وحرفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد (ص)، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الانجيل من نعته وغيرت ما أمرهم به في أمره.
[ 264 ]
وأما قوله: * (المنير) * فإنه يعني: الذي ينير فيبين الحق لمن التبس عليه ويوضحه، وإنما هو من النور والاضاءة، يقال: قد أنار لك هذا الامر، بمعنى: أضاء لك وتبين، فهو ينير إنارة، والشئ المنير. وقد: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) * قال: يعزي نبيه (ص). حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) * قال: يعزي نبيه (ص). وهذا الحرف في مصاحف أهل الحجاز والعراق: والزبر بغير باء، وهو في مصاحف أهل الشام: وبالزبر بالباء مثل الذي في سورة فاطر. القول في تأويل قوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) *. يعني بذلك تعالى ذكره: أن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود المكذبين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم على ربهم، ومصير غيرهم من جميع خلقه تعالى ذكره، ومرجع جميعهم إليه، لانه قد حتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه (ص): لا يحزنك تكذيب من كذبك يا محمد من هؤلاء اليهود وغيرهم، وافتراء من افترى علي، فقد كذب قبلك رسل جاءوا من الآيات والحجج من أرسلوا إليه بمثل الذي جئت من أرسلت إليه، فلك فيهم أسوة تتعزى بهم، ومصير من كذبك، وافترى علي وغيرهم، ومرجعهم إلي، فأوفي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه: * (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) * يعني أجور أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. * (فمن زحزح عن النار) *، يقول: فمن نحي عن النار وأبعد منها، * (فقد فاز) * يقول: فقد نجا وظفر بحاجته، يقال منه: فاز فلان بطلبته يفوز فوزا ومفازا ومفازة: إذا ظفر بها. وإنما معنى ذلك: فمن نحي عن النار فأبعد منها، وأدخل الجنة، فقد نجا وظفر بعظيم الكرامة. * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * يقول: وما
[ 265 ]
لذات الدنيا وشهواتها، وما فيها من زينتها وزخارفها، إلا متاع الغرور، يقول: إلا متعة يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل، الذي لا حقيقة له عند الامتحان، ولا صحة له عند الاختبار، فأنتم تلتذون بما متعكم الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره، يقول تعالى ذكره: لا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرور تمتعون، ثم أنتم عنها بعد قليل راحلون. وقد روي في تأويل ذلك ما: حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن بكير بن الاخنس، عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * قال: كزاد الراعي، تزوده الكف من التمر، أو الشئ من الدقيق، أو الشئ يشرب عليه اللبن. فكأن ابن سابط ذهب في تأويله هذا إلى أن معنى الآية: وما الحياة الدنيا إلا متاع قليل، لا يبلغ من تمتعه ولا يكفيه لسفره. وهذا التأويل وإن كان وجها من وجوه التأويل، فإن الصحيح من القول فيه هو ما قلنا، لان الغرور إنما هو الخداع في كلام العرب، وإذ كان كذلك فلا وجه لصرفه إلى معنى القلة، لان الشئ قد يكون قليلا وصاحبه منه في غير خداع ولا غرور، وأما الذي هو في غرور فلا القليل يصح له ولا الكثير مما هو منه في غرور. والغرور مصدر من قول القائل: غرني فلان، فهو يغرني غرورا بضم الغين، وأما إذا فتحت الغين من الغرور فهو صفة للشيطان الغرور الذي يغر ابن آدم حتى يدخله من معصية الله فيما يستوجب به عقوبته. وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبدة وعبد الرحيم، قالا: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرءوا إن شئتم * (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * القول في تأويل قوله تعالى: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا
[ 266 ]
الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور) *. يعني بذلك تعالى ذكره: * (لتبلون في أموالكم) * لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم، يعني: وبهلاك الاقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم، * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * يعني: من اليهود وقولهم * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * وقولهم * (يد الله مغلولة) * وما أشبه ذلك من افترائهم على الله. * (ومن الذين أشركوا) * يعني النصارى، * (أذى كثيرا) * والاذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: المسيح ابن الله، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله. * (وإن تصبروا وتتقوا) * يقول: وإن تصبروا لامر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته. * (فإن ذلك من عزم الامور) * يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به. وقيل إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع. كالذي: حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * قال: نزلت هذه الآية في النبي (ص)، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع، قال: بعث النبي (ص) أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمده، وكتب إليه بكتاب، وقال لابي بكر: لا تفتاتن علي بشئ حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال: قد احتاج ربكم أن نمده ! فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي (ص): لا تفتاتن علي بشئ حتى ترجع فكف، ونزلت: * (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم) * وما بين الآيتين إلى قوله: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) * نزلت هذه الآيات في بني قينقاع، إلى قوله: * (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) *. قال ابن جريج: يعزي نبيه (ص)، قال: * (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) * قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم، ثم قال: * (ولتسمعن من الذين أؤتوا الكتاب من قبلكم) * يعني: اليهود والنصارى، * (ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * فكان المسلمون
[ 267 ]
يسمعون من اليهود قولهم: عزير ابن الله، ومن النصارى: المسيح ابن الله، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب، ويسمعون إشراكهم، فقال الله: * (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور) * يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به. وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الاشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله (ص) ويتشبب بنساء المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) * قال: هو كعب بن الاشرف، وكان يحرض المشركين على النبي (ص) وأصحابه في شعره، ويهجو النبي (ص)، فانطلق إليه خمسة نفر من الانصار فيهم محمد بن مسلمة، ورجل يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي، فلما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم، وقالوا: جئناك لحاجة، قال: فليدن إلي بعضكم، فليحدثني بحاجته ! فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها، فقال: والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس. فأتوه، فنادوه، فقالت امرأته: ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشئ مما تحب ! قال: إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا، قال: فقالوا إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسق، وهذا رهينة وسقين ! فقال: أترهنوني نسائكم ؟ قالوا: أنت أجمل الناس، ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم ! قالوا: فانزل إلينا نأخذ عليك، وتأخذ علينا. فذهب ينزل، فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال: لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني. قالت: فكلمهم من فوق البيت، فأبى عليها، فنزل إليهم يفوح ريحه، قالوا: ما هذه الريح يا فلان ؟ قال: هذا عطر أم فلان !
[ 268 ]
امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو الله ! فطعنه أبو عبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف، فقتلوه، ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين، فجاءوا إلى النبي (ص)، فقالوا: قتل سيدنا غيلة ! فذكرهم النبي (ص) صنيعه، وما كان يحض عليهم، ويحرض في قتالهم، ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا، فقال: فكان ذلك الكتاب مع علي رضوان الله عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) *. يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضا من هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم يا محمد إذ أخذ الله ميثاقهم، ليبينن للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة والانجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه، * (فنبذوه وراء ظهورهم) * يقول: فتركوا أمر الله وضيعوه، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك، * (واشتروا به ثمنا قليلا) * يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك، عوضا منه، خسيسا قليلا من عرض الدنيا. ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك، فقال: * (فبئس ما يشترون) *. واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها اليهود خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أنه حدثه، عن ابن عباس: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه) * إلى قوله: * (عذاب أليم) * يعني: فنحاص وأشيع وأشباههما من الاحبار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم كان أمرهم أن يتبعوا النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته،
[ 269 ]
وقال: * (اتبعوه لعلكم تهتدون) *. فلما بعث الله محمدا (ص) قال: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) * عاهدهم على ذلك، فقال حين بعث محمدا: صدقوه، وتلقون الذي أحببتم عندي. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس.. الآية، قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبيننه للناس محمدا (ص)، ولا يكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين، قال: سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن هذه الآية: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أؤتوا الكتاب) * فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله، فقال: وإذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب يهود، ليبيننه للناس محمدا (ص) ولا يكتمونه، فنبذوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه قال: وكان فيه أن الاسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمدا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. وقال آخرون: عني بذلك كل من أوتي علما بأمر الدين. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم... الآية، هذا ميثاق أخذ الله على أهل العلم، فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم، وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين، كان يقال: مثل علم لا يقال به: كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. وكان يقال: طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع. هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرا فحفظه ووعاه، وانتفع به. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه
[ 270 ]
عبد الله بن مسعود فقال: إن أخاكم كعبا يقرئكم السلام، ويبشركم أن هذه الآية ليس فيكم: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه فقال له عبد الله: وأنت فأقرئه السلام، وأخبره أنها نزلت وهو يهودي. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بنحوه، عن عبد الله وكعب. وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: ثني يحيى بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون: وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم قال: من النبيين على قومهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) *: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين قال: فقال: أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأما قوله: ليبيننه للناس. فإنه كما: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثني أبي، قال: ثنا محمد بن ذكوان، قال: ثنا أبو نعامة السعدي، قال: كان الحسن يفسر قوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ليتكلمن بالحق وليصدقنه بالعمل. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: * (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * بالتاء، وهي قراءة عظم قراء أهل المدينة والكوفة على وجه المخاطب، بمعنى: قال لهم: لتبيننه للناس ولا تكتمونه وقرأ ذلك آخرون: ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء جميعا على وجه الخبر عن الغائب، لانهم في قوت إخبار الله نبيه (ص) بذلك عنهم كانوا غير موجودين، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب. والقول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان صحيحة وجوههما، مستفيضتان في قراءة الاسلام، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فقد أصاب الحق والصواب في ذلك. غير أن الامر في ذلك وإن كان كذلك، فإن أحب القراءتين إلي أن أقرأ بها: ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء جميعا استدلالا بقوله:
[ 271 ]
* (فنبذوه) * أنه إذا كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله: * (فنبذوه) * حتى يكون متسقا كله على معنى واحد ومثال واحد، ولو كان الاول بمعنى الخطاب لكان أن يقال: فنبذتموه وراء ظهوركم، أولى من أن يقال: فنبذوه وراء ظهورهم. وأما قوله: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق، وتركهم العمل به. وقد بينا المعنى الذي من أجله قبل ذلك كذلك فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب البجلي، عن الشعبي في قوله: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * قال: إنهم قد كانوا يقرءونه إنما نبذوا العمل به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * قال: نبذوا الميثاق. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا مالك بن مغول، قال: نبئت عن الشعبي في هذه الآية: * (فنبذوه وراء ظهورهم) * قال: قذفوه بين أيديهم، وتركوا العمل به. وأما قوله: * (واشتروا به ثمنا قليلا) * فإن معناه ما قلنا من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (واشتروا به ثمنا قليلا) * أخذوا طمعا، وكتموا اسم محمد (ص). وقوله: * (فبئس ما يشترون) * يقول: فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فبئس ما يشترون) * قال: تبديل اليهود التوراة. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 272 ]
* (لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عني بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله (ص) إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله (ص) اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: ثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله (ص)، إذا خرج النبي (ص) إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدم النبي (ص) من السفر اعتذروا إليه وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأنزل الله تعالى فيهم: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال: هؤلاء المنافقون يقولون النبي (ص): لو قد خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج النبي (ص) تخلفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها. وقال آخرون: عني بذلك قوم من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلى العلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، ثنا قال: سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس أو سعيد بن جبير: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) * إلى قوله * (ولهم عذاب أليم) * يعني: فنحاصا وأشيع وأشباههما من الاحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * أن يقول لهم الناس علماء وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا خير، ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا.
[ 273 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك، إلا أنه قال: وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى. وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد (ص)، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم أهل صلاة وصيام. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، يقول في قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) * فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد (ص)، وقالوا: قد جمع الله كلمتنا، ولم يخالف أحد منا أحدا أنه نبي، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أهل الصلاة والصيام. وكذبوا، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله، قال الله: * (يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) *. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال: قالت اليهود أمر بعضهم بعضا، فكتب بعضهم إلى بعض أن محمدا ليس بنبي، فاجمعوا كلمتكم، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم. ففعلوا وفرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد (ص). حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كتموا اسم محمد (ص)، ففرحوا بذلك، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد (ص). حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كتموا اسم محمد (ص)، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه، وكانوا يزكون أنفسهم، فيقولون: نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونحن على دين إبراهيم (ص). فأنزل الله فيهم: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) * من كتمان محمد (ص): * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * أحبوا أن تحمدهم العرب بما يزكون به أنفسهم، وليسوا كذلك.
[ 274 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي الجحاف، عن مسلم البطين، قال: سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية: * (لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا) * قال سعيد بن جبير: بكتمانهم محمدا، * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال: هو قولهم: نحن على دين إبراهيم عليه السلام. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) *: هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب، فحكموا بغير الحق، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد (ص)، وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله، ويصومون، ويصلون، ويطيعون الله، فقال الله جل ثناؤه لمحمد (ص): * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) * كفروا بالله وكفروا بمحمد (ص)، * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * من الصلاة والصوم، فقال الله عز وجل لمحمد (ص): * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) *. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا من تبديلهم كتاب الله، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) * قال: يهود، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه، ولا تملك يهود ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي المعلى، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية: * (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال: اليهود يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي المعلى العطار، عن سعيد بن جبير، قال: هم اليهود، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام.
[ 275 ]
وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من اليهود سألهم رسول الله (ص) عن شئ، فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره: أن مروان قال لرافع: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، ليعذبنا الله أجمعين ! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه ؟ إنما دعا النبي (ص) يهود، فسألهم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه. ثم قال: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) *... الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة، أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال لبوابه: يا رافع اذهب إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن جميعا فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس) * إلى قوله: * (أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال ابن عباس: سألهم النبي (ص) عن شئ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. وقال آخرون: بل عني بذلك قوم من يهود أظهروا النفاق للنبي (ص) محبة منهم للحمد، والله عالم منهم خلاف ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن أعداء الله اليهود يهود خيبر أتوا نبي الله (ص)، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به، وأنهم متابعوه وهم متمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم نبي الله (ص) بما لم يفعلوا، فأنزل الله تعالى: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) *... الآية.
[ 276 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: إن أهل خيبر أتوا النبي (ص) وأصحابه، فقالوا: إنا على رأيكم وهيئتكم، وإنا لكم ردء، فأكذبهم الله، فقال: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *... الآيتين. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، قال: جاء رجل إلى عبد الله، فقال: إن كعبا يقرأ عليك السلام، ويقول: إن هذه الآية لم تنزل فيكم: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) * قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهودي. وأولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *... الآية، قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله عز وجل أنه أخذ ميثاقهم، ليبينن للناس أمر محمد (ص)، ولا يكتمونه، لان قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) *... الآية في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك، فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالاقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه، وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم. وقوله: * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) * فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لاعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) * قال: بمنجاة من العذاب. قال أبو جعفر: * (ولهم عذاب أليم) * يقول: ولهم عذاب في الآخرة أيضا مؤلم، مع الذي لهم في الدنيا معجل. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 277 ]
* (ولله ملك السماوات والارض والله على كل شئ قدير) *. وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا: * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * يقول تعالى ذكره مكذبا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والارض، فكيف يكون أيها المفترون على الله من كان ملك ذلك له فقيرا ! ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك ولكل مكذب به ومفتر عليه وعلى غير ذلك مما أراد وأحب، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه، فقال: * (والله على كل شئ قدير) * يعني: من إهلاك قائل ذلك، وتعجيل عقوبته لهم، وغير ذلك من الامور. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب) *. وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره على قائل ذلك وعلى سائر خلقه بأنه المدبر المصرف الاشياء، والمسخر ما أحب، وإن الاغناء والافقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس، واعتبروا ففيما أنشأته فخلقته من السموات والارض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقبت بينه من الليل والنهار، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، تتصرفون في هذا لمعاشكم، وتسكنون في هذا راحة لاجسادكم، معتبر ومدكر، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لب وعقل، يعلم أن من نسبني إلى أني فقير وهو غني كاذب مفتر، فإن ذلك كله بيدي أقلبه وأصرفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتم، فكيف ينسب فقر إلى من كان كل ما به عيش ما في السموات والارض بيده وإليه ! أم كيف يكون غنيا من كان رزقه بيد غيره، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حرمه ! فاعتبروا يا أولي الالباب. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *. وقوله: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا) * من نعت أولي الالباب، والذين في موضع خفض ردا على قوله: لاولي الالباب.
[ 278 ]
ومعنى الآية: إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الالباب، الذاكرين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، يعني بذلك: قياما في صلاتهم وقعودا في تشهدهم وفي غير صلاتهم وعلى جنوبهم نياما. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا) *... الآية، قال: هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فاذكره وأنت على جنبك يسرا من الله وتخفيفا. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (وعلى جنوبهم) * فعطف بعلى، وهي صفة على القيام والقعود وهما اسمان ؟ قيل: لان قوله: * (وعلى جنوبهم) * في معنى الاسم، ومعناه: ونياما أو مضطجعين على جنوبهم، فحسن عطف ذلك على القيام والقعود لذلك المعنى، كما قيل: * (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * فعطف بقوله: * (أو قاعدا أو قائما) * على قوله: * (لجنبه) *، لان معنى قوله: لجنبه مضطجعا، فعطف بالقاعد والقائم على معناه، فكذلك ذلك في قوله: * (وعلى جنوبهم) *. وأما قوله: * (ويتفكرون في خلق السموات والارض) * فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شئ، ومن هو مالك كل شئ ورازقه، وخالق كل شئ ومدبره، من هو على كل شئ قدير، وبيده الاغناء والافقار، والاعزاز والاذلال، والاحياء والاماتة، والشقاء والسعادة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *. يعني بذلك تعالى ذكره: ويتفكرون في خلق السموات والارض، قائلين: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * فترك ذكر قائلين، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه، وقوله: * (ما خلقت هذا باطلا) * يقول: لم تخلق هذا الخلق عبثا ولا لعبا، لم تخلقه إلا لامر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة، وإنما قال: ما خلقت هذا باطلا، ولم يقل: ما خلقت
[ 279 ]
هذه، ولا هؤلاء، لانه أراد بهذا الخلق الذي في السموات والارض، يدل على ذلك قوله: * (سبحانك فقنا عذاب النار) * ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم، ولو كان المعني بقوله: * (ما خلقت هذا باطلا) * السموات والارض، لما كان لقول عقيب ذلك: * (فقنا عذاب النار) * معنى مفهوم، لان السموات والارض أدلة على بارئها، لا على الثواب والعقاب، وإنما الدليل على الثواب والعقاب: الامر والنهي، وإنما وصف جل ثناؤه أولي الالباب الذين ذكرهم في هذه الآية، أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيين، قالوا: يا ربنا لم تخلق هؤلاء باطلا عبثا سبحانك، يعني: تنزيها لك من أن تفعل شيئا عبثا، ولكنك خلقتهم لعظيم من الامر، لجنة أو نار. ثم فزعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره، فيكونوا من أهل جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) *. اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها فقد أخزيته، قال: ولا يخزي مؤمن مصيره إلى الجنة وإن عذب بالنار بعض العذاب. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو حفص الجبيري ومحمد بن بشار، قال: أخبرنا المؤمل، أخبرنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس، في قوله: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * قال: من تخلد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري،، عن رجل، عن ابن المسيب: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * قال: هي خاصة لمن لا يخرج منها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمان عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، قال: ثنا قبيصة بن مروان، عن الاشعث الحملي، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعة حق هو ؟ قال: نعم حق. قال: قلت يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * و * (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) * ؟ قال: فقال لي: إنك والله لا تستطيع على شئ، إن للنار أهلا لا يخرجون منها
[ 280 ]
كما قال الله. قال: قلت يا أبا سعيد: فيمن دخلوا ثم خرجوا ؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبا في الدنيا، فأخذهم الله بها فأدخلهم بها، ثم أخرجهم بما يعلم في قلوبهم من الايمان والتصديق به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * قال: هو من يخلد فيها. وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من مخلد فيها وغير مخلد فيها، فقد أخزي بالعذاب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا الحرث بن مسلم، عن يحيى بن عمرو بن دينار، قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء، فقلت: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * ؟ قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار ! وإن دون ذلك لخزيا. وأولى القولين بالصواب عندي قول جابر: إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها. وذلك أن الخزي إنما هو هتك ستر المخزي وفضيحته، ومن عاقبه ربه في الآخرة على ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو الخزي. وأما قوله: * (وما للظالمين من أنصار) * يقول: وما لمن خالف أمر الله فعصاه من ذي نصرة له ينصره من الله فيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار) *. اختلف أهل التأويل في تأويل المنادي الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، فقال بعضهم: المنادي في هذا الموضع القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، ثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: * (إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * قال: هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي (ص).
[ 281 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا منصور بن حكيم، عن خارجة، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، في قوله: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * قال: ليس كل الناس سمع النبي (ص)، ولكن المنادي: القرآن. وقال آخرون: بل هو محمد (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * قال: هو محمد (ص). حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * قال: ذلك رسول الله (ص). وأولى القولين في ذلك بالصواب قول محمد بن كعب، وهو أن يكون المنادي القرآن، لان كثيرا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ليسوا ممن رأى النبي (ص) ولا عاينه، فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن. وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) *. وبنحو ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * إلى قوله: * (وتوفنا مع الابرار) * سمعوا دعوة من الله فأجابوها، فأحسنوا الاجابة فيها، وصبروا عليها، ينبئكم الله عن مؤمن الانس كيف قال، وعن مؤمن الجن كيف قال. فأما مؤمن الجن، فقال: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) *، وأما مؤمن الانس، فقال: * (إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا) *... الآية. وقيل: * (إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) * يعني: ينادي إلى الايمان، كما قال تعالى ذكره: * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * بمعنى: هدانا إلى هذا، وكما قال الراجز. أوحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت
[ 282 ]
بمعنى: أوحى إليها، ومنه قوله: * (بأن ربك أوحى لها) *. وقيل: يحتمل أن يكون معناه: إننا سمعنا مناديا للايمان ينادي أن آمنوا بربكم. فتأويل الآية إذا: ربنا سمعنا داعيا يدعو إلى الايمان يقول إلى التصديق بك، والاقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك وطاعته، فيما أمرنا به، ونهانا عنه، مما جاء به من عندك فآمنا ربنا، يقول: فصدقنا بذلك يا ربنا، فاغفر لنا ذنوبنا، يقول: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الاشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفرها عنا، وسيئات أعمالنا فامحها بفضلك ورحمتك إيانا، وتوفنا مع الابرار، يعني بذلك: واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك في عداد الابرار، واحشرنا محشرهم ومعهم، والابرار جمع بر، وهم الذين بروا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له، حتى أرضوه فرضي عنهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) *. إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتيهم ما وعدهم، وقد علموا أن الله منجز وعده، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد ؟ قيل: اختلف في ذلك أهل البحث، فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج المسألة، ومعناه الخبر، قالوا: وإنما تأويل الكلام: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الابرار، لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، قالوا: وليس ذلك على أنهم قالوا: إن توفيتنا مع الابرار فانجز لنا ما وعدتنا لانهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن ما وعد على ألسنة رسله ليس يعطيه بالدعاء، ولكنه تفضل بإيتائه، ثم ينجزه. وقال آخرون: بل ذلك قول من قائله على معنى المسألة والدعاء لله، بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، فيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخلف وعده، قالوا: ولو كان القوم إنما سألوا ربهم أن يؤتيهم ما وعد الابرار، لكانوا قد زكوا أنفسهم، وشهدوا لها أنها ممن قد استوجب كرامة الله وثوابه، قالوا: وليس ذلك صفة أهل الفضل من المؤمنين.
[ 283 ]
وقال آخرون: بل قالوا هذا القول على وجه المسألة، والرغبة منهم إلى الله أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلمة الحق على الباطل، فيعجل ذلك لهم، قالوا: ومحال أن يكون القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به كانوا على غير يقين من أن الله لا يخلف الميعاد، فيرغبوا إلى الله جل ثناؤه في ذلك، ولكنهم كانوا وعدوا النصر، ولم يوقت لهم في تعجيل ذلك لهم، لما في تعجله من سرور الظفر وراحة الجسد. والذي هو أولى الاقوال بالصواب في ذلك عندي: أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول الله (ص) من وطنه وداره، مفارقا لاهل الشرك بالله إلى الله ورسوله، وغيرهم من تباع رسول الله (ص) الذين رغبوا إلى الله في تعجيل نصرتهم على أعداء الله وأعدائهم، فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك عليهم عاجلا، فإنك لا تخلف الميعاد، ولكن لا صبر لنا على أناتك وحلمك عنهم، فعجل حربهم، ولنا الظفر عليهم. يدل على صحة ذلك آخر الآية الاخرى، وهو قوله: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا) *... الآيات بعدها. وليس ذلك مما ذهب إليه الذين حكيت قولهم في شئ، وذلك أنه غير موجود في كلام العرب أن يقال: افعل بنا يا رب كذا وكذا، بمعنى: افعل بنا لكذا الذي ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل لآخر: أقبل إلي وكلمني، بمعنى: أقبل إلي لتكلمني، وذلك غير موجود في الكلام، ولا معروف جوازه، وكذلك أيضا غير معروف في الكلام: آتنا ما وعدتنا، بمعنى: اجعلنا ممن آتيته ذلك وإن كان كل من أعطى شيئا سنيا فقد صير نظيرا لمن كان مثله في المعنى الذي أعطيه، ولكن ليس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إليه. فتأويل الكلام إذا: ربنا أعطنا ما وعدتنا على ألسن رسلك أنك تعلى كلمتك كلمة الحق، بتأييدنا على من كفر بك وحادك وعبد غيرك، وعجل لنا ذلك، فإنا قد علمنا أنك لا تخلف ميعادك، ولا تخزنا يوم القيامة، فتفضحنا بذنوبنا التي سلكت منا، ولكن كفرها عنا واغفرها لنا. وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
[ 284 ]
قوله: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * قال: يستنجز موعود الله على رسله. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) *. يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرا ذكرا كان العامل أو أنثى، وذكر أنه قيل لرسول الله (ص): ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك هذه الآية. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر ؟ فنزلت: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) *... الآية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت رجلا من ولد أم سلمة زوج النبي (ص)، يقول: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشئ ! فأنزل الله تبارك وتعالى: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) *. حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشئ ! فأنزل الله تعالى: * (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) *.
[ 285 ]
وقيل: فاستجاب لهم، بمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب بمعنى: فلم يجبه عند ذاك مجيب. وأدخلت من في قوله: * (من ذكر أو أنثى) * على الترجمة والتفسير عن قوله منكم، بمعنى: لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والاناث وليست من هذه بالتي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام في الجحد، لانها دخلت بمعنى لا يصلح الكلام إلا به. وزعم بعض نحويي البصرة أنها دخلت في هذا الموضع، كما تدخل في قولهم: قد كان من حديث قال: ومن ههنا أحسن، لان النهي قد دخل في قوله: لا أضيع. وأنكر ذلك بعض نحويي الكوفة وقال: لا تدخل من وتخرج إلا في موضع الجحد، وقال: قوله: * (لا أضيع عمل عامل منكم) * لم يدركه الجحد، لانك لا تقول: لا أضرب غلام رجل في الدار ولا في البيت فيدخل، ولا لانه لم ينله الجحد، ولكن من مفسرة. وأما قوله: * (بعضكم من بعض) * فإنه يعني: بعضكم أيها المؤمنون الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، من بعض، في النصرة والمسألة والدين، وحكم جميعكم فيما أنا بكم فاعل على حكم أحدكم في أني لا أضيع عمل ذكر منكم ولا أنثى. القول في تأويل قوله تعالى: * (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ولاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) *. يعني بقوله جل ثناؤه: فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الايمان بالله، والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة، وأوذوا في سبيلي، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربهم، وعبادتهم إياه، مخلصين له الدين، وذلك هو سبيل الله التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله (ص) من أهلها، وقتلوا، يعني: وقتلوا في سبيل الله وقاتلوا فيها، لاكفرن عنهم سيئاتهم، يعني: لامحونها عنهم، ولا تفضلن عليهم بعفوي
[ 286 ]
ورحمتي، ولاغفرنها لهم، ولادخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار، ثوابا، يعني: جزاء لهم على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله، من عند الله: يعني: من قبل الله لهم، والله عنده حسن الثواب، يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف، لانه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كما: حدثنا عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: ثني عمرو بن الحارث: أن أبا عشانة المعافري، حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: لقد سمعت رسول الله (ص)، يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة، فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير عذاب، ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا، فيقول الرب جل ثناؤه: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل الملائكة عليهم من كل باب: * (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * واختلفت القراء في قراءة قوله: * (وقاتلوا وقتلوا) * فقرأه بعضهم: وقتلوا وقتلوا بالتخفيف، بمعنى أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين وقرأ ذلك آخرون: وقاتلوا وقتلوا بتشديد قتلوا، بمعنى: أنهم قاتلوا المشركين، وقتلهم المشركون بعضا بعد بعض وقتلا بعد قتل. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين: وقاتلوا وقتلوا بالتخفيف، بمعنى أنهم قاتلوا المشركين وقتلوا. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: * (وقتلوا) * والقراءة بالتخفيف * (وقاتلوا) * بمعنى: أن بعضهم قتل، وقاتل من بقي منهم التي لا أستجيز أن أعدوها إحدى هاتين القراءتين، وهي: وقاتلوا وقتلوا بالتخفيف، أو * (وقتلوا) * بالتخفيف * (وقاتلوا) * لانها القراءة المنقولة نقل وراثة، وما عداهما فشاذ. وبأي هاتين القراءتين التي ذكرت أني لا أستجيز أن أعدوهما قرأ قارئ
[ 287 ]
فمصيب في ذلك الصواب من القراءة، لاستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قراء الاسلام مع اتفاق معنييهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ئ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يغرنك يا محمد تقلب الذين كفروا في البلاد، يعني: تصرفهم في الارض وضربهم فيها. كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * يقول: ضربهم في البلاد. فنهى الله تعالى ذكره نبيه (ص) عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم مع شركهم وجحودهم نعمه، وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي (ص)، والمعني به غيره من أتباعه وأصحابه، كما قد بينا فيما مضى قبل من أمر الله، ولكن كان بأمر الله صادعا، وإلى الحق داعيا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) * والله ما غروا نبي الله، ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك. وأما قوله: * (متاع قليل) * فإنه يعني: أن تقلبهم في البلاد وتصرفهم فيها متعة يمتعون بها قليلا، حتى يبلغوا آجالهم، فتخترمهم منياتهم، ثم مأواهم جهنم بعد مماتهم، والمأوى: المصير الذي يأوون إليه يوم القيامة، فيصيرون فيه. ويعني بقوله: * (وبئس المهاد) * وبئس الفراش والمضجع جهنم. القول في تأويل قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للابرار) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (لكن الذين اتقوا ربهم) *: لكن الذين اتقوا الله بطاعته، واتباع مرضاته، في العمل بما أمرهم به، واجتناب ما نهاههم عنه. * (لهم جنات) * يعني:
[ 288 ]
بساتين، * (تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) * يقول: باقين فيها أبدا، * (نزلا من عند الله) * يعني: إنزالا من الله إياهم فيها أنزلهموها، ونصب نزلا على التفسير، من قوله: لهم جنات تجري من تحتها الانهار، كما يقال: لك عند الله جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا، وكما يقال: هو لك صدقة، وهو لك هبة. وقوله: * (من عند الله) * يعني: من قبل الله، ومن كرامة الله إياهم، وعطاياه لهم. وقوله: * (وما عند الله خير للابرار) * يقول: وما عند الله من الحياة والكرامة، وحسن المآب خير للابرار، مما يتقلب فيه الذين كفروا فإن الذي يتقلبون فيه زائل فان، وهو قليل من المتاع خسيس، وما عند الله خير من كرامته للابرار، وهم أهل طاعته، باق غير فان ولا زائل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (وما عند الله خير للابرار) * قال: لمن يطيع الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الاعمش، عن خيثمة عن الاسود، عن عبد الله، قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها. ثم قرأ عبد الله: * (وما عند الله خير للابرار) * وقرأ هذه الآية: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له. ومن لم يصدقني، فإن الله يقول: * (وما عند الله خير للابرار) * ويقول: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) *.
[ 289 ]
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنزلت. ذكر من قال ذلك: حدثنا عصام بن زياد بن رواد بن الجراح، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله: أن النبي (ص) قال: اخرجوا فصلوا على أخ لكم ! فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال: هذا النجاشي أصحمة، فقال المنافقون: انظروا هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط ! فأنزل الله: * (وإن من أهل الكتاب لمن يومن بالله) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة: أن النبي (ص) قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه ! قالوا: يصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال: فنزلت: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله) * قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة. فأنزل الله: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) * ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في النجاشي وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله (ص)، وصدقوا به. قال: وذكر لنا أن نبي الله (ص) استغفر للنجاشي، وصلى عليه حين بلغه موته، قال لاصحابه: صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم ! فقال أناس من أهل النفاق: يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه ! فأنزل الله هذه الآية: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) * قال: نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي (ص)، واسم النجاشي أصحمة.
[ 290 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: قال عبد الرزاق، وقال ابن عيينة: اسم النجاشي بالعربية عطية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: لما صلى النبي (ص) على النجاشي، طعن في ذلك المنافقون، فنزلت هذه الآية: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) *... إلا آخر الآية. وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: نزلت - يعني هذه الآية - في عبد الله بن سلام ومن معه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد في قوله: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) *... الآية كلها، قال: هؤلاء يهود. وقال آخرون: بل عنى بذلك: مسلمة أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) * من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب. وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله: * (وإن من أهل الكتاب) * أهل الكتاب جميعا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى، وإنما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله، وكلا الفريقين، أعني اليهود والنصارى، من أهل الكتاب. فإن قال قائل: فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره أنها نزلت في النجاشي وأصحابه ؟ قيل: ذلك خبر في إسناده نظر، ولو كان صحيحا لا شك فيه لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف، وذلك أن جابرا ومن قال بقوله إنما قالوا: نزلت في النجاشي، وقد تنزل الآية في الشئ ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله (ص) والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين: التوراة والانجيل. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن من أهل الكتاب التوراة
[ 291 ]
والانجيل لمن يؤمن بالله، فيقر بوحدانيته، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، يقول: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه، على لسان رسوله محمد (ص)، وما أنزل إليهم، يعني: وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والانجيل والزبور، خاشعين لله، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذللين. كما: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن زيد في قوله: * (خاشعين لله) * قال: الخاشع: المتذلل لله الخائف. ونصب قوله: * (خاشعين لله) * على الحال من قوله: * (لمن يؤمن بالله) * وهو حال مما في يؤمن من ذكر من. * (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) * يقول: لا يحرفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد (ص) فيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعرض من الدنيا خسيس، يعطونه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، ولكن ينقادون للحق، فيعملون بما أمرهم الله به، فيما أنزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم. القول في تأويل قوله: * (أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (أولئك لهم أجرهم) *: هؤلاء الذين يؤمنون بالله، وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، لهم أجرهم عند ربهم، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه عند ربهم، يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفيهم ذلك * (إن الله سريع الحساب) * وسرعة حسابه تعالى ذكره، أنه لا يخفى عليه شئ من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الاحصاء إبطاء، فلذلك قال: * (إن الله سريع الحساب) * القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا الكفار ورابطوهم. ذكر من قال ذلك:
[ 292 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه سمعه يقول في قول الله: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) * قال: أمرهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء، ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) *: أي اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله، * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * يقول: صابروا المشركين، ورابطوا في سبيل الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج: * (اصبروا) * على الطاعة، * (وصابروا) * أعداء الله، * (ورابطوا) * في سبيل الله. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * قال: اصبروا على ما أمرتم به، وصابروا العدو ورابطوهم. وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على دينكم، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا أعداءكم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، أنه كان يقول في هذه الآية: * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * يقول: اصبروا على دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم، حتى يترك دينه لدينكم. وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم ورابطوهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله: * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * قال: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم، ورابطوا على عدوكم.
[ 293 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا مطرف بن عبد الله المري، قال: ثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله يقول في كتابه: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) *. وقال آخرون: معنى: * (ورابطوا) *: أي رابطوا على الصلوات: أي انتظروها واحدة بعد واحدة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: ثني داود بن صالح، قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شئ نزلت هذه الآية * (اصبروا وصابروا ورابطوا) * ؟ قال: قلت لا. قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي (ص) غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل عن علي، قال: قال رسول الله (ص): ألا أدلكم على ما يكفر الله به الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلك الرباط. حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محمد بن مهاجر، قال: ثني يحيى بن زيد، عن زيد بن أبي أنيسة، عن شرحبيل، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ قال: قلنا بلى يا رسول الله ! قال: إسباغ الوضوء في أماكنها، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.
[ 294 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، بنحوه. وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال في ذلك: * (يا أيها الذين آمنوا) *: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اصبروا على دينكم، وطاعة ربكم، وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئا فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل. فلذلك قلنا إنه عنى بقوله: * (اصبروا) * الامر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها. * (وصابروا) * يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لان المعروف من كلام العرب في المفاعلة، أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة، وإذ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكن عدوهم أصبر منهم. وكذلك قوله * (ورابطوا) * معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله. وأرى أن أصل الرباط: ارتباط الخيل للعدو، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم، ممن بغاهم بشر كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رجلة لا مركب له. وإنما قلنا: معنى * (ورابطوا) *: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لان ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط. وإنما توجه الكلام إلى الاغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفي، حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول (ص)، أو إجماع من أهل التأويل.
[ 295 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) *. يعني بذلك تعالى ذكره: واتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره، أو تتقدموا نهيه، * (لعلكم تفلحون) * يقول: لتفلحوا فتبقوا في نعيم الابد، وتنجحوا في طلباتكم عنده. كما: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قوله: * (واتقوا الله لعلكم تفلحون) *: واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني. آخر تفسير سورة آل عمران.
[ 296 ]
سورة النساء مدنية وآياتها ست وسبعون ومائة القول في تفسير السورة التي يذكر فيها النساء. بسم الله الرحمن الرحيم * (أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا) *. قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) *: احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم، وفيما نهاكم، فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به. ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الانام من شخص واحد، وعرف عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الاخ على أخيه، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة. وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الاب الجامع بينهم، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الادنى وعاطفا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا، ولا يتظالموا، وليبذل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف، على ما ألزمه الله له، فقال: * (الذي خلقكم من نفس واحدة) * يعني من آدم. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (خلقكم من نفس واحدة) *: فمن آدم (ص). حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) * يعني: آدم (ص).
[ 297 ]
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: * (خلقكم من نفس واحدة) * قال: آدم. ونظير قوله: * (من نفس واحدة) * والمعني به رجل، قول الشاعر: أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال فقال: ولدته أخرى، وهو يريد الرجل، فأنث للفظ الخليفة. وقال تعالى ذكره: * (من نفس واحدة) * لتأنيث النفس والمعنى. من رجل واحد ولو قيل: من نفس واحد، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى كان صوابا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وخلق منها زوجها) * وخلق من النفس الواحدة زوجها، يعني بالزوج الثاني لها وهو فيما قال أهل التأويل: امرأتها، حواء. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وخلق منها زوجها) * قال: حواء من قصيرى آدم وهو نائم، فاستيقظ فقال: أثا بالنبطية امرأة. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وخلق منها زوجها) * يعني حواء خلقت من آدم، من ضلع من أضلاعه. حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها ما أنت ؟ قالت امرأة، قال: ولم خلقت ؟ قالت: لتسكن إلي.
[ 298 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ألقي على آدم (ص) السنة فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن العباس وغيره، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الايسر، ولام مكانه، وآدم نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشفت عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي ! فسكن إليها. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وخلق منها زوجها) * جعل من آدم حواء. وأما قوله: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * فإنه يعني ونشر منهما يعني من آدم وحواء * (رجالا كثيرا ونساء) * قد رآهم، كما قال جل ثناؤه: * (كالفراش المبثوث) *. يقال منه: بث الله الخلق وأبثهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) * وبث: خلق. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة: تساءلون بالتشديد، بمعنى: تتساءلون، ثم أدغم إحدى التاءين في السين، فجعلهما سينا مشددة. وقرأه بعض قراء الكوفة: * (تساءلون) * بالتخفيف على مثال تفاعلون، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان، أعني التخفيف والتشديد في قوله: * (تساءلون به) *، وبأي ذلك قرأ القارئ أصاب الصواب فيه، لان معنى ذلك بأي وجهيه قرئ غير مختلف. وأما تأويله: * (واتقوا الله) * أيها الناس، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به، فقال السائل للمسؤول: أسألك بالله، وأنشدك بالله، وأعزم عليك بالله، وما أشبه ذلك. يقول تعالى ذكره: فكما تعظمون أيها الناس ربكم بألسنتكم، حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه، فقد أتى عظيما، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم، واجتنابكم ما نهاكم عنه، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه. كما:
[ 299 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به) * قال: يقول: اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (واتقوا الله الذي تساءلون به) * يقول: اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (تساءلون به) * قال: تعاطفون به. وأما قوله: * (والارحام) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم، قال السائل للمسؤول: أسألك به وبالرحم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * يقول: اتقوا الله الذي تعاطفون به والارحام. يقول: الرجل يسأل بالله وبالرحم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: هو كقول الرجل: أسألك بالله، أسألك بالرحم. يعني قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) *. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: * (واتقوا الله الذي تساءلون به الارحام) * قال: يقول: أسألك بالله وبالرحم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، هو كقول الرجل: أسألك بالرحم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * قال: يقول: أسألك بالله وبالرحم.
[ 300 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن منصور أو مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * قال: هو قول الرجل: أسألك بالله والرحم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الحسن، قال: هو قول الرجل: أنشدك بالله والرحم. قال محمد: وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله: والارحام بالخفض عطفا بالارحام على الهاء التي في قوله به، كأنه أراد: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالارحام، فعطف بظاهر على مكني مخفوض. وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب لانها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر، وأما الكلام فلا شئ يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والردئ في الاعراب منه. ومما جاء في الشعر من رد ظاهر على مكني في حال الخفض قول الشاعر: نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف فعطف الكعب وهو ظاهر على الهاء والالف في قوله بينها وهي مكنية. وقال آخرون: تأويل ذلك: * (واتقوا الله الذي تساءلون به) * واتقوا الارحام أن تقطعوها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * يقول: اتقوا الله، واتقوا الارحام لا تقطعوها.
[ 301 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا) * ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: اتقوا الله وصلوا الارحام، فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخير لكم في الآخرة. حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * يقول: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الله في الارحام فصلوها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * قال: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوه في الارحام. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قول الله: * (الذي تساءلون به والارحام) * قال: اتقوا الارحام أن تقطعوها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * قال: هو قول الرجل: أنشدك بالله والرحم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن النبي (ص) قال: اتقوا الله وصلوا الارحام. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (الذي تساءلون به والارحام) * قال: اتقوا الارحام أن تقطعوها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (الذي تساءلون به والارحام) * قال: يقول: اتقوا الله في الارحام فصلوها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * قال: يقول: واتقوا الله في الارحام فصلوها.
[ 302 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز، عن جويبر، عن الضحاك، أن ابن عباس كان يقرأ: * (والارحام) * يقول: اتقوا الله لا تقطعوها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: اتقوا الارحام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * أن تقطعوها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به) * واتقوا الارحام أن تقطعوها. وقرأ: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) *. قال أبو جعفر: وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبا، بمعنى: واتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الارحام أن تقطعوها، عطفا بالارحام في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره. قال: والقراءة التي لا نستجيز للقارئ أن يقرأ غيرها في ذلك النصب: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) * بمعنى: واتقوا الارحام أن تقطعوها، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الاسماء على مكني في حال الخفض، إلا في ضرورة شعر، على ما قد وصفت قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله كان عليكم رقيبا) *. قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: إن الله لم يزل عليكم رقيبا. ويعني بقوله: * (عليكم) *: على الناس الذين قال لهم جل ثناؤه: يا أيها الناس اتقوا ربكم والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب، فتقول إذا خاطبت رجلا واحدا أو جماعة فعلت هي وآخرون غيب معهم فعلا: فعلتم كذا، وصنعتم. كذا ويعني بقوله: * (رقيبا) *: حفيظا، محصيا عليكم أعمالكم، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها. كما:
[ 303 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (إن الله كان عليكم رقيبا) *: حفيظا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد في قوله: * (إن الله كان عليكم رقيبا) * على أعمالكم، يعلمها ويعرفها. ومنه قول أبي دؤاد الايادي: كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد القول في تأويل قوله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) *. قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره أوصياء اليتامى، يقول لهم: وأعطوا يا معشر أوصياء اليتامى أموالهم، إذا هم بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد. * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * يقول: ولا تستبدلوا الحرام عليكم من أموالهم بأموالكم الحلال لكم. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال: الحلال بالحرام. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال: الحرام مكان الحلال.
[ 304 ]
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في صفة تبديلهم الخبيث بالطيب الذي نهوا عنه ومعناه، فقال بعضهم: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من ماله والرفيع منه، ويجعلون مكانه لليتيم الردئ والخسيس، فذلك تبديلهم الذي نهاهم الله تعالى عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال: لا تعط زيفا وتأخذ جيدا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، وعن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب ومعمر، عن الزهري، قالوا: يعطي مهزولا ويأخذ سمينا. وبه عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك، قال: لا تعط فاسدا وتأخذ جيدا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تستعجل الرزق الحرام فتأكله قبل أن يأتيك الذي قدر لك من الحلال. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك. وبه عن سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح مثله. وقال آخرون: معنى ذلك كالذي: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا يورثون الصغار يأخذه الاكبر. وقرأ: * (وترغبون أن تنكحوهن) * قال: إذا لم يكن لهم
[ 305 ]
شئ، * (والمستضعفين من الولدان) * لا يورثوهم، قال، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي أخذه خبيث. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية قول من قال: تأويل ذلك: ولا تتبدلوا أموال أيتامكم أيها الاوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم، فتأخذوا رفائعها وخيارها وجيادها بالطيب الحلال لكم من أموالكم * (وتجعلوا) * الردئ الخسيس بدلا منه. وذلك أن تبدل الشئ بالشئ في كلام العرب أخذ شئ مكان آخر غيره، يعطيه المأخوذ منه، أو يجعله مكان الذي أخذ. فإذا كان ذلك معنى التبديل والاستبدال، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك: هو أخذ أكبر ولد الميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلى ماله، قول لا معنى له، لانه إذا أخذ الاكبر من ولده جميع ماله دون الاصاغر منهم، فلم يستبدل مما أخذ شيئا. فما التبدل الذي قال جل ثناؤه: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * ولم يبدل الآخذ مكان المأخوذ بدلا ؟ وأما الذي قاله مجاهد وأبو صالح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الحرام قبل مجئ الحلال، فإنهما أيضا إن لم يكونا أرادا بذلك نحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال: إن الرجل ليحرم الرزق بالمعصية يأتيها، ففساده نظير فساد قول ابن زيد، لان من استعجل الحرام فأكله، ثم آتاه الله رزقه الحلال فلم يبدل شيئا مكان شئ، وإن كانا أرادا بذلك أن الله جل ثناؤه نهى عباده أن يستعجلوا الحرام فيأكلوه قبل مجئ الحلال، فيكون أكلهم ذلك سببا لحرمان الطيب منه، فذلك وجه معروف، ومذهب معقول يحتمله التأويل، غير أن الاشبه في ذلك بتأويل الآية ما قلنا، لان ذلك هو الاظهر من معانيه، لان الله جل ثناؤه إنما ذكر ذلك في قصة أموال اليتامى وأحكامها، فلا يكون ذلك من جنس حكم أول الآية، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) *. قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولا تخلطوا أموالهم - يعني: أموال اليتامى بأموالكم - فتأكلوها مع أموالكم. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * يقول: لا تأكلوا أموالكم وأموالهم، تخلطوها فتأكلوها جميعا.
[ 306 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن مبارك، عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى، كرهوا أن يخالطوهم، وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فأنزل الله: * (ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فاخوانكم) * قال: فخالطوهم واتقوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنه كان حوبا كبيرا) *. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره (بقوله): * (إنه كان حوبا كبيرا) * إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير. والهاء في قوله إنه دالة على اسم الفعل، أعني الاكل. وأما الحوب: فإنه الاثم، يقال منه: حاب الرجل يحوب حوبا وحوبا وحيابة، ويقال منه: قد تحوب الرجل من كذا، إذا تأثم منه. ومنه قول أمية بن الاسكن الليثي: وإن مهاجرين تكنفاه غداتئذ لقد خطئا وحابا ومنه قيل: نزلنا بحوبة من الارض وبحيبة من الارض: إذا نزلوا بموضع سوء منها. والكبير: العظيم، فمعنى ذلك: إن أكلكم أموال اليتامى مع أموالكم، إثم عند الله عظيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو وعمرو بن علي، قالا: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (حوبا كبيرا) * قال: إثما. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إنه كان حوبا كبيرا) * قال: إثما عظيما. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كان حوبا) * أما حوبا: فإثما.
[ 307 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (حوبا) * قال: إثما. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إنه كان حوبا كبيرا) * يقول: ظلما كبيرا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد، يقول في قوله: * (إنه كان حوبا كبيرا) * قال: ذنبا كبيرا، وهي لاهل الاسلام. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا قرة بن خالد، قال: سمعت الحسن يقول: * (حوبا كبيرا) * قال: إثما والله عظيما. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ألا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه، وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم وطيبهن من واحدة إلى أربع. وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة، فلا تعدلوا، فانكحوا منهن واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء.
[ 308 ]
حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة زوج النبي (ص)، عن قول الله تبارك وتعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال يونس بن يزيد: قال ربيعة في قول الله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * قال: يقول: اتركوهن فقد أحللت لكم أربعا. حدثنا الحسن بن الجنيد وأبو سعيد بن مسلمة، قالا: أنبأنا إسماعيل بن أمية، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: سألت عائشة أم المؤمنين، فقلت: يا أم المؤمنين أرأيت قول الله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * ؟ قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداق نسائها، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا فيكملوا لهن الصداق، ثم أمروا أن ينكحوا سواهن من النساء إن لم يكملوا لهن الصداق. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثني عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة زوج النبي (ص)، فذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، مثل حديث ابن حميد، عن ابن المبارك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزل، يعني قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *... الآية، في اليتيمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها، وهي لا تعجبه، ثم يضر بها، ويسئ صحبتها، فوعظ في ذلك. قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل جواب قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا) * قوله: * (فانكحوا) *.
[ 309 ]
وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهي عن نكاح ما فوق الاربع، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم، وذلك أن قريشا، كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء، والاكثر، والاقل، فإذا صار معدما، مال على مال يتيمه الذي في حجره، فأنفقه، أو تزوج به، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها، فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، لما يلزمكم من مؤن نسائكم، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربع، وإن خفتم أيضا من الاربع ألا تعدلوا في أموالهم فاقتصروا على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت عكرمة يقول في هذه الآية: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * قال: كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة، ويكون عنده الايتام، فيذهب ماله، فيميل على مال الايتام. قال: فنزلت هذه الآية: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *. حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الاحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * قال: كان الرجل يتزوج الاربع والخمس والست والعشر، فيقول الرجل: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فيأخذ مال يتيمه فيتزوج به، فنهوا أن يتزوجوا فوق الاربع. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قصر الرجال على أربع من أجل أموال اليتامى. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * فإن الرجل كان يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى، فنهى الله عن ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن القوم كانوا يتحوبون في أموال اليتامى ألا يعدلوا
[ 310 ]
فيها، ولا يتحوبون في النساء ألا يعدلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الاربع، ولا تزيدوا على ذلك، وأن خفتم ألا تعدلوا أيضا في الزيادة على الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: كان الناس على جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشئ أو ينهوا عنه. قال: فذكروا اليتامى، فنزلت: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * قال: فكما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في النساء. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * إلى: * (أيمانكم) * كانوا يشددون في اليتامى، ولا يشددون في النساء، ينكح أحدهم النسوة، فلا يعدل بينهن، فقال الله تبارك وتعالى: كما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى الاربع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * حتى بلغ: * (أدنى ألا تعولوا) * يقول: كما خفتم الجور في اليتامى وهمكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمع النساء. وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك، فأحل الله جل ثناؤه أربعا، ثم الذي صيرهن إلى أربع قوله: * (مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * يقول: إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاث، وإلا فثنتين، وإلا فواحدة، وإن خفت ألا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * يقول: ما أحل لكم من النساء، * (مثنى وثلاث ورباع) * فخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن
[ 311 ]
سعيد بن جبير، قال جاء الاسلام، والناس على جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشئ فيتبعوه أو ينهوا عن شئ فيجتنبوه، حتى سألوا عن اليتامى، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) *. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو النعمان عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: بعث الله تبارك وتعالى محمدا (ص)، والناس على أمر جاهليتهم، إلا أن يؤمروا بشئ أو ينهوا عنه، وكانوا يسألونه عن اليتامى، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * قال: فكما تخافون ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا ألا تقسطوا وتعدلوا في النساء. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الايامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا من دينهم شأن اليتيم، وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية، فقال: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * كانوا في جاهليتهم لا يرزءون من مال اليتيم شيئا، وهم ينكحون عشرا من النساء، وينكحون نساء آبائهم، فتفقدوا من دينهم شأن النساء، فوعظهم الله في اليتامى وفي النساء، فقال في اليتامى: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) *... إلى: * (إنه كان حوبا كبيرا) * ووعظهم في شأن النساء، فقال: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *... الآية، وقال: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *. حدثت عن عمار عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) *... إلى: * (ما ملكت أيمانكم) * يقول: فإن خفتم الجور في اليتامى وغمكم ذلك، فكذلك فخافوا في جمع النساء. قال: وكان الرجل يتزوج العشر في
[ 312 ]
الجاهلية فما دون ذلك، وأحل الله أربعا وصيرهم إلى أربع، يقول: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * وإن خفت ألا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خفتم في اليتامى، فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهن، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * يقول: إن تحرجتم في ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا، فكذلك فتحرجوا من الزنا، وانكحوا النساء نكاحا طيبا: * (مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللاتي أنتم ولاتهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا أنتم ما أحل لكم منهن. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * قال: نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل هو وليها، ليس لها ولي غيره، وليس أحد ينازعه فيها، ولا ينكحها لمالها، فيضر بها، ويسئ صحبتها. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن في هذه الآية: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم) *: أي ما حل لكم من يتاماكم من قراباتكم * (مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) *. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلا الاربع، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن.
[ 313 ]
وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويل الآية، لان الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها، وخلطها بغيرها من الاموال، فقال تعالى ذكره: * (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) *. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله، والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن، كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحللته، مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة بأن تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها، ولكن تسروا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لانهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الاثم والجور، ففي الكلام إذ كان المعنى ما قلنا، متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور، مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضا في ذلك فواحدة، وإن خفتم في الواحدة فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا أن تقسطوا في حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) *. فإن قال قائل: فأين جواب قوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * ؟ قيل: قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم) * غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا: قوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) *. وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى الاقساط في كلام العرب: العدل والانصاف، وأن القسط: الجور والحيف، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما اليتامى، فإنها جمع لذكران الايتام وإناثهم في هذا الموضع. وأما قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فإنه يعني: فانكحوا ما حل لكم منهن دون ما حرم عليكم منهن. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك، قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) *: ما حل لكم.
[ 314 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * يقول: ما حل لكم. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * ولم يقل: فانكحوا من طاب لكم، وإنما يقال ما في غير الناس ؟ قيل: معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه، وإنما معناه: فانكحوا نكاحا طيبا. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فانكحوا النساء نكاحا طيبا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. فالمعني بقوله: * (ما طاب لكم) * الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهن، فلذلك قيل ما ولم يقل من، كما يقال: خذ من رقيقي ما أردت إذا عنيت، خذ منهم إرادتك، ولو أردت خذ الذي تريد منهم لقلت: خذ من رقيقي من أردت منهم. وكذلك قوله: * (أو ما ملكت أيمانكم) * بمعنى: أو ملك أيمانكم. وإنما معنى قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما قيل: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) *. وأما قوله * (مثنى وثلاث ورباع) * فإنما ترك إجراؤهن لانهن معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، كما عدل عمر عن عامر وزفر عن زافر فترك إجراؤه، وكذلك أحاد وثناء وموحد ومثنى ومثلث ومربع، لا يجري ذلك كله للعلة التي ذكرت من العدول عن وجوهه. ومما يدل على أن ذلك كذلك، وأن الذكر والانثى فيه سواء، ما قيل في هذه السورة وسورة فاطر: مثنى وثلاث ورباع، يراد به الجناح، والجناح ذكر، وأنه أيضا لا يضاف إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث، وأن الالف واللام لا تدخله، فكان في ذلك دليل على أنه اسم للعدد معرفة، ولو كان نكرة لدخله الالف واللام وأضيف كما يضاف الثلاثة والاربعة، ومما يبين في ذلك قول تميم بن أبي مقبل:
[ 315 ]
ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله فرد أحاد ومثنى على النعرات وهي معرفة. وقد تجعلها العرب نكرة فتجريها، كما قال الشاعر: قتلنا به من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس ومما يبين أن ثناء وأحاد غير جارية قول الشاعر: ولقد قتلتكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس الدابر وقول الشاعر: منت لك أن تلاقيني المنايا أحاد أحاد في شهر حلال
[ 316 ]
ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن جهته، لم يسمع منها خماس ولا المخمس، ولا السباع ولا المسبع وكذلك ما فوق الرباع، إلا في بيت الكميت، فإنه يروي له في العشرة عشار وهو قوله: فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا يريد عشرا عشرا، يقال: إنه لم يسمع غير ذلك. وأما قوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * فإن نصب واحدة، بمعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح فيما أوجبه الله لهن عليكم، فانكحوا واحدة منهن، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع كان جائزا بمعنى: فواحدة كافية، أو فواحدة مجزئة، كما قال جل ثناؤه: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * وإن قال لنا قائل: قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر نكاح أربع، فكيف قيل: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * وذلك في العدد تسع ؟ قيل: إن تأويل ذلك: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم، وإما ثلاث إن لم تخافوا ذلك، وإما أربع إن أمنتم ذلك فيهن، يدل على صحة ذلك قوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * لان المعنى: فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم قال: وإن خفتم ألا تعدلوا أيضا في الواحدة، فما ملكت أيمانكم.
[ 317 ]
فإن قال قائل: فإن أمر الله ونهيه على الايجاب والالزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والارشاد والاعلام، وقد قال تعالى ذكره: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وذلك أمر، فهل من دليل على أنه من الامر الذي هو على غير وجه الالزام والايجاب ؟ قيل: نعم، والدليل على ذلك قوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * فكان معلوما بذلك أن قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وإن كان مخرجه مخرج الامر، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجور فيه من عدد النساء، لا بمعنى الامر بالنكاح. فإن المعني به: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فتحرجتم فيهن، فكذلك فتحرجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهن، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الاربع. وقد بينا في غير هذا الموضع بأن العرب تخرج الكلام بلفظ الامر، ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * وكما قال: * (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) * فخرج ذلك مخرج الامر، والمقصود به التهديد والوعيد، والزجر والنهي، فكذلك قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * بمعنى النهي، فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء. وعلى النحو الذي قلنا في معنى قوله: * (أو ما ملكت أيمانكم) * قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * يقول: فإن خفت ألا تعدل في واحدة، فما ملكت يمينك. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أو ما ملكت أيمانكم) *: السراري. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * فإن خفت ألا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك، قوله: * (فإن خفتم ألا تعدلوا) * قال: في المجامعة والحب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك أدنى أن لا تعولوا) *.
[ 318 ]
يعني بقوله تعالى ذكره: وإن خفتم ألا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباع فنكحتم واحدة، أو خفتم ألا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم، فهو أدنى، يعني: أقرب ألا تعولوا، يقول: أن لا تجوروا ولا تميلوا، يقال منه: عال الرجل فهو يعول عولا وعيالة، إذا مال وجار، ومنه عول الفرائض، لان سهامها إذا زادت دخلها النقص، وأما من الحاجة، فإنما يقال: عال الرجل عيلة، وذلك إذا احتاج، كما قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل بمعنى يفتقر. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن: * (ذلك أدنى أن لا تعولوا) * قال: العول: الميل في النساء. حدثنا ابن حميد، قال: ثني حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * يقول: لا تميلوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) *: أن لا تميلوا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة: * (ألا تعولوا) * قال: أن لا تميلوا، ثم قال: أما سمعت إلى قول أبي طالب:
[ 319 ]
بميزان قسط وزنه غير عائل حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن زيد، عن الزبير، عن حريث، عن عكرمة في هذه الآية: * (ألا تعولوا) * قال: أن لا تميلوا، قال: وأنشد بيتا من شعر زعم أن أبا طالب قاله: بميزان قسط لا يخس شعيرة ووازن صدق وزنه غير عائل قال أبو جعفر: ويروى هذا البيت على غير هذه الرواية: بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (ألا تعولوا) * قال: ألا تميلوا. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، قال: كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في شئ عاتبوه عليه فيه: إني لست بميزان لا أعول. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام بن علي، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك في قوله: * (أدنى ألا تعولوا) * قال: لا تميلوا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) *: أدنى أن لا تميلوا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ألا تعولوا) * قال: تميلوا.
[ 320 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * يقول: ألا تميلوا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * يقول: تميلوا. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. قوله: * (أدنى ألا تعولوا) * يعني: ألا تميلوا. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * يقول: ذلك أدنى ألا تميلوا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * قال: ألا تجوروا. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون وعارم أبو النعمان، قالا: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن مجاهد: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * قال: تميلوا. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * ذلك أقل لنفقتك الواحدة، أقل من ثنتين وثلاث وأربع، وجاريتك أهون نفقة من حرة، * (أن لا تعولوا) *: أهون عليك في العيال. القول في تأويل قوله تعالى: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة، وفريضة لازمة، يقال منه: نحل فلان فلانا كذا، فهو ينحله نحلة ونحلا. كما:
[ 321 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * يقول: فريضة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * يعني بالنحلة: المهر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * قال: فريضة مسماة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * قال: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا ينكحها إلا بشئ واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، وليس ينبغي لاحد أن ينكح امرأة بعد النبي (ص) إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق. وقال آخرون: بل عنى بقوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * أولياء النساء، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن سيار، عن أبي صالح، قال: كان الرجل إذا زوج أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك، ونزلت: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) *. وقال آخرون: بل كان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل، على أن يعطيه الآخر أخته، على أن لا كثير مهر بينهما، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر، فقال الله تبارك وتعالى: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) *. قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك التأويل الذي قلناه، وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساء، ونهاهم عن ظلمهن والجور عليهن، وعرفهم سبيل النجاة من ظلمهن، ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صرف
[ 322 ]
عنهم إلى غيرهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قيل لهم: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * هم الذين قيل لهم: * (وآتوا النساء صدقاتهن) * وأن معناه: وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة، لانه قال في الاول: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * ولم يقل: فانكحوا، فيكون قوله: * (وآتوا النساء صدقاتهن) * مصروفا إلى أنه معني به أولياء النساء دون أزواجهن، وهذا أمر من الله أزواج النساء المدخول بهن والمسمى لهن الصداق أن يؤتوهن صدقاتهن دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسم لها في عقد النكاح صداق. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهن، طيبة بذلك أنفسهن، فكلوه هنيئا مريئا. كما: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عمارة، عن عكرمة: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * قال: المهر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة، عن عمارة في قول الله تبارك وتعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * قال: الصدقات. حدثني المثنى، قال: ثني الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * قال: الازواج. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبيدة، قال: قال لي إبراهيم: أكلت من الهنئ المرئ ! قلت: ما ذاك ؟ قال: امرأتك أعطتك من صداقها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه، من شئ أعطته امرأته من صداقها أو غيره، فقال له علقمة: ادن، فكل من الهنئ المرئ !
[ 323 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * يقول: إذا كان غير إضرار ولا خديعة، فهو هنئ مرئ كما قال الله جل ثناؤه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * قال: الصداق، * (فكلوه هنيئا مريئا) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) *. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شئ مما ساق إلى امرأته، فقال الله تبارك وتعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * يقول: ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان، فقد أحل الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا. وقال آخرون: بل عني بهذا القول: أولياء النساء، فقيل لهم: إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهن بصدقاتهن نفسا، فكلوه هنيئا مريئا. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا سيار، عن أبي صالح في قوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * قال: كان الرجل إذا زوج ابنته عمد إلى صداقها فأخذه، قال: فنزلت هذه الآية في الاولياء: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) *. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي قلنا وأن الآية مخاطب بها الازواج، لان افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم، وقوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * في سياقه. وإن قال قائل: فكيف قيل: فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا، وقد علمت أن معنى الكلام: فإن طابت لكم أنفسهن بشئ ؟ وكيف وحدت النفس والمعنى للجميع، وذلك أنه
[ 324 ]
تعالى ذكره قال: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * ؟ قيل: أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب من كلامها المعروف: ضقت بهذا الامر ذراعا وذرعا، وقررت بهذا الامر عينا، والمعنى: ضاق به ذرعي، وقرت به عيني، كما قال الشاعر: إذا التياز ذو العضلات قلنا إليك إليك ضاق بها ذراعا فنقل صفة الذراع إلى رب الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل. وكذلك وحد النفس في قوله: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) * إذ كانت النفس مفسرة لموقع الخبر. وأما توحيد النفس من النفوس، لانه إنما أراد الهوى، والهوى يكون جماعة، كما قال الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
[ 325 ]
وكما قال الآخر: (في حلقكم عظم وقد شجينا) وقال بعض نحويي الكوفة: جائز في النفس في هذا الموضع الجمع والتوحيد، فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا وأنفسا، وضقت به ذراعا وذرعا وأذرعا، لانه منسوب إليك، وإلى من تخبر عنه، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع لان قبله جمعا. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن النفس وقع موقع الاسماء التي تأتي بلفظ الواحد مؤدية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد، وأنه بمعنى الجمع عن الجمع. وأما قوله: * (هنيئا) * فإنه مأخوذ من هنأت البعير بالقطران: إذا جرب فعولج به، كما قال الشاعر: متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب فكان معنى قوله: * (فكلوه هنيئا مريئا) *: فكلوه دواء شافيا، يقال منه: هنأني الطعام ومرأني: أي صار لي دواء وعلاجا شافيا، وهنئني ومرئني بالكسر، وهي قليلة، والذين يقولون هذا القول يقولون يهنأني ويمرأني، والذين يقولون هنأني، يقولون: يهنئني ويمرئني، فإذا أفردوا، قالوا: قد أمرأني هذا الطعام إمراء، ويقال: هنأت القوم: إذا علتهم، سمع من العرب من يقول: إنما سميت هانئا لتهنأ، بمعنى: لتعول وتكفى. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 326 ]
* (ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السفهاء الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم، فقال بعضهم: هم النساء والصبيان. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: اليتامى والنساء. حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: لا تعطوا الصغار والنساء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن الحسن، قال: المرأة والصبي. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن شريك، عن أبي حمزة، عن الحسن قال: النساء والصغار، والنساء أسفه السفهاء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: السفهاء: ابنك السفيه وامرأتك السفيهة، وقد ذكر أن رسول الله (ص)، قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم، والمرأة. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا حميد، عن عبد الرحمن الرؤاسي، عن السدي - قال: يرده إلى عبد الله - قال: النساء والصبيان. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * أما السفهاء: فالولد والمرأة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * يعني بذلك: ولد الرجل وامرأته، وهي أسفه السفهاء. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك
[ 327 ]
في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: السفهاء: الولد والنساء أسفه السفهاء، فيكونوا عليكم أربابا. حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال: أولادكم ونساؤكم. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك، قال: النساء والصبيان. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حميد الاعرج، عن مجاهد: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: النساء والولدان. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا ابن أبي عنبسة، عن الحكم: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: النساء والولدان. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزانته، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلام السفيه. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل، عن أبي مالك، قال: النساء والصبيان. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: امرأتك وبنيك، وقال: السفهاء: الولدان والنساء أسفه السفهاء. وقال آخرون: بل السفهاء: الصبيان خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: هم اليتامى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: * (السفهاء) *: اليتامى.
[ 328 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * يقول: لا تنحلوا الصغار. وقال آخرون: بل عنى بذلك السفهاء من ولد الرجل. ذكر من قال ذلك: حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك، قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده الذي هو قوامك بعد الله تعالى. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * يقول: لا تسلط السفيه من ولدك. فكان ابن عباس يقول: نزل ذلك في السفهاء، وليسوا اليتامى من ذلك في شئ. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الاشعري أنه قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *، ورجل كان له على رجل دين، فلم يشهد عليه. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *... الآية، قال: لا تعط السفيه من ولدك رأسا ولا حائطا ولا شيئا هو لك قيما من مالك. وقال آخرون: بل السفهاء في هذا الموضع: النساء خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فقال الله تبارك وتعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *.
[ 329 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: النساء. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا سفيان، عن الثوري، عن حميد، عن قيس، عن مجاهد في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: هن النساء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * قال: نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم، وهن سفهاء من كن أزواجا أو أمهات أو بنات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا هشام، عن الحسن، قال: المرأة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: النساء من أسفه السفهاء. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي عوانة، عن عاصم، عن مورق قال: مرت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيئة، فقال لها ابن عمر: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *. قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لاحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك. وإنا قلنا ما قلنا من أن المعني بقوله: * (ولا تؤتوا السفهاء) * هو من وصفنا دون غيره، لان الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والاناث، فلم يخصص بالامر يدفع
[ 330 ]
مالهم من الاموال الذكور دون الاناث، ولا الاناث دون الذكور. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم إليهم، وأجيز للمسلمين مبايعتهم، ومعاملتهم غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحظر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم، فإذ كان ذلك كذلك، فبين أن السفهاء الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم، هم المستحقون الحجر، والمستوجبون أن يولى عليهم أموالهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك، فغير سفيه، لان الحجر لا يستحقه من قد بلغ، وأونس رشده. وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلا على فعلاء، إلا في جمع الذكور، أو الذكور والاناث، وأما إذا أرادوا جمع الاناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على فعائل وفعيلات، مثل غريبة تجمع غرائب وغريبات، فأما الغرباء فجمع غريب. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم) * فقال بعضهم: عنى بذلك: لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبيان على ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل أيها الرشداء أموالكم التي تملكونها، فتسلطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم أنتم منها، إن كانوا ممن تلزمكم نفقته، واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفا. وقد ذكرنا الرواية عن جماعة ممن قال ذلك: منهم أبو موسى الاشعري، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، قتادة، وحضرمي، وسنذكر قول الآخرين الذين لم يذكر قولهم فيما مضى قبل. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها) * يقول: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، وأطعمهم من مالك واكسهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) * يقول: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه ويكسوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * قال: لا تعط السفيه من مالك شيئا هو لك.
[ 331 ]
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، ولكنه أضيف إلى الولاة لانهم قوامها ومدبروها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) *. وقد يدخل في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * أموال المنهيين عن أن يؤتوهم ذلك، وأموال السفهاء، لان قوله: * (أموالكم) * غير مخصوص منها بعض الاموال دون بعض، ولا تمنع العرب أن تخاطب قوما خطابا، فيخرج الكلام بعضه خبر عنهم وبعضه عن غيب، وذلك نحو أن يقولوا: أكلتم يا فلان أموالكم بالباطل فيخاطب الواحد خطاب الجمع بمعنى: أنك وأصحابك، أو وقومك أكلتم أموالكم، فكذلك قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء) * معناه: لا تؤتوا أيها الناس سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم، فتضيعوها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد عم بالنهي عن إيتاء السفهاء الاموال كلها، ولم يخصص منها شيئا دون شئ، كان بينا بذلك أن معنى قوله: * (التي جعل الله لكم قياما) * إنما هو التي جعل الله لكم ولهم قياما، ولكن السفهاء دخل ذكرهم في ذكر المخاطبين بقوله: لكم. وأما قوله: * (التي جعل الله لكم قياما) * فإن قياما وقيما وقواما في معنى واحد، وإنما القيام أصله القوام، غير أن القاف التي قبل الواو لما كانت مكسورة، جعلت الواو ياء لكسرة ما قبلها، كما يقال: صمت صياما، وحلت حيالا، ويقال منه: فلان قوام أهل بيته، وقيام أهل بيته. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: * (التي جعل الله لكم قيما) * بكسر القاف وفتح الياء بغير ألف. وقرأه آخرون: * (قياما) * بألف. قال محمد: والقراءة التي نختارها: * (قياما) * بالالف، لانها القراءة المعروفة في قراءة أمصار الاسلام، وإن كانت الاخرى غير خطأ ولا فاسد. وإنما اخترنا ما اخترنا من ذلك، لان القراءات إذا اختلفت في الالفاظ واتفقت في المعاني، فأعجبها إلينا ما كان أظهر وأشهر في قراءة أمصار الاسلام.
[ 332 ]
وبنحو الذي قلناه في تأويل قوله: * (قياما) * قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *: التي هي قوامك بعد الله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * فإن المال هو قيام الناس قوام معايشهم، يقول: كنت أنت قيم أهلك، فلا تعط امرأتك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. قال: وقوله: * (قياما) * بمعنى: قوامكم في معايشكم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن قوله: * (قياما) * قال: قيام عيشك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا بكر بن شرود، عن ابن مجاهد أنه قرأ: * (التي جعل الله لكم قياما) * بالالف، يقول: قيام عيشك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أموالكم التي جعل الله لكم قياما) * قال: لا تعط السفيه من ولدك شيئا هو لك قيم من مالك. وأما قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فأما الذين قالوا: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * أولياء السفهاء، لا أموال السفهاء، فإنهم قالوا: معنى ذلك: وارزقوا أيها الناس سفهاءكم من نسائكم وأولادكم من أموالكم طعامهم، وما لا بد لهم منه من مؤنهم وكسوتهم. وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى، وسنذكر من لم يذكر من قائليه.
[ 333 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أمروا أن يرزقوا سفهاءهم من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم من أموالهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: * (وارزقوهم) * قال: يقول: أنفقوا عليهم. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * يقول: أطعمهم من مالك واكسهم. وأما الذين قالوا: إنما عنى بقوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * أموال السفهاء أن لا يؤتيهموها أولياؤهم، فإنهم قالوا: معنى قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) *: وارزقوا أيها الولاة ولاة أموال سفهاءكم من أموالهم، طعامهم وما لا بد لهم من مؤنهم وكسوتهم. وقد مضى ذكر ذلك. قال أبو جعفر: وأما الذي نراه صوابا في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * من التأويل، فقد ذكرناه، ودللنا على صحة ما قلنا في ذلك بما أغنى عن إعادته. فتأويل قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * على التأويل الذي قلنا في قوله: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * وألفوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم في أموالكم، ولا تسلطوهم على أموالكم فيهلكوها، وعلى سفهائكم منهم ممن لا تجب عليكم نفقته، ومن غيرهم الذين تلون أنتم أمورهم من أموالهم فيما لا بد لهم من مؤنهم في طعامهم وشرابهم وكسوتهم، لان ذلك هو الواجب من الحكم في قول جميع الحجة، لا خلاف بينهم في ذلك مع دلالة ظاهر التنزيل على ما قلنا في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقولوا لهم قولا معروفا) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: عدهم عدة جميلة من البر والصلة. ذكر من قال ذلك:
[ 334 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * قال: أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة. يعني النساء، وهن السفهاء عنده. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * قال: عدة تعدوهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادعوا لهم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * إن كان ليس من ولدك، ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه، فقل لهم قولا معروفا، قل لهم: عافانا الله وإياك، وبارك الله فيك. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال في ذلك بالصحة، ما قاله ابن جريج، وهو أن معنى قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) *: أي قولوا يا معشر ولاة السفهاء قولا معروفا للسفهاء، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم وخلينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم. وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حث على طاعة الله ونهي عن معصيته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (وابتلوا اليتامى) *: واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله: * (وابتلوا اليتامى) * قالا: يقول: اختبروا اليتامى. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما ابتلوا اليتامى: فجربوا عقولهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وابتلوا اليتامى) * قال: عقولهم.
[ 335 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وابتلوا اليتامى) * قال: اختبروهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) * قال: اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو إذا عرف أنه قد أنس منه رشد دفع إليه ماله. قال: وذلك بعد الاحتلام. قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الابتلاء: الاختبار، بما فيه الكفاية عن إعادته. وأما قوله: * (إذا بلغوا النكاح) * فإنه يعني: إذا بلغوا الحلم. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (حتى إذا بلغوا النكاح) *: حتى إذا احتلموا. حدثني علي بن داود قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (حتى إذا بلغوا النكاح) * قال: عند الحلم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (حتى إذا بلغوا النكاح) * قال: الحلم. القول في تأويل قوله: * (فإن آنستم منهم رشدا) *. يعني قوله: * (فإن آنستم منهم رشدا) *: فإن وجدتم منهم وعرفتم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فإن آنستم منهم رشدا) * قال: عرفتم منهم. يقال: آنست من فلان خيرا وقرئ بمد الالف إيناسا، وأنست به آنس أنسا بقصر ألفها: إذا ألفه. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله: فإن أحسيتم منهم رشدا بمعنى: أحسستم: أي وجدتم. واختلف أهل التأويل في معنى الرشد الذي ذكره الله في هذه الآية، فقال بعضهم: معنى الرشد في هذا الموضع: العقل والصلاح في الدين. ذكر من قال ذلك:
[ 336 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإن آنستم منهم رشدا) * عقولا وصلاحا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن آنستم منهم رشدا) * يقول: صلاحا في عقله ودينه. وقال آخرون: معنى ذلك: صلاحا في دينهم، وإصلاحا لاموالهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن مبارك، عن الحسن، قال: رشدا في الدين وصلاحا وحفظا للمال. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فإن آنستم منهم رشدا) * في حالهم، والاصلاح في أموالهم. وقال آخرون: بل ذلك العقل خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: لا ندفع إلى اليتيم ماله، وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخا، حتى يؤنس منه رشده: العقل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: * (فإن آنستم منهم رشدا) * قال: العقل. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو شبرمة، عن الشعبي، قال: سمعته يقول: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده. وقال آخرون: بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (فإن آنستم منهم رشدا) * قال: صلاحا وعلما بما يصلحه. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع: العقل وإصلاح المال، لاجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه، وإن كان فاجرا في دينه. وإذ كان ذلك إجماعا من الجميع،
[ 337 ]
فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يدي وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته، واجب عليه تسليم ماله إليه، إذا كان عاقلا بالغا، مصلحا لماله، غير مفسد، لان المعنى الذي به يستحق أن يولي على ماله الذي هو في يده، هو المعنى الذي به يستحق أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد ولي، فإنه لا فرق بين ذلك. وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح ما في يده، الدليل الواضح على أنه غير جائز منع يده مما هو له في مثل ذلك الحال، وإن كان قبل ذلك في يد غيره لا فرق بينهما. ومن فرق بين ذلك عكس عليه القول في ذلك، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن كان ما وصفنا من الجميع إجماعا، فبين أن الرشد الذي به يستحق اليتيم إذا بلغ فأونس منه دفع ماله إليه، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله. القول في تأويل قوله تعالى: * (فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا) *. يعني بذلك تعالى ذكره: ولاة أموال اليتامى، يقول الله لهم: فإذا بلغ أيتامكم الحلم، فآنستم منهم عقلا وإصلاحا لاموالهم، فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تحبسوها عنهم. وأما قوله: * (ولا تأكلوها إسرافا) * يعني: بغير ما أباحه الله لكم. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن: * (ولا تأكلوها إسرافا) * يقول: لا تسرف فيها. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تأكلوها إسرافا) * قال: يسرف في الاكل. وأصل الاسراف: تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الافراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الافراط، فاللغة المستعملة فيه أن يقال: أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان كذلك في التقصير، فالكلام منه: سرف يسرف سرفا، يقال: مررت بكم فسرفتكم، يراد منه: فسهوت عنكم وأخطأتكم، كما قال الشاعر: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
[ 338 ]
يعني بقوله: ولا سرف: لا خطأ فيه، يراد به: أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وبدارا أن يكبروا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وبدارا) * ومبادرة، وهو مصدر من قول القائل: بادرت هذا الامر مبادرة وبدارا. وإنما يعني بذلك جل ثناؤه: ولاة أموال اليتامى، يقول لهم: لا تأكلوا أموالهم إسرافا، يعني: ما أباح الله لكم أكله، ولا مبادرة منكم بلوغهم، وإيناس الرشد منهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (إسرافا وبدارا) * يعني: أكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا) * يقول: لا تسرف فيها، ولا تبادر. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وبدارا) * تبادرا أن يكبروا، فيأخذوا أموالهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: * (إسرافا وبدارا) * قال: هذه لولي اليتيم خاصة، جعل له أن يأكل معه إذا لم يجد شيئا يضع يده معه، فيذهب بوجهه، يقول: لا أدفع إليه ماله، وجعلت تأكله تشتهي أكله، لانك إن لم تدفعه إليه لك فيه نصيب، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب. وموضع أن في قوله: أن يكبروا نصب بالمبادرة، لان معنى الكلام: لا تأكلوها مبادرة كبرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *.
[ 339 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (ومن كان غنيا * من ولاة أموال اليتامى على أموالهم، * (فليستعفف) * بماله عن أكلها بغير الاسراف والبدار أن يكبروا، بما أباح الله له أكلها به. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف) * قال: لغناه من ماله، حتى يستغني عن مال اليتيم. وبه قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف) * بغناه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: من مال نفسه، ومن كان فقيرا منهم إليها محتاجا فليأكل بالمعروف. قال أبو ظجعفر: ثم اختلف أهل التأويل في المعروف الذي أذن الله جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها، فقال بعضهم: ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن زهير، عن العلاء بن المسيب، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: هو القرض. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، أنه قال في هذه الآية: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: الذي ينفق من مال اليتيم يكون عليه قرضا.
[ 340 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إنما هو قرض، ألا ترى أنه قال: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * ؟ قال: فظننت أنه قالها برأيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام، عن محمد، عن عبيدة في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * وهو عليه قرض. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: المعروف: القرض، ألا ترى إلى قوله: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * ؟ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثل حديث هشام. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * يعني: القرض. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * يقول: إن كان غنيا فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا، وإن كان فقيرا فليستقرض منه، فإذا وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه، فذلك أكله بالمعروف. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي يذكر عن حماد، عن سعيد بن جبير، قال: يأكل قرضا بالمعروف. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن سعيد بن جبير، قال: هو القرض ما أصاب منه من شئ قضاه إذا أيسر، يعني قوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدسوائي، قال: ثنا حماد، قال: سألت سعيد بن جبير، عن هذه الآية: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إن أخذ
[ 341 ]
من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد قضاه، وإن حضره الموت ولم يوسر تحلله من اليتيم، وإن كان صغيرا تحلله من وليه. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: فليأكل قرضا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: * (ومن كان فقيرا فيأكل بالمعروف) * قال: هو القرض. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه شيئا قضاه. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فليأكل بالمعروف) * قال: قرضا. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فليأكل بالمعروف) * قال: سلفا من مال يتيمه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وعن حماد، عن سعيد بن جبير: * (فليأكل بالمعروف) * قالا: هو القرض. قال الثوري: وقاله الحكم أيضا، ألا ترى أنه قال: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * ؟ حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حجاج، عن مجاهد، قال: هو القرض ما أصاب منه من شئ قضاه إذا أيسر، يعني: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: * (فليأكل بالمعروف) * قال: القرض، ألا ترى إلى قوله: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم) * ؟. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: قرضا.
[ 342 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا احتاج الولي أو افتقر فلم يجد شيئا، أكل من مال اليتيم، وكتبه، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة دعا اليتيم فاستحل منه ما أكل. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * من مال اليتيم بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه. واختلف قائلو هذا القول في معنى أكل ذلك بالمعروف، فقال بعضهم: أن يأكل من طعامه بأطراف الاصابع، ولا يلبس منه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن السدي، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يقول: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: بأطراف أصابعه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله الاشجعي، عن سفيان، عن السدي، عمن سمع ابن عباس يقول، فذكر مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * يقول: فمن كان غنيا من ولي مال اليتيم فليستعفف عن ماله، ومن كان فقيرا من ولي مال اليتيم فليأكل معه بأصابعه، لا يسرف في الاكل، ولا يلبس. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي بن عمارة، قال: ثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة في مال اليتيم: يدك مع أيديهم، ولا تتخذ منه قلنسوة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وعكرمة، قالا: تضع يدك مع يده. وقال آخرون: بل المعروف في ذلك، أن يأكل ما يسد جوعه ويلبس ما وارى العورة. ذكر من قال ذلك:
[ 343 ]
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم، قال: إن المعروف ليس يلبس الكتان ولا الحلل، ولكن ما سد الجوع ووارى العورة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال: ليس المعروف يلبس الكتان والحلل، ولكن المعروف ما سد الجوع ووارى العورة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم نحوه. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو معبد، قال: سئل مكحول عن ولي اليتيم، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرا ؟ قال: يده مع يده. قيل له: فالكسوة ؟ قال: يلبس من ثيابه، فأما أن يتخذ من ماله مالا لنفسه فلا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الاشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (فليأكل بالمعروف) * قال: ما سد الجوع، ووارى العورة، أما أنه ليس لبوس الكتان والحلل. وقال آخرون: بل ذلك المعروف أكل تمره وشرب رسل ماشيته بقيامه على ذلك، فأما الذهب والفضة فليس له أخذ شئ منهما إلا على وجه القرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أموال أيتام ؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها. فقال ابن عباس: ألست تبغي ضالتها ؟ قال: بلى. قال: ألست تهنأ جرباها ؟ قال: بلى. قال: ألست تليط حياضها ؟ قال: بلى. قال: ألست تفرط عليها يوم ورودها ؟ قال: بلى. قال: فأصب من رسلها، يعني: من لبنها.
[ 344 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس، فقال: إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا ولي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن أبي العالية في هذه الآية: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: من فضل الرسل والثمرة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن أبي العالية في والي مال اليتيم، قال: يأكل من رسل الماشية، ومن الثمرة لقيامه عليه، ولا يأكل من المال، وقال: ألا ترى أنه قال: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم) * ؟. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود، عن رفيع أبي العالية، قال: رخص لولي اليتيم أن يصيب من الرسل، ويأكل من الثمرة، وأما الذهب والفضة فلا بد أن ترد. ثم قرأ: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم) * ألا ترى أنه قال: لا بد من أن يدفع ؟. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: إنما كانت أموالهم أدخال النخل والماشية، فرخص لهم إذا كان أحدهم محتاجا أن يصيب من الرسل. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إذا كان فقيرا أكل من التمر، وشرب من اللبن وأصاب من الرسل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ذكر لنا أن عم ثابت بن رفاعة - وثابت يومئذ يتيم في حجره - من
[ 345 ]
الانصار، أتى نبي الله (ص)، فقال: يا نبي الله، إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله ؟ قال: أن تأكل بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله، ولا تتخذ من ماله وفرا وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل، فيقوم وليه على صلاحه وسقيه، فيصيب من ثمرته. أو تكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها، أو يلي علاجها ومؤنتها فيصيب من جزازها وعوارضها ورسلها، فأما رقاب المال وأصول المال، فليس له أن يستهلكه. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * يعني: ركوب الدابة وخدمه الخادم، فإن أخذ من ماله قرضا في غنى، فعليه أن يؤديه، وليس له أن يأكل من ماله شيئا. وقال آخرون منهم: له أن يأكل من جميع المال إذا كان يلي ذلك وإن أتى على المال ولا قضاء عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسماعيل بن صبيح، عن أبي إدريس، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا، عن القاسم بن محمد، قال: سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلح لولي اليتيم ؟ قال: إن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب كان يقول: يحل لولي الامر ما يحل لولي اليتيم، من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا الفضل بن عطية، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إذا احتاج فليأكل بالمعروف، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه.
[ 346 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى، فقال: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ومعروف ذلك: أن يتقي الله في يتيمه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى قضاء على ولي اليتيم إذا أكل وهو محتاج. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: * (فليأكل بالمعروف) * في الوصي قال: لا قضاء عليه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إذا عمل فيه ولي اليتيم أكل بالمعروف. حدثنا بشر بن محمد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إذا احتاج أكل بالمعروف من المال، طعمة من الله له. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن البصري، قال: قال رجل للنبي (ص): إن في حجري يتيما أفأضربه ؟ قال: فيما كنت ضاربا منه ولدك ؟ قال: أفأصيب من ماله ؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا، ولا واق مالك بماله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن الزبير بن موسى، عن الحسن البصري، مثله. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء أنه قال: يضع يده مع أيديهم، فيأكل معهم. كقدر خدمته وقدر عمله.
[ 347 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ولي اليتيم إذا كان محتاجا يأكل بالمعروف لقيامه بماله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله تبارك وتعالى: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * قال: إن استغنى كف، وإن كان فقيرا أكل بالمعروف. قال: أكل بيده معهم لقيامه على أموالهم وحفظه إياها، يأكل مما يأكلون منه، وإن استغنى كف عنه ولم يأكل منه شيئا. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب، قول من قال بالمعروف الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *: أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه على وجه الاستقراض منه، فأما على غير ذلك الوجه، فغير جائز له أكله. وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته. فلما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه، وكان غير جائز لاحد أن يستهلك مال أحد غيره، يتيما كان رب المال أو مدركا رشيدا، وكان عليه إن تعدى فاستهلكه بأكل أو غيره ضمانه لمن استهلكه عليه بإجماع من الجميع، وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه، كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه سبيله سبيل غيره وإن فارقه في أن له الاستقراض منه عند الحاجة إليه كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه إذا كان قيما بما فيه مصلحته، ولا معنى لقول من قال: إنما عنى بالمعروف في هذا الموضع أكل والي اليتيم، من مال اليتيم، لقيامه على وجه الاعتياض على عمله وسعيه، لان الوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك بأجرة معلومة، كما يستأجر له غيره من الاجراء، وكما يشتري له من نصيبه غنيا كان الوالي أو فقيرا. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد دل بقوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * على أنه أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من ولاته في حال الفقر والحاجة، وكانت الحال التي للولاة أن يؤجروا أنفسهم من الايتام مع حاجة الايتام إلى الاجراء، غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر، كان معلوما أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كل أحوالهم، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال. ومن أبى ما قلنا ممن زعم أن لولي اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض استدلالا بهذه الآية، قيل له: أمجمع على أن الذي قلت تأويل
[ 348 ]
قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * ؟ فإن قال لا، قيل له: فما برهانك على أن ذلك تأويله، وقد علمت أنه غير مالك مال يتيمه ؟ فإن قال: لان الله أذن له بأكله، قيل له: أذن له بأكله مطلقا، أم بشرط ؟ فإن قال بشرط، وهو أن يأكله بالمعروف، قيل له: وما ذلك المعروف وقد علمت القائلين من الصحابة والتابيعن ومن بعدهم من الخالفين إن ذلك هو أكله قرضا وسلفا ؟ ويقال لهم أيضا مع ذلك: أرأيت المولى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه الولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه على غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم ؟ فإن قالوا ذلك لهم، خرجوا من قول جميع الحجة، وإن قالوا ليس ذلك لهم، قيل لهم: فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى وحكم ولاتهم واحد في أنهم ولاة أموال غيرهم ؟ فلن يقولوا في أحدهما شيئا إلا ألزموا في الآخر مثله. ويسألون كذلك عن المحجور عليه، هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه ؟ نحو سؤالناهم عن أموال المجانين والمعاتيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *. قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا دفعتم يا معشر ولاة أموال اليتامى إلى اليتامى أموالهم، فأشهدوا عليهم، يقول: فأشهدوا على الايتام باستيفائهم ذلك منكم ودفعكموه إليهم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * يقول: إذا دفع إلى اليتيم ماله، فليدفعه إليه بالشهود، كما أمره الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكفى بالله حسيبا) *. يقول تعالى ذكره: وكفى بالله كافيا من الشهود الذي يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وكفى بالله حسيبا) * يقول: شهيدا. يقال منه: قد أحسبني الذي عندي، يراد به: كفاني. وسمع من العرب: لاحسبنكم من الاسودين، يعني به: من الماء والتمر، والمحسب من الرجال: المرتفع الحسب، والمحسب: المكفي. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 349 ]
* (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *. يعني بذلك تعالى ذكره: للذكور من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه وللاناث منهم حصة منه، من قليل ما خلف بعده وكثيره حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقتة. وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الاناث. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا لا يورثون النساء، فنزلت: * (وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الانصار، كان أحدهم زوجها، والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته، فلم نورث، فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا، ولا تحمل كلا، ولا تنكأ عدوا يكسب عليها، ولا تكتسب. فنزلت: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) * قال: كان النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث ولا يرث الصغير وإن كان ذكرا، فقال الله تبارك وتعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون) * إلى قوله: * (نصيبا مفروضا) *. قال أبو جعفر: ونصب قوله: * (نصيبا مفروضا) * وهو نعت للنكرة لخروجه مخرج المصدر، كقول القائل: لك علي حق واجبا، ولو كان مكان قوله: * (نصيبا مفروضا) * اسم صحيح لم يجز نصبه، لا يقال: لك عندي حق درهما، فقوله: * (نصيبا مفروضا) * كقوله: نصيبا فريضة وفرضا، كما يقال: عندي درهم هبة مقبوضة. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 350 ]
* (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو محكم، أو منسوخ ؟ فقال بعضهم: هو محكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال محكمة، وليست منسوخة، يعني قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) *... الآية. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا: هي محكمة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: واجب، ما طابت به أنفس أهل الميراث. وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا الاشجعي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الاشجعي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي، قالا: هي محكمة ليست بمنسوخة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن عبد الرحمن، عن سفيان، وثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، أنه سئل عن قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * فقال سعيد: هذه الآية يتهاون بها الناس. قال: وهما وليان: أحدهما يرث والآخر لا يرث، والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم، قال:
[ 351 ]
يعطيهم، قال: والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا. وهي محكمة وليست بمنسوخة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم بنحو ذلك، وقال: هي محكمة وليس بمنسوخة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن مطرف، عن الحسن، قال: هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور والحسن، قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: هي قائمة يعمل بها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * ما طابت به الانفس حقا واجبا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن والزهري، قالا في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * قال: هي محكمة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن قتادة، عن يحيى بن يعمر، قال: ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس: هذه الآية: وآية الاستئذان: * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) *، وهذه الآية: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) *. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: هي ثابتة. وقال آخرون: منسوخة. ذكر من قال ذلك:
[ 352 ]
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد أنه قال في هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * قال: كانت هذه الآية قسمة قبل المواريث، فلما أنزل الله المواريث لاهلها جعلت الوصية لذوي القرابة الذين يحزنون ولا يرثون. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا قرة بن خالد، عن قتادة، قال: سألت سعيد بن المسيب، عن هذه الآية: * (وإذ احضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * قال: هي منسوخة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث، فلما كانت الفرائض والمواريث نسخت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، قال: نسختها آية الميراث. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الاشجعي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، مثله. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى) *... الآية، إلى قوله: * (قولا معروفا) *، وذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: نسختها المواريث. وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، غير أن معنى ذلك: وإذا حضر القسمة، يعني بها: قسمة الميت ماله بوصيته لمن كان يوصي له به. قالوا: وأمر بأن يجعل وصيته في ماله لمن سماه الله تعالى في هذه الآية. ذكر من قال ذلك: حدثنا سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد: أن عبد الله بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه
[ 353 ]
وعائشة حية، فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه. وتلا هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: ما أصاب إنما هذه الوصية. يريد الميت، أن يوصي لقرابته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن القاسم بن محمد أخبره أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم، فذكر نحوه. حدثنا عمران بن موسى الصفار، قال: ثنا عبد الوار ث بن سعيد، قال: ثنا داود، عن سعيد بن المسيب في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * قال: أمر أن يوصي بثلثه في قرابته. حدثنا ابن المبارك، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن سعيد بن المسيب، قال: إنما ذلك عند الوصية في ثلثه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن سعيد بن المسيب: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * قال: هي الوصية من الناس. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * قال: القسمة: الوصية، كان الرجل إذا أوصى قالوا: فلان يقسم ماله، فقال: ارزقوهم منه، يقول: أوصوا لهم، يقول للذي يوصي: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * فإن لم توصوا لهم، فقولوا لهم خيرا. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصحة قول من قال: هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما عنى بها: الوصية لاولي قربى الموصي، وعنى باليتامى والمساكين أن يقال لهم قول معروف. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة من غيره لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى التي أثبتها في كتابه أو بينها على لسان رسوله (ص) غير جائز فيه أن يقال له ناسخ لحكم آخر، أو منسوخ بحكم آخر، إلا والحكمان اللذان قضى
[ 354 ]
لاحدهما بأنه ناسخ، والآخر بأنه منسوخ ناف كل واحد منهما صاحبه، غير جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه، وإن كان جائزا صرفه إلى غير النسخ، أو يقوم بأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ، حجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك لما قد دللنا في غير موضع، وكان قوله تعالى ذكره: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * محتملا أن يكون مرادا به: وإذا حضر قسمة مال قاسم ماله بوصية، أولو قرابته واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه، يراد: فأوصوا لاولي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه، وقولوا لليتامى والمساكين قولا معروفا، كما قال في موضع آخر: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) * ولا يكون منسوخا بآية الميراث لم يكن لاحد صرفه إلى أنه منسوخ بآية الميراث، إذ كان لا دلالة على أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة، وهو محتمل من التأويل ما بينا. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: * (وإذا حضر القسمة) * قسمة الموصي ماله بالوصية أولو قرابته واليتامى والمساكين، فارزقوهم منه، يقول: فاقسموا لهم منه بالوصية، يعني: فأوصوا لاولي القربى من أموالكم، وقولوا لهم، يعني الآخرين وهم اليتامى والمساكين، قولا معروفا، يعني: يدعى لهم بخير، كما قال ابن عباس وسائر من ذكرنا قوله قبل. وأما الذين قالوا: إن الآية منسوخة بآية المواريث، والذين قالوا: هي محكمة والمأمور بها ورثة الميت، فإنهم وجهوا قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * يقول: فأعطوهم منه، وقولوا لهم قولا معروفا. وقد ذكرنا بعض من قال ذلك، وسنذكر بقية من قال ذلك ممن لم نذكره. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) * أمر الله جل ثناؤه المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم من الوصية إن كان أوصى، وإن لم تكن وصية وصل إليهم من مواريثهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) *... الآية، يعني: عند قسمة الميراث.
[ 355 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة: أن أباه أعطاه من ميراث المصعب حين قسم ماله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن ابن سيرين، قال: كانوا يرضخون لهم عند القسمة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن حطان: أن أبا موسى أمر أن يعطوا إذا حضر قسمة الميراث أولو القربى واليتامى والمساكين والجيران من الفقراء. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، وابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، قال: قسم أبو موسى بهذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان، عن أبي موسى في هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة) *.. الآية، قال: قضى بها أبو موسى. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر في الميراث إذا قسم، قال: كانوا يعطون منه التابوت، والشئ الذي يستحيا من قسمته. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن الحسن وسعيد بن جبير، كانا يقولان: ذاك عند قسمة الميراث. حدثنا أبو كريب قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي العالية والحسن، قالا: يرضخون ويقولون قولا معروفا في هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة) *. ثم اختلف الذين قالوا: هذه الآية محكمة، وإن القسمة لاولي القربى واليتامى والمساكين واجبة على أهل الميراث إن كان بعض أهل الميراث صغيرا فقسم عليه الميراث ولي ماله. فقال بعضهم: ليس لولي ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا، لانه لا يملك من المال شيئا، ولكنه يقول لهم قولا معروفا. قالوا: والذي أمره الله بأن يقول لهم معروفا هو
[ 356 ]
ولي مال اليتيم إذا قسم مال اليتيم بينه وبين شركاء اليتيم، إلا أن يكون ولي ماله أحد الورثة، فيعطيهم من نصيبه ويعطيهم من يجوز أمره في ماله من أنصبائهم. قالوا: فأما من مال الصغير الذي يولي على ماله لا يجوز لولي أن يعطيهم منه شيئا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد، قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * قال: إن كان الميت أوصى لهم بشئ أنفذت لهم وصيتهم، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارا قال وليهم إني لست أملك هذا المال وليس لي وإنما هو للصغار، فذلك قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * قال: هما وليان: ولي يرث، وولي لا يرث، فأما الذي يرث فيعطى، وأما الذي لا يرث، فقولوا له قولا معروفا. حدثني ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا ابن داود، عن الحسن وسعيد بن جبير، كانا يقولان: ذلك عند قسمة الميراث، إن كان الميراث لمن قد أدرك، فله أن يكسو منه، وأن يطعم الفقراء والمساكين، وإن كان الميراث ليتامى صغار، فيقول الولي: إنه ليتامى صغار، ويقول لهم قولا معروفا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كبارا رضخوا، وإن كانوا صغارا اعتذروا إليهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن سليمان الشيباني، عن عكرمة: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) * قال: كان ابن عباس يقول: إذا ولي شيئا من ذلك يرضخ لاقرباء الميت، وإن لم يفعل اعتذر إليهم وقال لهم قولا معروفا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * هذه تكون على ثلاثة أوجه: أما الاول: فيوصي لهم وصية فيحضرون ويأخذون وصيتهم. وأما الثاني: فإنهم يحضرون فيقتسمون إذا كانوا رجالا فينبغي لهم أن
[ 357 ]
يعطوهم. وأما الثالث: فتكون الورثة صغارا، فيقوم وليهم إذا قسم بينهم، فيقول للذين حضروا: حقكم حق وقرابتكم قرابة ولو كان لي في الميراث نصيب لاعطيتكم، ولكنهم صغار، فإن يكبروا فسيعرفون حقكم. فهذا القول المعروف. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رجل، عن سعيد أنه قال: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * قال: إذا كان الوارث عند القسمة، فكان الاناء والشئ الذي لا يستطاع أن يقسم فليرضخ لهم، وإن كان الميراث لليتامى، فليقل لهم قولا معروفا. وقال آخرون منهم: ذلك واجب في أموال الصغار والكبار لاولي القربى واليتامى والمساكين، فإن كان الورثة كبارا، تولوا عند القسمة إعطاءهم ذلك، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك منهم ولي مالهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * فحدث عن محمد، عن عبيدة: أنه ولي وصية، فأمر بشاة فذبحت، وصنع طعاما لاجل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. قال: وقال الحسن: لم تنسخ، كانوا يحضرون فيعطون الشئ والثوب الخلق. قال يونس: إن محمد بن سيرين ولي وصية - أو قال أيتاما - فأمر بشاة فذبحت، فصنع طعاما، كما صنع عبيدة. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد: أن عبيدة قسم ميراث أيتام، فأمر بشاة فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لاحببت أن يكون من مالي. ثم قرأ هذه الآية: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) *... الآية. فكأن من ذهب من القائلين القول الذي ذكرناه عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ومن قال: يرضخ عند قسمة الميراث لاولي القربى واليتامى والمساكين تأول قوله: * (فارزقوهم منه) *: فأعطوهم منه. وكأن الذين ذهبوا إلى ما قال عبيدة وابن سيرين، تأولوا قوله: * (فارزقوهم منه) *: فأطعموهم منه. واختلفوا في تأويل قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * فقال بعضهم: هو أمر من الله تعالى ذكره ولاة اليتامى أن يقولوا لاولي قرابتهم ولليتامى والمساكين إذا حضروا قسمتهم
[ 358 ]
مال من ولوا عليه ماله من الاموال بينهم وبين شركائهم من الورثة فيها أن يعتذروا إليهم على نحو ما قد ذكرناه فيما مضى من الاعتذار. كما: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * قال: هو الذي لا يرث أمر أن يقول لهم قولا معروفا. قال: يقول: إن هذا المال لقوم غيب، أو ليتامى صغار ولكن فيه حق، ولسنا نملك أن نعطيكم منه شيئا. قال: فهذا القول المعروف. وقال آخرون: بل المأمور بالقول المعروف الذي أمر جل ثناؤه أن يقال له هو الرجل الذي يوصي في ماله، والقول المعروف هو الدعاء لهم بالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الخير. وقد ذكرنا قائلي ذلك أيضا فيما مضى بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: * (وليخش) *: ليخف الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية به فيمن لا يرثه، ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده، كما لو كان هو الموصي، يسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) *... إلى آخر الآية. فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله سبحانه الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة. حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * يعني: الذي يحضره الموت، فيقال له: تصدق من مالك، وأعتق، وأعط منه في سبيل الله، فنهوا أن يأمروه بذلك. يعني: أن من حضر منكم مريضا عند الموت، فلا يأمره
[ 359 ]
أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبين ماله، وما عليه من دين، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، ويوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف - يعني صغار - أن يتركهم بغير مال، فيكونوا عيالا على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لانفسكم ولا أولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * قال: يقول: من حضر ميتا فليأمره بالعدل والاحسان، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (وليخشى الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * قال: إذا حضر ت وصية ميت، فمره بما كنت آمرا نفسك بما تتقرب به إلى الله، وخف في ذلك ما كنت خائفا على ضعفتك لو تركتهم بعدك. يقول: فاتق الله وقل قولا سديدا، إن هو زاغ. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) * الرجل يحضره الموت، فيحضره القوم عند الوصية، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له: أوص بمالك كله وقدم لنفسك، فإن الله سيرزق عيالك، ولا يتركوه يوصي بماله كله، يقول للذين حضروا: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * فيقول كما يخاف أحدكم على عياله لو مات - إذ يتركهم صغارا ضعافا لا شئ لهم - الضيعة بعده، فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم، فيقول له القول السديد. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، قال: ذهبت أنا والحكم بن عيينة إلى سعيد بن جبير، فسألناه عن قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *... الآية، قال: قال الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: اتق الله، صلهم، أعطهم، برهم، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية لاحبوا أن يبقوا لاولاهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن
[ 360 ]
حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير في قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * قال: يحرضهم اليتامى فيقولون: اتق الله وصلهم وأعطهم، فلو كانوا هم لاحبوا أن يبقوا لاولادهم. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *... الآية، يقول: إذا حضر أحدكم من حضره الموت عند وصيته، فلا يقل: أعتق من مالك وتصدق، فيفرق ماله ويدع أهله عيلا، ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله، ويدع سائره لورثته. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) *... الآية. قال: هذا يفرق المال حين يقسم، فيقول الذين يحضرون: أقللت زد فلانا ! فيقول الله تعالى: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) * فليخش أولئك وليقولوا فيهم مثل ما يحب أحدهم أن يقال في ولده بالعدل إذا أكثر: أبق على ولدك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي، الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم، أن ينهوه عن الوصية لاقربائه، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي لسرهم أن يوصي لهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، قال: ذهبت أنا والحكم بن عيينة، فأتينا مقسما، فسألناه، يعني عن قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) *... الآية، فقال: ما قال سعيد بن جبير ؟ فقلنا: كذا وكذا. فقال: ولكنه الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: اتق الله وأمسك عليك مالك، فليس أحد أحق بمالك من ولدك ! ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم، لاحبوا أن يوصي لهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري،
[ 361 ]
عن حبيب بن أبي ثابت قال: قال مقسم: هم الذين يقولون: اتق الله وأمسك عليك مالك، فلو كان ذا قرابة لهم لاحبوا أن يوصي لهم. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي، وقرأ: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * قال: قالوا حقيق أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لاهلها، كما أن لو كانت ذرية نفسه بتلك المنزلة لاحب أن يوصي لهم، وإن كان هو الوارث فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحق عليه، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحب أن يحث عليه، فليتق الله هو، فليأمره بالوصية وإن كان هو الوارث، أو نحوا من ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك أمر من الله ولاة اليتامى أن يلوهم بالاحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بالاحسان إليهم لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) * يعني بذلك: الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم، يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى، فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا، فليتقوا الله، وليقولوا قولا سديدا. وقال آخرون: معنى ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا، يكفيهم الله أمر ذريتهم بعدهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا إبراهيم بن عطية بن دريج بن عطية، قال: ثني عمي محمد بن دريج، عن أبيه، عن الشيباني، قال: كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانئ بن كلثوم، قال: فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، قال: فضقت ذرعا بما سمعت، قال: فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشر بودي أنه لا يولد لي ولد أبدا ! قال: فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل، إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى. قال: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال:
[ 362 ]
قلت بلى، قال: فتلا عند ذلك هذه الآية: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *. قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية قول من قال: تأويل ذلك: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرقوا أمولهم في حياتهم، أو قسموها وصية منهم بها لاولي قرابتهم وأهل اليتم والمسكنة، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم بعدهم مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب، فليأمروا من حضروه، وهو يوصي لذوي قرابته - وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك - بماله بالعدل، وليتقوا الله، وليقولوا قولا سديدا، وهو أن يعرفوه ما أباح الله له من الوصية وما اختاره المؤمنون من أهل الايمان بالله وبكتابه وسنته. وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية أولى من غيره من التأويلات لما قد ذكرنا فيما مضى قبل، من أن معنى قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم، بما قد دللنا عليه من الادلة. فإذا كان ذلك تأويل قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) *... الآية، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) * تأديبا منه عباده في أمر الوصية بما أذنهم فيه، إذ كان ذلك عقيب الآية التي قبلها في حكم الوصية، وكان أظهر معانيه ما قلنا، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى مع اشتباه معانيهما من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه. وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله: * (وليقولوا قولا سديدا) * قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الآية، وبه كان ابن زيد يقول. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) * قال: يقول قولا سديدا، يذكر هذا المسكين وينفعه، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدي ولا يضر به، لانه صغير لا يدفع عن نفسه، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارا. والسديد من الكلام: هو العدل والصواب. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 363 ]
* (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) * يقول: بغير حق، * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * يوم القيامة، بأكلهم أموال اليتامى ظلما في الدنيا، نار جهنم. * (وسيصلون) * بأكلهم * (سعيرا) *. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * قال: إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلما، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: ثنا النبي (ص) عن ليلة أسري به، قال: نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * قال: قال أبي: إن هذه لاهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم. وأما قوله: * (وسيصلون سعيرا) * فإنه مأخوذ من الصلا، والصلا: الاصطلاء بالنار، وذلك التسخن بها، كما قال الفرزذق: وقاتل كلب الحي عن نار أهله ليربض فيها والصلا متكنف وكما قال العجاج:
[ 364 ]
(وصاليان للصلا صلي) ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرا من الامور، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك، كما قال الشاعر: لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صالي فجعل ما باشر من شدة الحرب وإجراء القتال، بمنزلة مباشرة أذى النار وحرها. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: * (وسيصلون سعيرا) * بفتح الياء على التأويل الذي قلنا. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين: * (وسيصلون سعيرا) * بضم الياء، بمعنى يحرقون من قولهم: شاة مصلية، يعني: مشوية. قال أبو جعفر: والفتح بذلك أولى من الضم لاجماع جميع القراء على فتح الياء في قوله: * (لا يصلاها إلا الاشقى) * ولدلالة قوله: * (إلا من هو صال الجحيم) * على أن الفتح بها أولى من الضم. وأما السعير: فإنه شدة حر جهنم، ومنه قيل: استعرت الحرب: إذا اشتدت، وإنما هو مسعور، ثم صرف إلى سعير، قيل: كف خضيب، ولحية دهين، وإنما هي مخضوبة صرفت إلى فعيل. فتأويل الكلام إذا: وسيصلون نارا مسعرة: أي موقودة مشعلة، شديدا حرها. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لان الله جل ثناؤه قال: * (وإذا الجحيم سعرت) * فوصفها بأنها مسعورة، ثم أخبر جل ثناؤه أن إكلة أموال اليتامى يصلونها، وهي كذلك، فالسعير إذا في هذا الموضع صفة للجحيم على ما وصفنا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 365 ]
* (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (يوصيكم الله) *: بعهد الله إليكم، * (في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * يقول يعهد إليكم ربكم إذا مات الميت منكم، وخلف أولادا ذكورا وإناثا، فلولده الذكور والاناث ميراثه أجمع بينهم، للذكر منهم مثل حظ الانثيين، إذا لم يكن له وارث غيرهم، سواء فيه صغار ولده وكبارهم وإناثهم في أن جميع ذلك بينهم للذكر مثل حظ الانثيين ورفع قوله: مثل، بالصفة، وهي اللام التي في قوله: * (للذكر) * ولم ينصب بقوله: * (يوصيكم الله) * لان الوصية في هذا الموضع عهد وإعلام بمعنى القول، والقول لا يقع على الاسماء المخبر عنها، فكأنه قيل: يقول الله تعالى ذكره: لكم في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الانثيين. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت على النبي (ص) تبيينا من الله الواجب من الحكم في ميراث من مات وخلف ورثة على ما بين، لان أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لاحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده، ولا للنساء منهم، وكانو يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلفه الميت بين من سمى وفرض له ميراثا في هذه الآية وفي آخر هذه السورة، فقال في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم: لهم ميراث أبيهم إذا لم يكن له وارث غيرهم، للذكر مثل حظ الانثيين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس أخوت،
[ 366 ]
فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (ص)، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) * ثم قال في أم كحة: * (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن) *. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والانثى والابوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة ! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله (ص) ينساه، أو نقول له فيغيره ! فقال بعضهم: يا رسول الله، أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبي الميراث، وليس يغني شيئا ؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الاكبر فالاكبر. وقال آخرون: بل نزل ذلك من أجل أن المال كان للولد قبل نزوله، وللوالدين الوصية، فنسخ الله تبارك وتعالى ذلك بهذه الآية. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أو عطاء، عن ابن عباس في قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والاقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، وجعل للابوين لكل واحد منهما السدس مع الولد، وللزوج الشطر والربع، وللزوجة الربع والثمن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * قال: كان ابن عباس يقول: كان المال وكانت الوصية للوالدين والاقربين، فنسح الله تبارك وتعالى من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، ثم ذكر نحوه.
[ 367 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. وروي عن جابر بن عبد الله ما: حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: دخل علي رسول الله (ص) وأنا مريض، فتوضأ ونضح علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله إنما يرثني كلالة، فكيف بالميراث ؟ فنزلت آية الفرائض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ثني محمد بن المنكدر عن جابر، قال: عادني رسول الله (ص) وأبو بكر رضي الله عنه في بني سملة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم رش علي فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي ؟ فنزلت * (يوصيكم الله في أولادكم) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) *. يعني بقوله: * (فإن كن) * فإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. ويعني بقول نساء: بنات الميت فوق اثنتين، يقول: أكثر في العدد من اثنتين. * (فلهن ثلثا ما ترك) * يقول: فلبناته الثلثان مما ترك بعده من ميراثه دون سائر ورثته إذا لم يكن الميت خلف ولدا ذكرا معهن. واختلف أهل العربية في المعني بقوله: * (فإن كن نساء) * فقال بعض نحويي البصرة بنحو الذي قلنا: فإن كان المتروكات نساء، وهو أيضا قول بعض نحويي الكوفة. وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: فإن كان الاولاد نساء. وقال: إنما ذكر الله الاولاد، فقال: * (يوصيكم الله في أولادكم) * ثم قسم الوصية، فقال: * (فإن كن نساء) * وإن كان الاولاد واحدة ترجمة منه بذلك عن الاولاد. قال أبو جعفر: والقول الاول الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريين أولى بالصواب في ذلك عندي، لان قوله: وإن كن، لو كان معنيا به الاولاد، لقيل: وإن كانوا، لان الاولاد تجمع الذكور والاناث، وإذا كان كذلك، فإنما يقال: كانوا لا كن.
[ 368 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) *. يعني بقوله: وإن كانت المتروكة ابنة واحدة، فلها النصف، يقول: فلتلك الواحدة نصف ما ترك الميت من ميراثه إذا لم يكن معها غيرها من ولد الميت ذكر ولا أنثى. فإن قال قائل: فهذا فرض الواحدة من النساء، وما فوق الاثنتين، فأين فريضة الاثنتين ؟ قيل: فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشك. وأما قوله: * (ولابويه) * فإنه يعني: ولابوي الميت لكل واحد منهما السدس من تركته وما خلف من ماله سواء فيه الوالدة والوالد، لا يزداد واحد منهما على السدس إن كان له ولد ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة. فإن قال قائل: فإذ كان كذلك التأويل، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس من ميراثه عن ولده الميت، وذلك إن قلته قول خلاف لما عليه الامة مجمعون من تصييرهم باقي تركة الميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع ؟ قيل: ليس الامر في ذلك كالذي ظننت، وإنما لكل واحد من أبوي الميت السدس من تركته مع ولده ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة، فريضة من الله له مسماة، فإن زيد على ذلك من بقية النصف مع الابنة الواحدة إذا لم يكن غيره وغير ابنة للميت واحدة فإنما زيدها ثانيا لقرب عصبة الميت إليه، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض، فلاولي عصبة الميت وأقربهم إليه بحكم ذلك لها على لسان رسول الله (ص)، وكان الاب أقرب عصبة ابنه وأولاها به إذا لم يكن لابنه الميت ابن. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (فإن لم يكن له) *: فإن لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وورثه أبواه دون غيرهما من ولد وارث، * (فلامه الثلث) * يقول: فلامه من تركته وما خلف بعده ثلث جميع ذلك. فإن قال قائل: فمن الذي له الثلثان الآخران ؟ قيل له الاب. فإن قال قائل: بماذا ؟ قلت: بأنه أقرب أهل الميت إليه، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان الباقيان، إذ كان قد بين على لسان رسول الله (ص) لعباده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولى بميراثه بعد إعطاء
[ 369 ]
ذوي السهام المفروضة سهامهم من ميراثه. وهذه العلة هي العلة التي من أجلها سمى للام ما سمى لها، إذا لم يكن الميت خلف وارثا غير أبويه، لان الام ليست بعصبة في حال للميت، فبين الله جل ثناؤه لعباده ما فرض لها من ميراث ولدها الميت، وترك ذكر من له الثلثان الباقيان منه معها، إذ كان قد عرفهم في جملة بيانه لهم من له بقايا تركة الاموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم، وكان بيانه ذلك معينا لهم على تكرير حكمه مع كل من قسم له حقا من ميراث ميت وسمى له منه سهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كان له إخوة فلامه السدس) *. إن قال قائل: وما المعنى الذي من أجله ذكر حكم الابوين مع الاخوة، وترك ذكر حكمهما مع الاخ الواحد ؟ قلت: اختلاف حكمهما مع الاخوة الجماعة والاخ الواحد، فكان في إبانة الله جل ثناؤه لعباده حكمهما فيما يرثان من ولدهما الميت مع إخوته غنى، وكفاية عن أن حكمهما فيما ورثا منه غير متغير عما كان لهما، ولا أخ للميت، ولا وارث غيرهما، إذ كان معلوما عندهم أن كل مستحق حقا بقضاء الله ذلك له، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه جل ثناؤه، عما قضى به له إلى غيره، إلا بنقل الله ذلك عنه إلى من نقله إليه من خلقه، فكان في فرضه تعالى ذكره للام ما فرض، إذا لم يكن لولدها الميت وارث غيرها وغير والده، لوائح الدلالة الواضحة للخلق أن ذلك المفروض هو ثلث مال ولدها الميت حق لها واجب، حتى يغير ذلك الفرض من فرض لها، فلما غير تعالى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الاخوة الجماعة وترك تغييره مع الاخ الواحد، علم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا في الحال التي غيره فيها من لزم العباد طاعته دون غيرها من الاحوال. ثم اختلف أهل التأويل في عدد الاخوة الذين عناهم الله تعالى ذكره بقوله: * (فإن كان له إخوة) * فقال جماعة أصحاب رسول الله (ص) والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الاسلام في كل زمان: عنى الله جل ثناؤه بقوله: * (فإن كان له إخوة فلامه السدس) * اثنين كان الاخوة أو أكثر منهما، أنثيين كانتا أو كن إناثا، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى. واعتل كثير ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الامة عن بيان الله جل ثناؤه على لسان رسوله (ص)، فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: بل عنى الله جل ثناؤه بقوله: * (فإن كان له إخوة) *: جماعة أقلها ثلاثة. وكان ينكر أن يكون الله جل ثناؤه حجب الام عن
[ 370 ]
ثلثها مع الاب بأقل من ثلاثة إخوة، فكان يقول في أبوين وأخوين: للام الثلث وما بقي فللاب، كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد. ذكر الرواية عنه بذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: ثني ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه دخل على عثمان رضي الله عنه، فقال: لم صار الاخوان يردان الام إلى السدس، وإنما قال الله: * (فإن كان له إخوة) * والاخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الامصار ؟. قل أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله: * (فإن كان له إخوة) * اثنان من إخوة الميت فصاعدا، على ما قاله أصحاب رسول الله (ص) دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لنقل الامة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك. فإن قال قائل: وكيف قيل في الاخوين إخوة، وقد علمت أن للاخوين في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال الاخوة في منطقها ؟ قيل: إن ذلك وإن كان كذلك، فإن من شأنها التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما. فلما كان ذلك كذلك، وكان مستفيضا في منطقها منتشرا مستعملا في كلامها: ضربت من عبد الله وعمرو رؤوسهما، وأوجعت منهما ظهورهما، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال: أوجعت منهما ظهرهما، وإن كان مقولا: أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق: بما في فؤادينا من الشوق والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشغف غير أن ذلك وإن كان مقولا، فأفصح منه: بما في أفئدتنا، كما قال جل ثناؤه: * (إن
[ 371 ]
تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) *. فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الانسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر، فصار اثنين من اثنين، فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها، وكان الاخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناهما معنى ما كان في الانسان من أعضائه واحدا لا ثاني له، فأخرج أنثييهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت، فقيل إخوة في معنى الاخوين، كما قيل ظهور في معنى الظهرين، وأفواه في معنى فموين، وقلوب في معنى قلبين. وقد قال بعض النحويين: إنما قيل إخوة، لان أقل الجمع اثنان، وذلك أنه إذا ضم شئ إلى شئ صارا جميعا بعد أن كانا فردين فجمعا، ليعلم أن الاثنين جمع. وهذا وإن كان كذلك في المعنى، فليس بعلة تنبئ عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملا مستفيضا على ألسن العرب لاثنينه بمثال، وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه، وصورتها، لان من قال أخواك قاما، فلا شك أنه قد علم أن كل واحد من الاخوين فرد ضم أحدهما إلى الآخر، فصارا جميعا بعد أن كانا شتى عنوان الامر. وإن كان كذلك فلا تستجيز العرب في كلامها أن يقال: أخواك قاموا، فيخرج قولهم: قاموا، وهو لفظ للخبر عن الجميع خبرا عن الاخوين وهما بلفظ الاثنين، لان لكل ما جرى به الكلام على ألسنتهم مثالا معروفا عندهم، وصورة إذا غير مغير ما قد عرفوه فيهم أنكروه، فكذلك الاخوان وإن كان مجموعين ضم أحدهما إلى صاحبه، فلهما مثال في المنطق، وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم، فغير جائز أن يغير أحدهما إلى الآخر إلا بمعنى مفهوم. وإذا كان ذلك كذلك فلا قول أولى بالصحة مما قلنا قبل. فإن قال قائل: ولم نقصت الام عن ثلثها بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدا ؟ قيل: اختلفت العلماء في ذلك، فقال بعضهم: نقصت الام عن ذلك دون الاب، لان على الاب مؤنهم دون أمهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس) * أنزلوا الام ولا يرثون، ولا يحجبها الاخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل
[ 372 ]
العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث، لان أباهم يلي نكاحهم، والنفقة عليهم دون أمهم. وقال آخرون: بل نقصت الام السدس وقصر بها على سدس واحد معونة لاخوة الميت بالسدس الذي حجبوا أمهم عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: السدس الذي حجبته الاخوة الام لهم إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أمهم. وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا القول، وذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس، قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد. قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب أن يقال في ذلك: إن الله تعالى ذكره فرض للام مع الاخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه. وقد يجوز أن يكون ذلك كان لما ألزم الآباء لاولادهم، وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك، وليس ذلك مما كلفنا علمه، وإنما أمرنا بالعمل بما علمنا. وأما الذي روي عن طاوس عن ابن عباس، فقول لما عليه الامة مخالف، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن لا ميراث لاخي ميت مع والده، فكفى إجماعهم على خلافه شاهدا على فساده. القول في تأويل قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * أن الذي قسم الله تبارك وتعالى لولد الميت الذكور منهم والاناث ولابويه من تركته من بعد وفاته، إنما يقسمه لهم على ما قسمه لهم في هذه الآية من بعد قضاء دين الميت الذي مات وهو عليه من تركته ومن بعد تنفيذ وصيته في بابها، بعد قضاء دينه كله. فلم يجعل تعالى ذكره لاحد من ورثة الميت ولا لاحد ممن أوصى له بشئ إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته، وإن أحاط بجميع ذلك. ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فيما بقي لما أوصى لهم به ما لم يجاوز ذلك ثلثه، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الخيار في إجازة ما زاد على الثلث من ذلك أو رده إلى ورثته، إن أحبوا أجازوا الزيادة على ثلث ذلك، وإن شاءوا ردوه، فأما ما كان من ذلك إلى الثلث فهو ماض عليهم. وعلى كل ما قلنا من ذلك الامة مجمعة. وقد روي عن رسول الله (ص) بذلك خبر، وهو ما:
[ 373 ]
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحرث الاعور، عن علي رضي الله عنه قال: إنكم تقرؤون هذه الآية: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * أن رسول الله (ص) قضى بالدين قبل الوصية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي رضوان الله عليه، عن النبي (ص)، بمثله. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، قال: ثنا أشعث، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي، عن رسول الله (ص)، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد، عن أبيه: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * قال: يبدأ بالدين قبل الوصية. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والعراق: * (يوصي بها أو دين) *، وقرأ بعض أهل مكة والشام والكوفة: يوصى بها على معنى ما لم يسم فاعله. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * على مذهب ما قد سمي فاعله، لان الآية كلها خبر عمن قد سمي فاعله، ألا ترى أنه يقول: * (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) * ؟ فكذلك الذي هو أولى بقوله: * (يوصي بها أو دين) * أن يكون خبرا عمن قد سمي فاعله، لان تأويل الكلام: ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، من بعد وصية يوصي بها، أو دين يقضى عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (أباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (آباؤكم وأبناؤكم) * هؤلاء الذين أوصاكم الله به فيهم - من قسمة ميراث ميتكم فيهم على ما سمى لكم وبينه في هذه الآية - * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * يقول: أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها، فإنكم لا تعلمون أيهم أدنى وأشد نفعا لكم في عاجل دنياكم وآجل أخراكم. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * فقال بعضهم: يعني بذلك: أيهم أقرب لكم نفعا في الآخرة. ذكر من قال ذلك:
[ 374 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، قوله: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * يقول: أطوعكم لله من الاباء والابناء، أرفعكم درجة يوم القيامة، لان الله سبحانه يشفع المؤمنين بعضهم في بعض. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (أيهم أقرب لكم نفعا) * في الدنيا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * قال بعضهم: في نفع الآخرة، وقال بعضهم: في نفع الدنيا. وقال آخرون في ذلك بما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) * قال: أيهم خير لكم في الدين والدنيا الوالد أو الولد الذين يرثونكم لم يدخل عليكم غيرهم، فرضي لهم المواريث لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فريضة من الله) * وإن كان له إخوة فلامه السدس، فريضة، يقول: سهاما معلومة موقتة بينها الله لهم. ونصب قوله: فريضة على المصدر من قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فريضة) * فأخرج فريضة من معنى الكلام، إذ كان معناه ما وصفت. وقد يجوز أن يكون نصبه على الخروج من قوله: فإن كان له إخوة فلامه السدس فريضة، فتكون الفريضة منصوبة على الخروج من قوله: * (فإن كان له إخوة فلامه السدس) * كما تقول: هو لك هبة، وهو لك صدقة مني عليك.
[ 375 ]
وأما قوله: * (إن الله كان عليما حكيما) * فإنه يعني جل ثناؤه: إن الله لم يزل ذا علم بما يصلح خلقه أيها الناس، فانتهوا إلى ما يأمركم يصلح لكم أموركم. * (حكيما) * يقول: لم يزل ذا حكمة في تدبيره وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفيما يقضي بينكم من الاحكام، لا يدخل حكمه خلل ولا زلل، لان قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعقابة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولكم أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفاتهن من مال وميراث إن لم يكن لهن ولد يوم يحدث لهن الموت لا ذكر ولا أنثى. * (فإن كان لهن ولد) * أي فإن كان لازواجكم يوم يحدث لهن الموت ولد ذكر أو أنثى، فلكم الربع مما تركن من مال وميراث، ميراثا لكم عنهن، * (من بعد وصية يوصين بها أو دين) * يقول: ذلكم لكم ميراثا عنهن مما يبقى من تركاتهن وأموالهن من بعد قضاء ديونهن التي يمتن وهي عليهن، ومن بعد إنفاذ وصاياهن الجائزة إن كن أوصين بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين) *: يعني جل ثناؤه بقوله: * (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) *: ولازواجكم أيها الناس ربع ما تركتم بعد وفاتكم من مال وميراث إن حدث بأحدكم حدث الوفاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى. * (فإن كان لكم ولد) * يقول: فإن حدث بأحدكم حدث الموت وله ولد ذكر أو أنثى، واحدا كان الولد أو جماعة، * (فلهن الثمن مما تركتم) * يقول: فلازواجكم حينئذ
[ 376 ]
من أموالكم وتركتكم التي تخلفونها بعد وفاتكم الثمن من بعد قضاء ديونكم التي حدث بكم حدث الوفاة وهي عليكم، ومن بعد إنفاذ وصاياكم الجائزة التي توصون بها. وإنما قيل: * (من بعد وصية توصون بها أو دين) * فقدم ذكر الوصية على ذكر الدين، لان معنى الكلام: إن الذي فرضت لمن فرضت له منكم في هذه الآيات إنما هو له من بعد إخراج أي هذين كان في مال الميت منكم، من وصية أو دين. فلذلك كان سواء تقديم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لانه لم يرد من معنى ذلك إخراج أحد الشيئين: الدين والوصية من ماله، فيكون ذكر الدين أولى أن يبدأ به من ذكر الوصية. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة. ثم اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ ذلك عامة قراء أهل الاسلام: * (وإن كان رجل يورث كلالة) * يعني: وإن كان رجل يورث متكلل النسب. فالكلالة على هذا القول مصدر من قولهم: تكلله النسب تكللا وكلالة، بمعنى: تعطف عليه النسب. وقرأه بعضهم: وإن كان رجل يورث كلالة بمعنى: وإن كان رجل يورث من يتكلله، بمعنى: من يتعطف عليه بنسبه من أخ أو أخت. واختلف أهل التأويل في الكلالة، فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد. ذكر من قال ذلك: حدثنا الوليد بن شجاع السكوني، قال: ثني علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني والشيطان، والله منه برئ، إن الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لاستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عاصم الاحول، قال: ثنا الشعبي: أن أبا بكر رضي الله عنه، قال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله: هو ما دون الولد والوالد. قال: فلما كان عمر رضي الله عنه، قال: إني لاستحيي من الله أن أخالف أبا بكر. حدثنا أبو بشر بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا سفيان، عن عاصم الاحول،
[ 377 ]
عن الشعبي: أن أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالا: الكلالة من لا ولد له ولا والد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن عمران بن حدير، عن السميط، قال: كان عمر رجلا أيسر، فخرج يوما وهو يقول بيده هكذا، يديرها، إلا أنه قال: أتى علي حين ولست أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة: ما خلا الولد والوالد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن أبي بكر، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس، قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس، قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية، عن ابن عباس، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد. حدثنا ابن بشار وابن وكيع، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، عن ابن عباس، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) * قال: الكلالة: من لم يترك ولدا ولا والدا. حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أبو الاحوص، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، قال: ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن ما مات ولم يدع ولدا ولا والدا أنه كلالة.
[ 378 ]
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، قال: ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة: الذي ليس له ولد ولا والد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، قال: أدركتهم وهم يقولون: إذا لم يدع الرجل ولدا ولا والدا ورث كلالة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) * والكلالة: الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابنة، فهولاء الاخوة من الام. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، قال في الكلالة: ما دون الولد والوالد. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة من رجالهم ونسائهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري وأبي إسحاق، قال: الكلالة: من ليس له ولد ولا والد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن محمد، عن معمر، عن الزهري وقتادة وأبي إسحاق، مثله. وقال آخرون: الكلالة: ما دون الولد. وهذا قول عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه أنه ورث الاخوة من الام السدس مع الابوين. وقال آخرون: الكلالة: ما خلا الوالد. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن الكلالة ؟ قال: فهو ما دون الاب.
[ 379 ]
واختلف أهل العربية في الناصب للكلالة، فقال بعض البصريين: إن شئت نصبت كلالة على خبر كان، وجعلت يورث من صفة الرجل، وإن شئت جعلت كان تستغني عن الخبر نحو: وقع، وجعلت نصب كلالة على الحال: أي يورث كلالة، كما يقال: يضرب قائما. وقال بعضهم: قوله كلالة، خبر كان، لا يكون الموروث كلالة، وإنما الوارث الكلالة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الكلالة منصوب على الخروج من قوله * (يورث) * وخبر كان يورث. والكلالة وإن كانت منصوبة بالخروج من يورث، فليست منصوبة على الحال، ولكن على المصدر من معنى الكلام، لان معنى الكلام وإن كان رجل يورث متكلله النسب كلالة، ثم ترك ذكر متكلله اكتفاء بدلالة قوله: يورث عليه. واختلف أهل العلم في المسمى كلالة، فقال بعضهم: الكلالة: الموروث، وهو الميت نفسه، سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي قولهم في الكلالة، قال: الذي لا يدع والدا ولا ولدا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن سليمان الاحول، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كنت آخر الناس عهدا بعمر رضي الله عنه، فسمعته يقول ما قلت، قلت: وما قلت ؟ قال: الكلالة: من لا ولد له. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن ابن عباس، قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد. وقال آخرون: الكلالة: هي الورثة الذين يرثون الميت إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم إذا لم يكونوا ولدا ولا والدا على ما قد ذكرنا من اختلافهم في ذلك.
[ 380 ]
وقال آخرون: بل الكلالة: الميت والحي جميعا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد، والحي كلهم كلالة، هذا يرث بالكلالة، وهذا يورث بالكلالة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله هؤلاء، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، وذلك لصحة الخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله، إنما يرثني كلالة، فكيف بالميراث ؟ وبما: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، قال: كنا مع حميد بن عبد الرحمن في سوق الرقيق، قال: فقام من عندنا ثم رجع، فقال: هذا آخر ثلاثة من بني سعد حدثوني هذا الحديث، قالوا: مرض سعد بمكة مرضا شديدا، قال: فأتاه رسول الله (ص) يعوده، فقال: يا رسول الله لي مال كثير، وليس لي وارث إلا كلالة، فأوصي بمالي كله ؟ فقال: لا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد، قال: جاء شيخ إلى عمر رضي الله عنه، فقال: إني شيخ وليس لي وارث إلا كلالة أعراب متراخ نسبهم، أفأوصي بثلث مالي ؟ قال: لا. فقد أنبأت هذه الاخبار عن صحة ما قلنا في معنى الكلالة وأنها ورثة الميت دون الميت ممن عدا والده وولده. القول في تأويل قوله تعالى: * (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وله أخ أو أخت) * وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعني أخا أو أختا من أمه. كما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم، عن سعد، أنه كان يقرأ: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) * قال سعد: لامه.
[ 381 ]
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: قرأت على سعد: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) * قال سعد: لامه. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة بن قافك، قال: قرأت على سعد، فذكر نحوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم بن ربيعة، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص قرأ: وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت من أمه حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وله أخ أو أخت) * فهؤلاء الاخوة من الام إن كان واحدا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) * فهؤلاء الاخوة من الام، فهم شركاء في الثلث، سواء الذكر والانثى. وقوله: * (فلكل واحد منهما السدس) * إذا انفرد الاخ وحده أو الاخت وحدها، ولم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه فله السدس من ميراث أخيه لامه، فإن اجتمع أخ وأخت أو أخوان لا ثالث معهما لامهما، أو أختان كذلك، أو أخ وأخت ليس معهما غيرهما من أمهما، فلكل واحد منهما من ميراث أخيهما لامهما السدس. * (وإن كانوا أكثر من ذلك) * يعني: فإن كان الاخوة والاخوات لام الميت الموروث كلالة أكثر من اثنين، * (فهم شركاء في الثلث) * يقول: فالثلث الذي فرضت لاثنيهم إذا لم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الميت الموروث كلالة شركة بينهم إذا كانوا أكثر من اثنين إلى ما بلغ عددهم على عدد رؤوسهم، لا يفضل ذكر منهم على أنثى في ذلك، ولكنه بينهم بالسوية. فإن قال قائل: وكيف قيل وله أخ أو أخت، ولم يقل لهما أخ أو أخت، وقد ذكر قبل ذلك رجل أو امرأة، فقيل: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ؟ قيل: إن من شأن العرب
[ 382 ]
إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر فعطفت أحدهما على الآخر بأو ثم أتت بالخبر أضافت الخبر إليهما أحيانا وأحيانا إلى أحدهما، وإذا أضافت إلى أحدهما، كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أي الاسمين اللذين ذكرتهما إضافته، فتقول: من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه، يعني: فليحسن إلى الغلام، وفليحسن إليها، يعني: فليحسن إلى الجارية، وفليحسن إليهما. وأما قوله: * (فلكل واحد منهما السدس) * وقد تقدم ذكر الاخ والاخت بعطف أحدهما على الآخر، والدلالة على أن المراد بمعنى الكلام أحدهما في قوله: * (وله أخ أو أخت) * فإن ذلك إنما جاز لان معنى الكلام: فلكل واحد من المذكورين السدس. القول في تأويل قوله تعالى: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (من بعد وصية يوصى بها) *: أي هذا الذي فرضت لاخي الميت الموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته، إنما هو لهم من بعد قضاء دين الميت الذي كان عليه يوم حدث به حدث الموت من تركته، وبعد إنفاذ وصاياه الجائزة التي يوصي بها في حياته لمن أوصى له بها بعد وفاته. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) * والدين أحق ما بدئ به من جميع المال، فيؤدى عن أمانة الميت، ثم الوصية، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم. وأما قوله: * (غير مضار) * فإنه يعني تعالى ذكره: من بعد وصية يوصي بها غير مضار ورثته في ميراثهم عنه. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (غير مضار) * قال: في ميراث أهله. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: * (غير مضار) * قال: في ميراث أهله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثني يزيد، قال: ثني سعيد، عن قتادة، قوله: * (غير مضار وصية من الله) * إن الله تبارك وتعالى كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدم فيه، فلا تصلح مضارة في حياة ولا موت. حدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: ثنا عبيدة بن حميد، وثني
[ 383 ]
يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية جميعا، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: * (غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) * قال: الضرار في الوصية من الكبائر. حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الضرار في الوصية من الكبائر. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الحيف في الوصية من الكبائر. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد الاعلى، قالا: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الضرار والحيف في الوصية من الكبائر. حدثني موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النصر، قال: ثنا عمر بن المغيرة، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي (ص)، قال: الضرار في الوصية من الكبائر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو عمرو التيمي، عن أبي الضحى، قال: دخلت مع مسروق على مريض، فإذا هو يوصي، قال: فقال له مسروق: اعدل لا تضلل ! ونصبت غير مضار على الخروج من قوله: * (يوصى بها) *. وأما قوله: * (وصية) * فإن نصبه من قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) * وسائر ما أوصى به في الاثنين، ثم قال: * (وصية من الله) * مصدرا من قوله: * (يوصيكم) *. وقد قال بعض أهل العربية: ذلك منصوب من قوله: * (فلكل واحد منهما السدس وصية من الله) * قال: هو مثل قولك: لك درهمان نفقة إلى أهلك. والذي قلناه بالصواب أولى، لان الله جل ثناؤه افتتح ذكر قسمة المواريث في هاتين الآيتين بقوله: * (يوصيكم الله) * ثم ختم ذلك بقوله: * (وصية من الله) * أخبر أن جميع ذلك
[ 384 ]
وصية منه به عباده، فنصب قوله: * (وصية) * على المصدر من قوله: * (يوصيكم) * أولى من نصبه على التفسير من قوله: * (فلكل واحد منهما السدس) * لما ذكرنا. ويعني بقوله تعالى ذكره: * (وصية من الله) *: عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم. * (والله عليم) * يقول: ذو علم بمصالح خلقه ومضارهم، ومن يستحق أن يعطى من أقرباء من مات منكم وأنسبائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستحق به كل من استحق منهم قسما، وغير ذلك من أمور عباده ومصالحهم. * (حليم) * يقول: ذو حلم على خلقه، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضا في إعطائهم الميراث لاهل الجلد والقوة من ولد الميت وأهل الغناء والبأس منهم، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) *. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (تلك حدود الله) *، فقال بعضهم: يعني به: تلك شروط الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (تلك حدود الله) * يقول: شروط الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك طاعة الله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (تلك حدود الله) * يعني: طاعة الله، يعني: المواريث التي سمى الله. وقال آخرون: معنى ذلك: تلك سنة الله وأمره. وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك فرائض الله. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب ما نحن مبينوه، وهو أن حد كل
[ 385 ]
شئ ما فصل بينه وبين غيره، ولذلك قيل لحدود الدار وحدود الارضين: حدود، لفصولها بين ما حد بها وبين غيره، فكذلك قوله: * (تلك حدود الله) * معناه: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والفرائض التي فرضها لاحيائكم من موتاكم في هذه الآية على ما فرض وبين في هاتين الآيتين حدود الله، يعني: فصول ما بين طاعة الله ومعصيته في قسمكم مواريث موتاكم، كما قال ابن عباس. وإنما ترك طاعة الله، والمعني بذلك حدود طاعة الله اكتفاء بمعرفة المخاطبين بذلك بمعنى الكلام من ذكرها. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: * (ومن يطع الله ورسوله) *... والآية التي بعدها: * (ومن يعص الله ورسوله) *. فتأويل الآية إذا: هذه القسمة التي قسم بينكم أيها الناس عليها ربكم مواريث موتاكم، فصول فصل بها لكم بين طاعته ومعصيته، وحددو لكم تنتهون إليها فلا تتعدوها، وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته فيما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بينكم، وفيما نهاكم عنه منها. ثم أخبر جل ثناؤه عما أعد لكل فريق منهم، فقال لفريق أهل طاعته في ذلك: * (ومن يطع الله ورسوله) * في العمل بما أمره به والانتهاء إلى ما حده له في قسمة المواريث وغيرها، ويجتنب ما نهاه عنه في ذلك وغيره، * (يدخله جنات تجري من تحتها الانهار) *، فقوله: * (يدخله جنات) * يعني: بساتين تجري من تحت غروسها وأشجارها الانهار * (خالدين فيها) * يقول: باقين فيها أبدا، لا يموتون فيها، ولا يفنون، ولا يخرجون منها. * (وذلك الفوز العظيم) * يقول: وإدخال الله إياهم الجنان التي وصفها على ما وصف من ذلك الفوز العظيم يعني: الفلح العظيم. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله) *... الآية، قال: في شأن المواريث التي ذكر قبل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (تلك حدود الله) * التي حد لخلقه وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة، فانتهوا إليها ولا تعدوها إلى غيرها. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 386 ]
* (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ومن يعص الله ورسوله) * في العمل بما أمراه به من قسمة المواريث على ما أمراه بقسمة ذلك بينهم وغير ذلك من فرائض الله مخالفا أمرهما إلى ما نهياه عنه، * (ويتعد حدوده) * يقول: ويتجاوز فصول طاعته التي جعلها تعالى فاصلة بينها وبين معصيته إلى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بين ورثته، وغير ذلك من حدوده. * (يدخله نارا خالدا فيها) * يقول: باقيا فيها أبدا لا يموت ولا يخرج منها أبدا. * (وله عذاب مهين) * يعني: وله عذاب مذل من عذب به مخز له. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) *... الآية في شأن المواريث التي ذكر قبل. قال ابن جريج: ومن يعص الله ورسوله، قال: من أصاب من الذنوب ما يعذب الله عليه. فإن قال قائل: أو يخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث ؟ قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك، فحاد الله ورسوله في أمرهما على ما ذكر ابن عباس من قول من قال حين نزل على رسول الله (ص) قول الله تبارك وتعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) *... إلى تمام الآيتين: أيورث من لا يركب الفرس، ولا يقاتل العدو، ولا يحوز الغنيمة نصف المال أو جميع المال ؟ استنكارا منهم قسمة الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده، ممن خالف قسمة الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم، على ما قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكارا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرهم ابن عباس ممن كان بين أظهر أصحاب رسول الله (ص) من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية، فهو من أهل الخلود في النار، لانه باستنكاره حكم الله في تلك يصير بالله كافرا ومن ملة الاسلام خارجا. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 387 ]
* (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * والنساء اللاتي يأتين بالزنا: أي بزنين. * (من نسائكم) * وهن محصنات ذوات أزواج، أو غير ذوات أزواج. * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * يقول: فاستشهدوا عليهن بما أتين من الفاحشة أربعة رجال من رجالكم، يعني: من المسلمين. * (فإن شهدوا) * عليهن، * (فأمسكوهن في البيوت) * يقول: فاحبسوهن في البيوت، * (حتى يتوفاهن الموت) * يقول: حتى يمتن، * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * يعني: أو يجعل الله لهن مخرجا وطريقا إلى النجاة مما أتين به من الفاحشة. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت) * أمر بحبسهن في البيوت حتى يمتن * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * قال: الحد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * قال: الزنا، كان أمر بحبسهن حين يشهد عليهن أربعة حتى يمتن، * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * والسبيل: الحد. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * إلى: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فإن كانا محصنين رجما، فهذه سبيلهما الذي جعل الله لهما.
[ 388 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * فقد جعل الله لهن، وهو الجلد والرجم. حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * حتى بلغ: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * كان هذا من قبل الحدود، فكانا يؤذيان بالقول جميعا، وبحبس المرأة. ثم جعل الله لهن سبيلا، فكان سبيل من أحصن جلد مائة ثم رمي بالحجارة، وسبيل من لم يحصن جلد مائة ونفي سنة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير: الفاحشة: الزنا، والسبيل: الرجم والجلد. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * إلى: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * هؤلاء اللاتي قد نكحن وأحصن، إذا زنت المرأة فإنها كانت تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها فهو له، فذلك قوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * * (وعاشروهن بالمعروف) * حتى جاءت الحدود فنسختها، فجلدت ورجمت، وكان مهرها ميراثا، فكان السبيل هو الجلد. حدثت، عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * قال: الحد، نسخ الحد هذه الآية. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * قال: جلد مائة، الفاعل والفاعلة. حدثنا الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الجلد. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت: أن النبي (ص) كان إذا
[ 389 ]
نزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما سري عنه رفع رأسه، فقال: قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، أما الثيب فتجلد ثم ترجم، وأما البكر فتجلد ثم تنفى. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن حطان بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت، قال: قال نبي الله (ص): خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب تجلد مائة وترجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ونفي سنة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله أخي بني رقاش، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (ص) كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم، فلقي ذلك فلما سري عنه قال: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد في قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم، فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * قال: يقول: لا تنكحوهن حتى يتوفاهن الموت، ولم يخرجهن من الاسلام. ثم نسخ هذا، وجعل السبيل التي ذكر أن يجعل لهن سبيلا، قال: فجعل لها السبيل إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت، وجعل السبيل للبكر جلد مائة. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * قال: الجلد والرجم. حدثنا المثنى، قال: ثنا محمد بن أبي جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت، قال: قال
[ 390 ]
رسول الله (ص): خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب تجلد وترجم والبكر تجلد وتنفى. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الاعمش، عن إسماعيل بن مسلم البصري، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت، قال: كنا جلوسا عند النبي (ص) إذ احمر وجهه، وكان يفعل ذلك إذا نزل عليه الوحي، فأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك، فلما أفاق قال: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، والبكران يجلدان وينفيان سنة، والثيبان يجلدان ويرجمان. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصحة في تأويل قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * قول من قال السبيل التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصنين الرجم بالحجارة، وللبكرين جلد مائة، ونفي سنة لصحة الخبر عن رسول الله (ص) أنه رجم ولم يجلد، وإجماع الحجة التي لا يجوز عليها فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو والكذب، وصحة الخبر عنه، أنه قضى في البكرين بجلد مائة، ونفي سنة، فكان في الذي صح عنه من تركه، جلد من رجم من الزناة في عصره دليل واضح على وهي الخبر الذي روي عن الحسن عن حطان عن عبادة عن النبي (ص) أنه قال: السبيل للثيب المحصن: الجلد والرجم. وقد ذكر أن هذه الآية في قراءة عبد الله: واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم، والعرب تقول: أتيت أمرا عظيما، وبأمر عظيم، وتكلمت بكلام قبيح، وكلاما قبيحا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) *: والرجل والمرأة اللذان يأتيانها، يقول: يأتيان الفاحشة والهاء والالف في قوله: * (يأتيانها) * عائدة على الفاحشة التي في قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * والمعنى: واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما. ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * فقال بعضهم: هما البكران اللذان لم يحصنا، وهما غير اللاتي عنين بالآية قبلها. وقالوا: قوله:
[ 391 ]
* (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * معني به الثيبات المحصنات بالازواج، وقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * يعني به: البكران غير المحصنين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكحوا، فقال: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * البكران فآذوهما. وقال آخرون: بل عني بقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * الرجلان الزانيان. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * قال: الرجلان الفاعلان لا يكني. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) *: الزانيان. وقال آخرون: بل عني بذلك الرجل والمرأة، إلا أنه لم يقصد به بكر دون ثيب. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * قال: الرجل والمرأة. حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * إلى قوله: * (أو يجعل الله لهن سبيلا) * فذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما جميعا، فقال: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء وعبد الله بن كثير، قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * قال: هذه للرجل والمرأة جميعا. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل قوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * قول من قال: عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا وكان أحدهما رجلا والآخر
[ 392 ]
امرأة، لانه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) * قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * فأخرج ذكرهن على الجمع، ولم يقل: واللتان يأتيان الفاحشة. وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدل على جنسه، ولا تخرجها بذكر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية. فإذا كان ذلك كذلك، قيل بذكر الاثنين، يراد بذلك الفاعل والمفعول به، فإما أن يذكر بذكر الاثنين والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كل واحد منهما به أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين فذلك ما لا يعرف في كلامها. وإذا كان ذلك كذلك، فبين فساد قول من قال: عني بقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * الرجلان، وصحة قول من قال: عني به الرجل والمرأة وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهن في قوله: * (واللاتي يأتين الفاحشة) * لان هذين اثنان وأولئك جماعة. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يتوفين من قبل أن يجعل لهن سبيلا، لانه أغلظ في العقوبة من الاذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سب وتعيير، كما كان السبيل التي جعلت لهن من الرجم أغلظ من السبيل التي جعلت للابكار من جلد المائة ونفي السنة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) *. اختلف أهل التأويل في الاذى الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة من قبل أن يجعل لهما سبيلا منه، فقال بعضهم: ذلك الاذى، أذى بالقول واللسان، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فآذوهما) * قال: كانا يؤذيان بالقول جميعا. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) * فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنفان ويعيران حتى يتركا ذلك.
[ 393 ]
وقال آخرون: كان ذلك الاذى، أذى اللسان، غير أنه كان سبا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فآذوهما) * يعني: سبا. وقال آخرون: بل كان ذلك الاذى باللسان واليد. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتيا ذلك وهما من أهل الاسلام، والاذى قد يقع بكل مكروه نال الانسان من قول سيئ باللسان أو فعل، وليس في الآية بيان أن ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ، ولا خبر به عن رسول الله (ص) من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئها قطع العذر. وأهل التأويل في ذلك مختلفون، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما، وليس في العلم بأي ذلك كان من أي نفع في دين ولا دنيا ولا في الجهل به مضرة، إذ كان الله جل ثناؤه قد نسخ ذلك من محكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما، فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما فما أوجب في سورة النور بقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما، فالرجم الذي قضى به رسول الله (ص) فيهما وأجمع أهل التأويل جميعا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لاهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلا بالحدود التي حكم بها فيهم. وقال جماعة من أهل التأويل: إن الله سبحانه نسخ بقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * قوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * قال: كل ذلك نسخته الآية التي في النور بالحد المفروض.
[ 394 ]
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا يحيى، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *... الآية، قال: هذا نسخته الآية في سورة النور بالحد المفروض. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا في قوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *... الآية، نسخ ذلك بآية الجلد، فقال: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) * فأنزل الله بعد هذا: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله (ص). حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) *... الآية، جاءت الحدود فنسختها. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: نسخ الحد هذه الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: * (فأمسكوهن في البيوت) *... الآية، قال: نسختها الحدود، وقوله: * (واللذان يأتيانها منكم) * نسختها الحدود. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) *... الآية، ثم نسخ هذا وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت، وجعل السبيل للذكر جلد مائة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) * قال: نسختها الحدود. وأما قوله: * (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) * فإنه يعني به جل ثناؤه: فإن تابا من الفاحشة التي أتيا، فراجعا طاعة الله بينهما وأصلحا، يقول: وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة
[ 395 ]
من فاحشتهما والعمل بما يرضي الله، فأعرضوا عنهما، يقول: فاصفحوا عنهما، وكفوا عنهما الاذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به، عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة، ولا تؤذوهما بعد توبتهما. وأما قوله: * (إن الله كان توابا رحيما) * فإنه يعني: أن الله لم يزل راجعا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيما بهم، يعني: ذا رحمة ورأفة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) *: ما التوبة على الله لاحد من خلقه، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة. * (ثم يتوبون من قريب) * يقول: ما الله براجع لاحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم. وذلك هو القري ب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال: * (ثم يتوبون من قريب) *. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله: * (بجهالة) * فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله (ص)، كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: * (للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: اجتمع أصحاب رسول الله (ص)، فرأوا أن كل شئ عصى به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
[ 396 ]
نجيح، عن مجاهد في قوله: * (للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: كل من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * ما دام يعصي الله فهو جاهل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن أبي النضر، عن أبي صالح عن ابن عباس: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: من عصى الله فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها. قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) * قال: الجهالة: كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها. وقرأ: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) * وقرأ: * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * قال: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. وقال آخرون: معنى قوله: * (للذين يعملون السوء بجهالة) *: يعملون ذلك على عمد منهم له. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مجاهد: * (يعملون السوء بجهالة) * قال: الجهالة: العمد.
[ 397 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: الجهالة: العمد. وقال آخرون: معنى ذلك: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قوله: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * قال: الدنيا كلها جهالة. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للاثم، أو جاهلين بما أعد الله لاهلها. وذلك أنه غير موجود في كلام العرب، تسمية العامد للشئ الجاهل به، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرته، فيقال: هو به جاهل، على معنى جهله بمعنى: نفعه وضره، فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضره قاصدا إليه، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل، لان الجاهل بالشئ هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه، أو يعلمه فيشبه فاعله، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الامر وهو به جاهل فيخطئ موضع الاصابة منه، فيقال: إنه لجاهل به، وإن كان به عالما لاتيانه الامر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به. وكذلك معنى قوله: * (يعملون السوء بجهالة) * قيل فيهم: يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام، لان فعلهم ذلك كان من الافعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه وهو به عالم: أتاه بجهالة، بمعنى: أنه فعل فعل الجهال به، لا أنه كان جاهلا. وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه: أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب، فلم يعلموه كعلم العالم، وإن علموه ذنبا، فلذلك قيل: * (يعملون السوء بجهالة) *. ولو كان الامر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه. وذلك أنه جل ثناؤه قال: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) * دون غيرهم.
[ 398 ]
فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب، توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله (ص) من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه، وقوله: باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها، وخلاف قول الله عز وجل: * (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم يتوبون من قريب) *. أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع، فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ثم يتوبون من قريب) * والقريب قبل الموت ما دام في صحته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس: * (ثم يتوبون من قريب) * قال: في الحياة والصحة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (ثم يتوبون من قريب) * والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، قال: قال أبو مجلز: لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: القريب: ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى وينزل به الموت. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن
[ 399 ]
الضحاك: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) * له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن الضحاك: * (ثم يتوبون من قريب) * قال: كل شئ قبل الموت فهو قريب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة: * (ثم يتوبون من قريب) * قال: الدنيا كلها قريب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ثم يتوبون من قريب) * قبل الموت. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة، قال: ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأنظر، قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! فقال تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا عمران، عن قتادة، قال: كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة، فحدث أبو قلابة قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النظرة، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النظرة، فأنظره إلى يوم الدين، فقال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح. حدثني ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عوف، عن الحسن،
[ 400 ]
قال: بلغني أن رسول الله (ص)، قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف، قال: وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح ! فقال الله تبارك وتعالى وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام فيه الروح. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بشير بن كعب، أن نبي الله (ص)، قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله (ص)، قال، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: بلغني أن رسول الله (ص)، قال: إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: تأويله: ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لان التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه، وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولا، وبغم الحشرجة مغمورا، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا، ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الاريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) *.
[ 401 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: * (فأولئك) * فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب * (يتوب الله عليهم) * دون من لم يتب، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته، فقال: وهو لا يفقه ما يقول: * (إني تبت الآن) * خداعا لربه ونفاقا في دينه، ومعنى قوله: * (يتوب الله عليهم) *: يرزقهم إنابة إلى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إليه، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم. وأما قوله: * (وكان الله عليما حكيما) * فإنه يعني: ولم يزل الله جل ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه، المقبلين إليه بعد التولية، وبغير ذلك من أمور خلقه، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخل أفعاله خلل، ولا يخلطه خطأ ولا زلل. القول في تأويل قوله تعالى: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الاصرار على معاصي الله، حتى إذا حضر أحدهم الموت، يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه قال: وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته: إني تبت الآن، يقول فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة، لأنه قال ما قال ففي غير حال توبة. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن يعلى بن نعمان، قال: أخبرني من سمع ابن عمر يقول: التوبة مبسوطة ما لم يسق. ثم قرأ ابن عمر: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * قال: إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة.
[ 402 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * فليس لهذا عند الله توبة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت إبراهيم بن ميمون، يحدث عن رجل من بني الحارث، قال: ثنا رجل منا، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، حتى ذكر شهرا، حتى ذكر ساعة، حتى ذكر فواقا، قال: فقال رجل: كيف يكون هذا والله تعالى يقول: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * ؟ فقال عبد الله: أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله (ص). حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، قال: كان يقال: التوبة مبسوطة ما لم يؤخذ بكظمه. واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * فقال بعضهم: عني به أهل النفاق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) * قال: نزلت الاولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين، يعني: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) * والاخرى في الكفار، يعني: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) *. وقال آخرون: بل عني بذلك أهل الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا في هذه الآية: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) * قال: هم المسلمون، ألا ترى أنه قال: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) * ؟
[ 403 ]
وقال آخرون: بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الايمان، غير أنها نسخت. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) * فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك عندي بالصواب ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الاسلام، وذلك أن المنافقين كفار، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) * معنى مفهوم، لانهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد من أن جميعهم كفار، فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة. وفي تفرقة الله جل ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم بأن سمى أحد الصنفين كافرا، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات، ولم يسمهم كفارا ما دل على افتراق معانيهم، وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار فموضع الذين خفض، لانه معطوف على قوله: * (للذين يعملون السيئات) *. وقوله: * (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) * يقول: هؤلاء الذين يموتون وهم كفار، أعتدنا لهم عذابا أليما، لانهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبي النضر، عن أبي صالح، عن ابن عباس: * (ولا الذين يموتون وهم كفار) * أولئك أبعد من التوبة.
[ 404 ]
واختلف أهل العربية في معنى: * (أعتدنا لهم) * فقال بعض البصريين: معنى: * (أعتدنا) *: أفعلنا من العتاد، قال: ومعناها: أعددنا. وقال بعض الكوفيين: عددنا وأعتدنا معناهما واحد، فمعنى قوله: * (أعتدنا لهم) * أعددنا لهم * (عذابا أليما) * يقول: مؤلما موجعا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *. يعني تبارك وتعالى (بقوله): * (يا أيها الذين آمنوا) *: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * يقول: لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرها. فإن قال قائل: كيف كانوا يرثونهن، وما وجه تحريم وراثتهن، فقد علمت أن النساء مورثات كما الرجال مورثون ؟ قيل: إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هن متن فتركن مالا، وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت، فحرم الله تعالى ذلك على عباده، وحظر عليهم نكاح حلائل آبائهم، ونهاهم عن عضلهن عن النكاح. وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أسباط بن محمد، قال: ثنا أبو إسحاق، يعني الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.
[ 405 ]
وحدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثني محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: لما توفي أبو قيس بن الاسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل الله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، يعني أن الله نهاكم عن ذلك. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال: كانت الانصار تفعل ذلك كان الرجل إذا مات حميمه ورث حميمه امرأته، فيكون أولى بها من ولي نفسها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *... الآية، قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها أو تموت فيذهب بمالها. قال ابن جريج: فأخبرني عطاء بن أبي رباح أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل، فترك امرأة، حبسها أهله على الصبي يكون فيهم، فنزلت: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *... الآية. قال ابن جريج، وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفي أبوه كان أحق بامرأته، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه. قال ابن جريج: وقال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الاوس، توفي عنها أبو قيس بن الاسلت، فجنح عليها
[ 406 ]
ابنه، فجاءت النبي (ص)، فقالت: يا نبي الله، لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح ! فنزلت هذه الآية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال: كان إذا توفي الرجل كان ابنه الاكبر هو أحق بامرأته ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار مثل قول مجاهد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهم أحق بنفسها. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة، ألقى الرجل عليها ثوبه، فورث نكاحها، وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحا، فإن شاء أمسكها حتى تفتدي منه، وكان هذا في الشرك. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال: كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه، كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع، فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيرا حبست عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *.
[ 407 ]
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * وذلك أن رجالا من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم، ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *. حدثني ابن وكيع، قال: ثني أبي، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مقسم، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، فجاء رجل فألقى عليها ثوبه كان أحق الناس بها، قال: فنزلت هذه الآية: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) *. فتأويل الآية على هذا التأويل: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها، فترك ذلك الآباء والاقارب والنكاح، ووجه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء، اكتفاء بمعرفة وقال آخرون: بل معنى المخاطبين بمعنى الكلام، إذ كان مفهوما معناه عندهم ذلك: لا يحل لكم أيها الناس أن ترثوا النساء تركاتهن كرها، قال: وإنما قيل ذلك كذلك لانهم كانوا يعضلون أياماهن وهن كارهات للعضل حتى يمتن فيرثوهن أموالهن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت، فيرثها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) * قال: نزلت في ناس من الانصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه، فيمسكها حتى تموت فيرثها، فنزلت فيهم. قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، القول الذي ذكرناه عمن قال معناه: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أقاربكم، لان الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل
[ 408 ]
المواريث، فذلك لاهله نحو وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء. فقد علم بذلك أنه جل ثناؤه لم يحظر على عباده أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثا عنهن، وأنه إنما حظر أن يكرهن موروثات بمعنى حظر وراثة نكاحهن إذا كان ميتهم الذي ورثوه قد كان مالكا عليهن أمرهن في النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والارضين وسائر ما له منافع، فأبان الله جل ثناؤه لعباده أن الذي يملكه الرجل منهم من بضع زوجته، معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها، فإن المالك بضع زوجته إذا هو مات لم يكن ما كان له ملكا من زوجته بالنكاح لورثته بعده، كما لهم من الاشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته بميراثه ذلك عنه. وأما قوله تعالى: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: * (ولا تعضلوهن) *: أي ولا تحبسوا يا معشر ورثة من مات من الرجال أزواجهم عن نكاح من أردن نكاحه من الرجال كيما يمتن فتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي فتأخذوا من أموالهن إذا متن ما كان موتاكم الذين ورثتموهن ساقوا إليهن من صدقاتهن. وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم، منهم ابن عباس، والحسن البصري، وعكرمة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تعضلوا أيها الناس نساءكم فتحبسوهن ضرارا، ولا حاجة لكم إليهن فتضروا بهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن من صدقاتهن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولا تعضلوهن) * يقول: لا تقهروهن، * (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضر بها لتفتدي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ولا تعضلوهن) * يقول: لا يحل لك أن تحبس امرأتك ضرارا حتى تفتدي منك. قال: أخبرنا معمر، قال: وأخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني، قال: نزلت هاتان الآيتان، إحداهما في أمر الجاهلية، والاخرى في أمر الاسلام. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن
[ 409 ]
معمر، قال: أخبرنا سماك بن الفضل، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله: * (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن) *، قال: نزلت هاتان الآيتان، إحداهما في الجاهلية، والاخرى في الاسلام، قال عبد الله لا يحل لكم أن ترثوا النساء في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الاسلام. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: * (ولا تعضلوهن) * قال: لا تحبسوهن. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * أما تعضلوهن، فيقول: تضاروهن ليفتدين منكم. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (ولا تعضلوهن) * قال: العضل: أن يكره الرجل امرأته، فيضر بها حتى تفتدي منه، قال الله تبارك وتعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) *. وقال آخرون: المعني بالنهي عن عضل النساء في هذه الآية: أولياؤهن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أن ينكحن أزواجهن) * كالعضل في سورة البقرة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل المنهي عن ذلك زوج المرأة بعد فراقه إياها، وقالوا: ذلك كان من فعل الجاهلية، فنهوا عنه في الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن
[ 410 ]
لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها. قال: فهذا قول الله: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) *... الآية. قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى العضل وما أصله بشواهد ذلك من الادلة. وأولى هذه الاقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) * قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والاضرار بها، وهو لصحبتها كاره، ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لانه لا سبيل لاحد إلى عضل امرأة، إلا لاحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه، وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لاحد غيرهما، وكان الولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا، فيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. وإذا صح ذلك، وكان معلوما أن الله تعالى ذكره لم يجعل لاحد السبيل على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عضله إياها، أتت بفاحشة أم لم تأت بها، وكان الله جل ثناؤه قد أباح للازواج عضلهن إذا أتين بفاحشة مبينة، حتى يفتدين منه، كان بينا بذلك خطأ التأويل الذي تأوله ابن زيد، وتأويل من قال: عنى بالنهي عن العضل في هذه الآية: أولياء الايامى، وصحة ما قلنا فيه. * (ولا تعضلوهن) * في موضع نصب عطفا على قوله: * (أن ترثوا النساء كرها) * ومعناه: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن، وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود، ولو قيل: هو في موضع جزم على وجه النهي لم يكن خطأ. القول في تأويل قوله تعالى: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *. يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن، وأنتم لصحبتهن كارهون، وهن لكم طائعات، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فيحل لكن حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم.
[ 411 ]
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الفاحشة التي ذكرها الله جل ثناؤه في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناها: الزنا، وقال إذا زنت امرأة الرجل حل له عضلها والضرار بها لتفتدي منه بما آتاها من صداقها. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الحسن في البكر تفجر، قال: تضرب مائة، وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وتأول هذه الآية: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة: أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك الحدود. حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة، فلا بأس أن يضارها، ويشق عليها حتى تختلع منه. حدثنا ابن حميد، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرني معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة في الرجل يطلع من امرأته على فاحشة، فذكر نحوه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * وهو الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع الحسن البصري: * (إلا أن يأتين بفاحشة) * قال: الزنا. قال: وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان: فإن فعلت حل لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع لتفتدي. وقال آخرون: الفاحشة المبينة في هذا الموضع: النشوز. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * وهو البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له منها الفدية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة،
[ 412 ]
عن مقسم في قوله: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن في قراءة ابن مسعود. قال: إذا عضلت وآذتك فقد حل لك أخذ ما أخذت منك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مطرف بن طريف، عن خالد، عن الضحاك بن مزاحم: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * قال: الفاحشة ههنا النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ خلعها منها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * قال: هو النشوز. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبي رباح: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * فإن فعلن إن شئتم أمسكتموهن، وإن شئتم أرسلتموهن. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * قال: عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء فرجع إلى النساء، فقال: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * والفاحشة: العصيان والنشوز، فإذا كان ذلك من قبلها، فإن الله أمره أن يضربها، وأمره بالهجر، فإن لم تدع العصيان والنشوز فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل قوله: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * أنه معني به كل فاحشة من بذاءة باللسان على زوجها، وأذى له وزنا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * كل فاحشة مبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز، فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله (ص). كالذي: حدثني يونس بن سليمان البصري، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله (ص)، قال: اتقوا الله في النساء، فانكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
[ 413 ]
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: ثنا صدقة بن يسار، عن ابن عمر، أن رسول الله (ص)، قال: أيها الناس إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف، فإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. فأخبر (ص)، أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا، وأن لا تعصيه في معروف وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، إنما هو واجب عليه، إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف. ومعلوم أن معنى قول النبي (ص): من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا إنما هو أن لا يمكن أنفسهن من أحد سواكم. وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله (ص)، فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره، وأمكنت من جماعها سواه، أن له منعها من الكسوة والرزق بالمعروف، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذا كان ذلك له فمعلوم أنه غير مانع لها بمنعه إياها ماله منعها حقا لها واجبا عليه. وإذا كان ذلك كذلك فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها فأخذ منها زوجها ما أعطته أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح. وإذ كان ذلك كذلك كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) *. وإذ صح ذلك، فبين فساد قول من قال: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * منسوخ بالحدود، لان الحد حق الله تعالى على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه فحق لزوجها كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه حق له، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر. فمعنى الآية: ولا يحل لكم أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نساءكم، فتضيقوا عليهن، وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم، * (إلا أن يأتين بفاحشة) * من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم مبينة ظاهره، فيحل لكم حينئذ عضلهن، والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق، إن هن افتدين منكم به.
[ 414 ]
واختلفت القراء في قراءة قوله: مبينة فقرأه بعضهم: مبينة بفتح الياء، بمعنى أنها قد بينت لكم وأعلنت وأظهرت. وقرأه بعضهم: مبينة بكسر الياء، بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة. وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة أمصار الاسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب، لان الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بينة، وإذا ظهرت فبإظهار صاحبها إياها ظهرت، فلا تكون ظاهرة بينة إلا وهي مبينة ولا مبينة إلا وهي مبينة، فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وعاشروهن بالمعروف) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وعاشروهن بالمعروف) *: وخالقوا أيها الرجال نساءكم، وصاحبوهن بالمعروف، يعني بما أمرتم به من المصاحبة، وذلك إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهن عليكم إليهن، أو تسريح منكم لهن بإحسان. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وعاشروهن بالمعروف) * يقول: وخالطوهن. كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو خالقوهن من العشرة وهي المصاحبة. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) *. يعني بذلك تعالى ذكره: لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة، ولا نشوز، كان منهن، ولكن عاشروهن بالمعروف وإن كرهتموهن، فلعلكم أن تكرهوهن، فتمسكوهن، فيجعل الله لكم في إمساككم إياهن على كره منكم لهن خيرا كثيرا من ولد يرزقكم منهن، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * يقال: فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيرا كثيرا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * قال: الولد.
[ 415 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: * (ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا. والهاء في قوله: * (ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * على قول مجاهد الذي ذكرناه كناية عن مصدر تكرهوا، كأن معنى الكلام عنده: فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا. ولو كان تأويل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله في ذلك الشئ الذي تكرهونه خيرا كثيرا، كان جائزا صحيحا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها * (وآتيتم إحداهن) * يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا، والقنطار: المال الكثير. وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف أهل التأويل في مبلغه والصواب من القول في ذلك عندنا. * (فلا تأخذوا منه شيئا) * يقول: فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) *: طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شئ وإن كثر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) *. يعني بقوله تعالى: * (أتأخذونه) *: أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن، * (بهتانا) * يقول: ظلما بغير حق، * (وإثما مبينا) * يعني: وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *.
[ 416 ]
يعني جل ثناؤه بقوله: * (وكيف تأخذونه) *: وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا، وقد أفضى بعضكم إلى بعض فتباشرتم وتلامستم. وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به ؟ على معنى التهديد والوعيد. وأما الافضاء إلى الشئ فإنه الوصول إليه بالمباشرة له، كما قال الشاعر: بلى... أفضى إلى كتبة بدا سيرها من باطن بعد ظاهر يعني بذلك: أن الفساد والبلى وصل إلى الخرز. والذي عني به الافضاء في هذا الموضع: الجماع في الفرج. فتأويل الكلام إذ كان ذلك معناه: وكيف تأخذون ما آتيتموهن وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع ؟. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الحميد بن بيان القناد، قال: ثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: الافضاء: المباشرة، ولكن الله كريم يكني عما يشاء. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس قال: الافضاء: الجماع، ولكن الله يكني. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عاصم بن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس، قال: الافضاء: هو الجماع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * قال: مجامعة النساء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 417 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * يعني: المجامعة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *. أما ما وثقت به لهن على أنفسكم من عهد، وإقرار منكم بما أقررتم به على أنفسكم، من إمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بإحسان، وكان في عقد المسلمين النكاح قديما، فيما بلغنا أن يقال للناكح: آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عهد المسلمين عند إنكاحهم: آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان. واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *. فقال بعضهم: هو إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: هو ما أخذ الله تبارك وتعالى للنساء على الرجال، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * فهو أن ينكح المرأة فيقول وليها: أنكحناكها بأمانة الله، على أن تمسكها بالمعروف أو تسرحها بإحسان. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: الميثاق الغليظ الذي أخذه الله للنساء: إمساك بمعروف
[ 418 ]
أو تسريح بإحسان، وكان في عقدة المسلمين عند نكاحهن: ايم الله عليك لتمسكن بمعروف، ولتسرحن بإحسان. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن، ومحمد بن سيرين في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: إمساك بمعروف. أو تسريح بإحسان. وقال آخرون: هو كلمة النكاح التي استحل بها الفرج. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم المكي، عن مجاهد في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: قوله نكحت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن محمد بن كعب القرضي: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: هو قولهم: قد ملكت النكاح. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن سالم الافطس، عن مجاهد: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: كلمة النكاح. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: الميثاق: النكاح. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني سالم الافطس، عن مجاهد: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: كلمة النكاح قوله نكحت. وقال آخرون: بل عنى قول النبي (ص): أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ذكر من قال ذلك:
[ 419 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر وعكرمة: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قالا: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * والميثاق الغليظ: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل ذلك قول من قال: الميثاق الذي عني به في هذه الآية، هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عقدة النكاح، من عهد على إمساكها بمعروف، أو تسريحها بإحسان، فأقر به الرجل، لان الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجال في نساءهم وقد بينا معنى الميثاق فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. واختلف في حكم هذه الآية، أمحكم أم منسوخ ؟ فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذ شئ مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق. وقال آخرون: هي محكمة، غير جائز له أخذ شئ مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو. وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله بن المزني. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا عقبة بن أبي المهنا، قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا ؟ قال: لا * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) *. وقال آخرون: بل هي منسوخة نسخها قوله: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * إلى قوله: * (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * قال: ثم رخص بعد، فقال: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * قال: فنسخت هذه تلك. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال بالصواب في ذلك قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة، وغير جائز للرجل أخذ شئ مما آتاها إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا
[ 420 ]
ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الاحكام، ما نفى خلافه من الاحكام، على ما قد بينا في سائر كتبنا، وليس قوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * نفي حكم قوله: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * لان الذي حرم الله على الرجل بقوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه، وهو كاره له ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع، وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الاخرى، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لاحداهما بأنها ناسخة، وللاخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجب التسليم لها. وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره، فليس بصواب لصحة الخبر عن رسول الله (ص) بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إن طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) *. قد ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم، فجاء الاسلام وهم على ذلك، فحرم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك لم يؤاخذهم به إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه. ذكر الاخبار التي رويت في ذلك: حدثني محمد بن عبد الله المخرمي، قال: ثنا قراد، قال: ثنا ابن عيينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الاب، والجمع بين الاختين، قال: فأنزل الله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * * (وأن تجمعوا بين الاختين) *. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في
[ 421 ]
قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *... الآية، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه، ويجمعون بين الاختين، فمن ثم قال الله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * قال: نزلت في أبي قيس بن الاسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة، كانت تحت الاسلت أبيه، وفي الاسود بن خلف، وكان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبيه خلف، وفي فاختة بنت الاسود بن المطلب بن أسد، وكانت عند أمية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن أمية، وفي منظور بن رباب، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة، وكانت عند أبيه رباب بن سيار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها حتى يطلقها، أتحل لابنه ؟ قال: هي مرسلة، قال الله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * قال: قلت لعطاء: ما قوله: * (إلا ما قد سلف) * ؟ قال: كان الابناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *... الآية، يقول: كل امرأة تزوجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل فهي عليك حرام. واختلف في معنى قوله: * (إلا ما قد سلف) * فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقالوا هو من الاستثناء المنقطع. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، بمعنى: ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الاسلام، * (إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) * يعني: أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الاسلام، فإنه معفو لكم عنه. وقالوا: قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء) * كقول القائل للرجل: لا تفعل ما فعلت، ولا تأكل ما أكلت بمعنى: ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلت.
[ 422 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم، فإن نكاحهن لكم حلال كان لانهن لم يكن لهم حلائل، وإنما كان ما كان من آبائكم منهن من ذلك فاحشة ومقتا وساء سبيلا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) *... الآية، قال: الزنا، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا. فزاد ههنا المقت. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم، فمضى في الجاهلية، فإنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، فيكون قوله: * (من النساء) * من صلة قوله: * (ولا تنكحوا) * ويكون قوله: * (ما نكح آباؤكم) * بمعنى المصدر، ويكون قوله: * (إلا ما قد سلف) * بمعنى الاستثناء المنقطع، لانه يحسن في موضعه: لكن ما قد سلف فمضى، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا. فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك، إنما قالوا: أنزلت هذه الآية في النهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له: وإن قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم، وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الآباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما، ابتدئ مثله في الاسلام، بنهي الله جل ثناؤه عنه، لقيل: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، لان ذلك هو المعروف في كلام العرب، إذ كان من لبني آدم وما لغيرهم، ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنه يدخل في ما ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم، فحرم عليهم في الاسلام بهذه الآية نكاح حلائل الآباء، وكل نكاح سواه، نهى الله تعالى ذكره ابتداء مثله في الاسلام، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم. ومعنى قوله: * (إلا ما قد سلف) *: إلا ما قد مضى، * (إنه كان فاحشة) * يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم، كنكاح آبائكم المحرم عليكم ابتداء مثله في الاسلام بعد تحريمي ذلك عليكم فاحشة، يقول: معصية * (ومقتا وساء سبيلا) *: أي بئس طريقا ومنهجا
[ 423 ]
ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تتناكحونها. القول في تأويل قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما) *. يعني بذلك تعالى ذكره: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، فترك ذكر النكاح اكتفاء بدلالة الكلام عليه. وكان ابن عباس يقول في ذلك، ما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن الثوري، عن الاعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع. ثم قرأ: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * حتى بلغ: * (وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) * قال: والسابعة * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: * (حرمت عليكم أمهاتكم) *... إلى قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *. حدثنا ابن بشار مرة أخرى، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، مثله.
[ 424 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: حرم عليكم سبع نسبا وسبع صهرا. * (حرمت عليكم أمهاتكم) *... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال ثنا أبي، عن علي بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم) * قال: حرم الله من النسب سبعا، ومن الصهر سبعا، ثم قرأ: * (وأمهات نسائكم وربائبكم) *.. الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مطرف، عن عمرو بن سالم مولى الانصار، قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع: حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الاخ، وبنات الاخت. ومن الصهر: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن، فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف. ثم قال: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) *، * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) *. فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبين تحريمهن في هذه الآية محرمات غير جائز نكاحهن لمن حرم الله ذلك عليه من الرجال، بإجماع جميع الامة، لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا في أمهات نسائنا اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن في نكاحهن اختلافا بين بعض المتقدمين من الصحابة إذا بانت الابنة قبل الدخول بها من زوجها، هل هن من المبهات، أم هن من المشروط فيهن الدخول ببناتهن. فقال جميع أهل العلم متقدمهم ومتأخرهم: من المبهمات، وحرام على من تزوج امرأة أمها دخل بامرأته التي نكحها أو لم يدخل بها، وقالوا: شرط الدخول في الربيبة دون الام،، فأما أم المرأة فمطلقة بالتحريم. قالوا: ولو جاز أن يكون شرط الدخول في قوله: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فوضع موصولا به قوله: * (وأمهات نسائكم) * جاز أن يكون
[ 425 ]
الاستثناء في قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * من جميع المحرمات بقوله: * (حرمت عليكم) *... الآية، قالوا: وفي إجماع الجميع على أن الاستثناء في ذلك إنما هو مما وليه من قوله: * (والمحصنات) * أبين الدلالة على أن الشرط في قوله: * (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * مما وليه من قوله: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * دون أمهات نسائنا. وروي عن بعض المتقدمين أنه كان يقول: حلال نكاح أمهات نسائنا اللواتي لم ندخل بهن، وإن حكمهن في ذلك حكم الربائب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد الاعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله عنه في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن خلاس، عن علي رضي الله عنه، قال: هي بمنزلة الربيبة. حدثنا حميد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: إذا ماتت عنده، وأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. حدثنا القاسم، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد، أن مجاهدا قال له: * (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم) * أريد بهما الدخول جميعا. قال أبو جعفر: والقول الاول أولى بالصواب، أعني قول من قال: الام من المبهمات، لان الله لم يشرط معهن الدخول ببناتهن، كما شرط ذلك مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضا عن النبي (ص) خبر، غير أن في إسناده نظرا، وهو ما: 7119 - حدثنا به المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي (ص)،
[ 426 ]
قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالابنة أم لم يدخل، وإذا تزوج الام فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة. قال أبو جعفر: وهذا خبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره. حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى حجاج عن ابن جريج قال لعطاء: الرجل ينكح المرأة لم يرها ولا يجامعها حتى يطلقها أيحل له أمها ؟ قال: لا هي مرسلة قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ: (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ؟ قال: لا تبرأ، قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تبرأ ؟ قال: كأنه قال: لا لا. وأم الربائب فإنه جمع ربيبة وهي أبنة امرأة الرجل قيل لها ربيبة لتربيته إياها وإنما هي مربوبة صرفت إلى ربيبة كما يقال: هي قبيلة من مقبولة وقد يقال لزوج المرأة هو ربيب ابن امرأته يعني به: هو رابه كما يقال: هو جابر وجبير وشاهد وشهيد. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) فقال بعضهم معنى الدخول في هذا الموضع: الجماع. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ثنا عبد الله بن صالح قال ثنى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن والدخول: النكاح. وقال آخرون الدخول في هذا الموضع: هو التجريد ذكر من قال ذلك حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني الحجاج قال: قال ابن جريج قلت لعطاء قوله: (اللاتي دخلتم بهن) ما الدخول بهن ؟ قال: أن تهدي إليه فيكشف ويعتس ويجلس بين رجليها. قلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها ؟ قال: هو سواء وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. قلت تحرم الربيبة ممن يصنع هذا بأمها إلا ما يحرم علي من أمتي إن صنعته بأمها ؟ قال نهم سواء. قال عطاء: إذا كشف الرجل أمته وجلس بين رجليها أنهاه عن أمها وابنتها.
[ 427 ]
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب في تأويل ذلك ما قاله ابن عباس من أن معنى الدخول: الجماع والنكاح لان ذلك لا يخلو معناه من أحد الامرين: إما أن يكون على الظاهر المتعارف من معاني الدخول في الناس وهو الوصول إليها بالخلوة بها أو يكون بمعنى الجماع وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرم عليه ابنتها إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدل على أن معنى ذلك: هو الوصول إليها بالجما. وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك مات قلناه. وأما قوله: (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) فإنه يقول: فإن لم تكونوا أيها الناس دخلتم بأمهات ربائبكم اللاتي في حجوركم فجامعتموهن حتى طلقتموهن (فلا جناح عليكم) يقول: فلا حرج عليكم في نكاح من كان من ربائبكم كذلك. وأما قوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم فإنه يعني: وأزواج أبنائكم الذين من إصلابكم وهي جمع حليلة وهي امرأته وقيل: سميت امرأة الرجل حليلته لانها تحل معه في فراش واحد. ولا خلاف بيم جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل بها. فإن قال قائل: فما أنت قائل في حلائل الابناء من الرضاع فإن الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائنا من أصلابنا ؟ قيل: إن حلائل الابناء من الرضاع وحلائل الابناء من الاصلاب سواء في التحريم وإنما قال: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) لان معناه: وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم. كما: حدثنا القامس قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) قال: كنا نحدث والله أعلم أنها نزلت في محمد (ص) حين نكح امرأة زيد بن حارثة قال المشركون في ذلك فنزلت: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم). نزلت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) من إصلابكم وهي جمع حليلة وهي امرأته وقيل: سميت امرأة الرجل حليلته لانها تحل معه في فراش واحد. ولا خلاف بيم جميع أهل العلم أن حليلة ابن الرجل حرام عليه نكاحها بعقد ابنه عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل بها. فإن قال قائل: فما أنت قائل في حلائل الابناء من الرضاع فإن الله تعالى إنما حرم حلائل أبنائنا من أصلابنا ؟ قيل: إن حلائل الابناء من الرضاع وحلائل الابناء من الاصلاب سواء في التحريم وإنما قال: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) لان معناه: وحلائل أبنائكم الذين ولدتموهم دون حلائل أبنائكم الذين تبنيتموهم. كما: حدثنا القامس قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) قال: كنا نحدث والله أعلم أنها نزلت في محمد (ص) حين نكح امرأة زيد بن حارثة قال المشركون في ذلك فنزلت: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم). نزلت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) ونزلت: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)
[ 428 ]
وأما قوله: (وأن تجمعوا بين الاختين) فإن معناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الاختين عندكم بنكاح ف (أن) موضع رفع كأنه قيل: والجمع بين الاختين. (إلا ما قد سلف) لكن ما قد مضى منكم. (فإن الله كان غفورا) لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها. (رحيما) بهم فيما كلفهم من الفرائض وخفف عنهم فلم يحملهم فوق طاقتهم يخبر بذلك إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه فأطاعه باجتنابه رحيم به وبغيره من أهل طاعته من خلفه. تم الجزء الرابع من تفسير ابن جريج الطبري ويليه الجزء الخامس وأوله القول في تأويل قوله (والمحصنات من النساء)