جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 3
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار
[ 2 ]
الجزء الثالث دار الفكر للطباعة والتوزيع
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) * يعني تعالى ذكره بقوله: * (تلك الرسل) * الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم - والذي كلمته منهم موسى (ص) - ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * قال: يقول: منهم من كلم الله ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول النبي (ص): أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الاحمر والاسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة
[ 4 ]
شهر، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لامتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) *. يعني تعالى ذكره بذلك: * (وآتينا عيسى ابن مريم البينات) * وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والادلة على نبوته: من إبراء الاكمه والابرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الانجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه. يعني تعالى ذكره بقوله: * (وأيدناه) * وقويناه وأعناه * (بروح القدس) * يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) *. يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه. ويعني بقوله: * (من بعد ما جاءتهم البينات) * يعني من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.
[ 5 ]
وقد قيل: إن الهاء والميم في قوله: * (من بعدهم) * من ذكر موسى وعيسى: ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) * يقول: من بعد موسى وعيسى. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) * يقول: من بعد موسى وعيسى. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) *. يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته. ثم قال تعالى ذكره لعباده: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم بعصمته وتوفيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا، * (ولكن الله يفعل ما يريد) * بأن يوفق هذا لطاعته والايمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) * يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه.
[ 6 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) * قال: من الزكاة والتطوع. * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * يقول: ادخروا لانفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لاوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لانفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم. * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) * يعني من قبل مجئ يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، لانه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ، أو بالعمل بطاعة الله، سبيل، ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم - مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضا الله، أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الاموال، إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به - يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لانه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل الاخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، كما قال الله تعالى ذكره. وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الاخوان، لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الاسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: * (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) *.
[ 7 ]
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص. وإنما معناه: من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة لاهل الكفر بالله، لان أهل ولاية الله والايمان به يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وكان قتادة يقول في ذلك بما: حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. وأما قوله: * (والكافرون هم الظالمون) * فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله هم الظالمون. يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله. ] وقد دللنا على معنى الظلم بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع: * (والكافرون هم الظالمون) * دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله: * (ولا خلة ولا شفاعة) * إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك: * (والكافرون هم الظالمون) * فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الاخلاء، والشفاعة من الاولياء والاقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الافعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم. فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الايمان ؟ قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله: * (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) * ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، يحض أهل الايمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به قبل مجئ اليوم الذي وصف صفته وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) * أنتم * (مما رزقناكم) * في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي، * (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) * فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم، * (ولا خلة) * لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع
[ 8 ]
عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي، وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، وهم الظالمون أنفسهم دوني، لاني غير ظلام لعبيدي. وقد: حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: ثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: * (والكافرون هم الظالمون) * ولم يقل: الظالمون هم الكافرون. القول في تأويل قوله تعالى: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) * قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله: الله. وأما تأويل قوله: * (لا إله إلا هو) * فإن معناه: النهي عن أن يعبد شئ غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول: الله الذي له عبادة الخلق الحي القيوم، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي صفته ما وصف في هذه الآية. وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض، واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للاقرار به. وأما قوله: * (الحي) * فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له يحد، ولا آخر له يؤمد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود، ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها.
[ 9 ]
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (الحي) * حي لا يموت. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك، فقال بعضهم: إنما سمى الله نفسه حيا لصرفه الامور مصارفها وتقديره الاشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة. وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة. وقال آخرون: بل ذلك اسم من الاسماء تسمى به، فقلناه تسليما لامره. وأما قوله: * (القيوم) * فإنه الفيعول من القيام، وأصله القيووم: سبق عين الفعل وهي واو ياء ساكنة، فاندغمتا فصارتا ياء مشددة، وكذلك تفعل العرب في كل واو كانت للفعل عينا سبقتها ياء ساكنة. ومعنى قوله: * (القيوم) *: القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية: لم يخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم قدره المهيمن القيوم والحشر والجنة والجحيم إلا لامر شأنه عظيم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (القيوم) * قال: القائم على كل شئ. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (القيوم) * قيم كل شئ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
[ 10 ]
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (القيوم) * وهو القائم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (الحي القيوم) * قال: القائم الدائم. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (لا تأخذه سنة) * لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما. والوسن: خثورة النوم، ومنه قول عدي بن الرقاع: وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم ومن الدليل على ما قلنا من أنها خثورة النوم في عين الانسان، قول الاعشى ميمون بن قيس: تعاطي الضجيع إذا أقبلت بعيد النعاس وقبل الوسن وقال آخر: باكرتها الاعراب في سنة النوم فتجري خلال شوك السيال
[ 11 ]
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه: وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان، إذا كان كذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى: * (لا تأخذه سنة) * قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (لا تأخذه سنة) * السنة: النعاس. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله: * (لا تأخذه سنة) * قالا: نعسة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله سواء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * أما سنة: فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الانسان.
[ 12 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * قال: السنة: الوسنان بين النائم واليقظان. حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا منجاب بن الحرث، قال: ثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع: * (لا تأخذه سنة) * قال: النعاس. حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * قال: الوسنان: الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتى ربما أخذ السيف على أهله. وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه. فتأويل الكلام إذ كان الامر على ما وصفنا: الله لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت، القيوم على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الاحوال وتصريف الليالي والايام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الانام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لان النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والارض وما فيهما دكا، لان قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس يمانع المقدر عن التقدير بوسنه. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: وأخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه، في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الاخرى فكسرهما. قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السموات والارض في يديه. حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله (ص) يحكي
[ 13 ]
عن موسى (ص) على المنبر، قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله تعالى ذكره ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الاخرى، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا له، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والارض. القول في تأويل قوله تعالى: * (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (له ما في السموات وما في الارض) * أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود. وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشئ سواه، لان المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والارض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لانه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه. وأما قوله: * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * يعني بذلك: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. وإنما قال ذلك تعالى ذكره لان المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الارض مع السموات والارض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الاوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لاحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي. القول في تأويل قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) *. يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شئ منه.
[ 14 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الحكم: * (يعلم ما بين أيديهم) * الدنيا * (وما خلفهم) * الآخرة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يعلم ما بين أيديهم) * ما مضى من الدنيا * (وما خلفهم) * من الآخرة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج قوله: * (يعلم ما بين أيديهم) * ما مضى أمامهم من الدنيا * (وما خلفهم) * ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يعلم ما بين أيديهم) * قال: ما بين أيديهم فالدنيا * (وما خلفهم) * فالآخرة. وأما قوله: * (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) * فإنه يعني تعالى ذكره أنه العالم الذي لا يخفى عليه شئ محيط بذلك كله محص له دون سائر من دونه، وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه فأراد فعلمه. وإنما يعني بذلك أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالاشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم، يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالاشياء كلها يعلمها، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا يحيطون بشئ من علمه) * يقول: لا يعلمون بشئ من علمه إلا بما شاء هو أن يعلمهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وسع كرسيه السموات والارض) *. اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والارض، فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا: ثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن
[ 15 ]
جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (وسع كرسيه) * قال: كرسيه: علمه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله، وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله: * (ولا يؤوده حفظهما) * ؟ وقال آخرون: الكرسي: موضع القدمين. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثني أبي، قال: ثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وسع كرسيه السموات والارض) * فإن السموات والارض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: * (وسع كرسيه السموات والارض) * قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وسع كرسيه السموات والارض) * قال: لما نزلت: * (وسع كرسيه السموات والارض) * قال أصحاب النبي (ص): يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والارض، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * إلى قوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) *.
[ 16 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وسع كرسيه السموات والارض) * قال ابن زيد: فحدثني أبي قال: قال رسول الله (ص): ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس. قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الارض. وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي: هو العرش. قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الاقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الاثر عن رسول الله (ص)، وهو ما: حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي (ص)، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة ! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والارض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصابعه فجمعها: وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله. حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي (ص)، بنحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه. وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: * (ولا
[ 17 ]
يؤوده حفظهما) * على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والارض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: * (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما) * فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شئ، فكذلك قوله: * (وسع كرسيه السموات والارض) *. وأصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسة، ومنه قول الراجز في صفة قانص: حتى إذا ما احتازها تكرسا يعني علم. ومنه يقال للعلماء: الكراسي، لانهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الارض، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الارض، ومنه قول الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالاحداث حين تنوب يعني بذلك علماء بحوادث الامور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شئ: الكرس، يقال منه: فلان كريم الكرس: أي كريم الارض، قال العجاج: قد علم القدوس مولى القدس أن أبا العباس أولى نفس بمعدن الملك الكريم الكرس
[ 18 ]
يعني بذلك: الكريم الاصل، ويروى: في معدن العز الكريم الكرس (القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (ولا يؤده حفظهما) * ولا يشق عليه ولا يثقله، يقال منه: قد آنى هذا الامر فهو يؤودني أودا وإيادا، ويقال: ما آدك فهو لي آئد، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (ولا يؤده حفظهما) * يقول: لا يثقل عليه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يثقل عليه حفظهما. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يثقل عليه شئ. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: ثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يثقل عليه حفظهما. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، وحدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يثقل عليه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن الضحاك، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته - يعني خلادا - يقول:
[ 19 ]
سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يكثر عليه. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يكرثه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يثقل عليه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * يقول: لا يثقل عليه حفظهما. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا يؤده حفظهما) * قال: لا يعز عليه حفظهما. قال أبو جعفر: والهاء والميم والالف في قوله: * (حفظهما) * من ذكر السموات والارض، فتأويل الكلام: وسع كرسيه السموات والارض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والارض. وأما تأويل قوله: * (وهو العلي) * فإنه يعني: والله العلي. والعلي: الفعيل من قولك علا يعلو علوا: إذا ارتفع، فهو عال وعلي، والعلي: ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته. وكذلك قوله: * (العظيم) * ذو العظمة، الذي كل شئ دونه، فلا شئ أعظم منه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: العظيم الذي قد كمل في عظمته. واختلف أهل البحث في معنى قوله: * (وهو العلي) * فقال بعضهم: يعني بذلك، وهو العلي عن النظير والاشباه. وأنكروا أن يكون معنى ذلك: وهو العلي المكان، وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لان ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان.
[ 20 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لانه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم. وكذلك اختلفوا في معنى قوله: * (العظيم) * فقال بعضهم: معنى العظيم في هذا الموضع: المعظم صرف المفعل إلى فعيل، كما قيل للخمر المعتقة: خمر عتيق، كما قال الشاعر: وكأن الخمر العتيق من الاسفنط ممزوجة بماء زلال وإنما هي معتقة. قالوا: فقوله العظيم معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإما يحتمل قول القائل: هو عظيم أحد معنيين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم، والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن صحة القول بما قلنا. وقال آخرون: بل تأويل قوله: * (العظيم) * هو أن له عظمة هي له صفة. وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الاثبات، وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد، لان ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه معظم، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لانه لا معظم له في هذه الاحوال. وقال آخرون: بل قوله: إنه العظيم وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 21 ]
* (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) * اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الانصار، أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالاسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الاسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الانصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله تعالى ذكره: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد - قال شعبة: وإنما هو مقلات -، فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الانصار: كيف نصنع بأبنائنا ؟ فنزلت هذه الآية: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن عامر، قال: كانت المرأة من الانصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم. فجاء الاسلام وطوائف من أبناء الانصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وإذ جاء الله بالاسلام فلنكرهنهم ! فنزلت: * (لا إكراه في الدين) * فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والاسلام، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الاسلام. ولفظ الحديث لحميد.
[ 22 ]
حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه، إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله (ص) بني النضير، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عامر بنحوه، إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الاسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: نزلت في رجل من الانصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي (ص): ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك. حدثني المثنى قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: نزلت هذه في الانصار. قال: قلت خاصة ؟ قال: خاصة. قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الاسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله (ص)، فأنزل الله تعالى ذكره: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: فقال رسول الله (ص): قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم قال: فأجلوهم معهم. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * إلى: * (لا انفصام لها) * قال: نزلت في رجل من الانصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا، فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله (ص)، فقال: إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما ؟ فقال: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب. وقال: أبعدهما الله ! هما أول من كفر. فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي (ص) حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى
[ 23 ]
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * ثم إنه نسخ: * (لا إكراه في الدين) * فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (لا إكراه في الدين) * قال: كانت في اليهود يهود أرضعوا رجالا من الاوس، فلما أمر النبي (ص) بإجلائهم، قال أبناؤهم من الاوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم ! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت هذه الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: * (لا إكراه في الدين) * قال: كان ناس من الانصار مسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الاسلام، فنزلت: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني الحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا. ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الاوس، دانوا بدين النضير. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الانصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب فلما جاء الاسلام قالت الانصار: يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الاسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الاديان ؟ فلما أذ جاء الله بالاسلام، أفلا نكرههم على الاسلام ؟ فأنزل الله تعالى ذكره: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله، وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الاسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الاسلام.
[ 24 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا إكراه في الدين) * إلى قوله: * (العروة الوثقى) * قال: هذا منسوخ. حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الانصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا، أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت: * (لا إكراه في الدين) *. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينسخ منها شئ. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لانهم كانوا أمة أمية، ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الاسلام، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة في قوله: * (لا إكراه في الدين) * قال: هو هذا الحي من العرب أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الاسلام، وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ولم يقتلوا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (لا إكراه في الدين) * قال: أمر رسول الله (ص) أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الاوثان، فلم يقبل منهم إلا لا إله إلا الله، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (لا إكراه في الدين) * قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف، قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم ! ثم قال: هكذا كان يقال لهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 25 ]
عن أبيه، عن ابن عباس: * (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) * قال: وذلك لما دخل الناس في الاسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره: * (لا إكراه في الدين) * قال: كان رسول الله (ص) بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم، فأذن له. وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس، وقال: عنى بقوله تعالى ذكره: * (لا إكراه في الدين) * أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه. وأنكروا أن يكون شئ منها منسوخا. وإنما قلنا هذا القول أولى الاقوال في ذلك بالصواب لما قد دللنا عليه في كتابنا كتاب اللطيف من البيان عن أصول الاحكام من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الامر والنهي وباطنه الخصوص، فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لاحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم (ص) أنه أكره على الاسلام قوما، فأبى أن يقبل منهم إلا الاسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الاوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الاسلام بقبوله الجزية منه، وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين، ومن أشبههم، كان بينا بذلك أن معنى قوله: * (لا إكراه في الدين) * إنما هو لا إكراه في الدين لاحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الاسلام. ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالاذن بالمحاربة. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نزلت
[ 26 ]
في قوم من الانصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الاسلام ؟ قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الامر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية على ما ذكر ابن عباس وغيره، إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الاسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الاسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ممن كان على دين من الاديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها على النحو الذي قلنا في ذلك. ومعنى قوله: * (لا إكراه في الدين) * لا يكره أحد في دين الاسلام عليه، وإنما أدخلت الالف واللام في الدين تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: لا إكراه فيه، وأنه هو الاسلام. وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من الهاء المنوية في الدين، فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي. وأما قوله: * (قد تبين الرشد) * فإنه مصدر من قول القائل: رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا، وذلك إذا أصاب الحق والصواب. وأما الغي، فإنه مصدر من قول القائل: قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية. وبعض العرب يقول: غوى فلان يغوى. والذي عليه قراءة القراء: * (ما ضل صاحبكم وما غوى) * بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه فضل. فتأويل الكلام إذا: (قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين، ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه، على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) *
[ 27 ]
اختلف أهل التأويل في معنى الطاغوت، فقال بعضهم: هو الشيطان. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العنسى قال: قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان. حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (فمن يكفر بالطاغوت) * قال: الشيطان. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، الطاغوت: الشيطان. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (فمن يكفر بالطاغوت) * بالشيطان. وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى قال: ثنا داود، عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر. وقد خولف عبد الاعلى في هذه الرواية، وأنا ذاكر الخلاف بعد. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر. وقال آخرون: بل الطاغوت: هو الكاهن. ذكر من قال ذلك:
[ 28 ]
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (فمن يكفر بالطاغوت) * قال: كهان تنزل عليها شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، فقال: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان. والصواب من القول عندي في الطاغوت: أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شئ. وأرى أن أصل الطاغوت: الطغووت، من قول القائل: طغا فلان يطغو: إذا عدا قدره فتجاوز حده، كالجبروت من التجبر، والحلبوت من الحلب، ونحو ذلك من الاسماء التي تأتي على تقدير فعلوت بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه أعني لام الطغووت، فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل جذب وجبد وجابذ وجاذب وصاعقة وصاقعة، وما أشبه ذلك من الاسماء التي على هذا المثال. فتأويل الكلام إذن: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله فيكفر به، * (ويؤمن بالله) * يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده، * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه. كما: حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: ثنا بقية بن الوليد، قال: ثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته فوجده في السوق وهو يغرغر لا يفقهون ما يريد، فسألهم: يريد أن ينطق ؟ قالوا: نعم يريد أن يقول: آمنت بالله وكفرت بالطاغوت. قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك ؟ قالوا: لم يزل
[ 29 ]
يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم، إن الله يقول: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) *. القول في تأويل قوله (فقد استمسك بالعروة الوثقى) والعروة في هذا المكان مثل للايمان الذي اعتصم به المؤمن فشبهه في تعلقه به وتمسكه به بالمتمسك بعروة الشئ الذي له عروة يتمسك بها إذا كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته وجعل تعالى ذكره الايمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن با (ص) من ى وثق عرى الاشياء بقوله الوثقى والوثقى فعلى من الوثاقة يقال في الذكر هو الاوثق وفي الانثى هي الوثقى كما يقال فلان الافضل وفلانة الفضلى وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله بالعروة الوثقى قال الايمان. حدثنى المثنى قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. حدثنى موسى قال حدثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدى قال العروة الوثقى هو الاسلام. حدثنا أحمد بن أسحاق قال ثنا أبو أحمد قال ثنا سفيان عن أبي السوداء عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قوله فقد استمسك بالعروة الوثقى قال لا إله إلا الله ثنا ابن بشار قال ثنا عبد الرحمن قال ثنا سفيان عن أبي السوداء النهدي عن سعيد بن جبير مثله. حدثنى المثنى قال ثنا اسحاق قال ثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك فقد استمسك بالعروة الوثقى مثله. القول في تأويل قوله (لا انفصام لها)
[ 30 ]
يعني تعالى ذكره بقوله لا انفصام لها لا انكسار لها والهاء والالف في قوله لها عائدة على العروة ومعنى الكلام فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن با (ص) فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة كالتمسك بالوثيق من عرى الاشياء التي لا يخشى انكسار عراها وأصل الفصم الكسر ومنه قول أعشى بني ثعلبة ومبسمها عن شنب النبات غير كسر ولا منفصم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله لا انفصام لها قال لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيقة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. حدثني موسى بن هارون قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدى لا انفصام لها قال لا انقطاع لها. القول في تأويل قوله (والله سميع عليم)
[ 31 ]
يعني تعالى ذكره والله سميع ايمان المؤمن بالله وحده الكافر بالطاغوت عند اقراره بوحدانية الله وتبرئة من الانداد والاوثان التي تعبد من دون الله واخلاص ربوبيته قلبه وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والاصنام والطواغيت ضميره وبغير ذلك مما أخفته نفس كل ى حد من خلقه لا يتكتم عنه سر ولا يخفى عليه أمر حتى يجازى كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه وأضمرته نفسه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. القول في تأويل قوله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يعني تعالى ذكره بقوله الله ولي الذين آمنوا نصيرهم وظهيرهم يتولاهم بعونه وتوفيقه يخرجهم من الظلمات يعني بذلك يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الايمان وإنما عني بالظلمات في هذا الموضع الكفر وإنما جعل الظلمات للكفر مثلا لان الظمات حاجبة للابصار عن إدراك الاشياء وإثباتها وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الايمان والعلم بصحته وصحة أسبابه فاخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الايمان وسبله وشرائعه وحججه وهاديهم فوفقهم لادلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر وظلم سواتر أبصار القلوب ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به فقال والذين كفروا يعني الجاحدين وحدانيته أولياؤهم يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم الطاغوت يعني الانداد والاوثان الذين يعبدونهم من دون الله يخرجونهم من النور إلى الظلمات يعني بالنور والايمان على نحو ما بينا إلى الظمات ويعنى بالظلمات ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الايمان وحقائق أدلته وسبله وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك. حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله الله ولى النور يقول من الضلالة إلى الهدى والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت الشيطان يخرجهم من النور إلى الظلمات يقول من الهدى إلى الضلالة.
[ 32 ]
حدثنى المثنى قال ثنا إسحاق قا لثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك الله ولي الذين آمنوا يخرجهم الظلمات إلى النور الظلمات الكفر والنور الايمان والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات يخرجونهم من الايمانإلى الكفر حدثت عن عمارة قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله تعالى ذكره الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور يقول من الكفر إلى الايمان والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات يقول من الايمان إلى الكفر. حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن منصور عن عبد الله بن أبي لبابة عن مجاهد أو مقسم في قول الله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) قال كان قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به فلما بعث الله محمدا (ص) آمن به الذين كفروا بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى أي يخرج الذين آمنوا إلى الايمان بمحمد (ص) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت امنوا بعيسى وكفروا بمحمد (ص) قال يخرجونهم من النور إلى الظلمات. حدثنا المثنى قال ثنا الحجاج بن المنهال قال ثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت منصور عن رجل عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية اللهلى النور إلى أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قال هم الذين كانوا آمنوا بعيسى بن مريم فلما جاءهم محمد (ص) آمنوا به وأنزلت فيهم هذه الآية وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة يدل على أن الآية معناها
[ 33 ]
الخصوص وأنها إن كان الامر كما وصفنا نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد (ص) وفيمن آمن بمحمد (ص) من عبدة الاوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى وسائر الملل التي كان أهلها تكذب بعيسى فإن قال قائل أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد (ص) فكذبوا به قيل من كان منهم على ملة عيسى بن مريم (ص) فكان على حق وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله فإن قال قائل فهل يحتمل أن يكون قوله والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وغيره أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى أو غير أهل الردة والاسلام قيل نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الايمان ويضلونهم فيكفرون فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الايمان يعني صدهم إياهم عنه وحرمانهم إياهم خيره وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل كقول الرجل أخرجني والدي من ميراثه إذا ملك ذلك في حياته غيره فحرمه منه خطيئة ولم يملك ذلك القائل هذا الميراث قط فيخرج منه ولكنه لما حرمه وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه قيل أخرجه منه وكقول القائل أخرجني فلان من كتيبته يعني لم يجعلني من أهلها ولم يكن فيها قط قبل ذلك فكذلك قوله يخرجونهم من النور إلى الظلمات يحتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الايمان إلى الكفر على هذا المعنى وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية فإن قال لنا قائل وكيف قال والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور فجمع خبر الطاغوت بقوله يخرجونهم والطاغوت واحد قيل ان الطاغوت اسم لجماع وواحد وقد يجمع طواغيت وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد كان نظير قولهم رجل عدل وقوخم عدل ورجل فطر وقوم فطر وما أشبه ذلك من الاسماء التي تأتي موحدة في اللفظ واحدها وجمعها وكما قال العباس بن مرداس فقلنا أسلموا أنا أخوكم فقد برئت من الاحن الصدور
[ 34 ]
القول في تأويل قوله (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يعني تعالى ذكره بذلك هؤلاء الذين كفروا أصحاب النار أهل النار الذين يخلدون فيها يعني في نار جهنم دون غيرهم من أهل الايمان إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. القول في تأويل قوله تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) يعني تعالى ذكره بقوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم يعني الذي خاصم إبراهيم يعني إبراهيم نبي الله (ص) في ربه أن آتاه الله الملك يعني بذلك حاجة فخاصمه في ربه لان الله آتاه الملك وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمد (ص) من الذي حاج إبراهيم في ربه ولذلك أدخلت إلى في قوله ألم تر إلى الذي حاج وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا ما ترى إلى هذا والمعنى هل رأيت مثل هذا أو كهذا وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرقخشذ ابن سام بن نوح ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن ابي نجيح عن مجاهد في قول الله: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) قال: هو نمروذ بن كنعان.
[ 35 ]
حدثني المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. حدثنى المثنى قال ثنا أبو نعيم عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله. حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن النضر بن عدي عن مجاهد مثله. حدثنا بشر قال ثنا يز قال ثنا سعيد عن قتادة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قال كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمروذ وهو أول ملك تجبر في الارض وهو صاحب الصرح ببابل. الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال هو اسمه نمروذ وهو أول من تجبر في الارض حاج إبراهيم في ربه. حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ وهو أول جبار تجبر في الارض وهو صاحب الصرح ببابل. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمروذ. قال ابن جريج: هو نمروذ، ويقال إنه أول ملك في الارض. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي
[ 36 ]
وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) * يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الاحياء، قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله، فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له. وذلك عند العرب يسمى إحياء، كما قال تعالى ذكره: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم (ص): فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره: * (فبهت الذي كفر) * يعني انقطع وبطلت حجته، يقال منه: بهت يبهت بهتا، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى: بهت، ويقال: بهت الرجل إذا افتريت عليه كذبا بهتا وبهتانا وبهاتة. وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ: فبهت الذي كفر بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت) * وذكر لنا أنه دعا برجلين، فقتل أحدهما، واستحيا الآخر، فقال: أنا أحيي هذا، أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت، قال إبراهيم عند ذلك: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أنا أحيي وأميت: أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال: ملك الارض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمروذ بن كنعان، لم يملكها غيرهم.
[ 37 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الارض نمروذ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم ؟ قالوا: أنت. حتى مر إبراهيم، قال: من ربك ؟ قال: الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، * (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) * قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله فمر على كثيب من رمل أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله، قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رأته، فصنعت له منه، فقربته إليه. وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا ؟ قالت: من الطعام الذي جئت به. فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال: وهل رب غيري ؟ فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شئ. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله. وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم ؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميروهم ! فلما دخل إبراهيم، ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال: فعرضهم كلهم، فيقول: من ربكم ؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك ؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت
[ 38 ]
استحييتك. * (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) * قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا. وجوالقا إبراهيم يصطفقان، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق، لو أني ملات هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرت عينا صبيتي، حتى إذا كان الليل أهرقته. قال: فملاهما ثم خيطهما، ثم جاء بهما، فترامى عليهما الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، لو قمت صنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، فأخذت منه فطحنته وعجنته. فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شئ هذا يا سارة ؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير. قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، قال هو، يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت، فدعا برجلين، فاستحيا أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي وأميت، قال: أي أستحيي من شئت، فقال إبراهيم: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) *. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك ؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال نمروذ: أنا أحيي وأميت، أنا أدخل أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك.
[ 39 ]
قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون، فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه - أعني نمروذ - وهو قول الله تعالى ذكره: * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * فكان يزعم أنه رب. وأمر بإبراهيم فأخرج. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت. قال ابن جريج، كان أتى برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي، قال: أستحيي فلا أقتل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم. أن نمروذ قال لابراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبده، وتدعو إلى عبادته، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو ؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمروذ: فأنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت ؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته. فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره: * (فبهت الذي كفر) * يعني وقعت عليه الحجة، يعني نمروذ وقوله: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لان أهل الباطل حججهم داحضة. وقد بينا أن معنى الظلم: وضع الشئ في غير موضعه، والكافر: وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة.
[ 40 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (أو كالذي مر على قرية) * نظير الذي عنى بقوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * من تعجيب محمد (ص) منه. وقوله: * (أو كالذي مر على قرية) * عطف على قوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) *. وإنما عطف قوله: * (أو كالذي) * على قوله: * (إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما، لان قوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * بمعنى: هل رأيت يا محمد كالذي حاج إبراهيم في ربه، ثم عطف عليه بقوله: * (أو كالذي مر على قرية) * لان من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن الكاف في قوله: * (أو كالذي مر على قرية) * زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية. وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شئ لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. واختلف أهل التأويل في الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال بعضهم: هو عزير. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * قال: عزير. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله: * (أو كالذي مر على قرية) * قال: هو عزير حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * قال: ذكر لنا أنه عزير.
[ 41 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (مثله). حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: * (أو كالذي مر على قرية) * قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * قال: عزير. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السدي: * (أو كالذي مر على قرية) * قال: عزير. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * إنه هو عزير. حدثني يونس، قال: قال لنا سالم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. وقال آخرون: هو إرميا بن حلقيا وزعم محمد بن إسحاق أن إرميا هو الخضر. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل، إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * أن إرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) *.
[ 42 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو إرميا. حدثني محمد بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * قال: كان نبيا وكان اسمه إرميا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر قال: يقولون والله أعلم: إنه إرميا. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه (ص) ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شئ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها، حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها ! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قبله البيان على اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون إرميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك. وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد (ص) على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الانباء التي أوحاها إلى نبيه محمد (ص) في كتابه من الانباء التي لم يكن يعلمها محمد (ص) وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد (ص) وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا (ص) لم يعلم
[ 43 ]
ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه. واختلف أهل التأويل في القرية التي مر عليها القائل: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * فقال بعضهم: هي بيت المقدس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: لما رأى إرميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) *. ثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عزير بعد ما خربه بختنصر البابلي. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * أنه مر على الارض المقدسة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: * (أو كالذي مر على قرية) * قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بختنصر. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (أو كالذي مر على قرية) * قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بختنصر. وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم (الله) موتوا. ذكر من قال ذلك:
[ 44 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: * (ألم ترى إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) * قال: قرية كان نزل بها الطاعون، ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ فقال لهم الله موتوا في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، فماتوا ثم أحياهم الله * (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *. قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * إلى قوله * (لم يتسنه) *. والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * سواء لا يختلفان. (القول في تأويل قوله تعالى: * (وهي خاوية على عروشها) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (وهي خاوية) * وهي خالية من أهلها وسكانها، يقال من ذلك: خوت الدار تخوي خواء وخويا، وقد يقال للقرية: خويت، والاول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نفساء فإنه يقال: خويت تخوى خوى منقوصا، وقد يقال فيها: خوت تخوي، كما يقال في الدار، وكذلك خوي الجوف يخوى خواء شديدا، ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابا، غير أن الفصيح ما ذكرت. وأما العروش: فإنها الابنية والبيوت، واحدها عرش، وجمع قليله أعرش، وكل بناء فإنه عرش، ويقال: عرش فلان (دارا) يعرش ويعرش، وعرش تعريشا، ومنه قول الله تعالى ذكره: * (وما كانوا يعرشون) * يعني يبنون، ومنه قيل عريش مكة، يعني به: خيامها وأبنيتها.
[ 45 ]
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: خاوية: خراب. قال ابن جريج: بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خربه بختنصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتلة والمال ما كان ! فحزن. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وهي خاوية على عروشها) * قال: هي خراب. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مر عليها عزير وقد خربها بختنصر. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وهي خاوية على عروشها) * يقول: ساقطة على سقفها. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) *. ومعنى ذلك فيما ذكرت: أن قائله لما مر ببيت المقدس، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مر به خرابا بعد ما عهده عامرا، قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * ؟ فقال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكا في قدرة الله على إحيائه. فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه. وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويا على عروشه، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الاثر. فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها، قال: على أي وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها ! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل. فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان من شرابه وطعامه، ثم عرفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله
[ 46 ]
إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره، فلما رأى ذلك قال: * (أعلم أن الله على كل شئ قدير) * وكان سبب قيله ذلك كالذي: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لارميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الاشد اخترتك، ولامر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبينه، قال: ثم عظمت الاحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنجاريب، فأوحى الله إلى إرميا: أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم، ثم ذكر ما أرسل الله به إرميا إلى قومه من بني إسرائيل، قال: ثم أوحى الله إلى إرميا: إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح، فلما سمع إرميا وحي ربه، صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقيت التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الانبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الانبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك، فلما سمع الله تضرع الخضر وبكاءه وكيف يقول: ناداه: إرميا أشق عليك ما أوحيت إليك ؟ قال: نعم يا رب أهلكني في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله: وعزتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الامر من قبلك في ذلك، ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا، ثم أتى ملك بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لانفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته، ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس من الله، وقبل أن يبعث عليكم ملوك
[ 47 ]
لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم من تاب إليه، فأبوا عليه أن ينزعوا عن شئ مما هم عليه، وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نعون بن زادان أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنجاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الامر في ذلك، فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق، فلما اقترب الاجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا فاستفته، وأمره بالذي يستفتيه فيه، فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلا من بني إسرائيل، فقال له إرميا: من أنت ؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال الملك: يا نبي الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير، فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت ؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي، فقال له نبي الله، أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب، فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك، فقال النبي (ص): ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه، فقال الملك من عنده، فلبث أياما، وقد نزل بختنصر بجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا إرميا، فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله، إني بربي واثق، ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت ؟ قال: أنا الذي كنت استفتيك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي (ص): أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك: يا نبي الله كل شئ كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنما قصدهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله، فقال النبي (ص): على أي عمل رأيتهم ؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله،
[ 48 ]
ولو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتد عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لاخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم، فقال إرميا: يا مالك السموات والارض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم، فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها، فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي إرميا إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا، فاستيقن النبي (ص) أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملا كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملؤه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم تسعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلمة، وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وعزاريا، ومسايل، وحنانيا. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام، وثلثا سبا، وثلثا قتل، وذهب بأسبية بيت المقدس حتى أقدمها بابل وبالصبيان التسعين الالف حتى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الاولى التي ذكر الله تعالى ذكره نبي الله بأحداثهم وظلمهم، فلما ولى بختنصر عنه راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في زكرة وسلة تين، حتى أتى إيليا، فلما وقف عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) * وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله، ومات حماره معه، فأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: * (كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم
[ 49 ]
يتسنه) * يقول: لم يتغير * (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما) * فنظر إلى حماره يتصل بعضه إلى بعض، وقد مات معه بالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللحم، حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: أعلم أن الله على كل شئ قدير، ثم عمر الله إرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الارض والبلدان. حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى إرميا وهو بأرض مصر أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرض مقام، فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاء جديد، فملاه ماء، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا يوصف، ورأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * وسار حتى تبوأ منها منزلا، فربط حماره بحبل جديد. وعلق سقاءه، وألقى الله عليه السبات، فلما نام نزع الله روحه مائة عام، فلما مرت من المائة سبعون عاما، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له يوسك، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها، حتى تعود أعمر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل، فلما وقعوا في العمل رد الله روح الحياة في عين إرميا، وأخر جسده ميتا، فنظر إلى إيليا وما حولها من القرى والمساجد والانهار والحروث تعمل وتعمر وتجدد، حتى صارتا كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائة، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام وبرد مائة
[ 50 ]
عامر وحر مائة عام، لم تتغير ولم تنتقص شيئا، وقد نحل جسم إرميا من البلى، فأنبت الله له لحما جديدا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: * (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * إن إرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) * ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة، فلما ذهبت المائة رد الله روحه وقد عمرت على حالها الاولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبا ولحما. * (فلما تبين) * له ذلك * (قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) * فقال الله تعالى ذكره: * (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * قال: فكان طعامه تينا في مكتل، وقلة فيها ماء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) * وذلك أن عزيرا مر جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين، فلما مر بالقرية فرآها، وقف عليها وقلب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبا منه وشكا. فأماته الله وأمات حماره، فهلكا ومر عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرا فقال له: كم لبثت ؟ قال له: لبثت يوما أو بعض. قيل له: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير * (لم يتسنه) *... الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام) *.
[ 51 ]
يعني تعالى ذكره بقوله: * (ثم بعثه) * ثم أثاره حيا من بعد مماته. وقد دللنا على معنى البعث فيما مضى قبل. وأما معنى قوله: * (كم لبثت) * فإن كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، وهو في هذا الموضع نصب بلبثت، وتأويله: قال الله له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا ؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم. وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر. وإنما قال: * (لبثت يوما أو بعض يوم) * لان الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم رد إليه روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له: كم لبثت ؟ قال: لبثت يوما، وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لانه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: أو بعض يوم، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * بمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: * (أو بعض يوم) * رجوعا منه عن قوله: * (لبثت يوما) *. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) * قال: ذكر لنا أنه مات ضحى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوما. ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فقال: بل لبثت مائة عام. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * قال: مر على قرية فتعجب، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله أول النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: كم لبثت ؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال
[ 52 ]
الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه، قال: كم لبثت ؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: لما وقف على بيت المقدس وقد خربه بختنصر، قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! كيف يعيدها كما كانت ؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: كم لبثت ؟ قال: يوما. فلما رأى الشمس، قال: أو بعض يوم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * لم تغيره السنون التي أتت عليه. وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زق من عصير. وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دن خمر أو زكرة خمر. وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله. وأما قوله * (لم يتسنه) * ففيه وجهان من القراءة: أحدهما: لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه زائدة صلة كقوله: * (فبهداهم اقتده) * وجعل فعلت منه: تسنيت تسنيا، واعتل في ذلك بأن السنة تجمع سنوات، فيكون تفعلت على نهجه. ومن قال في السنة سنينة فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون تسننت تفعلت، بدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا: تظنيت وأصله الظن، وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: * (من حمإ مسنون) * وهو المتغير. وذلك أيضا إذا كان كذلك، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء، وهو قراءة عامة قراء الكوفة. والآخر منهما: إثبات الهاء في الوصل والوقف، ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في يتسنه لام الفعل ويجعلها مجزومة بلم، ويجعل فعلت منه تسنهت، ويفعل: أتسنه تسنها، وقال في تصغير السنة: سنيهة، ومنه: أسنهت عند القوم، وتسنهت عندهم: إذا أقمت سنة، هذه قراءة عامة قراء أهل المدينة والحجاز.
[ 53 ]
والصواب من القراءة عندي في ذلك، إثبات الهاء في الوصل والوقف، لانها مثبتة في مصحف المسلمين، ولاثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك. ومعنى قوله: * (لم يتسنه) * لم يأت عليه السنون فيتغير، على لغة من قال: أسنهت عندكم أسنه: إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح فجعل الهاء في السنة أصلا، وهي اللغة الفصحى، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لاثباته وجه معروف في كلامها. فإن اعتل معتل بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هن زوائد على نية الوقف، والوجه في الاصل عند القراءة حذفهن، وذلك كقوله: * (فبهداهم اقتده) * وقوله: * (يا ليتني لم أوت كتابيه) * فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غير زائد فغير جائز، وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات. على أن ذلك وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة
[ 54 ]
من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف، غير أن ذلك وإن كان كذلك فلقوله: * (لم يتسنه) * حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن الهاء في يتسنه من لغة من قال: قد أسنهت والمسانهة، ما: حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: ثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: ثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله: لم يتسن، أو لم يتسنه ؟ فقال عثمان: اجعلوا فيها هاء. حدثت عن القاسم، وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار جميعا، عن القاسم، قال: ثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: ثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها: لم يتسن وفأمهل الكافرين ولا تبديل للخلق. قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب: * (لا تبديل لخلق الله) * ومحا فأمهل وكتب: * (فمهل الكافرين) * وكتب: لم يتسنه ألحق فيها الهاء. ولو كان ذلك من يتسنى أو يتسنن لما ألحق فيه أبي هاء لا موضع لها فيه، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها. وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبي بن كعب. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله * (لم يتسنه) * فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه لم يتغير. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: * (لم يتسنه) * لم يتغير. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (لم يتسنه) * لم يتغير.
[ 55 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * يقول: فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير لم يتسنه، يقول: لم يتغير فيمحض التين والعنب، ولم يختمر العصير هما حلوان كما هما. وذلك أنه مر جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين، فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مائة عام. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (لم يتسنه) * لم يتغير. حدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: * (لم يتسنه) * لم يتغير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (لم يتسنه) * لم يتغير في مائة سنة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خربها بختنصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها، فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ! فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حماره حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سل عنب وسل تين لم يتغير عن حاله. قال يونس: قال لنا سالم الخواص: كان طعامه وشرابه سل عنب وسل تين وزق عصير.
[ 56 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: * (لم يتسنه) * لم ينتن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد قوله: * (إلى طعامك) * قال: سل تين، * (وشرابك) * دن خمر، * (لم يتسنه) * يقول: لم ينتن. وأحسب أن مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله: * (لم يتسنه) * من قول الله تعالى ذكره: * (من حمإ مسنون) * بمعنى المتغير الريح بالنتن من قول القائل: تسنن. وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك. فإن ظن ظان أنه من الاسن من قول القائل: أسن هذا الماء يأسن أسنا، كما قال الله تعالى ذكره: * (فيها أنهار من ماء غير آسن) * فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن، ولم يكن يتسنه. فإنه منه، غير أنه ترك همزه، قيل: فإنه وإن ترك همزه فغير جائز تشديد نونه، لان النون غير مشددة، وهي في يتسنه مشددة، ولو نطق من يتأسن بترك الهمزة لقيل يتسن بتخفيف نونه بغير هاء تلحق فيه، ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من الاسن. القول في تأويل قوله تعالى: * (وانظر إلى حمارك) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (وانظر إلى حمارك) * فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارك، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما. ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويل، فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له
[ 57 ]
بعد أن أحياه خلقا سويا، ثم أراد أن يحيي حماره، تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * مستنكرا إحياء الله إياها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: * (كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) * إلى قوله: * (ثم نكسوها لحما) * قال: فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض، وقد كان مات معه بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: * (أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيا عزيرا، فقال: كم لبثت ؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما. فبعث الله ريحا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارا من عظام ليس له لحم ولا دم. ثم إن الله كسا العظام لحما ودما، فقام حمارا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار، فقال: أعلم أن الله على كل شئ قدير. فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولنجعلك آية للناس. فيكون في قوله: * (وانظر إلى حمارك) * متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الالف واللام في قوله: * (وانظر إلى العظام) * بدلا من الهاء المرادة في المعنى، لان معناه: وانظر إلى عظامه: يعني إلى عظام الحمار. وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقا سويا، وقبل أن يحيى حماره. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
[ 58 ]
نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نفخ الروح في عينيه، فنظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، وإلى حماره حين يحييه الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وصل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بلي وابيضت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي: يا عظام اجتمعي، فإن الله منزل عليك روحا ! فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جذعا، فأحياه الله كبيرا قد تشنن، فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن، وكان طعامه سل عنب وشرابه دن خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله. وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حل البقعة، ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: رد الله روح الحياة في عين أرمياء وآخر جسده ميت، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة. حدثت عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * فنظر إلى حماره قائما قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام. * (وانظر إلى العظام كيف
[ 59 ]
ننشزها ثم نكسوها لحما) * فكان أول شئ أحيا الله منه رأسه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يخلق. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * فنظر إلى حماره قائما، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شئ خلق منه رأسه، فجعل ينظر إلى كل شئ منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبين له، قال: أعلم أن الله على كل شئ قدير. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر ! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلى بعض، وبعين نبي الله عليه السلام كان ذلك. فقال: أعلم أن الله على كل شئ قدير. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك) * وكان حماره عنده كما هو، * (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها) *. قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر، فجعل ينظر إلى العظام يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه. فقيل: أعلم أن الله على كل شئ قدير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: * (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك) * واقفا عليك منذ مائة سنة * (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام) * يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا كيف نحيي هذه الارض بعد موتها. قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك ! قال: فكان ينظر إلى الجمجمة، قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه، قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه، فتلصق به حتى وصل إلى جمجمته، وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: * (انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له) * ذلك * (قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. قال: ثم أمر فنادى تلك
[ 60 ]
العظام التي قال: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرمياء مائة عام، ثم بعثه، فإذا حماره حي قائم على رباطه. قال: ورد الله إليه بصره وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: * (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية) *... الآية. ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحما، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها. (وأولى الاقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مر بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مر بها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لان قوله: * (وانظر إلى العظام) * إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: * (وانظر إلى العظام) * إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الاولى بالتأويل أن يكون الامر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لان الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولنجعلك آية للناس) *. يعني تعالى ذكره بذلك: * (ولنجعلك آية للناس) * أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنما
[ 61 ]
أدخلت الواو مع اللام التي في قوله: * (ولنجعلك آية للناس) * وهو بمعنى كي لان في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك، ولو لم تكن قبل اللام أعني لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس. وإنما عنى بقوله: * (ولنجعلك آية) * ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشك في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كله، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري. وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الاعمش يقول: * (ولنجعلك آية للناس) * قال: جاء شابا وولده شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدم عليه من قومه. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبنيت، وهلك من كان يعرفه، فقال: اخرجوا من داري ! قالوا: ومن أنت ؟ قال: أنا عزير. قالوا: أليس قد هلك عزير منذ كذا وكذا ؟ قال: فإن عزيرا أنا هو، كان من حالي وكان. فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه. والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) *. قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: * (كيف ننشزها) * فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأ بعضهم: * (وانظر
[ 62 ]
إلى العظام كيف ننشزها) * بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم. وأصل النشز: الارتفاع، ومنه قيل: قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وش ب، ومنه نشوز المرأة على زوجها، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الارض: نشز ونشز ونشازة، فإذا أردت أنك رفعته، قلت: أنشزته إنشازا، ونشز هو: إذا ارتفع. فمعنى قوله: * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الارض فنردها إلى أماكنها من الجسم. وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: * (كيف ننشزها) * كيف نخرجها. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كيف ننشزها) * قال: نحركها. وقرأ ذلك آخرون: وانظر إلى العظام كيف ننشزها بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: كيف ننشزها قال: انظر إليها حين يحييها الله. حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وانظر إلى العظام كيف ننشرها قال: كيف نحييها.
[ 63 ]
واحتج بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله: * (ثم إذا شاء أنشره) * فرأى أن من الصواب إلحاق قوله: وانظر إلى العظام كيف ننشرها به. وقرأ ذلك بعضهم: وانظر إلى العظام كيف ننشرها بفتح النون من أوله وبالراء، كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشئ وطيه. وذلك قراءة غير محمودة، لان العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول: أنشر الله الموتى، فنشروا هم بمعنى: أحياهم فحيوا هم. ويدل على ذلك قوله: * (ثم إذا شاء أنشره) * وقوله: * (آلهة من الارض هم ينشرون) *. وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته، قيل: نشر، وقول أعشى بني ثعلبة: حتى يقول الناس مما رأوايا عجبا للميت الناشر وروي سماعا من العرب: كان به جرب فنشر، إذا عاد وحيي. والقول في ذلك عندي أن معنى الانشار ومعنى الانشاز متقاربان، لان معنى الانشاز: التركيب والاثبات ورد العظام من العظام وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى، وقد جاءت بالقراءة بهما الامة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لاحداهما من القضاء بالصواب على الاخرى. فإن ظن ظان أن الانشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لان المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) *
[ 64 ]
فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: * (ثم نكسوها لحما) * ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الانشاز تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الانشار، وكان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: كيف ننشرها بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم نكسوها لحما) * يعني تعالى ذكره بذلك: * (ثم نكسوها) * أي العظام لحما. والهاء التي في قوله: * (ثم نكسوها لحما) * من ذكر العظام. ومعنى نكسوها: نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الانسان كسوته التي يلبسها، وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شئ غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة، ومنه قول النابغة الجعدي: فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الاسلام سربالا فجعل الاسلام إذ غطى الذي كان عليه فواراه وأذهبه كسوة له وسربالا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. يعني تعالى ذكره بقوله: * (فلما تبين له) * فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قال: أعلم الآن بعد المعاينة والاتضاح والبيان أن الله على كل شئ قدير.
[ 65 ]
ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله: * (قال أعلم أن الله) *. فقرأه بعضهم: قال اعلم على معنى الامر بوصل الالف من اعلم، وجزم الميم منها. وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله: قيل اعلم على وجه الامر من الله للذي أحيى بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس. حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد الله: قيل اعلم أن الله على وجه الامر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه - أحسبه، شك أبو جعفر الطبري - سمعت ابن عباس يقرأ: فلما تبين له قال اعلم قال: إنما قيل ذلك له. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا والله أعلم أنه قيل له انظر ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض وذلك بعينيه، فقيل: اعلم أن الله على كل شئ قدير. فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبين له ما تبين من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شئ قدير. ولو صرف متأول قوله: قال اعلم وقد قرأه على وجه الامر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتص في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلم أن قد كان كذا وكذا، على وجه الامر منه لغيره وهو يعني به نفسه. وقرأ ذلك آخرون: * (قال أعلم) * على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم. بمعنى: فلما تبين له ما تبين من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال أليس ذلك: أعلم الآن أنا أن الله على كل شئ قدير. وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: * (أعلم أن الله على كل شئ قدير) *.
[ 66 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: * (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: يعني نبي الله عليه السلام، يعني إنشاز العظام، فقال: أعلم أن الله على كل شئ قدير. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره -: * (أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شئ منه يوصل بعضه إلى بعض، * (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نحوه. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: اعلم بوصل الالف وجزم الميم على وجه الامر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالامر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى رده عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شئ قادر كذلك. وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره، لان ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولا للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به، وذلك قوله: * (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك... وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه: * (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) * ! قال الله له: اعلم أن الله الذي فعل هذه الاشياء على ما رأيت على غير ذلك من الاشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم (ص)، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *: * (واعلم أن الله عزيز حكيم) * فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم، وكذلك أمر الذي سأل فقال: * (أنى
[ 67 ]
يحيي هذه الله بعد موتها) * بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شئ قدير. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) * يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: * (وإذ قال إبراهيم) * على قوله: * (أو كالذي مر على قرية) * وقوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * لان قوله: * (ألم تر) * ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانا بما يوافق معناه. واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت ؟ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الارض ليرى ذلك عيانا، فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) * ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم (ص) أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع، فقال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * حدثت عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله، كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك، فذلك قوله: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبرهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد
[ 68 ]
تمزعت لحمها وبقي عظامها. فلما ذهبت السباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب ثم قال: رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى) * ولكن ليس الخبر كالمعاينة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البر، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال: أولم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي. وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في سورة الانبياء، قال نمروذ فيما يذكرون لابراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو ؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمروذ: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه. قال: فقال إبراهيم عند ذلك: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * من غير شك في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: ليطمئن قلبي، أي ما تاق إليه إذا هو علمه. وهذان القولان، أعني الاول وهذا الآخر، متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا. وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا، فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي،
[ 69 ]
قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت فدخل داره، وكان إبراهيم أغير الناس، إن خرج أغلق الباب، فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه ليأخذه، قال: من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت ! وعرف أنه ملك الموت، قال: من أنت ؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا. فحمد الله وقال: يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الاولى، فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ! قال: فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا، في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * حتى أعلم أني خليلك * (قال أو لم تؤمن) * بأني خليلك، يقول تصدق، * (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * بخلولتك. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير: * (ولكن ليطمئن قلبي) * قال: بالخلة. وقال آخرون: قال ذلك لربه لانه شك في قدرة الله على إحياء الموتى. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: * (ولكن ليطمئن قلبي) * قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال:
[ 70 ]
سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن المسيب، قال: اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال: ونحن يومئذ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الامة ؟ فقال عبد الله بن عمرو * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الامة قول إبرهيم (ص) * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) *. حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى... قال فخذ أربعة من الطير) * ليريه. حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: ثنا سعيد بن تليد، قال: ثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: ثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم توءمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله (ص) قال: فذكر نحوه. وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله (ص) أنه قال، وهو قوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أو لم تؤمن وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض
[ 71 ]
في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: * (أولم تؤمن) * يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال: بلى يا رب، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت. حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. ومعنى قوله: * (ليطمئن قلبي) * ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه. وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله: * (ليطمئن قلبي) * إلى أنه ليزداد إيمانا، أو إلى أنه ليوفق. ذكر من قال ذلك: ليوفق، أو ليزداد يقينا أو إيمانا: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير: * (ليطمئن قلبي) * قال: ليوفق. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: * (ليطمئن قلبي) * قال: ليزداد يقيني. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (ولكن ليطمئن قلبي) * يقول: ليزداد يقينا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولكن ليطمئن قلبي) * قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينا. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (ولكن ليطمئن قلبي) * قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينا.
[ 72 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن كثير البصري، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير: * (ليطمئن قلبي) * قال: ليزداد يقيني. حدثني المثنى، قال: ثنا الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: * (ولكن ليطمئن قلبي) * قال: ليزداد يقينا. حدثنا صالح بن مسمار، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا خلف بن خليفة، قال: ثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وإبراهيم في قوله: * (ليطمئن قلبي) * قال: لازداد إيمانا مع إيماني. حدثنا صالح، قال: ثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: ثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قول الله: * (ليطمئن قلبي) * قال: لازداد إيمانا مع إيماني. وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال: معنى قوله: * (ليطمئن قلبي) * بأني خليلك. وقال آخرون: معنى قوله: * (ليطمئن قلبي) * لاعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (ليطمئن قلبي) * قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. وأما تأويل قوله: * (قال أولم تؤمن) * فإنه: أولم تصدق ؟ كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: * (أولم تؤمن) * قال: أو لم توقن بأني خليلك ؟ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أولم تؤمن) * قال: أو لم توقن. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال فخذ أربعة من الطير) *.
[ 73 ]
يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: فخذ أربعة من الطير. فذكر أن الاربعة من الطير: الديك، والطاوس، والغراب، والحمام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الاول يذكرون أنه أخذ طاوسا، وديكا، وغرابا، وحماما. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الاربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج: * (قال فخذ أربعة من الطير) * قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (قال فخذ أربعة من الطير) * قال: فأخذ طاوسا، وحماما، وغرابا، وديكا، مخالفة أجناسها وألوانها. القول في تأويل قوله تعالى: * (فصرهن إليك) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة: * (فصرهن إليك) * بضم الصاد من قول القائل: صرت إلى هذا الامر: إذا ملت إليه أصور صورا، ويقال: إني إليكم لاصور أي مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: الله يعلم أنا في تلفتنايوم الفراق إلى أحبابنا صور وهو جمع أصور وصوراء وصور، مثل أسود وسوداء وسود. ومنه قول الطرماح: عفائف الاذيال أو أن يصورها هوى والهوى للعاشقين صروع
[ 74 ]
يعني بقوله: أو أن يصورها هوى: يميلها. فمعنى قوله: * (فصرهن إليك) * اضممهن إليك ووجههن نحوك، كما يقال: صر وجهك إلي، أي أقبل به إلي. ومن وجه قوله: * (فصرهن إليك) * إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه، ويكون معناه حينئذ عنده، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم قطعهن، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم الصاد: قطعهن، كما قال توبة بن الحمير: فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد أسورها فأدنت لي الاسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كان ارتقائي يصورها يعني يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: * (فصرهن إليك) * كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن، ويكون إليك من صلة خذ. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: فصرهن إليك بالكسر، بمعنى قطعهن. وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون فصرهن ولا فصرهن، بمعنى قطعهن في كلام العرب، وأنهم لا يعرفون كسر الصاد وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، وأنهما جميعا لغتان بمعنى الامالة، وأن كسر الصاد منها لغة في هذيل وسليم، وأنشدوا لبعض بني سليم: وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح
[ 75 ]
يعني بقوله يصير: يميل، وأن أهل هذه اللغة يقولون: صاره وهو يصيره صيرا، وصر وجهك إلي: أي أمله، كما تقول: صره. وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: * (فصرهن) * ولا لقراءة من قرأ: فصرهن بضم الصاد وكسرها وجها في التقطيع، إلا أن يكون فصرهن إليك في قراءة من قرأه بكسر الصاد من المقلوب، وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من صرى يصري صريا، فإن العرب تقول: بات يصري في حوضه: إذا استقى، ثم قطع واستقى، ومن ذلك قول الشاعر: صرت نظرة لو صادفت جوز دارع غدا والعواصي من دم الجوف تنعر صرت: قطعت نظرة. ومنه قول الآخر: يقولون إن الشام يقتل أهله فمن لي إذا لم آته بخلود تعرب آبائي فهلا صراهم من الموت أن لم يذهبوا وجدودي يعني قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحولت عينها فجعلت لامها، فقيل صار يصير، كما قيل: عثي يعثى عثا، ثم حولت لامها، فجعلت عينها، فقيل عاث يعيث. فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: * (فصرهن إليك) * سواء معناه إذا قرئ بالضم من
[ 76 ]
الصاد وبالكسر في أنه معني به في هذا الموضع التقطيع، قالوا: وهما لغتان: إحداهما صار يصور، والاخرى صار يصير، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلى بن جمال العبدي: وجاءت خلعة دهس صفايايصور عنوقها أحوى زنيم بمعنى يفرق عنوقها ويقطعها، وببيت خنساء: لظلت الشم منها وهي تنصار يعني بالشم: الجبال أنها تتصدع وتتفرق. وببيت أبي ذؤيب: فانصرن من فزع وسد فروجه غبر ضوار وافيان وأجدع
[ 77 ]
قالوا: فلقول القائل: صرت الشئ معنيان: أملته، وقطعته، وحكوا سماعا: صرنا به الحكم: فصلنا به الحكم. وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين من أن معنى الضم في الصاد من قوله: * (فصرهن إليك) * والكسر سواء بمعنى واحد، وأنهما لغتان معناهما في هذا الموضع فقطعهن، وأن معنى إليك تقديمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله: فخذ، أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت، لاجماع جميع أهل التأويل على أن معنى قوله: * (فصرهن) * غير خارج من أحد معنيين: إما قطعهن، وإما اضممهن إليك، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين أعني الكسر والضم، أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين، لانهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: * (فصرهن) * بمعنى فقطعهن، على أن أصل الكلام فأصرهن، ثم قلبت فقيل فصرهن بكسر الصاد لتحول ياء فأصرهن مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم، قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب
[ 78 ]
فأصرهن إلى فصرهن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد، وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأولوه تأويلا واحدا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر الصاد بتأويل التقطيع مقلوب من صري يصري إلى صار يصير، وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع. ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: * (فصرهن) * أنه بمعنى فقطعهن. حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (فصرهن) * قال: هي نبطية فشققهن. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: * (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) * قال: إنما هو مثل. قال: قطعهن ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، ربعا ههنا، وربعا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيا. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: * (فصرهن) * قال: قطعهن. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: * (فصرهن إليك) * يقول: قطعهن. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: * (فصرهن) * قال: قال جناح ذه عند رأس ذه، ورأس ذه عند جناح ذه. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: * (فصرهن إليك) * قال: قال عكرمة بالنبطية: قطعهن. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: * (فصرهن إليك) * قال: قطعهن.
[ 79 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فصرهن إليك) * انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا، ثم اخلط لحومهن بريشهن. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فصرهن إليك) * قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فصرهن إليك) * أمر نبي الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فصرهن إليك) * قال: فمزقهن، قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: * (فصرهن إليك) * يقول: فشققهن وهو بالنبطية صرى، وهو التشقيق. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فصرهن إليك) * يقول قطعهن. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (فصرهن إليك) * يقول قطعهن إليك ومزقهن تمزيقا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (فصرهن إليك) * أي قطعهن، وهو الصور في كلام العرب. ففيما ذكرنا من أقوال من روينا قوله في تأويل قوله: * (فصرهن إليك) * أنه بمعنى فقطعهن إليك، دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ ذلك بضم الصاد فصرهن إليك أو كسرها فصرهن أن كانت اللغتان معروفتين بمعنى واحد، غير أن الامر وإن كان كذلك، فإن أحبهما إلي أن أقرأ به
[ 80 ]
فصرهن إليك بضم الصاد، لانها أعلى اللغتين وأشهرهما وأكثرهما في أحياء العرب. وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى أوثق. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فصرهن إليك) * صرهن: أوثقهن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: * (فصرهن إليك) * قال: اضممهن إليك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (فصرهن إليك) * قال: اجمعهن. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * فقال بعضهم: يعني بذلك على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعا ههنا، وربعا ههنا، وربعا ههنا، وربعا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبل، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم (ص). ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه الله
[ 81 ]
إبراهيم. يقول: كما بعث هذه الاطيار من هذه الا جبل الاربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الارض ونواحيها. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم، ثم دعاهن فأتينه سعيا، يقول: شدا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثت هذه الاطيار من هذه الا جبل الاربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الارض ونواحيها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الاطيار الاربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال: تعالين بإذن الله كما كنتم ! فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إليه سعيا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الارض ومغاربها، وشامها ويمنها. فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف ذلك بغير ما قال نمروذ من الكذب والباطل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * قال: فأخذ طاووسا، وحمامة، وغرابا، وديكا، ثم قال: فرقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه ! فقطعهن وفرقهن أرباعا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعا، فقال الله: كما ناديتهن فجئنك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضا، يعني الموتى. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الاجبال التي كانت الاطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الاموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال. ذكر من قال ذلك:
[ 82 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، قال: فخذ أربعة من الطير - قال ابن جريج: فذبحها - ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع ! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الاخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الاخرى، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعا. وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * قال: ثم بددهن على كل جبل يأتينك سعيا، وكذلك يحيي الله الموتى. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيا، كذلك يحيي الله الموتى، هو مثل ضربه الله لابراهيم. حدثنا القاسم، ثال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * ثم بددهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن: تعالين بإذن الله ! فكذلك يحيي الله الموتى، مثل ضربه الله لابراهيم (ص). حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن
[ 83 ]
الضحاك، قال: أمره أن يخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن. (وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله تعالى ذكره أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الاطيار الاربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الاجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء، لان الله تعالى ذكره قال له: * (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * والكل حرف يدل على الاحاطة بما أضيف إليه لفظه واحد ومعناه الجمع. فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الاطيار الاربعة عليها خارجة من أحد معنيين: إما أن تكون بعضا أو جمعا، فإن كانت بعضا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لابراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الاطيار الاربعة عليه. أو يكون جمعا، فيكون أيضا كذلك. وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، وإما ما في الارض من الجبال. فأما قول من قال: إن ذلك أربعة أجبل، وقول من قال: هن سبعة، فلا دلالة عندنا على صحة شئ من ذلك فنستجيز القول به. وإنما أمر الله إبراهيم (ص) أن يجعل الاطيار الاربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن، فيطمئن قلب إبراهيم ويعلم أن كذلك يجمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة وتأليفه أجزاءهم بعد البلى ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الرد. والجزء من كل شئ هو البعض منه كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم، فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم، لان السهم من الشئ: هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة، ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث السهام دون الاجزاء.
[ 84 ]
وأما قوله: * (ثم ادعهن) * فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال: هو أنه أمر أن يقول لاجزاء الاطيار بعد تفريقهن على كل جبل تعالين بإذن الله. فإن قال قائل: أمر إبراهيم أن يدعوهن وهن ممزقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتا، أم بعد ما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالاقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن على رؤوس الجبال ؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيم (ص) بدعائهن وهن أجزاء متفرقات إنما هو أمر تكوين، كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا: * (كونوا قردة خاسئين) * لا أمر عبادة، فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد. (القول في تأويل قوله تعالى: * (واعلم أن الله عزيز حكيم) *. يعني تعالى ذكره بذلك: واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الاطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن ورد إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقكهن، * (عزيز) * في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم، * (حكيم) * في أمره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق: * (واعلم أن الله عزيز حكيم) * قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (واعلم أن الله عزيز) * في نقمته * (حكيم) * في أمره. القول في تأويل قوله تعالى: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم) * وهذه الآية مردودة إلى قوله: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) *. والآيات التي بعدها إلى قوله: * (مثل
[ 85 ]
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاج إبراهيم مع إبراهيم، وأمر الذي مر على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربه ما سأل مما قد ذكرناه قبل، اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترض به من قصصهم بين ذلك احتجاجا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة، وحضا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) *. يعرفهم فيهم أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدد عدوهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرق جمعهم وموهن كيدهم، وقطعا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص)، بما أطلع نبيه عليه من خفي أمورهم، ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما أتاهم به محمد (ص) من عند الله، وأنه ليس بتخرص ولا اختلاق، وإعذارا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكهم في أمر محمد (ص) أن يحل بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها. ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن الذي يقرض الله قرضا حسنا، وما عنده له من الثواب على قرضه، فقال: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم، * (كمثل حبة) * من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الارض التي تسنبل سنبلة بذرها زارع. فأنبتت، يعني فأخرجت * (سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) *، يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * فهذا لمن أنفق في سبيل الله، فله سبعمائة.
[ 86 ]
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) * قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرج. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) *... الآية. فكان من بايع النبي (ص) على الهجرة، ورابط مع النبي (ص) بالمدينة، ولم يلق وجها إلا بإذنه، كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الاسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها. فإن قال قائل: وهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها مثل المنفق في سبيل الله ماله ؟ قيل: إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك، وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إن جعل الله ذلك فيها. ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة، يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة مضافا إليها لانه كان عنها. وقد تأول ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لمن أنفق في سبيل الله، * (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله يضاعف لمن يشاء) *. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (والله يضاعف لمن يشاء) *. فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في غير سبيله، فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن
[ 87 ]
الضحاك، قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله، يعني السبعمائة، * (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) * يعني لغير المنفق في سبيله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده فتركت ذكره. والذي هو أولى بتأويل قوله: * (والله يضاعف لمن يشاء) * والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف لمن يشاء من المنفقين في سبيله، لانه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف إلى أنه عدة منه على العمل على غير النفقة في سبيل الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله واسع عليم) *. يعني تعالى ذكره بذلك: والله واسع أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده، عليم من يستحق منهم الزيادة. كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) * قال: واسع أن يزيد من سعته، عليم عالم بمن يزيده. وقال آخرون: معنى ذلك: والله واسع لتلك الاضعاف، عليم بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يعني تعالى ذكره بذلك: المعطي ماله المجاهدين في سبيل الله معونة لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سيبل الله بالانفاق عليهم وفي حمولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ولا أذى لهم، فامتنانه به عليهم بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم بفعله، وعطائه الذي أعطاهموه، تقوية لهم على جهاد عدوهم معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل.
[ 88 ]
وأما الاذى فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقواهم من النفقة في سبيل الله أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفق عليه. وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجب الاجر لمن كان غير مان ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله، لان النفقة التي هي في سبيل الله مما ابتغى به وجه الله، وطلبه ما عنده، فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه، لانه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المن والاذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته وعلى الله مثوبته دون من أنفق ذلك عليه. وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * علم الله أن أناسا يمنون بعطيتهم، فكره ذلك وقدم فيه فقال: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال للآخرين - يعني: قال الله للآخرين، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم -: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى. قال: فشرط عليهم. قال: والخارج لم يشرط عليه قليلا ولا كثيرا، يعني بالخارج الخارج في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) *... الآية. قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئا، أو تقوى فقويت في سبيل الله، فظننت أنه يثقل عليه سلامك فكف سلامك عنه. قال ابن زيد: فهو خير من السلام. قال: وقالت امرأة لابي: يا أبا أسامة، تدلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم لا يخرجون إلا ليأكلوا الفواكه ! عندي جعبة وأسهم فيها. فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك، ولا في أسهمك، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم ! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه.
[ 89 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: * (لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) * قال: أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى وأما قوله: * (لهم أجرهم عند ربهم) * فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بين. والهاء والميم في لهم عائدة على الذين. ومعنى قوله: * (لهم أجرهم عند ربهم) * لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله، ثم لم يتبعونها منا ولا أذى. وقوله: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يقول: وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا، لا خوف عليهم عند مقدمهم على الله، وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة، وأن ينالهم من مكارهها، أو يصيبهم فيها من عقاب الله، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) * يعنى تعالى ذكره بقوله: * (قول معروف) * قول جميل، ودعاء الرجل لاخيه المسلم. * (ومغفرة) * يعني: وستر منه عليه لما علم من خلته وسوء حالته، خير عند الله من صدقة يتصدقها عليه يتبعها أذى، يعني يشتكيه عليها ويؤذيه بسببها. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) * يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منا وأذى. وأما قوله: * (غني حليم) * فإنه يعني: والله غني عما يتصدقون به، حليم حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. وروي عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الغني: الذي كمل في غناه، والحليم: الذي قد كمل في حلمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئآء
[ 90 ]
الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) * يعني تعالى ذكره بذلك: * (يا أيها الذين آمنوا) * صدقوا الله ورسوله، * (لا تبطلوا صدقاتكم) *، يقول: لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والاذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله * (رئاء الناس) *، وهو مراآته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه وهو مريد به غير الله ولا طالب منه الثواب وإنما ينفقه كذلك ظاهرا ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخي كريم، وهو رجل صالح، فيحسنوا عليه به الثناء وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر. وأما قوله: * (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) * فإن معناه: ولا يصدق بواحدنية الله وربوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازي على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق، وإنما قلنا إنه منافق، لان المظهر كفره والمعلن شركه معلوم أنه لا يكون بشئ من أعماله مرائيا، لان المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه، والكافر لا يخيل على أحد أمره أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان - إذا كان معلنا كفره - لا لله، ومن كان كذلك فغير كائن مرائيا بأعماله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال أبو هانئ الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزني، ولا يغل، لا يرجع بالكفاف ! فقيل له: لم ذاك ؟ قال: فإن الرجل ليخرج فإذا أصابه من بلاء الله الذي قد حكم عليه سب ولعن إمامه، ولعن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدا ! فهذا عليه، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها من وأذى، فقد ضرب الله مثلها في القرآن: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * حتى ختم الآية.
[ 91 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) *. يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر. والهاء في قوله: * (فمثله) * عائدة على الذي. * (كمثل صفوان) * والصفوان واحد وجمع، فمن جعله جمعا فالواحدة صفوانة بمنزلة تمرة وتمر ونخلة ونخل، ومن جعله واحدا جمعه صفوان وصفي وصفي، كما قال الشاعر: مواقع الطير على الصفي والصفوان هو الصفا، وهي الحجارة الملس. وقوله: * (عليه تراب) * يعني على الصفوان تراب، * (فأصابه) * يعني أصاب الصفوان، * (وابل) *: وهو المطر الشديد العظيم، كما قال امرؤ القيس: ساعة ثم انتحاها وابل ساقط الاكناف واه منهمر يقال منه: وبلت السماء فهي تبل وبلا، وقد وبلت الارض فهي توبل. وقوله: * (فتركه صلدا) * يقول: فترك الوابل الصفوان صلدا، والصلد من الحجارة:
[ 92 ]
الصلب الذي لا شئ عليه من نبات ولا غيره، وهو من الارضين ما لا ينبت فيه شئ، وكذلك من الرؤوس، كما قال رؤبة: لما رأتني خلق المموه براق أصلاد الجبين الاجله ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي: قدر صلود، وقد صلدت تصلد صلودا، ومنه قول تأبط شرا: ولست بجلب جلب ليل وقرة ولا بصفا صلد عن الخير معزل (ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثل لاعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب، فأصابه الوابل من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شئ يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله، لانه لم يكن لله كما ذهب الوابل من المطر بما كان على الصفوان من التراب، فتركه أملس لا شئ عليه، فذلك قوله: لا يقدرون، يعني به الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شئ مما كسبوا في الدنيا، لانهم لم يعملوا لمعادهم ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم، وإنما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها. ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا يهدي القوم الكافرين، يقول: لا يسددهم لاصابة الحق في نفقاتهم وغيرها فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه تركهم في ضلالتهم
[ 93 ]
يعمهون، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر عند الله) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * فقرأ حتى بلغ: * (على شئ مما كسبوا) * فهذا مثل ضربه الله لاعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شئ مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاة الحجر ليس عليه شئ أنقى ما كان. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) * إلى قوله: * (والله لا يهدي القوم الكافرين) * هذا مثل ضربه الله لاعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شئ مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيا لا شئ عليه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * إلى قوله: * (على شئ مما كسبوا) * أما الصفوان الذي عليه تراب فأصابه المطر، فذهب ترابه فتركه صلدا، فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ذهب الرياء بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شئ مما قدم، فقال للمؤمنين: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * فتبطل كما بطلت صدقة الرياء. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما جميعا * (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا) * فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منا وأذى. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * إلى: * (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا) * ليس عليه شئ، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شئ مما كسب.
[ 94 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * قال: يمن بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) * فقرأ: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * حتى بلغ: * (لا يقدرون على شئ مما كسبوا) * ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئا ؟ فكذلك منك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئا. وقرأ قوله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * وقرأ: * (وما أنفقتم من خير لانفسكم) *. فقرأ حتى بلغ: * (وأنتم لا تظلمون) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (صفوان) * قد بينا معنى الصفوان بما فيه الكفاية، غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (كمثل صفوان) * كمثل الصفاة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (كمثل صفوان) * والصفوان: الصفا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما صفوان، فهو الحجر الذي يسمى الصفاة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (صفوان) * يعني الحجر. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأصابه وابل) *. قد مضى البيان عنه، وهذا ذكر من قال قولنا فيه:
[ 95 ]
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (فأصابه وابل) * والوابل: المطر الشديد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (فتركه صلدا) *. ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فتركه صلدا) * يقول نقيا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (فتركه صلدا) * قال: تركها نقية ليس عليها شئ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: * (فتركه صلدا) * قال: ليس عليه شئ. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (صلدا) * فتركه جردا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (فتركه صلدا) * ليس عليه شئ. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (فتركه صلدا) * ليس عليه شئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) *
[ 96 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: ومثل الذين ينفقون أموالهم فيصدقون بها ويحملون عليها في سبيل الله ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته. * (وتثبيتا) * يعني بذلك: وتثبيتا من أنفسهم يعني لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا، من قول القائل: ثبت فلانا في هذا الامر: إذ صححت عزمه وحققته وقويت فيه رأيه أثبته تثبيتا، كما قال ابن رواحة: فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا وإنما عنى الله عز وجل بذلك، أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير من ولا أذى، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصحح عزمهم وآراءهم يقينا منها بذلك، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: * (وتثبيتا) * وتصديقا، ومن قال منهم ويقينا، لان تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: تصديقا ويقينا. حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: وتصديقا من أنفسهم ثبات ونصرة.
[ 97 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: يقينا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين. حدثني يونس، قال: ثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * يقول: يقينا من عند أنفسهم. وقال آخرون: معنى قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: ثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الاسود، عن مجاهد: * (وتثبيتا من أنفسهم) * فقلت له: ما ذلك التثبيت ؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عثمان بن الاسود، عن مجاهد: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم، يعني زكاتهم. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: ثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: * (ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) * قال: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك. وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * بمعنى: وتثبتا، فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك لان القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان: وتثبتا من أنفسهم، لان المصدر من الكلام إن كان على تفعلت التفعل، فيقال: تكرمت تكرما، وتكلمت تكلما، وكما قال جل ثناؤه: * (أو يأخذهم على تخوف) * من قول القائل: تخوف فلان هذا الامر تخوفا. فكذلك قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * لو كان من
[ 98 ]
تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام: وتثبتا من أنفسهم، لا وتثبيتا، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره. فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل: * (وتبتل إليه تبتيلا) * ولم يقل: تبتلا ؟ قيل: إن هذا مخالف لذلك، وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه: تبتيلا لظهور وتبتل إليه، فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل: تبتيلا، وذلك أن المتروك هو: تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الافعال التي تقدمتها إذا كانت الافعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال عز وجل: * (والله أنبتكم من الارض نباتا) * وقال: * (فأنبتها نباتا حسنا) * والنبات: مصدر نبت، وإنما جاز ذلك لمجئ أنبت قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل نباتا، والمعنى: والله أنبتكم فنبتم من الارض نباتا. وليس قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه. ومعنى الكلام: ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: * (وتبتل إليه تبتيلا) * وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الافعال التي هي ظاهرة قبلها. وقال آخرون: معنى قوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * احتسابا من أنفسهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وتثبيتا من أنفسهم) * يقول: احتسابا من أنفسهم. وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت، لان التثبيت لا يعرف في شئ من الكلام بمعنى الاحتساب، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به.
[ 99 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) *. يعني بذلك عز وجل: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده، * (كمثل جنة) * والجنة: البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن الجنة البستان بما فيه الكفاية من إعادته. * (بربوة) * والربوة من الارض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لان ما ارتفع عن المسايل والاودية أغلظ، وجنان ما غلظ من الارض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رق منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة: ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل فوصفها بأنها من رياض الحزن، لان الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الاودية والتلاع وزروعها. وفي الربوة لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القراء، وهي ربوة بضم الراء، وبها قرأت عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق. وربوة بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم.
[ 100 ]
وربوة بكسر الراء، وبها قرأ فيما ذكر ابن عباس. وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح الراء، وإما بضمها، لان قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثارا مني بفتحها، لانها أشهر اللغتين في العرب، فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة. وإنما سميت الربوة لانها ربت فغلظت وعلت، من قول القائل: ربا هذا الشئ يربو: إذا انتفخ فعظم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (كمثل جنة بربوة) * قال: الربوة: المكان الظاهر المستوي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال مجاهد: هي الارض المستوية المرتفعة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (كمثل جنة بربوة) * يقول: بنشز من الارض. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (كمثل جنة بربوة) * والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الانهار والذي فيه الجنان. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (بربوة) * برابية من الارض. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (كمثل جنة بربوة) * والربوة النشز من الارض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: * (كمثل جنة بربوة) * قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الانهار. وكان آخرون يقولون: هي المستوية. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (كمثل جنة بربوة) * قال: هي الارض المستوية التي تعلو فوق المياه.
[ 101 ]
وأما قوله: * (أصابها وابل) * فإنه يعني جل ثناؤه أصاب الجنة التي بالربوة من الارض وابل من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. وقوله: * (فآتت أكلها ضعفين) * فإنه يعني الجنة أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر، والاكل: هو الشئ المأكول، وهو مثل الرعب والهدء وما أشبه ذلك من الاسماء التي تأتي على فعل، وأما الاكل بفتح الالف وتسكين الكاف، فهو فعل الآكل، يقال منه: أكلت أكلا، وأكلت أكلة واحدة، كما قال الشاعر: وما أكلة أكلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام ففتح الالف لانها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله: ولا جوعة، وإن ضمت الالف من الاكلة كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة. وأما قوله: * (فإن لم يصبها وابل فطل) * فإن الطل: هو الندى واللين من المطر. كما: حدثنا عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: * (فطل) * ندى. عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما الطل: فالندى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فإن لم يصبها وابل فطل) * أي طش. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (فطل) * قال: الطل: الرذاذ من المطر يعني اللين منه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فطل) * أي طش. وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها
[ 102 ]
حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فالطل كذلك يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير من ولا أذى، قلت نفقته أو كثرت لا تخيب ولا تخلف نفقته، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الاحوال. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) * يقول: كما أضعفت ثمرة تلك الجنة، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) * هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال، إما وابل، وإما طل. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله) *... الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (فإن لم يصبها وابل فطل) * وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟ قيل: يراد فيه: كان، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابل أصابها، أصابها طل، وذلك في الكلام نحو قول القائل: حبست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته، بمعنى: إلا أكن، لا بد من إضمار كان، لانه خبر، ومنه قول الشاعر: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا (القول في تأويل قوله تعالى: * (والله بما تعملون بصير) *. يعني بذلك: والله بما تعملون أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها بصير، لا يخفى
[ 103 ]
عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شئ يعلم من المنفق منكم بالمن والاذى والمنفق ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتا من نفسه، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده، وغير ذلك من الاعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه، أو يفرط فيما قد أمر به، لان ذلك بمرأى من الله ومسمع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو بخلقه بالمرصاد. القول في تأويل قوله تعالى: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) * يعني تعالى ذكره * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا) * * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر) *... الآية. (ومعنى قوله: * (أيود أحدكم) * أيحب أحدكم أن تكون له جنة - يعني بستانا من نخيل وأعناب - تجري من تحتها الانهار - يعني من تحت الجنة - وله فيها من كل الثمرات. والهاء في قوله: * (له) * عائدة على أحد، والهاء والالف في: * (فيها) * على الجنة، * (وأصابه) * يعني وأصاب أحدكم الكبر، * (وله ذرية ضعفاء) *. وإنما جعل جل ثناؤه البستان من النخيل والاعناب، الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر، يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لان عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما
[ 104 ]
وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا بعمله، بأن فيها من كل الثمرات، ثم قال جل ثناؤه: * (وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) * يعني أن صاحب الجنة أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء صغار أطفال، * (فأصابها) * يعني فأصاب الجنة إعصار فيه نار، * (فاحترقت) * يعني بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها، فبقي لا شئ له أحوج ما كان إلى جنته وثمارها بالآفة التي أصابتها من الاعصار الذي فيه النار. يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مستعتب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه. وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: * (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا) *. وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدة إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) * هذا مثل آخر لنفقة الرياء، أنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئا، فكذلك المنفق رياء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
[ 105 ]
وأعناب) * كمثل المفرط في طاعة الله حتى يموت، قال يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الانهار، له فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئا، وكذلك المفرط بعد الموت كل شئ عليه حسرة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحول ههنا ! لم تحقر نفسك ؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة، أن عمر تلا هذه الآية: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) * قال: هذا مثل ضرب للانسان يعمل عملا صالحا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة بخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله (ص) فقال: فيم ترون أنزلت * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) * ؟ فقالوا: الله أعلم ! فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم ! فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك ! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل ؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عني بعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه.
[ 106 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير، قال ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس، قالا جميعا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله (ص)، فذكر نحوه، إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها. ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قالا: ضربت مثلا للاعمال. قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل يبدأ فيعمل عملا صالحا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار، له فيها من كل الثمرات، ثم يسئ في آخر عمره، فيتمادى على الاساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الاعصار الذي فيه نار التي أحرقت الجنة، مثلا لاساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت. يقول: هذا مثله تلقاه وهو أفقر ما كان إلي، فلا يجد له عندي شيئا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات. قال ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. قال ابن جريج وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئا وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا، وكذلك المفرط بعد الموت كل شئ عليه حسرة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار) *... الآية. يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون، فهذا مثل. فاعقلوا عن الله عز وجل أمثاله، فإنه قال: * (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) *.
[ 107 ]
هذا رجل كبرت سنة ودق عظمه وكثر عياله، ثم احترقت جنته على بقية ذلك كأحوج ما يكون إليه. يقول: أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه ؟ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) * إلى قوله: * (فاحترقت) * يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب، وله ذرية ضعفاء لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول: فاحترقت فذهبت أحوج ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوج ما كان إليه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنا، وكل أمثاله حسن تبارك وتعالى. وقال: قال أيوب. * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل) * إلى قوله: * (فيها من كل الثمرات) * يقول: صنعه في شبيبته فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار، فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة إذا رد إلى الله تعالى ليس له خير فيستعتب كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجد خيرا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا، كيف نجى المؤمن في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطع، وخزن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدا ويخلد فيها مهانا، من أجل أنه فخر على صاحبه ووثق بما عنده ولم يستيقن أنه ملاق ربه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة) *... الآية. قال: هذا مثل ضربه الله * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب... فيها من كل الثمرات) * والرجل قد كبر سنه وضعف وله أولاد صغار، وابتلاهم الله في جنتهم، فبعث الله عليها إعصارا فيه نار فاحترقت، فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوج ما كان إليها. يقول:
[ 108 ]
أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجئ يوم القيامة قد ضل عنه عمله أحوج ما كان إليه، فيقول ابن آدم: أتيتني أحوج ما كنت قط إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك ؟ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول الله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) * ثم ضرب ذلك مثلا، فقال: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) * حتى بلغ * (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) * قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، أيود أحدكم هذا ؟ فما يحمل أحدكم أن يخرج من صدقته ونفقته حتى إذا كان له عندي جنة وجرت أنهارها وثمارها، وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار) * رجل غرس بستانا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرا ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا. وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لان الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المن والاذى في صدقاتهم. ثم ضرب مثلا لمن من وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثله بالمرائي من المنافقين، المنفقين أموالهم رياء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل نظيرة ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثل ما لم يجر له ذكر قبلها ولا معها. فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: * (وأصابه الكبر) * وهو فعل ماض فعطف به على قوله * (أيود أحدكم) * ؟ قيل، إن ذلك كذلك، لان قوله: * (أيود) * يصح أن يوضع فيه لو مكان أن فلما صلحت بلو وأن ومعناهما جميعا الاستقبال، استجازت العرب أن يردوا فعل بتأويل لو على يفعل مع أن، فلذلك قال: فأصابها، وهو في مذهبه بمنزلة لو إذا ضارعت أن في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت أن بجواب لو ولو
[ 109 ]
بجواب أن، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الانهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر. فإن قال: وكيف قيل ههنا: وله ذرية ضعفاء ؟ وقال في النساء: * (وليخش الذي لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا) * ؟ قيل: لان فعيلا يجمع على فعلاء وفعال، فيقال: رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف. وأما الاعصار: فإنه الريح العاصف، تهب من الارض إلى السماء كأنها عمود، تجمع أعاصير، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: أناس أجارونا فكان جوارهم أعاصير من سوء العراق المنذر واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ، قال: ثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: ثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (إعصار فيه نار) * ريح فيها سموم شديدة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في: * (إعصار فيه نار) * قال: السموم الحارة التي خلق منها الجان التي تحرق حدثنا حميد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس * (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) * قال: هي السموم الحارة. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * التي تقتل.
[ 110 ]
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * هي ريح فيها سموم شديد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (إعصار فيه نار) * قال: سموم شديد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إعصار فيه نار) * يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * أما الاعصار فالريح، وأما النار فالسموم. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (إعصار فيه نار) * يقول: ريح فيها سموم شديد. وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد. ] ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * فيها صر وبرد. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (إعصار فيه نار فاحترقت) * يعني بالاعصار ريح فيها برد. (القول في تأويل قوله تعالى: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: كما بين لكم ربكم تبارك وتعالى أمر النفقة في سبيله، وكيف وجهها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها، كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرفكم
[ 111 ]
أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حججها، إنعاما منه بذلك عليكم * (لعلكم تتفكرون) * يقول: لتتفكروا بعقولكم فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد: * (لعلكم تتفكرون) * قال: تطيعون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) * يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) * يعني جل ثناؤه بقوله: يا أيها الذين آمنوا صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه. ويعني بقوله: * (أنفقوا) * زكوا وتصدقوا. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * يقول: تصدقوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (من طيبات ما كسبتم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم إما بتجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة، ويعني بالطيبات: الجياد. يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا، وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة، الجياد منها دون الردئ. ] كما: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: من التجارة.
[ 112 ]
حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثني حاتم بن بكر الضبي، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن جاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: * (وأنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: التجارة الحلال. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون. حدثني عصام بن رواد بن الجراح، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: من الذهب والفضة حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (من طيبات ما كسبتم) * قال: التجارة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * يقول: من أطيب أموالكم وأنفسه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: من الذهب والفضة. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الارض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الارض. كما: حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل:
[ 113 ]
* (ومما أخرجنا لكم من الارض) * قال: يعني من الحب والثمر وكل شئ عليه زكاة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * قال: النخل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * قال: من ثمر النخل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال: من التجارة، * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * من الثمار. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * قال: هذا في التمر والحب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث) *. يعني بقوله جل ثناؤه * (ولا تيمموا الخبيث) * ولا تعمدوا ولا تقصدوا. مق ] وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: ولا تأمموا، من أممت، وهذه من تيممت، والمعنى واحد وإن اختلفت الالفاظ، يقال: تأممت فلانا وتيممته وأممته، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الاعشى: تيممت قيسا وكم دونه من الارض من مهمه ذي شزن وكما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تيمموا الخبيث) * ولا تعمدوا.
[ 114 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (ولا تيمموا) * لا تعمدوا. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله. (القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. يعني جل ثناؤه بالخبث: الردئ غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الردئ من أموالكم في صدقاتكم، فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد. وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الانصار علق قنوا من حشف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تمره.) ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض) * إلى قوله: * (والله غني حميد) * قال: نزلت في الانصار، كانت الانصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله (ص)، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه، إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف، ويظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الاقناء، فنزل فيمن فعل ذلك: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه.
[ 115 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) *... الآية. حدثني عصام بن رواد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا عن قول الله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الردئ، فقال عز وجل: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله (ص) أن يؤخذ في الصدقة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: كانوا يتصدقون، يعني من النخل بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتصدقوا بطيبه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * إلى قوله: * (واعلموا أن الله غني حميد) * ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله (ص)، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 116 ]
عن قتادة في قوله: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: في الاقناء التي تعلق، فرأى فيها حشفا، فقال: ما هذا ؟. قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفا في الاقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله (ص): ما هذا ؟ بئسما علق هذا ! فنزلت: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام فيه تنفقون، وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله عز وجل: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: الخبيث: الحرام، لا تتيمه: تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله. وتأويل الآية: هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول الله (ص) واتفاق أهل التأويل في ذلك دون الذي قاله ابن زيد. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم. والهاء في قوله: * (بآخذيه) * من ذكر الخبيث. * (إلا أن تغمضوا فيه) * يعني إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لانفسكم،) يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم: لم يفتنا بالوتر قوم وللضييم رجال يرضون بالاغماض
[ 117 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الردئ من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا عصام بن رواد. قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه، فقال: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الردئ حتى يهضم له. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) *. يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله: * (إلا أن تغمضوا فيه) * فكيف ترضون لي ما لا ترضون لانفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ؟ وهو قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:
[ 118 ]
* (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره ؟ حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * إلى قوله: * (إلا أن تغمضوا فيه) * قال: كانوا حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة يجئ الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك، وقال: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض) * يقول: لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه. يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه إلا وهو يعلم أنه قد نقصه، فلا ترضوا لي ما لا ترضون لانفسكم، فيأخذ شيئا وهو مغمض عليه أنقص من حقه. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الردئ الخبيث إذا اشتريتموه من أهله بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * قال: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * يقول: لستم بآخذي هذا الردئ بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه. وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الردئ الخبيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون على استحياء منكم ممن أهداه لكم. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن
[ 119 ]
عدي بن ثابت، عن البراء نحوه، إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الردئ من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل: * (ولستم بآخذيه) * يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم، إلا أن تغضموا فيه، يقول: أغمض لك من حقي. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الاثم عليكم في أخذه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * قال: يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الاثم - قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه ولقد أغمض على ما فيه - وهو يعلم أنه حرام باطل. والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها عليهم فيها، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لاهل سهمان الصدقة، ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيب، وهو الجيد من أموالهم، الطيب، وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الاموال في أموالهم بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها، فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لاحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه بإعطائه بمقدار حقه منه من غيره، مما هو أردأ منه أو أحسن، فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء من الخبيث الردئ غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم، فقال
[ 120 ]
تبارك وتعالى لارباب الاموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الردئ، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، ولستم بآخذي الردئ لانفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لاخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم، فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لان الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الاموال وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن، فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لان ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه) * فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة.
[ 121 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (واعلموا أن الله غني حميد) *. يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها، وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم. ويعني بقوله: * (حميد) * أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله: * (والله غني حميد) * عن صدقاتكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) * يعني بذلك تعالى ذكره: الشيطان يعدكم أيها الناس - بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم - أن تفتقروا، * (ويأمركم بالفحشاء) * يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته * (والله يعدكم مغفرة منه) * يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون. * (وفضلا) * يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. ] كما: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان، الشيطان يعدكم الفقر يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه على هذه المعاصي وفضلا في الرزق.
[ 122 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) * يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الاحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان: فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكيم بن بشير بن سليمان، قال: ثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: إن للانسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة، فاللمة من الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) *. قال عمرو: وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن أبي الاحوص، أو عن مرة، قال: قال عبد الله: ألا إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله يقول: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) * فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: * (الشيطان
[ 123 ]
يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) * قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك، إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد الله، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر. وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الاخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله واسع عليم) *. يعني تعالى ذكره: والله واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه، عليم بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يؤتي الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالباب) *
[ 124 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الاصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الاصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا. واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع هي القرآن والفقه به. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: يوتي الحكمة من يشاء قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا والحكمة: الفقه في القرآن. حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا مهدي بن ميمون، قال: ثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: الكتاب والفهم فيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله: يؤتي الحكمة من يشاء... الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن. وقال آخرون: معنى الحكمة: الاصابة في القول والفعل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال: ومن يؤت الحكمة قال: الاصابة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: يؤتي الحكمة من يشاء قال: يؤتي الاصابة من يشاء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يؤتي الحكمة من يشاء قال: الكتاب، يؤتي إصابته
[ 125 ]
من يشاء. وقال آخرون: هو العلم بالدين. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: يؤتي الحكمة من يشاء العقل في الدين، وقرأ: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة ؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. وقال آخرون: الحكمة: الفهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي قال: ثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. وقال آخرون: هي الخشية. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة... الآية، قال: الحكمة: الخشية، لان رأس كل شئ خشية الله، وقرأ: إنما يخشى الله من عباده العلماء. وقال آخرون: هي النبوة. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة... الآية. قال: الحكمة: هي النبوة. وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة، وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الاصابة بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الاقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لان الاصابة في الامور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره فهما خاشيا لله فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه، لان الانبياء مسددون مفهمون، وموفقون لاصابة الصواب في بعض الامور، والنبوة بعض معاني الحكمة.
[ 126 ]
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا. القول في تأويل قوله تعالى: وما يذكر إلا أولوا الالباب. يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظ به غيرهم فيها، وفي غيرها من آي كتابه، فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به، إلا أولوا الألباب، يعني: إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهى والعقول. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار) * يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم، يعني أي صدقة تصدقتم، أو أي نذر نذرتم يعني بالنذر: ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه، من صدقة أو عمل خير، فان الله يعلمه أي أن جميع ذلك بعلم الله، لا يعزب عنه منه شئ، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك، فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف ومن كانت نفقته وصدقته رياء الناس ونذروه للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب. كالذي: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه ويحصيه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان، فقال: وما للظالمين من أنصار يعني: وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان
[ 127 ]
وفي طاعته، من أنصار. وهم جمع نصير، كما الاشراف جمع شريف. ويعني بقوله: من أنصار من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش ولا بفدية. وقد دللنا على أن الظالم: هو الواضع للشئ في غير موضعه. وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه. فإن قال لنا قائل: فكيف قال: فان الله يعلمه ولم يقل: يعلمهما، وقد ذكر النذر والنفقة ؟ قيل: إنما قال: فان الله يعلمه لانه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) * يعني بقوله جل ثناؤه إن تبدوا الصدقات إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه، فنعما هي يقول: فنعم الشئ هي. وإن تخفوها يقول: وإن تستروها فلم تلعنوها وتؤتوها الفقراء يعني: وتعطوها الفقراء في السر، فهو خير لكم يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم قال: كل مقبول إذا كانت النية صادقة، والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة
[ 128 ]
علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الاشياء كلها. حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: ثنا عبد الله بن عثمان، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم قال: يقول: هو سوى الزكاة. وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع فاخفاؤه أفضل من علانيته. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: إن تبدوا الصدقات فنعما هي في الصدقة على اليهود والنصارى. حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر، قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية، يعني الزكاة. ولم يخصص الله من قوله: إن تبدوا الصدقات فنعما هي فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها. القول في تأويل قوله تعالى: ويكفر عنكم من سيئاتكم. اختلف القراء في قراءة ذلك. فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: وتكفر عنكم بالتاء. ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم. وقرأ آخرون: ويكفر عنكم بالياء بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم على ما ذكر في الآية من سيئاتكم. وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة: ونكفر عنكم بالنون
[ 129 ]
وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم، بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها. وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: ونكفر عنكم بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك فهو مجزوم على موضع الفاء في قوله: فهو خير لكم لان الفاء هنالك حلت محل جواب الجزاء. فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع الفاء، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الافصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويز ؟ قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير، أعني تكفير الله من سيئات المصدق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته، لان ذلك إذا جزم مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لان ما بعد الفاء في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة اخترنا جزم نكفر عطفا به على موضع الفاء من قوله: فهو خير لكم وقراءته بالنون. فإن قال قائل: وما وجه دخول من في قوله: ونكفر عنكم من سيئاتكم ؟ قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجتزؤا على حدوده ومعاصيه. وقال بعض نحويي البصرة: معنى من الاسقاط من هذا الموضع، ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم. القول في تأويل قوله تعالى: والله بما تعملون خبير. يعني بذلك جل ثناؤه: والله بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار، وفي غير ذلك من أعمالكم. خبير يعني بذلك ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه
[ 130 ]
شئ من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليله وكثيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) * يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الاسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الاسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الاسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي (ص) لا يتصدق على المشركين، فنزلت: وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله فتصدق عليهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو داود، عن سفيان، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لانسبائهم من المشركين، فنزلت: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء فرخص لهم. حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من
[ 131 ]
الانصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت: ليس عليك هداهم... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله (ص) قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا ؟ فأنزل الله في ذلك القرآن: ليس عليك هداهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج فلا يتصدق عليه يقول: ليس من أهل ديني، فأنزل الله عز وجل: ليس عليك هداهم... الآية. حدثني محمد، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلانفسكم أما ليس عليك هداهم فيعني المشركين، وأما النفقة فبين أهلها. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدقون.. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يوف إليكم وأنتم لا تظلمون قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك. القول في تأويل قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * أما قوله: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلانفسكم، تنفقون للفقراء الذين
[ 132 ]
أحصروا في سبيل الله. واللام التي في الفقراء مردودة على موضع اللام في فلانفسكم، كأنه قال: * (وما تنفقوا من خير) * يعني به: وما تتصدقوا به من مال، فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، فلما اعترض في الكلام بقوله: فلانفسكم، فأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيه تركت إعادتها في قوله: للفقراء، إذ كان الكلام مفهوما معناه. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلانفسكم) * أما ليس عليك هداهم، فيعني المشركين، وأما النفقة فبين أهلها، فقال: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * مهاجري قريش بالمدينة مع النبي (ص)، أمر بالصدقة عليهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) *... الآية. قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * قال: فقراء المهاجرين. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين أحصروا في سبيل الله) *. يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جعلهم جهادهم عدوهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرفا. وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الاحصار: تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوه، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
[ 133 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (الذين أحصروا في سبيل الله) * قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * قال: كانت الارض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله إذا خرج خرج في كفر. وقيل: كانت الارض كلها حربا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فقال الله عز وجل: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) *... الآية، كانوا ههنا في سبيل الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرف. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * حصرهم المشركون في المدينة. ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدي، لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا في سبيل الله، ولكنه أحصروا، فدل ذلك على أن خوفهم من العدو الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم، لا أن العدو هم كانوا الحابسيهم، وإنما يقال لمن حبسه العدو: حصره العدو، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدو وقيل: أحصره خوف العدو. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يستطيعون ضربا في الارض) *. يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلبا في الارض، وسفرا في البلاد، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدو، وخوفا على أنفسهم منهم. كما: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (لا يستطيعون ضربا في الارض) * حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدو، فلا يستطيعون تجارة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يستطيعون ضربا في الارض) * يعني التجارة.
[ 134 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: * (لا يستطيعون ضربا في الارض) * كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) *. يعني بذلك: يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضراء. كما: حدثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (يحسبهم الجاهل أغنياء) * يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. ويعني بقوله: * (من التعفف) * من ترك مسألة الناس، وهو التفعل من العفة عن الشئ، والعفة عن الشئ: تركه، كما قال رؤبة: فعف عن أسرارها بعد الغسق يعني برئ وتجنب. القول في تأويل قوله تعالى: * (تعرفهم بسيماهم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: تعرفهم يا محمد بسيماهم، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) * هذه لغة قريش، ومن العرب من يقول: بسيمائهم فيمدها، وأما ثقيف وبعض أسد، فإنهم يقولون: بسيميائهم، ومن ذلك قول الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يا فعاله سيمياء لا تشق على البصر
[ 135 ]
وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها، فقال بعضهم: هو التخشع والتواضع. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (تعرفهم بسيماهم) * قال: التخشع. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشع. وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (تعرفهم بسيماهم) * بسيما الفقر عليهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (تعرفهم بسيماهم) * يقول: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم، وقالوا: الجوع خفي. ذكر من قال ذلك:
[ 136 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (تعرفهم بسيماهم) * قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها تخفى على الناس. وأول الاقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه (ص) أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبي (ص) يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعيان، فيعرفهم وأصحابه بها، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضر، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميع ذلك، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الانسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر بالمعاينة دون الوصف، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظير آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثياب الرثة، فيتزيا بزي أهل الحاجة، فلا يكون في شئ من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختل ذو فاقة، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يسألون الناس إلحافا) *. يقال: قد ألحف السائل في مسألته إذا ألح فهو يلحف فيها إلحافا. فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف ؟ قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة، إلحافا أو غير إلحاف، وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف، ولم يكن بالنبي (ص) إلى علم معرفتهم بالادلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تنبئ عن حالهم وأمرهم. وفي الخبر الذي: حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيت رسول الله (ص) فسألته. فانطلقت إليه معنقا، فكان أول ما واجهني به: من استعف أعفه الله، ومن استغنى
[ 137 ]
أغناه الله، ومن سألنا لم ندخر عنه شيئا نجده، قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعف فيعفني الله ! فرجعت فما سألت رسول الله (ص) شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله. الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف. فإن قال قائل: فإن كان الامر على ما وصفت، فما وجه قوله: * (لا يسألون الناس إلحافا) * وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف ؟ قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * وأنهم إنما يعرفون بالسيما، زاد عباده إبانة لامرهم، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحين من السؤال عنهم. وقال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل: فلما رأيت مثل فلان، ولعله لم يره مثله أحدا ولا نظيرا. وبنحو الذي قلنا في معنى الالحاف قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يسألون الناس إلحافا) * قال: لا يلحفون في المسألة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (لا يسألون الناس إلحافا) * قال: هو الذي يلح في المسألة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (لا يسألون الناس إلحافا) * ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: إن الله يحب الحليم الغني المتعفف، ويبغض الغني الفاحش البذي السائل الملحف قال: وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثا، قيل وقال، وإضاعة المال وكثرة السوءال فإذا شئت رأيته
[ 138 ]
في قيل وقال يومه أجمع وصدر ليلته، حتى يلقى جفية على فراشه، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا، وإذا شئت رأيته ذا مال في شهوته ولذاته وملاعبه، ويعدله عن حق الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإن منع أفرط في ذمهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا معتمر، عن أيمن بن نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن، فيقول: أهل هذه - يعني الخيل - من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وقال آخرون: عنى بذلك قوما أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير. ذكر من قال ذلك: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (الذين ينفقون أموالهم) * إلى قوله: * (ولا هم يحزنون) * هؤلاء أهل الجنة، ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: المكثرون هم الاسفلون. قالوا: يا نبي الله إلا من ؟ قال: المكثرون هم الاسفلون، قالوا: يا نبي الله إلا من ؟ قال المكثرون هم الاسفلون قالوا يا نبي الله إلا من ؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها رد، حتى قال: إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه وهكذا خلفه، وقليل ما هم، هولاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد.
[ 139 ]
وقد قيل: إن هذه الآيات من قوله: * (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) * إلى قوله: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * كان مما يعمل به قبل نزول ما في سورة براءة من تفصيل الزكوات، فلما نزلت براءة قصروا عليها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) * إلى قوله: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يربون، والارباء: الزيادة على الشئ، يقال منه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء، والزيادة هي الربا، ورباالشئ: إذا زاد على ما كان عليه فعظم، فهو يربو ربوا. وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والاشراف على ما استوى من الارض مما حولها من قولهم ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا الانافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان: أي أناف صيره زائدا. وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا، أو لزيادته عليه فيه، لسبب الاجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه، ولذلك قال جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) *.
[ 140 ]
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الاجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه. فقال جل ثناؤه للذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا، لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني بذلك: يتخبله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يتخبطه فيصرعه من المس، يعني من الجنون. وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: ذلك حين يبعث من قبره. حدثنا المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقرأ: * (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: ذلك حين يبعث من قبره.
[ 141 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * ... الآية. قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون) * الآية، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا بهم خبل من الشيطان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: لا يقومون يوم القيامة. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا كالذي يتخبطه الشيطان من المس. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * يعني من الجنون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * قال: هذا مثلهم يوم القيامة لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة كأنه خنق كأنه مجنون. ومعنى قوله: * (يتخبطه الشيطان من المس) * يتخبله من مسه إياه، يقال منه: قد مس الرجل وألق فهو ممسوس ومألوق، كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن، ومنه قول الله عز وجل: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) *. ] ومنه قول الاعشى:
[ 142 ]
وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله، أيستحق هذا الوعيد من الله ؟ قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الاكل، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *... الآية ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا، وأن سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه، كالذي تظاهرت به الاخبار عن رسول الله (ص) من قوله: لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه إذا علموا به. (القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق زدني في الاجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا
[ 143 ]
ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك، قالا: سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال فكذبهم الله في قيلهم، فقال: * (وأحل الله البيع) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) *. يعني جل ثناؤه: وأحل الله الارباح في التجارة والشراء والبيع، وحرم الربا يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الاجل، وتأخيره دينه عليه. يقول عز وجل: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والاخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الاجل سواء وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الاجل، وأحللت الاخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها، فقال الله عز وجل ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا، لاني أحللت البيع، وحرمت الربا، والامر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لاحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي. ثم قال جل ثناؤه: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى) * يعني بالموعظة: التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوفهم به في آي القرآن، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك فانتهى عن أكل الربا، وارتدع عن العمل به، وانزجر عنه * (فله ما سلف) * يعني ما أكل، وأخذ فمضى قبل مجئ الموعظة والتحريم من ربه في ذلك * (وأمره إلى الله) * يعني وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله عن ذلك. * (ومن عاد) * يقول: ومن عاد لاكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجئ الموعظة من الله بالتحريم من قوله: * (إنما البيع مثل الربا) * * (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم فيها خالدون.) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال، ثنا أسباط، عن السدي: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله) * أما الموعظة فالقرآن، وأما ما سلف فله ما أكل من الربا.
[ 144 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) * يعني عز وجل بقوله: * (يمحق الله الربا) *: ينقص الله الربا فيذهبه. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (يمحق الله الربا) * قال: ينقص. وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي (ص) أنه قال: الربا وإن كثر فإلى قل. وأما قوله: * (ويربى الصدقات) * فإنه جل ثناؤه يعني: أنه يضاعف أجرها لربها، وينميها له. وقد بينا معنى الربا قبل والارباء وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته. فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات ؟ قيل: إضعافه الاجر لربها، كما قال جل ثناؤه: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * وكما قال: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *. وكما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا عباد بن منصور، عن القاسم أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص): إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لاحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) * و * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) *. حدثني سليمان بن عمر بن خالد الاقطع، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه، قال: إن الله عز وجل يقبل الصدقة، ولا يقبل إلا الطيب.
[ 145 ]
حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي، قال: ثنا ريحان بن سعيد، قال: ثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص): إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: * (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) *. حدثني محمد بن عبد الملك، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله. وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله، أو قال: في كف الله عز وجل حتى تكون مثل أحد، فتصدقوا. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيبا، والله يربي لاحدكم لقمته كما يربي أحدكم مهره وفصيله، حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد. وأما قوله: * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * فإنه يعني به: والله لا يحب كل مصر على كفر بربه، مقيم عليه، مستحل أكل الربا وإطعامه، أثيم متماد في الاثم فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك، ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا، يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم من تحريم الربا وأكله وغير ذلك من سائر شرائع دينه، وعملوا الصالحات التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي ندبهم إليها وأقاموا الصلاة المفروضة
[ 146 ]
بحدودها، وأدوها بسننها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الربا، قبل مجئ الموعظة فيه من عند ربهم، لهم أجرهم، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصدقتهم عند ربهم يوم حاجتهم إليه في معادهم، ولا خوف عليهم يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم من أكل ما كانوا أكلوا من الربا بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة ربهم، وتصديقهم بوعد الله ووعيده، ولا هم يحزنون على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما تركوا من ذلك في الدنيا ابتغاء رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وعدوا على تركه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين آمنوا صدقوا بالله وبرسوله، اتقوا الله، يقول: خافوا الله على أنفسكم فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه، وذروا، يعني ودعوا ما بقي من الربا، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فضل على رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تربوا عليها إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا، وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم، وبقي بعض، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * إلى: * (ولا تظلمون) * قال: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو، وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الاسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله * (ذروا ما بقي) * من فضل كان في الجاهلية * (من الربا) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي (ص) على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا فهو
[ 147 ]
موضوع. فلما كان الفتح، استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الاسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الاسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله (ص)، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * إلى: * (ولا تظلمون) *، فكتب بها رسول الله (ص) إلى عتاب وقال: إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب. قال ابن جريج، عن عكرمة قوله: * (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) *. قال: كانوا يأخذون الربا على بني المغيرة يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الربا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحبيب وربيعة وهلال ومسعود. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * قال: كان ربا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (فإن لم تفعلوا) * فإن لم تذروا ما بقي من الربا. (واختلف القراء في قراءة قوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * فقرأته عامة قراء أهل المدينة: * (فأذنوا) * بقصر الالف من فأذنوا وفتح ذالها، بمعنى وكونوا على علم وإذن. وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قراء الكوفيين: فآذنوا بمد الالف من قوله: فآذنوا وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيركم، أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأ: * (فأذنوا) * بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك. وإنما اخترنا ذلك، لان الله عز وجل أمر نبيه (ص) أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقر على المقام عليه، وأن يقتل المرتد عن الاسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الاسلام، أذنه
[ 148 ]
المشركون بأنهم على حربه أولم يأذنوه، فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيما على شركه الذي لا يقر عليه، أو يكون كان مسلما فارتد وأذن بحرب، فأي الامرين كان، فإنما نبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالايذان بها إن عزم على ذلك، لان الامر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلا له، ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يلزمهم حربه، وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها. وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.) ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * إلى قوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه. حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: ثني أبي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * أوعد لآكل الربا بالقتل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس قوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *
[ 149 ]
فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله. وهذه الاخبار كلها تنبئ عن أن قوله: * (فأذنوا بحرب من الله) * إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) *. يعني جل ثناؤه بذلك: إن تبتم فتركتم أكل الربا، وأنبتم إلى الله عز وجل، فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: وضع الله الربا، وجعل لهم رءوس أموالهم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * قال: ما كان لهم من دين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادوا عليه شيئا. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * الذي أسلفتم وسقط الربا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن نبي الله (ص) قال في خطبته يوم الفتح: ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله (ص) قال في خطبته: إن كل ربا موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس. القول في تأويل قوله: * (لا تظلمون ولا تظلمون) *.
[ 150 ]
يعني بقوله: * (لا تظلمون) * بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الارباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه، أو لم يكن لكم قبل. * (ولا تظلمون) * يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الاجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه، لان ما زاد على رؤوس أموالكم، لم يكن حقا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون) * فتربون، * (ولا تظلمون) * فتنقصون. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) * قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) * يعني جل ثناؤه بذلك: وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوس أموالكم ذو عسرة، يعني معسرا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الارباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم. وقوله: * (ذو عسرة) * مرفوع بكان، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا، وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها، ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المتكفي بنفسه التام، لكان وجها صحيحا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويل الكلام عند ذلك: وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنظرة إلى ميسرة. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: وإن كان ذا عسرة بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة. وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا بخلافه خطوط مصاحف المسلمين.
[ 151 ]
وأما قوله: * (فنظرة إلى ميسرة) * فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام) * وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل، فأغنى عن تكريره. والميسرة: المفعلة من اليسر، مثل المرحمة والمشأمة. ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم، فيصير من أهل اليسر به. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني واصل بن عبد الاعلى، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: نزلت في الربا. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال: فقضى عليه، وأمر بحبسه. قال: فقال رجل عند شريح: إنه معسر، والله يقول في كتابه: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا، وإن الله قال في كتابه: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * ولا يأمرنا الله بشئ ثم يعذبنا عليه. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: ذلك في الربا. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن الحسن: أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أي فلان إن كنت موسرا فأد، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة. حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح، فكلمه، فجعل يقول: إنه معسر، إنه معسر، قال: فظننت أنه يكلمه في محبوس. فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الانصار، فأنزل الله عز وجل: * (وإن كان ذو
[ 152 ]
عسرة فنظرة إلى ميسرة) * وقال الله عز وجل: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) * فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدوا الامانات إلى أهلها. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النظرة في الامانة، ولكن يؤدي الامانة إلى أهلها. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة) * برأس المال، * (إلى ميسرة) * يقول: إلى غنى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * هذا في شأن الربا. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * يعني المطلوب. حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: الموت. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: هذا في الربا.
[ 153 ]
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت أو إلى فرقة. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (فنظرة إلى ميسرة) *. قال: ذلك في الربا. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: * (فنظرة إلى ميسرة) *. قال: يؤخره ولا يزد عليه، وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره. وحدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: يؤخره ولا يزد عليه. وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا. ذكر من قال ذلك: حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم، قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه، وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك. حدثني علي بن حرب، قال: ثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * قال: نزلت في الدين. والصواب من القول في قوله: * (وإن كان دو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله (ص)، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية، فأدركهم الاسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، وإنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الاسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الارباء إليه إن كان موسرا، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه. غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس
[ 154 ]
مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته، لان دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته، فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه، فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته، فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد، فقد تبين إذا كان ذلك كذلك أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لانه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل، لانه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بظلمه إياه بالحبس. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) *. يعني عز وجل بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر، * (إن كنتم تعلمون) * موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: وأن تصدقوا برؤوس أموالك على الغني والفقير منهم خير لكم. ذكر من قال ذلك: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) * والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. * (وأن تصدقوا خير لكم) *. يقول وإن تصدقوا بأصل المال، خير لكم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد عن قتادة: * (وأن تصدقوا) * أي برأس المال فهو خير لكم. وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: * (وأن تصدقوا خير لكم) * قال: من رؤوس أموالكم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
[ 155 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: * (وأن تصدقوا خير لكم) * قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم. وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم، نحو ما قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأن تصدقوا خير لكم) * قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم، فتصدق به العباس. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) * يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك في قوله: * (وأن تصدقوا خير لكم) * يعني على المعسر، فأما الموسر فلا، ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الاخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة، فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم) * قال: من النظرة * (إن كنتم تعلمون) *. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) * والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا. وأولى التأويلين بالصواب، تأويل من قال معناه: وأن تصدقوا على المعسر برؤوس أموالكم خير لكم، لانه يلي ذكر حكمه في المعنيين، وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من
[ 156 ]
إلحاقه بالذي بعد منه. وقد قيل: إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله (ص) قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة. حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنه والله ما أدري، لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله (ص) قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. حدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن الاحول، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر ما أنزل على رسول الله (ص) آية الربا، وإنا لنأمر بالشئ لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشئ لعله ليس به بأس. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت على النبي (ص): * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *.
[ 157 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *... الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت. حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن مغول، عن عطية، قال: آخر آية نزلت: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس وحجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: آخر آية نزلت من القرآن: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *. قال ابن جريج: يقولون، إن النبي (ص) مكث بعدها تسع ليال، وبدا يوم السبت، ومات يوم الاثنين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: ثني سعيد بن المسيب، أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. يعني بذلك جل ثناؤه: (واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفضيحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة الاعمال لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فتوفى جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. وكيف يظلم من جوزي بالاساءة مثلها وبالحسنة عشر أمثالها، كلا بل عدل عليك أيها المسئ، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الاوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الاعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 158 ]
* (يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله * (إذا تداينتم) * يعني إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به، أو تعاطيتم، أو أخذتم به * (إلى أجل مسمى) * يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز. السلم شرى أحل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الاملاك بالاثمان المؤجلة كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه. وكان ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية في السلم خاصة. ذكر الرواية عنه بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: قال ابن عباس في: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) * قال: السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
[ 159 ]
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي، قال: ثنا يحيى بن الصامت، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) * قال: نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا يزيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن رجل، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * في السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) * في السلف في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن أبي حيان، عن ابن عباس، قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله عز وجل قد أحله، وأذن فيه. ويتلو هذه الآية: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) *. فإن قال قائل: وما وجه قوله: * (بدين) * وقد دل بقوله: * (إذا تداينتم) * عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال بدين ؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها تداينا بمعنى تجازينا وبمعنى تعاطينا الاخذ والاعطاء بدين، أبان الله بقوله بدين المعنى الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة. وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) *. ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاكتبوه) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (فاكتبوه) * فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض. واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب ؟ فقال بعضهم: هو حق واجب، وفرض لازم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن
[ 160 ]
الضحاك في قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * قال: من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * فكان هذا واجبا. وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله، وزاد فيه: قال: ثم قامت الرخصة والسعة. قال: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا فقال ذات يوم لاصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا: وكيف يكون ذلك ؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لانه قد عصى ربه. وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب، ولا تشهد، لقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) *. قال ابن عيينة: قال ابن شبرمة عن الشعبي: إلى هذا انتهى. حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * حتى بلغ هذا المكان: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
[ 161 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: * (فإن أمن بعضكم بعضا) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * قال: فلولا هذا الحرف لم يبح لاحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن، فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الامانة. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد ؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول: * (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) *. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * حتى بلغ هذا المكان: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشئ، أحتم عليه أن يشهد ؟ قال: فقرأ إلى قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * قد نسخ ما كان قبله. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا محمد بن مروان العقيلي، قال: ثنا عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أنه قرأ: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم
[ 162 ]
بدين إلى أجل مسمى) * قال: فقرأ إلى: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * قال: هذه نسخت ما قبلها. القول في تأويل قوله تعالى * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (وليكتب) * كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين * (كاتب بالعدل) * يعني بالحق والانصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه. كما: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا. وأما قوله: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه. وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (ولا يأب كاتب) * قال: واجب على الكاتب أن يكتب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: * (ولا يأب كاتب أن يكتب) * أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال: نعم. قال ابن جريج وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * بمثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء
[ 163 ]
قوله: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * قالا: إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت فلا تأب أن تكتب لهم. ذكر من قال هي منسوخة. قد ذكرنا جماعة ممن قال: كل ما في هذه الآية من الامر بالكتابة والاشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (ولا يأب كاتب) * قال: كانت عزيمة فنسختها: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * فكان هذا واجبا على الكتاب. وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا. (والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه.) ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الامر بذلك منسوخ بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * لان ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به، حيث لا سبيل إلى الكتاب، أو إلى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض إذا كان الدين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله: * (فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن
[ 164 ]
يكتب كما علمه الله) *. وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شئ. ولو وجب أن يكون قوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * ناسخا قوله: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) *، لوجب أن يكون قوله: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) * ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه، وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * وأن يكون قوله في كفارة الظهار: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * ناسخا قوله: * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) *. فيسأل القائل إن قول الله عز وجل: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * ناسخ قوله: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم وما ذكرنا قوله، فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله، نظير قوله في أن الامر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخ بقوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * ؟ فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * كلام منقطع عن قوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله: * (فرهان مقبوضة) *. وإنما عنى بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى، فأمن بعضكم بعضا، فليؤد الذي اؤتمن أمانته. قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله: * (ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) * ؟ وأما الذين زعموا أن قوله: * (فاكتبوه) * وقوله: * (ولا يأب كاتب) * على وجه الندب والارشاد، فإنهم يسألون البرهان
[ 165 ]
على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره، فلم يقولوا في شئ من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. ذكر من قال العدل في قوله: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * الحق. القول في تأويل قوله تعالى: * (فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) *. يعني بذلك: فليكتب الكاتب، وليملل الذي عليه الحق، وهو الغريم المدين. يقول: ليتول المدين إملال كتاب ما عليه من دين رب المال على الكاتب، وليتق الله ربه المملي الذي عليه الحق، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئا، أن ينقصه منه ظلما، أو يذهب به منه تعديا، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته. كما: حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فليكتب وليملل الذي عليه الحق) * فكان هذا واجبا، * (وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) * يقول: لا يظلم منه شيئا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا يبخس منه شيئا) * قال: لا ينقص من حق هذا الرجل شيئا إذا أملى. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا ولا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * فإن كان المدين الذي عليه المال سفيها، يعني جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) * أما السفيه: فالجاهل بالاملاء والامور. وقال آخرون: بل السفيه في هذا الموضع الذي عناه الله: الطفل الصغير. ذكر من قال ذلك:
[ 166 ]
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) * أما السفيه: فهو الصغير. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا) * قال: هو الصبي الصغير، * (فليملل وليه بالعدل) *. وأولى التأويلين بالآية، تأويل من قال: السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالاملاء وموضع صواب ذلك من خطئه، لما قد بينا قبل من أن معنى السفه في كلام العرب: الجهل. وقد يدخل في قوله: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) * كل جاهل بصواب ما يمل من خطئه من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم، والنساء، لانه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدين إلى أجل مسمى) * والصبي ومن يولى عليه لا يجوز مداينته، وأن الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الاصناف الثلاثة الذين بين الله صفاتهم غير الصنفين الآخرين. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوة على الاملال، غير أنه وضع عنه فرض الاملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه، وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجز عن إملاله وإن كان شديدا رشيدا إما لعي لسانه أو خرس به، وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه، وإما لغيبته عن موضع الاملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب. فوضع الله عنهم فرض إملال ذلك للعلل التي وصفنا إذا كانت بهم، وعذرهم بترك الاملال من أجلها، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي الحق بإملاله فقال: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * يعني ولي الحق. ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الصغير، وأن الضعيف هو
[ 167 ]
الكبير الاحمق، لان ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله: * (أو لا يستطيع أن يمل هو) * هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الامر في أموالهم وأنفسهم عن الاملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، بطل معنى قوله: * (فليملل وليه بالعدل) * لان العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الاحمق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * يقول: ولي الحق. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) * قال: يقول: إن كان عجز عن ذلك أمل صاحب الدين بالعدل. ذكر الرواية عمن قال: عنى بالضعيف في هذا الموضع: الاحمق. وبقوله: * (فليملل وليه بالعدل) * ولي السفيه والضعيف. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو) * قال: أمر ولي السفيه أو الضعيف أن يمل بالعدل. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الاحمق. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيف فالاحمق. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا) * لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
[ 168 ]
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك. وأما قوله: * (فليملل وليه بالعدل) * فإنه يعني بالحق. القول في تأويل قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: (واستشهدوا على حقوقكم شاهدين، يقال: فلان شهيدي على هذا المال وشاهدي عليه. وأما قوله: * (من رجالكم) * فإنه يعني من أحراركم المسلمين دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار.) كما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * قال: الاحرار. حدثني يونس، قال: أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجل وامرأتان على الشهادة. ورفع الرجل والمرأتان بالرد على الكون، وإن شئت قلت: فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك، وإن شئت فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه، وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كان صوابا كل ذلك جائز، ولو كان فرجل وامرأتان نصبا كان جائزا على تأويل: فإن لم يكونا رجلين، فاستشهدوا رجلا وامرأتين. وقوله: * (ممن ترضون من الشهداء) * يعني من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم.) كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * يقول في الدين، * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * وذلك في الدين ممن ترضون من الشهداء. يقول: عدول. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * أمر الله عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم، * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) *.
[ 169 ]
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * بفتح الالف من أن ونصب تضل وتذكر، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الاخرى إن ضلت. وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير، لان التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان تضل، لان المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا تذكر، لان الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه مردودا عليه، كما تقول في الكلام: إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى، بمعنى أنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل أو إذا سأل، فالذي يعجبك هو الاعطاء دون المسألة. ولكن قوله أن يسأل لما تقدم اتصل بما قبله، وهو قوله: ليعجبني فتح أن ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: يعطى، فنصبه بنصب قوله: ليعجبني أن يسأل، نسقا عليه، وإن كان في معنى الجزاء. وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين الذال من تذكر وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك. وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه: فتصير إحداهما الاخرى ذكرا باجتماعهما، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها جازت، كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين، لان شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور. فكأن كل واحدة منهما في قول متأولي ذلك بهذا المعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا، وذهب إلى قول العرب: لقد أذكرت بفلان أمه، أي ولدته ذكرا، فهي تذكر به، وهي امرأة مذكرة إذا كانت تلد الذكور من الاولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله. حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله: * (فتذكر إحداهما الاخرى) * من الذكر بعد النسيان إنما هو من الذكر، بمعنى أنها إذا شهدت مع الاخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر. وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذكر بعد النسيان. وقرأ ذلك آخرون: إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى بكسر إن من قوله: إن تضل ورفع تذكر وتشديده. كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان، إن نسيت
[ 170 ]
إحداهما شهادتها تذكرها الاخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك، وانقطاع ذلك عما قبله. ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الاخرى، على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الاخرى منهما صاحبتها الناسية. وهذه قراءة كان الاعمش يقرؤها ومن أخذها عنه. وإنما نصب الاعمش تضل لانها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو إن. وتأويل الكلام على قراءته: إن تضلل، فلما اندغمت إحدى اللامين في الاخرى حركها إلى أخف الحركات وقع تذكر بالفاء، لانه جواب الجزاء. والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح أن من قوله: * (أن تضل إحداهما) * وبتشديد الكاف من قوله: * (فتذكر إحداهما الاخرى) * ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الاخرى. وأما نصب فتذكر فبالعطف على تضل، وفتحت أن بحلولها محل كي، وهي في موضع جزاء، والجواب بعده اكتفاء بفتحها، أعني بفتح أن من كي ونسق الثاني، أعني فتذكر على تضل، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر قد دل عليه وأدى عن معناه وعمله، أي عن كي. وإنما اخترنا ذلك في القراءة لاجماع الحجة من قدماء القراء والمتأخرين على ذلك، وانفراد الاعمش ومن قر قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم، ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها. وأما اختيارنا فتذكر بتشديد الكاف، فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الاخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر، فالتشديد به أولى من التخفيف. وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويل خطأ لا معنى له لوجوه شتى: أحدها: أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل. والثاني: أنه معلوم بأن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها إنما هو خطؤها عنها بنسيانها إياها كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه، فعدل عن الحق، وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة فكيف يجوز أن تصير الاخرى ذكرا معها مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ فالضالة منهما في شهادتها
[ 171 ]
حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الاذكار، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشئ القوي في عمله: ذكر، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه: سيف ذكر، ورجل ذكر، يراد به ماض في عمله، قوي البطش، صحيح العزم. فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ؟ إلا أنه إذا تأول ذلك كذلك، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله: فتذكر، ولا نعلم أحدا تأول ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قوله إذ كان الامر عاما على ما وصفنا ما اخترنا.) ذكر من تأول قوله: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * نحو تأويلنا الذي قلنا فيه: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لاموالكم. ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا، وإن كان فاجرا فبالحري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * يقول: أن تنسى إحداهما فتذكرها الاخرى. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (أن تضل إحداهما) * يقول: تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الاخرى. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (أن تضل إحداهما) * يقول: إن تنس إحداهما، تذكرها الاخرى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أن
[ 172 ]
تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * قال: كلاهما لغة وهما سواء، ونحن نقرأ: * (فتذكر) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *. اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الاجابة إذا دعوا بهذه الآية، فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأول هذه الآية: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * ليشهدوا لرجل على رجل. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة. وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرض ذلك على من دعي للاشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره، فأما إذا وجد غيره فهو في الاجابة إلى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لم يجب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، قال: * (لا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه، والقيام بما عنده من الشهادة من الاجابة. ذكر من قال ذلك:
[ 173 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عامر، عن الحسن: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: قال الحسن: الاقامة والشهادة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: كان الحسن يقول: جمعت أمرين لا تأب إذا كانت عندك: شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * يعني من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحل له أن يأبى إذا ما دعي. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: لاقامتها، ولا يبذأ بها إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي من إجابته إلى القيام بها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا شهد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * يقول: إذا كانوا قد أشهدوا. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا كانت عندك شهادة فدعيت. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ليث، عن مجاهد في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دعيت لتشهد، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب.
[ 174 ]
حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا عبد الملك بن الصباح، عن عمران بن حدير، قال: قلت لابي مجلز: ناس يدعونني لاشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، قال: الشاهد بالخيار ما لم يشهد. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: لاقامة الشهادة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو عامر المزني، قال: سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة، يعني قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو مرة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها ؟ قال: فلا تجب إن شئت. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، قال: سألت إبراهيم قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال: فلا تشهد إن شئت. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عامر، عن عطاء، قال: للاقامة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا كانوا قد شهدوا. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: هو الذي عنده الشهادة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * ؟ قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضر
[ 175 ]
إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه ؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء ؟ قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا يأب الشهداء) * قال: كان الحسن يتأولها إذا كانت عنده شهادة فدعى ليقيمها. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهد لرجل فشهد، والكاتب الذي يكتب الكتاب، دعوا إلى مقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا، وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه. وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل والمرأة بالاجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة، ولكنه أمر ندب لا فرض. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم، قال: ثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد. حدثني أبو العالية، قال: ثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العصري، عن عطاء، بمثله. (وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء من الاجابة إذا دعوا لاقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له. وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الاقوال غيره، لان الله عز وجل قال: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * فإنما أمرهم بالاجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء، وغير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا على ما
[ 176 ]
ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا على شئ فغير جائز أن يقال لهم شهداء، لان ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شئ يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم لم يكن على الارض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له شاهد، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لان يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام بشهادته، فلزمه لذلك هذا الاسم، كان معلوما أن المعني بقوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * من وصفنا صفته ممن قد استرعى شهادة أو شهد، فدعي إلى القيام بها، لان الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الاشهاد غير مستحق اسم شهيد ولا شاهد، لما قد وصفنا قبل. مع أن في دخول الالف واللام في الشهداء دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الاجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهل الحقوق باستشهادهم بقوله: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) *. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لاقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا، ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل: ولا يأب شاهد إذا ما دعي. غير أن الامر وإن كان كذلك، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرض عليه أن يكتب، كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الايمان وشرائع الاسلام، فحضره جاهل بالايمان وبفرائض الله فسأله تعليمه، وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له. ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الاجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وقد فرضنا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حق أخيه المسلم. والشهداء: جمع شهيد.) القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحق، يعني قليله أو كبيره - يعني أو كثيره - * (إلى أجله) *، إلى أجل الحق، فإن الكتاب أحصى للاجل والمال.) حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك عن ليث، عن مجاهد: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * قال: هو الدين.
[ 177 ]
ومعنى قوله: * (ولا تسأموا) * لا تملوا، يقال منه: سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمة، ومنه قول لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس: كيف لبيد ومنه قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم يعني مللت. وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله: * (إلى أجله) * إلى أجل الشاهد، ومعناه: إلى الاجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلكم أقسط عند الله) *. (يعني جل ثناؤه بقوله: ذلكم اكتتاب كتاب الدين إلى أجله، ويعني بقوله أقسط: أعدل عند الله، يقال منه: أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا وهو مقسط، إذا عدل في حكمه، وأصاب الحق فيه، فإذا جار قيل: قسط فهو يقسط قسوطا، ومنه قول الله عز وجل: * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * يعني الجائرون.) وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 178 ]
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (ذلكم أقسط عند الله) * يقول: أعدل عند الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأقوم للشهادة) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة. وأصله من قول القائل: أقمته من عوجه، إذا سويته فاستوى. وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه، لانه يحوي الالفاظ التي أقر بها البائع والمشتري ورب الدين والمستدين على نفسه، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الاسباب، وهو أعدل عند الله، لانه قد أمر به، واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأدنى أن لا ترتابوا) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وأدنى) * وأقرب، من الدنو: وهو القرب. ويعني بقوله: * (أن لا ترتابوا) * من أن لا تشكوا في الشهادة.) كما: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ذلك أدنى أن لا ترتابوا) * يقول: أن لا تشكوا في الشهادة. وهو تفتعل من الريبة. ومعنى الكلام: (ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحق الذي لكم قبل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحق، قليلا أو كثيرا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والاجل إذا كان مكتوبا.) (القول في تأويل قوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) *. ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم، ما وجب لهم قبلهم من حق عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك، لان كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض - إذا كان التواجب بينهم فيما يتبايعونه بعد - ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابا بما
[ 179 ]
وجب لهم قبلهم وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم، فلذلك قال تعالى ذكره: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) * لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء، * (فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) * يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها، يعني التجارة الحاضرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) * يقول: معكم بالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) * إلى قوله: * (فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) * قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه صغيرا كان أو كبيرا ورخص لهم أن لا يكتبوه. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق وعامة القراء: إلا أن تكون تجارة حاضرة بالرفع، وانفرد بعض قراء الكوفيين فقرأه بالنصب. وذلك وإن كان جائزا في العربية، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع كان، وتضمر معها في كان مجهولا، فتقول: إن كان طعاما طيبا فأتنا به، وترفعها فتقول: إن كان طعام طيب فأتنا به، فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها. فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءة بغيره، الرفع في التجارة الحاضرة، لاجماع القراء على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم، ولا يعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبا قول الشاعر: أعيني هل تبكيان عفاقاإذا كان طعنا بينهم وعناقا
[ 180 ]
وقول الآخر: ولله قومي أي قوم بحرة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها، وكان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما تذكروا إتباع النكرة خبرها، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة كان منصوب ومرفوع، ووجدوا النكرة يتبعها خبرها، وأضمروا في كان مجهولا لاحتمالها الضمير. وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة) * إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ يكون بالياء، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الاعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها، أنثوا كان مرة وذكروها أخرى، فقالوا: إن كانت جارية صغيرة فاشتروها، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها، تذكر كان وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت أحيانا وتؤنث أحيانا. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: إلا أن تكون تجارة حاضرة مرفوعة فيه التجارة الحاضرة لان يكون بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن توجد أو تقع أو تحدث، فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما، لانه إنما ألزم نفسه ذلك إذا لم يكن يجد لكان منصوبا، ووجد التجارة الحاضرة مرفوعة، وأغفل جواز قوله: * (تديرونها بينكم) * أن يكون خبرا لكان، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم. والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصح، وهو أن يكون في قوله: * (تديرونها بينكم) * وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب على أنه حل محل خبر كان، والتجارة الحاضرة اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع
[ 181 ]
التجارة الحاضرة، لان خبر النكرة يتبعها، فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: (وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونسائه، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيد ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الاشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه، لان في ترككم الاشهاد على ذلك خوف المضرة على كل من الفريقين. أما على المشتري فأن يجحد البائع المبيع، وله بينة على ملكه ما قد باع، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه فيكون القول حينئذ قول البائع مع يمينه ويقضي له به، فيذهب مال المشتري باطلا. وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلف على ذلك فيبطل حق البائع قبل المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالاشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.) ثم اختلفوا في معنى قوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * أهو أمر من الله واجب بالاشهاد عند المبايعة، أم هو ندب ؟ فقال بعضهم: هو ندب إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اوءتمن أمانته) * ؟ حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا الربيع بن صبيح، قال: قلت للحسن: أرأيت قول الله عز وجل: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * ؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد عليه فلا بأس. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد قول الله عز وجل: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقد في شهرين ولا ثلاثة، أترى بأسا ألا أشهد عليه ؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس.
[ 182 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * قال: إن شاؤا أشهدوا، وإن شاؤا لم يشهدوا. وقال آخرون: الاشهاد على ذلك واجب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) * ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم أمر الله ما كان يدا بيد، أن يشهدوا عليه صغيرا كان أو كبيرا. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: ما كان من بيع حاضر، فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه، وذلك في المقام. وأولى الاقوال في ذلك بالصواب، أن الاشهاد على كل مبيع ومشترى حق واجب وفرض لازم، لما قد بينا من أن كل أمر لله ففرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد. وقد دللنا على وهي قول من قال ذلك منسوخ بقوله: * (فليؤد الذي أوءتمن أمانته) * فيما مضى فأغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله، فيكتب هذا ما لم يملله المملي، ويشهد هذا بما لم يستشهده الشهيد. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * ولا يضار كاتب فيكتب ما لم يمل عليه، ولا شهيد فيشهد بما لم يستشهد. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان
[ 183 ]
الحسن يقول: لا يضار كاتب فيزيد شيئا أو يحرف، ولا شهيد، قال: لا يكتم الشهادة. ولا يشهد إلا بحق. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، عن قتادة، قال: اتقى الله شاهد في شهادته لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا ولا يزيدن فيه باطلا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قال: لا يضار كاتب فيكتب ما لم يملل، ولا شهيد فيشهد بما لم يستشهد. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *. قال: لا يضار كاتب فيكتب غير الذي أملي عليه، قال: والكتاب يومئذ قليل، ولا يدرون أي شئ يكتب، فيضار، فيكتب غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضار فيحول شهادته، فيبطل حقهم. فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارر كاتب ولا شهيد، ثم أدغمت الراء في الراء لانهما من جنس وحركت إلى الفتح وموضعها جزم، لان الفتح أخف الحركات. وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك: ولا يضار كاتب ولا شهيد بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: أن يؤديا ما قبلهما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قال: لا يضار أن يؤديا ما عندهما من العلم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: * (لا يضار كاتب ولا شهيد) * قال: أن يدعوهما فيقولان: إن لنا حاجة.
[ 184 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قالا: واجب على الكاتب أن يكتب، * (ولا شهيد) *، قالا: إذا كان قد شهدا قبله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يضار المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد. وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضارر على وجه ما لم يسم فاعله. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان عمر يقرأ: ولا يضارر كاتب ولا شهيد. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، قال: كان ابن مسعود يقرأ: ولا يضارر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد، أنه كان يقرأ: ولا يضارر كاتب ولا شهيد، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته. وقال مجاهد: لا يقم عن شغله وحاجته، فيجد في نفسه أو يحرج. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * والضرار: أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك، وقال: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد، فيقول: خلوا سبيله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قال: يكون به العلة، أو يكون مشغولا. يقول: فلا يضاره. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتب لي واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمس غيري، فيقول: اتق الله فإنك قد
[ 185 ]
أمرت أن تكتب لي. فهذه المضارة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهد بتلك المنزلة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد، فيقول الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله عز وجل لا يضارهما. حدثت عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنا على حاجة مهمة، فاطلب غيرنا ! فيقول: الله أمركما أن تجيبا، فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، يعني لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما. حدثني موسى قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي ! فلا يتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته. ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي تحبسه عن حاجته، وأنت تجد غيره. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قال: لما نزلت هذه الآية: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * كان أحدهم يجئ إلى الكاتب فيقول: اكتب لي ! فيقول: إني مشغول أو لي حاجة، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي. فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي ! فيقول: اذهب إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة، فيلزمه ويقول: قد أمرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل الله عز وجل * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * يقول: إن لي حاجة فدعني ! فيقول: اكتب لي. ولا شهيد كذلك. (وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يضار كاتب ولا شهيد، بمعنى: ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى على هذا إلا أن
[ 186 ]
يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيب إلى الشهادة وهو غير فارغ، على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لان الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنما هو خطاب لاهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الامر والنهي للغائب غير المخاطب كقوله: * (وليكتب بينكم كاتب) * وكقوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * وما أشبه ذلك، فالواجب إذا كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما، لانهما اثنان، وإنما غير مخاطبيين بقوله: * (ولا يضار) * بل النهي بقوله: * (ولا يضار) * نهي للغائب غير المخاطب. فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه.) القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضاروا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك، فإنه فسوق بكم، يعني إثم بكم ومعصية.) واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * الفسوق: المعصية. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * الفسوق: العصيان.
[ 187 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي، ويضار شهيد فيحول شهادته ويغيرها، فإنه فسوق بكم، يعني فإنه كذب. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * الفسوق: الكذب. قال: هذا فسوق لانه كذب الكاتب فحول كتابه فكذب، وكذب الشاهد فحول شهادته، فأخبرهم الله أنه كذب. وقد دللنا فيما مضى على أن المعني بقوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * إنما معناه: لا يضارهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية. فقوله: * (وإن تفعلوا) * إنما هو إخبار من يضارهما بحكمه فيهما، وأن من يضارهما فقد عصى ربه وأثم به، وركب ما لا يحل له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) *. (يعني بقوله جل ثناؤه: * (واتقوا الله) * وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه. ويعني بقوله: * (ويعلمكم الله) * ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به. * (والله بكل شئ عليم) * يعني من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم ليجازيكم بها.) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: * (ويعلمكم الله) * قال: هذا تعليم علمكموه فخذوا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته القراء في الامصار جميعا كاتبا، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى فرهان مقبوضة. وقرأ جماعة من المتقدمين: ولم تجدوا كتابا، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل، إما بتعذر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
[ 188 ]
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الامصار: * (ولم تجدوا كاتبا) * بمعنى: من يكتب، لان ذلك كذلك في مصاحف المسلمين، وإن كنتم أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والاشهاد عليه سبيل، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الاجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ليكون ثقة لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا في ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة) * فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا) * يقول: كاتبا يكتب لكم، فرهان مقبوضة. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أن يكتب ويشهد عليه وذلك في المقام، فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا (كاتبا)، فرهان مقبوضة. ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس: فإن لم تجدوا كتابا، يعني بالكتاب: الكاتب والصحيفة والدواة والقلم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ: فإن لم تجدوا كتابا، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرؤها: فإن لم تجدوا كتابا، ويقول: ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.
[ 189 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيج، عن مجاهد: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا يقول: مدادا، يقرؤها كذلك، يقول: فإن لم تجدوا مدادا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة، * (فرهان مقبوضة) *، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب، قال: إن أبا العالية كان يقرؤها: فإن لم تجدوا كتابا، قال أبو العالية: توجد الدواة ولا توجد الصحيفة. واختلف القراء في قراءة قوله: * (فرهان مقبوضة) * فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: * (فرهان مقبوضة) * بمعنى جماع رهن، كما الكباش جماع كبش، والبغال جماع بغل، والنعال جماع نعل. وقرأ ذلك جماعة آخرون: فرهن مقبوضة على معنى جمع رهان ورهن جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع رهن مثل سقف وسقف. وقرأه آخرون: * (فرهن) * مخففة الهاء، على معنى جماع رهن، كما تجمع السقف سقفا، قالوا: ولا نعلم اسما على فعل يجمع على فعل وفعل إلا الرهن والرهن والسقف والسقف. والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه: * (فرهان مقبوضة) * لان ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على فعل، كما يقال حبل وحبال وكعب وكعاب، ونحو ذلك من الاسماء. فأما جمع الفعل على الفعل أو الفعل فشاذ قليل إنما جاء في أحرف يسيرة، وقيل سقف وسقف وسقف، وقلب وقلب وقلب من قلب النخل، وجد وجد. للجد الذي هو بمعنى الحظ. وأما ما جاء من جمع فعل على فعل فثط وثط، وورد وورد، وخود وخود. وإنما دعا الذي قرأ ذلك: فرهن مقبوضة إلى قراءته فيما أظن كذلك مع شذوذه في جمع فعل، أنه وجد الرهان مستعملة في رهان الخيل، فأحب صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى الرهان، الذي هو جمع رهن، ووجد الرهن مقولا في جمع رهن، كما قال قعنب: بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قلبك الرهن
[ 190 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم فليؤد الذي اوءتمن أمانته وليتق الله ربه) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينا عند رب المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لامانته عنده على ماله وثقته، فليتق الله المدين ربه، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يلط دونه، أو يحاول الذهاب به، فيتعرض من عقوبة الله ما لا قبل له به، وليؤد دينه الذي ائتمنه عليه إليه. وقد ذكرنا قول من قال هذا الحكم من الله عز وجل ناسخ الاحكام التي في الآية قبلها من أمر الله عز وجل بالشهود والكتاب، وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.) وقد: حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليوءد الذي اوءتمن أمانته) * إنما يعني بذلك في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبا، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا. وهذا الذي قاله الضحاك، من أنه ليس لرب الدين ائتمان المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والاشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر، فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل. وأما ما قاله - من الامر في الرهن أيضا كذلك مثل الائتمان في أنه ليس لرب الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر - فإنه قول لا معنى له لصحة الخبر عن رسول الله (ص) أنه: اشترى طعاما نساء، ورهن به درعا له. فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بماله من حق في السفر والحضر، لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله (ص)، وأن معلوما أن النبي (ص) لم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبا ولا شهيدا، لانه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الاوقات الكاتب والشاهد، غير أنهما إذا تبايعا برهن، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، وكان البيع أو الدين
[ 191 ]
إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن، وإنما يجوز ترك الكاتب والاشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) *. (وهذا خطاب من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدين ورب المال بإشهادهم، فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تكتموا أيها الشهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لاقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه. ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم، أو ذي سلطان، فقال: * (ومن يكتمها) *، يعني ومن يكتم شهادته، * (فإنه آثم قلبه) *، يقول: فاجر قلبه، مكتسب بكتمانه إياها معصية الله.) كما: حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * فلا يحل لاحد أن يكتم شهادة هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * يقول: فاجر قلبه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: أكبر الكبائر الاشراك بالله، لان الله يقول: * (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) * وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لان الله عز وجل يقول: * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) *. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استخبر. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، قال: أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها، فأخبره بها، ولا تقل: أخبر بها عند الامير، أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي.
[ 192 ]
وأما قوله: * (والله بما تعملون عليم) * فإنه يعني بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها، * (عليم) * يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرا، وإما شرا على قدر استحقاقكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (لله ما في السماوات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شئ قدير) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (لله ما في السموات وما في الارض) * لله ملك كل ما في السموات وما في الارض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شئ، لانه مدبره ومالكه ومصرفه. وإنما عنى بذلك جل ثناؤه: كتمان الشهود الشهادة، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجر قلبه، ولن يخفى علي كتمانه، وذلك لاني بكل شئ عليم، وبيدي صرف كل شئ في السموات والارض وملكه، أعلمه خفي ذلك وجليه، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة. وعيدا من الله بذلك من كتمها وتخويفا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم، وبمن كان من نظرائهم ممن انطوى كشحا على معصية فأضمرها، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من المحاسبة عليها، فقال: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حق رب المال الجحود والانكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم وغير ذلك من سيئ أعمالكم، * (يحاسبكم به الله) * يعني بذلك: يحتسب به عليه من أعماله، فيجازي من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، وغافر منكم لمن شاء من المسيئين. ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فقال بعضهم بما قلنا من أنه عنى به الشهود في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو نفيل، عن
[ 193 ]
يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يقول: يعني في الشهادة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: في الشهادة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: سئل داود عن قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فحدثنا عن عكرمة، قال: هي الشهادة إذا كتمتها. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو وأبي سعيد، أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: في الشهادة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن الشعبي في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: في الشهادة. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه قال في هذه الآية: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها. حدثني يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن عكرمة في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يعني كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من الله تبارك وتعالى عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه. ثم اختلف متأولو ذلك كذلك، فقال بعضهم: ثم نسخ الله ذلك بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن
[ 194 ]
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: * (لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * اشتد ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ؟ هلكنا ! فأنزل الله عز وجل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * الآية، إلى قوله: * (ربنا لا توءاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): قال الله: نعم. * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * إلى آخر الآية، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): قال الله عز وجل نعم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * دخل قلوبهم منها شئ لم يدخلها من شئ، فقال رسول الله (ص): سمعنا وأطعنا وسلمنا. قال: فألقى الله عز وجل الايمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) *. قال أبو كريب: فقرأ: * (ربنا لا توءاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: فقال: قد فعلت. * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * قال: قد فعلت. * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * قال: قد فعلت * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * قال: قد فعلت. حدثني أبو الرداد المصري عبد الله بن عبد السلام، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح، قال: سمعت يزيد بن أبي حبيب، يقول: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن مرجانة، قال: جئت عبد الله بن عمر، فتلا هذه الآية: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) *. ثم قال ابن عمر: لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكن. ثم بكى ابن عمر حتى سالت دموعه. قال: ثم
[ 195 ]
جئت عبد الله بن العباس، فقلت: يا أبا عباس، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *... الآية، ثم قال: لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكن ! ثم بكى حتى سالت دموعه. فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرق أصحاب رسول الله (ص) منها كما فرق ابن عمر منها، فأنزل الله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * فنسخ الله الوسوسة، وأثبت القول والفعل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: * (لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *... الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ! ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه. فقال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس، فذكرت له ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لابي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر، فأنزل الله بعدها: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الامر إلى أن قضى الله عز وجل: أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: قرأها ابن عمر، فبكى وقال: إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ! فبكى حتى سمع نشيجه، فقام رجل من عنده، فأتى ابن عباس، فذكر ذلك له، فقال: رحم الله ابن عمر لقد وجد المسلمون نحوا مما وجد، حتى نزلت: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميد الاعرج، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *... الآية. فبكى ! فدخلت على ابن عباس، فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس فقال: يرحم الله ابن عمر، أو ما يدري فيم أنزلت ؟ إن هذه الآية حين أنزلت
[ 196 ]
غمت أصحاب رسول الله (ص) غما شديدا، وقالوا: يا رسول الله هلكنا ! فقال لهم رسول الله (ص): قولوا سمعنا وأطعنا، فنسختها: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * إلى قوله: * (وعليها ما اكتسبت) * فتجوز لهم من حديث النفس، وأخذوا بالاعمال. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم أن أباه قرأ: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فدمعت عينه. فبلغ صنيعه ابن عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن ! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله (ص) حين أنزلت، فنسختها الآية التي بعدها: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. حدثنا محمد بن بشار، قال أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: نسخت هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قالوا: أنؤاخذ بما حدثنا به أنفسنا ولم تعمل به جوارحنا ؟ قال: فنزلت هذه الآية: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا توءاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الامة خواتيم سورة البقرة، لم تعطها الامم قبلها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير بن نوح، قال: ثنا إسماعيل، عن عامر: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * قال: فنسختها الآية بعدها قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: * (إن تبدوا ما
[ 197 ]
في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: نسختها الآية التي بعدها: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. وقوله: * (وإن تبدوا) * قال: يحاسب بما أبدى من سر أو أخفى من سر، فنسختها التي بعدها. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن الشعبي، قال: لما نزلت هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * قال: فكان فيها شدة حتى نزلت هذه الآية التي بعدها: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * قال: فنسخت ما كان قبلها. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: ذكروا عند الشعبي: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * حتى بلغ: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * قال: فقال الشعبي: إلى هذا صار، رجعت إلى آخر الآية. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * قال: قال ابن مسعود: كانت المحاسبة قبل أن تنزل: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يذكر عن ابن مسعود، نحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي، قال: نسخت: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب وسفيان، عن جابر، عن مجاهد، وعن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، قالوا: نسخت هذه الآية: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) *... الآية. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر، بمثله.
[ 198 ]
حدثنا المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد بن حميد، عن الحسن في قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * إلى آخر الآية، قال: محتها: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أنه قال: نسخت هذه الآية، يعني قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *... الآية التي كانت قبلها: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: نسختها قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن زيد، قال: لما نزلت هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *... إلى آخر الآية، اشتدت على المسلمين، وشقت مشقة شديدة، فقالوا: يا رسول الله لو وقع في أنفسنا شئ لم نعمل به واخذنا الله به ؟ قال: فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا، قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. قال: فنزل القرآن يفرجها عنهم: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) * إلى قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * قال: فصيره إلى الاعمال، وترك ما يقع في القلوب. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا هشيم، عن سيار، عن أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: نسخت هذه الآية التي بعدها: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وسوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فقالوا: إن عمل أحدنا وإن
[ 199 ]
لم يعمل أخذنا به ؟ والله ما نملك الوسوسة ! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدها بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. وقال آخرون ممن قال معنى ذلك: الاعلام من الله عز وجل عباده أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه. هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله عز وجل محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصروه في أنفسهم ونووه وأرادوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفاق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله عز وجل: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: * (يحاسبكم به الله) * يقول: يخبركم. وأما أهل الشك والريب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: * (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * وهو قوله: * (ولكن يوءاخذكم بما كسبت قلوبكم) * من الشك والنفاق. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فذلك سر عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن، والله يرضى سر المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان سوأ حدث به نفسه اطلع الله عليه وأخبره به يوم تبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه، كما قال: * (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم) *.
[ 200 ]
حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *... الآية. قال: قال ابن عباس: إن الله يقول يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم، فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا علي بن عاصم، قال: أخبرنا بيان، عن بشر، عن قيس بن أبي حازم، قال: إذا كان يوم القيامة، قال الله عز وجل يسمع الخلائق: إنما كان كتابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فأما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه، ولا يعلمونه، أنا الله أعلم بذلك كله منكم، فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * كان ابن عباس يقول: إذا دعي الناس للحساب، أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم مما لم يعملوه، فيقول: إنه كان لا يعزب عني شئ، وإني مخبركم بما كنتم تسرون من السوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطلعين عليه. فهذه المحاسبة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو نميله، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس، نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: هي محكمة لم ينسخها شئ، يقول: يحاسبكم به الله، يقول: يعرفه الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: هي محكمة لم تنسخ. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: من الشك واليقين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * يقول: في اليقين والشك.
[ 201 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * من شئ من الاعمال، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لاهل الايمان، وأعذب أهل الشرك والنفاق في ديني. وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، وعلى ما قاله الربيع بن أنس، فإن تأويلها: إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم، فتخفوه، يعلمكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. وأما قول مجاهد فشبيه معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة. وقال آخرون ممن قال: هذه الآية محكمة وهي غير منسوخة ووافقوا الذين قالوا: معنى ذلك أن الله عز وجل أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم: معناها: أن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، ومعاقبهم عليه، غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب، والامور التي يحزنون عليها ويألمون منها. ذكر من قال ذلك: حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *... الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من هم بسيئة فلم يعملها أرسل الله عليه من الهم والحزن مثل الذي هم به من السيئة فلم يعملها، فكانت كفارته. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهم بمعصية، أو يحدث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخاف ويحزن ويهتم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو نميله، عن عبيد، عن الضحاك، قال: قالت عائشة في ذلك: كل عبد هم بسوء ومعصية، وحدث نفسه به، حاسبه الله في
[ 202 ]
الدنيا، يخاف ويحزن ويشتد همه، لا يناله من ذلك شئ، كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا. حدثنا الربيع، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *، * (ومن يعمل سوأ يجز به) * فقالت: ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله (ص)، فقال: يا عائشة، هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها، فيجدها في ضبنه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الاحمر من الكير. وأولى الاقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة وليست بمنسوخة، وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر له ناف من كل وجوهه، وليس في قوله جل وعز: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله: * (أو تخفوه يحاسبكم به الله) * لان المحاسبة ليست بموجبة عقوبة، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه، وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة، يقولون: * (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها، فلم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها بموجب إحصاؤها على أهل الايمان بالله ورسوله وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين، لان الله عز وجل وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر، فقال في تنزيله: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) * فدل أن محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الامور التي أخفتها أنفسهم غير موجبة
[ 203 ]
لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم إن شاء الله عليها ليعرفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول الله (ص) في الخبر الذي: حدثني به أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن نبي الله (ص) قال: يدني الله عبده المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بسيئاته يقول: هل تعرف ؟ فيقول نعم، فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم. ثم يظهر له حسناته، فيقول: هاؤم اقرؤا كتابيه أو كما قال: وأما الكافر، فإنه ينادى به على رؤوس الاشهاد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي وسعيد وهشام، وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا هشام، قالا جميعا في حديثهما، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل، فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول الله (ص) يقول في النجوى ؟ فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا ؟ فيقول: رب اغفر مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه. وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الاشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. إن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها، فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه، وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه، فيستره عليه، وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين، فقال: يغفر لمن يشاء.
[ 204 ]
فإن قال قائل: فإن قوله: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير. قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشئ من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله. فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله: * (ويعذب من يشاء) * إن كان * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا، من هم بذنب، أو إرادة لمعصية، لم تكتسبه جوارحنا ؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله: * (ويعذب من يشاء) * على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه (ص)، وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث من المنافقين، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما أن تأويل قوله: * (أو تخفوه يحاسبكم به الله) * على الشك واليقين. غير أنا نقول إن المتوعد بقوله: * (ويعذب من يشاء) * هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا، والموعود الغفران بقوله: * (فيغفر لمن يشاء) * هو الذي أخفى، وما يخفيه الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الامور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه، أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بالتقدم عليه لم يكن مأخوذا، كما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فهذا الذي وصفنا، هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الاليم بقوله: * (ويعذب من يشاء) *.
[ 205 ]
فتأويل الآية إذا: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * أيها الناس، فتظهروه * (أو تخفوه) * فتنطوي عليه نفوسكم، * (يحاسبكم به الله) * فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. القول في تأويل قوله تعالى: * (والله على كل شئ قدير) *. يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل، ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الامور قادر. القول في تأويل قوله تعالى: * (آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) * يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول، يعني رسول الله (ص)، فأقر * (بما أنزل إليه) * يعني بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها. وذكر أن رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية عليه قال: يحق له. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * وذكر لنا أن نبي الله (ص) لما نزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن. وقد قيل: إنها نزلت بعد قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير) * لان المؤمنين برسول الله من أصحابه، شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فقال لهم رسول الله (ص): لعلكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو
[ 206 ]
إسرائيل ! فقالوا: بل نقول: سمعنا وأطعنا ! فأنزل الله لذلك من قول النبي (ص) وقول أصحابه: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) *. يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. واختلف القراء في قراءة قوله: وكتبه، فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض قراء أهل العراق: * (وكتبه) * على وجه جمع الكتاب على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسوله. وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: وكتابه بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته، وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد (ص). وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكان ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: * (والعصر إن الانسان لفي خسر) * بمعنى: جنس الناس وجنس الكتاب، كما يقال: ما أكثر درهم فلان وديناره، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع، لان الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك، أعني بذلك: وملائكته وكتبه ورسله، فإلحاق الكتب في الجمع لفظا به أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * وأما قوله: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * بالنون متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عنه، وذلك المتروك هو يقولون. (وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر يقولون لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم) * بمعنى: يقولون سلام. وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: لا يفرق بين أحد من رسله بالياء، بمعنى:
[ 207 ]
والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض، ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاؤا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد (ص)، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الامم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه.) كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * كما صنع القوم، يعني بني إسرائيل، قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به. والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * لانها القراءة التي قامت حجة بالنقل المستفيض الذي يمتنع معه التشاعز والتواطؤ والسهو والغلط، يعني ما وصفنا من يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. ولا يعترض بشاذ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلا ورواية. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين: * (سمعنا) * قول ربنا، وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه، * (وأطعنا) *: يعني أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له: وقوله: * (غفرانك ربنا) * يعني: وقالوا غفرانك ربنا، بمعنى: اغفر لنا، ربنا غفرانك، كما يقال: سبحانك، بمعنى نسبحك سبحانك. وقد بينا فيما مضى أن الغفران والمغفرة: الستر من الله على ذنوب من غفر له، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة عليه. وأما قوله: * (وإليك المصير) * فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا.) فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله: * (غفرانك) * ؟ قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الامر، وكذلك تفعل العرب بالمصادر والاسماء إذا حلت محل الامر، وأدت عن معنى الامر نصبتها، فيقولون: شكرا لله يا فلان، وحمدا له، بمعنى: اشكر الله واحمده، والصلاة الصلاة: بمعنى صلوا. ويقولون في الاسماء: الله الله يا قوم. ولو رفع بمعنى هو الله، أو هذا الله ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الآمر كان جائزا، كما قال الشاعر:
[ 208 ]
إن قوما منهم عمير وأشباه عمير ومنهم السفاح لجديرون بالوفاء إذا قال أخو النجدة السلاح السلاح ولو كان قوله: * (غفرانك ربنا) * جاء رفعا في القراءة لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا. وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله (ص) ثناء من الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل (ص): إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر، قال: لما أنزلت على رسول الله (ص): * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) * قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه ! فسأل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *... إلى آخر السورة. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها. وقد بينا فيما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل: وسعني هذا الامر مثل الجهد والوجد من جهدني هذا الامر ووجدت منه. كما:
[ 209 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وقال: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * وقال: * (اتقوا الله ما استطعتم) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله هذا، نتوب من عمل اليد والرجل واللسان، كيف نتوب من الوسوسة، كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل (ص) بهذه الآية: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وسعها: طاقتها، وكان حديث النفس مما لا يطيقون. القول في تأويل قوله تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. يعني بقوله جل ثناؤه لها: للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها، يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير، وعليها: يعني وعلى كل نفس ما اكتسبت: ما عملت من شر. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت) * أي من خير * (وعليها ما اكتسبت) * أي من شر، أو قال: من سوء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لها ما كسبت) * يقول: ما عملت من خير، * (وعليها ما اكتسبت) * يقول: وعليها ما عملت من شر. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله.
[ 210 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * عمل اليد والرجل واللسان. فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها، فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * (وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولون في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله، أو أخطأنا في فعل شئ نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ.) كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا شيئا مما حرمته علينا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: بلغني أن النبي (ص) قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الامة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال له جبريل (ص) فقل ذلك يا محمد. إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطؤا فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟ قيل: إن النسيان على وجهين: أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر: على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ، ووكل به وضعف
[ 211 ]
عقله عن احتماله، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه، فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) * وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) * فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل، فإن ذلك إذا كان كفرا بالله فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لان الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ، وإنما يكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه، وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما. وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لانه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الامر يغلب عليه، وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجد منه، فيقرؤه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله، ذكر ما أودع قلبه منه وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا يجوز مسألة الرب مغفرته، لانه لا ذنب للعبد فيه، فيغفر له باكتسابه. وكذلك للخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، يقال منه: خطئ فلان وأخطأ فيما أتى من الفعل، وأثم إذا أتى ما يتأثم فيه وركبه، ومنه قول الشاعر: الناس يلحون الامير إذا هم خطئوا الصواب ولا يلام المرشد يعني: أخطأوا الصواب. وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرا. والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به والظن
[ 212 ]
منه، بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا، وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عز وجل عن عباده الاثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به، وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: قولوا: ربنا لا تحمل علينا إصرا: يعني بالاصر: العهد، كما قال جل ثناؤه: * (قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري) *. وإنما عنى بقوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) *: ولا تحمل علينا عهدا، فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه، * (كما حملته على الذين من قبلنا) * يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها، فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد (ص) الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحل بمن قبلهم.) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (لا تحمل علينا إصرا) * قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، * (كما حملته على الذين من قبلنا) * يقول: كما غلظ على من قبلنا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) * قال: عهدا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إصرا) * قال: عهدا.
[ 213 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: * (إصرا) * يقول: عهدا. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * والاصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) * قال: عهدا لا نطيقه، ولا نستطيع القيام به، * (كما حملته على الذين من قبلنا) * اليهود والنصارى، فلم يقوموا به فأهلكتهم. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: * (إصرا) * قال: المواثيق. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: الاصر: العهد، * (وأخذتم على ذلكم إصري) * قال: عهدي. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وأخذتم على ذلكم إصري) * قال: عهدي. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الامم، فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم. ذكر من قال ذلك: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: * (ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة. وقال آخرون: معنى الاصر بكسر الالف: الثقل. ذكر من قال ذلك:
[ 214 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * يقول: التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته، يعني مالكا، عن قوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) * قال: الاصر: الامر الغليظ. فأما الاصر بفتح الالف: فهو ما عطف الرجل على غيره من رحم أو قرابة، يقال: أصرتني رحم بيني وبين فلان عليه، بمعنى: عطفتني عليه، وما يأصرني عليه: أي ما يعطفني عليه، وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه أصرا: يعني به: عاطفة رحم تعطفني عليه (القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضا: ربنا لا تكلفنا من الاعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا. وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.) ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * تشديد يشدد به كما شدد على من كان قبلكم. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله: * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * قال: لا تحملنا من الاعمال ما لا نطيق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به، فنعجز عنه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * مسخ القردة والخنازير. حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: ثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي، قال: ثنا محمد بن شعيب بن سابور، عن سالم بن شابور في قوله: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * قال: الغلمة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ربنا ولا
[ 215 ]
تحملنا ما لا طاقة لنا به) * من التغليظ والاغلال التي كانت عليهم من التحريم. (وإنما قلنا: إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الاعمال ما لا نطيق القيام به على نحو الذي قلنا في ذلك، لانه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى.) القول في تأويل قوله تعالى: * (واعف عنا واغفر لنا) *. وفي هذا أيضا من قول الله عز وجل خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله: * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * لانهم عقبوا ذلك بقولهم: * (واعف عنا) * مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه، ولا يعاقبهم عليه، وإن خف ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (واعف عنا) * قال: اعف عنا إن قصرنا عن شئ من أمرك مما أمرتنا به. وكذلك قوله: * (واغفر لنا) * يعني: واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. وقد دللنا على معنى المغفرة فيما مضى قبل. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد * (واغفر لنا) * إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه. (القول في تأويل قوله تعالى: * (وارحمنا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا.) كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (وارحمنا) * قال: يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك، قال: ولم ينج أحد إلا برحمتك. القول في تأويل قوله تعالى: * (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *.
[ 216 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: * (أنت مولانا) * أنت ولينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك، لانا مؤمنون بك ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت ولي من أطاعك، وعدو من كفر بك فعصاك، فانصرنا لانا حزبك، على القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والانداد دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان. والمولى في هذا الموضع المفعل من ولى فلان أمر فلان فهو يليه ولاية، وهو وليه ومولاه، وإنما صارت الياء من ولى ألفا لانفتاح اللام قبلها التي هي عين الاسم. وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله (ص)، فتلاها رسول الله (ص)، استجاب الله له في ذلك كله. ذكر الاخبار التي جاءت بذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا: ثنا آدم، قال: ثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال لما نزلت هذه الآية: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * قال: قرأها رسول الله (ص)، فلما انتهى إلى قوله: * (غفرانك ربنا) * قال الله عز وجل: قد غفرت لكم، فلما قرأ: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال الله عز وجل: لا أحملكم فلما قرأ: * (واغفر لنا) * قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم، فلما قرأ: * (وارحمنا) * قال الله عز وجل: قد رحمتكم، فلما قرأ: * (وانصرنا على القوم الكافرين) * قال الله عز وجل: قد نصرتكم عليهم. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: أتى جبريل النبي (ص)، فقال: يا محمد قل: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * فقالها، فقال جبريل: قد فعل، وقال له جبريل: قل * (ربنا لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * فقالها، فقال جبريل: قد فعل، فقال: قل * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *، فقالها: فقال جبريل (ص): قد فعل، فقال: قل * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *. فقالها، فقال جبريل: قد فعل. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد، * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * فقال له جبريل في كل ذلك: فعل ذلك يا محمد.
[ 217 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، وحدثنا سفيان، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أنزل الله عز وجل: * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * إلى قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) *، فقرأ: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: فقال: قد فعلت، * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * فقال: قد فعلت، * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * قال: قد فعلت، * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * قال: قد فعلت. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أنزل الله عز وجل: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): قال الله عز وجل نعم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو حميد، عن سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: ويقول قد فعلت، * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * قال: ويقول قد فعلت. فأعطيت هذه الامة خواتيم سورة البقرة، ولم تعطها الامم قبلها. حدثنا علي بن حرب الموصلي، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل * (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * إلى قوله: * (غفرانك ربنا) * قال: قد غفرت لكم، * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * إلى قوله: * (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * قال: لا أؤاخذكم، * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * قال: لا أحمل عليكم، إلى قوله: * (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا) * إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرتكم على القوم الكافرين. وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبي (ص) خاصة. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * كان جبريل عليه
[ 218 ]
السلام يقول له سلها، فسألها نبي الله ربه جل ثناءه، فأعطاه إياها، فكانت للنبي (ص) خاصة. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة: * (وانصرنا على القوم الكافرين) * قال: آمين.
[ 219 ]
سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا أبو جعفر محمد ين جرير بن يزيد الطبري رضي الله عنه: القول في تأويل قوله تعالى: * (الم ئ الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله: * (الم) * فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وكذلك البيان عن قوله * (الله) *. وأما معنى قوله: * (لا إله إلا هو) * فإنه خبر من الله عز وجل أخبر عباده أن الالوهية خاصة به دون ما سواه من الآلهة والانداد، وأن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحده بالالوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأن كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه وملكه، احتجاجا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذ كان كذلك، فغير جائزة لهم عبادة غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كل معبود سواه فملكه، وكل معظم غيره فخلقه، وعلى المملوك إفراد الطاعة لمالكه، وصرف خدمته إلى مولاه ورازقه. ومعرفا من كان من خلقه يوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد (ص)، بتنزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه، مقيما على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو ملك أو غير ذلك من الاشياء التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته وإلاهته، ومتخذته دون مالكه وخالقه إلها
[ 220 ]
وربا، أنه مقيم على ضلالة، ومنعزل عن المحجة، وراكب غير السبيل المستقيمة بصرفه العبادة إلى غيره ولا أحد له الالوهية غيره. وقد ذكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به من نفي الالوهية أن يكون لغيره ووصفه نفسه بالذي وصفها به ابتدائها احتجاجا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله (ص) من نجران، فحاجوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله، فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفا وثلاثين آية من أولها، احتجاجا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم لنبيه محمد (ص)، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك وسألوا قبول الجزية منهم، فقبلها (ص) منهم، وانصرفوا إلى بلادهم. غير أن الامر وإن كان كذلك وإياهم قصد بالحجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربا وإلها ومعبودا، معمومون بالحجة التي حج الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفرقان الذي فرق به لرسول الله (ص) بينه وبينهم. ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر، قال: قدم على رسول الله (ص) وفد نجران، ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، في الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح. والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الايهم. وأبو حارثة بن
[ 221 ]
علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه. قال ابن إسحاق قال محمد بن جعفر بن الزبير: قدموا على رسول الله (ص) المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في بلحرث بن كعب. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (ص) يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله (ص) فقال رسول الله (ص): دعوهم ! فصلوا إلى المشرق. قال: وكانت تسمية الاربع عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم: العاقب وهو عبد المسيح، والسيد وهو الايهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد بن عمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، في ستين راكبا. فكلم رسول الله (ص) منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والايهم السيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم: هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الاسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله، أنهم يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشئ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون في قولهم: إنه ثالث ثلاثة، بقول الله عز وجل: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه (ص) فيه قولهم. فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله (ص): أسلما ! قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما ! قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الاسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد، فصمت رسول الله (ص) عنهما، فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك
[ 222 ]
من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فقال: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * فافتتح السورة بتبرئة نفسه تبارك وتعالى مما قالوا، وتوحيده إياها بالخلق والامر، لا شريك له فيه، وردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الانداد، واحتجاجا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرفهم بذلك ضلالتهم، فقال: * (الله لا إله إلا هو) * أي ليس معه شريك في أمره. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * قال: إن النصارى أتوا رسول الله (ص)، فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه ؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان، لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. فقال لهم النبي (ص): ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يكلؤه ويحفظه ويرزقه ؟. قال: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟. قالوا: لا. قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء ؟. قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم ؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك ؟. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث ؟. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غدي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ؟. قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟. قال: فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله عز وجل: * (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (الحي القيوم) *. اختلفت القراء في ذلك، فقرأته قراء الامصار: * (الحي القيوم) *. وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: الحي القيام. وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: الحي القيم. حدثنا بذلك أبو كريب، قال: ثنا عثام بن علي، قال: ثنا الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، قال: سمعت علقمة يقرأ: الحي القيم قلت: أنت سمعته ؟ قال: لا أدري.
[ 223 ]
حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة، مثله. وقد روي عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما: حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا شيبان، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ: الحي القيام. والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قراءة المسلمين نقلا مستفيضا عن غير تشاعر ولا تواطؤ وراثة، وما كان مثبتا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ * (الحي القيوم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (الحي) *. اختلف أهل التأويل في معنى قوله: * (الحي) * فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموت الذي يجوز على من سواه من خلقه عنها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (الحي) * الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصلب في قولهم، يعني في قول الاحبار الذين حاجوا رسول الله (ص) من نصارى أهل نجران. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (الحي) * قال: يقول: حي لا يموت. وقال آخرون: معنى * (الحي) * الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية ووصف به نفسه، أنه المتيسر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شئ أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والانداد. وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياة الدائمة التي لم تزل له صفة، ولا تزال كذلك. وقالوا: إنما وصف نفسه بالحياة، لان له حياة كما وصفها بالعلم لان لها علما، وبالقدرة لان لها قدرة.
[ 224 ]
ومعنى ذلك عندي: (أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حال يكل ذي حياة من خلقه، من الفناء، وانقطاع الحياة عند مجئ أجله، فأخبر عباده أنه المستوجب على خلقه العبادة والالوهة، والحي الذي لا يموت، ولا يبيد كما يموت كل من اتخذ من دونه ربا، ويبيد كل من ادعى من دونه إلها، واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الاله الذي لا يبيد ولا يموت، وأن الاله: هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو القول في تأويل قوله تعالى: * (القيوم) *. قد ذكرنا اختلاف القراءة في ذلك والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك. فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أن القراء قرأت بها فمتقارب، ومعنى ذلك كله: القيم بحفظ كل شئ ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى بن ميمون، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: * (الحي القيوم) * قال: القائم على كل شئ. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (القيوم) * قيم على كل شئ يكلؤه ويحفظه ويرزقه. وقال آخرون: معنى ذلك القيام على مكانه، ووجهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال، وأن الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلى مكان وحدوث التبدل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمر بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (القيوم) * القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم - يعني في قول الاحبار الذين حاجوا النبي (ص) من أهل نجران في عيسى - عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلى غيره.
[ 225 ]
وأولى التأويلين بالصواب، ما قاله مجاهد والربيع، وأن ذلك وصف من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شئ في رزقه والدفع عنه، وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته، من قول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة، يعنى بذلك: المتولي تدبير أمرها. فالقيوم إذ كان ذلك معناه الفيعول من قول القائل: الله يقول بأمر خلقه، وأصله القيووم، غير أن الواو الاولى من القيوم لما سبقتها ياء ساكنة وهي متحركة قلبت ياء، فجعلت هي والياء التي قبلها ياء مشددة، لان العرب كذلك تفعل بالواو المتحركة إذا تقدمتها ياء ساكنة. وأما القيام، فإن أصله القيوام، وهو الفيعال، من قام يقوم، سبقت الواو المتحركة من قيوام ياء ساكنة، فجعلتا جميعا ياء مشددة. ولو أن القيوم فعول، كان القووم، ولكنه الفيعول، وكذلك القيام لو كان الفعال لكان القوام، كما قيل: الصوام والقوام، وكما قال جل ثناؤه: * (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) *، ولكنه الفيعال فقيل: القيام. وأما القيم فهو الفيعل من قام يقوم، سبقت الواو المتحركة ياء ساكنة فجعلتا ياء مشددة، كما قيل: فلان سيد قومه، من ساد يسود، وهذا طعام جيد من جاد يجود، وما أشبه ذلك. وإنما جاء ذلك بهذه الالفاظ لانه قصد به قصد المبالغة في المدح، فكان القيوم والقيام والقيم أبلغ في المدح من القائم. وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته إن شاء الله القيام، لان ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من الياء والواو، فيقولون للرجل الصواغ: الصياغ، ويقولون للرجل الكثير الدوران الديار. وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: * (لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) * إنما هو دوارا فعالا من دار يدور، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز، وأقرت كذلك في المصحف. القول في تأويل قوله تعالى: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل ئ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) * يقول جل ثناؤه: يا محمد إن ربك ورب عيسى ورب كل شئ، هو الرب الذي أنزل عليك * (الكتاب) * يعني بالكتاب: القرآن. * (بالحق) * يعني بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والانجيل، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران، وسائر أهل الشرك
[ 226 ]
غيرهم. * (مصدقا لما بين يديه) * يعني بذلك القرآن، أنه مصدق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده، لان منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (مصدقا لما بين يديه) * قال: لما قبله من كتاب أو رسول. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (مصدقا لما بين يديه) * لما قبله من كتاب أو رسول. حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (نزل عليك الكتاب بالحق) * أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) * يقول: القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتب التي قد خلت قبله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) * يقول: مصدقا لما قبله من كتاب ورسول. القول في تأويل قوله جل ثناؤه: * (وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وأنزل التوراة على موسى، والانجيل على عيسى. * (من قبل) * يقول: من قبل الكتاب الذي نزله عليك. ويعني بقوله: * (هدى للناس) * بيانا للناس من الله، فيما اختلفوا فيه من توحيد الله وتصديق رسله، ومفيدا يا محمد أنك نبيي ورسولي، وفي غير ذلك من شرائع دين الله. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس) * هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيان من الله، وعصمة لمن أخذ به وصدق به وعمل بما فيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن
[ 227 ]
الزبير: * (وأنزل التوراة والانجيل) * التوراة على موسى، والانجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبلهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأنزل الفرقان) *. يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلفت فيه الاحزاب وأهل الملل في أمر عيسى وغيره. وقد بينا فيما مضى أن الفرقان إنما هو الفعلان من قولهم: فرق الله بين الحق والباطل يفصل بينهما بنصره بالحق على الباطل، إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالايدي والقوة. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن بعضهم وجه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى، وبعضهم إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع. ذكر من قال: معناه: الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والاحزاب: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وأنزل الفرقان) * أي الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلف فيه الاحزاب من أمر عيسى وغيره. ذكر من قال: معنى ذلك الفصل بين الحق والباطل في الاحكام وشرائع الاسلام: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وأنزل الفرقان) * هو القرآن أنزله على محمد وفرق به بين الحق والباطل، فأحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحد فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وأنزل الفرقان) * قال: الفرقان: القرآن فرق بين الحق والباطل والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع، وأن يكون معنى الفرقان في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد (ص) والذي حاجوه في أمر عيسى وفي غير ذلك من أموره بالحجة البالغة القاطعة عذرهم وعذر نظرائهم من أهل الكفر بالله.
[ 228 ]
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لان إخبار الله عن تنزيله القرآن قبل إخباره عن تنزيله التوراة والانجيل في هذه الآية قد مضى بقوله: * (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه) * ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداء. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبد له واتخذوا المسيح إلها وربا، أو ادعوه لله ولدا، * (لهم عذاب) * من الله * (شديد) * يوم القيامة، والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات الله. وآيات الله: أعلام الله وأدلته وحججه. وهذا القول من الله عز وجل، ينبئ عن معنى قوله: * (وأنزل الفرقان) * أنه معني به الفصل الذي هو حجة لاهل الحق على أهل الباطل لانه عقب ذلك بقوله: * (إن الذين كفروا بآيات الله) * يعني: أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بين المحق والمبطل، * (لهم عذاب شديد) * وعيد من الله لمن عاند الحق بعد وضوحه له، وخالف سبيل الهدى بعد قيام الحجة عليه. ثم أخبرهم أنه عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحد، وأنه ذو انتقام ممن جحد حججه وأدلته، بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) * أي أن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء) *
[ 229 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شئ وهو في الارض ولا شئ وهو في السماء. يقول: فيكف يخفى علي يا محمد، وأنا علام جميع الاشياء، ما يضاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم في مقالتهم التي يقولونها فيه ؟ كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء) * أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه ربا وإلها، وعندهم من علمه غير ذلك، غرة بالله وكفرا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوركم فيجعلكم صورا أشباحا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يعرف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليه أرحام النساء ممن صوره وخلقه كيف شاء، وأن عيسى ابن مريم ممن صوره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحب، وأنه لو كان إلها لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لان خلاق ما في الارحام لا تكون الارحام عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء) * قد كان عيسى ممن صور في الارحام، لا يدفعون ذلك، ولا ينكرونه، كما صور غيره من بني آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟ حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء) * أي أنه صور عيسى في الرحم كيف شاء.
[ 230 ]
وقال آخرون في ذلك، ما: حدثنا به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص) قوله: * (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء) * قال: إذا وقعت النطفة في الارحام، طارت في الجسد أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه، فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصورها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى، أشقي أو سعيد، وما رزقه، وما عمره، وما أثره، وما مصائبه ؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسد، دفن حيث أخذ ذلك التراب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء) * قادر والله ربنا أن يصور عباده في الارحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تام خلقه وغير تام. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) *. وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه أن يكون له في ربوبيته ند أو مثل أو أن تجوز الالوهة لغيره، وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله (ص)، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادعى مع الله معبودا، أو أقر بربوبية غيره. ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته وعيدا منه لمن عبد غيره أو أشرك في عبادته أحدا سواه، فقال: * (هو العزيز) * الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد، ولا ينجيه منه وأل ولا لجأ، وذلك لعزته التي يذل لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. ثم أعلمهم أنه الحكيم في تدبيره، وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: ثم قال: - يعني الرب عز وجل إنزاها لنفسه، وتوحيدا لها مما جعلوا معه -
[ 231 ]
* (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * قال: العزيز في نصرته ممن كفر به إذا شاء، والحكيم في عذره وحجته إلى عباده. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. القول في تأويل قوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * أن الله الذي لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء، * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * يعني بالكتاب: القرآن. وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن كتابا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله: * (منه آيات محكمات) * فإنه يعني من الكتاب آيات، يعني بالآيات آيات القرآن. وأما المحكمات: فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. وإنما سماهن أم الكتاب، لانهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامع معظم الشئ أما له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. ووحد أم الكتاب، ولم يجمع فيقول: هن أمهات الكتاب، وقد قال هن لانه أراد جميع الآيات المحكمات أم الكتاب، لا أن كل آية منهن أم الكتاب،
[ 232 ]
ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن أم الكتاب، لكان لا شك قد قيل: هن أمهات الكتاب. ونظير قول الله عز وجل: * (هن أم الكتاب) * على التأويل الذي قلنا في توحيد الام وهي خبر لهن قوله تعالى ذكره: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * ولم يقل آيتين، لان معناه: وجعلنا جميعهما آية، إذ كان المعنى واحدا فيما جعلا فيه للخلق عبرة. ولو كان مراده الخبر عن كل واحد منهما على انفراده، بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لانه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا، فكان في كل واحد منهما للناس آية. وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل: * (هن أم الكتاب) * ولم يقل: هن أمهات الكتاب على وجه الحكاية، كما يقول الرجل: ما لي أنصار، فتقول: أنا أنصارك، أو ما لي نظير، فتقول: نحن نظيرك. قال: وهو شبيه دعني من تمرتان، وأنشد لرجل من فقعس: تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول تعرضا لم تأل عن قتلا لي حل أي يحكي به، على الحكاية، لانه كان منصوبا قبل ذلك، كما يقول: نودي: الصلاة الصلاة، يحكي قول القائل: الصلاة الصلاة ! وقال: قال بعضهم: إنما هي أن قتلا
[ 233 ]
لي، ولكنه جعله عن لان أن في لغته تجعل موضعها عن والنصب على الامر، كأنك قلت: ضربا لزيد. وهذا قول لا معنى له، لان كل هذه الشواهد التي استشهد بها، لا شك أنهن حكايات حالتهن بما حكي عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن، وأن معلوما أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله: أم الكتاب، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. وأما قوله * (وأخر) * فإنها جمع أخرى. ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف أخر، فقال بعضهم: لم يصرف أخر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى، كما لم تصرف جمع وكتع، لانهن نعوت. وقال آخرون: إنما لم تصرف الاخر لزيادة الياء التي في واحدتها، وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف، قالوا: وإنما ترك صرف أخرى، كما ترك صرف حمراء وبيضاء في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو، ثم افترق جمع حمراء وأخرى، فبنى جمع أخرى على واحدته، فقيل: فعل أخر، فترك صرفها كما ترك صرف أخرى، وبنى جمع حمراء وبيضاء على خلاف واحدته، فصرف، فقيل حمر وبيض. فلاختلاف حالتيهما في الجمع اختلف إعرابهما عندهم في الصرف، ولاتفاق حالتيهما في الواحدة اتفقت حالتاهما فيها. وأما قوله: * (متشابهات) * فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: * (وأتوا به متشابها) * يعني في المنظر: مختلفا في المطعم، وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: * (إن البقر تشابه علينا) * يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. فتأويل الكلام إذا: إن الذي لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء، هو الذي
[ 234 ]
أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الاسلام، وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (منه آيات محكمات هم أم الكتاب وأخر متشابهات) * وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه ؟ فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن: المعمول بهن، وهن الناسخات، أو المثبتات الاحكام، والمتشابهات من آية: المتروك العمل بهن، المنسوخات. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: * (منه آيات محكمات) * قال: هي الثلاث الآيات التي ههنا: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * إلى ثلاث آيات، والتي في بني إسرائيل: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) * إلى آخر الآيات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به قال: * (وأخر متشابهات) * والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * إلى * (وأخر متشابهات) *
[ 235 ]
فالمحكمات التي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به، والمتشابهات: هن المنسوخات التي لا يدان بهن. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * إلى قوله: * (كل من عند ربنا) * أما الآيات المحكمات: فهن الناسخات التي يعمل بهن، وأما المتشابهات: فهن المنسوخات حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هم أم الكتاب) * والمحكمات: الناسخ الذي يعمل به ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه، وأما المتشابهات: فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (آيات محكمات) * قال: المحكم: ما يعمل به. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * قال: المحكمات: الناسخ الذي يعمل به، والمتشابهات: المنسوخ الذي لا يعمل به، ويؤمن به. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: * (آيات محكمات هن أم الكتاب) * قال: الناسخات، * (وأخر متشابهات) * قال: ما نسخ وترك يتلى. حدثني ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: المحكم ما لم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (آيات محكمات هن أم الكتاب) * قال: الناسخ، * (وأخر متشابهات) * قال: المنسوخ.
[ 236 ]
حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يحدث، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (منه آيات محكمات) * يعني: الناسخ الذي يعمل به، * (وأخر متشابهات) * يعني المنسوخ، يؤمن به ولا يعمل به. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة، عن الضحاك: * (منه آيات محكمات) * قال: ما لم ينسخ، * (وأخر متشابهات) * قال: ما قد نسخ. وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (منه آيات محكمات) * ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك، فهو متشابه يصدق بعضه بعضا، وهو مثل قوله: * (وما يضل به إلا الفاسقين) *، ومثل قوله: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) *،، ومثل قوله: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. مثله. وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن جعفر بن الزبير: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) * فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه. وأخر متشابهة في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
[ 237 ]
وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الامم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته. والمتشابه: هو ما اشتهبت الالفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور فقصة باتفاق الالفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الالفاظ واتفاق المعاني. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وقرأ: * (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) * قال: وذكر حديث رسول الله (ص) في أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: * (تلك من أنباء الغيب) * ثم ذكر: * (وإلى عاد) * فقرأ حتى بلغ: * (واستغفروا ربكم) * ثم مضى ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، وفرغ من ذلك. وهذا يقين، ذلك يقين أحكمت آياته ثم فصلت. قال: والمتشابه ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد ومتشابه: * (اسلك فيها) * * (احمل فيها) * * (اسلك يدك) * * (أدخل يدك) * * (حية تسعى) * * (ثعبان مبين) *. قال: ثم ذكر هودا في عشر آيات منها، وصالحا في ثماني آيات منها وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطا في ثماني آيات منها، وشعيبا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كل هذا يقضي بين الانبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود، ثم قال: * (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) *. وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة، يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لاحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد. وقالوا: إنما سمى الله من آي
[ 238 ]
الكتاب المتشابه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو الم، والمص، والمر، والر، وما أشبه ذلك، لانهن متشابهات في الالفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله (ص) طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الاسلام وأهله، ويعلموا نهاية أجل محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله. وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رباب أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في تفسير قوله: * (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) *. وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله (ص)، فإنما أنزله عليه بيانا له ولامته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: * (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) * فأعلم النبي (ص) أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والايام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسول (ص) مفسرا. والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا، وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد (ص) وأمته من قبل قوله: الم، والمص، والر، والمر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
[ 239 ]
فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لانه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغني بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكما، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله (ص) لامته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الامة لما قد بينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (هن أم الكتاب) *. قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلنا فيه، ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه. وذلك أنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى قوله: * (هن أم الكتاب) * هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والاحكام، نحو قيلنا الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية: * (محكمات هن أم الكتاب) * قال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين، وضرب لذلك مثلا فقال: أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأم المسافرين الذين يجعلون إليه أمرهم، ويعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (هن أم الكتاب) * قال: هن جماع الكتاب. وقال آخرون: بل معني بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية: * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * قال: أم الكتاب: فواتح السور، منها يستخرج القرآن، * (الم ذلك الكتاب) * منها استخرجت البقرة، و * (الم الله لا إله إلا هو) * منها استخرجت آل عمران.
[ 240 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) *. يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق، وانحراف عنه. يقال منه: زاغ فلان عن الحق، فهو يزيغ عنه زيغا وزيغانا وزيغوغة وزيوغا، وأزاغه الله: إذا أماله، فهو يزيغه، ومنه قوله جل ثناؤه: * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * لا تملها عن الحق * (بعد إذ هديتنا) *. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * أي ميل عن الهدى. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (في قلوبهم زيغ) * قال: شك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * قال: من أهل الشك. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * أما الزيغ: فالشك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: * (زيغ) *: شك. قال ابن جريج * (الذين في قلوبهم زيغ) * المنافقون. القول في تأويل قوله تعالى: * (فيتبعون ما تشابه منه) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فيتبعون ما تشابه منه) * ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا بادعائهم الاباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من
[ 241 ]
الضلالة والزيغ عن محجة الحق تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (فيتبعون ما تشابه منه) * فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس الله عليهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فيتبعون ما تشابه منه) * أي ما تحرف منه وتصرف، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: * (فيتبعون ما تشابه منه) * قال: الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله. وقال آخرون في ذلك بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (فيتبعون ما تشابه منه) * يتبعون المنسوخ والناسخ، فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجاز هذه الآية، فتركت الاولى وعمل بهذه الاخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجئ الاولى التي نسخت. وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعد به النار وفي مكان آخر من عمله فإنه لم يوجب النار. واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله (ص)، فحاجوه بما حاجوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله (ص) من نصارى نجران - فخاصموا النبي (ص)، قالوا: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال: بلى، قالوا:
[ 242 ]
فحسبنا ! فأنزل الله عز وجل: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) *. ثم إن الله جل ثناؤه أنزل: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) *... الآية. وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حيي بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله (ص) في قدر مدة أجله وأجل أمته، وأرادوا علم ذلك من قبل قوله: الم، والمص، والمر، والر فقال الله جل ثناؤه فيهم: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق، * (فيتبعون ما تشابه منه) * يعني معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة. وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها البقرة. وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا (ص) بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك، إما في كتابه وإما على لسان رسوله. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) *. وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم. ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله (ص) بيعة الرضوان من المهاجرين والانصار، خبر لمن استخبر، وعبرة لمن استعبر، لمن كان يعقل أو يبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله (ص) يومئذ كثير بالمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء، والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط، ولا رضوا الذي هم عليه ولا مالؤهم فيه، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله (ص) إياه ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرق، وكذلك الامر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا، فقد ألاصوا هذا الامر
[ 243 ]
منذ زمان طويل، فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه، فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرق دماءهم، وإن كتموا كان قرحا في قلوبهم وغما عليهم، وإن أظهروه أهراق الله دماءهم، ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه. والله إن اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل، وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذين شهدوا بيعة الرضوان. وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه. حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله (ص): * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * إلى قوله: * (وما يذكر إلا أولوا الالباب) * فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم. حدثنا ابن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبي الله (ص) هذه الآية: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) * إلى: * (وما يذكر إلا أولوا الالباب) *. قالت: فقال رسول الله (ص): فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه أو قال: يتجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم) * قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنى الله فاحذروهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي (ص)، بنحو معناه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي (ص)، نحوه.
[ 244 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي (ص) قالت: قرأ رسول الله (ص) هذه الآية: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) *... الآية كلها، فقال رسول الله (ص): إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله: فلا تجالسوهم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة، قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة، قالت: تلا النبي (ص) هذه الآية: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم. حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول الله (ص): * (يتبعون ما تشابه منه) * فقال رسول الله (ص): قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. حدثنا علي، قال: ثنا الوليد، عن نافع، عن عمر، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (ص): إذا رأيتموهم فاحذروهم !، ثم نزع: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) * ولا يعملون بمحكمه. حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله (ص) سئل عن هذه الآية: * (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن
[ 245 ]
ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب) *... الآية. يتبعها: يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذن يجادلون فيه فاحذروهم فهم الذين عنى الله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي (ص) في هذه الآية: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب) * إلى آخر الآية، قال: هم الذين سماهم الله، فإذا رأيتموهم فاحذروهم. قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله (ص) بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله إما في أمر عيسى، وإما في مدة أجله وأجل أمته، وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله (ص) بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه، لان قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمر عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا (ص) وأمته وبينه لهم، فمعلوم أنه لم يعن إلا ما كان خفيا عن الآحاد. القول في تأويل قوله تعالى: * (ابتغاء الفتنة) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ابتغاء الفتنة) * قال: إرادة الشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (ابتغاء الفتنة) * يعني الشرك. وقال آخرون: معنى ذلك ابتغاء الشبهات. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ابتغاء الفتنة) * قال: الشبهات بها أهلكوا.
[ 246 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (ابتغاء الفتنة) * الشبهات، قال: هلكوا به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (ابتغاء الفتنة) * قال: الشبهات، قال: والشبهات ما أهلكوا به. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ابتغاء الفتنة) * أي اللبس. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس. فمعنى الكلام إذا: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه، فيتعبون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرفه في وجوه التأويلات، باحتماله المعاني المختلفة إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه. وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعة، فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان، وأي أصناف البدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال (ص): فإذا رأيتم الذين يجادلون به فهم الذين عنى الله فاحذروهم. وكما: حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: وذكر عنده الخوارج، وما يلقون عند الفرار، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه. وقرأ ابن عباس: * (وما يعلم تأويله إلا الله) *... الآية. وإنما قلنا: القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله: * (ابتغاء الفتنة) * لان الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهل شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله اللبس على المسلمين والاحتجاج به عليهم ليصدوهم عما هم عليه من الحق، فلا معنى لان يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك، وهم قد كانوا مشركين.
[ 247 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وابتغاء تأويله) *. اختلف أهل التأويل في معنى التأويل الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: * (وابتغاء تأويله) * فقال بعضهم معنى ذلك: الاجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد (ص) وأمر أمته من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل كالم، والمص، والر، والمر وما أشبه ذلك من الآجال. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: أما قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * يعني تأويله يوم القيامة إلا الله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. وقالوا: إنما أرادوا أن يعلموا متى يجئ ناسخ الاحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لاهل الاسلام قبل مجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وابتغاء تأويله) * أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن، وهو عواقبه، قال الله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * وتأويله: عواقبه، متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ. وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن يتأولونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وابتغاء تأويله) * وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم، خلقنا وقضينا. والقول الذي قاله ابن عباس من أن ابتغاء التأويل الذي طلبه القوم من المتشابه هو معرفة انقضاء المدة، ووقت قيام الساعة، والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هو جاء قبل مجيئه أولى بالصواب، وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلى حصره على أن معناه: إن القوم طلبوا معرفة وقت مجئ الناسخ لما قد أحكم قبل ذلك.
[ 248 ]
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم بمتشابه آي القرآن، أولى بتأويل قوله: * (وابتغاء تأويله) * لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، ولا شك أن معنى قوله: قضينا وفعلنا، قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الايمان وأهل الرسوخ في العلم منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقت قيام الساعة وانقضاء مدة أجل محمد وأمته وما هو كائن، إلا الله، دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم، فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، لا يعلمون ذلك، ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل الراسخون معطوف على اسم الله، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أو هم مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه، وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه. وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قوله: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان ابن عباس يقول: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * يقول الراسخون: آمنا به. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، قال:
[ 249 ]
قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: * (آمنا به كل من عند ربنا) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الاسدي قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * فيقول: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا. حدثنا المثنى، قال: ثنا ابن دكين، قال: ثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: * (الراسخون في العلم) * انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: * (آمنا به كل من عند ربنا) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * قال: ثم ابتدأ فقال: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * وليس يعلمون تأويله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم * (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) *. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من يعلم تأويله حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والراسخون في العلم) * يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (والراسخون في العلم) * يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (والراسخون في العلم) * يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن
[ 250 ]
الزبير: * (وما يعلم تأويله) * الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. ثم ردوا تأويل المتشابهة على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لاحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضا، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر. فمن قال القول الاول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع الراسخين في العلم بالابتداء في قول البصريين، ويجعل خبره يقولون آمنا به. وأما في قول بعض الكوفيين فبالعائد من ذكرهم في يقولون، وفي قول بعضهم بجملة الخبر عنهم، وهي يقولون. ومن قال القول الثاني، وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله عطف بالراسخين على اسم الله فرفعهم بالعطف عليه. والصواب عندنا في ذلك، أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو يقولون، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي: ويقول الراسخون في العلم كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرؤه، وفي قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون. وأما معنى التأويل في كلام العرب: فإنه التفسير والمرجع والمصير، وقد أنشد بعض الرواة بيت الاعشى: على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
[ 251 ]
وأصله من آل الشئ إلى كذا، إذا صار إليه ورجع يؤول أولا وأولته أنا: صيرته إليه. وقد قيل إن قوله: * (وأحسن تأويلا) * أي جزاء، وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه. ويعني بقوله: تأول حبها: تفسير حبها ومرجعه، وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه، فآل من الصغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه. وقد ينشد هذا البيت: على أنها كانت توابع حبهاتوالى ربعي السقاب فأصحبا القول في تأويل قوله تعالى: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) *. يعني بالراسخين في العلم: العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس، وأصل ذلك من رسوخ الشئ في الشئ، وهو ثبوته وولوجه فيه، يقال منه: رسخ الايمان في قلب فلان فهو يرسخ رسخا ورسوخا. وقد روي في نعتهم خبر عن النبي (ص)، وهو ما: حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: ثنا محمد بن عبد الله، قال: ثنا فياض بن محمد الرقي، قال: ثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة، قالا: سئل رسول الله (ص) من الراسخ في العلم ؟ قال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في العلم. حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي، قالا: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا فياض الرقي، قال:
[ 252 ]
ثنا عبد الله بن يزيد الاودي - قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله (ص) - قال: حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله (ص) سئل عن الراسخين في العلم، فقال: من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم. وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم الراسخين في العلم بقولهم: * (آمنا به كل من عند ربنا) *. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: * (الراسخون في العلم يقولون آمنا به) * قال: الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والراسخون في العلم) * هم المؤمنون، فإنهم * (يقولون آمنا به) * بناسخه ومنسوخه * (كل من عند ربنا) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: قال عبد الله بن سلام: * (الراسخون في العلم) * وعلمهم قولهم. قال ابن جريج: * (الراسخون في العلم يقولون آمنا به) * وهم الذين يقولون: * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * ويقولون: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) *... الآية. وأما تأويل قوله: * (يقولون آمنا به) * فإنه يعني: أن الراسخين في العلم يقولون صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حق، وإن لم نعلم تأويله. وقد: حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) * قال: المحكم والمتشابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (كل من عند ربنا) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (كل من عند ربنا) * كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه من عند ربنا، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد (ص). كما:
[ 253 ]
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: * (كل من عند ربنا) * قال: يعني ما نسخ منه، وما لم ينسخ. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) * قالوا: * (كل من عند ربنا) * آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (كل من عند ربنا) * يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) * يؤمن بالمحكم ويدين به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به، وهو من عند الله كله. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: * (والراسخون في العلم) * يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا. واختلف أهل العربية في حكم كل إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين: إذا جاز حذف المراد الذي كان معها الذي الكل إليه مضاف في هذا الموضع لانها اسم، كما قال: * (إنا كل فيها) * بمعنى: إنا كلنا فيها، قال: ولا يكون كل مضمرا فيها وهي صفة، لا يقال: مررت بالقوم كل، وإنما يكون فيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فيها على الصفة، لم يجز، لان الاضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان. وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الاضمار فيها وهي صفة أو اسم سواء، لانه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى، وقال: سبيل الكل والبعض في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه، بمعنى واحد في كل حال، صفة كانت أو اسما، وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لانها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حال لدلالتها عليه، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها، فهي كافية منه.
[ 254 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وما يذكر إلا أولوا الالباب) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به إلا أولو العقول والنهى. وقد: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وما يذكر إلا أولوا الالباب) * يقول: وما يذكر في مثل هذا، يعني في رد تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم حتى يتسقا على معنى واحد، إلا أولو الالباب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) * يعني بذلك جل ثناؤه: أن الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه، ويقولون أيضا: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * يعني أنهم يقولون رغبة منهم إلى ربهم، في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه غير الله، يا ربنا لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك، * (لا تزغ قلوبنا) * لا تملها فتصرفها عن هداك * (بعد إذ هديتنا) * له، فوفقتنا للايمان بمحكم كتابك ومتشابهه، * (وهب لنا) * يا ربنا * (من لدنك رحمة) * يعني من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقا وثباتا للذي نحن عليه، من الاقرار بمحكم كتابك ومتشابهه، * (إنك أنت الوهاب) * يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد، للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * أي لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأجسادنا، * (وهب لنا من لدنك رحمة) *. وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبات على ما هم عليه من حسن البصيرة بالحق
[ 255 ]
الذي هم عليه مقيمون، ما أبان عن خطأ قول الجهلة من القدرية، أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته، وإمالته له عنها جور، لان ذلك لو كان كما قالوا لكان الذين قالوا: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * بالذم أولى منهم بالمدح، لان القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربهم مسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم، أن لا يظلمهم ولا يجور عليهم، وذلك من السائل جهل، لان الله جل ثناؤه لا يظلم عباده ولا يجور عليهم، وقد أعلم عباده ذلك، ونفاه عن نفسه بقوله: * (وما ربك بظلام للعبيد) * ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها، وفي فساد ما قالوا من ذلك الدليل الواضح، على أن عدلا من الله عز وجل إزاغة من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحق المدح من رغب إليه في أن لا يزيغه لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) برغبته إلى ربه في ذلك مع محله منه، وكرامته عليه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله (ص) قال: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ثم قرأ: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) *... إلى آخر الآية. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله (ص)، بنحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري، قال: ثنا شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة تحدث أن رسول الله (ص) كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ! قال: قلت يا رسول الله، وإن القلب ليقلب ؟ قال: نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. قالت: قلت يا رسول الله، ألا
[ 256 ]
تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن. حدثني محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا محمد بن عبد الله الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كان رسول الله (ص) يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ! فقال له بعض أهله: يخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به ؟ قال: إن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى يقول به هكذا، وحرك أبو أحمد أصبعيه. قال أبو جعفر: وإن الطوسي وسق بين أصبعيه. حدثني سعيد بن يحيى الاموي، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الاعمش عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان رسول الله (ص) كثيرا ما يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ! قلنا: يا رسول الله قد آمنا بك، وصدقنا بما جئت به، فيخاف علينا ؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك وتعالى. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا بشر بن بكر، وحدثني علي بن سهل، قال: ثنا أيوب بن بشر جميعا، عن ابن جابر، قال: سمعت بشر بن عبيد الله، قال: سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه وكان رسول الله (ص) يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة. حدثني عمر بن عبد الملك الطائي، قال: ثنا محمد بن عبيدة، قال: ثنا الجراح بن مليح البهراني، عن الزبيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فاتك الاسدي - وكان من أصحاب رسول الله (ص) - عن النبي (ص) أنه قال: الموازين بيد الله يرفع أقواما ويضع
[ 257 ]
أقواما، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الر حمن، إن شاء أزاغه وإن شاء أقامه. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: أخبرني أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله (ص): اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك. حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا عبد الحميد بن بهرام، قال: ثنا شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله (ص) كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت يا رسول الله، وإن القلوب لتقلب ؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) * يعني بذلك جل ثناؤه: أنهم يقولون أيضا مع قولهم آمنا بما تشابه من آي كتاب ربنا كل المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا يا ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. وهذا من الكلام الذي استغني بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة فاغفر لنا يومئذ، واعف عنا، فإنك لا تخلف وعدك، أن من آمن بك، واتبع رسولك، وعمل بالذي أمرته به في كتابك أنك غافره يومئذ. وإنما هذا من القوم مسألة ربهم أن يثبتهم على ما هم عليه من حسن بصرتهم بالايمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم وجبت لهم الجنة، لانه قد وعد من فعل ذلك به
[ 258 ]
من عباده أنه يدخله الجنة، فالآية وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلها من القوم مسألة ودعاء ورغبة إلى ربهم. وأما معنى قوله: * (ليوم لا ريب فيه) * فإنه لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالادلة على صحته فيما مضى قبل. ومعنى قوله: * (ليوم) * في يوم، وذلك يوم يجمع الله فيه خلقه لفصل القضاء بينهم في موقف العرض والحساب، والميعاد: المفعال من الوعد. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (إن الذين كفروا) * إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوة محمد (ص) من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم، ومنافقي العرب وكفارهم الذين في قلوبهم زيغ، فهم يتبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * يعني بذلك: أن أموالهم وأولادهم لن تنجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تثبيتهم، واتباعهم المتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئا. * (وهم في الآخرة وقود النار) * يعني بذلك حطبها. القول في تأويل قوله تعالى: * (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) * يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول عقوبتنا بهم، كسنة آل فرعون وعادتهم، والذين من قبلهم من الامم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا حين جاءهم بأسنا كالذي عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربهم من قبل آل فرعون من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
[ 259 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (كدأب آل فرعون) * فقال بعضهم: معناه: كسنتهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن الحجاج، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (كدأب آل فرعون) * يقول: كسنتهم. وقال بعضهم: معناه: كعملهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان جميعا، عن جويبر، عن الضحاك: * (كدأب آل فرعون) * قال: كعمل آل فرعون. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا جويبر. عن الضخاك في قوله: * (كدأب آل فرعون) * قال: كعمل آل فرعون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (كدأب آل فرعون) * قال: كفعلهم كتكذيبهم حين كذبوا الرسل. وقرأ قول الله: * (مثل دأب قوم نوح) * أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأب: العمل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: * (كدأب آل فرعون) * قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: * (كدأب آل فرعون) * قال: كصنع آل فرعون. وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم) * ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب. وأصل الدأب من دأبت في الامر دأبا: إذا أدمنت العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى الشأن والامر والعادة، كما قال امرؤ القيس بن حجر:
[ 260 ]
وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل يعني بقوله كدأبك: كشأنك وأمرك وفعلك، يقال منه: هذا دأبي ودأبك أبدا، يعني به: فعلي وفعلك وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه: دأبت دووبا ودأبا. وحكي عن العرب سماعا: دأبت دأبا مثقلة محركة الهمزة، كما قيل هذا شعر وبهر، فتحرك ثانيه لانه حرف من الحروف الستة، فألحق الدأب إذ كان ثانيه من الحروف الستة، كما قال الشاعر: له نعل لا يطبي الكلب ريحها وإن وضعت بين المجالس شمت وأما قوله: * (والله شديد العقاب) * فإنه يعني به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذب رسله بعد قيام الحجة عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ئ اختلفت القراء في ذلك فقرأه بعضهم: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون) * بالتاء على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: * (قد كان لكم آية في فئتين) * قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله: * (ستغلبون) * كذلك خطاب لهم. وذلك هو قراءة عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية أن الموعودين بأن يغلبوا هم الذين أمر النبي (ص) بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بالياء والتاء، لان الخطاب بالوحي حين نزل لغيرهم، فيكون نظير
[ 261 ]
قول القائل في الكلام: قلت للقوم إنكم مغلوبون، وقلت لهم إنهم مغلوبون. وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم وهي في قراءتنا: * (إن ينتهوا يغفر لهم) *. وقرأت ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: سيغلبون ويحشرون على معنى: قل لليهود سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل لم يجز في قراءته غير الياء. والذي نختار من القراءة في ذلك قراءة من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك على قراءته بالياء لدلالة قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين) * على أنهم بقوله ستغلبون مخاطبون خطابهم بقوله: قد كان لكم، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب. وأخرى أن: أبا كريب حدثنا، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصاب رسول الله (ص) قريشا يوم بدر فقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا ! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * إلى قوله: * (لاولي الابصار) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما أصاب الله قريشا يوم بدر، جمع رسول الله (ص) يهود في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة، ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن يونس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله (ص) جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك
[ 262 ]
في كتابكم، وعهد الله إليكم ! فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس ! حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * إلى: * (لاولي الابصار) * حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * قال فنحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرن محمدا أن غلب قريشا وقتلهم، إن قريشا لا تحسن القتال ! فنزلت هذه الآية: * (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) *. قال أبو جعفر: فكل هذه الاخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله: * (ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * هم اليهود المقول لهم: * (قد كان لكم آية في فئتين) *... الآية، وتدل على أن قراءة ذلك بالتاء أولى من قراءته بالياء. ومعنى قوله: * (وتحشرون) * وتجمعون فتجلبون إلى جهنم. وأما قوله: * (وبئس المهاد) * وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. وكان مجاهد يقول كالذي: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: * (وبئس المهاد) * قال: بئسما مهدوا لانفسهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) * يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك: قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون وعبرة، كما:
[ 263 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (قد كان لكم آية) * عبرة وتفكر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله، إلا أنه قال: ومتفكر * (في فئتين) * يعني في فرقتين وحزبين. والفئة: الجماعة من الناس التقتا للحرب، وإحدى الفئتين رسول الله (ص) ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والاخرى مشركو قريش، فئة تقاتل في سبيل الله، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، وهم رسول الله (ص) وأصحابه، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: * (قد كان لكم آية في فئتين التقيا فئة تقاتل في سبيل الله) * أصحاب رسول الله (ص) ببدر، * (وأخرى كافرة) * فئة قريش الكفار. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، مثله حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: * (قد كان لكم آية في فئتين التقيا فئة تقاتل في سبيل الله) * محمد (ص) وأصحابه، * (وأخرى كافرة) *: قريش يوم بدر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين) * قال: في محمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين التقيا فئة تقاتل في سبيل الله) * قال ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار.
[ 264 ]
ورفعت * (فئة تقاتل في سبيل الله) * وقد قيل قبل ذلك في فئتين، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله على الابتداء، كما قال الشاعر: فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت وكما قال ابن مفرغ: فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل بها ريب من الحدثان فأما التي صحت فأزدشنوءة وأما التي شلت فأزد عمان وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الاول مرة وتستأنفه ثانية بالرفع، وتنصبه في التام من الفعل والناقص، وقد جر ذلك كله، فخفض على الرد على أول الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلين كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله: فئة، جائز على الرد على قوله: في فئتين التقتا، في فئة تقاتل في سبيل الله. وهذا وإن كان جائزا في العربية، فلا أستجيز القراءة به لاجماع الحجة من القراء على خلافه، ولو كان قوله: فئة جاء نصبا كان جائزا أيضا على قوله: قد كان لكم آية في فئتين التقتا مختلفتين. القول في تأويل قوله تعالى: * (يرونهم مثليهم رأي العين) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته قراء أهل المدينة: ترونهم بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، والاخرى كافرة، ترون
[ 265 ]
المشركين مثلي المسلمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم. يقول: إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين: * (يرونهم مثليهم) * بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكر في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم. فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟ قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: الفئة التي رأت الاخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قللها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، ثم قللها في حال أخرى، فرأتها مثل عدد أنفسها. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين) * قال: هذا يوم بدر، قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا، وذلك قول الله عز وجل: * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم) *. فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة، والاخرى كافرة، كثير عدد الكافرة، قليل عدد المسلمة، ترى الفئة القليل عددها، الكثير عددها أمثالا لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد، فهم يرونهم مثليهم، فيكون أحد المثلين عند ذلك، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر: الضعف الزائد على عددهم، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم، والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود، وهو أن
[ 266 ]
أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) *. وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم، لم يقللوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرة، يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) *. أنزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان المشركون مثليهم، فأنزل الله عز وجل: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين) * وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة، فأيد الله المؤمنين، فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين. وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الاخبار عن عدة المشركين يوم بدر، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين، فقال بعضهم: كان عددهم ألفا، وقال بعضهم: ما بين التسعمائة إلى الالف. ذكر من قال كان عددهم ألفا: حدثني هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: سار رسول الله (ص) إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط، فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة، فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير شديد بأسهم. فجعل المسلمون إذا قال ذلك صدقوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله (ص)، فقال له: كم القوم ؟ فقال: هم والله كثير شديد بأسهم. فجهد النبي (ص) على أن يخبرهم كم هم، فأبى. ثم إن رسول الله (ص) سأله: كم تنحرون من الجزر ؟ قال: عشرة كل يوم. قال رسول الله (ص): القوم ألف. حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن
[ 267 ]
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبد الله، قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين يوم بدر - فقلنا: كم كنتم ؟ قال: ألفا. ذكر من قال: كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الالف: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: ثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي (ص) نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية من قريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص، فأتوا بهما رسول الله (ص)، فقال رسول الله (ص) لهما: كم القوم ؟ قالا: كثير. قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري. قال: كم تنحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال رسول الله (ص): القوم ما بين التسعمائة إلى الالف. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين) * ذلكم يوم بدر ألف المشركون، أو قاربوا، وكان أصحاب رسول الله (ص) ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة) * إلى قوله: * (رأي العين) * قال: يضعفون عليهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين) * قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمائة وخمسين، وكان أصحاب محمد (ص) ثلاثمائة وثلاثة عشر. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، كان أصحاب رسول الله (ص) ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الالف. فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين
[ 268 ]
يوم بدر. فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة، فالتأويل الاول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود أولى بتأويل الآية. وقال آخرون: كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد، وقالوا: أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله: * (يرونهم مثليهم) * المخاطبين بقوله: * (قد كان لكم آية في فئتين) * قالوا: وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لانه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه (ص) أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى، كما قال: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) * وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل: * (يرونهم مثليهم رأي العين) * وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: احتاج إلى مثله، أنا محتاج إليه وإلى مثله، ثم يقول: أحتاج إلى مثليه، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل، وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو محتاج إلى ثلاثة، فلما نوى أن يكون الالف داخلا في معنى المثل، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة، قال: ومثله في الكلام: أراكم مثلكم، كما يقال: إن لكم ضعفكم، وأراكم مثليكم، يعني أراكم ضعفيكم، قالوا: فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل، لان الله جل ثناؤه قال في كتابه: * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم) * فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الاخرى. وقرأ آخرون ذلك: ترونهم بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم. (وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ: * (يرونهم) * بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم، يعني: مثلي عدد المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم
[ 269 ]
في حال، فكان حزرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الاول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، ثم تقليلا ثالثا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين. كما: حدثني أبو سعيد البغدادي، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم، فقلنا كم كنتم ؟ قال: ألفا. وقد روي عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت ترونهم، لكانت مثليكم. حدثني المثنى، قال: ثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المعرك، عن معمر، عن قتادة بذلك. ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذ عدد المشركين في الاوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهود على ما كان به عندهم، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم. وأما قوله: * (رأي العين) * فإنه مصدر رأيته، يقال: رأيته رأيا ورؤية، ورأيت في المنام رؤيا حسنة غير مجراة، يقال: هو مني رأي العين ورأي العين بالنصب والرفع، يراد حيث يقع عليه بصري، وهو من الرائي مثله، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم، وتراهم عيونهم مثليهم القول في تأويل قوله تعالى: * (والله يوءيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (والله يوءيد) *: يقوي بنصره من يشاء، من قول القائل:
[ 270 ]
قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته، فأنا أؤيده تأييدا، وفعلت منه: إدته فأنا أئيده أيدا، ومنه قول الله عز وجل: * (واذكر عبدنا داود ذا الايد) * يعني ذا القوة. وتأويل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا: إحداهما تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر، والله يقوي بنصره من يشاء. وقال جل ثناؤه: إن في ذلك: يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها * (لعبرة) * يعني لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادكر فأبصر الحق. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار) * يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) * يعني تعالى ذكره: (زين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عد. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحب الرياسة فيها على اتباع محمد (ص) بعد علمهم بصدقه. وكان الحسن يقول: من زينها ما أحد أشد لها ذما من خالقها.) حدثني بذلك أحمد بن حازم: قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو الاشعث، عنه.
[ 271 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد، قال: قال عمر: لما نزل: * (زين للناس حب الشهوات) * قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا ! فنزلت: * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار) *... الآية. وأما القناطير: فإنها جمع القنطار. واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار، فقال بعضهم: هو ألف ومائتا أوقية. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقية. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا، يعني حفص بن ميسرة، عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقية. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا قاسم بن مالك المزني، قال: أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقية. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مثله. حدثني زكريا بن يحيى الصديق، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله (ص): القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية. وقال آخرون: القنطار: ألف دينار ومائتا دينار. ذكر من قال ذلك:
[ 272 ]
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا يونس عن الحسن، قال: قال رسول الله (ص): القنطار ألف ومائتا دينار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا يونس، عن الحسن، قال: القنطار: ألف ومائتا دينار. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: القناطير المقنطرة، يعني: المال الكثير من الذهب والفضة، والقنطار: ألف ومائتا دينار، ومن الفضة: ألف ومائتا مثقال. وقال آخرون: القنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: القنطار: اثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: القنطار: ألف دينار، ومن الورق: اثنا عشر ألف درهم. حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار: اثنا عشر ألفا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عوف، عن الحسن: اثنا عشر ألفا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، قال: القنطار: ألف دينار، دية أحدكم.
[ 273 ]
وقال آخرون: هو ثمانون ألفا من الدراهم، أو مائة رطل من الذهب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: القنطار، ثمانون ألفا. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: القنطار: ثمانون ألفا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفا من الورق. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: القنطار: مائة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من ورق. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: القنطار: مائة رطل. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: القنطار يكون مائة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال. وقال آخرون: القنطار سبعون ألفا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (القناطير المقنطرة) * قال: القنطار: سبعون ألف دينار. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن حوشب، قال: سمعت عطاء الخراساني، قال: سئل ابن عمر عن القنطار، فقال: سبعون ألفا. وقال آخرون: هي ملء مسك ثور ذهبا. ذكر من قال ذلك:
[ 274 ]
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، قال: ملء مسك ثور ذهبا. حدثني أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو الاشعث، عن أبي نضرة: ملء مسك ثور ذهبا. وقال آخرون: هو المال الكثير. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: * (القناطير المقنطرة) *: المال الكثير بعضه على بعض. وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول: هو قدر ووزن. وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لان ذلك لو كان محدودا قدره عندها لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف. فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس ولا يحد قدر وزنه بحد على تعنف، وقد قيل ما قيل مما روينا. وأما المقنطرة: فهي المضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة، وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثير بعضه على بعض. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: والمقنطرة المال الكثير بعضه على بعض. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (القناطير المقنطرة) *: يعني المال الكثير من الذهب والفضة. وقال آخرون: معنى المقنطرة: المضروبة دراهم أو دنانير. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: * (المقنطرة) * فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم. وقد روي عن النبي (ص) في قوله: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * خبر لو صح سنده لم نعده إلى غيره، وذلك ما:
[ 275 ]
حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي، قال: ثني عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا زهير بن محمد، قال: ثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله (ص): * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * قال: ألفا مئين. يعني ألفين. القول في تأويل قوله تعالى: * (والخيل المسومة) *. اختلف أهل التأويل في معنى المسومة، فقال بعضهم: هي الراعية. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: الخيل المسومة، قال: الراعية التي ترعى. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني السائمة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة القناد، قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (والخيل المسومة) * قال: الراعية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: * (والخيل المسومة) * المسرحة في الرعي. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (والخيل المسومة) * قال: الخيل الراعية.
[ 276 ]
حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد أنه كان يقول: الخيل الراعية. وقال آخرون: المسومة: الحسان. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، قال: قال مجاهد: المسومة: المطهمة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله: * (والخيل المسومة) * قال: المطهمة الحسان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (والخيل المسومة) * قال: المطهمة حسنا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيج، عن مجاهد، مثله حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقري، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني، قال: سألت عكرمة عن الخيل المسومة، قال: تسويمها: حسنها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني، قال: سمعت عكرمة يقول: * (الخيل المسومة) * قال: تسويمها: الحسن. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والخيل المسومة والانعام) * الرائعة. وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غير موسى، قال: الراعية. وقال آخرون: * (الخيل المسومة) * المعلمة. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: * (والخيل المسومة) * يعني: المعلمة.
[ 277 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والخيل المسومة) * وسيماها شيتها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (والخيل المسومة) * قال: شية الخيل في وجوهها. وقال غيرهم: المسومة: المعدة للجهاد. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد * (والخيل المسومة) * قال: المعدة للجهاد. قال أبو جعفر: أولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل قوله: * (والخيل المسومة) * المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنا من رآها، لان التسويم في كلام العرب: هو الاعلام، فالخيل الحسان معلمة بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها، وهي المطهمة أيضا، ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل: بسمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن يعني بالمسومات: المعلمات، وقول لبيد: وغداة قاع القرنتين أتينهم زجلا يلوح خلالها التسويم
[ 278 ]
فمعنى تأويل من تأول ذلك: المطهمة، والمعلمة، والرائعة واحد. وأما قول من تأوله بمعنى الراعية فإنه ذهب إلى قول القائل: أسمت الماشية فأنا أسيمها إسامة: إذا رعيتها الكلا والعشب، كما قال الله عز وجل: * (ومنه شجر فيه تسيمون) * بمعنى ترعون، ومنه قول الاخطل: مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الاجمال يعني بذلك راعية الاجمال، فإذا أريد أن الماشية هي التي رعت، قيل: سامت الماشية تسوم سوما، ولذلك قيل: إبل سائمة، بمعنى راعية، غير أنه مستفيض في كلامهم سومت الماشية، بمعنى أرعيتها، وإنما يقال إذا أريد ذلك: أسمتها. فإذا كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل المسومة إلى أنها المعلمة بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها أصح. وأما الذي قاله ابن زيد من أنها المعدة في سبيل الله، فتأويل من معنى المسومة بمعزل. القول في تأويل قوله تعالى: * (والانعام والحرث) *. (فالانعام جمع نعم: وهي الازواج الثمانية التي ذكرها في كتابه من الضأن والمعز والبقر والابل. وأما الحرث: فهو الزرع. وتأويل الكلام زين للناس حب الشهوات من النساء ومن البنين، ومن كذا ومن كذا، ومن الانعام والحرث.) القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) *. يعني بقوله جل ثناؤه: ذلك جميع ما ذكر في هذه الآية من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والانعام والحرث، فكنى بقوله ذلك عن جميعهن، وهذا يدل على أن ذلك يشتمل على الاشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك. وأما قوله: * (متاع الحياة الدنيا) * فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله
[ 279 ]
مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء، فيتبلغون به فيها، ويجعلونه وصلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم، التي زين لهم حبها، في عاجل دنياهم، دون أن يكون عدة لمعادهم، وقربة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلك في سبيله، وأنفق منه فيما أمر به. وأما قوله: * (والله عنده حسن المآب) * فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حسن المآب، يعني حسن المرجع. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (والله عنده حسن المآب) * يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة. وهو مصدر على مثال مفعل، من قول القائل: آب الرجل إلينا: إذا رجع، فهو يؤوب إيابا وأوبة وأيبة ومآبا، غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من الواو إلى الالف بحركتها إلى الفتح، فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها وهو فاء الفعل انقلبت فصارت ألفا، كما قيل: قال: فصارت عين الفعل ألفا، لان حظها الفتح والمآب، مثل المقال والمعاد والمحال، كل ذلك مفعل، منقولة حركة عينه إلى فائه، فتصير وواه أو ياؤه ألفا لفتحة ما قبلها. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (والله عنده حسن المآب) * وقد علمت ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟ قيل: إن ذلك معني به خاص من الناس، ومعنى ذلك: والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم، وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها. فإن قال: وما حسن المآب ؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الانهار مخلدا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) * يعني جل ثناؤه: قل يا محمد للناس الذين زين لهم حب الشهوات، من النساء والبنين، وسائر ما ذكر جل ثناؤه: * (أؤنبئكم) * أأخبركم وأعلمكم * (بخير من ذلكم) * يعني بخير وأفضل لكم. * (من ذلكم) * يعني مما زين لكم في الدنيا حب شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الاموال التي هي متاع الدنيا.
[ 280 ]
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام، فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: * (من ذلكم) * ثم ابتدأ الخبر عما * (للذين اتقوا عند ربهم) * فقيل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها، فلذلك رفع الجنات. ومن قال هذا القول، لم يجز في قوله: * (جنات تجري من تحتها الانهار) * إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود على قوله بخير، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى الخير الذي أمر الله عز وجل نبيه (ص) أن يقول للناس أؤنبئكم به ؟ والجنات على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله: * (للذين اتقوا عند ربهم) *. وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله للذين من صلة الانباء جاز في الجنات الخفض والرفع: الخفض على الرد على الخير، والرفع على أن يكون قوله: * (للذين اتقوا) * خبر مبتدإ على ما قد بيناه قبل. وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: * (عند ربهم) * ثم ابتدأ: * (جنات تجري من تحتها الانهار) * وقالوا: تأويل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم، ثم كأنه قيل: ماذا لهم، أو ما ذاك ؟ أو على أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك ؟ فقال: هو جنات تجري من تحتها الانهار... الآية. وأولي هذه الاقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله: * (بخير من ذلكم) * والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: * (للذين اتقوا عند ربهم جنات) * فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال: أنبئكم به ؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله: * (خالدين فيها) * فمنصوب على القطع، ومعنى قوله: * (للذين اتقوا) * للذين خافوا الله فأطاعوه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. * (عند ربهم) * يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الانهار عند ربهم، والجنات: البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى، وأن قوله: * (تجري من تحتها
[ 281 ]
الانهار) * يعني به: من تحت الاشجار، وأن الخلود فيها دوام البقاء فيها، وأن الازواج المطهرة: هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنيا من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الاذى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: * (ورضوان من الله) * يعني: ورضا الله، وهو مصدر من قول القائل: رضي الله عن فلان، فهو يرضى عنه رضا منقوص، ورضوانا ورضوانا ومرضاة. فأما الرضوان بضم الراء فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ. وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير: رضوانه، لان رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة. كما: حدثنا ابن بشار، قال: ثني أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضل من هذا ! فيقولون: أي ربنا أي شئ أفضل من هذا ؟ قال: رضواني. وقوله: * (والله بصير بالعباد) * يعني بذلك، والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده، فيخافه فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى ذكره، وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه، ويطيع الشيطان، ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والاموال، على ما عنده من النعيم المقيم، عالم تعالى ذكره بكل فريق منهم، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم، المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) * ومعنى ذلك: قل هل أنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا يقولون ربنا إننا آمنا، فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. وقد يحتمل الذين يقولون وجهين من الاعراب: الخفض على الرد على الذين الاولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها الذين الاولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: * (إن الله اشترى من المؤمنن
[ 282 ]
أنفسهم وأموالهم) * ثم قال في مبتدإ الآية التي بعدها * (التائبون العابدون) *، ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا. ومعنى قوله: * (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا) * الذين يقولون: إننا صدقنا بك وبنبيك، وما جاء به من عندك، * (فاغفر لنا ذنوبنا) * يقول: فاستر علينا بعفوك عنها وتركك عقوبتنا عليها، * (وقنا عذاب النار) * ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار. وإنما خصوا المسألة بأن يقيهم عذاب النار، لان من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب النار وحسن مآبه. وأصل قوله قنا: من قول القائل: وقى الله فلانا كذا، يراد به: دفع عنه فهو يقيه، فإذا سأل بذلك سائل قال: قني كذا. القول في تأويل قوله تعالى: * (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار) * يعني بقوله: * (الصابرين) * الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس. ويعني بالصادقين: الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الاقرار به وبرسوله، وما جاء به من عنده بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه. ويعني بالقانتين: المطيعين له. وقد أتينا على الابانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالاخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وقد كان قتادة يقول في ذلك بما: حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين) * الصادقين: قوم صدقت أفواههم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في السر والعلانية. والصابرين: قوم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارمه. والقانتون: هم المطيعون لله. وأما المنفقون: فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. وأما الصابرين والصادقين وسائر هذه الحروف فمخفوض ردا على قوله: * (الذين يقولون ربنا إننا
[ 283 ]
آمنا) * والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله: * (الذين يقولون) * خفض ردا على قوله: * (للذين اتقوا عند ربهم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (والمستغفرين بالاسحار) *. اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم، فقال بعضهم: هم المصلون بالاسحار. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (والمستغفرين بالاسحار) * هم أهل الصلاة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: * (والمستغفرين بالاسحار) * قال: يصلون بالاسحار. وقال آخرون: هم المستغفرون. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال: ثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه، قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي ! فنظرت فإذا ابن مسعود. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن قول الله عز وجل: * (والمستغفرين بالاسحار) * قال: حدثني سليمان بن موسى، قال: ثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع أسحرنا ؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالاسحار سبعين استغفارة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: ثنا أبو يعقوب الضبي، قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين بالاسحار. وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصبح في جماعة. ذكر من قال ذلك:
[ 284 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، قال: قلت لزيد بن أسلم من المستغفرين بالاسحار ؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح. وأولى هذه الاقوال بتأويل قوله: * (والمستغفرين بالاسحار) * قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها بالاسحار، وهي جمع سحر. وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء، وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء. القول في تأويل قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم. فالملائكة معطوف بهم على اسم الله، وأنه مفتوحة بشهد. وكان بعض البصريين يتأول قوله شهد الله: قضى الله، ويرفع الملائكة، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم. وهكذا قرأت قراء أهل الاسلام بفتح الالف من أنه على ما ذكرت من إعمال شهد في أنه الاولى وكسر الالف من إن الثانية وابتدائها، سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الاسلام، فعطف بأن الدين على أنه الاولى، ثم حذف واو العطف وهي مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: شهد الله إنه لا إله إلا هو... الآية، ثم قال: * (أن الدين) * بكسر إن الاولى وفتح أن الثانية بإعمال شهد فيها، وجعل أن الاولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها شهد، وأن ابن مسعود قرأ: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * بفتح أن، وكسر إن من: * (إن الدين عند الله الاسلام) * على معنى إعمال الشهادة في أن الاولى وأن الثانية مبتدأة، فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك
[ 285 ]
على ما وصفت جميع قراء أهل الاسلام المتقدمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود زعم أنهما قالاه وقرآ به، وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة، ولا سقيمة. وكفى شاهدا على خطإ قراءته خروجها من قراءة أهل الاسلام. فالصواب إذ كان الامر على ما وصفنا من قراءة ذلك فتح الالف من أنه الاولى، وكسر الالف من إن الثانية، أعني من قوله: * (إن الدين عند الله الاسلام) * ابتداء. وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية في فتح أن من قوله: * (أن الدين) * وهو ما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السدي: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة) * إلى: * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * فإن الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الاسلام. فهذا التأويل يدل على أن الشهادة إنما هي عامة في أن الثانية التي في قوله: * (أن الدين عند الله الاسلام) * فعلى هذا التأويل جائز في أن الاولى وجهان من التأويل: أحدهما أن تكون الاولى منصوبة على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد، فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم، والشهادة عاملة في أن الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدين عند الله الاسلام، لانه واحد، ثم تقدم لانه واحد فتفتحها على ذلك التأويل. والوجه الثاني: أن تكون إن الاولى مكسورة بمعنى الابتداء لانها معترض بها، والشهادة واقعة على أن الثانية، فيكون معنى الكلام: شهد الله فإنه لا إله إلا هو والملائكة، أن الدين عند الله الاسلام، كقول القائل: أشهد - فإني محق - أنك مما تعاب به برئ، فان الاولى مكسورة لانها معترضة، والشهادة واقعة على أن الثانية. وأما قوله: * (قائما بالقسط) * فإنه بمعنى أنه الذي يلي العدل بين خلقه. والقسط: هو العدل، من قولهم: هو مقسط، وقد أقسط، إذا عدل، ونصب قائما على القطع. وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من هو التي في لا إله إلا هو. وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم الله الذي مع قوله: * (شهد الله) *
[ 286 ]
فكان معناه: شهد الله القائم بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: وأولو العلم القائم بالقسط، ثم حذفت الالف واللام من القائم فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب. وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي قول من جعله قطعا على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لان الملائكة وأولي العلم معطوفون عليه، فكذلك الصحيح أن يكون قوله قائما حالا منه. وأما تأويل قوله: * (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * فإنه نفى أن يكون شئ يستحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. ويعني بالعزيز: الذي لا يمتنع عليه شئ أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه، الحكيم في تدبيره، فلا يدخله خلل. وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله (ص) في عيسى من البنوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا، واتخاذهم دونه أربابا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدبا خلقه بذلك. والمراد من الكلام: الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدموه من ملائكته وعلماء عباده، فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم - وأهل العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم، وقولهم في عيسى وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق، فقال شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب، احتجاجا منه لنبيه عليه الصلاة والسلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى، واعترض بذكر الله وصفته على ما نبينه، كما قال جل ثناؤه: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) * افتتاحا باسمه الكلام،
[ 287 ]
فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفنا من نفي الالوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به. فأما ما قال الذي وصفنا قوله من أنه عنى بقوله شهد: قضى، فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لان الشهادة معنى، والقضاء غيرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) * بخلاف ما قالوا، يعني: بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى، * (قائما بالقسط) * أي بالعدل. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (بالقسط) * بالعدل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * ومعنى الدين في هذا الموضع: الطاعة والذلة، من قول الشاعر: ويوم الحزن إذ حشدت معدوكان الناس إلا نحن دينا يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي: كانت نوار تدينك الاديانا يعني تذلك. وقول الاعشى ميمون بن قيس:
[ 288 ]
هو دان الرباب إذ كرهوا الدين دراكا بغزوة وصيال يعني بقوله دان: ذلل، وبقوله كرهوا الدين: الطاعة. وكذلك الاسلام، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع والفعل منه أسلم، بمعنى: دخل في السلم، كما يقال أقحط القوم: إذا دخلوا في القحط، وأربعوا: إذا دخلوا في الربيع، فكذلك أسلموا: إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: * (إن الدين عند الله الاسلام) * إن الطاعة التي هي الطاعة عنده الطاعة له، وإقرار الالسن والقلوب له بالعبودية والذلة، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه ولا انحراف عنه دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودية والالوهية. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (إن الدين عند الله الاسلام) * والاسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والاقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ثنا أبو العالية في قوله: * (إن الدين عند الله الاسلام) * قال: الاسلام: الاخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الفرائض لهذا تبع. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (أسلمنا) * قال: دخلنا في السلم وتركنا الحرب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن الدين عند الله الاسلام) *: أي ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب والتصديق للرسل.
[ 289 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الانجيل، وهو الكتاب الذي ذكره الله في هذه الآية في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الاقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم وتشتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضا، حتى استحل بها بعضهم دماء بعض، * (إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * يعني: إلا من بعد ما علموا الحق فيما اختلفوا فيه من أمره وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفرية مبطلون. فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل وقالوا ما قالوا من القول الذي هو كفر بالله على علم منهم بخطإ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلاف الذي هم عليه، تعديا من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * قال: قال أبو العالية: إلا من بعدما جاءهم الكتاب والعلم بغيا بينهم، يقول: بغيا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماء الناس. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية: * (إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * يقول: بغيا على الدنيا، وطلب ملكها وسلطانها، من قبلها والله أتينا ! ما كان علينا من يكون، بعد أن يأخذ فينا كتاب الله وسنة نبيه، ولكنا أتينا من قبلها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كل حبر جزءا منه، واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الاول، ومضى الثاني، ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم، وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين، حتى أهراقوا بينهم الدماء، ووقع الشر والاختلاف، وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلم بغيا بينهم على الدنيا، طلبا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله: * (إن الدين عند الله الاسلام) * إلى قوله: * (والله بصير بالعباد) *.
[ 290 ]
فقول الربيع بن أنس هذا يدل على أنه كان عنده أنه معني بقوله: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) * اليهود من بني إسرائيل دون النصارى منهم ومن غيرهم. وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعني به النصارى الذين أوتوا الانجيل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم) * الذي جاءك، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك، * (بغيا بينهم) * يعني بذلك: النصارى. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) *. يعني بذلك: ومن يجحد حجج الله وأعلامه التي نصبها ذكرى لمن عقل، وأدلة لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه سريع الحساب، يعني: سريع الاحصاء. وإنما معنى ذلك: أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد، كما يعقده خلقه بأكفهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب وبنحو الذي قلنا في معنى * (سريع الحساب) * كان مجاهد يقول. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * قال: إحصاؤه عليهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * إحصاؤه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) * يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجك يا محمد النفر من نصارى أهل نجران في أمر
[ 291 ]
عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي، وإنما خص جل ذكره بأمره بأن يقول: أسلمت وجهي لله، لان الوجه أكرم جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه فإذا خضع وجهه لشئ، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. وأما قوله: * (ومن اتبعني) * فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضا وجهه لله معي، ومن معطوف بها على التاء في أسلمت. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فإن حاجوك) * أي بما يأتونك به من الباطل من قولهم: خلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق، فقل: أسلمت وجهي لله ومن اتبعني. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، والاميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم ؟ يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد، وأخلصتم العبادة والالوهة لرب العالمين دون سائر الانداد والاشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم، وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا رب غيره، ولا إله سواه، فإن أسلموا يقول: فإن انقادوا لافراد الوحدانية لله، وإخلاص العبادة والالوهة له، فقد اهتدوا، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا محجة الرشد. فإن قال قائل: وكيف قيل: فإن أسلموا فقد اهتدوا عقيب الاستفهام، وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل: هل تقوم ؟ فإن تقم أكرمك ؟. قيل: ذلك جائز إذا كان الكلام مرادا به الامر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: * (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) * يعني انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: * (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) *. وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل: هل أنت كاف عنا ؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل: أين أين ؟ بمعنى ؟ أقم فلا تبرح، ولذلك جوزي في الاستفهام
[ 292 ]
كما جوزي في الامر في قراءة عبد الله: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ آمنوا ففسرها بالامر، وهي في قراءتنا على الخبر، فالمجازاة في قراءتنا على قوله: * (هل أدلكم) * وفي قراءة عبد الله على قوله: آمنوا على الامر، لانه هو التفسير. وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين) * الذين لا كتاب لهم: * (أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) *... الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين) * قال: الاميون: الذين لا يكتبون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وإن تولوا) * وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الاسلام، وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي. * (والله بصير بالعباد) * يعني بذلك، والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه، فيطيعك بالاسلام، وبمن يتولى منهم عنه معرضا، فيرد عليك ما أرسلتك به إليه فيعصيك بإبائه الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ئ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (إن الذين يكفرون بآيات الله) * أي يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها من أهل الكتابين التوراة والانجيل. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
[ 293 ]
جعفر بن الزبير، قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا من اليهود والنصارى، فقال: * (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق) * إلى قوله: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) *. وأما قوله: * (ويقتلون النبيين بغير حق) * فإنه يعني بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الامور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى وما أشبههما من أنبياء الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قراء الامصار: * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط) * بمعنى القتل. وقرأه بعض المتأخرين من قراء الكوفة: ويقاتلون، بمعنى القتال تأولا منه قراءة عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: وقاتلوا، فقرأ الذي وصفنا أمره من القراء بذلك التأويل ويقاتلون. والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأه: * (ويقتلون) * لاجماع الحجة من القراء عليه به، مع مجئ التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله: * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) * قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكرون، ولم يكن يأتيهم كتاب، فيقتلون، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكرون قومهم فيقتلون، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: * (ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) * قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الانبياء ينهونهم ويذكرونهم فيقتلونهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: * (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون
[ 294 ]
بالقسط من الناس) * قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتي إليهم، فيذكرون قومهم فيقتلون على ذلك، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس. حدثني أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر، قال: ثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال: رجل قتل نبيا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله (ص): الذين يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس إلى أن انتهى إلى: * (وما لهم من ناصرين) *. ثم قال رسول الله (ص): يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. فتأويل الآية إذا: إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (فبشرهم بعذاب أليم) * فأخبرهم يا محمد، وأعلمهم أن لهم عند الله عذابا مؤلما لهم، وهو الموجع. وأما قوله: * (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) * فإنه يعني بقوله: * (أولئك) * الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أن الذين ذكرناهم، هم الذين حبطت أعمالهم، يعني بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة. فأما قوله: * (في الدنيا) * فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس، لانهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما
[ 295 ]
في الآخرة، فإنه أعد لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها، لانها كانت كفرا بالله، فجزاء أهلها الخلود في الجحيم. وأما قوله: * (وما لهم من ناصرين) * فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذهم منه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (ألم تر) * يا محمد * (إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * يقول: الذين أعطوا حظا من الكتاب، يدعون إلى كتاب الله. واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي عنى الله بقوله: * (يدعون إلى كتاب الله) * فقال بعضهم: هو التوراة دعاهم إلى الرضا بما فيها، إذ كانت الفرق المنتحلة الكتب تقر بها وبما فيها أنها كانت أحكام الله قبل أن ينسخ منها ما نسخ. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله (ص) بين المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه، فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله (ص): فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبوا عليه، فأنزل الله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) *... إلى قوله: * (ما كانوا يفترون) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله (ص) بيت المدراس، فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله (ص): فهلما
[ 296 ]
إلى التوراة، وقال أيضا: فأنزل الله فيهما: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. وقال بعضهم: بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله (ص) ليحكم بينهم بالحق، فأبت. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * أولئك أعداء الله اليهود، دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *... الآية، قال: هم اليهود دعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) * قال: كان أهل الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق يكون وفي الحدود، وكان النبي (ص) يدعوهم إلى الاسلام، فيتولون عن ذلك. وأولى الاقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) في عهده، ممن قد أوتي علما بالتوراة أنهم دعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرون أنه من عند الله وهو في التوراة في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله (ص). وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه، فامتنعوا من الاجابة إليه، كان أمر محمد (ص) وأمر نبوته. ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه. ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إليه من أمر الاسلام، والاقرار به. ويجوز أن يكون ذلك كان في حد، فإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله (ص)، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الاجابة فيه، وكتمه بعضهم. ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى، فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا
[ 297 ]
حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لان المعنى الذي دعوا إليه جملته هو مما كان فرضا عليهم الاجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردتهم وتكذيبهم بما في كتابهم وجحودهم، ما قد أخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به، فلن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا وما جاء به من الحق مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به، وهم يتولونه ويقرون به. ومعنى قوله: * (ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه معرضا عنه منصرفا، وهو بحقيقته وحجته عالم. وإنما قلنا إن ذلك الكتاب هو التوراة، لانهم كانوا بالقرآن مكذبين وبالتوراة بزعمهم مصدقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرون أبلغ وللعذر أقطع. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (بأنهم قالوا) * بأن هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله (ص)، إنما أبوا الاجابة في حكم التوراة، وما فيها من الحق من أجل قولهم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * وهي أربعون يوما، وهن الايام التي عبدوا فيها العجل، ثم يخرجنا منها ربنا. اغترارا منهم بما كانوا يفترون، يعني بما كانوا يختلقون من الاكاذيب والاباطيل في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدا من ولده النار إلا تحلة القسم. فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدا (ص) أنهم هم أهل النار، هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورسله وما جاءوا به من عنده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها
[ 298 ]
العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا. قال الله عز وجل: * (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * أي قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) *... الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يوما. قال: يعني اليهود. قال: وقال قتادة مثله، وقال: هي الايام التي نصبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل: * (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * حين قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: قوله: * (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) * قال: غرهم قولهم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (فكيف إذا جمعناهم) * فأي حال يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب. وذلك من الله عز وجل وعيد لهم شديد، وتهديد غليظ. وإنما يعني بقوله: * (فكيف إذا جمعناهم) *... الآية: فما أعظم ما يلقون من عقوبة الله وتنكيله بهم إذا جمعهم ليوم يوفى كل عامل جزاء عمله على قدر استحقاقه غير مظلوم فيه، لانه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذ إلا بما عمل، يجزي المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، لا يخاف أحد من خلقه يومئذ ظلما ولا هضما. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * ولم يقل: في يوم لا ريب فيه ؟ قيل: لمخالفة معنى اللام في هذا الموضع معنى في، وذلك أنه لو كان مكان اللام في لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب، وليس ذلك المعنى في دخول اللام، ولكن معناه مع اللام، فكيف إذا جمعناهم لما يحدث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فصل الله القضاء بين
[ 299 ]
خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب ؟ فمع اللام في: * (ليوم لا ريب فيه) * نية فعل وخبر مطلوب قد ترك ذكره، أجزأت دلالة دخول اللام في اليوم عليه منه، وليس ذلك مع في فلذلك اختيرت اللام فأدخلت في ليوم دون في. وأما تأويل قوله: * (لا ريب فيه) * فإنه لا شك في مجيئه، وقد دللنا على أنه كذلك بالادلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وعنى بقوله: * (ووفيت) * ووفى الله * (كل نفس ما كسبت) * يعني ما عملت من خير وشر، * (وهم لا يظلمون) * يعني أنه لا يبخس المحسن جزاء إحسانه، ولا يعاقب مسيئا بغير جرمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير) * أما تأويل قوله * (قل اللهم) * فإنه قل يا محمد: يا الله. واختلف أهل العربية في نصب ميم * (اللهم) * وهو منادى، وحكم المنادى المفرد غير المضاف الرفع، وفي دخول الميم فيه، وهو في الاصل الله بغير ميم. فقال بعضهم: إنما زيدت فيه الميمان لانه لا ينادى بيا كما ينادى الاسماء التي لا ألف فيها، وذلك أن الاسماء التي لا ألف ولا لام فيها تنادى بيا، كقول القائل: يا زيد ويا عمرو، قال: فجعلت الميم فيه خلفا من يا، كما قالوا: فم ودم وهم وزرقم وستهم، وما أشبه ذلك من الاسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه ميم، قال: فكذلك حذفت من اللهم يا التي ينادى بها الاسماء التي على ما وصفنا، وجعلت الميم خلفا منها في آخر الاسم. وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي: اللهم بيا، كما تناديه، ولا ميم فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القول مصيبا في دعواه لم تدخل العرب يا، وقد جاءوا بالخلف منها. وأنشدوا في ذلك سماعا من العرب:
[ 300 ]
وما عليك أن تقولي كلما صليت أو كبرت يا اللهم اردد إلينا شيخنا مسلما ويروى: سبحت أو كبرت. قالوا: ولم نر العرب زادت مثل هذه الميم إلا مخففة في نواقص الاسماء مثل فم ودم وهم قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضم إليها أم بمعنى يا الله أمنا بخير، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في الهاء من همزة أم لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب هلم إلينا مثلها، إنما كان هلم هل ضم إليها أم فتركت على نصبها. قالوا: ومن العرب من يقول إذا طرح الميم: يا ألله اغفر لي، ويا الله اغفر لي، بهمز الالف من الله مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها لانها ألف ولام، مثل الالف واللام اللتين يدخلان في الاسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف، إذ كانت لا تسقط منه. وأنشدوا في همز الالف منها: مبارك هو ومن سماه على اسمك اللهم يا ألله قالوا: وقد كثرت اللهم في الكلام حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا: كحلفة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبار
[ 301 ]
والرواة تنشد ذلك: يسمعها لاهه الكبار. وقد أنشده بعضهم: يسمعها الله والكبار. القول في تأويل قوله تعالى: * (مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) *. يعني بذلك: يا مالك الملك، يا من له ملك الدنيا والآخرة خالصا دون غيره. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: * (قل اللهم مالك الملك) * أي رب العباد الملك لا يقضي فيهم غيرك. وأما قوله: * (تؤتي الملك من تشاء) * فإنه يعني: تعطي الملك من تشاء فتملكه وتسلطه على من تشاء. وقوله: * (وتنزع الملك ممن تشاء) * أن تنزعه منه، فترك ذكر أن تنزعه منه اكتفاء بدلالة قوله: * (وتنزع الملك ممن تشاء) * عليه، كما يقال: خذ ما شئت، وكن فيما شئت، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه، وكما قال جل ثناؤه: * (في أي صورة ما شاء ركبك) * يعني: في أي صورة شاء أن يركبك فيها ركبك. وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله (ص) جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لامته. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن نبي (ص) سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل: * (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) *... إلى: * (إنك على كل شئ قدير) *.
[ 302 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: ذكر لنا ولله أعلم أن نبي الله (ص) سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله. وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى الملك في هذا الموضع النبوة. ذكر الرواية عنه بذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * قال: النبوة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير) *. يعني جل ثناؤه: وتعز من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له، وتذل من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدو عليه. * (بيدك الخير) * أي كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لانك على كل شئ قدير، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والاميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك، كالمسيح والانداد التي اتخذها الاميون ربا. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله: * (تؤتي الملك من تشاء) *... الآية، أي إن ذلك بيدك لا إلى غيرك، * (إنك على كل شئ قدير) * أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك. القول في تأويل قوله تعالى: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (تولج) * تدخل، يقال منه: قد ولج فلان منزله: إذا دخله، فهو يلجه ولجا وولوجا ولجة، وأولجته أنا: إذا أدخلته. ويعني بقوله: * (تولج الليل في النهار) * تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة
[ 303 ]
هذا. * (وتولج النهار في الليل) * وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار. كما: حدثني موسى، قال ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات، وتدخل النهار في الليل، حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * قال: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر متعاقبان - أو يتعاقبان، شك أبو عاصم - ذلك من الساعات. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * ما ينقص من أحدهما في الآخر يتعاقبان في ذلك من الساعات. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * قال: هو نقصان أحدهما في الآخر. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
[ 304 ]
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * يعني أنه يأخذ أحدهما من الآخر، فيكون الليل أحيانا أطول من النهار، والنهار أحيانا أطول من الليل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * قال: هذا طويل، وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويل ذلك: أنه يخرج الشئ الحي من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشئ الحي. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة، وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: الناس الاحياء من النطف والنطف ميتة، ويخرجها من الناس الاحياء والانعام حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * فذكر نحوه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * فالنطفة ميتة تكون تخرج من إنسان حي، ويخرج إنسان حي من نطفة ميتة.
[ 305 ]
حدثني محمد بن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي، قال: ثنا أشعث السجستاني، قال: ثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: تخرج الحي من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) *... الآية، قال: الناس الاحياء من النطف، والنطف ميتة من الناس الاحياء، ومن الانعام والنبت كذلك. قال ابن جريج، وسمعت يزيد بن عويمر يخبر عن سعيد بن جبير، قال: إخراجه النطفة من الانسان، وإخراجه الانسان من النطفة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء. * (وتخرج الميت من الحي) * تخرج النطفة من هؤلاء الاحياء، والحب ميت تخرج منه حيا. * (وتخرج الميت من الحي) * تخرج من هذا الحي حبا ميتا. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والسنبل من الحب والحب من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا عبد الله، عن عكرمة قوله: * (تخرج الحي من الميت) * قال: هي البيضة تخرج من الحي وهي ميتة، ثم يخرج منها الحي. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
[ 306 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * يعني المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن. حدثني حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود - وأكبر ظني أنه عن سلمان - قال: إن الله عز وجل خمر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يوما - ثم قال بيده فيه، فخرج كل طيب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الاخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري: أن النبي (ص) دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، فقال: من هذه ؟ قالت: إحدى خالاتك، قال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ! وأي خالاتي هذه ؟ قالت: خلدة ابنة الاسود بن عبد يغوث، قال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنا، وأن المؤمن يلد كافرا ؟ فقال: هو كذلك.
[ 307 ]
وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب تأويل من قال: يخرج الانسان الحي والانعام والبهائم الاحياء من النطف الميتة، وذلك إخراج الحي من الميت، ويخرج النطفة الميتة من الانسان الحي والانعام والبهائم الاحياء، وذلك إخراج الميت من الحي، وذلك أن كل حي فارقه شئ من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء، وكذلك حكم كل شئ حي زايله شئ منه، فالذي زايله منه ميت، وذلك هو نظير قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *. وأما تأويل من تأوله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الاغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة منهم: * (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * بالتشديد وتثقيل الياء من الميت، بمعنى أنه يخرج الشئ الحي من الشئ الذي قد مات، ومما لم يمت. وقرأت جماعة أخرى منهم: تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي بتخفيف الياء من الميت. بمعنى أنه يخرج الشئ الحي من الشئ الذي قد مات دون الشئ الذي لم يمت، وتخرج الشئ الميت دون الشئ الذي لم يمت من الشئ الحي، وذلك أن الميت مثقل الياء عند العرب ما لم يمت وسيموت وما قد مات. وأما الميت مخففا: فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعت قالوا: إنك مائت غدا وإنهم مائتون، وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسم منه، يقال: هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك، وإذا أريد معنى الاسم قيل: هو الجواد بنفسه والطيبة نفسه. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب قراءة من شدد الياء من الميت، لان الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجل، فصارت ميتة، وسيخرجه منها بعد أن تفارقه وهي في صلب الرجل، ويخرج الميت من الحي، النطفة التي تصير بخروجها من الرجل الحي ميتا، وهي قبل خروجها منه حية، فالتشديد أبلغ في المدح أكمل في الثناء.
[ 308 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وترزق من تشاء بغير حساب) *. يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعطي من يشاء من خلقه، فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لانه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه، ولا الفناء على ما بيده. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وترزق من تشاء بغير حساب) * قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى. فتأويل الآية إذا: اللهم يا مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شئ قدير، دون من ادعى الملحدون أنه لهم إله ورب وعبدوه دونك، واتخذوه شريكا معك، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الاشياء، وتقدر بها على كل شئ، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميت حيا، ومن حي ميتا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحد سواك، ولا يستطيعه غيرك كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) * أي بتلك القدرة، يعني بالقدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء وتنزعه ممن تشاء، وترزق من تشاء بغير حساب، لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلا أنت. أي فإن كنت سلطت عيسى على الاشياء التي بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الاسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه، كتمليك الملوك، وأمر النبوة ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، والميت من الحي، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة، إذ لو كان إلها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد. القول في تأويل قوله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من
[ 309 ]
الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) * وهذا نهي من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا، ولذلك كسر يتخذ لانه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شئ، يعني بذلك، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الاشرف وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بطنوا بنفر من الانصار ليفتنوهم عن دينهم. فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لاولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ولزومهم، فأنزل الله عز وجل: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) *... إلى قوله: * (والله على كل شئ قدير) *.
[ 310 ]
حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * يقول: لا يتخذ المؤمن كافرا وليا من دون المؤمنين. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين) * إلى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * أما أولياء: فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه، إلا أن يتقي منهم تقاة، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم والبراءة من المؤمنين. حدثني المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: التقاة: التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالايمان. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: ما لم يهرق دم مسلم، وما لم يستحل ماله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * إلا مصانعة في الدنيا ومخالقة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * إلى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: قال أبو العالية: التقية باللسان وليس بالعمل. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية، فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالايمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان.
[ 311 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * فالتقية باللسان: من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالايمان، فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان. وقال آخرون: معنى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * إلا أن يكون بينك وبينه قرابة. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقاة) * نهى الله المؤمنين أن يوادوا الكفار أو يتولوهم دون المؤمنين، وقال الله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * الرحم من المشركين من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يصل رحما له في المشركين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) * قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه، وقوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: صاحبهم في الدنيا معروفا الرحم وغيره، فأما في الدين فلا. وهذا الذي قاله قتادة تأويل له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة. فالاغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافة. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية إنما هي تقية من الكفار، لا من غيرهم، ووجهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على معنى الكلام والتأويل في القرآن على الاغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم. وقد اختلفت القراء في قراءة قوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * فقرأ ذلك عامة قراء
[ 312 ]
الامصار: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * على تقدير فعلة مثل تخمة وتؤدة وتكأة من اتقيت، وقرأ ذلك آخرون: إلا أن تتقوا منهم تقية على مثال فعيلة. والقراءة التي هي القراءة عندنا، قراءة من قرأها: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * لثبوت حجة ذلك بأنه القراءة الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) *. يعني تعالى ذكره بذلك: ويخوفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب، يعني بذلك: متى صرتم إليه، وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به، يقول: فاتقوه واحذوره أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الارض والله على كل شئ قدير) * يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إن تخفوا ما في صدوركم من موالاة الكفار فتسروه، أو تبدوا ذلكم من أنفسكم بألسنتكم وأفعالكم، فتظهروه يعلمه الله فلا يخفى عليه، يقول: فلا تضمروا لهم مودة، ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لانه يعلم سركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شئ منه، وهو محصيه عليكم حتى يجازيكم عليه بالاحسان إحسانا، وبالسيئة مثلها. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسروا من ذلك وما أعلنوا، فقال: * (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه) *. وأما قوله: * (ويعلم ما في السموات وما في الارض) * فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شئ هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ما في صدوركم من الميل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
[ 313 ]
وأما قوله: * (والله على كل شئ قدير) * فإنه يعني: والله قدير على معاجلتكم بالعقوبة على موالاتكم إياهم، ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الامور كلها، لا يتعذر عليه شئ أراده، ولا يمتنع عليه شئ طلبه. القول في تأويل قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) * يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه، في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا، وما عملت من سوء * (تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) *: يعني: غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذوره على أنفسكم من ذنوبكم. وكان قتادة يقول في معنى قوله: * (محضرا) * ما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) * يقول موفرا. وقد زعم أهل العربية أن معنى ذلك: واذكر يوم تجد، وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لان القرآن إنما نزل للامر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لانه في القرآن في غير موضع، واتقوا يوم كذا وحين كذا. وأما ما التي مع عملت فبمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع تجد عليه. وأما قوله: * (وما عملت من سوء) * فإنه معطوف على قوله: ما الاولى، وعملت صلة بمعنى الرفع، لما قيل تود. فتأويل الكلام: يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا، والذي عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه أمدا. والامد: الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح: كل حي مستكمل عدة العمر ومود إذا انقضى أمده
[ 314 ]
يعني: غاية أجله. وقد: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * مكانا بعيدا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (أمدا بعيدا) * قال: أجلا. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * قال: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) *. يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رؤوف بعباده رحيم بهم، ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن الحسن في قوله: * (ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) * قال: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) * اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي (ص): إنا نحب ربنا، فأمر الله عز وجل نبيه محمدا (ص) أن يقول
[ 315 ]
لهم: إن كنتم صادقين فيما تقولون فاتبعوني، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الاسود، قال: سمعت الحسن يقول: قال قوم على عهد النبي (ص): يا محمد إنا نحب ربنا ! فأنزل الله عز وجل: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) * فجعل اتباع نبيه محمد (ص) علما لحبه، وعذاب من خالفه. حدثني المثنى، قال: ثنا علي بن الهيثم، قال: ثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة، قال: سمعت الحسن، يقول: قال أقوام على عهد رسول الله (ص): يا محمد إنا لنحب ربنا ! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنا: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) * فجعل الله اتباع نبيه محمد (ص) علما لحبه، وعذاب من خالفه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قوله: * (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربنا، فأمرهم الله أن يتبعوا محمدا (ص)، وجعل اتباع محمد علما لحبه. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (إن كنتم تحبون الله) *... الآية، قال: إن أقواما كانوا على عهد رسول الله (ص) يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل، فقال: * (إن كنتم تحبون الله) *... الآية. كان اتباع محمد (ص) تصديقا لقولهم. وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيه محمدا (ص) أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي يقولونه في عيسى من عظيم القول إنما يقولونه تعظيما لله وحبا له، فاتبعوا محمدا (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير. * (قل إن كنتم تحبون الله) * أي إن كان هذا من قولكم - يعني في عيسى - حبا لله وتعظيما له * (فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) * أي ما مضى من كفركم * (والله غفور رحيم) *. قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول محمد بن جعفر بن الزبير، لانه لم يجز لغير وفد نجران في هذه السورة، ولا قبل هذه الآية ذكر قوم ادعوا أنهم يحبون الله،
[ 316 ]
ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله: * (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * جوابا لقولهم على ما قاله الحسن. وأما ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصح، فيجوز أن يقال: إن ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال إلا أن يكون الحسن أراد بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله (ص) وفد نجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير إخبارنا، فإذا لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليل على ما وصفنا، فأولى الامور بنا أن نلحق تأويله بالذي عليه الدلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا، لان ما قبل هذه الآية من مبتدإ هذه السورة وما بعدها خبر عنهم، واحتجاج من الله لنبيه محمد (ص)، ودليل على بطول قولهم في المسيح، فالواجب أن تكون هي أيضا مصروفة المعنى إلى نحو ما قبلها، ومعنى ما بعدها. فإذ كان الامر على ما وصفنا، فتأويل الآية: قل يا محمد للوفد من نصارى نجران: إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله، وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبا منكم ربكم، فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسول إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه إن اتبعتموني وصدقتموني على ما أتيتكم به من عند الله، يغفر لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين رحيم بهم وبغيرهم من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: اطيعوا الله والرسول محمدا، فإنكم قد علمتم يقينا أنه رسولي إلى خلقي ابتعثته بالحق تجدونه مكتوبا عندكم في الانجيل، * (فإن تولوا) * فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، وأنهم منهم بجحودهم نبوتك وإنكارهم الحق الذي أنت عليه بعد علمهم بصحة أمرك وحقيقة نبوتك. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن
[ 317 ]
الزبير: * (قل أطيعوا الله والرسول) * فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم. * (فإن تولوا) * على كفرهم، * (فإن الله لا يحب الكافرين) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدم ونوحا، واختارهما لدينهما، * (وآل إبراهيم وآل عمران) * لدينهم الذي كانوا عليه، لانهم كانوا أهل الاسلام. فأخبر الله عز وجل أنه اختار دين من ذكرنا على سائر الاديان التي خالفته. وإنما عنى بآل إبراهيم وآل عمران المؤمنين وقد دللنا على أن آل الرجل أتباعه وقومه ومن هو على دينه. وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) * وهم المؤمنون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * رجلان نبيان اصطفاهما الله على العالمين. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * قال: ذكر الله أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ففضلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن في قوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم) * إلى قوله: * (والله سميع عليم) *
[ 318 ]
قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوة على الناس كلهم كانوا هم الانبياء الاتقياء المطيعين لربهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) * يعني بذلك: أن الله اصطفى آل إبراهيم وآل عمران * (ذرية بعضها من بعض) * فالذرية منصوبة على القطع من آل إبراهيم وآل عمران: لان الذرية نكرة، وآل عمران معرفة، ولو قيل نصبت على تكرير الاصطفاء لكان صوابا، لان المعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض. وإنما جعل بعضهم من بعض في الموالاة في الدين والموازرة على الاسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * وقال في موضع آخر: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) * يعني أن دينهم واحد وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: * (ذرية بعضها من بعض) * إنما معناه: ذرية دين بعضها دين بعض، وكلمتهم واحدة، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ذرية بعضها من بعض) * يقول: في النية والعمل والاخلاص والتوحيد له. وقوله: * (والله سميع عليم) * يعني بذلك: والله ذو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذرت له ما في بطنها محررا. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني) * فإذ من صلة سميع. وأما امرأة عمران. فهي أم مريم ابنة عمران أم
[ 319 ]
عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، وكان اسمها فيما ذكر لنا حنة ابنة فاقوذ بن قتيل. كذلك: حدثنا به محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه. وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قتيل. فأما زوجها فإنه عمران بن يا شهم بن آمنون بن منشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن اشابرابان بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا. كذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، في نسبه. وأما قوله: * (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) * فإن معناه: إني جعلت لك يا رب نذرا أن لك الذي في بطني محررا لعبادتك، يعني بذلك: حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة، عتيقة من خدمة كل شئ سواك، مفرغة لك خاصة. ونصب محررا على الحال من ما التي بمعنى الذي. * (فتقبل مني) * أي فتقبل مني ما نذرت لك يا رب. * (إنك أنت السميع العليم) * يعني: إنك أنت يا رب السميع لما أقول وأدعو، العليم لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سر أمري وعلانيته. وكان سبب نذر حنة ابنة فاقوذ امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أم يحيى عند زكريا، وكانت أم مريم عند عمران، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم، فهي جنين في بطنها. قال: وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينا، جعلته لله نذيرة، والنذيرة أن تعبده لله، فتجعله حبسا في الكنيسة، لا ينتفع به بشئ من أمور الدنيا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: ثم ذكر امرأة عمران، وقولها: * (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) * أي
[ 320 ]
نذرته، تقول: جعلته عتيقا لعبادة الله لا ينتفع به بشئ من أمور الدنيا. * (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) *. حدثني عبد الرحمن بن الاسود الطفاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: * (محررا) * قال: خادما للبيعة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، قال: خادما للكنيسة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: فرغته للعبادة. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: جعلته في الكنيسة، وفرغته للعبادة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي، نحوه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: للكنيسة يخدمها. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: خالصا لا يخالطه شئ من أمر الدنيا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: للبيعة والكنيسة. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: محررا للعبادة.
[ 321 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) *... الآية. كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحررون الذكور، وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: نذرت ولدها للكنيسة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) * قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله لا يعمل في الدنيا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحررون الذكور، فكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * قال: جعلت ولدها لله وللذين يدرسون الكتاب ويتعلمونه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة، وكانت لا تلد. فجعلت تغبط النساء لاولادهن، فقالت: اللهم إن علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدامه. قال: وقوله: * (نذرت لك ما في بطني محررا) * إنها للحرة ابنة الحرائر محررا للكنيسة يخدمها. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (إذ قالت امرأة عمران) *... الآية كلها، قال: نذرت ما في بطنها ثم سيبتها.
[ 322 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (فلما وضعتها) * فلما وضعت حنة النذيرة، ولذلك أنث. ولو كانت الهاء عائدة على ما التي في قوله: * (إني نذرت لك ما في بطني محررا) * لكان الكلام: فلما وضعته قالت: رب إني وضعته أنثى. ومعنى قوله: * (وضعتها) * ولدتها، يقال منه: وضعت المرأة تضع وضعا. * (قالت رب إني وضعتها أنثى) * أي ولدت النذيرة أنثى، * (والله أعلم بما وضعت) *. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء: * (وضعت) * خبرا من الله عز وجل عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قيلها: * (رب إني وضعتها أنثى) *. وقرأ ذلك بعض المتقدمين: والله أعلم بما وضعت على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة، والله أعلم بما ولدت مني. وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها لا يتدافعون صحتها، وذلك قراءة من قرأ: * (والله أعلم بما وضعت) * ولا يعترض بالشاذ عنها عليها. فتأويل الكلام إذا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت. ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت اعتذارا إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحررته لخدمة ربها: * (وليس الذكر كالانثى) * لان الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الانثى لا تصلح في بعض الاحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض والنفاس * (وإني سميتها مريم) *. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى) * أي لما جعلتها له محررة نذيرة.
[ 323 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق: * (وليس الذكر كالانثى) * لان الذكر هو أقوى على ذلك من الانثى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وليس الذكر كالانثى) * كانت المرأة لا تستطيع أن يصنع بها ذلك، يعني أن تحرر للكنيسة فتجعل فيها تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والاذى، فعند ذلك قالت: * (وليس الذكر كالانثى) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (قالت رب إني وضعتها أنثى) * وإنما كانوا يحررون الغلمان، قال: * (وليس الذكر كالانثى وإني سميتها مريم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانت على رجاء أن يهب لها غلاما، لان المرأة لا تستطيع ذلك - يعني القيام على الكنيسة لا تبرحها وتكنسها - لما يصيبها من الاذى. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله، فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله: * (رب إني وضعتها أنثى... وليس الذكر كالانثى) * تقول: إنما يحرر الغلمان. يقول الله: * (والله أعلم بما وضعت) *، فقالت: * (إني سميتها مريم) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، أنه أخبره عن عكرمة، وأبي بكر عن عكرمة: * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى... وليس الذكر كالانثى) * يعني في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال، أمها تقول ذلك. القول في تأويل قوله جل ثناؤه: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *. تعني بقولها: * (وإني أعيذها بك وذريتها) * وإني أجعل معاذها ومعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم بك. وأصل المعاذ: الموئل والملجأ والمعقل. فاستجاب الله لها فأعاذها الله وذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.
[ 324 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ما من نفس مولود يولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، وبها يستهل الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران فإنها لما وضعتها قالت: * (رب إني أعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم) * فضرب دونها حجاب، فطعن فيه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإن أمها قالت حين وضعتها: * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * فضرب دونهما حجاب فطعن في الحجاب. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله (ص)، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزبير، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي (ص) يقول: ما من بني آدم مولود يولد إلا قد مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا بمسه إياه، غير مريم وابنها. فقال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): كل مولود يولد من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه، إلا مريم وابنها.
[ 325 ]
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس سليمان مولى أبي هريرة، حدثه عن أبي هريرة، عن رسول الله (ص) قال: كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمران أن أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة عن رسول الله (ص)، مثله. حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسة الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا قيس، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): ما من مولود يولد إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله (ص): * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهل، غير المسيح ابن مريم لم يسلط عليه الشيطان ولم ينهزه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا المنذر بن النعمان الافطس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما ولد عيسى، أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الاصنام قد نكست رؤوسها، فقال: هذا في حادث حدث ! وقال: مكانكم ! فطار حتى جاء خافقي الارض، فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئا،
[ 326 ]
ثم طار أيضا فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيا قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها إلا هذه ! فأيسوا أن تعبد الاصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: كل بني آدم طعن الشيطان في جنبه إلا عيسى ابن مريم وأمه، جعل بينهما وبينه حجاب، فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شئ وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها سائر بني آدم. وذكر لنا أن عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر مما أعطاه الله تعالى من اليقين والاخلاص. حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * قال: إن نبي الله (ص) قال: كل آدمي طعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها بنو آدم. قال: وقال عيسى (ص) فيما يثني على ربه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن له علينا سبيل. حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله (ص): كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب. حدثنا الربيع، قال: ثنا شعيب، قال: أخبرنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيت هذه الصرخة التي يصرخها الصبي حين تلده أمه ؟ فإنها منها. حدثني أحمد بن الفرج، قال: ثنا بقية بن الوليد، قال: ثنا الزبيدي، عن
[ 327 ]
الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله (ص) قال: ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد يستهل صارخا. القول في تأويل قوله تعالى: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) * يعني بذلك جل ثناؤه: تقبل مريم من أمها حنة بتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها، وخدمة ربها بقبول حسن، والقبول: مصدر من قبلها ربها. فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل، ولو كان على لفظه لكان: فتقبلها ربها تقبلا حسنا، وقد تفعل العرب ذلك كثيرا أن يأتوا بالمصادر على أصول الافعال وإن اختلفت ألفاظها في الافعال بالزيادة، وذلك كقولهم: تكلم فلان كلاما، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: تكلم فلان تكلما، ومنه قوله: * (وأنبتها نباتا حسنا) * ولم يقل: إنباتا حسنا. وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في قبول، وكان القياس الضم لانه مصدر مثل الدخول والخروج، قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يشبهه. حدثت بذلك عن أبي عبيد، قال: أخبرني اليزيدي عن أبي عمرو. وأما قوله: * (وأنبتها نباتا حسنا) * فإن معناه: وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل: * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة وآجرها فيها * (وأنبتها) *، قال: نبتت في غذاء الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وكفلها زكريا) *. اختلفت القراء في قراءة قوله: * (وكفلها) *، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة: وكفلها مخففة الفاء بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارا بقول الله عز وجل:
[ 328 ]
* (يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: * (وكفلها زكريا) * بمعنى: وكفلها الله زكريا. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ: * (وكفلها) * مشددة الفاء بمعنى: وكفلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه، لان زكريا أيضا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له، والآية التي أظهرها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قرع فيها من شاحه فيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده، تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الاردن، فقال بعض أهل العلم: رتب قدح زكريا، فقام فلم يجر به الماء وجرى بقداح الآخرين الماء، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها. وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا في النهر، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها. وأي الامرين كان من ذلك فلا شك أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها، وإذا كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها واختصامهم في أولاهم بها. وإذا كان ذلك كذلك كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد كفلها. وأما ما اعتل به القارئون ذلك بتخفيف الفاء من قول الله: * (أيهم يكفل مريم) * وأن موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله: * (وكفلها) * فحجة دالة على ضعف اختيار المحتج بها. وذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان، فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الاقلام. وكذلك اختلفت القراء في قراءة زكريا، فقرأته عامة قراء المدينة بالمد، وقرأته عامة قراء الكوفة بالقصر. وهما لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الاخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
[ 329 ]
غير أن الصواب عندنا إذا مد زكريا، أن ينصب بغير تنوين، لانه اسم من أسماء العجم لا يجرى، ولان قراءتنا في كفلها بالتشديد وتثقيل الفاء، فزكرياء منصوب بالفعل الواقع عليه. وفي زكريا لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين وهو زكري بحذف المدة والياء الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الاسماء فتنونه، وتجريه في أنواع الاعراب مجاري ياء النسبة. فتأويل الكلام: وضمها الله إلى زكريا، من قول الشاعر: فهو لضلال الهوام كافل يراد أنه لما ضل من متفرق النعم ومنتشره، ضام إلى نفسه وجامع. وقد روي: فهو لضلال الهوافي كافل بمعنى أنه لما ند فهرب من النعم ضام، من قولهم: هفا الظليم: إذا أسرع الطيران، يقال منه للرجل: ما لك تكفل كل ضالة ؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الرحمن بن الاسود الطفاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة في قوله: * (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * قال: ألقوا أقلامهم فجرت بها الجرية إلا قلم زكريا صاعدا، فكفلها زكريا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: * (وكفلها زكريا) * قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم، يقول عصيهم. قال: فألقوها تلقاء جرية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء فقرعهم. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال الله عز
[ 330 ]
وجل: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) * فانطلقت بها أمها في خرقها - يعني أم مريم - بمريم حين ولدتها إلى المحراب - وقال بعضهم: انطلقت حين بلغت إلى المحراب - وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يجربونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه، وكان زكريا أفضلهم يومئذ وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها تحتي خالتها، فأبوا. فخرجوا إلى نهر الاردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الاقلام وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين، فأخذ الجارية، وذلك قول الله عز وجل: * (وكفلها زكريا) * فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وكفلها زكريا) * يقول: ضمها إليه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وكفلها زكريا) * قال: سهمهم بقلمه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاح عليها أحبارهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوج أختها فكفلها، وكانت عنده وحضنها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره، عن عكرمة، وأبي بكر عن عكرمة، قال: ثم خرجت بها - يعني أم مريم بمريم - في خرقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى بن عمران، قال: وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم:
[ 331 ]
دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي ! فقالوا: هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قربانهم. فقال زكريا: ادفعوها إلي فإن خالتها عندي ! قالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا. فذلك حين اقترعوا فاقترعوا بأقلامهم عليها، بالاقلام التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل: * (وكفلها زكريا) *. قال حجاج: قال ابن جريج: الكاهن في كلامهم: العالم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وكفلها زكريا) * بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم. ثم قص خبرها وخبر زكريا. حدثنا المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير قوله: * (وكفلها زكريا) * قال: كانت عنده. حدثني علي بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: * (وكفلها زكريا) * قال: جعلها زكريا معه في محرابه. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) * وتقارعها القوم، فقرع زكريا، فكفلها زكريا. وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريم كفلها بغير اقتراع ولا استهام عليها ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها لان أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها إيشاع ابنة فاقوذ، وقد قيل: إن اسم أم يحيى خالة عيسى: أشيع. حدثنا بذلك القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الحياني أن اسم أم يحيى: أشيع.
[ 332 ]
فضمها إلى خالتها أم يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها. قالوا: والاقتراع فيها بالاقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها، فتدافعوا حمل مؤنتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مؤنتها. وسنذكر قصتها على قول من قال ذلك إذا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق. فعلى هذا التأويل تصح قراءة من قرأ: وكفلها زكريا بتخفيف الفاء لو صح التأويل. غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الاول إن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها، فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف. القول في تأويل قوله تعالى: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) *. يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحراب بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقا من الله لغذائها. فقيل: إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (وجد عندها رزقا) * قال: وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * قال: العنب في غير حينه. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: * (وجد عندها رزقا) * قال: فاكهة في غير حينها. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن
[ 333 ]
الضحاك: أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، يعني في قوله: * (وجد عندها رزقا) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدث، عن مجاهد، قال: كان يجد عندها العنب في غير حينه حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وجد عندها رزقا) * قال: عنبا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: * (وجد عندها رزقا) * قال: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * قال: كنا نحدث أنها كانت تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (وجد عندها رزقا) * قال: وجد عندها ثمرة في غير زمانها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعة أبو اب، فكان يدخلها عليها، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن
[ 334 ]
السدي، قال: جعلها زكريا معه في بيت وهو المحراب، فكان يدخل عليها في الشتاء، فيجد عندها فاكهة الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وجد عندها رزقا) * قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * قال: وجد عندها ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني بعض أهل العلم: أن زكريا كان يجد عندها ثمرة الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن، قال: كان زكريا إذا دخل عليها - يعني على مريم - المحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به الذي كان يمونها في تلك الايام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: كفلها بعد هلاك أمها، فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت، أدخولها الكنيسة لنذر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد، قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزمة، وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل أتعلمون، والله لقد ضعفت عن حمل ابنة عمران ! فقالوا: ونحن لقد جهدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم. فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بدا. حتى تقارعوا بالاقلام، فخرج السهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال له جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج أحسن بالله الظن،
[ 335 ]
فإن الله سيرزقنا ! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة أنماه الله وكثره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق وليس بقدر ما يأتيها به جريج، فيقول: يا مريم أنى لك هذا ؟ فتقول: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وأما المحراب: فهو مقدم كل مجلس ومصلى، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عدي بن زيد: كدمي العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره مستنير والمحاريب جمع محراب، وقد يجمع على محارب. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) *. يعني بذلك جل ثناؤه: قال زكريا يا مريم: أنى لك هذا ؟ من أي وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق، قالت مريم مجيبة له: هو من عند الله، تعني أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها، وإنما كان زكريا يقول ذلك لها لانه كان فيما ذكر لنا يغلق عليها سبعة أبواب، ويخرج ثم يدخل عليها، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبا مما يرى: أنى لك هذا ؟ فتقول: من عند الله حدثني بذلك المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.
[ 336 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله) * قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد، فكان زكريا يقول: يا مريم أنى لك هذا ؟ وأما قوله: * (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * فخبر من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبده، لانه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إليه، كذلك خزائنه، ولا يزيد إعطاؤه إياه، ومحاسبته عليه في ملكه، وفيما لديه شيئا، ولا يعزب عنه علم ما يرزقه، وإنما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه، بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. القول في تأويل قوله تعالى: * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) * أما قوله: * (هنالك دعا زكريا ربه) * فمعناه: عند ذلك، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الآدميين في ذلك لها، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندها في الارض، طمع في الولد مع كبر سنه من المرأة العاقر، فرجا أن يرزقه الله منها الولد مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخليها من الناس ما رزقها، من ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العادات في الارض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غير الامر الجارية به العادات في الناس، فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرية طيبة. وذلك أن أهل بيت زكريا فيما ذكر لنا، كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، قال: إن ربا أعطاها هذا في غير حينه، لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة. ورغب في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرا، فقال: * (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني
[ 337 ]
ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) *. وقوله: * (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) *. وقال: * (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف عند مريم - قال: إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه، قادر أن يرزقني ولدا ! قال الله عز وجل: * (هنالك دعا زكريا ربه) * قال: فذلك حين دعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، قال: فدخل المحراب، وغلق الابواب، وناجى ربه، فقال: * (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) * إلى قوله: * (رب رضيا) * * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) *... الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني بعض أهل العلم، قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسن، ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته، فقال: * (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) * ثم شكا إلى ربه، فقال: * (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) *... إلى: * (واجعله رب رضيا) * * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) *... الآية. وأما قوله: * (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * فإنه يعني بالذرية: النسل، وبالطيبة: المباركة. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) * يقول: مباركة. وأما قوله: * (من لدنك) * فإنه يعني من عندك. وأما الذرية: فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع واحد، وذلك أن الله عز وجل قال في موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا: * (فهب لي من لدنك وليا) * ولم يقل أولياء، فدل على أنه سأل
[ 338 ]
واحدا. وإنما أنث طيبة لتأنيث الذرية، كما قال الشاعر: أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة، ذاك الكمال فقال: ولدته أخرى، فأنث، وهو ذكر لتأنيث لفظ الخليفة، كما قال الآخر: كما يزدري من حية جبلية سكاب إذا ما عض ليس بازدرا فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية، ثم رجع إلى المعنى فقال: إذا ما عض لانه كان أراد حية ذكرا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه فلان من الاسماء كالدابة والذرية والخليفة، فأما إذا سمي رجل بشئ من ذلك، فكان في معنى فلان لم يجز تأنيث فعله ولا نعته. وأما قوله: * (إنك سميع الدعاء) * فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أن سميع أمدح، وهو بمعنى ذو سمع له، وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تسمع ما تدعى به. فتأويل الآية: فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدا مباركا، إنك ذو سمع دعاء من دعاك. القول في تأويل قوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة: * (فنادته الملائكة) * على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع الملائكة، وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيما الاسماء التي في ألفاظها التأنيث كقولهم: جاءت الطلحات. وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، بمعنى: فناداه جبريل فذكروه
[ 339 ]
للتأويل، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ، فكذلك يذكرون فعل المؤنث أيضا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود، وهو ما: حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق بن الحجاج، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد أن قراءة ابن مسعود: فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب. وكذلك تأول قوله: * (فنادته الملائكة) * جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (فنادته الملائكة) * وهو جبريل - أو: قالت الملائكة، وهو جبريل - * (أن الله يبشرك بيحيى) *. فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل: * (فنادته الملائكة) * والملائكة جمع لا واحد ؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام: خرج فلان على بغال البرد، وإنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال: ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل: إن منه قوله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) *، والقائل كان فيما ذكر واحدا، وقوله: * (وإذا مس الناس ضر) *، والناس بمعنى واحد، وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد. وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان، أعني التاء والياء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القرائين، وهما جميعا فصيحتان عند العرب، وذلك أن الملائكة إن كان مرادا بها جبريل كما روي عن عبد الله فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل، وجائز فيه التذكير لمعناها. وإن كان مرادا بها جمع الملائكة فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قبلها للفظها، وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها أنثته، فقالت: قالت النساء، وجائز التذكير في فعلها بناء على الواحد إذا تقدم فعله، فيقال: قال الرجال.
[ 340 ]
وأما الصواب من القول في تأويله، فأن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الاظهر الاكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الاقل ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني. وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى. القول في تأويل قوله تعالى: * (وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى) *. وتأويل قوله * (وهو قائم) *: فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا. فقوله: * (وهو قائم) * خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا، وقوله: * (يصلي) * في موضع نصب على الحال من القيام، وهو رفع بالياء. وأما المحراب: فقد بينا معناه، وأنه مقدم المسجد. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (أن الله يبشرك) *، فقرأته عامة القراء: * (أن الله) * بفتح الالف من أن بوقوع النداء عليها بمعنى فنادته الملائكة بذلك. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة: إن الله يبشرك بكسر الالف بمعنى: قالت الملائكة: إن الله يبشرك، لان النداء قول، وذكروا أنها في قراءة عبد الله: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك، قالوا: إذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله: يا زكريا، فباطل أيضا أن يكون عاملا في إن. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: * (أن الله يبشرك) * بفتح أن بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك، وليست العلة التي اعتل بها القارئون بكسر إن، من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم. وقد اعترض بيا زكريا بين إن وبين قوله: فنادته، وإذا اعترض به بينهما، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في أن، وتبطله عنها. أما الابطال، فإنه بطل عن العمل في المنادى قبله، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الاعمال، فلان النداء فعل واقع كسائر الافعال. وأما قراءتنا فليس نداء زكريا بيا زكريا، معترضا به بين أن وبين قوله:
[ 341 ]
فنادته، وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول: ناديت اسم المنادى، وأوقعوه عليه أن يوقعوه كذلك على أن بعده وإن كان جائزا إبطال عمله، فقوله: نادته، قد وقع على مكني زكريا، فكذلك الصواب أن يكون واقعا على أن وعاملا فيها، مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الاسلام، ولا يعترض بالشاذ على الجماعة التي تجئ مجئ الحجة. وأما قوله: * (يبشرك) * فإن القراء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: * (أن الله يبشرك) * بتشديد الشين وضم الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس: بشرت فلانا البشرى بكذا وكذا، أي أتته بشارات البشرى بذلك. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة وغيرهم: أن الله يبشرك بفتح الياء وضم الشين وتخفيفها، بمعنى: أن الله يسرك بولد يهبه لك، من قول الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها وقد قيل: إن بشرت لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون: بشرت فلانا بكذا فأنا أبشره بشرا، وهل أنت باشر بكذا ؟ وينشد لهم البيت في ذلك: وإذا رأيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل فأعنهم وابشر بما بشروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
[ 342 ]
فإذا صاروا إلى الامر، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف، فيقال: ابشر فلانا بكذا، ولا يكادون يقولون: بشره بكذا، ولا أبشره. وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: يبشرك بضم الياء وكسر الشين وتخفيفها. وقد: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفي، قال: من قرأ يبشرهم مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ يبشرهم مخففة بنصب الياء، فإنه من السرور، يسرهم. والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ضم الياء وتشديد الشين، بمعنى التبشير، لان ذلك هي اللغة السائرة، والكلام المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قراء الامصار مجمعون في قراءة: * (فبم تبشرون) * على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره أن يكون مثله في التشديد وضم الياء. وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية: يابشر حق لبشرك التبشيرهلا غضبت لنا وأنت أمير فقد علم أنه أراد بقوله التبشير: الجمال والنضارة والسرور، فقال التبشير ولم يقل البشر فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: * (أن الله يبشرك بيحيى) * قال: بشرته الملائكة بذلك.
[ 343 ]
(وأما قوله: * (بيحيى) * فإنه اسم أصله يفعل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فيحيى يفعل من قولهم حيي. وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك لانه يتأول اسمه أحياه بالايمان. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (أن الله يبشرك بيحيى) * يقول: عبد أحياه الله بالايمان. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: * (أن الله يبشرك بيحيى) * قال: إنما سمي يحيى، لان الله أحياه بالايمان. القول في تأويل قوله تعالى: * (مصدقا بكلمة من الله) *. يعني بقوله جل ثناؤه: إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك، * (مصدقا بكلمة من الله) * يعني بعيسى ابن مريم. ونصب قوله مصدقا على القطع من يحيى، لان مصدقا نعت له وهو نكرة، ويحيى غير نكرة. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الرحمن بن الاسود الطفاوي، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا النضر بن عربي، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك، قال: فوضعت امرأة زكريا يحيى، ومريم عيسى. ولذا قال: * (مصدقا بكلمة من الله) * قال يحيى: مصدق بعيسى. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله: * (يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) * قال: مصدقا بعيسى ابن مريم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة في قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) * قال: مصدقا بعيسى.
[ 344 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (مصدقا بكلمة من الله) * يقول: مصدق بعيسى ابن مريم، وعلى سننه ومنهاجه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) * يعني عيسى ابن مريم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة: * (مصدقا بكلمة من الله) * يقول: مصدقا بعيسى ابن مريم، يقول: على سننه ومنهاجه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (مصدقا بكلمة من الله) * قال: كان أول رجل صدق عيسى وهو كلمة من الله وروح. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (مصدقا بكلمة من الله) * يصدق بعيسى. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) * فان يحيى أول من صدق بعيسى، وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) * قال عيسى ابن مريم: هو الكلمة من الله اسمه المسيح. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) * قال: كان عيسى ويحيى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى، سجوده في بطن أمه، وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
[ 345 ]
عن أبيه، عن ابن عباس: * (إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) * قال: الكلمة التي صدق بها عيسى. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لقيت أم يحيى أم عيسى، وهذه حامل بيحيى وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم استشعرت أني حبلى، قالت مريم: استشعرت أني أيضا حبلى. قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) *. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله: * (إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) * قال: مصدقا بعيسى ابن مريم. وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله: * (مصدقا بكلمة من الله) * بكتاب من الله، من قول العرب: أنشدني فلان كلمة كذا، يراد به قصيدة كذا. جهلا منه بتأويل الكلمة، واجتراء على ترجمة القرآن برأيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وسيدا) *. يعني بقوله جل ثناؤه: * (وسيدا) *: وشريفا في العلم والعبادة، ونصب السيد عطفا على قوله مصدقا. وتأويل الكلام: إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بهذا وسيدا، والسيد: الفيعل، من قول القائل: ساد يسود. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وسيدا) *: إي والله، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة في قوله: * (وسيدا) * قال: السيد لا أعلمه إلا قال في العلم والعبادة. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: السيد: الحليم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير: * (وسيدا) * قال: الحليم.
[ 346 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: * (وسيدا) * قال: السيد: التقي. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل * (وسيدا) * قال: السيد: الكريم على الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: زعم الرقاشي أن السيد: الكريم على الله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل: * (وسيدا) * قال: السيد: الحليم التقي. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وسيدا) * قال: يقول: تقيا حليما. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله: * (وسيدا) * قال: حليما تقيا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: * (وسيدا) * قال: السيد: الشريف. حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل: * (وسيدا) * قال: السيد: الفقيه العالم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (وسيدا) * قال: يقول: حليما تقيا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة: * (وسيدا) * قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب. القول في تأويل قوله تعالى: * (وحصورا ونبيا من الصالحين) *. يعني بذلك: ممتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه، ومنه قولهم: حصر فلان في قراءته: إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، وكذلك حصر العدو: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يخرج
[ 347 ]
مع ندمائه شيئا: حصور، كما قال الاخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار ويروى بسار. ويقال أيضا للذي لا يخرج سره ويكتله حصور، لانه يمنع سره أن يظهر، كما قال جرير: ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا وأصل جميع ذلك واحد، وهو المنع والحبس. وبمثل الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن خلف، قال: ثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله: * (وسيدا وحصورا) * قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء.. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله (ص) يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا، قال: ثم دلى رسول الله (ص) يده إلى الارض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا. حدثني يونس قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، قال:
[ 348 ]
سمعت سعيد بن المسيب، يقول: ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا، كان حصورا، معه مثل الهدبة. حدثنا أحمد بن الوليد القرشي، قال: ثنا عمر بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه -: ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال: وقال سعيد بن المسيب: * (وسيدا وحصورا) * قال: الحصور: الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب. حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله: * (وحصورا) * قال: الحصور، الذي لا يشتهي النساء، ثم ضرب بيده إلى الارض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، مثله. حدثني عبد الرحمن بن الاسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة، قال: ثنا النضر بن عربي، عن مجاهد: * (وحصورا) * قال: الذي لا يأتي النساء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحصور: لا يقرب النساء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: زعم الرقاشي: الحصور: الذي لا يقرب النساء. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: الحصور: الذي لا يولد له، وليس له ماء. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (وحصورا) * قال: هو الذي لا ماء له.
[ 349 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا سويد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وحصورا) * كنا نحدث أن الحصور الذي لا يقرب النساء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة في قوله: * (وسيدا وحصورا) * قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الحصور: الذي لا ينزل الماء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد: * (وحصورا) * قال: الحصور: الذي لا يأتي النساء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وحصورا) * قال: الحصور: الذي لا يريد النساء. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: * (وحصورا) * قال: لا يقرب النساء. وأما قوله: * (ونبيا من الصالحين) * فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم. ويعني بقوله: * (من الصالحين) * من أنبيائه الصالحين. وقد دللنا فيما مضى على معنى النبوة وما أصلها بشواهد ذلك، والادلة الدالة على الصحيح من القول فيه بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء) * يعني أن زكريا قال إذ نادته الملائكة: * (أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) *: * (أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر) * يعني: من بلغ من السن ما بلغت لم يولد له، * (وامرأتي عاقر) * والعاقر من النساء: التي لا تلد، يقال منه: امرأة عاقر، ورجل عاقر، كما قال عامر بن الطفيل:
[ 350 ]
لبئس الفتى أن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر وأما الكبر: فمصدر كبر فلان فهو يكبر كبرا. وقيل: بلغني الكبر، وقد قال في موضع آخر: * (وقد بلغت من الكبر) * لان ما بلغك فقد بلغته، وإنما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل: وقد بلغني الجهد بمعنى: أني في جهد. فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبي الله: * (رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) * وقد بشرته الملائكة بما بشرته به، عن أمر الله إياها به ؟ أشك في صدقهم ؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الايمان بالله، فكيف الانبياء والمرسلون ؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه ؟ فذلك أعظم في البلية ! قيل: كان ذلك منه (ص) على غير ما ظننت، بل كان قيله ما قال من ذلك، كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك، كما يوحي إليك في غيره من الامر ! فشك مكانه، وقال: * (أنى يكون لي غلام) * ذكر، يقول: ومن أين * (وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، قال: فأتاه الشيطان، فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه، فقال: هل تدري من ناداك ؟ قال: نعم، ناداني ملائكة ربي، قال: بل ذلك الشيطان، لو كان هذا من ربك لاخفاه إليك كما أخفيت نداءك، فقال: * (رب اجعل لي آية) *. فكان قوله ما قال من ذلك، ومراجعته ربه فيما راجع فيه بقوله: * (أنى يكون لي غلام) *، للوسوسة التي خالطت قلبه من الشيطان، حتى خيلت إليه أن النداء الذي سمعه
[ 351 ]
كان نداء من غير الملائكة، فقال: * (رب أنى يكون لي غلام) * مستثبتا في أمره لتقرر عنده بآية، يريه الله في ذلك أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال: * (رب اجعل لي آية) *. وقد يجوز أن يكون قيله ذلك مسألة منه ربه: من أي وجه يكون الولد الذي بشر به، أمن زوجته فهي عاقر، أم من غيرها من النساء ؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي، ومن قال مثل قولهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (كذلك الله) * أي هو ما وصف به نفسه، أنه هين عليه أن يخلق ولدا من الكبير الذي قد يئس من الولد، ومن العاقر التي لا يرجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلق الولد منك ولم تك شيئا، لانه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شئ أراده، ولا يمتنع عليه فعل شئ شاءه، لان قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: * (كذلك الله يفعل ما يشاء) * وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) * يعني بذلك جل ثناؤه خبرا عن زكريا، قال زكريا: يا رب إن كان هذا النداء الذي نوديته، والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك، وبشارة منك لي، فاجعل لي آية ! يقول: علامة أن ذلك كذلك، ليزول عني ما قد وسوس إلي الشيطان فألقاه في قلبي، من أن ذلك صوت غير الملائكة، وبشارة من عند غيرك. كما: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (قال رب اجعل لي آية) * قال: قال - يعني زكريا -: يا ربي فإن كان هذا الصوت منك، فاجعل لي آية. وقد دللنا فيما مضى على معنى الآية، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته. وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همزها، ومن شأنها همز كل ياء جاءت
[ 352 ]
بعد ألف ساكنة، فقال بعضهم: ترك همزها لانها كانت أية، فثقل عليهم التشديد، فأبدلوه ألفا لانفتاح ما قبل التشديد، كما قالوا: أيما فلان فأخزاه الله. وقال آخرون منهم: بل هي فاعلة منقوصة. فسألوا، فقيل لهم، فما بال العرب تصغرها أيية، ولم يقولوا أوية ؟ فقالوا: قيل ذلك كما قيل في فاطمة: هذه فطيمة، فقيل لهم: فإنهم يصغرون فاعلة على فعيلة إذا كان اسما في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك، فليس من تصغيرهم فاعلة على فعيلة. وقال آخرون: إنه فعلة، صيرت ياؤها الاولى ألفا، كما فعل بحاجة وقامة، فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة، وقال من أنكر ذلك من قيلهم: لو كان كما قالوا لقيل في نواة: ناية، وفي حياة: حاية. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) *. فعاقبه الله فيما ذكر لنا بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته على تخصيص ما سمع من البشارة من الملائكة بيحيى أنه من عند الله آية من نفسه، جمع تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربه على ما يبين له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصا له من هفوته، وخطأ قيله ومسألته. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * إنما عوقب بذلك لان الملائكة شافهته مشافهة بذلك فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه، فأخذ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره كما تسمعون: * (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (أن الله يبشرك بيحيى مصدقا) * قال: شافهته الملائكة، فقال: * (رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * يقول: إلا إيماء، وكانت عقوبة عوقب بها، إذ سأل الآية مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
[ 353 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * قال: ذكر لنا والله أعلم أنه عوقب لان الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد، فأخذ بلسانه. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا والله أعلم أنه عوقب لان الملائمة شافهته فبشرته بيحيى، قالت: * (إن الله يبشرك بيحيى) *، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزا، يقول: يومئ إيماء. حدثني أبو عبيد الرصافي، قال: ثنا محمد بن حمير، قال: ثنا صفوان بن عمرو، عن جويبر بن نفير في قوله: * (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * قال: ربا لسانه في فيه حتى ملاه، ثم أطلقه الله بعد ثلاث. وإنما اختارت القراء النصب في قوله: * (ألا تكلم الناس) * لان معنى الكلام: قال: آيتك أن لا تكلم الناس فيما يستقبل ثلاثة أيام، فكانت أن هي التي تصحب الاستقبال دون التي تصحب الاسماء فتنصبها، ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام: أي أنك على هذه الحال ثلاثة أيام، كان وجه الكلام الرفع، لان أن كانت تكون حينئذ بمعنى الثقيلة خففت، ولكن لم يكن ذلك جائزا لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر. وأما الرمز، فإن الاغلب من معانيه عند العرب: الايماء بالشفتين، وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين والعينين أحيانا، وذلك غير كثير فيهم، وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز، ومنه قول جوبة بن عائذ: وكان يكلم الابطال رمزا وهمهمة لهم مثل الهدير
[ 354 ]
يقال منه: رمز فلان فهو يرمز ويرمز رمزا، ويترمز ترمزا، ويقال: ضربه ضربة فارتمز منها: أي اضطرب للموت، قال الشاعر: خررت منها لقفاي أرتمز وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله: * (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * وأي معاني الرمز عنى بذلك ؟ فقال بعضهم: عنى بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله: * (إلا رمزا) * قال: تحريك الشفتين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (ثلاثة أيام إلا رمزا) * قال: إيماؤه بشفتيه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الايماء والاشارة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: * (إلا رمزا) * قال: الاشارة. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إلا رمزا) * قال: الرمز: أن يشير بيده أو رأسه ولا يتكلم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إلا رمزا) * قال: الرمز: أن أخذ بلسانه فجعل يكلم الناس بيده. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: * (إلا رمزا) * قال: والرمز: الاشارة.
[ 355 ]
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) *... الآية. قال: جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، إلا أنه يذكر الله. والرمز: الاشارة، يشير إليهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: * (إلا رمزا) * إلا إيماء. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إلا رمزا) * يقول: إشارة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: * (إلا رمزا) *: إلا إشارة. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن، في قوله: * (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * قال: أمسك بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أن سبحوا بكرة وعشيا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) *. يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا بغير خرس، ولا عاهة، ولا مرض * (واذكر ربك كثيرا) * فإنك لا تمنع ذكره، ولا يحال بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره. وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، قال: لو كان الله رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال: * (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا) * أيضا. وأما قوله: * (وسبح بالعشي) * فإنه يعني: عظم ربك بعبادته بالعشي. والعشي: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفئ من برد العشي تذوق
[ 356 ]
فالفئ إنما تبتدئ أوبته عند زوال الشمس، وتتناهى بمغيبها. وأما الابكار: فإنه مصدر من قول القائل: أبكر فلان في حاجة، فهو يبكر إبكارا، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى، فذلك إبكار، يقال فيه: أبكر فلان، وبكر يبكر بكورا. فمن الابكار قول عمر بن أبي ربيعة: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ومن البكور قول جرير: ألا بكرت سلمى فجد بكورهاوشق العصا بعد اجتماع أميرها ويقال من ذلك: بكر النخل يبكر بكورا، وأبكر يبكر إبكارا، والباكور من الفواكه: أولها إدراكا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وسبح بالعشي والابكار) * قال: الابكار: أول الفجر، والعشي، ميل الشمس حتى تغيب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قالت الملائكة يمريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) *
[ 357 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: والله سميع عليم * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) *، * (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك) *. ومعنى قوله: * (اصطفاك) * اختارك واجتباك لطاعته، وما خصك به من كرامته. وقوله: * (وطهرك) * يعني: طهر دينك من الريب والادناس التي في أديان نساء بني آدم. * (واصطفاك على نساء العالمين) * يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك بطاعتك إياه، ففضلك عليهم. كما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد يعني بقوله: خير نسائها: خير نساء أهل الجنة. حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا محاضر بن المورع، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، قال: سمعت عليا بالعراق، يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني المنذر بن عبد الله الخزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أن رسول الله (ص)، قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * ذكر لنا أن نبي الله، كان يقول: حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد من نساء العالمين. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: خير نساء ركبن الابل صوالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في
[ 358 ]
ذات يده. قال قتادة: وذكر لنا أنه كان يقول: لو علمت أن مريم ركبت الابل ما فضلت عليها أحدا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي (ص) قال: خير نساء ركبن الابل صلح نساء قريش أحناه على ولد وأرعاه لزوج في ذات يده قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرا قط. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: * (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * قال: كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم العسقلاني، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عمرو بن مرة، قال: سمعت مرة الهمداني يحدث عن أبي موسى الاشعري، قال: قال رسول الله (ص): كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو الاسود المصري، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان، أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته أن فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت: دخل رسول الله (ص) يوما وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيت، ثم ناجاني، فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عجلت،
[ 359 ]
أخبرك بسر رسول الله (ص) ! فتركتني، فلما توفي رسول الله (ص)، سألتها عائشة، فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريل كان يعارض القرآن كل عام مرة، وإنه قد عارض القرآن مرتين، وإنه ليس من نبي إلا عمر نصف عمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عمره عشرين ومائة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتا في عامي هذا، وإنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين بمثل ما رزئت، ولا تكوني دون امرأة صبرا. قالت: فبكيت، ثم قال: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول فتوفي عامه ذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو الاسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميري حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال رسول الله (ص): فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين. وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: * (وطهرك) *: أنه وطهر دينك من الدنس والريب، قال مجاهد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: * (إن الله اصطفاك وطهرك) * قال: جعلك طيبة إيمانا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (واصطفاك على نساء العالمين) * قال: ذلك للعالمين يومئذ. وكانت الملائكة فيما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لمريم شفاها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، قال: كانت مريم حبيسا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غلام اسمه يوسف، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا، فكانا في الكنيسة جميعا، وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف، أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذبان منه، فيملان قلتيهما، ثم يرجعان إلى
[ 360 ]
الكنيسة، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم: * (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) * فإذا سمع ذلك زكريا، قال: إن لابنة عمران لشأنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (يمريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) * يعني جل ثناؤه بقوله خبرا عن قيل ملائكته لمريم: * (يا مريم اقنتي لربك) * أخلصي الطاعة لربك وحده. وقد دللنا على معنى القنوت بشواهده فيما مضى قبل. والاختلاف بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع نحو اختلافهم فيه هنالك، وسنذكر قول بعضهم أيضا في هذا الموضع، فقال بعضهم: معنى اقنتي: أطيلي الركود. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: أطيلي الركود، يعني: القنوت. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج * (اقنتي لربك) * قال: قال مجاهد: أطيلي الركود في الصلاة، يعني: القنوت. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، قال: لما قيل لها: * (يا مريم اقنتي لربك) * قامت حتى ورم كعباها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، قال: لما قيل لها: * (يا مريم اقنتي لربك) * قامت حتى ورمت قدماها. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد: * (اقنتي لربك) * قال: أطيلي الركود. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: القنوت: الركود، يقول: قومي لربك في الصلاة، يقول: اركدي لربك، أي انتصبي له في الصلاة، واسجدي واركعي مع الراكعين.
[ 361 ]
حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: كانت تصلي حتى ترم قدماها. حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا الاوزاعي: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها. وقال آخرون: معناه: أخلصي لربك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: أخلصي لربك. وقال آخرون: معناه: أطيعي ربك. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (اقنتي لربك) * قال: أطيعي ربك. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (اقنتي لربك) * أطيعي ربك. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن، في قوله: * (يا مريم اقنتي لربك) * قال: يقول: اعبدي ربك. قال أبو جعفر: وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالادلة الدالة على صحته، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية. فتأويل الآية إذا: يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا، واخشعي لطاعته وعبادته، مع من خشع له من خلقه، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتطهير من الادناس والتفضيل على نساء عالم دهرك. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 362 ]
* (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) * يعني جل ثناؤه بقوله: ذلك الاخبار التي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم وزكريا، وابنه يحيى، وسائر ما قص في الآيات من قوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا) * ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله ذلك، فقال: هذه الانباء من أنباء الغيب: أي من أخبار الغيب. ويعني بالغيب، أنها من خفي أخبار القوم التي لم تطلع أنت يا محمد عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) أنه أوحى ذلك إليه حجة على نبوته، وتحقيقا لصدقه، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين الذين يعلمون أن محمدا لم يصل إلى علم هذه الانباء مع خفائها ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه، إذ كان معلوما عندهم أنه محمدا (ص) أمي لا يكتب فيقرأ الكتب فيصل إلى علم ذلك من قبل الكتب، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قبلهم. وأما الغيب: فمصدر من قول القائل: غاب فلان عن كذا، فهو يغيب عنه غيبا وغيبة. وأما قوله: * (نوحيه إليك) * فإن تأويله: ننزله إليك، وأصل الايحاء: إلقاء الموحي إلى الموحى إليه، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء وبإلهام وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: * (وأوحى ربك إلى النحل) * بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: * (وإذ أوحيت إلى الحواريين) * بمعنى: ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما، وكما قال الراجز: أوحى لها القرار فاستقرت بمعنى: ألقى إليها ذلك أمرا، وكما قال جل ثناؤه: * (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
[ 363 ]
وعشيا) * بمعنى: فألقى ذلك إليهم أيضا، والاصل فيه ما وصفت من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء، ويكون بكتاب، ومن ذلك قوله: * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) * يلقون إليهم ذلك وسوسة، وقوله: * (وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) *: ألقي إلي بمجئ جبريل عليه السلام به إلي من عند الله عز وجل. وأما الوحي: فهو الواقع من الموحي إلى الموحى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب وحيا، لانه واقع فيما كتب ثابت فيه، كما قال كعب بن زهير: أتى العجم والآفاق منه قصائد بقين بقاء الوحي في الحجر الاصم يعني به الكتاب الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وحى، بغير ألف، ومنه قول رؤبة: كأنه بعد رياح تدهمه ومرثعنات الدجون تثمه إنجيل أحبار وحى منمنمه
[ 364 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *. يعني جل ثناؤه بقوله: * (وما كنت لديهم) *: وما كنت يا محمد عندهم، فتعلم ما نعلمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه. ومعنى قوله * (لديهم) *: عندهم، ومعنى قوله * (إذ يلقون) *: حين يلقون أقلامهم. وأما أقلامهم فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله: * (وكفلها زكريا) *. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله: * (وما كنت لديهم) * يعني محمدا (ص). حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يلقون أقلامهم) *: زكريا وأصحابه استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا، وكان زوج أختها، فكفلها زكريا، يقول: ضمها إليه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 365 ]
عن قتادة في قوله: * (يلقون أقلامهم) * قال: تساهموا على مريم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *، وإن مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها، فقال الله عز وجل لمحمد (ص): * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) *. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) *: اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريم، فقرعهم زكريا. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن، في قوله: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم) * قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غيبا عن محمد (ص) حين أخبره الله. وإنما قيل: * (أيهم يكفل مريم) * لان إلقاء المستهمين أقلامهم على مريم إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحق، ففي قوله عز وجل: * (إذ يلقون أقلامهم) * دلالة على محذوف من الكلام، وهو: لينظروا أيهم يكفل، وليتبينوا ذلك ويعلموه. فإن ظن ظان أن الواجب في أيهم النصب، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ، وذلك أن النظر والتبين والعلم مع أي يقتضي استفهاما واستخبارا، وحظ أي في الاستخبار الابتداء، وبطول عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل: لانظرن أيهم قام، لاستخبرن الناس أيهم قام، وكذلك قولهم: لاعلمن. وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى يكفل يضم، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنت يا محمد عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيهم أحق بها وأولى، وذلك من الله عز وجل وإن كان خطابا لنبيه (ص)، فتوبيخ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين، يقول: كيف يشك أهل الكفر بك منهم، وأنت تنبئهم هذه
[ 366 ]
الانباء ولم تشهدها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الامور، ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم، لما يأتيهم به مما أخفوا منه. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قالت الملائكة يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (إذ قالت الملائكة) * وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك. والتبشير: إخبار المرء بما يسره من خبر. وقوله: * (بكلمة منه) * يعني: برسالة من الله، وخبر من عنده، وهو من قول القائل: ألقى فلان إلي كلمة سرني بها، بمعنى: أخبرني خبرا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: * (وكلمته ألقاها إلى مريم) * يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها. فتأويل الكلام: وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هي ولد لك، اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وقد قال قوم، وهو قول قتادة: إن الكلمة التي قال الله عز وجل بكلمة منه، هو قوله: كن. حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: * (بكلمة منه) * قال: قوله: كن. فسماه الله عز وجل كلمته، لانه كان عن كلمته، كما يقال لما قدر الله من شئ: هذا قدر الله وقضاؤه، يعني به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: * (وكان أمر الله مفعولا) * يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور الذي كان عن أمر الله عز وجل.
[ 367 ]
وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الاسماء. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الكلمة: هي عيسى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) * قال: عيسى هو الكلمة من الله. وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي القول الاول: وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها، أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل، ولذلك قال عز وجل: * (اسمه المسيح) * فذكر، ولم يقل اسمها فيؤنث، والكلمة مؤنثة، لان الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها، كما تذكر كناية الذرية والدابة والالقاب، على ما قد بيناه قبل فيما مضى. فتأويل ذلك كما قلنا آنفا، من أن معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى، ثم بين عن البشرى، أنها ولد اسمه المسيح. وقد زعم بعض نحويي البصرة، أنه إنما ذكر فقال: * (اسمه المسيح) *، وقد قال: * (بكلمة منه) * والكلمة عنده: هي عيسى، لانه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: * (أن تقول نفس يا حسرتا) *، ثم قال: * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها) * وكما يقال: ذو الثدية، لان يده كانت قصيرة قريبة من ثدييه، فجعلها كأن اسمها ثدية، ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير. وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة، في أن الهاء من ذكر الكلمة، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله * (اسمه) *، والكلمة متقدمة قبله،
[ 368 ]
فزعم أنه إنما قيل اسمه، وقد قدمت الكلمة، ولم يقل اسمها، لان من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والالقاب والاسماء التي لم توضع لتعريف المسمى به كفلان وفلان، وذلك مثل الذرية والخليفة والدابة، ولذلك جاز عنده أن يقال: ذرية طيبة، وذرية طيبا، ولم يجز أن يقال: طلحة أقبلت، ومغيرة قامت. وأنكر بعضهم اعتلال من اعتل في ذلك بذي الثدية، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في ذي الثدية لانه أريد بذلك: القطعة من الثدي، كما قيل: كنا في لحمة ونبيذة، يراد به: القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك. وأما قوله: * (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) * فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوته إلى الله عز وجل، وما قذفت أمه به المفترية عليها من اليهود. كما: حدثني به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) *: أي هكذا كان أمره، لا ما يقولون فيه. وأما المسيح، فإنه فعيل، صرف من مفعول إلى فعيل، وإنما هو ممسوح، يعني: مسحه الله فطهره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم: المسيح الصديق حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. وقال آخرون: مسح بالبركة.
[ 369 ]
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: قال سعيد: إنما سمي المسيح، لانه مسح بالبركة. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) *. يعني بقوله وجيها: ذا وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة، ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس: وجيه، يقال منه: ما كان فلان وجيها، ولقد وجه وجاهة، وإن له لوجها عند السلطان، وجاها ووجاهة. والجاه: مقلوب قلبت واوه من أوله إلى موضع العين منه، فقيل جاه، وإنما هو وجه وفعل من الجاه: جاه يجوه، مسموع من العرب: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه. وأما نصب الوجيه فعلى القطع من عيسى، لان عيسى معرفة، ووجيه نكرة، وهو من نعته، ولو كان مخفوضا على الرد على الكلمة كان جائزا. وكما قلنا من أن تأويل ذلك وجيها في الدنيا والآخرة عند الله، قال فيما بلغنا محمد بن جعفر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (وجيها) * قال: وجيها في الدنيا والآخرة عند الله. وأما قوله: * (ومن المقربين) * فإنه يعني: أنه ممن يقربه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره، ويدنيه منه. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ومن المقربين) * يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (ومن المقربين) * يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) *
[ 370 ]
أما قوله: * (ويكلم الناس في المهد) * فإن معناه: أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، وجيها عند الله، ومكلما الناس في المهد. فيكلم وإن كان مرفوعا، لانه في صورة يفعل بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: بت أعشيها بعضب باتريقصد في أسوقها وجائر وأما المهد: فإنه يعني به مضجع الصبي في رضاعه. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: * (ويكلم الناس في المهد) * قال: مضجع الصبي في رضاعه. وأما قوله: * (وكهلا) * فإنه ومحتنكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة، يقال منه: رجل كهل، وامرأة كهلة، كما قال الراجز: ولا أعود بعدها كريا أمارس الكهلة والصبيا وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) *: ويكلم الناس طفلا في المهد، دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة له على نبوته، وبالغا كبيرا بعد احتناكه بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما تقول عليه من كتابه.
[ 371 ]
وإنما أخبر الله عز وجل عباده بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخا، احتجاجا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى بالباطل، وأنه كان في معاناة أشياء مولودا طفلا، ثم كهلا يتقلب في الاحداث، ويتغير بمرور الازمنة عليه والايام، من صغر إلى كبر، ومن حال إلى حال، وأنه لو كان كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غير جائز عليه، فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نجران، الذين حاجوا رسول الله (ص) فيه، واحتج به عليهم لنبيه محمد (ص)، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) * يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته، وتعريفا للعباد مواقع قدرته. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) * يقول: يكلمهم صغيرا وكبيرا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * قال: يكلمهم صغيرا وكبيرا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وكهلا ومن الصالحين) * قال: الكهل: الحليم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كلمهم صغيرا وكبيرا وكهلا. وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل: الحليم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * قال: كلمهم في المهد صبيا، وكلمهم كبيرا. وقال آخرون: معنى قوله: * (وكهلا) *: أنه سيكلمهم إذا ظهر. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهل. ونصب كهلا عطفا على موضع: ويكلم الناس. وأما قوله: * (ومن الصالحين) * فإنه
[ 372 ]
يعني: من عدادهم وأوليائهم لان أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * يعني بذلك جل ثناؤه: قالت مريم - إذ قالت لها الملائكة: إن الله يبشرك بكلمة منه -: رب أنى يكون لي ولد: من أي وجه يكون لي ولد ؟ أمن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه ؟ أو تبتدئ في خلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يمسني بشر ؟ فقال الله لها: * (كذلك الله يخلق ما يشاء) * يعني: هكذا يخلق الله منك ولدا لك من غير أن يمسك بشر، فيجعله آية للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء، ويصنع ما يريد، فيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل، لانه لا يتعذر عليه خلق شئ أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد، فيقول له كن فيكون ما شاء مما يشاء، وكيف شاء. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء) *: يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر: أي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، مما يشاء، وكيف يشاء، فيكون ما أراد. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة وبعض قراء الكوفيين: * (ويعلمه) * بالياء ردا على قوله: * (كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه الكتاب) * فألحقوا الخبر في قوله: * (ويعلمه) *، بنظير الخبر في قوله: * (يخلق ما يشاء) *، وقوله: * (فإنما يقول له كن فيكون) *. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض البصريين: ونعلمه بالنون عطفا به على قوله: * (نوحيه إليك) * كأنه قال: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، ونعلمه الكتاب. وقالوا: ما بعد نوحيه في صلته، إلى قوله: كن فيكون، ثم عطف بقوله: ونعلمه عليه.
[ 373 ]
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مختلفتان غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصواب في ذلك لاتفاق معنى القراءتين في أنه خبر عن الله بأنه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه، وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة، ورفعة المنزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخط الذي يخطه بيده، والحكمة: وهي السنة التي نوحيها إليه في غير كتاب، والتوراة: وهي التوراة التي أنزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى، والانجيل: إنجيل عيسى، ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريم قبل خلق عيسى أنه موحيه إليه، وإنما أخبرها بذلك، فسماه لها، لانها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعث نبيا يوحى إليه كتابا اسمه الانجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي (ص) الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا، هو الولد الذي وهبه لها، وبشرها به. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: ونعلمه الكتاب قال: بيده. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ونعلمه الكتاب والحكمة قال: الحكمة: السنة. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل قال: الحكمة: السنة، * (والتوراة والانجيل) * قال: كان عيسى يقرأ التوراة والانجيل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: ونعلمه الكتاب والحكمة قال: الحكمة: السنة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: أخبرها - يعني: أخبر الله مريم ما يريد به - فقال: ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة التي كانت فيهم من عهد موسى * (والانجيل) * كتابا آخر أحدثه إليه، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الانبياء قبله.
[ 374 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (ورسولا) *: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر ونجعله، لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا وقوله: * (أني قد جئتكم بآية من ربكم) * بمعنى: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبي وبشير ونذير، وحجتي عن صدقي على ذلك، أني قد جئتكم بآية من ربكم، يعني بعلامة من ربكم تحقق قولي وتصدق خبري، أني رسول من ربكم إليكم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم) * أي تحقق بها نبوتي، وأني رسول منه إليكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم. ثم بين
[ 375 ]
عن الآية ما هي، فقال: * (أني أخلق لكم) *. فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. والطير جمع طائر. واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض أهل الحجاز: كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا، على التوحيد. وقرأه آخرون: * (كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا) * على الجماع كليهما. وأعجب القراءات إلي في ذلك قراءة من قرأ: * (كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا) * على الجماع فيهما جميعا، لان ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موفق لخط المصحف، واتباع خط المصحف مع صحة المعنى، واستفاضة القراءة به أعجب إلي من خلاف المصحف. وكان خلق عيسى: ما كان يخلق من الطير. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق: أن عيسى صلوات الله عليه، جلس يوما مع غلمان من الكتاب، فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا ؟ قالوا: وتستطيع ذلك ؟ قال: نعم بإذن ربي ! ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله ! فخرج يطير بين كفيه، فخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم، فأفشوه في الناس. وترعرع. فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حمير لها ثم خرجت به هاربة. وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطير من الطين سألهم: أي الطير أشد خلقا ؟ فقيل له الخفاش. كما: حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قوله: * (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) * قال: أي الطير أشد خلقا ؟ قالوا: الخفاش إنما هو لحم، قال ففعل. فإن قال قائل: وكيف قيل: * (فأنفخ فيه) * وقد قيل: * (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) * ؟ قيل: لان معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك: فأنفخ فيها، كان صحيحا
[ 376 ]
جائزا، كما قال في المائدة: فأنفخ فيها يريد: فأنفخ في الهيئة، وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين: فأنفخها، بغير في، وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول: رب ليلة قد بتها وبت فيها، قال الشاعر: ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند أسلاب بمعنى: ولا قامت عليك. وكما قال الآخر: إحدى بني عيذ الله استمر بها حلو العصارة حتى ينفخ الصور القول في تأويل قوله تعالى: * (وأبرئ الاكمه والابرص) *. يعني بقوله: * (وأبرئ) *: وأشفي، يقال منه: أبرأ الله المريض: إذا شفاه منه، فهو يبرئه إبراء، وبرأ المريض فهو يبرأ برءا، وقد يقال أيضا: برئ المريض فهو يبرأ، لغتان معروفتان. واختلف أهل التأويل في معنى الاكمه، فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويبصر بالنهار. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وأبرئ الاكمه) * قال: الاكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، فهو يتكمه.
[ 377 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: هو الاعمى الذي ولدته أمه كذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدث أن الاكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: * (وأبرئ الاكمه والابرص) * قال: كنا نحدث أن الاكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينين. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الاكمه: الذي يولد وهو أعمى. وقال آخرون: بل هو الاعمى. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وأبرئ الاكمه) *: هو الاعمى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاح، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الاعمى. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (وأبرئ الاكمه) * قال: الاكمه: الاعمى. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (وأبرئ الاكمه) * قال: الاعمى. وقال آخرون: هو الاعمش. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: * (وأبرئ الاكمه) * قال: الاعمش. والمعروف عند العرب من معنى الكمه: العمى، يقال منه: كمهت عينه، فهي تكمه كمها، وأكمهتها أنا: إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:
[ 378 ]
كمهت عيناه حتى ابيضتا فهو يلحى نفسه لما نزع ومنه قول رؤبة: هرجت فارتد ارتداد الاكمه في غائلات الحائر المتهته وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه، أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجا منه بهذه العبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن الكمه والبرص لا علاج لهما، فيقدر على إبرائه ذو طب بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله، إنه لله رسول، لانه من المعجزات مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالة على نبوته. فأما ما قال عكرمة، من أن الكمه: العمش، وما قاله مجاهد: من أنه سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما، لان الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيل إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتج به عيسى على بني إسرائيل في نبوته أنه يبرئ الاعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل لقدروا على معارضته بأن يقولوا: وما في هذا لك من الحجة، وفينا خلق مما يعالج ذلك وليسوا لله أنبياء ولا رسلا، ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا من أن الاكمه: هو الاعمى الذي لا يبصر شيئا لا ليلا ولا نهارا، وهو بما قال قتادة: من أنه المولود كذلك أشبه، لان علاج مثل ذلك لا يدعيه أحد من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاج الابرص.
[ 379 ]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: * (وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) *. وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له. كما: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه. قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله. وأما قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون) * فإنه يعني: وأخبركم بما تأكلونه مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه. * (وما تدخرون) *. يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبئونه ولا تأكلونه، يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوته - مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوته وصدقه في خبره، أن الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراء الاكمه والابرص، وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحد من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك، علما له على صدقه، وآية له على حقيقة قوله من أنبيائه ورسله، ومن أحب من خلقه - إنباءه عن الغيب الذي لا سبيل لاحد من البشر الذين سبيلهم سبيله عليه. فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟ قيل: إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الاسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبياء الله ورسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداء باعلام الله إياه من غير أصل تقدم ذلك، احتذاه، أو بنى عليه أو فزع إليه، كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيه، فذلك هو الفصل بين علم
[ 380 ]
الانبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدعية علم ذلك. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب فيما يزعمون، فكان عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الارملة، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان، غلمان القرية التي كان فيها، فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال: كان عيسى ابن مريم إذ كان في الكتاب يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب: يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه ؟ فهكذا فعل الانبياء وحججها إنما تأتي بما أتت به من الحجيج بما قد يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح،
[ 381 ]
عن مجاهد في قول الله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه، عيسى بن مريم يقوله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبي رباح يعني قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال: الطعام والشئ يدخرونه في بيوتهم غيبا علمه الله إياه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * قال: ما تأكلون: ما أكلتم البارحة من طعام، وما خبأتم منه. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم، وبما يرفعون لهم، وبما يأكلون ويقول للغلام: انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشئ، فيقولون له: من أخبرك بهذا ؟ فيقول: عيسى، فذلك قول الله عز وجل: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم ههنا، فقال: ما في هذا البيت ؟ فقالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله: * (على لسان داود وعيسى ابن مريم) *. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: * (وما تدخرون في بيوتكم) * قال: ما تخبئون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شئ. وقال آخرون: إنما عنى بقوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) *: ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
[ 382 ]
* (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) * فكان القوم لما سألوا المائدة، فكانت جرابا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه، ولا يخبئوا، ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون) * قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة، وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادخروا وخانوا، فذلك قوله: * (فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) *. قال ابن يحيى: قال عبد الرزاق: قال معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر ذلك. وأصل يدخرون من الفعل يفتعلون، من قول القائل: ذخرت الشئ بالذال، فأنا أذخره، ثم قيل: يدخر كما قيل: يدكر، من ذكرت الشئ، يراد به يذتخر، فلما اجتمعت الذال والتاء وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الاخرى وصيرتا دالا مشددة صيروها عدلا بين الذال والتاء، ومن العرب من يغلب الذال على التاء فيدغم التاء في الذال، فيقول: وما تذخرون وهو مذخر لك، وهو مذكر، واللغة التي بها القراءة الاولى، وذلك إدغام الذال في التاء، وإبدالهما دالا مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها، وهي اللغة الجودى، كما قال زهير: إن الكريم الذي يعطيك نائله عفوا ويظلم أحيانا فيظلم يروى بالظاء، يريد: فيفتعل من الظلم، ويروى بالطاء أيضا.
[ 383 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن في خلقي من الطين الطير بإذن الله، وفي إبرائي الاكمه والابرص، وإحيائي الموتى، وإنبائي إياكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم، ابتداء من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة، لعبرة لكم، ومتفكرا تتفكرون في ذلك، فتعتبرون به أني محق في قولي لكم: إني رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مؤمنين، يعني: إن كنتم مصدقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده ونبيه موسى، والتوراة التي جاءكم بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ئ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقا مستقيم لما بين يدي من التوراة، ولذلك نصب مصدقا على الحال من جئتكم. والذي يدل على أنه نصب على قوله وجئتكم دون العطف على قوله: وجيها، قوله: * (لما بين يدي من التوراة) * ولو كان عطفا على قوله: وجيها، لكان الكلام: ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. وإنما قيل: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * لان عيسى صلوات الله عليه كان مؤمنا بالتوراة مقرا بها، وأنها من عند الله، وكذلك الانبياء كلهم يصدقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم لمخالفة الله بينهم في ذلك، مع أن عيسى كان فيما بلغنا عاملا بالتوراة، لم يخالف شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الانجيل مما كان مشددا عليهم فيها. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى (ص)، وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لاحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار.
[ 384 ]
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الابل والثروب، وأشياء من الطير والحيتان. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * قال: كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى، قال: وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة لحوم الابل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء حرمها عليهم، وشددها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الانجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى، صلوات الله عليه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * قال: لحوم الابل والشحوم لما بعث عيسى أحلها لهم، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * أي لما سبقني منها، * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * أي أخبركم أنه كان حراما عليكم، فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعته. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * قال: كان حرم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحل لهم الذي حرم عليهم، يبتغي بذلك شكرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجئتكم بآية من ربكم) *. يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقة ما أقول لكم. كما:
[ 385 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيج، عن مجاهد: * (وجئتكم بآية من ربكم) * قال: ما بين لهم عيسى من الاشياء كلها، وما أعطاه ربه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وجئتكم بآية من ربكم) *: ما بين لهم عيسى من الاشياء كلها. ويعني بقوله: * (من ربكم) *: من عند ربكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) *. يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم، تعلمون بها يقينا صدقي فيما أقول، فاتقوا الله يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به، ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم، ربي وربكم فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرما عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويم، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم) * تبريا من الذي يقولون فيه، يعني ما يقول فيه النصارى واحتجاجا لربه عليهم، فاعبدوه، و * (هذا صراط مستقيم) * أي الذي هذا قد حملتكم عليه وجئتكم به. واختلفت القراء في قراءة قوله: * (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) * فقرأته عامة قراء الامصار: * (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) * بكسر ألف إن على ابتداء الخبر، وقرأه بعضهم: أن الله ربي وربكم بفتح ألف أن بتأويل: وجئتكم بآية من ربكم أن الله ربي وربكم، على رد أن على الآية، والابدال منها. والصواب من القراءة عندنا ما عليه قراء الامصار، وذلك كسر ألف إن على الابتداء، لاجماع الحجة من القراء على صحة ذلك، وما اجتمعت عليه فحجة، وما انفرد به المنفرد عنها فرأي، ولا يعترض بالرأي على الحجة. وهذه الآية، وإن كان ظاهرها خبرا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد (ص) على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران بإخبار الله عز وجل، عن أن عيسى كان بريئا مما نسبه إليه من نسبه، إلى غير الذي وصف به
[ 386 ]
نفسه، من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الارض إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه، كما آتى سائر المرسلين غيره من الاعلام والادلة على صدقهم، والحجة على نبوتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * فلما وجد عيسى منهم الكفر. والاحساس: هو الوجود، ومنه قول الله عز وجل: * (هل تحس منهم من أحد) *. فأما الحس بغير ألف، فهو الافناء والقتل، ومنه قوله: * (إذ تحسونهم بإذنه) * والحس أيضا: العطف والرقة. ومنه قول الكميت: هل من بكى الدار راج أن تحس له أو يبكي الدار ماء العبرة الخضل يعني بقوله: أن تحس له: أن ترق له. فتأويل الكلام: فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودا لنبوته، وتكذيبا لقوله، وصدا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال: * (من أنصاري إلى الله) * يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، والمولين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه إلى الله عز وجل، ويعني بقوله * (إلى الله) *: مع الله، وإنما حسن أن يقال إلى الله، بمعنى: مع الله، لان من شأن العرب إذا ضموا الشئ إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه جعلوا مكان مع إلى أحيانا، وأحيانا تخبر عنهما بمع، فتقول الذود إلى الذود إبل، بمعنى: إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلا، فأما إذا كان الشئ مع الشئ لم يقولوه بإلى ولم يجعلوا مكان مع إلى غير جائز أن يقال: قدم فلان وإليه مال، بمعنى: ومعه مال.
[ 387 ]
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله: * (من أنصاري إلى الله) * قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (من أنصاري إلى الله) * يقول: مع الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (من أنصاري إلى الله) * يقول: مع الله. وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا، فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحون في الارض، فنزل في قرية على رجل، فضافهم وأحسن إليهم، وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه هم وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته، فقالت مريم لها: ما شأن زوجك أراه حزينا ؟ قالت: لا تسألي، قالت: أخبريني لعل الله يفرج كربته، قالت: فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده، ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك عندنا سعة، قالت: فقولي له: لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له، فيكفى ذلك، قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمه إني إن فعلت كان في ذلك شر، قالت: فلا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك فاملا قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، قال: فلما ملاهن أعلمه، فدعا الله، فتحول ما في القدور لحما ومرقا وخبزا، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط وإياه طعاما، فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمر سأل من أين هذه الخمر ؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا، قال الملك: فإن خمري أوتي بها من تلك الارض فليس هي مثل هذه، قال: هي من أرض أخرى، فلما خلط على الملك اشتد عليه، قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا الله، فجعل الماء خمرا، قال الملك، وكان له ابن يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه، فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا، ليستجابن له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي
[ 388 ]
ما كان، فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا، قال الملك: نعم، فدعا الله، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادوا بالسلاح، وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه، فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركني، فقال اليهودي: نعم، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيب ندم، فلما نام جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع ؟ فيقول: لا شئ، فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى: هلم طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر ؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى، يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة، فذبحوها وشووها، ثم قال لليهودي: كل ولا تكسرن عظما ! فأكلا، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله، فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت ؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، قال: أنت الساحر، وفر منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفا ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد، فمروا بصاحب بقر، فنادى عيسى، فقال: يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلا ! قال: ابعث صاحبك يأخذه، قال: انطلق يا يهودي فجئ به، فانطلق فجاء به، فذبحه وشواه، وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسرن عظما. فلما فرغوا قذف العظام في الجلد، ثم ضربه بعصاه، وقال: قم بإذن الله ! فقام وله خوار، قال: خذ عجلك، قال: ومن أنت ؟ قال: أنا عيسى، قال: أنت السحار. ثم فر منه، قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه، قال عيسى: فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها، والعجل بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد، فانطلقا حتى نزلا قرية، فنزل اليهودي أعلاها، وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى، وقال: أنا الآن أحيي الموتى، وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض، فانطلق اليهودي ينادي: من يبتغي طبيبا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه،
[ 389 ]
فقيل له: إن وجع الملك قد أعيا الاطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه، ولا يفئ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب، قال: أدخلوني عليه فإني سأبرئه، فأدخل عليه، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت، ويقول: قم بإذن الله، فأخذ ليصلب، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا: نعم، فأحيا الله الملك لعيسى، فقام وأنزل اليهودي، فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة، والله لا أفارقك أبدا، قال عيسى - فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى، قال: ثنا أحمد بن المفضل قال أسباط، عن السدي - لليهودي: أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب كم كان معك رغيفا، قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس، فانطلقا حتى مرا على كنز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي يا عيسى: لمن هذا المال، قال عيسى: دعه، فإن له أهلا يهلكون عليه، فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى ومر بالمال أربعة نفر، فلما رأوه، اجتمعوا عليه، فقال اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاما وشرابا ودواب نحمل عليها هذا المال، فانطلق الرجلان فابتاعا دواب وطعاما وشرابا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال الآخر نعم، ففعلا، وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعام والدواب بيني وبينك، فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام، فأكلا منه فماتا، وأعلم ذلك عيسى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقتسمه، فأخرجه فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا عيسى اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت، ما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف، قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى: نعم، قال أنا هو، قال: عيسى: خذ حظي وحظك وحظ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة، فلما حمله مشى به شيئا، فخسف به، وانطلق عيسى ابن مريم، فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون ؟ فقالوا:
[ 390 ]
نصطاد السمك، فقال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس ؟ قالوا: ومن أنت ؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به، وانطلقوا معه، فذلك قول الله عز وجل: * (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) *. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي من عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله) *... الآية، قال: استنصر فنصره الحواريون وظهر عليهم. وقال آخرون: كان سبب استنصار عيسى من استنصر، لان من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه، قال: * (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله) *. والانصار: جمع نصير، كما الاشراف جمع شريف، والاشهاد جمع شهيد. وأما الحواريون، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا حواريين، فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: مما روى أبي، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سموا الحواريين ببياض ثيابهم. وقال آخرون: سموا بذلك لانهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطاة، قال: الحواريون: الغسالون، الذين يحورون الثياب يغسلونها. وقال آخرون: هم خاصة الانبياء وصفوتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكر رجلا من أصحاب النبي (ص)، فقال: كان من الحواريين، فقيل له: من الحواريون ؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: * (إذ قال الحواريون) * قال: أصفياء الانبياء.
[ 391 ]
وأشبه الاقوال التي ذكرنا في معنى الحواريين قول من قال: سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولانهم كانوا غسالين، وذلك أن الحور عند العرب: شدة البياض، ولذلك سمي الحوارى من الطعام حوارى لشدة بياضه، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين أحور، وللمرأة حوراء، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا من تبييضهم الثياب، وأنهم كانوا قصارين، فعرفوا بصحبة عيسى واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل، حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه، ولذلك قال النبي (ص): لكل نبي حواري، وحواري الزبير يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرى والامصار حواريات، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن، ومن ذلك قول أبي جلدة اليشكري: فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح ويعني بقوله: * (قال الحواريون) * قال: هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبييضهم الثياب: آمنا بالله، صدقنا بالله، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون. وهذا خبر من الله عز وجل أن الاسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والانبياء قبله، لا النصرانية ولا اليهودية، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برأ إبراهيم من سائر الاديان غير الاسلام، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه (ص) على وفد نجران. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * والعدوان، * (قال من أنصاري إلى الله قال
[ 392 ]
الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله) * وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم، واشهد بأنا مسلمون، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه، يعني وفد نصارى نجران. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا آمنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) * وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا: * (ربنا آمنا) * أي صدقنا * (بما أنزلت) * يعني: بما أنزلت على نبيك عيسى من كتابك * (واتبعنا الرسول) * يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به وأعوانه، على الحق الذي أرسلته به إلى عبادك. وقوله: * (فاكتبنا مع الشاهدين) * يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقروا لك بالتوحيد، وصدقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحلنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصد عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك، يعرف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته، ويكذب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها، ويحتج به على الوفد الذين حاجوا رسول الله (ص) من أهل نجران بأنه قيل من رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) * أي هكذا كان قولهم وإيمانهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أن عيسى أحس منهم الكفر، وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مواطأة بعضهم بعضا على الفتك بعيسى وقتله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه بعد إخراج قومه إياه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم، فيما:
[ 393 ]
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم: يعني بالحواريين الذين كانوا يصطادون السمك فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصاح فيهم، فذلك قوله: * (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة) *... الآية. وأما مكر الله بهم فإنه فيما ذكر السدي: إلقاؤه شبه عيسى على بعض أتباعه، حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك. كما: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لاصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) *. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صعد به إلى السماء، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة، ويرون صورة عيسى فيهم فشكوا فيه، وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى، وصلبوه، فذلك قول الله عز وجل * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) *. وقد يحتمل أن يكون معنى مكر الله بهم استدراجه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: * (الله يستهزئ بهم) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) * يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم، إذ قال الله جل ثناؤه: * (إني متوفيك) * فإذ صلة من قوله: * (ومكر الله) * يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى: * (إني متوفيك ورافعك إلي) * فتوفاه ورفعه إليه.
[ 394 ]
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الوفاة التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية، فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك، ورافعك في نومك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (إني متوفيك) * قال: يعني وفاة المنام: رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله (ص) لليهود: إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة. وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الارض، فرافعك إلي، قالوا: ومعنى الوفاة: القبض، كما يقال: توفيت من فلان ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله: * (إني متوفيك ورافعك) *: أي قابضك من الارض حيا إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي بن سهل، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق في قول الله: * (إني متوفيك) * قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (إني متوفيك) * قال: متوفيك من الارض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) * قال: فرفعه إياه إليه، توفيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح أن كعب الاحبار، قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: * (إني متوفيك ورافعك إلي) * وليس من رفعته عندي ميتا، وإني سأبعثك على الاعور الدجال، فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحي.
[ 395 ]
قال كعب الاحبار: وذلك يصدق حديث رسول الله (ص) حيث قال: كيف تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى في آخرها ؟. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: يا عيسى إني متوفيك: أي قابضك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إني متوفيك ورافعك إلي) * قال: متوفيك: قابضك، قال: ومتوفيك ورافعك واحد. قال: ولم يمت بعد حتى يقتل الدجال، وسيموت، وقرأ قول الله عز وجل: * (ويكلم الناس في المهد وكهلا) * قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا، قال: وينزل كهلا. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل: * (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) *... الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء. وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاة موت. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (إني متوفيك) * يقول: إني مميتك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفي الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى، إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إني قابضك من الارض ورافعك إلي، لتواتر الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: ينزل عيسى
[ 396 ]
ابن مريم فيقتل الدجال ثم يمكث في الارض مدة ذكرها اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الاسلمي، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ليهبطن الله عيسى ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يجد من يأخذه، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا، أو يدين بهما جميعا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): الانبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لانه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه خليفتي على أمتي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره يقطر، وإن لم يصبه بلل بين ممصرتين، يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الاسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال وتقع في الارض الامنة حتى ترتع الاسود مع الابل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضا، فيثبت في الارض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه. قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لان الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم، ثم
[ 397 ]
يحييهم، كما قال جل ثناؤه، * (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) *. فتأويل الآية إذا: قال الله لعيسى: يا عيسى إني قابضك من الارض ورافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، فجحدوا نبوتك. وهذا الخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجا على الذين حاجوا رسول الله (ص) في عيسى من وفد نجران، بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا، وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى كذبة في دعواهم وزعمهم. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - ورد عليهم فيما أخبروا هم واليهود بصلبه، كيف رفعه وطهره منهم، فقال: * (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) *. وأما مطهرك من الذين كفروا، فإنه يعني منظفك، فمخلصك ممن كفر بك وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ومطهرك من الذين كفروا) * قال: إذ هموا منك بما هموا. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن، في قوله: * (ومطهرك من الذين كفروا) * قال: طهره من اليهود والنصارى والمجوس، ومن كفار قومه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) *. (يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجك وملتك من الاسلام وفطرته فوق الذين جحدوا نبوتك، وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل، فكذبوا بما جئت به، وصدوا عن الاقرار به، فمصيرهم فوقهم ظاهرين عليهم.) كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله:
[ 398 ]
* (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * هم أهل الاسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * ثم ذكر نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * ثم ذكر نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * قال: ناصر من اتبعك على الاسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * أما الذين اتبعوك، فيقال: هم المؤمنون وليس هم الروم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) * قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الاسلام إلى يوم القيامة. وقال آخرون: ومعنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: * (ومطهرك من الذين كفروا) * قال: الذين كفروا من بني إسرائيل. * (وجاعل الذين اتبعوك) * قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم، * (فوق الذين كفروا) * النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فما كنتم فيه تختلفون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: * (ثم إلي) * ثم إلى الله أيها المختلفون في عيسى، * (مرجعكم) *
[ 399 ]
يعني مصيركم يوم القيامة، * (فأحكم بينكم) * يقول: فأقضي حينئذ بين جميعكم في أمر عيسى بالحق فيما كنتم فيه تختلفون من أمره. وهذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله: * (ثم إلي مرجعكم) * إنما قصد به الخبر عن متبعي عيسى والكافرين به. وتأويل الكلام: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إلي مرجع الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن رد الكلام إلى الخطاب لسوق القول على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج عل وجه الحكاية، كما قال: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ئ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (فأما الذين كفروا) *: فأما الذين جحدوا نبوتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطل، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إليه من اليهود والنصارى، وسائر أصناف الاديان، فإني أعذبهم عذابا شديدا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة، فبنار جهنم خالدين فيها أبدا. * (وما لهم من ناصرين) * يقول: وما لهم من عذاب الله مانع، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لانه العزيز ذو الانتقام. وأما قوله: * (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى، يقول: صدقوك فأقروا بنبوتك، وبما جئتهم به من الحق من عندي، ودانوا بالاسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضت من فرائضي على لسانك، وشرعت من شرائعي، وسننت من سنني. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي،
[ 400 ]
عن ابن عباس، قوله: * (وعملوا الصالحات) * يقول: أدوا فرائضي، فيوفيهم أجورهم، يقول: فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملا لا يبخسون منه شيئا ولا ينقصونه. وأما قوله: * (والله لا يحب الظالمين) * فإنه يعنپ ي: والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه. فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عباده، فيجازي المسئ ممن كفر جزاء المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسن ممن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاء المسيئين ممن كفر به وكذب رسله وخالف أمره ونهيه، فقال: إني لا أحب الظالمين، فكيف أظلم خلقي. وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، كأنه وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، لانه أعلم الفريقين جميعا أنه لا يبخس هذا المؤمن حقه، ولا يظلم كرامته، فيضعها فيمن كفر به، وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالما. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) * يعني بقوله جل ثناؤه: ذلك هذه الانباء التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمه مريم، وأمها حنة، وزكريا وابنه يحيى، وما قص من أمر الحواريين، واليهود من بني إسرائيل، نتلوها عليك يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد، على لسان جبريل (ص)، بوحيناها إليك * (من الآيات) * يقول: من العبر والحجج، على من حاجك من وفد نصارى نجران ويهود بني إسرائيل، الذين كذبوك، وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي. * (والذكر) * يعني: والقرآن * (الحكيم) * يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحق والباطل، وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) * القاطع الفاصل الحق، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلن خبرا غيره. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: * (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) * قال: القرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: * (والذكر) * يقول: القرآن الحكيم الذي قد كمل في حكمته.
[ 401 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل - فأخبر به يا محمد الوفد من نصارى نجران - عندي كشبه آدم الذي خلقته من تراب، ثم قلت له كن فكان، من غير فحل، ولا ذكر، ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكان لحما، يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان، فكذلك خلقي عيسى أمرته أن يكون فكان. وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجا لنبيه (ص) على الوفد من نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر، قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا، فكانوا يجادلون النبي (ص)، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * إلى قوله: * (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) *. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *، وذلك أن رهطا من أهل نجران قدموا على محمد (ص)، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ فقال: من هو ؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله، فقال محمد: أجل إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل (ص) بأمر ربنا السميع العليم، فقال: قل لهم إذا أتوك: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) *... إلى آخر الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *: ذكر لنا أن سيدي أهل
[ 402 ]
نجران وأسقفيهم، السيد والعاقب، لقيا نبي الله (ص)، فسألاه عن عيسى ؟ فقالا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له ؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * لما بعث رسول الله (ص)، وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم، منهم: العاقب، والسيد، وماسرجس، وماريحز، فسألوه ما يقول في عيسى ؟ فقال: هو عبد الله وروحه وكلمته، قالوا هم: لا، ولكنه هو الله، نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب ؟ فأنزل الله عز وجل: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة، قوله: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *. قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، وهما نصرانيان. قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النبي (ص)، فيهم السيد والعاقب، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد فيم تشتم صاحبنا ؟ قال: من صاحبكما ؟ قالا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد. قال رسول الله (ص): أجل إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقا، فأرنا عبدا يحيي الموتى، ويبرئ الاكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، الآية... لكنه الله ! فسكت حتى أتاه جبريل، فقال: يا محمد * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) *... الآية، فقال رسول الله (ص): يا جبريل إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى. قال جبريل: مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. فلما أصبحوا عادوا، فقرأ عليهم الآيات. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن مثل عيسى عند الله) * فاسمع ! * (كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *. فإن قالوا: خلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدم
[ 403 ]
من تراب بتلك القدرة، من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله عز وجل * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * قال: أتى نجرانيان إلى رسول الله (ص) فقالا له: هل علمت أن أحدا ولد من غير ذكر فيكون عيسى كذلك ؟ قال: فأنزل الله عز وجل: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * أكان لآدم أب أو أم، كما خلقت هذا في بطن هذه ؟ فإن قال قائل: فكيف قال: كمثل آدم خلقه، وآدم معرفة، والمعارف لا توصل ؟ قيل: إن قوله: * (خلقه من تراب) * غير صلة لآدم، وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه وكيف كان. وأما قوله: * (ثم قال له كن فيكون) * فإنما قال: فيكون، وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضى، وقد أخرج الخبر عنه مخرج الخبر عما قد مضى، فقال جل ثناؤه: * (خلقه من تراب ثم قال له كن) *، لانه بمعنى الاعلام من الله نبيه أن تكوينه الاشياء بقوله: * (كن) *، ثم قال: فيكون خبرا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله: كن. فتأويل الكلام إذا: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب، ثم قال له كن، واعلم يا محمد أن ما قال له ربك: كن، فهو كائن. فلما كان في قوله: * (كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن) * دلالة على أن الكلام يراد به إعلام نبي الله (ص) وسائر خلقه أنه كائن ما كونه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل: فيكون، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى. وقد قال بعض أهل العربية: فيكون رفع على الابتداء ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن. القول في تأويل قوله تعالى: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأن مثله كمثل آدم خلقه من تراب. ثم قال له ربه: كن هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك، * (فلا تكن من الممترين) * يعني: فلا تكن من الشاكين في أن ذلك كذلك. كما:
[ 404 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * يعني فلا تكن في شك من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) * يقول: فلا تكن في شك مما قصصنا عليك أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمة منه وروح، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (الحق من ربك) * ما جاءك من الخبر عن عيسى، * (فلا تكن من الممترين) *: أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمتر فيه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (فلا تكن من الممترين) * قال: والممترون: الشاكون. والمرية والشك والريب واحد سواء كهيئة ما تقول: أعطني وناولني وهلم، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (فمن حاجك فيه) *: فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى ابن مريم. والهاء في قوله: * (فيه) * عائدة على ذكر عيسى، وجائز أن تكون عائدة على الحق الذي قال تعالى ذكره: * (الحق من ربك) *. ويعني بقوله: * (من بعد ما جاءك من العلم) *: من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله. * (فقل تعالوا) * هلموا فلندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، * (ثم نبتهل) * يقول: ثم نلتعن، يقال في الكلام: ما له بهله الله ! أي لعنه الله، وما له عليه بهلة الله ! يريد اللعن. وقال لبيد، وذكر قوما هلكوا، فقال:
[ 405 ]
نظر الدهر إليهم فابتهل يعني دعا عليهم بالهلاك. * (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * منا ومنكم في آية عيسى. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) *: أي في عيسى أنه عبد الله ورسوله من كلمة الله وروحه. * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * إلى قوله: * (على الكاذبين) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) *: أي من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) *... الآية. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) * يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: * (ثم تبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * قال: منا ومنكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: وثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، أنه سمع النبي (ص) يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني من شدة ما كانوا يمارون النبي (ص). القول في تأويل قوله تعالى:
[ 406 ]
* (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ئ فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) * يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به يا محمد من أمر عيسى، فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي، وكلمتي ألقيتها إلى مريم، وروح مني، * (لهو القصص) * والنبأ * (الحق) * فاعلم ذلك، واعلم أنه ليس للخلق معبود يستوجب عليهم العبادة بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده وهو الله العزيز الحكيم. ويعني بقوله * (العزيز) *: العزيز في انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره، وادعى معه إلها غيره، أو عبد ربا سواه، * (الحكيم) * في تدبيره، لا يدخل ما دبره وهن ولا يلحقه خلل. * (فإن تولوا) * يعني فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره، من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان، فأعرضوا عنه، ولم يقبلوه، * (فإن الله عليم بالمفسدين) *، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم، يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها حتى يجازيهم عليها جزاءهم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن هذا لهو القصص الحق) * أي إن هذا الذي جئت به من الخبر عن عيسى، لهو القصص الحق من أمره. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (إن هذا لهو القصص) *. إن هذا الذي قلنا في عيسى لهو القصص الحق. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: * (إن هذا لهو القصص الحق) * قال: إن هذا القصص الحق في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم وروحا منه وعبد الله ورسوله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (إن هذا لهو القصص الحق) *: إن هذا الذي قلنا في عيسى هو الحق * (وما من إله إلا الله) *. الآية.
[ 407 ]
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد (ص) وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل أمره - إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الاقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة - أن يدعوهم إلى الملاعنة، ففعل ذلك رسول الله (ص). فلما فعل ذلك رسول الله (ص) انخذلوا، فامتنعوا من الملاعنة ودعوا إلى المصالحة، كالذي. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر، قال: فأمر - يعني النبي (ص) - بملاعنتهم - يعني بملاعنة أهل نجران - بقوله: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) *.. الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه، وواعدوه الغد، فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم فتابعاهم، فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسول الله (ص) فقال: ما صنعتم ! وندمهم، وقال لهم: إن كان نبيا ثم دعا عليكم لا يغضبه الله فيكم أبدا، ولئن كان ملكا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدا. قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا ؟ فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا: نعوذ بالله ! فإن دعاكم أيضا، فقولوا له: نعوذ بالله ! ولعله أن يعفيكم من ذلك. فلما غدوا، غدا النبي (ص) محتضنا حسنا آخذا بيد الحسين وفاطمة تمشي خلفه، فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالامس، فقالوا: نعوذ بالله ! ثم دعاهم، فقالوا: نعوذ بالله ! مرارا. قال: فإن أبيتم فأسلموا، ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين، كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، كما قال الله عز وجل، قالوا: ما نملك إلا أنفسنا. قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء، كما قال الله عز وجل، قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفا في رجب وألفا في صفر. فقال النبي (ص): قد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر أو العصافير على الشجر، لو تموا على الملاعنة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروون في حديث أهل نجران أن عليا كان معهم ! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في علي، أو لم يكن في الحديث.
[ 408 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (إن هذا لهو القصص الحق) * إلى قوله: * (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * فدعاهم إلى النصف وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله (ص) الخبر من الله عنه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إن ردوا عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والاقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه. فأتوا رسول الله (ص)، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله: * (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) *... الآية. قال: كان النبي (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط عن السدي: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) *... الآية، فأخذ - يعني النبي (ص) - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا ! فخرج معهم، فلم يخرج يومئذ النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي (ص)، وليس دعوة النبي كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذ. فقال النبي (ص): لو خرجوا لاحترقوا. فصالحوه على صلح على أن له عليهم ثمانين ألفا فما عجزت الدراهم ففي العروض الحلة بأربعين، وعلى أن له عليهم ثلاثا وثلاثين درعا، وثلاثا وثلاثين بعيرا، وأربعة وثلاثين فرسا غازية كل سنة، وأن رسول الله (ص) ضامن لها حتى نؤديها إليهم.
[ 409 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) دعا وفدا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه في عيسى، فنكصوا عن ذلك وخافوا. وذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تدلى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستؤصلوا عن جديد الارض. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * قال: بلغنا أن نبي الله (ص) خرج ليلا عن أهل نجران، فلما رأوه خرج، هابوا وفرقوا، فرجعوا. قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي (ص) أهل نجران أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا، فلما رأى ذلك أعداء الله رجعوا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لو خرج الذين يباهلون النبي (ص) لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زكريا، عن عدي قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال رسول الله (ص): والذي نفسي بيده لولا عنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد إلا أهلك الله الكاذبين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن زيد، قال: قيل لرسول الله (ص): لو لاعنت القوم بمن كنت تأتي حين قلت * (أبناءنا وأبناءكم) * ؟ قال: حسن وحسين. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا المنذر بن ثعلبة، قال: ثنا علباء بن أحمر اليشكري، قال: لما نزلت هذه الآية: * (فقل تعالوا ندع
[ 410 ]
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) * الآية، أرسل رسول الله (ص) إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود: ويحكم أليس عهدكم بالامس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا ! فانتهوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لاهل الكتاب - وهم أهل التوراة والانجيل -: * (تعالوا) * هلموا * (إلى كلمة سواء) * يعني إلى كلمة عدل * (بيننا وبينكم) * والكلمة العدل: هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا. وقوله: * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا) * يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له، كما يسجد لربه. * (فإن تولوا) * يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) دعا اليهود إلى كلمة السواء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بلغنا أن نبي الله (ص) دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم، قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *.. الآية. وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران. ذكر من قال ذلك:
[ 411 ]
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *... الآية، إلى قوله: * (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * قال: فدعاهم إلى النصف، وقطع عنهم الحجة، يعني وفد نجران. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: ثم دعاهم رسول الله (ص) - يعني الوفد من نصارى نجران - فقال: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن زيد، قال: قال: يعني جل ثناؤه: * (إن هذا لهو القصص الحق) * - في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى - قال: * (فأبوا) *، يعني الوفد من نجران، فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا، * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *. فقرأ حتى بلغ: * (أربابا من دون الله) * فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر. وإنما قلنا: عنى بقوله: * (يا أهل الكتاب) *: أهل الكتابين، لانهما جميعا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله: * (يا أهل الكتاب) * بعضا دون بعض، فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة بأولى منه، بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الانجيل، ولا أهل الانجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوارة. وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر، لانه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح، فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به، لان إفراد العبادة لله وحده، وإخلاص التوحيد له، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله، وأهل الكتاب يعم أهل التوراة وأهل الانجيل، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا. وأما تأويل قوله: * (تعالوا) * فإنه: أقبلوا وهلموا، وإنما هو تفاعلوا من العلو، فكأن القائل لصاحبه: تعالى إلي، فإنه تفاعل من العلو، كما يقال: تدان مني من الدنو، وتقارب مني من القرب. وقوله: * (إلى كلمة سواء) * فإنها الكلمة العدل، والسواء: من نعت الكلمة.
[ 412 ]
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع سواء في الاعراب للكلمة، وهو اسم لا صفة، فقال بعض نحويي البصرة: جر سواء لانها من صفة الكلمة: وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد استواء كان النصب، وإن شاء أن يجعلها على الاستواء ويجر جاز، ويجعله من صفة الكلمة مثل الخلق، لان الخلق هو المخلوق، والخلق قد يكون صفة واسما، ويجعل الاستواء مثل المستوى، قال عز وجل: * (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) * لان السواء للآخر وهو اسم ليس بصفة، فيجري على الاول وذلك إذا أراد به الاستواء، فإن أراد به مستويا جاز أن يجري على الاول، والرفع في ذا المعنى جيد، لانها لا تغير عن حالها، ولا تثنى، ولا تجمع، ولا تؤنث، فأشبهت الاسماء التي هي مثل عدل ورضا وجنب، وما أشبه ذلك. وقال: * (أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم) * فالسواء للمحيا والممات بهذا المبتدإ. وإن شئت أجريته على الاول وجعلته صفة مقدمة، كأنها من سبب الاول فجرت عليه، وذلك إذا جعلته في معنى مستوي، والرفع وجه الكلام كما فسرت لك. وقال بعض نحويي الكوفة: سواء مصدر وضع موضع الفعل، يعني موضع متساوية ومتساو، فمرة يأتي عن الفعل، ومرة على المصدر، وقد يقال في سواء بمعنى عدل: سوى وسوى، كما قال جل ثناؤه: * (مكانا سوى) * وسوى يراد به عدل ونصف بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك إلى كلمة عدل بيننا وبينكم. وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: * (إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * بأن السواء: هو العدل، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) *: عدل بيننا وبينكم * (ألا نعبد إلا الله) *.. الآية. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) * بمثله.
[ 413 ]
وقال آخرون: هو قول لا إله إلا الله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال أبو العالية: كلمة السواء: لا إله إلا الله. وأما قوله: * (ألا نعبد إلا الله) * فإن أن في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله، وقد بينا معنى العبادة في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا) * فإن اتخاذ بعضهم بعضا، هو ما كان بطاعة الاتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) *. كما: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * يقول: لا يطع بعضنا بعضا في معصية الله، ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم. وقال آخرون: اتخاذ بعضهم بعضا أربابا: سجود بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: * (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * قال: سجود بعضهم لبعض. وأما قوله: * (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * فإنه يعني: فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم أيها المؤمنون لهم: اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له، وأنه الاله الذي لا شريك له مسلمون، يعني خاضعون لله به متذللون له بالاقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا، وقد بينا معنى الاسلام فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 414 ]
* (يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) * قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: * (يا أهل الكتاب) *: يا أهل التوراة والانجيل * (لم تحاجون) * لم تجادلون * (في إبراهيم) * وتخاصمون فيه، يعني في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه. وكان حجاجهم فيه: ادعاء كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دين أهل نحلته، فعابهم الله عز وجل بادعائهم ذلك، ودل على مناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بما فيها، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامة الانجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مهلك إبراهيم ووفاته، فكيف يكون منكم ؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعائكم أنه منكم، والامر فيه على ما قد علمتم، وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثني محمد بن إسحاق، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله (ص)، فتنازعوا عنده، فقالت الاحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله عز وجل فيهم * (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) * ؟ قالت النصارى: كان نصرانيا، وقالت اليهود: كان يهوديا، فأخبرهم الله أن التوراة والانجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) * يقول: لم تحاجون في إبراهيم، وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الانجيل أفلا تعقلون. وقال خرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم. ذكر من قال ذلك:
[ 415 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديا. فأكذبهم الله عز وجل، ونفاهم منه، فقال: * (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) *. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) * قال: اليهود والنصارى برأه الله عز وجل منهم حين ادعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين من كان من أهل الحنيفية. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وأما قوله: * (أفلا تعقلون) * فإنه يعني: أفلا تعقلون: تفقهون خطأ قيلكم إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت من بعد مهلكه بحين ؟. القول في تأويل قوله تعالى: * (هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (ها أنتم) * هؤلاء القوم الذين خاصمتم وجادلتم فيما لكم به علم من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه، وثبتت عندكم صحته، فلم تحاجون: يقول: فلم تجادلون وتخاصمون فيما ليس لكم به علم، يعني الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه. كما: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به
[ 416 ]
علم) *: أما الذي لهم به علم: فما حرم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم: فشأن إبراهيم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم) * يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم، * (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) * فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وقوله: * (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * يقول: والله يعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه ولم تأتكم به رسله من أمر إبراهيم وغيره من الامور، ومما تجادلون فيه، لانه لا يغيب عنه شئ، ولا يعزب عنه علم شئ في السموات ولا في الارض، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالاخبار والسماع. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * وهذا تكذيب من الله عز وجل دعوى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادعوا أنه كان على ملتهم، وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاء منه عز وجل لاهل الاسلام، ولامة محمد (ص) أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الملل والاديان غيرهم. يقول الله عز وجل * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * الذين يعبدون الاصنام والاوثان، أو مخلوقا دون خالقه، الذي هو إله الخلق وبارئهم، * (ولكن كان حنيفا) * يعني: متبعا أمر الله وطاعته، مستقيما على محجة الهدى التي أمر بلزومها، * (مسلما) * يعني: خاشعا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنا لما فرض عليه وألزمه من أحكامه. وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى الحنيف فيما مضى، ودللنا على القول
[ 417 ]
الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم بما أغنى عن إعادته. وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا، وقالت النصارى: هو على ديننا، فأنزل الله عز وجل: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) *... الآية. فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم، يعني اليهود الذين ادعوا أن إبراهيم مات يهوديا. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه -: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم ! فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنا لا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال: وما الحنيف ؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديا ولا نصرانيا، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده، فلقي عالما من النصارى، فسأله عن دينه، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم ! قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئا، ولا من غضب الله شيئا أبدا، وأنا لا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ فقال له نحوا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا. فخرج من عنده، وقد رضي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 418 ]
* (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) * يعني جل ثناؤه بقوله: * (إن أولى الناس بإبراهيم) * إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته، * (للذين اتبعوه) * يعني الذين سلكوا طريقه ومنهاجه، فوحدوا الله مخلصين له الدين، وسنوا سننه، وشرعوا شرائعه وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به. * (وهذا النبي) * يعني محمدا (ص). * (والذين آمنوا) *. يعني والذين صدقوا محمدا، وبما جاءهم به من عند الله. * (والله ولي المؤمنين) * يقول: والله ناصر المؤمنين بمحمد المصدقين له في نبوته، وفيما جاءهم به من عنده على من خالفهم من أهل الملل والاديان. وبمثل الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) * يقول: الذين اتبعوه على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته، * (وهذا النبي) * وهو نبي الله محمد. * (والذين آمنوا معه) * وهم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه، كان محمد رسول الله (ص) والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا محمد بن المثنى وجابر بن الكردي والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (ص): إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي، ثم قرأ: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، أراه قال عن النبي (ص)، فذكر نحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح،
[ 419 ]
قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) * وهم المؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى: * (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) * يعني بقوله جل ثناؤه: * (ودت) *: تمنت * (طائفة) * يعني جماعة * (من أهل الكتاب) * وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الانجيل من النصارى * (لو يضلونكم) * يقول: لو يصدونكم أيها المؤمنون عن الاسلام، ويردونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك. والاضلال في هذا الموضع: الاهلاك من قول الله عز وجل: * (وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد) * يعني: إذا هلكنا. ] ومنه قول الاخطل في هجاء جرير: كنت القذى في موج أكدر مزبدقذف الاتي به فضل ضلالا يعني: هلك هلاكا، وقول نابغة بني ذبيان: فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل يعني مهلكوه.
[ 420 ]
* (وما يضلون إلا أنفسهم) *: وما يهلكون بما يفعلونه من محاولتهم صدكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم، يعني بأنفسهم: أتباعهم وأشياعهم على ملتهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخطه، واستحقاقهم به غضبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم في كتابهم في اتباع محمد (ص) وتصديقه، والاقرار بنبوته. ثم أخبر جل ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صد المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة، والردى على جهل منهم، بما الله بهم محل من عقوبته، ومدخر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره: * (وما يشعرون) * أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون، ومعنى قوله: * (وما يشعرون) *: وما يدرون ولا يعلمون، وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغنى ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (يا أهل الكتاب) * من اليهود والنصارى، * (لم تكفرون) * يقول: لم تجحدون * (بآيات الله) * يعني: بما في كتاب الله، الذي أنزله إليكم، على ألسن أنبيائكم من آيه وأدلته، * (وأنتم تشهدون) * أنه حق من عند ربكم. وإنما هذا من الله عز وجل توبيخ لاهل الكتابين على كفرهم بمحمد (ص)، وجحودهم نبوته، وهم يجدونه في كتبهم مع شهادتهم أن ما في كتبهم حق، وأنه من عند الله. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * يقول: تشهدون أن نعت محمد نبي الله (ص) في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل، النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * يقول: تشهدون أن نعت محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والانجيل النبي الامي. حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (يا أهل
[ 421 ]
الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * آيات الله: محمد، وأما تشهدون: فيشهدون أنه الحق يجدونه مكتوبا عندهم. حدثنا (القاسم قال، ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) * أن الدين عند الله الاسلام، ليس لله دين غيره. القول في تأويل قوله تعالى: * (يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والانجيل، لم تلبسون، يقول: لم تخلطون الحق بالباطل. وكان خلطهم الحق بالباطل: إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد (ص)، وما جاء به من عند الله، غير الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم. فأنزل الله عز وجل فيهم: * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) *... إلى قوله: * (والله واسع عليم) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) * يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالاسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الاسلام ولا يجزي إلا به. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله، إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيره الاسلام، ولم يقبل: ولا يجزي إلا به. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) *: الاسلام باليهودية والنصرانية.
[ 422 ]
وقال آخرون في ذلك بما: حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله عز وجل: * (لم تلبسون الحق بالباطل) * قال: الحق: التوراة التي أنزل الله على موسى، والباطل: الذي كتبوه بأيديهم. قال أبو جعفر: وقد بينا معنى اللبس فيما مضى بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون يا أهل الكتاب الحق ؟ والحق الذي كتموه ما في كتبهم من نعت محمد (ص) ومبعثه ونبوته. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *: كتموا شأن محمد، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: * (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * يقول: يكتمون شأن محمد (ص)، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (تكتمون الحق) *: الاسلام، وأمر محمد (ص)، وأنتم تعلمون أن محمدا رسول الله، وأن الدين الاسلام. وأما قوله: * (وأنتم تعلمون) * فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أن الذي تكتمونه من الحق حق، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل خبر عن تعمد أهل الكتاب الكفر به، وكتمانهم ما قد علموا من نبوة محمد (ص)، ووجدوه في كتبهم وجاءتهم به أنبياؤهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) *
[ 423 ]
اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة من أمرت به من الايمان وجه النهار، والكفر آخره، فقال بعضهم: كان ذلك أمرا منهم إياهم بتصديق النبي (ص) في نبوته، وما جاء به من عند الله وأنه حق، في الظاهر من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك، وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) * فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم. حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) * قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أول النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) * كان أحبار قرى عرينة اثني عشر حبرا، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا نشهد أن محمدا حق صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبرانا فسألناهم، فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنكم لستم على شئ، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار، فما بالهم ؟ فأخبر الله عز وجل رسوله (ص) بذلك. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري، قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلموا أول النهار، وارتدوا آخره، لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرهم، فأنزل الله عز وجل: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) *. وقال آخرون: بل الذي أمرت به من الايمان: الصلاة، وحضورها معهم أول النهار، وترك ذلك آخره. ذكر من قال ذلك:
[ 424 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) * يهود تقوله صلت مع محمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم، ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) *... الآية. وذلك أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد (ص) أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم. فتأويل الكلام إذا: وقالت طائفة من أهل الكتاب، يعني من اليهود الذين يقرؤن التوراة: * (آمنوا) * صدقوا بالذي أنزل على الذين آمنوا، وذلك ما جاءهم به محمد (ص) من الدين الحق وشرائعه وسننه. * (وجه النهار) * يعني أول النهار، وسمي أوله وجها له لانه أحسنه، وأول ما يواجه الناظر فيراه منه، كما يقال لاول الثوب وجهه، وكما قال ربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 425 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وجه النهار) *: أول النهار. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (وجه النهار) *: أول النهار * (واكفروا آخره) * يقول: آخر النهار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره) * قال: قال صلوا معهم الصبح، ولا تصلوا معهم آخر النهار، لعلكم تستزلونهم بذلك. وأما قوله: * (واكفروا آخره) * فإنه يعني به أنهم قالوا: واجحدوا ما صدقتم به من دينهم في وجه النهار في آخر النهار * (لعلهم يرجعون) *: يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويدعونه. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (لعلهم يرجعون) * يقول: لعلهم يدعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (لعلهم يرجعون) *: لعلهم ينقلبون عن دينهم. حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لعلهم يرجعون) * لعلهم يشكون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: * (لعلهم يرجعون) * قال: يرجعون عن دينهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) * يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديا. وهذا خبر من الله
[ 426 ]
عن قول الطائفة الذين قالوا لاخوانهم من اليهود: * (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) *. واللام التي في قوله: * (لمن تبع دينكم) * نظيرة اللام التي في قوله: * (عسى أن يكون ردف لكم) * بمعنى: ردفكم * (بعض الذي تستعجلون) *. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * هذا قول بعضهم لبعض. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: قال: قال ابن زيد في قوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * قال: لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم لا من خالفه، فلا تؤمنوا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) *. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: قوله: * (قل إن الهدى هدى الله) * اعترض به في وسط الكلام خبرا من الله عن أن البيان بيانه والهدى هداه. قالوا: وسائر الكلام بعد ذلك متصل بالكلام الاول خبرا عن قيل اليهود بعضها لبعض. فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو أن يحاجوكم عند ربكم: أي ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه (ص): قل يا محمد إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وإن الهدى هدى الله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
[ 427 ]
نجيح، عن مجاهد في قوله: * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) *: حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادة أن يتبعوا على دينهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد إن الهدى هدى الله، إن البيان بيان الله أن يؤتى أحد، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحد من الامم مثل ما أوتيتم، كما قال: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * بمعنى لا تضلون، وكقوله: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به) * يعني: أن لا يؤمنوا * (مثل ما أوتيتم) *. يقول: مثل ما أوتيت أنت يا محمد وأمتك من الاسلام والهدى، أو يحاجوكم عند ربكم. قالوا: ومعنى أو إلا: أي إلا أن يحاجوكم، يعني إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فعل بهم ربكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد (ص): * (قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * يقول: مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم عند ربكم، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المن والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا: * (إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) *... الآية. فعلى هذا التأويل جميع هذا الكلام (أمر) من الله لنبيه محمد (ص) أن يقوله لليهود، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه، والهدى الثاني رد على الهدى الاول، وأن في موضع رفع على أنه خبر عن الهدى. وقال آخرون: بل هذا أمر من الله لنبيه أن يقوله لليهود، وقالوا: تأويله: قل يا محمد إن الهدى هدى الله، أن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثل الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (قل إن
[ 428 ]
الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * يقول: لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم، وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك، * (قل إن الفضل بيد الله) *... الآية. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وقال آخرون: بل تأويل ذلك: قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمر الله به نبينا محمدا (ص) أن يقول لليهود من هذه الآية، قالوا: وقوله: * (أو يحاجوكم) * مردود على قوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) *. وتأويل الكلام على قول أهل هذه المقالة: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحق أن يحاجوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه، فاخترتموه أنه محق، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله: * (أو يحاجوكم) * مردودا على جواب نهي متروك على قول هؤلاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: * (إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * يقول: هذا الامر الذي أنتم عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجوكم عند ربكم، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم، قال: ليخاصموكم به عند ربكم. * (قل إن الهدى هدى الله) * معترض به، وسائر الكلام متسق على سياق واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، بمعنى: لا يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم، * (أو يحاجوكم عند ربكم) * بمعنى: أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم، لانكم أكرم على الله منهم بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) * سوى قوله: * (قل إن الهدى هدى الله) * ثم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: قل يا محمد للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتباعها من اليهود * (إن الهدى هدى الله) * إن التوفيق توفيق الله، والبيان بيانه، وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود. وإنما اخترنا ذلك من سائر الاقوال التي ذكرناها، لانه أصحها معنى، وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب، وأشدها اتساقا
[ 429 ]
على نظم الكلام وسياقه، وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعد من الصحة على استكراه شديد الكلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) *. يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين وصفت قولهم لاوليائهم: إن الفضل بيد الله، إن التوفيق للايمان، والهداية للاسلام بيد الله، وإليه دونكم ودون سائر خلقه، * (يؤتيه من يشاء) * من خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده تكذيبا من الله عز وجل لهم في قولهم لتباعهم: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. فقال الله عز وجل لنبيه (ص): قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الاشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده يعطيه من يشاء. * (والله واسع عليم) * يعني: والله ذو سعة بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه عليم ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج، في قوله: * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) * قال: الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) * يعني بقوله: * (يختص برحمته من يشاء) * يفتعل من قول القائل: خصصت فلانا بكذا، أخصه به. وأما رحمته في هذا الموضع: فالاسلام والقرآن مع النبوة. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (يختص برحمته من يشاء) * قال: النبوة يخص بها من يشاء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: * (يختص برحمته من يشاء) * قال: يختص بالنبوة من يشاء. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن ابن جريج: * (يختص برحمته من يشاء) * قال: القرآن والاسلام.
[ 430 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج مثله. * (والله ذو الفضل العظيم) * يقول: ذو فضل يتفضل به على من أحب وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعظم، فقال: فضله عظيم لانه غير مشبه في عظم موقعه ممن أفضله عليه أفضال خلقه، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يدانيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * وهذا خبر من الله عز وجل أن من أهل الكتاب، وهم اليهود من بني إسرائيل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجر في يمينه المستحل. فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيه (ص)، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك منهم المؤدي أمانته والخائنها ؟ قيل: إنما أراد عز وجل بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه في كتابه بهذه الآيات تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترار بهم، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين. فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا محمد على عظيم من المال كثير، يؤده إليك، ولا يخنك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه، فلا يؤده إليك إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة. والباء في قوله: * (بدينار) *، وعلى يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال: مررت به، ومررت عليه. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) * فقال بعضهم: إلا ما دمت له متقاضيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) *: إلا ما طلبته واتبعته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) * قال: تقتضيه إياه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) * قال: مواظبا.
[ 431 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائما على رأسه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: * (إلا ما دمت عليه قائما) * يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائما على رأسه، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافرك الذي يؤدي، والذي يجحد. وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء، من قولهم: قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي، أي عمل في تخليصه، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه، لان الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الاميين، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة، وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحل، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهاب بما عليه لرب الحق - إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة، فذلك الاقتضاء: هو قيام رب المال باستخراج حقه ممن هو عليه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) *. يعني بذلك جل ثناؤه: أن من استحل الخيانة من اليهود وجحود حقوق العربي التي هي له عليه، فلم يؤد ما ائتمنه العربي عليه إليه إلا ما دام له متقاضيا مطالبا، من أجل أنه يقول: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب، ولا إثم، لانهم على غير الحق، وأنهم مشركون. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) *... الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.
[ 432 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * قال ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون: من ليس من أهل الكتاب. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) * قال: يقال له: ما بالك لا تؤدي أمانتك ؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، لما نزلت: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) * قال: قال النبي (ص): كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي، إلا الامانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: لما قالت اليهود: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * يعنون أخذ أموالهم، قال رسول الله (ص)، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الامانة فإنها مؤداة ولم يزد على ذلك. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) * وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لانهم أميون، فذلك قوله: * (ليس علينا في الاميين سبيل) *... إلى آخر الآية. وقال آخرون في ذلك ما: حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) * قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لكم
[ 433 ]
عندنا، لانكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فقال الله عز وجل: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة، قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهل الكتاب، فنصيب من ثمارهم ؟ قال: وتقولون كما قال أهل الكتاب: * (ليس علينا في الاميين سبيل) *. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في العرف - أو العذق، الشك من الحسن - من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا ؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: * (ليس علينا في الاميين سبيل) * إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *. يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم ليس علينا في أموال الاميين من العرب حرج أن نختانهم إياه، يقولون - بقيلهم: إن الله أحل لنا ذلك، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم - الكذب على الله عامدين الاثم بقيل الكذب على الله أنه أحل ذلك لهم، وذلك قوله عز وجل: * (وهم يعلمون) *. كما: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب، وهو يعلم، يعني الذي يقول منهم إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك ؟ ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) *: يعني ادعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم: * (ليس علينا في الاميين سبيل) *. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 434 ]
* (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) * وهذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته عنده. فقال جل ثناؤه: ليس الامر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموال الاميين حرج ولا إثم، ثم قال بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى، يعني ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم، التي أوصاهم بها في التوراة من الايمان بمحمد (ص) وما جاءهم به. والهاء في قوله: * (من أوفى بعهده) * عائدة على اسم الله في قوله: * (ويقولون على الله الكذب) * يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد (ص) وصدق به. بما جاء به من الله من أداء الامانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه، و * (واتقى) * يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرمها عليه، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله، وخوف عقابه * (فإن الله يحب المتقين) * يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه، ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه، وحرمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (بلى من أوفى بعهده واتقى) * يقول: اتقى الشرك، * (إن الله يحب المتقين) * يقول: الذين يتقون الشرك. وقد بينا اختلاف أهل التأويل في ذلك والصواب من القول فيه بالادلة الدالة عليه فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) *
[ 435 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه باتباع محمد وتصديقه، والاقرار به، وما جاء به من عند الله وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرم الله عليهم من أموال الناس التي اؤتمنوا عليها ثمنا، يعني عوضا وبدلا خسيسا من عرض الدنيا وحطامها. * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة، وما أعد الله لاهلها فيها. دون غيرهم. وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى الخلاق، ودللنا على أولى أقوالهم في ذلك بالصواب بما فيه الكفاية. وأما قوله: * (ولا يكلمهم الله) * فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرهم ولا ينظر إليهم، يقول: ولا يعطف عليهم بخير مقتا من الله لهم كقول القائل لآخر: انظر إلي نظر الله إليك، بمعنى: تعطف علي تعطف الله عليك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل: لا سمع الله لك دعاءك، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر: دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول وقوله * (ولا يزكيهم) * يعني: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم، * (ولهم عذاب أليم) * يعني: ولهم عذاب موجع. واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، ومن عني بها ؟ فقال بعضهم: نزلت في أحبار من أحبار اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت هذه الآية: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الاشرف وحيي بن أخطب.
[ 436 ]
وقال آخرون: بل نزلت في الاشعث بن قيس وخصم له. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان فقال الاشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي (ص)، فقال لي رسول الله (ص): ألك بينة ؟ قلت: لا، فقال لليهودي: احلف ! قلت: يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالي، فأنزل الله عز وجل: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية. حدثنا مجاهد بن موسى قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جرير بن حازم عن عدي بن عدي، عن رجاء بن حيوة والعرس، أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة، قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة، فارتفعا إلى النبي (ص)، فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه ! قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول الله (ص): من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق ؟ قال: الجنة، قال: فإني أشهدك أني قد تركتها. قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي، فقال أيوب: إن عديا قال في حديث العرس بن عميرة: فنزلت هذه الآية: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *... إلى آخر الآية، قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من عدي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال آخرون: إن الاشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله (ص) في أرض كانت في
[ 437 ]
يده لذلك الرجل أخذها لتعززه في الجاهلية، فقال النبي (ص): أقم بينتك ! قال الرجل: ليس يشهد لي أحد على الاشعث. قال: فلك يمينه. فقام الاشعث ليحلف، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فنكل الاشعث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق. فرد إليه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة، مخافة أن يبقى في يده شئ من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله، قال: من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله تصديق ذلك: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية... ثم إن الاشعث بن قيس خرج إلينا، فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه بما قال، فقال: صدق لفي أنزلت، كانت بيني وبين رجل خصو مة في بئر، فاختصمنا إلى النبي (ص)، فقال النبي (ص): شاهداك أو يمينه ! فقلت: إذا يحلف ولا يبالي. فقال النبي (ص): من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله عز وجل تصديق ذلك: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *... الآية. وقال آخرون بما: حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أن رجلا أقام سلعته أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عز وجل: * (إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن رجل، عن مجاهد، نحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *... الآية، إلى: * (ولهم عذاب أليم) * أنزلهم الله بمنزلة السحرة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة أن عمران بن حصين
[ 438 ]
كان يقول: من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال أخيه فليتبوأ مقعده من النار، فقال له قائل: شئ سمعته من رسول الله (ص) ؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك، ثم قرأ هذه الآية: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *... الآية. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، قال: قال محمد عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مصبورة فليتبوأ بوجهه مقعده من النار، ثم قرأ هذه الآية كلها: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: إن اليمين الفاجرة من الكبائر، ثم تلا: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود، كان يقول: كنا نرى ونحن مع رسول الله (ص) أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله (ص)، على عهده من بني إسرائيل. والهاء والميم في قوله: * (منهم) * عائدة على أهل الكتاب الذين ذكرهم في قوله: * (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) *.
[ 439 ]
وقوله: * (لفريقا) * يعني: جماعة * (يلوون) * يعني: يحرفون، * (ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) * يعني: لتظنوا أن الذي يحرفونه لكلامهم من كتاب الله وتنزيله، يقول الله عز وجل: * (وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فحرفوه وأحدثوه من كتاب الله، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله من عند الله) *، يقول: * (مما أنزله الله على أنبيائه، وما هو من عند الله) *، يقول: * (وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فأحدثوه مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قبل أنفسهم، افتراء على الله) *. يقول عز وجل: * (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * يعني بذلك: أنهم يتعمدون قيل الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والالحاق بكتاب الله ما ليس منه طلبا للرياسة والخسيس من حطام الدنيا. وبنحو ما قلنا في معنى: * (يلوون ألسنتهم بالكتاب) * قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) * قال: يحرفونه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) * حتى بلغ: * (وهم يعلمون) * هم أعداء الله اليهود حرفوا كتاب الله وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) * وهم اليهود كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب) * قال: فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه.
[ 440 ]
وأصل اللي: الفتل والقلب، من قول القائل: لوى فلان يد فلان: إذا فتلها وقلبها، ومنه قول الشاعر: لوى يده الله الذي هو غالبه يقال منه: لوى يده ولسانه يلوي ليا، وما لوى ظهر فلان أحد: إذا لم يصرعه أحد، ولم يفتل ظهره إنسان، وإنه لالوى بعيد المستمر: إذا كان شديد الخصومة صابرا عليها لا يغلب فيها، قال الشاعر: فلو كان في ليلى شدا من خصومة للويت أعناق الخصوم الملاويا. القول في تأويله تعالى: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) * يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لاحد من البشر، والبشر: جمع بني آدم، لا واحد
[ 441 ]
له من لفظه، مثل القوم والخلق، وقد يكون اسما لواحد. * (أن يوءتيه الله الكتاب) * يقول: أن ينزل الله عليه كتابه، * (والحكم) * يعني: ويعلمه فصل الحكمة، * (والنبوة) * يقول: ويعطيه النبوة، * (ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة، ولكن إذا آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمة في طاعته وعبادته بكونهم معلمي الناس الكتاب، وبكونهم دارسيه. وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي (ص): أتدعونا إلى عبادتك ؟ كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الاحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (ص) ودعاهم إلى الاسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال، فقال رسول الله (ص): معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني. أو كما قال، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: * (ما كان لبشر أن يوءتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) *... الآية، إلى قوله بعد: * (إذ أنتم مسلمون) *. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (ما كان لبشر أن يوءتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة يأمر عباده أن يتخذوه ربا من دون الله.
[ 442 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم، بتحريفهم كتاب الله عن موضعه، فقال الله عز وجل: * (ما كان لبشر أن يوءتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولكن كونوا ربانيين) *. يعني جل ثناؤه بذلك: ولكن يقول لهم: كونوا ربانيين، فترك القول استغناء بدلالة الكلام عليه. وأما قوله: * (كونوا ربانيين) * فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: * (كونوا ربانيين) * قال: حكماء علماء. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: * (كونوا ربانيين) * قال: حكماء علماء. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين: * (ولكن كونوا ربانيين) *: حكماء علماء. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: كونوا فقهاء علماء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: فقهاء. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
[ 443 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني القاسم، عن مجاهد، قوله: * (ولكن كونوا ربانيين) * قال: فقهاء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: * (ولكن كونوا ربانيين) * قال: كونوا فقهاء علماء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: علماء حكماء. قال معمر: قال قتادة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: * (كونوا ربانيين) * أما الربانيون: فالحكماء الفقهاء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الاحبار. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: * (ولكن كونوا ربانيين) * يقول: كونوا حكماء فقهاء. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله الربانيون والاحبار، قال: الفقهاء العلماء. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، مثله. حدثني ابن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الاشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: كونوا حكماء فقهاء. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: * (كونوا ربانيين) * يقول: كونوا فقهاء علماء. وقال آخرون: بل هم الحكماء الاتقياء. ذكر من قال ذلك:
[ 444 ]
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: حكماء أتقياء. وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: * (كونوا ربانيين) * قال: الربانيون: الذين يربون الناس ولاة هذا الامر، يربونهم: يلونهم. وقرأ: * (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار) * قال: الربانيون: الولاة، والاحبار: العلماء. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني، وأن الرباني المنسوب إلى الربان: الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة: وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب يعني بقوله: ربتني: ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعت، يقال منه: رب أمري فلان فهو بربه ربا وهو رابه، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربان، كما يقال: هو نعسان، من قولهم: نعس ينعس، وأكثر ما يجئ من الاسماء على فعلان ما كان من الافعال الماضية على فعل مثل قولهم: هو سكران وعطشان وريان، من سكر يسكر، وعطش يعطش، وروي يروى، وقد يجئ مما كان ماضيه على فعل يفعل، نحو ما قلنا من نعس ينعس، ورب يرب. فإذا كان الامر في ذلك على ما وصفنا، وكان الربان ما ذكرنا، والرباني: هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يرب أمور الناس بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله، والولي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم، بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم ودنياهم، كانوا جميعا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله عز وجل * (ولكن كونوا ربانيين) *. فالربانيون إذا، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد:
[ 445 ]
وهم فوق الاحبار، لان الاحبار هم العلماء. والرباني: الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون) *. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء أهل الحجاز وبعض البصريين: بما كنتم تعلمون بفتح التاء وتخفيف اللام، يعني: بعلمكم الكتاب، ودراستكم إياه وقراءتكم. واعتلوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب لو كان التشديد في اللام وضم التاء، لكان الصواب في تدرسون بضم التاء وتشديد الراء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: * (بما كنتم تعلمون الكتاب) * بضم التاء من تعلمون وتشديد اللام، بمعنى: بتعليمكم الناس الكتاب، ودراستكم إياه. واعتلوا لاختيارهم ذلك بأن من وصفهم بالتعليم فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلمون إلا بعد علمهم بما يعلمون. قالوا: ولا موصوف بأنه يعلم، إلا وهو موصوف بأنه عالم. قالوا: فأما الموصوف بأنه عالم، فغير موصوف بأنه معلم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب، أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناس الكتاب. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن حميد الاعرج، عن مجاهد أنه قرأ: بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون مخففة بنصب التاء. وقال ابن عيينة: ما علموه حتى علموه. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأه بضم التاء وتشديد اللام، لان الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولامورهم وتربية، يقول جل ثناؤه: * (ولكن كونوا ربانيين) * على ما بينا قبل من معنى الرباني. ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم. ودراستهم إياه: تلاوته، وقد قيل: دراستهم الفقه. وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا من تلاوة الكتاب، لانه عطف على قوله: * (تعلمون الكتاب) *، والكتاب: هو القرآن، فلان تكون الدراسة معنيا بها دراسة القرآن أولى من أن تكون معنيا بها دراسة الفقه الذي لم يجر له ذكر. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: قال يحيى بن آدم: قال أبو زكريا:
[ 446 ]
كان عاصم يقرؤها: * (بما كنتم تعلمون الكتاب) * قال: القرآن، * (وبما كنتم تدرسون) * قال: الفقه. فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله، وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراستكموه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * اختلفت القراء في قراءة قوله: * (ولا يأمركم) *، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة: ولا يأمركم على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي (ص) أنه لا يأمركم أيها الناس أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها وهي: ولن يأمركم فاستدلوا بدخول لن على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما صير مكان لن في قراءتنا لا وجبت قراءته بالرفع. وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: * (ولا يأمركم) * بنصب الراء عطفا على قوله: * (ثم يقول للناس) *. وكان تأويله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقول للناس ولا أن يأمركم، بمعنى: ولا كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك: * (ولا يأمركم) * بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأول: * (ما كان لبشر أن يوءتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) * ولا أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. لان الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول الله (ص): أتريد أن نعبدك ؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيه (ص) أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ولكن الذي له أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين. فأما الذي ادعى من قرأ ذلك رفعا أنه في قراءة عبد الله: ولن يأمركم استشهادا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر غير صحيح سنده، وإنما
[ 447 ]
هو خبر رواه حجاج عن هارون لا يجوز أن ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرا صحيحا سنده، لم يكن فيه لمحتج حجة، لان ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاء به المسلمون وراثة عن نبيهم (ص) لا يجوز تركه لتأويل على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو. فتأويل الآية إذا: وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله، كما ليس له أن يقول لهم كونوا عبادا لي من دون الله. ثم قال جل ثناؤه نافيا عن نبيه (ص) أن يأمر عباده بذلك: أيأمركم بالكفر أيها الناس نبيكم بجحود وحدانية الله بعد إذ أنتم مسلمون، يعني بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة متذللون له بالعبودية، أي إن ذلك غير كائن منه أبدا. ] وقد: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ولا يأمركم النبي (ص) أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) * يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين، يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين، وميثاقهم: ما وثقوا به على أنفسهم طاعة الله فيما أمرهم ونهاهم. وقد بينا أصل الميثاق باختلاف أهل التأويل فيه بما فيه الكفاية. * (لما آتيتكم من كتاب وحكمة) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق، * (لما آتيتكم) * بفتح اللام من لما، إلا أنهم اختلفوا في قراءة آتيتكم، فقرأه بعضهم * (آتيتكم) * على التوحيد، وقرأه آخرون: آتيناكم، على الجمع. ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك، فقال بعض نحويي البصرة: اللام التي
[ 448 ]
مع ما في أول الكلام لام الابتداء، نحو قول القائل: لزيد أفضل منك، لان ما اسم، والذي بعدها صلة لها، واللام التي في: * (لتوءمنن به ولتنصرنه) * لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به، يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال: أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا، وقد يستغنى عنها فيؤكد في لتؤمنن به باللام في آخر الكلام، وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر ما آتيتكم من كتاب وحكمة، لتؤمنن به، مثل: لعبدالله والله لا آتينه، قال: وإن شئت جعلت خبر ما من كتاب يريد: لما آتيتكم كتاب وحكمة، وتكون من زائدة. وخطأ بعض نحويي الكوفيين ذلك كله، وقال: اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا فلا يقال لمن قام: لا تتبعه، ولا لمن قام: ما أحسن، فإذا وقع في جوابها ما ولا علم أن اللام ليست بتوكيد للاولى، لانه يوضع موضعها ما ولا، فتكون كالاولى، وهي جواب للاولى. قال: وأما قوله: * (لما آتيتكم من كتاب وحكمة) * بمعنى إسقاط من غلط، لان من التي تدخل وتخرج لا تقع مواقع الاسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. وأولى الاقوال في تأويل هذه الآية على قراءة من قرأ ذلك بفتح اللام بالصواب أن يكون قوله: * (لما) * بمعنى: لمهما، وأن تكون ما حرف جزاء أدخلت عليها اللام، وصير الفعل معها على فعل، ثم أجيبت بما تجاب به الايمان، فصارت اللام الاولى يمينا إذ تلقيت بجواب اليمين. وقرأ ذلك آخرون: لما آتيتكم بكسر اللام من لما، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة. ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم، فما على هذه القراءة بمعنى: الذي عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول: يعني: ثم إن جاءكم رسول، يعني ذكر محمد في التوراة، لتؤمنن به، أي ليكونن إيمانكم به للذي عندكم في التوراة من ذكره. وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر اللام من لما. وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتاهم من الحكمة، ثم جعل قوله: لتؤمنن به من الاخذ، أخذ الميثاق، كما
[ 449 ]
يقال في الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن لان أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذا استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم) * بفتح اللام، لان الله عز وجل أخذ ميثاق جميع الانبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابا، أو من لم يؤته كتابا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن منهم من أنزل عليه الكتاب، وأن منهم من لم ينزل عليه الكتاب، كان بينا أن قراءة من قرأ ذلك: لما آتيتكم بكسر اللام، بمعنى: من أجل الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهوم إلا على تأويل بعيد، وانتزاع عميق.) ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالايمان بمن جاءه من رسل الله مصدقا لما معه، فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب، دون أنبيائهم، واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله: * (لتوءمنن به ولتنصرنه) * قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرسل من الامم بالايمان برسل الله، ونصرتها على من خالفها. وأما الرسل فإنه لا وجه لامرها بنصرة أحد، لانها المحتاجة إلى المعونة على من خالفها من كفرة بني آدم، فأما هي فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها.) قالوا: وإذا لم يكن غيرها وغير الامم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته ؟ ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) * قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، إنما
[ 450 ]
هي أهل الكتاب، قال: وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب، قال الربيع: ألا ترى أنه يقول: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتوءمنن به ولتنصرنه) * يقول: لتؤمنن بمحمد (ص) ولتنصرنه، قال: هم أهل الكتاب. وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الانبياء دون أممها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * أن يصدق بعضهم بعضا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) *... الآية، قال: أخذ الله ميثاق الاول من الانبياء ليصدقن وليؤمنن بما جاء به الآخر منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب، قال: لم يبعث الله عز وجل نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه، فقال: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) *... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب) *... الآية، هذا ميثاق أخذه الله على النبين أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته. فبلغت الانبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد (ص)، ويصدقوه وينصروه. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) *... الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه: ليؤمنن بمحمد، ولينصرنه إن خرج وهو حي، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به، ولينصرنه إن خرج وهم أحياء. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر
[ 451 ]
الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور قال: سألت الحسن، عن قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبييلما آتيتكم من كتاب وحكمة) *... الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلغن آخركم أولكم ولا تختلفوا. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه ميثاق النبيين وأممهم، فاجتزأ بذكر الانبياء عن ذكر أممها، لان في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التباع، لان الامم هم تباع الانبياء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم، يعني على أهل الكتاب، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه، يعني بتصديق محمد (ص) إذا جاءهم، وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) *... إلى آخر الآية. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، مثله. وأولى هذه الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الخبر عن أخذ الله الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضا، وأخذ الانبياء على أممها، وتباعها الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها، من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به، لان الانبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها، ولم يدع أحد ممن صدق المرسلين أن نبيا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل، وحججه في عباده، بل كلها، وإن كذب بعض الامم بعض أنبياء الله بجحودها نبوته، مقرة بأن من ثبتت صحة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقر به جميعهم. ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الامم دون الانبياء، لان الله عز وجل، قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواء قال قائل: لم يأخذ ذلك منها ربها، أو قال: لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت، وقد نص الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لانهما جميعا خبران من الله عنها، أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرها، فإن جاز الشك في أحدهما جاز في الآخر. وأما ما استشهد به الربيع بن أنس على أن المعني بذلك أهل الكتاب من قوله: * (لتوءمنن به ولتنصرنه) * فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال، لان الانبياء قد أمر بعضها بتصديق بعض، وتصديق بعضها بعضا، نصرة من بعضها بعضا.
[ 452 ]
ثم اختلفوا في الذين عنوا بقوله: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتوءمنن به ولتنصرنه) * فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك هم الانبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله. وقال آخرون: هم أهل الكتاب أمروا بتصديق محمد (ص) إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك، وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله. وقال آخرون ممن قال الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الانبياء، قوله: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * معني به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر. قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) * قال: أخذ الله ميثاق النبيين: أن يصدق بعضهم بعضا، ثم قال: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتوءمنن به ولتنصرنه) * قال: فهذه الآية لاهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدقوه. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلى عباده، فبلغت الانبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيق أهل الكتاب في كتابهم، فيما بلغتهم رسلهم، أن يؤمنوا بمحمد (ص)، ويصدقوه وينصروه. وأولى الاقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أن جميع ذلك خبر من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممهم إليه والاقرار به، لان ابتداء الآية خبر من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم، فقال: هو كذا وهو كذا. وإنما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الانبياء مواثيق أممها به، لانها أرسلت لتدعو عباد الله إلى الدينونة، بما أمرت بالدينونة به في أنفسها من تصديق رسل الله على ما قدمنا البيان قبل. فتأويل الآية: واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين لمهما آتيتكم أيها النبيون من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من
[ 453 ]
عندي مصدق لما معكم لتؤمنن به، يقول: لتصدقنه ولتنصرنه. وقد قال السدي في ذلك بما: حدثنا به محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: * (لما آتيتكم) * يقول لليهود: أخذت ميثاق النبيين بمحمد (ص)، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم. فتأويل ذلك على قول السدي الذي ذكرناه: واذكروا يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم أيها اليهود من كتاب وحكمة. وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا لا وجه غيره لو كان التنزيل بما آتيتكم، ولكن التنزيل باللام لما آتيتكم، وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال: أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم، بمعنى: بما آتيتكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا) * يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي، مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه، * (وأخذتم على ذلكم إصري) * يقول: وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الايمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي، والقيام بنصرتهم إصري، يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك مني ورضيتموه. والاخذ: هو القبول في هذا الموضع، والرضا من قولهم: أخذ الوالي عليه البيعة، بمعنى: بايعه، وقبل ولايته، ورضي بها. وقد بينا معنى الاصر باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وحذفت الفاء من قوله: * (قال أأقررتم) * لانه ابتداء كلام على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. وأما قوله: * (قالوا أقررنا) * فإنه يعني به: قال النبييون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقررنا بما ألزمتنا من الايمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك وبنصرتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) *. يعني بذلك جل ثناؤه، قال الله: فاشهدوا أيها النبييون بما أخذت به ميثاقكم من الايمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونصرتهم على
[ 454 ]
أنفسكم، وعلى أتباعكم من الامم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله: * (قال فاشهدوا) * يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك، * (وأنا معكم من الشاهدين) * عليكم وعليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرض عن الايمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهده وميثاقه بعد ذلك، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذه الله عليه، فأولئك هم الفاسقون: يعني بذلك أن المتولين عن الايمان بالرسل الذين وصف أمرهم ونصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذا عليهم بذلك، هم الفاسقون، يعني بذلك: الخارجون من دين الله، وطاعة ربهم. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب: فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الامم، فأولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه - قال أبو جعفر: يعني الرازي -: * (فمن تولى بعد ذلك) * يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذ عليهم، فأولئك هم الفاسقون. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن الربيع، مثله. وهاتان الآيتان وإن كان مخرج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه شهد، وأخذ به ميثاق من أخذ ميثاقه به عن أنبيائه ورسله، فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله (ص) من يهود بني إسرائيل أيام حياته (ص)، عما لله عليهم من العهد في الايمان
[ 455 ]
بنبوة محمد (ص)، ومعني تذكيرهم ما كان الله آخذا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود، وما كانت أنبياء الله عرفتهم وتقدمت إليهم في تصديقه واتباعه ونصرته على من خالفه، وكذبه، وتعريفهم ما في كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثهم إليهم من صفته وعلامته. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها وإليه يرجعون) * اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز من مكة والمدينة وقراء الكوفة: أفغير دين الله تبغون، وإليه ترجعون، على وجه الخطاب. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز: * (أفغير دين الله يبغون... وإليه يرجعون) * بالياء كلتيهما على وجه الخبر عن الغائب. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: * (أفغير دين الله يبغون) * على وجه الخبر عن الغائب، وإليه ترجعون بالتاء، على وجه المخاطبة. وأولى ذلك بالصواب قراءة من قرأ: أفعير دين الله تبغون على وجه الخطاب وإليه ترجعون بالتاء، لان الآية التي قبلها خطاب لهم، فاتباع الخطاب نظيره أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره، وإن كان الوجه الآخر جائزا لما قد ذكرنا فيما مضى قبل من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانا على الخطاب كله، وأحيانا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانا بعضه على الخطاب، وبعضه على الغيبة، فقوله: تبغون... وإليه ترجعون في هذه الآية من ذلك. وتأويل الكلام: يا معشر أهل الكتاب: أفغير دين الله تبغون يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون * (وله أسلم من في السموات والارض) * يقول: وله خشع من في السموات والارض، فخضع له بالعبودية، وأقر له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والالوهية * (طوعا وكرها) * يقول: أسلم لله طائعا، من كان إسلامه منهم له طائعا، وذلك كالملائكة والانبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين، وكرها من كان منهم كارها. واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الاسلام، وصفته، فقال بعضهم: إسلامه: إقراره بأن الله خالقه وربه، وإن أشرك معه في العبادة غيره. ذكر من قال ذلك:
[ 456 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: * (وله أسلم من في السموات والارض) * قال: هو كقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله) *. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها وإليه ترجعون) * قال: كل آدمي قد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص له العبودية فهو الذي أسلم طوعا. وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الميثاق، فأقر به. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها) * قال: حين أخذ الميثاق. وقال آخرون: عنى بإسلام الكاره منهم: سجود ظله. ذكر من قال ذلك: حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها) * قال: الطائع: المؤمن، وكرها: ظل الكافر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: * (طوعا وكرها) * قال: سجود المؤمن طائعا، وسجود الكافر وهو كاره. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: * (كرها) * قال: سجود المؤمن طائعا، وسجود ظل الكافر وهو كاره.
[ 457 ]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: سجود وجهه وظله طائعا. وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله واستقادته لامره، وإن أنكر ألوهته بلسانه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر: * (وله أسلم من في السموات والارض) * قال: استقاد كلهم له. وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرها حذر السيف على نفسه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها) *... الآية كلها، فقال: أكره أقوام على الاسلام، وجاء أقوام طائعين. حدثني الحسن بن قزعة الباهلي، قال: ثنا روح بن عطاء، عن مطر الوراق في قول الله عز وجل: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها وإليه ترجعون) * قال: الملائكة طوعا، والانصار طوعا، وبنو سليم وعبد القيس طوعا، والناس كلهم كرها. وقال آخرون: معنى ذلك أن أهل الايمان أسلموا طوعا، وأن الكافر أسلم في حال المعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: أفغير دين الله تبغون... الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعا، فنفعه ذلك، وقبل منه، وأما الكافر فأسلم كارها، حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها) * قال: أما المؤمن فأسلم طائعا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) *. وقال آخرون: معنى ذلك: في عبادة الخلق لله عز وجل. ذكر من قال ذلك:
[ 458 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها قال: عبادتهم لي أجمعين طوعا وكرها، وهو قوله: * (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها) *. وأما قوله: وإليه ترجعون فإنه يعني: وإليه يا معشر من يبتغي غير الاسلام دينا من اليهود والنصارى ! وسائر الناس. ترجعون يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسئ بإساءته. وهذا من الله عز وجل تحذير خلقه أن يرجع إليه أحد منهم، فيصير إليه بعد وفاته على غير ملة الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * يعني بذلك جل ثناؤه: أفغير دين الله تبغون يا معشر اليهود، وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها، وإليه ترجعون، فإن ابتغوا غير دين الله يا محمد، فقل لهم: آمنا بالله. فترك ذكر قوله: فإن قالوا نعم، وذكر قوله: فإن ابتغوا غير دين الله، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه. وقوله: * (قل آمنا بالله) * يعني به: قل لهم يا محمد: صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدا سواه، * (وما أنزل علينا) * يقول: وقل: وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله، فأقررنا به، * (وما أنزل على إبراهيم) * يقول: وصدقنا أيضا بما أنزل على إبراهيم خليل الله، * (و) * على ابنيه * (إسماعيل وإسحاق) * وابن ابنه * (يعقوب) * وبما أنزل على الاسباط، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * (وما أوتي موسى وعيسى) * يقول: وصدقنا أيضا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوحي، وبما أنزل على النبيين من عنده. والذي آتى الله موسى وعيسى، مما أمر الله عز وجل محمدا بتصديقهما فيه والايمان به التوراة التي آتاها موسى،
[ 459 ]
والانجيل الذي أتاه عيسى. * (لا نفرق بين أحد منهم) * يقول: لا نصدق بعضهم ونكذب بعضهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله، وصدقت بعضا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدقهم. * (ونحن له مسلمون) * يعني: ونحن ندين لله بالاسلام، لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره. ويعني بقوله: * (ونحن له مسلمون) *: ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودية، مقرون له بالالوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الرواية بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غير دين الاسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه، * (وهو في الآخرة من الخاسرين) *، يقول: من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل. وذكر أن أهل كل ملة ادعوا أنهم هم المسلمون لما نزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لان من سنة الاسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم. ذكر الخبر بذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، قال: زعم عكرمة: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا) * فقالت الملل: نحن المسلمون، فأنزل الله عز وجل: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * فحج المسلمون، وقعد الكفار. حدثنا المثنى، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة، قال: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) * قالت اليهود: فنحن المسلمون، فأنزل الله عز وجل لنبيه (ص) يحجهم أن * (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة، قال: لما نزلت: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا) *... إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله عز وجل لنبيه (ص): قل لهم: إن * (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر) * من أهل الملل * (فإن الله غني عن العالمين) *.
[ 460 ]
وقال آخرون في هذه الآية بما: حدثنا به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر) * إلى قوله: * (ولا هم يحزنون) * فأنزل الله عز وجل بعد هذا: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) *. القول في تأويل قوله تعالى: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ئ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ئ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ئ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت، فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الانصاري، وكان مسلما، فارتد بعد إسلامه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رجل من الانصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله (ص): هل لي من توبة ؟ قال: فنزلت: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * إلى قوله: * (وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * فأرسل إليه قومه، فأسلم. حدثني ابن المثنى، قال: ثني عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس، إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذبني قومي، فرجع. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حكيم بن جميع، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: ارتد رجل من الانصار، فذكر نحوه.
[ 461 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرنا حميد الاعرج، عن مجاهد، قال: جاء الحارث بن سويد، فأسلم مع النبي (ص)، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * إلى: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * قال: فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله (ص) لاصدق منك، وإن الله عز وجل لاصدق الثلاثة ! قال: فرجع الحارث فأسلم، فحسن إسلامه. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق) * قال: أنزلت في الحارث بن سويد الانصاري كفر بعد إيمانه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، قال: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات) * قال رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريح، عن مجاهد، قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه. قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: لحق بأرض الروم فتنصر، ثم كتب إلى قومه: أرسلوا هل لي من توبة ؟ قال: فحسبت أنه آمن ثم رجع. قال: ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في أبي عامر الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن الاسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الاسلام، ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة ؟ فنزلت: * (إلا الذي تابوا من بعد ذلك) *... الآيات. وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نزلت. ذكر من قال ذلك:
[ 462 ]
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * فهم أهل الكتاب عرفوا محمدا (ص)، ثم كفروا به. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) *... الآية كلها، قال اليهود والنصارى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) *... الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت محمد (ص) في كتابهم، وأقروا به، وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك، فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدا (ص) في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم. قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن، من أن هذه الآية معني بها أهل الكتاب على ما قال. غير أن الاخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن، وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الاسلام، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الايمان بمحمد (ص) في هذه الآيات، ثم عرف عباده سنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد (ص) قبل أن يبعث، ثم كفر به بعد أن بعث، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده (ص) ثم ارتد وهو حي عن إسلامه، فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله. فتأويل الآية إذا: * (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) * يعني: كيف يرشد الله للصواب، ويوفق للايمان، قوما جحدوا نبوة محمد (ص)، بعد إيمانهم: أي بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربه. * (وشهدوا أن الرسول حق) * يقول: وبعد أن أقروا أن محمدا رسول الله (ص) إلى خلقه حقا. * (وجاءهم البينات) * يعني: وجاءهم الحجج
[ 463 ]
من عند الله، والدلائل بصحة ذلك. * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * يقول: والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة، وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل، فاختاروا الكفر على الايمان. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الظلم، وأنه وضع الشئ في غير موضعه بما أغنى عن إعادته. * (أولئك جزاؤهم) * يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، * (جزاؤهم) * ثوابهم من عملهم الذي عملوه، * (أن عليهم لعنة الله) * يعني أن حل بهم من الله الاقصاء والبعد، ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم من العقاب * (أجمعين) * يعني من جميعهم: لا من بعض من سماه جل ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لان عملهم كان بالله كفرا. وقد بينا صفة لعنة الناس الكافر في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. * (خالدين فيها) * يعني: ماكثين فيها، يعني: في عقوبة الله. * (لا يخفف عنهم العذاب) * لا ينقصون من العذاب شيئا في حال من الاحوال ولا ينفسون فيه. * (ولا هم ينظرون) * يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون، وذلك كله: أعني الخلود في العقوبة في الآخرة. ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، فقال تعالى ذكره: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الايمان بالله وبرسوله، وصدقوا بما جاءهم به نبيهم (ص) من عند ربهم. * (وأصلحوا) * يعني: وعملوا الصالحات من الاعمال. * (فإن الله غفور رحيم) * يعني فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره * (غفور) * يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة، فتارك عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه، رحيم متعطف عليه بالرحمة. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عنى الله عز وجل بقوله: * (إن الذين كفروا) * أي ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد (ص) بعد إيمانهم. * (ثم ازدادوا كفرا) * بكفرهم بمحمد. * (لن تقبل توبتهم) * عند حضور الموت وحشرجته بنفسه. ذكر من قال ذلك:
[ 464 ]
حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * قال: اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) * أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالانجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد (ص) والفرقان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: * (ثم ازدادوا كفرا) * قال: ازدادوا كفرا حتى حضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت. قال معمر: وقال مثل ذلك عطاء الخراساني. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قوله: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * وقال: هم اليهود كفروا بالانجيل، ثم ازدادوا كفرا حين بعث الله محمدا (ص)، فأنكروه، وكذبوا به. وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد بعد إيمانهم بأنبيائهم، * (ثم ازدادوا كفرا) *: يعني ذنوبا، * (لن تقبل توبتهم) * من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن رفيع: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) * ازدادوا ذنوبا وهم كفار، * (فلن تقبل توبتهم) * من تلك الذنوب ما كانوا على كفرهم وضلالتهم. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، قال: سألت أبا العالية، قال: قلت: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم) * ؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا ثم ازدادوا كفرا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم. حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري، قال: أخبرنا ابن أبي عدي، عن داود، قال: سألت أبا العالية عن الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوا منه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، قال: سألت أبا العالية
[ 465 ]
عن هذه الآية: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنه يقول: * (وأولئك هم الضالون) * ؟ حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله: * (لن تقبل توبتهم) * قال: تابوا من بعض، ولم يتوبوا من الاصل. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، قوله: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) * قال: هم اليهود والنصارى يصيبون الذنوب فيقولون نتوب وهم مشركون، قال الله عز وجل: لن تقبل التوبة في الضلالة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفرا، يعني بزيادتهم الكفر: بما هم عليه حتى هلكوا وهم عليه مقيمون، لن تقبل توبتهم: لن تنفعهم توبتهم الاولى، وإيمانهم لكفرهم الآخر وموتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: * (ثم ازدادوا كفرا) * قال: تموا على كفرهم. قال ابن جريج: * (لن تقبل توبتهم) * يقول: إيمانهم أول مرة لن ينفعهم. وقال آخرون: معنى قوله: * (ثم ازدادوا كفرا) * ماتوا كفارا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى * (لن تقبل توبتهم) *: لن تقبل توبتهم عند موتهم ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * أما ازدادوا كفرا: فماتوا وهم كفار، وأما لن تقبل توبتهم: فعند موته إذا تاب لم تقبل توبته. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال: عنى بها اليهود، وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد (ص) عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد (ص)، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند الله.
[ 466 ]
وإنما قلنا ذلك أولى الاقوال في هذه الآية بالصواب، لان الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياق واحد. وإنما قلنا: معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي، لانه جل ثناؤه قال: * (لن تقبل توبتهم) * فكان معلوما أن معنى قوله: * (لن تقبل توبتهم) * إنما هو معني به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم، لان الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده، فقال: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) * فمحال أن يقول عز وجل أقبل، ولا أقبل في شئ واحد. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الايمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه، غير المعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لان الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإن الله كما وصف به نفسه، غفور رحيم. فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون معنى ذلك، كما قال من قال: فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله، أو توبته الاولى ؟ قيل: أنكرنا ذلك لان التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عباده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة، وسائر الاحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الاسلام، ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال لا يقبل الله فيها توبة الكافر، فإذا صح أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيل بعد الممات إليها، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الاجل. وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لان الله عز وجل لم يوصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كفر بعد إيمان، بل إنما
[ 467 ]
وصفهم بكفر بعد إيمان، فلم يتقدم ذلك الايمان كفر كان للايمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوله قائل ذلك، وتأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص أولى من غيره وإن أمكن توجيهه إلى غيره. وأما قوله: * (وأولئك هم الضالون) * فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، هم الذين ضلوا سبيل الحق، فأخطئوا منهجه، وتركوا نصف السبيل وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعمو عنه. وقد بينا فيما مضى معنى الضلال بما فيه الكفاية. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) * يعني بذلك جل ثناؤه: * (إن الذين كفروا) * أي جحدوا نبوة محمد (ص)، ولم يصدقوا به، وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم. * (وماتوا وهم كفار) * يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته، وجحود ما جاء به. * (فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به) * يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره، ولا جعل على العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدر ما يملا الارض من مشرقها إلى مغربها، فرشا وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محل به من عذابه، لان الرشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رشي، فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره ؟ وقد بينا أن معنى الفدية، العوض والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده، فقال: * (أولئك) * يعني: هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار، * (لهم عذاب أليم) * يقول: لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع، * (وما لهم من ناصرين) * يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه، كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه. وقد:
[ 468 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا أنس بن مالك، أن نبي الله (ص) كان يقول: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الارض ذهبا، أكنت مفتديا به ؟ فيقول نعم، قال: فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به) *. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عباد، عن الحسن، قوله: * (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا) * قال: هو كل كافر. ونصب قوله ذهبا على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منه، وهو قوله: ملء الارض، كقول القائل: عندي قدر زق سمنا وقدر رطل عسلا، فالعسل مبين به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبة على التفسير للمقدار والخروج منه. وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالارض، ومجئ الذهب بعدهما، فصار نصبها نظير نصب الحال، وذلك أن الحال يجئ بعد فعل قد شغل بفاعله فينصب، كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شغل بفاعله، قالوا: ونظير قوله: * (ملء الارض ذهبا) * في نصب الذهب في الكلام: لي مثلك رجلا، بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الاضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل، وأدخلت الواو في قوله: * (ولو افتدى به) * لمحذوف من الكلام بعده دل عليه دخول الواو، كالواو في قوله: * (وليكون من الموقنين) *. وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين، أريناه ملكوت السموات والارض، فكذلك ذلك في قوله: * (ولو افتدى به) *، ولو لم يكن في الكلام واو، لكان الكلام صحيحا، ولم يكن هنالك متروك وكان: فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا لو افتدى به. القول في تأويل قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) *
[ 469 ]
يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا أيها المؤمنون البر، وهو البر من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له، ويرجونه منه، وذلك تفضله عليهم بإدخاله جنته، وصرف عذابه عنهم، ولذلك قال كثير من أهل التأويل: البر: الجنة، لان بر الرب بعبده في الآخرة وإكرامه إياه بإدخاله الجنة. ذكر من قال ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: * (لن تنالوا البر) * قال: الجنة. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: * (لن تنالوا البر) * قال: البر: الجنة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: * (لن تنالوا البر) * أما البر. فالجنة. فتأويل الكلام: لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم، حتى تنفقوا مما تحبون، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوون أن يكون لكم من نفيس أموالكم. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * يقول: لن تنالوا بر ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم ومما تههون من أموالكم. حدثني محمد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن، قوله: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * قال: من المال. وأما قوله: * (وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) * فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شئ فتتصدقوا به من أموالكم، فإن الله تعالى ذكره بما يتصدق به المتصدق منكم، فينفقه مما يحب من ماله في سبيل الله، وغير ذلك عليم، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزب عنه شئ منه حتى يجازى صاحبه عليه جزاءه في الآخرة. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: * (وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) * يقول: محفوظ لكم ذلك الله به عليم شاكر له. وبنحو التأويل الذي قلنا تأول هذه الآية جماعة من الصحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
[ 470 ]
نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الاشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب، فقال: إن الله يقول: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * فأعتقها عمر. وهي مثل قول الله عز وجل: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *، * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله سواء. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * أو هذه الآية: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * قال أبو طلحة: يا رسول الله حائطي الذي بكذا وكذا صدقة، ولو استطعت أن أجعله سرا لم أجعله علانية. فقال رسول الله (ص): اجعلها في فقراء أهلك. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يسألنا من أموالنا، اشهد أني قد جعلت أرضي بأريحا لله، فقال رسول الله (ص): اجعلها في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
[ 471 ]
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا ليث، عن ميمون بن مهران، أن رجلا سأل أبا ذر أي الاعمال أفضل ؟ قال: الصلاة عماد الاسلام، والجهاد: سنام العمل، والصدقة شئ عجيب. فقال: يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي لا أراك ذكرته ! فقال: ما هو ؟ قال: الصيام، فقال: قربة، وليس هناك ! وتلا هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * جاء زيد بفرس له يقال لها: سيل إلى النبي (ص)، فقال: تصدق بهذه يا رسول الله ! فأعطاها رسول الله (ص) ابنة أسامة بن أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يسألنا من أموالنا، اشهد أني قد جعلت أرضي بأريحا لله، فقال رسول الله (ص): اجعلها في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
[ 471 ]
حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا ليث، عن ميمون بن مهران، أن رجلا سأل أبا ذر أي الاعمال أفضل ؟ قال: الصلاة عماد الاسلام، والجهاد: سنام العمل، والصدقة شئ عجيب. فقال: يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عملي في نفسي لا أراك ذكرته ! فقال: ما هو ؟ قال: الصيام، فقال: قربة، وليس هناك ! وتلا هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * جاء زيد بفرس له يقال لها: سيل إلى النبي (ص)، فقال: تصدق بهذه يا رسول الله ! فأعطاها رسول الله (ص) ابنة أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله (ص): قد قبلت صدقتك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب وغيره: أنها حين نزلت: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله ! فحمل رسول الله (ص) عليها أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي (ص) قال: أما إن الله قد قبلها. تم الجزء الثالث من تفسير ابن جرير الطبري ويليه الجزء الرابع وأوله: القول في تأويل قوله تعالى: (كل الطعام)